حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

عليهم استدراج (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) يطهرهم من الذنوب بما يصيبهم (وَيَمْحَقَ) يهلك (الْكافِرِينَ) (١٤١) (أَمْ) بل أ(حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا) لم (يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) علم ظهور (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) في الشدائد (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ) فيه حذف إحدى التاءين في الأصل (الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) حيث قلتم ليت لنا يوما كيوم بدر لننال ما نال شهداؤه (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أي سببه الحرب (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣) أي بصراء تتأملون الحال كيف هي فلم انهزمتم. ونزل في هزيمتهم لما أشيع أن النبي قتل وقال لهم المنافقون إن كان قتل

____________________________________

فأجاب بأنها نقم في صورة نعم.

قوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ) إلخ هذه حكمة ثالثة ، والمعنى إنما جعلنا الغلبة أولا ، للكفار ليتميز المؤمن من الكافر ويتخذ منهم شهداء ، ويخلص المؤمنين من الذنوب ؛ ويأخذ الكفار شيئا فشيئا قوله : (بما يصيبهم) أي بسبب ما يصيبهم من الجهد والمشقة. قوله : (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي يأخذهم ويهلكهم شيئا فشيئا ، لأن المحق الإهلاك شيئا فشيئا. قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ) أم منقطعة فلذا فسرها ببل التي للإضراب الإنتقالي ، والهمزة التي قدرها المفسر للإستفهام الإنكاري ، والمعنى لا تظنوا يا أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة مع السابقين بمجرد الإيمان من غير جهاد وصبر بل مع الجهاد والصبر وهو خطاب لأهل أحد حيث أمروا بالقتال مع كونهم جرحى وتشديد عليهم في ذلك ، والمقصود من ذلك تعليم من يأتي بعدهم ، وإلا فهم قد جاهدوا في الله حق جهاده ، وصبروا صبرا جميلا. قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) لما حرف نفي وجزم وقلب تفيد توقع الفعل ، فلذا عبر بها دون لم وقد خصل ذلك ويعلم مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون وحرك بالكسر تخلصا من التقاء الساكنين ، والله فاعل يعلم ، وذلك كناية عن عدم حصول الجهاد والصبر ، لأن ما لم يعلمه الله لم يكن حاصلا.

قوله : (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) هكذا بالنصب باتفاق القراء بأن مضمرة بعد واو المعية على حد لا تأكل السمك وتشرب اللبن. قوله : (في الشدائد) أي البلايا كالأمراض والفقر والمحن ، فيكون عن الله راضيا في السراء والضراء ، وقوله : (الَّذِينَ جاهَدُوا) يدخل فيه جهاد النفس بمخالفة شهواتها لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى). قوله : (فيه حذف إحدى التاءين) أي تخفيفا ، قال ابن مالك :

وما بتاءين ابتدى قد يقتصر

فيه على تاكتبين العبر

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) يحتمل أن الضمير عائد على الموت بمعنى سببه وهو الحرب ، أو على العدو نفسه وهو وإن كان غير متقدم الذكر لكنه معلوم من السياق. قوله : (ما نال شهداؤه) أي من الأجر العظيم ، ففي الحديث : «اطلع الله على أهل بدر فقال اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم». قوله : (أي سببه) ويحتمل أن الضمير عائد على العدو. قوله : (أي بصراء) أشار بذلك إلى أن نظر بصرية تنصب مفعولا واحدا قدره بقوله الحال ، ويحتمل أنها علمية ومفعولاها محذوفان تقديرهما تعلمون إخوانكم ما بين مقتول ومجروح. قوله : (ونزل في هزيمتهم) أي في أحد حين تفرقوا. قوله : (لما أشيع) أي أشاع المنافقون. قوله : (أن النبي قتل) أي وكذا أبو بكر وعمر.

٢٤١

فارجعوا إلى دينكم (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) كغيره (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) رجعتم إلى الكفر والجملة الأخيرة محل الاستفهام الانكاري أي ما كان معبودا فترجعوا (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) وإنما يضر نفسه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤) نعمه بالثبات (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بقضائه (كِتاباً) مصدر أي كتب الله ذلك (مُؤَجَّلاً) مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة (وَمَنْ يُرِدْ) بعمله (ثَوابَ الدُّنْيا) أي جزاءه منها (نُؤْتِهِ مِنْها) ما قسم له ولا حظ له في الآخرة (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي من ثوابها (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥)

____________________________________

قوله : (وما محمّد إلّا رسول الله) أي لا رب معبود فالقصر قصر قلب ، والمقصود من ذلك الرد على المنافقين ، حيث قالوا لضعفاء المسلمين إن كان محمد قتل فارجعوا إلى دينكم ودين آبائكم ، فأفاد أن محمدا عبد مرسل يجوز عليه الموت لا رب معبود حتى تترك عبادة الله من أجل موته ، لأن المقصود من وجوده تبليغ رسالة ربه ، ولذلك نزل قرب وفاته (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ولكن يجب علينا تعظيمه واحترامه حيا وميتا ، واعتقاد أن معجزاته باقية واتباعه وطاعته ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ولم يقل لأصحابك ، وقال عليه الصلاة والسّلام : «حياتي خير لكم ومماتي خير لكم فمن اعتقد أن النبي لا نفع به بعد الموت بل هو كآحاد الناس فهو الضال المضل.

قوله : (أَوْ قُتِلَ) أي فرضا. قوله : (رجعتم إلى الكفر) أشار بذلك إلى أن قوله : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) كناية عن الرجوع للكفر لا حقيقة الإنقلاب على الأعقاب الذي هو السقوط إلى خلف ، وهذه الآية قالها أبو بكر الصديق يوم وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين طاشت عقول الصحابة وارتد من ارتد ، حتى قال عمر : كل من قال إن محمدا قد مات رميت عنقه بسيفي ، فبلغ أبا بكر الخبر فدخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكشف اللثام عن وجهه وقبله بين عينيه وقال طبت يا حبيبي حيا وميتا ، كنت أود لو أفديك بنفسي ومالي ، ولكن قال الله إنك ميت وإنهم ميتون ، وخرج وجمع الصحابة وصعد المنبر وخطب خطبة عظيمة قال فيها : أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، وقد قال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) الآية ، فثبت الناس حتى قال عمر : والله كأن هذه الآية لم أسمعها إلا من أبي بكر. قوله : (والجملة الأخيرة) أي التي هي قوله : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ). قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) هذا رد لمن يفر من القتال خوفا على نفسه من الموت. قوله : (لا يتقدم ولا يتأخر) أي لقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). قوله : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا) أي يصرف نيته للدينا وزخارفها تاركا الآخرة وما فيها. قوله : (وما قسم له) من الدنيا يأتيه على كل حال ، فلا فرق بين من يطلبها ومن لا يطلبها ، فلا تجعل الدنيا أكبر همك ولا مبلغ علمك ، بل اجعل مطمح نظرك عبادة ربك ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وما قدر لك فلا بد من وصوله إليك طلبته أو لا.

وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) هذا من جملة التسلية لأهل أحد على ما أصابهم ، وفيه توبيخ لمن

٢٤٢

(وَكَأَيِّنْ) كم (مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) وفي قراءة قاتل والفاعل ضميره (مَعَهُ) خبر مبتدؤه (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) جموع كثيرة (فَما وَهَنُوا) جبنوا (لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم (وَما ضَعُفُوا) عن الجهاد (وَمَا اسْتَكانُوا) خضعوا لعدوهم كما فعلتم حين قيل قتل النبي (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١٤٦) على البلاء أي يثيبهم (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا) تجاوزنا الحد (فِي أَمْرِنا) إيذانا بأن ما أصابهم لسوء فعلهم وهضما لأنفسهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) بالقوة على الجهاد (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (١٤٧) (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا) النصر والغنيمة (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) أي الجنة وحسنه التفضل فوق الاستحقاق (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٤٨) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا

____________________________________

انهزم منهم وتحريض على القتال ، وأصل كأين أي الاستفهامية دخلت عليها كاف التشبيه فأكسبتها معنى كم الخبرية فلذا فسرها بها ، كأين مبتدأ ومن نبي ميزها وجملة قتل خبرها ونائب فاعل قتل ضمير يعود على كأين المفسر بقوله من نبي ، وعلى القراءة الثانية يكون الضمير فاعل قاتل ، وقوله : (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) مبتدأ وخبر والجملة حالية. واستشكلت القراءة الأولى بأنه لم يرد أن نبيّا قتل في حال الجهاد ، بل متى أمر النبي بالجهاد عصم من القتل ، ومقتضى الآية وقوع ذلك. وأجيب بأن المعنى قتله قومه ظلما في غير حرب ، ولكن الأحسن أن نائب الفاعل قوله : ربيون ، ومعه ظرف متعلق بقتل ، فالقتل واقع للربيين لا للأنبياء ، وهو رد القول الكفار لو كان نبيا ما قتلت أصحابه وهو بينهم ، هذا الإعراب يجري في القراءة الثانية أيضا ، والضمير في أصابهم يعود على الأمم ، ويتفرع على هذين الإعرابين صحة الوقف على قتل أو قاتل على الإعراب الأول دون الثاني. قوله : (والفاعل) أي حقيقة على القراءة الثانية ، أو حكما على القراءة الأولى.

قوله : (رِبِّيُّونَ) هكذا بكسر الراء جمع ربي نسبة للرب على غير قياس ومعناه العالم الرباني ، أو منسوب للربة بالكسر بمعنى الجماعة وعليه مشى المفسر ، وقياس الأول فتح الراء وقد قرأ بها ابن عباس ، وقرىء بضم الراء بمعنى الجماعة الكثيرة أيضا ، والقراءتان شاذتان ، والمعنى لا تحزنوا على ما لكم فكم من نبي قتل والحال أن معه أصحابه فلم يضعفوا إلخ ورد أنه لما نزلت الآية أخذ النبي وأصحابه في التوجه خلف الأعداء فساروا ثمانية أميال صحيحهم وجريحهم وباتت الهزيمة على الكفار. قوله : (فَما وَهَنُوا) هكذا بفتح الهاء وقرىء بسكون الهاء وكسرها. قوله : (وَمَا اسْتَكانُوا) قيل أصله استكنوا زيد في الفتحة فصارت الفا ، وقيل أصله استكونوا نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها فتحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت الفا.

قوله : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) أي الربيين وهذا بيان محاسن أقوالهم بعد بيان محاسن أفعالهم. قوله : (عند قتل نبيهم) ظاهره حتى في جهاد الكفار وتقدم ما فيه. قوله : (فَآتاهُمُ اللهُ) أي بسبب دعائهم وحسن أفعالهم. قوله : (والغنيمة) إن قلت إنها لم تحل إلا لهذه الأمة المحمدية ، أجيب بأن المراد بالغنيمة ملك أموال الكفار ورقابهم ، ولا يلزم من الملك حل أكلها. قوله : (وحسنه التفضل فوق الإستحقاق) يعني أن ثواب الآخرة هو الجنة وهو حسن ، وأحسن منه الزيادة لهم فوق ما يستحقون. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت في أهل أحد حين تفرقوا ، وصار عبد الله بن سلول

٢٤٣

الَّذِينَ كَفَرُوا) فيما يأمرونكم به (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) إلى الكفر (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (١٤٩) (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) ناصركم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (١٥٠) فأطيعوه دونهم (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) بسكون العين وضمها الخوف وقد عزموا بعد ارتحالهم من أحد على العود واستئصال المسلمين فرعبوا ولم يرجعوا (بِما أَشْرَكُوا) بسبب إشراكهم (بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) حجة على عبادته وهو الأصنام (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى) مأوى (الظَّالِمِينَ) (١٥١) الكافرين هي (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) إياكم بالنصر (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) تقتلونهم (بِإِذْنِهِ) بإرادته (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) جبنتم عن القتال (وَتَنازَعْتُمْ) اختلفتم (فِي الْأَمْرِ) أي أمر النبي بالمقام في سفح الجبل للرمي فقال بعضكم نذهب فقد نصر أصحابنا وبعضكم لا نخالف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَصَيْتُمْ) أمره فتركتم المركز لطلب الغنيمة (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) الله (ما تُحِبُّونَ) من النصر

____________________________________

يقول لضعفائهم امضوا بنا إلى أبي سفيان لنأخذ لكم منه عهدا ألم أقل لكم إنه ليس بنبي. قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كعبد الله بن سلول وغيره من المنافقين.

قوله : (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي للدنيا بالأسر والخزي والآخرة بالعذاب الدائم. قوله : والله (خَيْرُ النَّاصِرِينَ) أفعل التفضيل ليس على بابه. قوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هذا وعد حسن من الله بنصر المسلمين وخذلان الكفار. قوله : (بسبب إشراكهم) أشار بذلك إلى أن الباء سببية وما مصدرية. قوله : (حجة) سماها سلطانا لقوتها ونفوذها. قوله : (وهو) أي ما لا ينزل به سلطانا. قوله : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) هذا بيان لحالهم في الآخرة بعد أن بين حالهم في الدنيا ، وكل ذلك مسبب عن الإشراك بالله ، فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون.

قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) سبب نزولها أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجعوا إلى المدينة تذاكروا ما وقع في تلك الغزوة حيث قالوا إن الله وعدنا بالنصر على لسان نبيه فلأي شيء غلبنا ، فنزلت الآية ردا عليهم. قوله : (وَعْدَهُ) مفعول ثان لصدق لأنه يتعدى لمفعولين الأول لنفسه والثاني إما كذلك كما هنا أو بحرف الجر وهو في قوله : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) ظرف لقوله : (صَدَقَكُمُ) وحسن يطلق بمعنى علم ووجد وطلب وقتل وهو المراد هنا.

قوله : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) حتى ابتدائية بمعنى أن ما بعدها مستأنف ، ويصح أن تكون غائبة بمعنى إلى ، والمعنى ولقد استمر معكم النصر إلى أن فشلتم وتنازعتم وعصيتم فتخلف وعده ومنعكم النصر وإذا على الأول ظرف لما يستقبل من الزمان وعصيتم معطوف على فشلتم وجواب إذا محذوف قدره المفسر بقوله : (منعكم نصره). وقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) معطوف على ذلك المحذوف ، وقوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) إلخ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. قوله : (جبنتم عن القتال) أي بسبب الإلتفات للغنيمة. قوله : (فتركتم المركز) أي الموضع الذي أقامكم فيه رسول الله ، فإنه تقدم أنه قسم الجيش خمسة أقسام ساقة ومقدم وجناحان وقلب ، وأمرهم بالثبات سواء حصل النصر أو الهزيمة ، فظهرت لهم أمارات النصر أولا ، فبعضهم ترك مركزه وذهب للغنيمة ، والبعض ثبت.

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) تنازعه كل من فشلتم وتنازعتم وعصيتم ، فأعمل الأخير وأضمر في

٢٤٤

وجواب إذا دل عليه ما قبله أي منعكم نصره (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) فترك المركز للغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فثبت به حتى قتل كعبد الله بن جبير وأصحابه (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) عطف على جواب إذا المقدر ردكم بالهزيمة (عَنْهُمْ) أي الكفار (لِيَبْتَلِيَكُمْ) ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) ما ارتكبوه (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١٥٢) بالعفو اذكروا (إِذْ تُصْعِدُونَ) تبعدون في الأرض هاربين (وَلا تَلْوُونَ) تعرجون (عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي من ورائكم يقول إليّ عباد الله إليّ عباد الله (فَأَثابَكُمْ) فجازاكم (غَمًّا) بالهزيمة (بِغَمٍ) بسبب غمكم للرسول بالمخالفة وقيل الباء بمعنى على أي مضاعفا على غم فوت الغنيمة (لِكَيْلا) متعلق بعفا أو بأثابكم فلا زائدة (تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الغنيمة (وَلا ما أَصابَكُمْ) من القتل والهزيمة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٥٣) (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً) أمنا (نُعاساً) بدل

____________________________________

الأولين وحذف. قوله : (ما تُحِبُّونَ) مفعول ثان لأرى ، والكاف مفعول أول. قوله : (من النصر) أي أولا فلما وقع الإختلاف تغير الحال. قوله : (دل عليه ما قبله) أي وهو قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ). قوله : (كعبد الله بن جبير) أي وقد كان أميرا على الرماة. قوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أي عن المؤمن منكم بعد توبته. قوله : (اذكروا) قدره إشارة إلى أن إذ ظرف لمحذوف ، ويصح أنه ظرف لقوله : عصيتم ، التقدير وقت بعدكم إلخ. قوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ) فلعله رباعي بمعنى تبعدن ، وقرىء تصعدون من الثلاثي بمعنى تذهبون متفرقين في البرية.

قوله : (وَلا تَلْوُونَ) الجمهور على أنها بواوين ، وقرىء شذوذا بإبدال الواو الأولى همزة وأصلها تلويون بواوين بينهما ياء هي لام الكلمة فاعل بحذفها ، وقرأ الحسن شاذا بواو واحدة. قوله : (تعرجون) أي لا تقيمون مع أحد بل كل واحد ذاهب على حدة. قوله : (يَدْعُوكُمْ) أي يناديكم ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا ، وقيل ثمانية عشر رجلا ، وقيل لم يبق معه إلا طلحة عن يساره وجبريل عن يمينه ، وجمع بين الأقوال بأن ذلك بحسب اختلاف الأوقات حين احتاطت به الكفار. قوله : (أي من ورائكم) أشار بذلك إلى أن الأخرى بمعنى آخر وفي بمعنى من ، ويصح أن يبقى الكلام على ما هو عليه ، ويكون المعنى والرسول يدعوكم في ساقتكم وجماعتكم الأخرى. قوله : (يقول إلي عباد الله) تمامه أنا رسول الله من يكر فله الجنة. قوله : (فجازاكم) أشار بذلك إلى أن المراد بالثواب مطلق المجازاة وإلا فالثواب هو ما يكون في نظير الأعمال الصالحة وإنما سماه ثوابا لأن عاقبته محمودة ، قوله : (أي مضاعفا) أي زائدا. قوله : (متعلق بعفا) أي وتكون لا أصلية والمعنى عفا عنكم ليذهب عنكم الحزن. قوله : (أو بأثابكم) أي فيكون المعنى أثابكم غما بغم لأجل حزنكم على فوات الغنيمة وعلى قتل أصحابكم فقوله : (فلا زائدة) أي على هذا الثاني فقط.

قوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي فيعلم المخلص من غيره فإن منهم من لزم رسول الله ولم ينتقل من موضعه أبدا وهو طلحة بن عبد الله ، ومنهم من ثبت لو لا غلبة الكفار كبقية الأثني عشر أو الثمانية عشر ، ومنهم من فر خوفا من القتل ، ومنهم من فر ابتداء لإظهار هزيمة المؤمنين وهؤلاء منافقون وقد ظهروا في تلك الغزوة وافتضحوا ، وأما المؤمنون فقد تم لهم النصر وعفا الله من مسيئهم ، قوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ) ثم للترتيب بدليل تصريحه بالبعدية بعد ذلك بقوله : (مِنْ بَعْدِ الْغَمِ) ، قوله : (أمنا)

٢٤٥

(يَغْشى) بالياء والتاء (طائِفَةً مِنْكُمْ) وهم المؤمنون فكانوا يميدون تحت الحجف وتسقط السيوف منهم (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي حملتهم على الهم فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي وأصحابه فلم يناموا وهم المنافقون (يَظُنُّونَ بِاللهِ) ظنا (غَيْرَ) الظن (الْحَقِّ ظَنَ) أي كظن (الْجاهِلِيَّةِ) حيث اعتقدوا أن النبي قتل أو لا ينصر (يَقُولُونَ هَلْ) ما (لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أي النصر الذي وعدناه (مِنْ) زائدة (شَيْءٍ قُلْ) لهم (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ) بالنصب توكيد أو بالرفع مبتدأ خبره (لِلَّهِ) أي القضاء له يفعل ما يشاء (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ) يظهرون (لَكَ يَقُولُونَ) بيان لما قبله (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي لو كان الاختيار إلينا لم نخرج

____________________________________

أشار بذلك إلى أن الأمنة والأمن بمعنى واحد وهو الطمأنينة ، زال سبب الخوف أولا ، وقيل إن الأمن هو الطمأنينة مع زوال سبب الخوف ، والأمنة الطمأنينة مع وجود اسبابه. قوله : (بدل) أي بدل كل من كل وهو ظاهر ، لأن الأمنة هي النعاس بعينها ، وقيل بدل اشتمال لأن الأمنة لها اشتمال بالنعاس وهو له اشتمال بها ، لأنه لا يحصل النعاس إلا لآمن ، قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان فعلى الياء الضمير عائد على النعاس ، وعلى التاء الضمير عائد على الأمنة ، قوله : (يميدون) أي يميلون ، وقوله : (تحت الجحف) بفتحتين وتقديم الحاء جمع حجفة كقصبة ، وقصب اسم للترس والدرقة كما في المصباح. قوله : (وتسقط السيوف منهم) أي المرة بعد المرة وكلما سقطت أخذوها.

قوله : (وَطائِفَةٌ) أي من غيركم وهم المنافقون ، قوله : (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أهم فعل ماض والتاء علامة التأنيث وأنفسهم فاعل ، والمعنى أنهم يحرصون على نجاة أنفسهم من الموت لا تشييدا للدين. قوله : (ظنا) (غَيْرَ) (الظن) (الْحَقِ) أشار بذلك إلى أن قوله : (غَيْرَ الْحَقِ) صفة لموصوف محذوف مفعول ليظنون ، وقوله : (الْحَقِ) صفة لمصدر محذوف مضاف لغير ، وقوله : (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) صفة ثانية وهو منصوب بنزع الخافض ، والمعنى أن هذه الطائفة حملتهم أنفسهم على الهزيمة لنجاتها ، ومن أوصافهم أنهم يظنون في ربهم ظنا باطلا مثل ظن الجاهلية بمعنى أهل الجهل والكفر حيث ظنوا أن النبي قتل وأن دينه قد بطل ، قال تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) وقال تعالى : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) فحسن الظن بالله من علامات الإيمان ، قال تعالى في الحديث القدسي : أنا عند ظن عبدي بي ما شاء وبالجملة فمن أراد أن يعلم عاقبة ربه فلينظر إلى ظنه بربه.

قوله : (يَقُولُونَ) أي اعتراضا على رسول الله وتكذيبا له. قوله : (هَلْ لَنا) استفهام انكاري بمعنى النفي أي ما ثبت لنا من النصر شيء ، قلنا خبر مقدم وشيء مبتدأ مؤخر ، ومن زائدة فيه ، ومن الأمر حال من شيء ، قوله : (بالنصب) توكيد أي للأمر ، وخبر إن قوله لله ، قوله : (أو بالرفع مبتدأ إلخ) أي والجملة خبر إن والقراءتان سبعيتان ، قوله : (أي القضاء له) تفسير والمعنى أن النصر بيد الله والله هو الفاعل المختار ، وليس النصر بكثرة العدد والعدد. قوله : (بيان لما قبله) أي استئناف بياني واقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما الذي يخفونه. قوله : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أي الإختيار والرأي.

٢٤٦

فلم نقتل لكن أخرجنا كرها (قُلْ) لهم (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) وفيكم من كتب الله عليه القتل (لَبَرَزَ) خرج (الَّذِينَ كُتِبَ) قضي (عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) منكم (إِلى مَضاجِعِهِمْ) مصارعهم فيقتلوا ولم ينجهم قعودهم لأن قضاءه تعالى كائن لا محالة (وَ) فعل ما فعل بأحد (لِيَبْتَلِيَ) يختبر (اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) قلوبكم من الاخلاص والنفاق (وَلِيُمَحِّصَ) يميز (ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤) بما في القلوب لا يخفى عليه شيء وإنما يبتلي ليظهر للناس (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) عن القتال (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع الكفار بأحد وهم المسلمون إلا اثنا عشر رجلا (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ) أزلهم (الشَّيْطانُ) بوسوسته (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من الذنوب وهو مخالفة أمر النبي (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للمؤمنين (حَلِيمٌ) (١٥٥) لا يعجل على العصاة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي المنافقين (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي في

____________________________________

قوله : (لكن أخرجنا كرها) أي فحصل القتل فينا. قوله : (قُلْ) (لهم) أي ردا لمقالتهم واعتقادهم دفع قضاء الله المبرم.

قوله : (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) أي لو لم تخرجوا إلى أحد ومكثتم في بيوتكم وقوله : (لَبَرَزَ) جواب قوله : (لَوْ) والمعنى لخرج من قضي عليه بالموت إلى المحل الذي مات به لسبب من الأسباب ونفذ حكم الله فيه ، مما اتفق أن سليمان بن داود عليهما‌السلام كان جالسا ، وإذا بملك الموت أقبل عليه ونظر إلى رجل في مجلسه ، فارتعدت فرائص الرجل ، فلما ذهب ملك الموت قال الرجل : يا نبي الله إني خفت من نظرة هذا الرجل ، فقال : هو ملك الموت ، قال الرجل : مر الرياح لتذهب بي إلى اقصى البلاد ففعل ، فبعد لحظة وإذا بملك الموت قد أقبل على سليمان فقال له : إن الله أمرني أن أقبض روح ذلك الرجل بتلك الأرض ، فلما وجدته في مجلسك تحيرت ، فكان منه ما كان ، فهو قد خرج هاربا وفي الواقع خرج لمصرعه. قوله : (وَ) (فعل ما فعل) أشار بذلك إلى أن قوله : (لِيَبْتَلِيَ) علة لمحذوف والواو عاطفة لذلك المحذوف على أنزل.

قوله : (وَلِيُمَحِّصَ) عطف على (لِيَبْتَلِيَ) من عطف المسبب على السبب. قوله : (ليظهر للناس) أي المؤمن الخالص من غيره. قوله : (إلا اثنا عشر) منهم أبو بكر وعلى وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ، وتقدم في رواية أن من بقي ثمانية عشر ، وقيل لم يبق إلا طلحة ، وتقدم الجمع بين هذه الروايات. قوله : (وهو مخالفة أمر النبي) أي حيث قسمهم خمسة أقسام وأقام كلا في مركز وقال لهم لا تبرحوا عن مكانكم غلبنا أو نصرنا ، فبعضهم تفرق للغنيمة ، والبعض فرقه الأعداء.

قوله : (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) أي عن الجماعة الذين تفرقوا للغنيمة وعصوا أمر النبي. قوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) هذه الجملة تأكيد وعلة لما قبلها ، أي إنما عفا عنهم لأنه كثير المغفرة للذنوب واسع الحلم ، فلا يعجل بالعقوبة على العاصي لأن الكل في قبضته ، ولا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوات. قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعني لا تشبهوهم في قولهم في شأن من مات أو قتل ، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فيه يعتقدون أن الفرار نافع مع قضاء الله. قوله : (لِإِخْوانِهِمْ) أي في النسب أو الكفر أو الضلال ، والمعنى لا تكونوا مثلهم في كفرهم ولا في قولهم لإخوانهم إلخ. قوله :

٢٤٧

شأنهم (إِذا ضَرَبُوا) سافروا (فِي الْأَرْضِ) فماتوا (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز فقتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) أي لا تقولوا كقولهم (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) القول في عاقبة أمرهم (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) فلا يمنع عن الموت قعود (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) بالتاء والياء (بَصِيرٌ) (١٥٦) فيجازيكم به (وَلَئِنْ) لام قسم (قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي الجهاد (أَوْ مُتُّمْ) بضم الميم وكسرها من مات يموت ويمات أي أتاكم الموت فيه (لَمَغْفِرَةٌ) كائنة (مِنَ اللهِ) لذنوبكم (وَرَحْمَةٌ) منه لكم على ذلك واللام مدخولها جواب القسم وهو في موضع الفعل مبتدأ خبره (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (١٥٧) من الدنيا بالتاء والياء (وَلَئِنْ) لام قسم (مُتُّمْ) بالوجهين (أَوْ قُتِلْتُمْ) في

____________________________________

(إِذا ضَرَبُوا) إذا هنا لمجرد الزمان وأتى بإذا إشارة إلى أن هذا الأمر محقق منهم. قول : (سافروا) أي مطلقا لغزو أو لا. قوله : (فماتوا) أخذه من قوله الآتي (ما ماتُوا) قوله : (غُزًّى) خبر كان منصوب بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو. قوله : (جمع غاز) أي على غير قياس ، وقياس المعتل غزاة كقضاة. قوله : (فقتلوا) أخذه من قوله : (وَما قُتِلُوا). قوله : (ما ماتُوا) راجع لقوله : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) وقوله : (وَما قُتِلُوا) راجع لقوله : (أَوْ كانُوا غُزًّى). قوله : (أي لا تقولوا كقولهم) أي فإنه شائبة من الكفر والضلال واعتقاده كفر.

قوله : (لِيَجْعَلَ) اللام للعاقبة والصيرورة كهي في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) والمعنى أن الكفار قصدوا بهذا الكلام اللوم على من خرج ومنع من يريد الخروج ، فكان عاقبة ذلك كونه يجعل حسرة في قلوبهم. قوله : (فلا يمنع عن الموت قعود) أي عن الغزو والسفر ، ولا يجلب الغزو والسفر موتا ، بل لكل أجل كتاب (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الياء يكون وعيدا للكفار ، وعلى التاء يكون تحذيرا للمؤمنين. قوله : (فيجازيكم به) أي إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، قوله : (لام قسم) أي موطئة تقديره والله لئن قتلتم. قوله : (بضم الميم وكسرها) قراءتان سبعيتان. وقوله : (من مات يموت) راجع للضم ووزنه قال يقول ، وأصله يموت بسكون الميم وضم الواو نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها. قوله : (ويمات) راجع لقوله : (وكسرها) فيكون من باب خاف يخاف ، وأصله يموت بسكون الميم وفتح الواو ، نقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها ثم تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا. قوله : (أي أتاكم الموت فيه) أي في السفر. قوله : (لَمَغْفِرَةٌ) أي تأتيه ، وقوله : (وَرَحْمَةٌ) أي إحسان فالموت خير من الحياة إن كان في سفر غير معصية أو جهاد فإنه شهادة على كل حال. قوله : (جواب القسم) أي جواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم ، لقول ابن مالك : واحذف لدى اجتماع شرط وقسم. جواب ما أخرت. قوله : (وهو في موضع الفعل) أي فتقديره لغفرت لكم ورحمتكم ، وظاهره أن جواب القسم لا بد أن يكون جملة فعلية وليس كذلك ، بل يكون جملة اسمية ، وقد القتل هنا على الموت لأنه أهم وأشرف ، وقدم الموت أولا لمراعاة الترتيب. وآخر لأنه أعم من القتل. قوله : (مِمَّا يَجْمَعُونَ) يحتمل أن ما مصدرية ، والمعنى خير من جمعكم الدنيا أو موصولة ، والعائد محذوف تقديره خير من الذي تجمعونه من الدنيا.

٢٤٨

الجهاد أو غيره (لَإِلَى اللهِ) لا إلى غيره (تُحْشَرُونَ) (١٥٨) في الآخرة فيجازيكم (فَبِما) ما زائدة (رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ) يا محمد (لَهُمْ) أي سهلت أخلاقك إذ خالفوك (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) سيء الخلق (غَلِيظَ الْقَلْبِ) جافيا فأغلظت لهم (لَانْفَضُّوا) تفرقوا (مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ) تجاوز (عَنْهُمْ) ما أتوه (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ذنوبهم حتى أغفر لهم (وَشاوِرْهُمْ) استخرج آراءهم (فِي الْأَمْرِ) أي شأنك من الحرب وغيره تطييبا لقلوبهم وليستن بك وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير المشاورة لهم (فَإِذا عَزَمْتَ) على إمضاء ما تريد بعد المشاورة (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ثق به لا بالمشاورة (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١٥٩) عليه (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) يعنكم على عدوكم كيوم بدر (فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ

____________________________________

قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بالوجهين) أي السابقين من ضم الميم وكسرها. قوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) قال بعضهم إن الآية تشير إلى مقامات العبودية الثلاثة : الأول من يعبد الله خوفا من ناره وإليه الإشارة بقوله لمغفرة. الثاني من يعبد الله شوقا إلى جنته وإليه الإشارة بقوله ورحمة. الثالث من يعبد الله لذاته لا طمعا ولا خوفا وإليه الإشارة بقوله لالى الله تحشرون ، وفي الحقيقة الثالثة قد حاز جميعها لكن من غير قصد منه ، لأن مشاهدة الله لا تكون إلا في الجنة ولا بد. ومن ذلك قول بعض العارفين :

ليس قصدي من الجنان نعيما

غير أني أريدها لأراك

قوله : (ما زائدة) أي للتوكيد ، والمعنى فبسبب رحمة من الله كنت لينا سهلا على الخلق قال أنس بن مالك : خدمت رسول الله عشر سنين فما لامني على شيء فعلته أو تركته. قوله : (رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) التنوين للتعظيم. قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي صعب القول والفعل ، ومن سهولته قبول توبة وحشي قاتل عمه حمزة. قوله : (سيء الخلق) المناسب أن يفسره بصعوبة القول والفعل. قوله : (غَلِيظَ الْقَلْبِ) أي قاسيه. قوله : (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي ذهبوا إلى الكفار ولم يبق منهم أحد ، وأما من قبله من الأنبياء فقد عاملوا قومهم بالجلال ، كنوح حين قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، وكهود وصالح ، فنبينا رحمة للعالمين ولو لا رحمته بنا ما بقي منا أحد ، فكان شفيعا عند ربه لنا في كل بلاء عام طلبته الأنبياء لأممهم. قوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ) شروع في ذكر ترقيه لهم ، فذكر أولا العفو عنهم ، ثم الاستغفار لهم ليطهرهم ربهم من الذنوب ، فإذا طهروا وصاروا أصفياء خلقاء شاورهم في الأمر. قوله : (تطييبا لقلوبهم) أي تونيسا وجبرا لئلا ينفر ضعفاء المؤمنين لو لم تحصل المشاورة منه. قوله : (وليستن ربك) أي ليصير سنة لمن يأتي بعدك ، وليظهر صاحب الرأي السديد من غيره ، ولذا قدموا بعد النبي أبا بكر لأنه كان يشاوره كثيرا ، ثم عمر لأن القرآن كان ينزل على طبق ما يقول ، واختلف هل كانت المشاورة في أمر الدين والدنيا أو الدنيا فقط ، فقيل بالأول ولكن لا يتبع إلا الوحي ، وإنما المشاورة تطييبا لخاطرهم ، وقيل بالثاني وهو الظاهر. قوله : (ثق به) أي فلا يردك عنه أحد. قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) أي يثيب المفوضين الأمور اليه.

قوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) هذا خطاب تشريف للمؤمنين المجاهدين. قوله : (يعنكم) أشار بذلك إلى أن النصر بمعنى الإعانة ، ويطلق بمعنى الجمع ، قال تعالى : (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) وبمعنى الإنتقام ، قال تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ). قوله : (فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي ولو اجتمعت عليكم

٢٤٩

يَخْذُلْكُمْ) يترك نصركم كيوم أحد (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد خذلانه أي فلا ناصر لكم (وَعَلَى اللهِ) لا غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ) ليثق (الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠) ونزل لما فقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال بعض الناس لعل النبي أخذها (وَما كانَ) ما ينبغي (لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) يخون في الغنيمة فلا تظنوا به ذلك وفي قراءة بالبناء للمفعول أي ينسب إلى الغلول (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) حاملا له على عنقه (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) الغال وغيره جزاء (ما كَسَبَتْ) عملت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦١) شيئا (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) فأطاع ولم يغل (كَمَنْ باءَ) رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) لمعصيته وغلوله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦٢) المرجع هي ، لا

____________________________________

أهل الأرض جميعا. قوله : (أي بعد خذلانه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف والضمير عائد على الله. قوله : (فلا ناصر لكم) أشار بذلك إلى أن الإستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولم يقل فلا ناصر لكم إشارة لعدم تقنيطهم من النصر تلطفا بهم ، أي فارجعوا إليه ينصركم ، قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

قوله : (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي المصدقون بأن النصر والخذلان من عند الله ، والمعنى فإذا علمتم أيها المؤمنون أن من نصره الله فلا يغلبه أحد ، ومن خذله لا ناصر له سواه ، فثقوا به واعتمدوا عليه. قوله : (لما فقدت قطيفة) أي من الغنيمة. قوله : (فقال بعض الناس) أي من المنافقين. قوله : (ينبغي) أي يمكن والمعنى لا يتأتى ذلك لأن الأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها ، وأما قوله تعالى : (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) حكاية عن سيدنا يوسف ، فقال بعض المفسرين : إن يوسف وهو صغير وجد صنما عند جده ، فأخذه خفية وكسره ووضعه في محل القذر. قوله : (فلا تظنوا به ذلك) أي لأنها خيانة وهي محرمة والنبي معصوم من ذلك ، فمن جوز المعصية على النبي فقد كفر لما فاته للعصمة الواجبة.

قوله : (وَمَنْ يَغْلُلْ) كلام مستأنف قصد به التحذير لغير المعصومين. قوله : (حاملا له على عنقه) أي والناس ناظرون له فضيحة له ، روى الشيخان عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال : لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، فيقول يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق ، فيقول يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك من الله شيئا ، والرغاء صوت البعير ، والثغاء صوت الشاة ، والرقاع الثياب والصامت الذهب والفضة ، والحمحمة صوت الفرس وقوله لا ألقى نفى معناه النبي أي لا يغل أحدكم حتى القاه هكذا.

قوله : (أَفَمَنِ) الهمزة مقدمة من تأخير لأن الإستفهام له الصدارة. قوله : (ولم يغل أي لم يسرق ولم يخن). قوله : (بِسَخَطٍ) مصدر قياسي لسخط بكسر الخاء ، وله مصدر سماعي وهو سخط بضم السين وسكون الخاء. قوله : (هي) هذا هو المخصوص بالذم ، وقوله : (لا) جواب الاستفهام. قوله :

٢٥٠

(هُمْ دَرَجاتٌ) أي أصحاب درجات (عِنْدَ اللهِ) أي مختلفو المنازل ، فلمن اتبع رضوانه الثواب ، ولمن باء بسخطه العقاب (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣) فيجازيهم به (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي عربيا مثلهم ليفهموا عنه ويشرفوا به ملكا ولا عجميا (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) القرآن (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الذنوب (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) السنة (وَإِنْ) مخففة أي إنهم (كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي قبل بعثه (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١٦٤) بين (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) بأحد بقتل سبعين منكم (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) ببدر بقتل سبعين وأسر سبعين منهم (قُلْتُمْ) متعجبين (أَنَّى) من أين لنا (هذا) الخذلان ونحن مسلمون ورسول الله فينا والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري (قُلْ) لهم (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) لأنكم تركتم المركز فخذلتم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٦٥) ومنه النصر ومنعه وقد

____________________________________

(هُمْ دَرَجاتٌ) أي رتب فمنهم المقبول فله الدرجات العلا ، ومنهم المردود فله الدركات السفلى ، وفيه تغليب على الدركات لشرفها.

قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) هذا ترق في تعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزهه أولا عن الغلول ، ثم بين أن وجوده بينهم نعمة عظيمة أنعم بها عليهم ، وفي الحقيقة هو نعمة حتى على الكفار ، وإنما خص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها وتدوم عليهم ، وأما الكفار وإن آمنوا به من الخسف والمسخ وكل بلاء عام ورزقوا به ، إلا أن عاقبتهم الخلود في دار البوار ويتبرأ منهم ولا يشفع لهم في النجاة من العذاب.

بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا

من العناية ركنا غير منهدم

قوله : (لا ملكا) أي لعدم إطاقة البشر له ، قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ). قوله : (ولا عجميا) أي لعدم فهمهم عنه ما أرسل به ، ومن نعم الله أيضا كون القرآن عربيا ، قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) الآية. قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي بنفسه أو بواسطة كالعلماء. قوله : (السنة) العلم النافع. قوله : (مخففة) أي من الثقيلة لا عمل لها لقول ابن مالك :

وخففت إن فقل العمل

وتلزم اللام إذا ما تهمل

قوله : (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي كفر واضح ظاهر ، قال العارف البرعي :

أتى والجاهلية في ضلال

وكفر تعبد الحجر الأصنا

وتأكل ميتة ودما وتسطو

على مؤودة الأطفال دفنا

فجاء بملة الإسلام يتلو

مثاني في صلاة الخمس مثنى

قوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ) الهمزة داخلة على قوله : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) التقدير أقلتم أني هذا حين أصابتكم إلخ. قوله : (وأسر سبعين) لأن الفخر بالمأسور أعظم من المقتول لدلالته على عظم الشجاعة ، فلذا قال قد أصبتم مثيلها ، والمقصود من ذلك التسلية للمؤمنين. قوله : (والجملة الأخيرة) أي وهي قوله قلتم. قوله : (محل الإستفهام الإنكاري) أي فهو بمعنى النفي والمعنى لا تقولوا ذلك حين أصابتكم

٢٥١

جازاكم بخلافكم (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) بأحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) بإرادته (وَلِيَعْلَمَ) الله علم ظهور (الْمُؤْمِنِينَ) (١٦٦) حقا (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ) الذين (قِيلَ لَهُمْ) لما انصرفوا عن القتال وهم عبد الله بن أبي وأصحابه (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أعداءه (أَوِ ادْفَعُوا) عنا القوم بتكثير سوادكم إن لم تقاتلوا (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ) نحسن (قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) قال تعالى تكذيبا لهم (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) بما أظهروا من خذلانهم للمؤمنين وكانوا قبل أقرب إلى الإيمان من حيث الظاهر (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ولو علموا قتالا لم يتبعوكم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧) من النفاق (الَّذِينَ) بدل من الذين قبله أو نعت (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في الدين (وَ) قد (قَعَدُوا) عن الجهاد (لَوْ أَطاعُونا) أي شهداء أحد أو إخواننا في القعود (ما قُتِلُوا قُلْ) لهم (فَادْرَؤُا) ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨) في أن القعود ينجي منه. ونزل في الشهداء (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) بالتخفيف والتشديد (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل دينه (أَمْواتاً بَلْ) هم (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أرواحهم في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة

____________________________________

مصيبة ، لأنه من عند أنفسكم فسببه ظاهر فلا يتعجب منه. قوله : (بحلافكم) أي مخالفتكم والمعنى جازاكم عليها. قوله : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) شروع في بيان الحكم التي ترتبت على هزيمة المؤمنين بأحد. قوله : (علم ظهور) أي بالنسبة للخلق. قوله : (أصحابه) أي وكانوا ثلاثمائة. قوله : (تَعالَوْا قاتِلُوا) أي إما في المقدم بالسيف ، أو في المؤخر بالسهام. قوله : (بتكثير سوادكم) أي عددكم وأشخاصكم. قوله : (بما أظهروا) أي بسببه أي فاظهارهم الخذلان للمؤمنين سبب في كونهم أقرب للكف من الإيمان. قوله : (بدل من الذين قبلهم) أي وهو قوله الذين نافقوا. قوله : (وَقَعَدُوا) الجملة حالية فلذا قدر المفسر قد.

قوله : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) ورد أنه نزل بهم الموت وهم في دورهم ، فمات منهم سبعون من غير قتال في يوم أحد. قوله : (ونزل في الشهداء) قيل شهداء بدر وقيل أحد وقيل شهداء بئر معونة ، وهم سبعون أرسلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل نجد يعلمونهم القرآن فقتلوهم عن آخرهم ، ولم ينج منهم إلا واحد فر هاربا ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهذا الوعد الحسن لكل من قتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ، وسبب ذلك أن الشهداء الذين قتلوا لما رأوا ما رأوا من الحياة والرزق والنعيم الدائم ، قالوا ربنا ومن يوصل خبرنا لإخواننا الأحياء ، فقال لهم الله أنا أبلغ خبركم لإخوانكم ، فقال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ).

قوله : (وَلا تَحْسَبَنَ) الخطاب قيل للنبي ، وقيل لكل من يصلح للخطاب ، و (الَّذِينَ) مفعول أول و (أَمْواتاً) مفعول ثان و (بَلْ) للإضراب الإنتقالي و (أَحْياءٌ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله : (وهم) قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (في سبيل الله) أي طاعته ، والمعنى لم يكن لهم قصد إلا إعلاء دينه. قوله : (بَلْ أَحْياءٌ) بل للعطف ، وما بعدها خبر لمحذوف ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وهذه الحياة ليست كحياة الدنيا بل هي أعلى وأجل منها ، لأنهم يسرحون حيث شاءت أرواحهم. قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر ثان ، والمعنى أنهم في كرامة ربهم وضيافته ، وقوله :

٢٥٢

حيث شاءت كما ورد في الحديث (يُرْزَقُونَ) (١٦٩) يأكلون من ثمار الجنة (فَرِحِينَ) حال من ضمير يرزقون (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ) هم (يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) من إخوانهم المؤمنين ويبدل من الذين (أَلَّا) أي بأن (خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي الذين لم يلحقوا بهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٧٠) في الآخرة المعنى يفرحون بأمنهم وفرحهم (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ) ثواب (مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) زيادة عليه (وَأَنَ) بالفتح عطفا على نعمة والكسر استئنافا (اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١) بل يأجرهم (الَّذِينَ) مبتدأ (اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) دعاءه بالخروج للقتال لما أراد أبو سفيان وأصحابه العود وتواعدوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوق بدر العام المقبل

____________________________________

(يُرْزَقُونَ) خبر ثالث. قوله : (كما ورد في الحديث) أي وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله جعل أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش». وأما أجسادهم فمحلها القبور ، غير أن الأرواح لها تعلق بها ، فلذلك لا يحصل لأجسادهم بلاء ، فأرواحهم لها جولان عظيم من البرزخ إلى أعلى السموات إلى داخل الجنان ، والطيور الخضر لها كالهوادج مع كونها متصلة بجسم صاحبها ، وما وصل للروح من النعيم يحصل للجسم أيضا ، وذلك نظير النائم ، فإن النائم يرى أن روحه في المشرق أو في المغرب مع كونها متصلة بجسمه ، وكالأولياء الذين أعطاهم الله التصريف ، فإن الواحد منهم يكون جالسا في مكان ، وروحه تسرح في أمكنة متعددة ، وربك على كل شيء قدير ، ولذلك قال الله تعالى في آية البقرة : (ولكن لا تشعرون) ومثل الشهداء الأنبياء بل حياة الأنبياء أجل وأعلى ، وأما المؤمنون غير الشهداء والأنبياء فأرواحهم تسرح من القبر إلى باب الجنة ، وتنظر ما أعد لها من النعيم المقيم ، لكن لا تدخلها إلى يوم القيامة ، وذلك يسمى عالم البرزخ ، واتساعه بالنسبة للدينا كاتساع الدنيا بالنسبة لبطن الأم.

قوله : (بِما آتاهُمُ) متعلق بقوله : (فَرِحِينَ) والذي آتاهم الله من فضله هو حياتهم ورزقهم. قوله : (وَ) (هم) (يَسْتَبْشِرُونَ) أشار بذلك إلى أن يستبشرون خبر لمحذوف ، والجملة إما حالية من الضمير في فرحين أو مستأنفة. قوله : (بالذين لم يلحقوا بهم) أي في الموت ، والمعنى أنهم يفرحون بما أعطاهم الله ، ويفرحون بما أعد لإخوانهم الذين لم يموتوا الآن ، سواء كانوا موجودين أو سيوجدون إلى يوم القيامة ، لدخولهم الجنة وإطلاعهم على منازل المؤمنين فيها. قوله : (مِنْ خَلْفِهِمْ) حال من الواو في يلحقوا ، أي حال كون الذين لم يلحقوا بهم متخلفين عنهم. قوله : (المعنى يفرحون) أي المتقدمون ، وقوله : (بأمنهم) أي المتأخرين. قوله : (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي لهم ولإخوانهم. قوله : (بالفتح عطفا على نعمة) أي ويكون المعنى يستبشرون بنعمة من الله وفضل وبأن الله لا يضيع إلخ ، وقوله : (والكسر) استئنافا أي في معنى العلة لما قبله ، والقراءتان سبعيتان.

قوله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) نزلت في أهل أحد حين دعاهم للقتال ثانيا بعد حصول التفرقة لهم ، فخرجوا وساروا خلف العدو ثمانية أميال ، فوقع بينهم ما وقع في مكان يقال له حمراء الأسد ، فحصل التوافق بين أبي سفيان والنبي أن يرفعوا القتال إلى العام القابل ، والموعد بدر الصغرى ، فسار أبو سفيان وأصحابه ، ومكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمراء الأسد من يوم الأحد إلى يوم الجمعة إذا علمت ذلك ، فقول المفسر (بالخروج للقتال لما أراد أبو سفيان إلخ) ليس بسديد فإن الآية نزلت مدحا لمن أجاب الرسول للقتال ثانيا

٢٥٣

من يوم أحد (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) بأحد وخبر المبتدأ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بطاعته (وَاتَّقَوْا) مخالفته (أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٢) هو الجنة (الَّذِينَ) بدل من الذين قبله أو نعت (قالَ لَهُمُ النَّاسُ) أي نعيم بن مسعود الأشجعي (إِنَّ النَّاسَ) أبا سفيان وأصحابه (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) الجموع ليستأصلوكم (فَاخْشَوْهُمْ) ولا تأتوهم (فَزادَهُمْ) ذلك القول (إِيماناً) تصديقا بالله ويقينا (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) كافينا أمرهم (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣) المفوض إليه الأمر هو وخرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوافوا سوق بدر وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه فلم يأتوا وكان معهم تجارات فباعوا وربحوا قال تعالى (فَانْقَلَبُوا) رجعوا من بدر (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) بسلامة وربح (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) من قتل أو جرح (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بطاعته ورسوله في الخروج (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (١٧٤) على أهل طاعته (إِنَّما ذلِكُمُ) أي القائل لكم إن الناس الخ (الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ) كم (أَوْلِياءَهُ) الكفار (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ) في ترك أمري (إِنْ كُنْتُمْ

____________________________________

في غزوة أحد يوم الأحد بعد الواقعة التي كانت يوم السبت ، وتسمى غزوة يوم الأحد غزوة حمراء الأسد ، وهي التي مدحهم الله بها وانجبر خللهم بها. قوله : (بأحد) المناسب أن يقول بعد ذلك يوم السبت ، واستجابوا له يوم الأحد ، قوله : (مِنْهُمْ) من بيانية على حد فاجتنبوا الرجس من الأوثان.

قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) شروع في ذكر غزوة بدر الثالثة وتسمى بدر الصغرى ، وكانت في السنة الرابعة من شعبان وهو يوم موسم عظيم لقبائل العرب كل عام ، فخرج أبو سفيان حتى نزل مر الظهران ، فألقى الله الرعب في قلبه فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي ، فقال أبو سفيان يا نعيم إني قد واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وهذا عام جدب ، فأحب أن يكون الخلف منه لا مني ، فاذهب إلى المدينة فثبطهم عن الخروج ، ولك عندي عشرة من الإبل ، فانطلق نعيم إلى المدينة فوجد النبي وأصحابه يتجهزون ، فقال لهم ما تريدون فقالوا لميعاد أبي سفيان ، فقال لهم لا تقدرون عليهم فإنهم قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فقال النبي لأخرجن اليهم ولو وحدي ، فخرج النبي في ألف وخمسمائة مقاتل حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق للعرب يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام ، فصادفوا الموسم وباعوا ما كان معهم من التجارات ، فربحوا في الدرهم درهمين ولم يأتهم أحد من المشركين ، فرجعوا بربح وأجر عظيمين ، وأسلم كثير من أهل القبائل حينئذ. قوله : (أي نعيم بن مسعود) أي فأطلق الكل وأراد البعض ، وقد أسلم بعد ذلك عام الخندق. قوله : (ذلك القول) أشار بذلك إلى فاعل زاد على حد (اعدلوا هو أقرب للتقوى). قوله : (هو) أي الله وهو إشارة للمخصوص بالمدح ، وهذه الدعوة من أفضل الدعوات ، وقد استعملها العارفون للمهمات وجعلوا عدتها أربعمائة وخمسين ، فمن فعلها كفاه الله ما أهمه. قوله : (فلم يأتوا) أي أبو سفيان وأصحابه ، وقد أسلم هو يوم الفتح بعد أن أسر قوله : (وربحوا) أي في الدرهم درهمين. قوله : (بسلامة وربح) راجع للنعمة والفضل. قوله : (أي لقائل لكم) أي وهو نعيم بن مسعود الأشجعي. قوله : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أشار بذلك إلى أن يخوف ينصب مفعولين الكاف المقدرة مفعول أول وأولياء مفعول ثان ، والمعنى يخوفكم شر أوليائه وهم الكفار.

٢٥٤

مُؤْمِنِينَ) (١٧٥) حقا (وَلا يَحْزُنْكَ) بضم الياء وكسر الزاي وبفتحها وضم الزاي من حزنه لغة في أحزنه (الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يقعون فيه سريعا بنصرته وهم أهل مكة أو المنافقون أي لا تهتم لكفرهم (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بفعلهم وإنما يضرون أنفسهم (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) نصيبا (فِي الْآخِرَةِ) أي الجنة فلذلك خذلهم (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٧٦) في النار (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أي أخذوه بدله (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) بكفرهم (شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٧) مؤلم (وَلا يَحْسَبَنَ) بالياء والتاء (الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي) أي إملاءنا (لَهُمْ) بتطويل الأعمار وتأخيرهم (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) وأن ومعمولاها سدت مسد المفعولين في قراءة التحتانية ومسد الثاني في الأخرى (أَنَّما نُمْلِي) نمهل (لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) بكثرة المعاصي (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨) ذو إهانة في الآخرة (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) ليترك (الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ) أيها الناس (عَلَيْهِ) من

____________________________________

قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) نزلت تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. قوله : (بضم الياء إلخ) قراءتان سبعيتان ولغتان مشهورتان ، الأولى من أحزن ، والثانية من حزن. قوله : (يقعون فيه) أشار بذلك إلى أن يسارعون مضمن معنى يقعون فعداه بفي إشارة إلى أنهم تلبسوا بالكفر وليسوا بخارجين عنه. قوله : (بنصرته) أي الكفر بمقاتلة النبي وأصحابه. قوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) علة للنفي وهو على حذف مضاف تقديره لن يضروا أولياء الله شيئا ، وإنما أسند الضرر لنفسه تشريفا لهم ، كأن محاربة المسلمين محاربة له. إن قلت : إن قتلهم للمؤمنين مشاهد وهو ضرر فكيف ينفى؟ أجيب : بأنه ليس بضرر بل هو شهادة فالمؤمنون فائزون على كل حال قتلوا أو قتلوا ، والكافرون خاسرون على كل حال قتلوا أو قتلوا. قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي جزاء لمسارعتهم في الكفر ونصرتهم له.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) هذه الجملة مؤكدة لما قبلها. قوله : (أي أخذوه بدله) يعني تركوا الإيمان واختاروا الكفر. قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) إنما وصف العذاب هنا بكونه أليما ، لأن من اشترى سلعة وخسر فيها تألم منها ، ووصفه فيما تقدم بالعظيم ، لأن المسارعة للشيء تقتضي عظمه. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى التاء الخطاب للنبي ، وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) مفعول أول لتحسبن ، وقوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) في محل المفعول الثاني ، وهو تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى لا تظن أن إمهال الكافر بطول عمره وأكله من رزق الله ومقاتلته في أولياء الله خير له ، وإنما إمهاله ليزداد إثما وجرما ، قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الآية ، وعلى الياء فقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل تحسبن ، وقوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) سد مسد مفعوليها كما قال المفسر ، والمعنى لا يظن الكفار أن إملاءنا وإمهالنا لهم خير لهم بل هو شر لهم ، لأننا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما. قوله : (أي إملاءنا) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر اسم إن. قوله : (ومسد الثاني في الأخرى) أي ومفعولها الأول هم الذين كفروا. قوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) تعليل لما قبله. قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) وصفه بالإهانة ، لأن من شأن من طال عمره في الكفر أن تنفذ كلمته ويزداد عزا ، فعومل بضد ما لقي في الدنيا.

قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) هذا وعد من الله لنبيه بأنه سيميز له المؤمن من المنافق. قوله :

٢٥٥

اختلاط المخلص بغيره (حَتَّى يَمِيزَ) بالتخفيف والتشديد يفصل (الْخَبِيثَ) المنافق (مِنَ الطَّيِّبِ) المؤمن بالتكاليف الشاقة المبينة لذلك وفعل ذلك يوم أحد (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) فاعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) يختار (مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على غيبه كما أطلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حال المنافقين (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) النفاق (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩) (وَلا يَحْسَبَنَ) بالياء والتاء (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي بزكاته (هُوَ) أي بخلهم (خَيْراً لَهُمْ) مفعول ثان والضمير للفصل والأول بخلهم مقدرا قبل الموصول على الفوقانية وقبل الضمير على التحتانية (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) أي بزكاته من المال (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما ويد في الحديث (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يرثهما بعد فناء أهلهما (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) بالياء والتاء (خَبِيرٌ) (١٨٠) فيجازيكم به (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وهم اليهود قالوه لما

____________________________________

(أيها الناس) أي المؤمنون والكفار. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وفعل ذلك يوم أحد) أي حيث امتحنهم بالقدوم على العدو وبذل الأموال ، وكذلك في غزوة الأحزاب ، وكذلك في ميعاد أبي سفيان في العام المقبل من أحد ، ففضحهم الله وميزهم في مواضع عديدة. قوله : (عَلَى الْغَيْبِ) أي ما غاب عنهم.

قوله : (وَلكِنَّ اللهَ) استدراك على ما تقدم في قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) كأنه قال إلا الرسل فإنه يطلعهم على الغيب. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي بزكاته) أشار بذلك إلى الكلام على حذف مضاف ، أي بزكاة ما آتاهم الله من فضله. قوله : (مقدرا قبل الموصول) أي فتقديره ولا تحسبن بخل الذين يبخلون الخ خيرا لهم إذا علمت ذلك ، فقول المفسر بخلهم فيه تسمح ، لأن المقدر قبل الموصول يكون مضافا له لا للضمير ، وإنما المضاف للضمير وهو ما قدر قبل الضمير. قوله : (وقبل الضمير) أي فتقديره (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الخ ، بخلهم خيرا لهم. قوله : (كما ورد في الحديث) أي وهو قوله عليه الصلاة والسّلام «يمثل مانع الزكاة بشجاع أقرع له زبيبتان يأخذ بلهزمتيه ويقول أنا كنزك أنا مالك» ثم تلا (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الآية ، وقال تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ) الآية ، وهذا إذا كان المال من حلال فما بالك إذا كان من حرام وبخل به. قوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا كالدليل لما قبله ، كأنه قال لا معنى للبخل بالمال ، فإنه لله يعطيه لمن يشاء ليصرفه فيما أمر به مدة حياته ، فإذا مات رجع المال لصاحبه. قال الشاعر :

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بد يوما أن ترد الودائع

قوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد سمع إلخ. وسبب ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمرهم بالدخول في الإسلام ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، قال كبراء اليهود كحي بن أخطب وكعب بن الأشرف وفنحاص بن عاذوراء ، لأبي بكر الصديق حين أمرهم بما ذكر على لسان رسوله (إن الله فقير ونحن أغنياء) ولو كان غنيا ما استقرضنا ، ومعنى سمعه

٢٥٦

نزل (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) وقالوا لو كان غنيا ما استقرضنا (سَنَكْتُبُ) نأمر بكتب (ما قالُوا) في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه وفي قراءة بالياء مبنيا للمفعول (وَ) نكتب (قَتْلَهُمُ) بالنصب والرفع (الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ) بالنون والياء أي الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (١٨١) النار ويقال لهم إذا ألقوا فيها (ذلِكَ) العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) عبر بها عن الإنسان لأن أكثر الأفعال تزاول بها (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) أي بذي ظلم (لِلْعَبِيدِ) (١٨٢) فيعذبهم بغير ذنب (الَّذِينَ) نعت للذين قبله (قالُوا) لمحمد (إِنَّ اللهَ) قد (عَهِدَ إِلَيْنا) في التوراة (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) نصدقه (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) فلا نؤمن لك حتى تأتينا به وهو ما يتقرب به إلى الله من نعم وغيرها فإن قبل جاءت نار بيضاء من السماء فأحرقته وإلا بقى مكانه وعهد إلى بني إسرائيل ذلك إلا في المسيح ومحمد قال تعالى (قُلْ) لهم توبيخا (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) كزكريا ويحيى

____________________________________

له علمه وإحصاءه والمجازاة عليه. قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) هذا من تلطف الله بعباده وتنزله لهم ، وإلا فالملك لله وحده ، وإنما سماها قرضا لأن جزاءه عليه كمجازاة المقترض أو أعظم ، فمن إحسانه عليها خلق ونسب إلينا ، وليس معناه أقرضوا الله لينتفع به ، بل معناه أعطوا الفقراء لأجلي ومجازاتكم عليّ. قوله : (وفي قراءة بالياء) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى هذه القراءة يكون الموصول وصلته نائب الفاعل ، وعلى الأولى يكون مفعولا ، والفاعل ضمير يعود على الله. قوله : (بالنصب والرفع) لف ونشر مرتب وهو معطوف على محل الموصول ، وصلته محله إما نصب على قراءة النون ، أو رفع على قراءة الياء. قوله : (بِغَيْرِ حَقٍ) أي حتى في اعتقادهم. إن قلت : إن ذلك كان في أجدادهم فلم أوخذوا به؟ أجيب : بأن رضاهم به صيره كأنه واقع منهم ، لأن الرضا بالكفر كفر. قوله : (أي الله) هذا تفسير لقراءة الياء ، ويحتمل أنه راجع لقراءة النون ويكون حل معنى ، وإلا فمقتضى حلها أن يقول أي في نحن. قوله : (عبر بها عن الإنسان إلخ) أي فهو من باب تسمية الكل باسم جزئه ، وقوله : (لأن أكثر الأفعال تزاول بها) علة لارتكاب المجاز. قوله : (وَأَنَّ اللهَ) معطوف على الموصول عطف علة على معلول ، التقدير ذلك العذاب بما قدمت أيديكم ، لأن (اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). قوله : (أي بذي ظلم) دفع بذلك ما يقال إن المنفى كثرة الظلم ، فيفيد أن أصل الظلم ثابت ، فأجاب بأن هذه الصيغة للنسب لا للمبالغة كتمار. قال ابن مالك :

ومع فاعل وفعال فعل

في نسب أغنى من اليا قبل

قوله : (نعت للذين قبله) أي وهو (قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) فقد وصفهم بأوصاف زادتهم قبحا وشناعة. قوله : (في التوراة) أي على لسان موسى ، قيل إن تلك المقالة لم تقع أصلا فهي كذب محض ، وقيل إنها موجودة في التوراة إلا في حق المسيح ومحمد ، وأما هما فمعجزاتهما غير ذلك ، فهم قد كذبوا على التوراة على كل حال. قوله : (من نعم) أي إبل وبقر وغنم وغيرهما أي كخيل وبغال وحمير وأمتعة. قوله : (بيضاء) أي لا دخان لها ولها دوي. قوله : (إلا في المسيح ومحمد) هذه طريقة ، والطريقة الأخرى أن هذا العهد باطل وكذب من أصله. قوله : (كزكريا ويحيى) أي فجاؤوا بقربان

٢٥٧

فقتلتموهم والخطاب لمن في زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان الفعل لأجدادهم لرضاهم به (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٨٣) في أنكم تؤمنون عند الإتيان به (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات (وَالزُّبُرِ) كصحف إبراهيم (وَالْكِتابِ) وفي قراءة بإثبات الباء فيهما (الْمُنِيرِ) (١٨٤) الواضح كالتوراة والإنجيل فاصبر كما صبروا (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) جزاء أعمالكم (يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ) بعد (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) نال غاية مطلوبه (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي العيش فيها (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥) الباطل يتمتع به قليلا ثم يفنى (لَتُبْلَوُنَ) حذف منه الرفع لتوالي النونات والواو ضمير الجمع لإلتقاء الساكنين لتختبرن

____________________________________

وأكلته النار. قوله : (لرضاهم به) أي والرضا بالكفر كفر. قوله : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي فلأي شيء قتلتموهم.

قوله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) أي داموا على تكذيبك ، وجواب الشرط محذوف قدره المفسر بقوله فاصبر كما صبروا والمناسب ذكره بلصقه وأما فقد كذب رسل فدليل الجواب ، ولا يصح أن يكون جوابا لأنه ماض بالنسبة للشرط ، وهذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (المعجزات) أي الظاهرة الباهرة. قوله : (وَالزُّبُرِ) جمع زبور وهو كل كتاب اشتمل على المواعظ من الزبر ، وهو الموعظة والزجر. قوله : (وَالْكِتابِ) عطف خاص على العام ، وإنما خصهما لشرفهما. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا.

قوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) هذا أيضا من جملة التسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى كل روح ذائقة الموت لجسمها وإلا فالروح لا تموت ، وعموم الآية يشمل حتى الشهداء والأنبياء والملائكة. وأما قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ، بَلْ أَحْياءٌ) فمعناه ترد بعد خروجها لهم ، وكذلك الأنبياء والملائكة ، وأما ما عداهم فلا ترد ، لهم إلا عند النفخة الثانية. قوله : (جزاء أعمالكم أي خيرها أو شرها). قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وما ألحق به لما ورد «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». قوله : (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) أي مع السابقين أو بعد الخروج من النار. قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي القريبة وهي التي نحن ملتبسون بها. قوله : (الباطل) أي الزائل الذي لا يبقى ، ويصح أن يراد بالغرور مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي المخدوع بالشيء الحسن ظاهره القبيح باطنه بمعنى أنه لا يدري العواقب. قال الإمام الشافعي :

إن لله عبادا فطنا

طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا فيها فلما علموا

أنها ليست لحي وطنا

جعلوها لجة واتخذوا

صالح الأعمال فيها سفنا

قوله : (لَتُبْلَوُنَ) أخبار من الله للمؤمنين بأنه سيقع لهم بلايا من الله بلا واسطة ، ومن الكفار أذى كثير في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم ، وأمر منه لهم بالصبر حين وقوع ذلك ، لأن الجنة حفت بالمكاره ، واللام موطئه لقسم محذوف ، وتبلون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي النونات ، والواو نائب فاعل ، والنون للتوكيد ، وأصله تبلوون أكد فصار تبلونن ، ثم أتى باللام لتدل على القسم المحذوف تحركت الواو الأولى التي هي اللام الكلمة ، وانفتح ما قبلها قلبت الفا فالتقى ساكنان ، حذفت

٢٥٨

(فِي أَمْوالِكُمْ) بالفرائض فيها والجوائح (وَأَنْفُسِكُمْ) بالعبادات والبلاء (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) اليهود والنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) من العرب (أَذىً كَثِيراً) من السب والطعن والتشبيب بنسائكم (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك (وَتَتَّقُوا) الله (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦) أي من معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها (وَ) اذكر (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي العهد عليهم في التوراة (لَتُبَيِّنُنَّهُ) أي (لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي الكتاب بالياء والتاء في الفعلين (فَنَبَذُوهُ) طرحوا الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يعملوا به (وَاشْتَرَوْا بِهِ) أخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا من سفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف قوته عليهم (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧) شراؤهم هذا (لا تَحْسَبَنَ) بالتاء والياء (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) فعلوا من إضلال الناس (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من التمسك بالحق وهم على ضلال (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) بالوجهين تأكيد (بِمَفازَةٍ) بمكان ينجون فيه (مِنَ الْعَذابِ) في الآخرة بل هم في

____________________________________

الألف لالتقاء الساكنين ، ثم حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال ، ثم حركت الواو بحركة مجانسة لها. قوله : (لالتقاء الساكنين) علة لمحذوف تقديره وحذفت الألف المنقلبة عن الواو الأولى لإلتقاء الساكنين. قوله : (لتختبرن) حل لمعنى لتبلون ، والمعنى يعاملكم معاملة المختبر وإلا فهو أعلم بكم من أنفسكم. قوله : (بالفرائض فيها) أي كالزكاة والكفارات والنذور ، وقوله : (والجوائح) أي الأمور السماوية التي تهلك الزرع ، كالجراد والفأر والظلمة ، قوله : (بالعبادات) أي التكاليف بها ، وقوله : (والبلاء) أي الذى يصيب الإنسان في نفسه ، كالعمى والجراحات وغير ذلك.

قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) جار ومجرور حال من قوله : (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وأصل لتسمعن تسمعون أكد بالنون ولام القسم ، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال فالتي ساكنان ، حذفت الواو لالتقائهما ولوجود الضمة التي تدل عليها. قوله : (والتشبيب بنسائكم) أي بذكر محاسنهن وأوصافهن بالقصائد وتناشدها بينهم ، وكان يفعل ذلك كعب بن الأشرف لعنه الله. قوله : (على ذلك) أي المذكور من الإبتلاء في الأموال والأنفس ، وسماع الأذى من أهل الكتاب. قوله : (لوجوبها) أي فالصبر على ما ذكر والتقوى لله من الأمور الواجبة ، فإن من علامة الإيمان الصبر والتقوى ، وقبيح على الإنسان يدعي محبة الله ثم لم يصبر على أحكامه. قال العارف :

تدعى مذهب الهوى ثم تشكو

أين دعواك في الهوى يا معنى

لو وجدناك صابرا لبلانا

لعطيناك كل ما تتمنى

قوله : (بالياء والتاء في الفعلين) أي وهما ليبيننه ولا يكتمونه وهما قراءتان سبعيتان فعلى الياء إخبار عنهم وعلى التاء حكاية للحال الماضية. قوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) كناية عن عدم التمسك به ، لأن من لم يتمسك بشيء ولم يعتنه طرحه خلف ظهره. قوله : (شراؤهم) أشار به إلى أن ما مؤولة بمصدر فاعل بئس ، وقوله : (هذا) هو المخصوص بالذم ، وهذه الآية وإن وردت في الكفار تجر بذيلها على عصاة المؤمنين الذين يكتمون الحق وينصرون الباطل. قوله : (بالياء والتاء) فعلى التاء الخطاب للنبي أو لمن يصلح له الخطاب (الَّذِينَ) مفعول أول ، والمفعول الثاني محذوف دل عليه. قوله : (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) تقديره ناجين من عذاب الله ، وعلى الياء فقوله : (الَّذِينَ) فاعل ومفعولاها محذوفان تقديرهما

٢٥٩

مكان يعذبون فيه وهو جهنم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨٨) مؤلم فيها ومفعولا يحسب الأولى دل عليهما مفعولا الثانية على قراءة التحتانية وعلى الفوقانية حذف الثاني فقط (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩) ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما من العجائب (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالمجيء والذهاب والزيادة والنقصان (لَآياتٍ) دلالات على قدرته تعالى (لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠) لذوي العقول (الَّذِينَ) نعت لما قبله أو بدل (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) مضطجعين أي في كل حال وعن ابن عباس يصلون كذلك حسب الطاقة (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليستدلوا به على قدرة صانعهما يقولون (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الخلق

____________________________________

أنفسهم ناجين من عذاب الله ، وسيأتي يشير لذلك المفسر. قوله : (بالوجهين) أي الياء والتاء ، لكن على قراءة الياء والتاء مفتوحة ، وهذه الآية تجر بذيلها على من يكون خبيث الباطن ويجب زينة الظاهر ، كأن يظهر العلم والصلاح والتقوى مع كونه في الباطن ضالا مضلا.

قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي التصرف فيما في السماوات وما في الأرض ، لأن ذات السماوات والأرض لا نزاع في أنهما مملوكان لله. قوله : (ومنه) أي من الشيء المقدور عليه.

قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سبب نزولها أن كفار مكة قالوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ائتنا بآية تدل على أن الله واحد ، فقال تعالى ردا عليهم : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآيات ، وإن حرف توكيد ونصب ، وفي خلق جار ومجرور خبرها مقدم ، وخلق مضاف ، والسماوات مضاف إليه ، وقوله : (لَآياتٍ) اسمها مؤخر. قوله : (وما فيهما من العجائب) أشار بذلك إلى أن خلق باق على مصدريته بمعنى الإيجاد ، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول ، أي مخلوقات السموات والأرض وقوله : (من العجائب) أي كالنجوم والشمس والقمر والسحاب بالنسبة للسماوات ، والبحار والجبال والنباتات والحيوانات بالنسبة للأرض. قال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وبالجملة ففي كل شيء له آية ، تدل على أنه الواحد. قوله : (بالمجيء والذهاب) أي بمجيء الليل عقب النهار ، والنهار عقب الليل ، فليس أحد يقدر على إتيان الليل في النهار ولا العكس. قوله : (والزيادة والنقصان) أي زيادة أحدهما بقدر ما نقص من الآخر. قوله : (دلالات) أي براهين قطعية دالة على كونه متصفا بالكمالات ، منزها عن النقائض. قوله : (ذوي العقول) أي أصحاب العقول الكاملة. قوله : (نعت لما قبله) أي وهو أولى فهو في محل جر. قوله : (مضطجعين) أشار بذلك إلى أن قوله : (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) متعلق بمحذوف حال ، فهو حال مؤولة بعد حال صريحة. قوله : (أي في كل حال) تفسير لقوله : (قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ). قوله : (يصلون كذلك) أي قياما إن قدروا ، فإن لم يقدروا فقعودا ، فإن لم يقدروا فعلى جنوبهم. قوله : (ليستدلوا به على قدرة صانعهما) أي واتصافه بالكمالات ، فالتفكر مورث للعلم والمعرفة ، قال العارف أبو الحسن الشاذلي : ذرة من عمل القلوب خير من مثاقيل الجبال من عمل الأبدان. قوله : (يقولون) قدره إشارة إلى أنه حال من الواو في (يَتَفَكَّرُونَ) ، والمعنى (يَتَفَكَّرُونَ) قائلين (رَبَّنا) إلخ وهو إشارة لثمرة الفكر ،

٢٦٠