حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

الذي نراه (باطِلاً) حال عبثا بل دليلا على كمال قدرتك (سُبْحانَكَ) تنزيها لك عن العبث (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١) (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) للخلود فيها (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أهنته (وَما لِلظَّالِمِينَ) الكافرين فيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بتخصيص الخزي بهم (مَنْ) زائدة (أَنْصارٍ) (١٩٢) يمنعونهم من عذاب الله تعالى (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي) يدعو الناس (لِلْإِيمانِ) أي إليه وهو محمد أو القرآن (أَنْ) أي بأن (آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) به (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ) غط (عَنَّا سَيِّئاتِنا) فلا تظهرها بالعقاب عليها (وَتَوَفَّنا) اقبض أرواحنا (مَعَ) في جملة (الْأَبْرارِ) (١٩٣) الأنبياء والصالحين (رَبَّنا وَآتِنا) أعطنا (ما وَعَدْتَنا) به (عَلى) ألسنة (رُسُلِكَ) من الرحمة والفضل وسؤالهم ذلك وإن كان وعده تعالى لا يخلف سؤال أن يجعلهم من

____________________________________

فثمرة الفكر الإستدلال والمعرفة بالله. قوله : (حال) أي من قوله : (هذا) وهذه الحال لا يستغنى عنها فهي واجبة الذكر كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ).

قوله : (سُبْحانَكَ) مصدر منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره أسبح سبحانك ، وهذه الجملة معترضة بين قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) وبين قوله : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ). قوله : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) هذا متسبب عن قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي فحيث وحدناك ونزهناك عن النقائض فقنا عذاب النار ، لأن النار جزاء من عصى ولم يوحد.

قوله : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) إلخ هذا علة لما قبله ، والمعنى إنما طلبنا الوقاية من عذاب النار ، لأن من أدخلته النار فقد أخزيته. قوله : (للخلود فيها) جواب عن سؤال مقدر تقديره أن قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يقتضي أن جميع المؤمنين غير مخزيين ، مع أن بعض العصاة منهم يدخل النار تطهيرا لما اقترفه ، وهذه الآية تدل على أن من دخل النار مخزي وإن مؤمنا. فأجاب المفسر بحمل هذه الآية على الكفار. قوله : (زائدة) أي للتوكيد في المبتدأ المؤخر ، وقوله : (لِلظَّالِمِينَ) خبر مقدم. قوله : (مُنادِياً) أي داعيا وهو على حذف مضاف أي نداء مناد قوله : (يُنادِي) صفة لمناديا على الصحيح ، خلافا لمن جعله مفعولا ثانيا لسمع لأنه لا تنصب إلا مفعولا واحدا على الصحيح. قوله : (وهو محمد) أي فإسناد النداء إليه حقيقي ، وقوله : (أو القرآن) أي فإسناد النداء إليه مجازي ، والمعنى منادى به.

قوله : (أَنْ آمِنُوا) أن تفسيرية ، وقوله : (بِرَبِّكُمْ) أي صدقوا بأنه يجب له كل كمال ، ويستحيل عليه كل نقص. قوله : (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي استرها عن أعين الخلق ، وقوله : (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أي غطها عنا فلا تؤاخذنا بها وامحها من المصحف ، وهو ترقي عظيم في طلب المغفرة ، فهو من عطف الخاص على العام. قوله : (بالعقاب عليها) أي ولا بالعتاب عليها.

قوله : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي احشرنا معهم واجعلنا في زمرتهم ، والمراد بالأبرار المطهرون الذين لم يفعلوا ذنوبا. قوله : (وَآتِنا) معطوف على محذوف ، تقديره حقق لنا ما ذكروا (وَآتِنا). قوله : (من الرحمة والفضل) بيان لما. قوله : (وسؤالهم ذلك) أشار بذلك إلى سؤال وارد حاصله أن يقال إن وعد الله لا يتخلف قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) فلا فائدة في

٢٦١

مستحقيه لأنهم لم يتيقنوا استحقاقهم له وتكرير ربنا مبالغة في التضرع (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤) الوعد بالبعث والجزاء (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) دعاءهم (أَنِّي) أي بأني (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ) كائن (مِنْ بَعْضٍ) أي الذكور من الإناث وبالعكس والجملة مؤكدة لما قبلها أي هم سواء في المجازاة بالأعمال وترك تضييعها. نزلت لما قالت أم سلمة يا رسول الله إنّي لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) من مكة إلى

____________________________________

ذلك السؤال ، أجاب المفسر بقوله سؤال أن يجعلهم إلخ. وحاصل ذلك الجواب أن العاقبة مجهولة ، ووعد الله لا يخلف لمن حمد عاقبته ، ومن أين لنا حسن العاقبة ، ففائدة السؤال أن الله يحسن عاقبتهم ، فإذا حسنت تحقق وعده تعالى إن قلت : لا يخلو الأمر إما أن تكون العاقبة في نفس الأمر محمودة فوعد الله له محق ولا بد ، وإما أن تكون غير محمودة فليس له عند الله وعد أصلا فلا فائدة في الدعاء. أجيب : بأن توفيقه للدعاء دليل على أن الله لا يخلف وعده الذي وعده إياه ، قال بعضهم : ما وفقك للدعاء إلا ليعطيك ، فحيث وفق العبد للدعاء كان دليلا على قبوله وإنابته وحسن عاقبته ، ولذا لم يوفق إبليس للتوبة ولا للدعاء. قوله : (وتكرير ربنا إلخ) جواب عن سؤال مقدر حاصله أنه لم كرر لفظ ربنا خمس مرات ، فأجاب بأنه مبالغة في التضرع ، أي الخضوع والتذلل ، ولما ورد أنه الأسم الأعظم ، وعن جعفر الصادق : من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا ، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد ، قيل وكيف ذلك؟ قال اقرؤوا قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآيات ، وهي من أوراد الصالحين تقرأ إلى آخر السورة عند الإستيقاظ من النوم ليلا فمن لازم عليها تحقق بما فيها ، وحصل له ثواب من قام الليل. قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف لقوله : (وَلا تُخْزِنا) أي لا تفضحنا في ذلك اليوم. قوله : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) علة لقوله : (آتِنا ما وَعَدْتَنا) إلخ.

قوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) أي لأولي الألباب الموصوفين بما تقدم ، واستجاب بمعنى أجاب ، فالسين والتاء زائدتان للتأكيد وهو يتعدى بنفسه واللام. قوله : (رَبُّهُمْ) إنما عبر به دون غيره من الأسماء لمناسبة دعائهم به. قوله : (أي بأني) أشار بذلك إلى أن بفتح الهمزة تفاق السبعة وفيه حذف الجار وهو مطرد إذا أمن اللبس ، قال ابن مالك :

وحذفه مع إن وأن يطرد

مع أمن لبس كعجبت أن يدوا

وهذه الباء للسببية وقرىء شذوذا باثباتها ، وقرىء سذوذا أيضا بكسر الهمزة على تقدير القول. قوله : (لا أُضِيعُ) هكذا بسكون الياء من أضاع ، وقرىء بتشديد الياء من ضيع. قوله : (مِنْكُمْ) جار ومجرور صفة لعامل ، وقوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) من بيانية وقيل زائدة وذكر أو أنثى بدل من عامل ، وقيل إن الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور قبله بدل كل من كل. قوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) هذه الجملة قصد بها التعليل والتعميم ، والمعنى لا أضيع عمل عامل منكم جميعا ذكر أو أنثى ، لأن ربكم واحد ، وأصلكم واحد ، ودينكم واحد ، وبعضكم متناسل من بعض. قوله : (مؤكدة لما قبلها) أي قصد بها التعميم. قوله : (نزلت) أي هذه الآية من هنا إلى قوله : (والله عنده حسن الثواب). قوله : (من مكة

٢٦٢

المدينة (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) ديني (وَقُتِلُوا) الكفار (وَقُتِلُوا) بالتخفيف والتشديد وفي قراءة بتقديمه (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أسترها بالمغفرة (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً) مصدر من معنى لأكفرن مؤكد له (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيه التفات عن التكلم (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥) الجزاء. ونزل لما قال المسلمون أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) تصرفهم (فِي الْبِلادِ) (١٩٦) بالتجارة والكسب (مَتاعٌ قَلِيلٌ) يتمتعون به يسيرا في الدنيا ويفنى (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٩٧) الفراش هي (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ) أي مقدرين الخلود

____________________________________

إلى المدينة) أي أو إلى الحبشة كما كان في صدر الإسلام ، فكان من أسلم ولم يأمن على نفسه يأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهجرة إلى الحبشة ، إلى أن جاءه الأذن بالهجرة إلى المدينة.

قوله : (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يشير بذلك إلى أن الإخراج قهري ، لأنه وإن كان في الظاهر طائعا إلا أنه في الباطن مكره. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وقوله : (وفي قراءة بتقديمه) أي المبني للمفعول لكن بالتخفيف ، فالقراءات ثلاث ، وتكون الواو على هذه القراءة بمعنى مع ، أي قتلوا مع كونهم قاتلوا فلم يفروا ، بل قتلوا في حال مقاتلهم الأعداء. قوله : (لَأُكَفِّرَنَ) اللام موطئة لقسم محذوف ، أو وحقي وجلالي لأكفرن ، والقسم وجوابه في محل رفع خبر. قوله : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) إلخ ، وهذا الوعد الحسن لمن اتصف بجميع تلك الصفات أو ببعضها قوله : (أسترها بالمغفرة) أي عن الخلق وأبدلها حسنات. قوله : (ثَواباً) هو في الأصل مقدار من الجزاء اعده الله لعباده المؤمنين في الآخرة في نظير أعمالهم الحسنة ، لكن المراد به هنا الإثابة فهو مصدر مؤكد كما قال المفسر ، ويصح أن يكون حالا في جنات ، أي لأدخلنهم جنات حال كونها ثوابا بمعنى مثابا بها ، أي في نظير أعمالهم الحسنة. قوله : (من معنى لأكفرن) أي وما بعده وهو لأدخلنهم فهما في معنى لأثيبنهم.

قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لثوابا. قوله : (فيه التفات عن التكلم) أي وكان مقتضى الظاهر أن يقول ثوابا من عندي وإنما أظهر في محل الإضمار تشريفا لهم قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) لفظ الجلالة مبتدأ ، وقوله : (حُسْنُ الثَّوابِ) مبتدأ ثان ، وقوله : (عِنْدَهُ) خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، ويحتمل أن يكون حسن الثواب فاعلا بالظرف قبله ، والجملة خبر المبتدأ وإضافة حسن للثواب من إضافة الصفة للموصوف ، أي الثواب الحسن كالجنة وما فيها ، وأتى بهذه الآية تعليلا لما قبلها. قوله : (لا يَغُرَّنَّكَ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود غيره ، لأن هذه المقالة واقعة من ضعفاء المسلمين ، ولا ناهية ، ويغرنك فعل مضارع مبني على الفتح لإتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، والكاف مفعوله ، والمعنى لا تغتر بتقلبهم إلخ.

قوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هو. قوله : (يتمتعون) أي ينتفعون ويتنعمون به. قوله : (هي) أشار به إلى أنه المخصوص بالذم. قوله : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) إنما أتى بالإستدارك دفعا لما يتوهم من أن الدنيا مذمومة ، ومتاع قليل مطلقا للمؤمن والكافر ، فأفاد أن المؤمن وإن أخذ في التجارة

٢٦٣

(فِيها نُزُلاً) هو ما يعد للضيف ونصبه على الحال من جنات والعامل فيها معنى الظرف (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (١٩٨) من متاع الدنيا (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) كعبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) أي التوراة والإنجيل (خاشِعِينَ) حال من ضمير يؤمن مراعى فيه معنى من أي متواضعين (لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ) التي عندهم في التوراة والإنجيل من نعت النبي (ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا بأن يكتموها خوفا على الرياسة كفعل غيرهم من اليهود (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ) ثواب أعمالهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يؤتونه مرتين كما في القصص (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩٩) يحاسب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على الطاعات والمصائب وعن المعاصي (وَصابِرُوا) الكفار فلا يكونوا أشد صبرا منكم (وَرابِطُوا) أقيموا

____________________________________

والتكسب لا يضره ذلك ، بل له في الآخرة الدرجات العلا ، فذم الدنيا ومعيشتها للكافر خاصة ، قال العارف :

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

لا بارك الله في الدنيا بلا دين

قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) صفة لجنات. قوله : (أي مقدرين الخلود) أشار بذلك إلى أن قوله خالدين حال مقدرة ، لأن وقت دخولهم الجنة ليسوا بخالدين فيها. قوله : (ونصبه على الحال) أي لهم جنات حال كونها مهيئة ومعدة للمؤمنين ، كما يقري الإنسان ضيفه أفخر ما عنده. قوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) هذه الجملة صفة لنزلا وإنما سمي (نُزُلاً) لأنه ارتفع عنهم تكاليف السعي والكسب ، فهو شيء سهل مهيأ لهم من غير تعب ، ولذلك حين دخلوها يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. قوله : (لِلْأَبْرارِ) أي المتقين.

قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) سبب نزولها أنه يوم موت النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة ومعناه عطية الله ، أسلم من غير أن يرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودخلت رعيته في الإسلام تبعا له ، جاء جبريل وأخبره بأنهم متوجهون بجنازته ليصلوا عليه ، فخرج النبي إلى هذا الرجل يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه ، فنزلت الآية. قوله : (كعبد الله بن سلام) أي وأربعين من نصارى نجران ، وإثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، وراعى في الصلاة لفظ (مِنْ) وفي قوله : (خاشِعِينَ) وما بعده معناها. قوله : (بأن يكتموها) تصوير للشراء المنفي. قوله : (يؤتونه مرتين) أي لإيمانهم بكتابهم والقرآن. قوله : (كما في القصص) أي في سورة القصص ، قال تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا). قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي المجازاة على الخير والشر.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) لما بين في هذه السورة فضل الجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من الأحكام العظيمة ، ختمت بما يفيد المحافظة على ذلك. قوله : (على الطاعات إلخ) أشار بذلك إلى مراتب الصبر الثلاثة ، وأعظمها الصبر عن المعصية. قوله : (فلا يكونوا أشد صبرا منكم) أي فلا تفروا من الأعداء واصبروا على الجهاد ، وخصه وإن دخل في عموم الصبر لأنه أعظم أنواعه

٢٦٤

على الجهاد (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أحوالكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠) تفوزون بالجنة وتنجون من النار.

____________________________________

وجامع لها ، فإنه صبر على الطاعة وهو الجهاد ، وعن المعصية وهو الفرار من العدو ، وعلى المصيبة وهي القتل والجرح. قوله : (وَرابِطُوا) أصل المرابطة أن يربط كل من الخصمين خيولهم بحيث يكونون مستعدين للقتال ثم توسع فيه ، وجعل كل مقيم في الثغر لحراسة العدو مرابطا ، وإن لم يكن عدو ولا مركوب مربوط. قوله : (في جميع أحوالكم) أي حالاتكم من رخاء وشدة وعسر ويسر وصحة ومرض. قوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الترجي في القرآن بمنزلة التحقيق ، والفلاح هو الفوز والظفر ، ورد أن من قرأ سورة آل عمران أعطاه الله بكل آية منها أمانا على جسر جهنم.

٢٦٥
٢٦٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّساء

مدنيّة

وآياتها ست وسبعون ومائة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي عقابه بأن تطيعوه (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) آدم (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) حواء بالمد من ضلع من

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النساء

مدنية مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية

مدنية أي كلها ، وإن خوطب بمطلعها أهل مكة ، لأن القاعدة أنه متى قيل في القرآن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) كان خطابا لأهل مكة ، ومتى قيل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كان خطابا لأهل المدينة. قوله : (وخمس أو ست) أو لتنويع الخلاف فهي مائة وسبعون جزما والخلاف فيما زاد. قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الخطاب للمكلفين عموما ، ذكورا وإناثا ، إنسا أو جنا ، لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وليس مخصوصا بمن كان موجودا وقت النزول ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ).

قوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي امتثلوا أوامره واجتبوا نواهيه ، ولذلك يحصل بالإسلام ، فإنّ المسلم العاصي قد اتّقى الشرك وهو أعظم المنهيات بالإيمان وهو أعظم المأمورات ، لكن يقال لها تقوى عامة ، وتقوى الخواص هي اجتناب المنهيات جميعها ، وامتثال المأمورات على حسب الطاقة ، وتقوى خواص الخواص هي الانهماك في طاعة الله ، وعدم الشغل بغيره ولو مباحا ، والآية صادقة بهذه المراتب كلها.

قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) تأكيد للأمر المتقدم ، فالمعنى اتّقوا الله لأنه مالككم ومربيكم ، ومن أوصافه أنه خلقكم وأنشأكم من نفس واحدة ، فمن كان بهذه الصفات فهو أحق بأن يتقى ، لأنه لا استغناء عنه ، بل كان من خلقه مفتقر إليه في كل لمحة وطرفة ولحظة ، وفي ذلك إشارة إلى أن التقوى تكون في حق بعضنا بعضا لأن أصلنا واحد ، فواجب علينا اتقاء ربنا لأنه الخالق لنا ، واتقاء بعضنا بعضا لأننا كلنا من أصل واحد.

قوله : (وَخَلَقَ مِنْها) أي من تلك النفس الواحدة. قوله : (زَوْجَها) يقال في الأنثى زوج

٢٦٧

أضلاعه اليسرى (وَبَثَ) فرق ونشر (مِنْهُما) من آدم وحواء (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) كثيرة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ) فيه إدغام التاء في الأصل في السين وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي تتساءلون (بِهِ) فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض أسألك بالله وأنشدك بالله (وَ) اتقوا (الْأَرْحامَ) أن تقطعوها وفي قراءة بالجر عطفا على الضمير في به وكانوا يتناشدون بالرحم (إِنَ

____________________________________

وزوجة ، والأفصح الأول. قوله : (حوّاء) بالمد سميت بذلك لأنها خلقت من حي. قوله : (من ضلع من أضلاعه) أي بعد أن أخذ ، النوم ولا يشعر بذلك ولم يتألم ، فلما استيقظ من النوم وجدها فمال إليها فأراد أن يمد يده إليها ، فقالت له الملائكة مه يا آدم حتى تؤدي مهرها ، قال فما مهرها؟ قالوا حتى تصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في رواية ثلاث صلوات ، وفي رواية سبعة عشر ، وفي ذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسّلام الواسطة لكل موجود حتى أبيه آدم. إن قلت : حيث كانت حواء مخلوقة من ضلع آدم فهي أخت لأولاده ، فمقتضاه أنه يحل لمن يخلق منها التزوج بها في شرعه. أجيب : بأن تفرع حواء من آدم ليس كتفرع الولد من الوالد ، بل نباتها من الضلع كما تنبت النخلة من النواة ، فلا يحكم عليها بأنها بنت آدم ويقال لها أخت أولاده ، بل هي أمهم لا غير ، واختلف هل كان خلق حواء خارج الجنة ، وبه قال جماعة ، وقال ابن عباس وجماعة أنه كان داخل الجنة ، ولا مانع من كونه أخذه النوم فيها ، لأن الممنوع النوم بعد دخولها يوم القيامة. قوله : (وَنِساءً) (كثيرة) أشار بذلك إلى أن في الآية اكتفاء ، ورد أن حواء حملت من آدم عشرين بطنا ، أو أربعين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى ، وكان يزوج ذكر هذه البطن لأنثى البطن الأخرى ، فنزلت اختلاف البطون منزلة اختلاف الآباء والأمهات ، وما مات حتى اجتمع من ذريته مباشرة وبواسطة فوق المائة ألف يشتغلون بأنواع الصنائع والتجارة.

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) معطوف على قوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ). قوله : (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي يقسم بعضكم على بعض به لأنه عظيم جليل ، فحيث كان كذلك فهو أحق بأن يتقى. قوله : (فيه إدغام التاء الخ) أي فأصله تتساءلون به ، قلبت التاء سينا ثم أدغمت في السين وإنما قلبت التاء سينا لقرب مخرجيهما. قوله : (يحذفها) أي التاء الثانية وحذفت تخفيفا. قال ابن مالك :

وما بتاءين ابتدى قد يقتصر

فيه على تا كتبين العبر

قوله : (حيث يقول بعضكم الخ) أي فيدخل الحمى ولا يتعرض له ، وكان ذلك في الجاهلية ، والمعنى اتقوا الله لأنه ربكم وخالقكم من نفس واحدة ، ولأنه عظيم يقسم به وتقضى الحوائج باسمه. قوله : (وَالْأَرْحامَ) هكذا بالنصب معطوف على لفظ الجلالة ، والعامل فيه اتقوا ، ولذا قدره المفسر ، وقوله : (أن تقطعوها) إشارة إلى أن الكلام على حذف مضاف تقديره واتقوا قطع الأرحام لما في الحديث : «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله ، ومواصلة الأرحام تختلف باختلاف الناس ، فمنهم الغني والفقير ، فالواجب على الغني المواصلة بالهدايا والتحف والكلام اللين ، وعلى الفقير باللين والسعي لهم ومعاشرتهم بالمعروف ، ولا فرق بين الأحياء والأموات». قوله : (وفي قراءة بالجر) أي مع تخفيف تساءلون وهي لحمزة ، وأما قراءة النصب فبالتشديد والتخفيف ، فالقراءات ثلاثة وكلها سبعية. قوله : (عطفا على الضمير في به) أي من غير عود الخافض ، وهي وإن كانت لغة فصيحة

٢٦٨

اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١) حافظا لأعمالكم فمجازيكم بها أي لم يزل متصفا بذلك ونزل في يتيم طلب من وليه ماله فمنعه (وَآتُوا الْيَتامى) الصغار الألى لا أب لهم (أَمْوالَهُمْ) إذا بلغوا (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) الحرام (بِالطَّيِّبِ) الحلال أي تأخذوه بدله كما تفعلون من أخذ الجيد من مال

____________________________________

إلا أنها خلاف الكثير ، وقد أشار لذلك ابن مالك بقوله :

وعود خافض لدى عطف على

ضمير خفض لازما قد جعلا

وليس عندي لازما إذ قد أتى

والنظم والنثر الصحيح مثبتا

فأشار بالنثر الصحيح إلى الآية ، والنظم إلى قول الشاعر :

قد بت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب

بجر الأيام. قوله : (وكانوا يتناشدون بالرحم) هذا مرتب على القراءة الثانية ، أي فالمعنى اتّقوا الله لأنكم تتناشدون به ، واتقوا الأرحام لأنكم تتناشدون بها ، ومن التناشد بها قول هارون لأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما : «يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي». قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) هذا تعليل لقوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) والرقيب لغة من ينظر في الأمور ويتأمل فيها ، واصطلاحا الحفيظ الذي لا يغيب عن حفظه شيء ، وهذا المعنى هو المراد في حق الله تعالى. قوله : (حافظا لأعمالكم) أي جميعها خيرها وشرها ، سرها وجهرها ، قال تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ). قوله : (أي لم يزل متصفا بذلك) جواب عن سؤال مقدر تقديره أن لفظ كان يفيد الانقطاع ، فيفيد أن الله اتّصف بالحفظ فيما مضى وانقطع ، فأجاب بأن كان هنا للاستمرار ، أي هو متصف بذلك أزلا وأبدا. قوله : (ونزل في يتيم) أي بحسب ما كان ، وإلا فوقت طلبه رشيدا. قوله : (طلب من وليه) أي وكان عما لذلك اليتيم. قوله : (فمنعه) أي فلما منعه شكا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت الآية ، فلما سمعها الولي قال أطعت الله وأطعت رسوله ، ونعوذ بالله من الحوب الكبير.

قوله : (وَآتُوا الْيَتامى) شروع في ذكر مواطن التقوى ، وقدم مال اليتيم لأن فيه وعيدا عظيما وتحذيرا شديدا ، واليتامى جمع يتيم ويجمع أيضا على أيتام من اليتيم وهو لغة الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة بمعنى عديمة المثيل ، ومنه يتيم سيد الكائنات عليه أفضل الصلاة والسّلام ، قال العارف :

أخذ الإله أبا النبي ولم يزل

برسوله الفرد الكريم رحيما

نفسي الفداء لمفرد في يتمه

والدر أحسن ما يكون يتيما

واصطلاحا أشار له المفسر بقوله : (الألى) لا أب لهم ، أي ولو كانت أمهم موجودة ، فاليتيم في الآدمي من كان معدوم الأب وهو صغير ، وفي غيره من كان معدوم الأم ، فإن مات الأبوان قيل للصغير لطيم ، وإن ماتت أمه فقط قيل له عجمي. قوله : (الآلى) بضم الهمزة وفتح اللام اسم موصول جمع الذي كالذين. قوله : (إذا بلغوا) أي وكانوا راشدين ، بدليل قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) الآية.

قوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) هذا نهي آخر ، وكان ولي اليتيم في الجاهلية يأخذ مال اليتيم

٢٦٩

اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) مضمومة (إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ) أي أكلها (كانَ حُوباً) ذنبا (كَبِيراً) (٢) عظيما. ولما نزلت تحرجوا من ولاية اليتامى وكان فيهم من تحته العشر أو الثمان من الأزواج فلا يعدل بينهن فنزل (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) تعدلوا (فِي الْيَتامى) فتحرجتم من أمرهم فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن (فَانْكِحُوا) تزوجوا (ما) بمعنى من (طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا

____________________________________

الجيد ويدفع بدله الرديء كشاة هزيلة يدفعها ويأخذ شاة سمينة ، ودرهم زائف يتركه لليتيم ويأخذ له الجيد ، ويقول شاة بشاة ودرهم بدرهم. قوله : (الحرام) أي وإن كان جيدا ، وقوله : (الحلال) أي وإن كان رديئا. قوله : (أي تأخذوه بدله) أشار بذلك إلى أن الباء داخلة على المتروك. قوله : (مضمومة) أي بأن تجمعوا ماله على أموالكم وتصرفوا من الجميع ، وقصده بذلك أكل الجميع ، وهذا نهي ثالث ، لأن الأمر الأول تضمن نهيا أي لا تمنعوا اليتامى من أموالهم إذا رشدوا أو لا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم. إن قلت : مقتضى الآية أن أكل مال اليتيم منفردا ليس بذنب عظيم ، أجيب : بأنه نص على مستقبح الأوصاف زيادة في التشنيع على من يأكله مع الاستغناء ، وإلا فأكله منفردا كأكله مضموما لماله في ارتكاب الإثم الكبير. قوله : (حُوباً) بضم الحاء باتفاق السبعة ، وقرىء شذوذا بفتح الحاء وسكون الواو وقبلها ألفا والمعنى واحد. قوله : (ولما نزلت) أي آيات اليتيم التي ورد النهي فيها. قوله : (تحرجوا) أي شق عليهم وطلبوا الخروج من الحرج الذي هو الإثم. قوله : (من الأزواج) أي اليتامى ، فكان الواحد منهم إذا وجد يتيمة ذات مال وجمال رغب فيها لأجل مالها ، فلما نزلت آية النهي عن أكل مال اليتيم شق عليهم ذلك فنزلت (وَإِنْ خِفْتُمْ) فالنهي في الأولى عام في اليتامى مطلقا أزواجا أو لا ، والثاني خاص بالأزواج اليتامى. قوله : (أَلَّا تُقْسِطُوا) من أقسط بمعنى عدل ، وأما القاسط فمعناه الجائز ، وقرىء تقسطوا بفتح التاء وتحمل على أن لا زائدة أو لغة في أقسط بمعنى عدل ، فتكون مستعملة في الشيء وضده.

قوله : (فِي الْيَتامى) أي في نكاحهم. قوله : (فتحرجتم) أي طلبتم الخروج من الحرج الذي هو الإثم ، وقوله : (فخافوا) جواب الشرط ، قالت عائشة : هذه الآية في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ، ويريد أن ينتقص صداقها ، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق ، وأمروا بالنكاح من غيرهن ، قالت عائشة : فاستفتى الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك ، فأنزل الله عزوجل : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قوله (وَتَرْغَبُونَ) أن تنكحوهن ، فبينّ الله لهم في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بأمثالها في إكمال الصداق ، وبينّ في تلك الآية أن اليتيمة إذا كانت مرغوبا عنها لقلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال أي الله فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها ، إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق ، وقال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها ، فيتزوجها لأجل مالها وهي لا تعجبه ، وإنما تزوجها كراهية أن يدخل غريب فيشاركها في مالها ثم يسيء صحبتها ويتربص إلى أن تموت فيرثها ، فعاب الله عليهم ذلك وأنزل هذه الآية. قوله : (بين النساء) أي اليتامى. قوله : (بمعنى من) أي الواقعة على العاقل ، وهو جواب عن سؤال مقدر تقديره أن ما لغير العاقل

٢٧٠

وأربعا أربعا ولا تزيدوا على ذلك (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) فيهن بالنفقة والقسم (فَواحِدَةً) انكحوها (أَوْ) اقتصروا على (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من الإماء إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات (ذلِكَ) أي نكاح الأربع فقط أو الواحدة أو التسري (أَدْنى) أقرب إلى (أَلَّا تَعُولُوا) (٣) تجوروا (وَآتُوا) أعطوا (النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) جمع صدقة مهورهن (نِحْلَةً) مصدر عطية عن طيب نفس (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) تمييز محول عن الفاعل أي طابت أنفسهن لكم

____________________________________

ولا شك أن النساء عقلاء ، فأجاب بأن ما بمعنى من ، وعبر عنهن بما لنقص عقلهن عن الرجال. وأجيب أيضا بأن ما واقعة على الأوصاف ، والمعنى وانكحوا الوصف الذي يعجبكم من النساء كالحسب والنسب والجمال وفي الحديث : «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس».

قوله : (مِنَ النِّساءِ) أي غير اليتامى ، وقد تضمنت هذه الآية النهي عن نكاح اليتامى من أجل أموالهن والزيادة على أربع. قوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) بدل من النساء. قوله : (أي اثنين اثنين) المعنى أباح لكم في الاختيار اثنين أو ثلاثا أو أربعا ، فالواو ليست للعطف ، وإلا لزم أنه بيان جمع تسع ، وبه قالت الظاهرية ، ولا بمعنى أو وإلا لزم أن من اختار اثنين لا يجوز له أن ينتقل إلى ثلاث أو أربع. قوله : (ولا تزيدوا على ذلك) هذا محط السياق. قوله : (إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات) أي فلا يجب العدل بينهن ، لا في القسم ، ولا في النفقة ، ولا في الكسوة. قوله : (أَدْنى) يتعدى بإلى واللام ، تقول دنوت إليه وله. قوله : (أَلَّا تَعُولُوا) العول في الأصل معناه الميل ، من قولهم عال الميزان عولا أي مال وعال في الحكم إذا جار. قوله : (تجوروا) أي تظلموا ، وفي الحديث : «من لم يعدل بين نسائه جاء يوم القيامة وشقه ساقط».

قوله : (وَآتُوا النِّساءَ) أتى بهذه الآية استطرادا بين أحكام اليتامى لمناسبة ذكر النساء ، وآتى بالمد مصدره الإيتاء بمعنى الإعطاء ، فلذا فسره به ، وأما بالقصر فمصدره الإتيان بمعنى المجيء. قوله : (جمع صدقة) أما بضم الدال أو فتحها أو إسكانها ، ويقال أيضا صداق بفتح الصاد وكسرها ، ومعنى الجميع المهر الذي يجعل للمرأة في نظير البضع ، وأقله عند المالكية ربع دينار شرعي ، أو ثلاث دراهم شرعية ، أو مقوم بأحدهما ، وعند الشافعي يكفي أي شيء متموّل أو خاتما من حديد ، وعند الحنفية عشرة دراهم شرعية ، وأكثره لا حد له بل بحسب ما تراضوا عليه ، والأمر للأزواج ، فالمعنى لا تنكحوا النساء إلا بمهر ، وخصصت السنة نكاح التفويض وهو العقد من غير تسمية مهر ، فهو صحيح لكن يلزمه بعد الدخول صداق المثل. قوله : (مصدر) أي مؤكد لقوله آتوا من معناه كجلست قعودا ، ويسمى ذلك المصدر معنويا. قوله : (عن طيب نفس) أي خالصا لا منة للزوج به عليها.

قوله : (فَإِنْ طِبْنَ) أي النسوة. وقوله : (مِنْهُ) الضمير عائد على الصداق المعلوم من قوله صدقات ، ومن يحتمل أن تكون للتبعيض أو البيان ، فيحل للمرأة الرشيدة بعد الدخول أن تعطي زوجها المهر كله أو بعضه عند جميع الأئمة إلا الليث فعنده لا يحل لها أن تعطيه جميعه ، فمن على ذلك يتعينّ أن تكون للتبعيض لا للبيان. قوله : (أي طابت أنفسهن) هذا بيان لكون نفسا في الأصل فاعلا. قوله

٢٧١

عن شيء من الصداق فوهبنه لكم (فَكُلُوهُ هَنِيئاً) طيبا (مَرِيئاً) (٤) محمودة العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة نزلت ردا على من كره ذلك (وَلا تُؤْتُوا) أيها الأولياء (السُّفَهاءَ) المبذرين من الرجال والنساء والصبيان (أَمْوالَكُمُ) أي أموالهم التي في أيديكم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) مصدر قام أي تقوم بمعاشكم وصلاح أودكم فيضعوها في غير وجهها وفي قراءة قيما جمع قيمة ما تقوم به الأمتعة (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أطعموهم منها (وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٥) عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا (وَابْتَلُوا) اختبروا (الْيَتامى) قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أحوالهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) أي صاروا أهلا له بالاحتلام أو السن وهو

____________________________________

(فوهبنه لكم) أي اختيارا لا قهرا ، وإلا فلا يحل أخذه ، ويشترط أيضا أن تكون المرأة رشيدة بالغة ، وإلا فلا يحل أخذه.

قوله : (فَكُلُوهُ) أي انتفعوا به ، فأطلق الأكل وأراد مطلق الانتفاع. قوله : (مَرِيئاً) أي ممروءا لا غصة فيه ولا عقبة من قولهم جرى الطعام في المريء ، أي العرق الأحمر الكائن تحت الحلقوم المسمى بالبلعوم ، وهنيئا مريئا حالان من مفعول كلوه ، والمعنى كلوه حال كونه هنيئا حلالا مريئا سائغا لا نكد فيه. قوله : (في الآخرة) أي ولا في الدنيا ، فليس لورثتها طلبه. قوله : (على من كره ذلك) أي استنكافا عنه وجعله كالرجوع في الهبة.

قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) هذا رجوع لتتميم أحكام اليتامى ، وأصل تؤتوا تؤتيوا ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت ، فالتقى ساكنان الياء والواو ، حذفت الياء لالتقائهما. قوله : (والصبيان) معطوف على المبذرين. قوله : (أي أموالهم) أي وإنما نسبها للأولياء لأنهم هم المتصرفون فيها ، فالإضافة ليست لذلك وإنما هي لأدنى ملابسة. قوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) جعل بمعنى صير ، ولفظ الجلالة فاعلة ، وقياما مفعول ثان ، والمفعول الأول محذوف تقديره جعلها ، والضمير عائد على الأموال ، ويحتمل أن جعل بمعنى خلق فقياما حال ، والمعنى لا تعطوا المبذرين والصبيان أموالهم التي جعل الله مقومة لمعاشهم وصلاحهم. قوله : (أودكم) الأود بفتحتين وبفتح فسكون معناه العوج. قوله : (وفي قراءة قيما) أي وهي سبعية أيضا ، وقرىء شذوذا قواما بفتح القاف وكسرها وقوما كعنبا ، وعموم الآية يشمل من أعطى مال اليتيم لسفيه مبذر يتجر له فيه وهو مشهور بالسفه والتبذير ، فإن الولي منهي عن ذلك ويضمنه لفهمه بالأولى.

قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) حكمة التعبير بفي ، أنه ينبغي للولي أن يعطي مال اليتيم لرجل أمين يتجر فيه ، ويكون مصرفه من الربح لا من أصل المال. وفي الحديث : «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة» فالتجارة في أموال اليتامى مطلوبة عند جميع الأئمة. قوله : (عدوهم عدة جميلة) أي كأن يقول له مالك عندي وأنا أمين عليه ، فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك ، وهكذا تطييبا لخاطرهم وجدهم في أسباب الرشد.

قوله : (وَابْتَلُوا الْيَتامى) أي لا تتركوهم هملا ، بل علموهم الصنائع وأمور الدنيا والدين ، ولا تفرطوا في ذلك حتى تبلغوا. قوله : (بالاحتلام) أي نزول المني. قوله : (حتى إذا بلغوا) حتى ابتدائية ،

٢٧٢

استكمال خمس عشرة سنة عند الشافعي (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أبصرتم (مِنْهُمْ رُشْداً) صلاحا في دينهم ومالهم (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها) أيها الأولياء (إِسْرافاً) بغير حق حال (وَبِداراً) أي مبادرين إلى إنفاقها مخافة (أَنْ يَكْبَرُوا) رشداء فيلزمكم تسليمها إليهم (وَمَنْ كانَ) من الأولياء (غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) أي يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ) منه (بِالْمَعْرُوفِ) بقدر أجرة عمله (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) أي إلى اليتامى (أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أنهم تسلموها وبرئتم لئلا يقع اختلاف فترجعوا إلى البينة وهذا أمر إرشاد (وَكَفى بِاللهِ) الباء

____________________________________

وإذا شرطية ، وفعل الشرط قوله بلغوا ، وجوابها قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ) الخ ، فشرط إعطاء الولي المال لليتيم بلوغ النكاح وعلم الرشد. قوله : (عند الشافعي) أي وعند مالك وأبي حنيفة ثمانية عشر. ومن علامات البلوغ : الحيض وكبر الثدي للإناث ونبات العانة ونتن الأبط وفرق الأرنبة وغلظ الحنجرة ، فإذا وجدت تلك العلامات حكم ببلوغه عند مالك ، وأما عند الشافعي فلا يحكم بالبلوغ إلا بالإحتلام أو الحيض أو بلوغ خمسة عشر سنة ، وما عدا ذلك علامة على البلوغ ولا يحكم عليه به. قوله : (أبصرتم) المناسب أن يكون علمتم ، لأن الرشد يعلم ولا يشاهد بالبصر. قوله : (صلاحا في دينهم ومالهم) هذا مذهب الشافعي ، ويكفي عند مالك في الرشد إصلاح المال فقط.

قوله : (فَادْفَعُوا) جواب الشرط الثاني. قوله : (حال) أي من الواو في تأكلوا مؤولا بمسرفين. قوله : (مخافة) (أَنْ يَكْبَرُوا) قدره إشارة إلى أن قوله : (أَنْ يَكْبَرُوا) مفعول لأجله ، ومفعول (بِداراً) محذوف تقديره ولا تأكلوها حال كونكم مسرفين فيها مبادرين لأكلها ، مخافة كبرهم عليكم فيأخذوها منكم. قوله : (أَنْ يَكْبَرُوا) مضارع كبر بوزن علم ومصدره كبر كعنبا. قوله : (من الأولياء) أولياء الأيتام. قوله : (أي يعف عن مال اليتيم) أي يتباعد عنه لما فيه من الوعيد العظيم الآتي في قوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) فالواجب على الولي إن كان غنيا التباعد عن مال اليتيم بالمرة ، بل ينبغي له أن لا يخلط ماله بماله ، بل يعطيه لغيره ليتجر له فيه ، ويكون هو ناظرا عليه. قوله : (ويمتنع من أكله) أي فإذا أكله وأطعمه لغيره ولو لمن يصنع سبحا أو جمعا لوالد اليتيم ضمنه إذا لم يوص الميت بذلك ، وأما إن لم يكن لليتامى ولي وليس فيهم كبير رشيد ، حرم الأكل من مالهم وكل من أكل شيئا لزمه عوضه. قوله : (بقدر أجرة عمله) أي ما لم تزد على كفايته ، وإلا فله كفايته فقط ، وهذا مذهب الشافعي ، وعند مالك له أجرة مثله مطلقا زادت عن كفايته أو لا.

قوله : (فَإِذا دَفَعْتُمْ) مرتب على قوله : (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) والمعنى فإذا أردتم الدفع فأشهدوا لئلا يقع اختلاف فترجعوا إلى البينة ، هذا هو المشهور في المذاهب أن الولي لا يصدق في الدفع إلا ببينة تشهد أنه دفعه لهم بعد رشدهم ، فإن لم تكن بينة غرمه ، وهناك قول ضعيف عند مالك وهو أنه يصدق في الدفع بيمين ، فعلة الإشهاد على هذا القول لئلا يحلف الولي ، والفرق بين الأمين والوصي أن الوصي لما كان له التصرف في مال اليتيم كان ضامنا له إلا ببينة تشهد بالدفع ، والأمين لا تصرف له في الأمانة فصدق بيمين في الدفع ، ولذا إذا انصرف فيها كانت متعلقة بذمته ، فلا يصدق في دفعها إلا ببينة كالدين. قوله : (وهذا أمر إرشاد) أي تعليم لمصالح الدنيا فهو أمر ندب. قوله : (الباء زائدة) أي في

٢٧٣

زائدة (حَسِيباً) (٦) حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم. ونزل ردا لما كان عليه الجاهلية من عدم توريث النساء والصغار (لِلرِّجالِ) الأولاد والأقرباء (نَصِيبٌ) حظ (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) المتوفون (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) أي المال (أَوْ كَثُرَ) جعله الله (نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٧) مقطوعا بتسليمه إليهم (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) للميراث (أُولُوا الْقُرْبى) ذوو القرابة ممن لا يرث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) شيئا قبل القسمة (وَقُولُوا) أيها الأولياء (لَهُمْ) إذا كان الورثة صغارا (قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٨) جميلا بأن تعتذروا إليهم أنكم لا تملكونه وأنه للصغار وهذا قيل إنه منسوخ وقيل لا ولكن تهاون الناس في تركه وعليه فهو ندب وعن ابن عباس واجب (وَلْيَخْشَ) أي ليخف على اليتامى (الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) أي قاربوا

____________________________________

فاعل كفى ، فلفظ الجلالة فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائدة ، وفي قوله : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) وعد حسن لمن كان سليما ولم يلتمس من مال اليتيم شيئا ، ولو اتهمه اليتيم بأكله ظلما وعدوانا ، ووعيد لمن أكله وظلمه وإن لم يثبت عليه ذلك.

قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) سبب نزولها أن أوس بن ثابت توفي وترك امرأته واسمها أم كحة وثلاث بنات ، وأقام وصيين واسمهما سويد وعرفجة ولدا عمه ، فأخذا المال جميعه فجاءت المرأة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : مات أوس بن ثابت وترك ثلاث بنات ، وأنا امرأته ولم يكن عندي ما أنفقه عليهن ، وترك مالا حسنا ، فأخذه سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته شيئا ، فدعاهما النبي فقالا أولادها يركبن فرسا ، ولا يحملن كلا ، ولا ينكين عدوا ، فنزلت هذه الآية ، وبينّ أن الإرث غير مختص بالرجال البالغين ، وأوقف النبي التركة حتى نزلت (يُوصِيكُمُ اللهُ) الآية ، فأعطى الزوجة الثمن ، والبنات الثلثين ، وابني عمه ما بقي. قوله : (الأولاد) أخذه من قوله : (الْوالِدانِ). وقوله : (والأقرباء) أخذه من قوله : (وَالْأَقْرَبُونَ). قوله : (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) بدل من قوله : (مِمَّا تَرَكَ) قوله : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) مفعول ثان لفعل محذوف قدره بقوله : (جعله الله).

قوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) معنى ذلك إذا مات الميت وترك من يرث ومن لا يرث ، وحضر جميعهم قسمة الميراث ، طلب الشارع إعطاء من لا يرث ، وكذا المساكين واليتامى شيئا قبل القسمة جبرا لخاطرهم ، باجتهاد من يقسم التركة بحسب قلة المال وكثرته ، واختلف هل هذا منسوخ هو الحق ، وقيل ليس بمنسوخ ، واختلف على هذا هل الأمر للوجوب أو الندب وهو المعتمد على هذا القول. قوله : (إذا كانت الورثة صغارا) أي أو التركة قليلة.

قوله : (وَلْيَخْشَ) قرأ السبعة بسكون اللام وغيرهم بكسرها وعلى كل اللام للأمر ، وسبب نزولها أنه كان في الجاهلية إذا حضر أحدهم الموت قد حضره جماعة ، حملوه على تفرقة ماله للفقراء والمساكين ، ويحرمون أولاده منه ، فيترتب على ذلك كونهم بعد موته عالة على الناس ويضيعون ، فنزلت الآية تحذيرا لمن يحمل الميت على ذلك من وصي أو غيره ، فإنه كما يدين الفتى يدان ، فكما يتقي الله في يتامى غيره ، فجزاؤه أن يقبض الله له من يتقي الله في أولاده. قوله : (أي ليخفف على اليتامى) المعنى ليخفف الله على اليتامى. قوله : (الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا) لو شرطية بمعنى إن ، فنقلت الماضي للاستقبال ، كما قال ابن مالك وجماعة ،

٢٧٤

أن يتركوا (مِنْ خَلْفِهِمْ) أي بعد موتهم (ذُرِّيَّةً ضِعافاً) أولادا صغارا (خافُوا عَلَيْهِمْ) الضياع (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في أمر اليتامى وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم (وَلْيَقُولُوا) للميت (قَوْلاً سَدِيداً) (٩) صوابا بأن يأمروه أن يتصدق بدون ثلثه ويدع الباقي لورثته ولا يتركهم عالة (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) بغير حق (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) أي ملئها (ناراً) لأنه يؤول إليها (وَسَيَصْلَوْنَ) بالبناء للفاعل والمفعول يدخلون (سَعِيراً) (١٠) نارا شديدة يحترقون فيها (يُوصِيكُمُ) يأمركم (اللهُ فِي) شأن (أَوْلادِكُمْ) بما يذكر (لِلذَّكَرِ) منهم (مِثْلُ حَظِّ) نصيب (الْأُنْثَيَيْنِ) إذا اجتمعتا معه فله نصف المال ولهما النصف فإن كان معه واحدة فلها الثلث وله الثلثان وإن انفرد حاز المال (فَإِنْ كُنَ) أي الأولاد (نِساءً) فقط (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) الميت وكذا الاثنتان لأنه للأختين بقوله فلهما الثلثان مما ترك فهما أولى

____________________________________

فتركوا فعل الشرط. قوله : (خافُوا) جوابه ، وقوله : (فَلْيَتَّقُوا) مرتب عليه. قوله : (خافُوا عَلَيْهِمْ) (الضياع) إن قلت : ما ذنب اليتيم حتى يعاقب بالضياع؟ أجيب بأن ذلك تعذيب لأبيه ، لأن ما يؤذي الحي يؤذي الميت ، وليس تعذيبا لهم ، بل قد يكون رفعة لهم إن اتقوا الله. قوله : (وليأتوا إليهم ما يحبون الخ) أي يفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم بعد موتهم. قوله : (للميت) ويحتمل أن يكون لليتامى ، بأن يقولوا لهم لا تخافوا ولا تحزنوا ، فنحن مثل آبائكم. قوله : (ولا يتركهم عالة) أي فقراء يتكففون وجوه الناس.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ) نزلت في حق رجل من غطفان ، مات أخوه وترك ولدا يتيما فأكل عمه ماله ، والمعنى يتلفون أموالهم ، فالتعبير بالأكل عن الإتلاف مجاز. قوله : (ظُلْماً) يحتمل أن يكون مفعولا لأجله ، أي لأجل الظلم ، ويحتمل أن يكون حالا من يأكلون ، أي حال كون الأكل ظلما. قوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ) هذه الجملة خبر إن الأول ، والتعبير بالأكل مجاز باعتبار ما يؤول إليه أو المعنى يأكلون بسبب النار. قوله : (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (نارا شديدة) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد خصوص الطبقة المسماة بذلك ، لأنها لعباد الوثن خاصة وربما مات آكل مال اليتيم مسلما. والحاصل : أنه تارة تطلق تلك الأسماء على ما يعم جميع الطبقات وتارة تطلق على مسمياتها خاصة. قوله : (يحترقون فيها) أي إن لم يتوبوا. روي أن آكل مال اليتيم يبعث يوم القيامة ، والدخان يخرج من قبره ومن فمه وأنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا.

قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) هذا شروع في تفصيل ما أجمل أولا في قوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) الخ ، قوله : (يأمركم) أي على سبيل الوجوب. قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) هذا كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر ، قوله : (فله نصف المال الخ) أي إن لم يكن معهم صاحب فرض ، وإلا فيأخذ فرضه ، ثم الباقي يقسم مثل حظ الأنثيين.

قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) إن حرف شرط ، وكن فعل الشرط ، ونساء خبركن ، واسمها النون ، وفوق (اثْنَتَيْنِ) صفة لنساء ، وقوله : (فَلَهُنَ) جواب الشرط. قوله : (أي الأولاد) أي بعضهم ، ففي الكلام

٢٧٥

ولأن البنت تستحق الثلث مع الذكر فمع الأنثى أولى (فَوْقَ) قيل صلة وقيل لدفع توهم زيادة النصيب بزيادة العدد لما فهم استحقاق البنتين الثلثين من جعل الثلث للواحدة مع الذكر (وَإِنْ كانَتْ) المولودة (واحِدَةً) وفي قراءة بالرفع فكان تامة (فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ) أي الميت ويبدل منها (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ذكرا أو أنثى ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان فيه وألحق بالولد ولد الابن وبالأب الجد (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) فقط أو مع زوج (فَلِأُمِّهِ) بضم الهمزة وكسرها فرارا من الإنتقال إلى كسرة لثقله في الموضعين (الثُّلُثُ) أي ثلث المال أو ما يبقى بعد الزوج والباقي للأب (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) أي اثنان فصاعدا ذكورا وإناثا (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) والباقي للأب ولا شيء للإخوة وإرث من ذكر ما ذكر (مِنْ بَعْدِ) تنفيذ (وَصِيَّةٍ يُوصِي) بالبناء للفاعل والمفعول (بِها أَوْ) قضاء (دَيْنٍ) عليه وتقديم الوصية على الدين

____________________________________

استخدام ، فذكر الأولاد بمعنى ، وأعاد الضمير عليه بمعنى آخر ، نظير قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) بعد قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). قوله : (لأنه للأختين) أي الفرض المذكور وهذان وجهان : أحدهما القياس على الأختين. والثاني القياس على البنت الواحدة ، وهما على كون فوق ليست صلة. قوله : (وقيل لدفع توهم زيادة النصيب) هذا القيل محتمل لأن تكون أصلية أو زائدة ، فالمعنى أن ما فوق البنتين حكمهما حكم البنتين. قوله : (وفي قراءة بالرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (ذكرا أو أنثى) أي فإن كان الولد ذكرا أخذ ما فضل عن سدسيهما ، وإن كانت أنثى أخذت النصف فرضها ، والأم سدسها ، والأب الباقي فرضا وتعصيبا. قوله : (وألحق بالولد ولد الابن الخ) أي بالقياس المساوي ، قوله : (بضم الهمز وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (فرارا) راجع للكسر ، وقوله : (في الموضعين) أي في قوله : (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) وقوله : (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أي وما بقي بعد الزوج أي الزوجة وهما الغراوان ، وقد أشار لهما صاحب الرحبية بقوله :

وإن يكن زوج وأم وأب

فثلث الباقي لها مرتب

وهكذا مع زوجة فصاعدا

فلا تكن عن العلوم قاعدا

ثلث الباقي في الحقيقة ، أما ربع أو سدس ، وقد انعقد الإجماع على ذلك ، قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) تقدم أن الأم يفرض لها جميع ثلث المال أو ثلث الباقي ، إن لم يكن للميت فرع وارث ، وأفاد هنا أنه مع وجود الأخوة يفرض لها السدس ، فيفهم منه أنه عند عدم الأخوة أيضا ، يكون لها الثلث ، فتحصل أن لها الثلث بشرطين عدميين ، وهما عدم الأخوة ، وعدم الفرع الوارث ، قوله : (ذكورا أو إناثا) أي أشقاء أو لأب أو لأم. قوله : (ولا شيء للأخوة) أي مطلقا لكونهم محجوبين بالأب ، ولذلك قال في التلمسانية :

وفيهم في الحجب أمر عجب

لكونهم قد حجبوا وحجبوا

فلو كان بدل الأب جد. لكان مثله عند أبي حنيفة. وعند الأئمة الثلاثة يشترك مع الأخوة. على تفصيل في ذلك مذكور في الفروع. قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) متعلق بمحذوق قدره المفسر بقوله : (وارث من ذكر الخ) وهو قيد في جميع ما تقدم. قوله : (تنفيذ) (وَصِيَّةٍ) أي تخرج من رأس المال إن حملها

٢٧٦

وإن كانت مؤخرة عنه في الوفاء للاهتمام بها (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) مبتدأ خبره (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) في الدنيا والآخرة فظان أن ابنه أنفع له فيعطيه الميراث فيكون الأب أنفع وبالعكس وإنما العالم بذلك الله ففرض لكم الميراث (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) (١١) فيما دبره لهم أي لم يزل متصفا بذلك (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) منكم أو من غيركم (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) وألحق بالولد في ذلك ولد الابن بالاجماع (وَلَهُنَ) أي الزوجات تعددن أو لا (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) منهن أو من غيرهن (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها

____________________________________

الثلث. وشرطها أن تكون في معصية ، فلو أوصى بمال يصرف على الكنيسة ، أو على من يشرب الخمر. أو غير ذلك. فلا تنفذ. قوله : (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان. فعلى الأولى نائب الفاعل الجار والمجرور. وقال ابن مالك :

وقابل من ظرف أو من مصدر

أو حرف جر بنيابة حرى

وعلى الثانية الفاعل ضمير يعود على الميت. قوله : (وتقديم الوصية) أي اللفظ ، وإلا فأو لأحد الشيئين لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا. والمعنى وإرث ما ذكر ، يحصل من بعد وصية إن كانت ، أو دين إن كان. فإن اجتمعت الوصية والدين قدم الدين. قوله : (للاهتمام بها) أي وشأن الوارثة الشح بها. ومنازعة الموصى له بخلاف الدين. قوله : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) هذه الجملة معترضة بين قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) وقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ). قوله : (أَيُّهُمْ) اسم استفهام مبتدأ و (أَقْرَبُ) خبره. و (لَكُمْ) جار ومجرور متعلق بأقرب ، و (نَفْعاً) تمييز ، والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدرون ، والمعنى لا تدرون أقربية نفعهم لكم ويحتمل أنها اسم مفعول موصول اول لتدرون والمفعول الثاني محذوف ، والمعنى لا تدرون هو أقرب لكم نفعا الآباء والأبناء. قوله : (في الدنيا) أي كحسن القيام بالمصالح والإحسان إليه بعد موته ، وقوله : (والآخرة) أي كالشفاعة أو (في الدنيا والآخرة) لما ورد أن أحد الوالدين أو الولدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة ، سأل أن يرفع إليه فيرفع الآخر بشفاعته. قوله : (فظان) إما بالرفع صفة لموصوف محذوف مبتدأ أي فريق ظان ، أو بالجر مجرور برب. وقوله : (فيكون الأب أنفع) أي في الواقع ونفس الأمر. قوله : (وبالعكس) أي وفريق ظان أن أباه أنفع فيعطيه الميراث ، فيكون الابن أنفع. قوله : (فَرِيضَةً) مفعول لفعل محذوف قدره بقوله : (ففرض لكم الميراث) وهو راجع لقوله : (يُوصِيكُمُ) فيحتمل أنه مصدر مؤكد لعامله من لفظه ، ودرج على ذلك المفسر ، أو من معناه تقدير يوصيكم فريضة ، لأن الإيصاء معناه الأمر. قوله : (أي لم يزل متصفا بذلك) دفع به ما قد يتوهّم من كان الاتصاف بذلك في الزمن الماضي وانقطع ، فأفاد أن صفات الله لا تتقيد بزمان فهي للاستمرار ، وبعضهم يجعلها في صفات الله زائدة. قوله : (وَلَكُمْ نِصْفُ) هو أيضا من جملة التفصيل لما أجمل في قوله أولا (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). قوله : (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَ) أي للزوجات ، والمراد الجنس وقوله : (ولد) أي واحدا ومتعدد ، ذكرا أو أنثى ، فالزوج يأخذ النصف بشرط عدمي. قوله : (أو من غيركم) أي ولو من زنا ، فإن ولد الزنا ينسب لأمه.

قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) هذا مفهوم قوله : (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) صرح به لإفادة الحكم

٢٧٧

أَوْ دَيْنٍ) وولد الابن في ذلك كالولد إجماعا (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ) صفة والخبر (كَلالَةً) أي لا والد له ولا ولد (أَوِ امْرَأَةٌ) تورث كلالة (وَلَهُ) أي للموروث كلالة (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي من أم وقرأ به ابن مسعود وغيره (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) مما ترك (فَإِنْ كانُوا) أي الأخوة والأخوات من الأم (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) أي من واحد (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) حال من ضمير يوصى أي غير مدخل الضرر على الورثة بأن يوصى بأكثر من الثلث (وَصِيَّةٍ) مصدر مؤكد ليوصيكم (مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ) بما دبره لخلقه من له الفرائض (حَلِيمٌ) (١٢) بتأخير العقوبة عمن خالفه وخصت السنة توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل أو اختلاف دين أو رق (تِلْكَ) الأحكام المذكورة من

____________________________________

فيه. قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) تقدم أنه متعلق بمحذوف تقديره وهذا الاستحقاق يكون بعد تنفيذ وصية. قوله : (ولد الابن) أي ذكرا كان ذلك الولد أو أنثى ، فإن بنت الابن كابن الابن ، وأما أولاد البنت ذكورا أو إناثا ، فلا يحجب الزوج بهم عن نصفه ولذلك قال شاعرهم :

بنانا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وكلام المفسر في غاية الحسن حيث قال وولد الابن ، ولم يقل كالخازن وولد الولد ، لأنه يشمل أولاد البنات وهو غير صحيح. قوله : (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) أي ذكر أو أنثى ، واحد أو متعدد قوله : (منهن أو من غيرهن) المناسب تقديمه عند قوله : (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) ليكون على منوال ما تقدم له في نظيره ، وقوله : (أو من غيرهن) أي نسيب ، فإن كان ابن زنا فلا يحجب الزوجة من الربع إلى الثمن ، لأنه لا يلحق بأبيه ولا يرث منه ، ومن لا يرث لا يحجب وارثا. قوله : (وولد الابن كالولد) أي وأما أولاد البنات فليسوا مثلهم ، لأنهم من ذوي الأرحام. قوله : (يُورَثُ) (صفة) أي ويصح أن يكون خبرا. وقوله : (كَلالَةً) حال من الضمير في يورث. قوله : (والخبر) (كَلالَةً) أي واسمها رجل ، وهذا على أنها ناقصة ، وأما على أنها تامة فرجل فاعل ، ويورث صفته ، وكلالة بحال. قوله : (أي لا والد له ولا ولد) هذا هو أرجح الأقوال في تفسير الكلالة. والحاصل أنه اختلف الناس في معنى الكلالة فقال جمهور اللغويين إنه الميت الذي لا ولد له ولا والد ، وقيل الذي لا ولد له فقط ، وقيل الذي لا ولد له فقط ، وقيل هو من لا يرثه أب ولا أم ، وعلى هذه الأقوال كلها ، فالكلالة واقعة على الميت ، وقيل الكلالة الورثة ما عدا الأبوين والولد ، سمرا بذلك لأن الميت بذهاب طرفية تكلله الورثة ، أي أحاطوا به من جميع نواحيه ، ويؤيد القوال الذي مشى عليه المفسر ، أن الآية نزلت في جابر رضي الله عنه ، ولم يكن له يوم أنزلت أب ولا ابن ، قوله : (وقرأ به ابن مسعود وغيره) أي قراءة شاذة ، وإنما استدل بهذه القراءة ، لأنها بمنزلة رواية الآحاد ، ورواية الآحاد يستدل بها لأنها منقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (أي من واحد) أي لأن أو في الآية لأحد الشيئين ، فإذا اجتمع ذكر وأنثى من ولد الأم كان لهما الثلث ، وكذا إن زادوا عن ذلك ، ويسقط الأخوة للأم بستة : الابن وابن الابن والبنت وبنت الابن والأب والجد. قوله : (من ضمير يوصى) أي هو عائد على الميت. قوله : (أي غير مدخل الضرر) أشار بذلك إلى أن مضار اسم فاعل. قوله : (بأن يوصى بأكثر من الثلث) هذا تصوير لإدخال الضرر ، ويبطل ما زاد على الثلث إن لم يجزه الورثة. قوله :

٢٧٨

أمر اليتامى وما بعده (حُدُودُ اللهِ) شرائعه التي حدها لعباده ليعملوا بها ولا يعتدوها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما حكم به (يُدْخِلْهُ) بالياء والنون التفاتا (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٣) (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ) بالوجهين (ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ) فيها (عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤) ذو إهانة روعي في الضمائر في الآيتين لفظ من وفي خالدين معناها (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) الزنا (مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي من رجالكم المسلمين (فَإِنْ شَهِدُوا) عليهن بها (فَأَمْسِكُوهُنَ) احبسوهن (فِي الْبُيُوتِ) وامنعوهن من مخالطة الناس (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي ملائكته (أَوْ) إلى أن (يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (١٥) طريقا إلى الخروج منها أمروا بذلك أول الاسلام ثم جعل لهن سبيلا بجلد البكر مائة وتغريبها ....

____________________________________

(من قتل) أي فلا يرث القاتل من تركة المقتول شيئا كما في الحديث. قوله : (أو اختلاف دين) أي بالإسلام والكفر ، فلا يرث المسلم الكافر ، ولا العكس. قوله : (أورق) أي فلا يرث الرقيق من تركة الحر شيئا ولا بالعكس. قوله : (وما بعده) أي من المواريث والوصايا. قوله : (التي حدها لعباده) أي بينها وفصلها. قوله : (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان. وقوله : (التفاتا) راجع للنون وهو التفات من الغيبة للتكلم. قوله : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت قصورها. قوله : (بالوجهين) أي الياء والنون. قوله : (خالِداً فِيها) المراد بالخلود طول المكث إن مات مسلما وعلى حقيقته إن مات كافرا ، وحكمة الإفراد في جانب العذاب أنه كما يعذب بالنار يعذب بالغربة وحكمة الجمع في جانب النعيم أنه كما ينعم بالجنة ينعم باجتماعه مع أحبابه فيها ويزورهم ويزورونه. قوله : (لفظ من) أي فأفرد في قوله : (يُدْخِلْهُ) في الموضعين ، وفي قوله : (وَلَهُ). قوله : (وفي خالدين معناها) أي فجمع. قوله : (وَاللَّاتِي) الخ ، جمع التي وهو اسم موصول مبتدأ. وقوله : (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) صلته. وقوله : (فَاسْتَشْهِدُوا) خبره وقرن بالفاء لأن المبتدأ أشبه الشرط في العموم ، لأن المبتدأ إذا وقع اسما موصولا ، ووصل بجملة فعلية أشبه الشرط فيقرن خبره بالفاء ، خصوصا إذا أخبر عنه بجملة طلبية. قوله : (مِنْ نِسائِكُمْ) بيان لللاتي. قوله : (أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي عدولا ، والعدل هو الذكر الحر المكلف الذي لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة خسة ، ولا ما يخل بالمروءة ، وهذه الشهادة على رؤية الزنا وأما الإقرار فيكفي اثنان عليه ، والخطاب في قوله : (فَاسْتَشْهِدُوا) لولاة الأمور كالقضاة والحكام. قوله : (أي من رجالكم المسلمين) أي الأحرار ، وأما النساء والأرقاء والصبيان فلا تقبل شهادتهم ، ويشترط في الشهادة أن تكون متحدة وقتا ورؤية ومكانا ، فلو اختلف شيء من ذلك حد الشهود. قوله : (وامنعوهن من مخالطة الناس) أي الرجال ، وهو عطف علة على معلول. قوله : (أي ملائكته) دفع بذلك ما يقال إن التوفي هو الموت ففيه إسناد الشيء نفسه.

قوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ) أو حرف عطف ، ويجعل معطوف على يتوفى ، فهو داخل في الغاية ، وأشار المفسر لذلك بقوله : (إلى أن) (يَجْعَلَ) ويصح أن تكون أو بمعنى إلا كما في قوله لألزمنك أو تقضيني حقي ، فهو مخرج من قوله : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) فالمعنى إلا أن يجعل الله لهن سبيلا ، فلا تمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت. قوله : (ثم جعل لهن سبيلا) أي بنزول آية النور ، واختلف في هذه الآية ،

٢٧٩

عاما ورجم المحصنة وفي الحديث لما بين الحد قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا رواه مسلم (وَالَّذانِ) بتخفيف النون وتشديدها (يَأْتِيانِها) أي الفاحشة الزنا أو اللواط (مِنْكُمْ) أي الرجال (فَآذُوهُما) بالسب والضرب بالنعال (فَإِنْ تابا) منها (وَأَصْلَحا) العمل (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) ولا تؤذوهما (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً) على من تاب (رَحِيماً) (١٦) به وهذا منسوخ بالحد إن أريد بها الزنا وكذا إن أريد بها اللواط عند الشافعي لكن المفعول به لا يرجم عنده وإن كان محصنا بل يجلد ويغرب وإرادة اللواط أظهر بدليل تثنية الضمير والأول أراد الزاني والزانية ويرده تبيينهما بمن المتصلة بضمير الرجال واشتراكهما في الأذى والتوبة والإعراض وهو مخصوص بالرجال لما تقدم في النساء من الحبس (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي التي كتب على نفسه قبولها بفضله (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) المعصية (بِجَهالَةٍ) حال أي جاهلين إذا عصوا ربهم (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ) زمن (قَرِيبٍ) قبل أن يغرغروا (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) يقبل توبتهم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً)

____________________________________

قيل منسوخة بآية النور أو مفصلة لها وهو الحق ، وقد مشى عليه المفسر. قوله : (بجلد البكر مائة وتغريبها عاما) هذا هو مذهب الإمام الشافعي ، وعند مالك التغريب خاص بالذكر ، وأما الأنثى فلا تغرب. قوله : (رواه مسلم) وتمامه الثيب ترجم ، والبكر تجلد. قوله : (بتخفيف النون وتشديدها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أو اللواط) أو لتنويع الخلاف في تفسير الفاحشة هنا ، وسيرجح الثاني بقوله : وإرادة اللواط أظهر الخ ، ويصح أن يراد بالفاحشة بالزنا واللواط معا الواقعان من الرجال ، وأما الزنا من النساء فقد تقدم حكمه.

قوله : (فَآذُوهُما) أي ما لم يتوبا. قوله : (وهذا منسوخ بالحد) أي فالبكر يجلد مائة ، ويغرب عاما ، والمحصن يرجم إلى أن يموت. قوله : (عند الشافعي) أي وعند مالك يرجم اللائط مطلقا ، فاعلا أو مفعولا أحصنا أو لم يحصنا ، حيث كانا بالغين مختارين ، وعند أبي حنيفة حده ، رميه من شاهق أو رمي حائط عليه. قوله : (لكن المفعول به الخ) أي وأما الفاعل عنده فكالزاني ، إن كان محصنا يرجم ، وإن كان غير محصن جلد مائة وغرب عاما. قوله : (بل يجلد ويغرب) أي إن كان بالغا مختارا. قوله : (بدليل تثنية الضمير) أي في قوله : (وَالَّذانِ) وقد يقال إن فيه تغليب الذكر على الأنثى. قوله : (وهو مخصوص) أي ما ذكر من (الأذى والتوبة والإعراض).

قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) هذا حسن ترتيب ، حيث ذكر الذنب ثم أردفه بذكر التوبة. وقوله : (عَلَى اللهِ) أي التزامها تفضلا منه وإحسانا ، لأن وعد الكريم لا يتخلف على حد كتب ربكم على نفسه الرحمة. قوله : (المعصية) أي ولو كانت كفرا. قوله : (أي جاهلين) إنما قرن العصيان بالجهل ، لأن العصيان لا يتأتى مع العلم ، بل حين وقوع المعصية يسلب العلم ، لأن أشدّ الناس خشية العلماء. قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ). قوله : (قبل أن يغرغروا) أي قبل أن تبلغ الروح الحلقوم ، وإنما كان الزمن الذي بين وقوع المعصية والغرغرة قريبا ، لأن كل ما هو آت قريب ، والعمر وإن طال قليل ، وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يجدد التوبة في كل لحظة ، لأن الموت متوقع في كل لحظة ، لأن المتوقع

٢٨٠