حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

إذهاب ما ذكر (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (اعْبُدُوا) وحدوا (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أنشأكم ولم تكونوا شيئا (وَ) خلق (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) بعبادته عقابه ، ولعل في الأصل للترجي وفي كلامه تعالى للتحقيق (الَّذِي جَعَلَ) خلق (لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) حال ، بساطا يفترش لا غاية في الصلابة أو الليونة فلا يمكن الإستقرار عليها (وَالسَّماءَ بِناءً) سقفا (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ) من أنواع (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تأكلونه وتعلفون به دوابكم (فَلا تَجْعَلُوا

____________________________________

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) لم يناد في القرآن إلا بيا سواء كان النداء من الله لعباده أو منهم لله وهي لنداء البعيد ، ولما كان الله لا يشبه شيئا من الحوادث وهو منزه عنهم ذاتا وصفات وأفعالا نودي بيا تنزيلا للبعد المعنوي منزلة البعد الحسي ، ولما كان البعد قائما بالحوادث للحجب الموجودة بينهم وبين الله سبحانه وتعالى ناداهم بيا أيضا ، ويا حرف نداء وأي منادي مبنى على الضم ، والناس نعت لأي باعتبار اللفظ وهو مرفوع بضمة ظاهرة ، واستشكل ذلك بأن العامل إنما طلب النصب لا البناء على الضم وإنما هو اصطلاح للنحاة ، فما وجه رفع الناس مع أن القاعدة أن النعت تابع للمنعوت في الإعراب ، وهذا إشكال قديم لا جواب له ، واعلم أن النداء على سبعة أقسام : نداء تنبيه مع مدح كيا أيها النبي أو مع ذم كيا أيها الذين هادوا ، أو تنبيه كيا أيها الإنسان ، أو إضافة كيا عبادي ، أو نسبة كيا نساء النبي ، أو تسمية كيا داود ، أو تخصيص كيا أهل الكتاب. قوله : (أي أهل مكة) يصح رفع أهل نظرا للفظ الناس ، ونصبه نظرا لمحل أي ، لأن لما بعد أي في الإعراب حكم ما فسرته. قوله : (وحدوا) هذا تفسير للعبادة ، والمفسر قد تبع في تفسير الناس بأهل مكة والعبادة بالتوحيد ابن عباس ، وقال جمهور المفسرين إن المراد بالناس جمع المكلفين ، وبالعبادة جميع أنواعها أصولا وفروعا وهو أشمل ، واستدل المفسر بقاعدة أن ما قيل في القرآن بيا أيها الناس كان خطابا لأهل مكة ، ويا أيها الذين آمنوا كان خطابا لأهل المدينة ، وهي قاعدة أغلبية فإن السورة مدنية.

قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) صفة لرب وتعليق الحكم بمشتق يؤذن بالعلية أي اعبدوه لخلقه إياكم فإنه هو الذي يعبد لا غيره. قوله : (عقابه) إشارة إلى مفعول تتقون. قوله : (ولعل في الأصل للترجي) أي أصل اللغة والترجي هو توقع الأمر المحبوب على سبيل الظن. قوله : (وفي كلامه تعالى للتحقيق) أي ومثلها عسى كما قال سيبويه ، ودفع بذلك ما يتوهم من معنى كون المولى سبحانه وتعالى جاهلا بالأمور المستقبلة ، وأتى به على صورة الترجي بالنسبة لحال المخاطبين لا لخبر الله فإنه من قبيل الوعد وهو لا يتخلف. قوله : (خلق) أي فتنصب مفعولا واحدا وهو الأرض ، وقوله : (فِراشاً) حال كما قال المفسر ويحتمل أنها على بابها بمعنى صير فيكون فراشا مفعولا ثانيا ، والمراد على الثاني التصيير من عدم. قوله : (فلا يمكن الإستقرار عليها) مفرع على المنفي بشقيه. قوله : (سقفا) أي وقد صرح به في آية (وجعلنا السماء سقفا محفوظا). قوله : (مِنَ السَّماءِ) أي اللغوية وهي ما علا وارتفع ، والمراد بالسحاب. قوله : (ماءً) هو من الجنة فينزل بمقدار على السحاب وهو كالغربال ثم يساق حيث شاء الله على مختار أهل السنة ، وقالت المعتزلة : إن السحاب له خراطيم كالإبل فينزل يشرب من البحر المالح بمقدار ويرتفع في الجو فتنسفه الرياح فيحلو ثم يساق حيث شاء الله. قوله : (الثَّمَراتِ) أي المأكولات لجميع الحيوانات بدليل قول المفسر وتعلفون به دوابكم ، والمراد بها على وجه الأرض غير الآدمي.

٢١

لِلَّهِ أَنْداداً) شركاء في العبادة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢) أنه الخالق ولا يخلقون ولا يكون إلها إلا من يخلق (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) شك (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد من القرآن أنه من عند الله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي المنزل ومن للبيان أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والأخبار عن الغيب

____________________________________

قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) لا ناهية والفعل مجزوم بحذف النون والواو فاعل ، وأندادا مفعول أول مؤخر ، ولله جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول ثاني مقدم واجب التقديم لأن المفعول الأول في الأصل نكرة ولم يوجد له مسوغ إلا تقديم الجار والمجرور ، ومعنى تجعلوا تصيروا أو تسموا ، وعلى كل فهي متعدية لمفعولين والفاء سببية ، والأنداد جمع ند معناه المقاوم المضاهي سواء كان مثلا أو ضدا أو خلافا. قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، وقوله : (أنه الخالق) بفتح الهمزة في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي تعلمون أن تعلمونه خالقا. قوله : (ولا يكون إلها إلا من يخلق) هذا هو تمام الدليل ، قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ). قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) استشكلت هذه الآية بوجوه ثلاثة ، الأول : أن إن تقلب المضي إلى الإستقبال ولو كان الفعل كان خلافا للمبرد القائل بأنها لا تقبله إذا كان الفعل كان واحتج بهذه الآية فيقتضي أن الريب مستقبل وليس حاصلا الآن مع أنه حاصل أجيب عنه بأن الإستقبال بالنسبة للدوام والمعنى إن دمتم على الريب. الوجه الثاني : أن إن للشك فيفيد أن ريبهم مشكوك فيه مع أنه محقق أجيب بأنه أتى بأن إشارة للائق أي اللائق والمناسب أن لا يكون عندكم ريب. الوجه الثالث : أن قوله وإن كنتم في ريب أي شك في أنه من عند الله أو من عند محمد فليس عندهم جزم بأنه من عند محمد ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يفيد أن عندهم جزما بأنه من عند محمد فبين أول الآية وآخرها تناف أجيب بأنه أشار في أول الآية إلى عقيدتهم الباطنة وفي آخرها إلى عنادهم لإظهار الإغاظة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يخلو حالهم الباطني ، إما أن يكون عندهم شك في أنه من عند الله أو تحقيق بأنه من عند الله ، وإنما إظهارهم الجزم بأنه ليس من عند الله عناد. قوله : (شك) جعل الشك ظرفا لهم إلى أنه تمكن منهم تمكن الظرف من المظروف.

قوله : (مِمَّا نَزَّلْنا) من حرف جر واسم موصول أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف ، والجملة صلة أو صفة ، والجار والمجرور صلة لريب التقدير في ريب كائن من الذي نزلناه أو في ريب كائن من كلام نزلناه. قوله : (عَلى عَبْدِنا) الإضافة للتشريف وقرىء على عبادنا فعلى هذه القراءة المراد بالجمع محمد وأمته لأن المكذب لمحمد مكذب لأمته. (من القرآن) بيان لما. قوله : (أنه من عند الله) الكلام على حذف الجار أي بأنه.

قوله : (فَأْتُوا) أصله ائتيوا بهمزتين الأولى للوصل والثانية فاء الكلمة وقعت الثانية ساكنة بعد كسرة قلبت ياء واستثقلت الضمة على الياء التي هي لام الكلمة فحذفت الياء لالتقاء الساكنين وضمت التاء للتجانس ، وفي الدرج تحذف همزة الوصل وتعود الهمزة التي قلبت ياء كما هنا ، فأتوا على وزن فافعوا. قوله : (أي المنزل) أي وهو القرآن ويشهد لهذا التفسير ما في سورة يونس (قل فأتوا بسورة مثله) ، ويحتمل أن الضمير عائد على عبدنا الذي هو محمد أي فائتوا بسورة من رجل مثل محمد في كونه أميا بشرا عربيا فإنكم مثله وحيث كان كذلك فلا بعد في مناظرته. قوله : (ومن للبيان) ويحتمل أن تكون للتبعيض

٢٢

والسورة قطعة لها أول وآخر أقلها ثلاث آيات (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) آلهتكم التي تعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره لتعينكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) في أن محمدا قاله من عند نفسه فافعلوا ذلك فإنكم عربيون فصحاء مثله ولما عجزوا عن ذلك قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما ذكر لعجزكم (وَلَنْ تَفْعَلُوا) ذلك أبدا لظهور إعجازه اعتراض (فَاتَّقُوا) بالإيمان بالله وأنه ليس من كلام البشر (النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ) الكفار (وَالْحِجارَةُ) كأصنامهم منها يعني أنها مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه (أُعِدَّتْ) هيئت (لِلْكافِرِينَ) (٢٤) يعذبون بها جملة

____________________________________

والأول أقرب. قوله : (في البلاغة) هذا بيان لوجه المماثلة. قوله : (أقلها ثلاث آيات) ليس من تمام التعريف بل هو بيان للواقع فإن أقصر سورة ثلاث آيات ولو فرض أنها آيتان لعجزوا أيضا. قوله : (آلهتكم) إنما سموا شهداء لزعمهم أنه يشهدون لهم يوم القيامة. قوله : (أي غيره) أشار بذلك إلى أن دون بمعنى غيره ، والمعنى ادعوا شهداءكم الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء أو آلهة وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة ، فقوله من دون الله وصف لشهداء أو حال منه وهو على زيادة من إذ تقديره شهداءكم التي هي غير الله أو حال كونها مغايرة لله ، وقوله لتعينكم علة لقوله ادعوا. قوله : (فافعلوا) إشارة إلى جواب الشرط الثاني ، وأما جواب الأول فهو مذكور بقوله فأتوا هكذا ، قال المفسر ولكن سيأتي له في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) الآية ، وللمحلي في تفسير قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) الآية أنه إذا اجتمع شرطان وتوسط بينهما جواب كان للأخير والأول قيد فيه ولا يحتاج لجواب ثان ، والتقدير في الآية إن كنتم صادقين في دعواكم أنه من عند محمد ودمتم على الريب فائتوا بسورة من مثله وهو أولى لعدم التقدير. قوله : (فإنكم عربيون) علة لقوله فافعلوا.

قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) إن حرف شرط ولم حرف نفي وجزم وقلب وتفعلوا مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون ، والجملة من الجازم والمجزوم في محل جزم فعل الشرط ، وقوله فاتقوا جواب الشرط وقرن بالفاء لأنه فعل طلبي. قوله : (أبدا) أخذ التأبيد من قرينة خارجية لا من لن خلافا للزمخشري. قوله : (اعتراض) أي جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه قصد بها تأكيد العجز وليس معطوفا على جملة (لم تفعلوا). قوله : (وأنه) بفتح الهمزة على حذف الجار أي وبأنه. قوله : (الَّتِي وَقُودُهَا) بفتح الواو : ما توقد به ، وأما بالضم فهو الفعل وقيل بالعكس على حد ما قيل في الوضوء والطهوز والسحور. قوله : (كأصنامهم منها) إنما خص الأصنام بكونها من الحجارة مسايرة للآية وإلا فالأصنام مطلقا تدخل النار ، قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ويستثنى من ذلك عيسى والعزيز وكل معبود من الصالحين ، وإنما دخلت الأصنام النار وإن كانت غير مكلفة إهانة لعبادها وليعذبوا بها لا لتعذيبها. قوله : (بما ذكر) أي بالناس الكفار والحجارة. قوله : (لا كنار الدنيا) أي كما ورد أن نار الدنيا قطعة من جهنم غمست في البحر سبع مرات ثم بعد أخذها أوقد على جهنم ثلاثة آلاف سنة ، ألف حتى ابيضت وألف حتى احمرت ، وألف حتى اسودت ، فهي الآن سوداء مظلمة. قوله : (جملة مستأنفة إلخ) أشار بذلك إلى أن هذه الجملة لا ارتباط لها بما قبلها ، وقعت في جواب سؤال مقدر تقديره هذه النار التي وقودها الناس والحجارة لمن. قوله : (أو حال لازمة) أي والتقدير فاتقوا النار حال كونها معدة ومهيأة للكافرين ، ودفع بقوله لازمة ما قيل إنها معدة للكافرين اتقوا أو لم يتقوا.

٢٣

مستأنفة أو حال لازمة (وَبَشِّرِ) أخبر (الَّذِينَ آمَنُوا) صدقوا بالله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الفروض والنوافل (أَنَ) أي بأن (لَهُمْ جَنَّاتٍ) حدائق ذات أشجار ومساكن (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت أشجارها وقصورها (الْأَنْهارُ) أي المياه فيها والنهر الموضع الذي يجري فيه الماء لأن الماء ينهره أي يحفره وإسناد الجري إليه مجاز (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) أطعموا من تلك الجنات (مِنْ ثَمَرَةٍ

____________________________________

قوله : (وَبَشِّرِ) جرت عادة الله في كتابه أنه إذا ذكر ما يتعلق بالكافرين وأحوالهم وعاقبة أمرهم يذكر بلصقه ما يتعلق بالمؤمنين وأحوالهم وعاقبة أمرهم ، فإن القرآن نزل لهذين الفريقين ، والبشارة هي الخبر السار سمي الخبر بذلك لطلاقة البشرة والسرور عنده ، والأمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو للوجوب لأن البشارة من جملة ما أمر بتبليغه ، ويحتمل أن الأمر عام له ولكل من تحمل شرعه كالعلماء. قوله : (أخبر) مشى المفسر على أن معنى البشارة الخبر مطلقا لكن غلب في الخبر وضده على الندارة ، وأما قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فمن باب التشبيه يجامع أن كلا صادر من المولى وهو لا يتخلف. قوله : (صدقوا بالله) إنّما على ذلك لأنّه يلزم من التصديق بالله التصديق بما أخبر به على لسان رسله.

قوله : (الصَّالِحاتِ) وصف جرى مجرى الأسماء فلذلك صح إسناد العوامل له ، فلا يقال إنه صفة لموصوف محذوف أي الأعمال الصالحات. قوله : (من الفروض) أي كالصلوات الخمس وصيام رمضان والحج في العمرة مرة وزكاة الأموال والجهاد إذا فجأ العدو ، وقوله والنوافل أي كصلاة التطوع وصومه ومواساة الفقراء وغير ذلك من أنواع البر ، والمراد عملوا الصالحات على حسب الطاقة قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). قوله : (أي بأن) أشار بذلك إلى حذف الجار وهو مطرد مع أن قال ابن مالك :

نقلا وفي أن وأن يطرد

مع امن لبس كعجبت أن يدوا

قوله : (لَهُمْ جَنَّاتٍ) جمع جنة واختلف في عددها فقيل أربع وهو ما يؤخذ من سورة الرحمن ، وقيل سبع وعليه ابن عباس جنة عدن وجنة المأوى والفردوس ودار السّلام ودار الجلال وجنة النعيم وجنة الخلد. قوله : (حدائق) جمع حديقة وهي الروضة الحسنة. قوله : (ذات أشجار ومساكن) أي موجودات فيها الآن ومع ذلك تقبل الزيادة ، فالجنة تامة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ومع ذلك أرضها واسعة طيبة تقبل الزيادة. قوله : (أي تحت أشجارها) أي على وجه الأرض بقدرة الله فلا تبلي فرشا ولا تهدم بناء ولا تقطع شجرا. قوله : (الْأَنْهارُ) يحتمل أن تكون ال للعهد والمراد بها ما ذكر في سورة القتال بقوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى). قوله : (أي المياه فيها) أي الأنهار وأشار بذلك إلى أن في الجنة حفرا كأنهار الدنيا ، وقيل لم يوجد في الجنة حفر تجري فيها المياه بل تجري على وجه الأرض. قوله : (والنهر الموضع) أي بحسب الأصل اللغوي. قوله : (وإسناد الجري إليه مجاز) أي عقلي أو الإسناد حقيقي ، وإنما التجوز في الكلمة من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه.

قوله : (كُلَّما رُزِقُوا) ظرف لقوله قالوا : قوله : (مِنْ ثَمَرَةٍ) أي نوعها. قوله : (أي مثل ما) الأولى حذف وما تقديم مثل على الذي وأتى بمثل دفعا لما يتوهم من قولهم (هذا الذي رزقنا من قبل) إنه عينه وذلك مستحيل لأنه قد أكل والمعنى أن الله قادر على صنع طعام متحد اللون مختلف الطعام واللذة. فإذا

٢٤

رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي) أي مثل ما (رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أي قبله في الجنة لتشابه ثماره بقرينة (وَأُتُوا بِهِ) أي جيئوا بالرزق (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا لونا ويختلف طعما (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) من الحور وغيرها (مُطَهَّرَةٌ) من الحيض وكل قذر (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥) ماكثون أبدا لا يفنون ولا يخرجون. ونزل ردا لقول اليهود لما ضرب الله المثل بالذباب في قوله : (وإن يسلبهم الذباب شيئا) والعنكبوت في قوله : (كمثل العنكبوت) ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة. (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ) يجعل (مَثَلاً) مفعول أول (ما) نكرة موصوفة بما بعدها مفعول ثان أي أي مثل كان أو زائدة لتأكيد الخسة فما بعدها المفعول الثاني (بَعُوضَةً) مفرد البعوض وهو صغار

____________________________________

رأوه قالوا : (هذا الذي رزقنا من قبل بحسب ما رأوا من اتحاد اللون ، فإذا أكلوه علموا عدم الإتحاد. قوله : (أي قبله في الجنة) أشار بذلك إلى رد ما قيل إن المراد بقوله من قبل في الدنيا وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) أي يشبه ثمر الدنيا في الصورة. قوله : (جيئوا بالرزق) أي يأتي به الولدان والملائكة والمراد بالرزق المرزوق أي المأكول. قوله : (وغيرها) أي نساء الدنيا فقد ورد أن نساء الدنيا يكن أجمل من الحور العين ، وقد ورد أن كل رجل يزوج بأربعة آلاف بكر وثمانية آلاف أيم ومائة حوراء. قوله : (وكل قذر) أي كالنفاس والبصاق والمخاط وليس في الجنة إنزال ولا حمل ولا ولادة وليس الأكل والشرب عن جوع وظمأ. قوله : (لا يفنون) أي ولا يمرضون ولا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم. قوله : (ولا يخرجون) أي لقوله تعالى : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ). قوله : (ونزل ردا) فاعل نزل جملة (إن الله لا يستحيى) قصد لفظها وردا بمعنى جوابا مفعول لأجله أو حال من فاعل نزل ، وقوله لما : (ضرب الله المثل) ظرف للقول ومقول القول قوله : ماذا أراد الله إلخ وقوله : (بالذباب) الباء للتصوير وهو متعلق بضرب وجواب استفهامهم قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) قوله : (في قوله) أي تعالى وحذفها للاختصار وكذا بقية المثلين قوله : (بذكر هذه الأشياء الخسيسة) أي مع أنه عظيم وقالوا أيضا إن الواحد منا يستحي أن يضرب المثل بالشيء الخسيس فالله أولى وجعلوا ذلك ذريعة لإنكار كونه من الله.

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ) مضارع استحيا ومصدره استحياء وقرىء بحذف إحدى الياءين فاختلف هل المحذوف اللام أو العين ، فعلى الأول وزنه يستفع وعلى الثاني وزنه يستفل ، وعلى كل نقلت حركة ما بعد الساكن إليه فحذفت إما اللام أو العين ، والحياء في حق الحوادث تغيير وانكسار يعتري الإنسان من فعل ما يعاب ولازمه الترك فأطلق في حق الله وأريد لازمه وهو الترك ، وإنما أتى به مشاكلة لقولهم : الله عظيم يستحي أن يضرب المثل بالشيء الحقير. قوله : (أَنْ يَضْرِبَ) فيه حذف الجار أي من أن يضرب وقوله : (يجعل) أي فينصب مفعولين. قوله : (أو زائدة) أي وهو الأقرب والمعنى على الأول إن الله لا يستحيي أن يجعل مثلا شيئا موصوفا بكونه بعوضة فما فوقها وعلى الثاني إن الله لا يستحي أن يجعل مثلا بعوضة فما فوقها. قوله : (لتأكيد الخسة) أي فليست زيادة محضة وهكذا كل زائدة في القرآن. قوله : (وهو صغار البق) يطلق البق على الناموس وعلى الأحمر المنتن الرائحة والأقرب الأول لأنه عجيب في الخلقة فله ستة أرجل وأربعة أجنحة وخرطوم طويل وذنب ومع ضعفه وصغره يقتل الجمل العظيم بمنقاره وهو القاتل للنمروذ. قوله : (أي أكبر منها) أي في الجسم كالجمل مثلا ويحتمل أن المراد

٢٥

البق (فَما فَوْقَها) أي أكبر منها أي لا يترك بيانه لما فيه من الحكم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي المثل (الْحَقُ) الثابت الواقع موقعه (مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) تمييز أي بهذا المثل ، وما استفهام إنكار مبتدأ وذا بمعنى الذي بصلته خبره أي أي فائدة فيه قال تعالى في جوابهم (يُضِلُّ بِهِ) أي بهذا المثل (كَثِيراً) عن الحق لكفرهم به (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) من المؤمنين لتصديقهم به (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢٦) الخارجين عن طاعته (الَّذِينَ) نعت (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) ما عهده إليهم في الكتب من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) توكيده عليهم (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الإيمان بالنبي والرحم وغير ذلك ، وأن بدل من

____________________________________

بقوله : (فَما فَوْقَها) أي في الخسة كالذرة. قوله : (أي لا يترك بيانه) هذا هو معنى الإستحياء في حق الله وتقدم أنه مجاز من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. قوله : (لما فيه من الحكم) علة لعدم الترك.

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) شروع في بيان الحكمة المترتبة على ضرب المثل. قوله : (الواقع موقعه) صادق بالأفعال الصائبة والذات الثابتة والأقوال الصادقة. قوله : (تمييز) أي محول عن المفعول على حد (وفجرنا الأرض عيونا). قوله : (استفهام إنكار) أي بمعنى النفي. قوله : (بمعنى الذي) أي والعائد محذوف أي أراده. قوله : (أي أي فائدة) هذا زبدة معنى التركيب وقصدهم بهذا الإستفهام نفي الفائدة فيتوصلون بذلك إلى إنكار كونه من عند الله قوله : (به) الباء سببية وقوله : (لكفرهم به) علة لضلالهم. وقوله : (لتصديقهم به) علة لهدايتهم.

قوله : (إِلَّا الْفاسِقِينَ) يطلق لفظ الفاسقين على من فعل الكبائر في بعض الأحيان وعلى من فعلها في كل الأحيان غير مستحل لها وعلى من استحلها وهو المراد هنا فقول المفسر الخارجين عن طاعته أي بالكلية وهم الكفار. قوله : (نعت) أي للفاسقين. قوله : (ما عهده إليهم) إنما فسر المصدر باسم المفعول لأن العهد الذي هو أمر الله بالإيمان بالنبي قد حصل فلا ينقض ، وإنما الذي ينقض المأمور به ، والمراد جملة العهد الواقع على ألسنة أنبيائهم في كتبهم ، فإن الله عاهد كل نبي مع أمته من آدم إلى عيسى أنه إذا ظهر محمد ليؤمنن به ولينصرنه قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) الآية. ومن العهد أوصافه المذكورة في كتبهم فنقضوا ذلك بتبديلهم إياها وإنكارها وعدم الإيمان بها وفي قوله تعالى : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) استعار بالكناية حيث شبه العهد بالحبل وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو ينقضون فاثباته تخييل ، والنقض في الأصل فك طاقات الحبل والمراد منه هنا الإبطال ففيه استعارة تصريحية تبعية حيث شبه الأبطال بالنقض واستعير النقض للإبطال واشتق من النقض ينقضون بمعنى يبطلون والعهود ثلاثة عهد عام وهو عهد الله في الأزل لجميع الخلق على التوحيد وابتاع الرسل وعهد خاص بالإنبياء وهو تبليغ الشرائع والأحكام وعهد خاص بالعلماء وهو تبليغ ما تلقوه عن الأنبياء والكفار قد نقضوها. قوله : (من الإيمان) بيان لما. وقوله : (بالنبي) أي من توقيره ونصره والإيمان به ومتابعته. وقوله : (والرحم) أي ومن وصل ذي الرحم أي القرابة من الإحسان إليهم ومواساتهم والبر بهم. قوله : (وأن بدل من ضمير به) أي فإن والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر على البدلية للضمير في به ، التقدير ما أمر الله بوصله ويصح أن يكون أن يوصل بدل من ما فهو في محل نصب والأول أقرب. قوله : (والتعويق عن الإيمان) عطف

٢٦

ضمير به (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي والتعويق عن الإيمان (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٧) لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) يا أهل مكة (بِاللهِ وَ) قد (كُنْتُمْ أَمْواتاً) نطفا في الأصلاب (فَأَحْياكُمْ) في الأرحام والدنيا بنفخ الروح فيكم ، والإستفهام للتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو للتوبيخ (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انتهاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالبعث (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) تردون بعد البعث فيجازيكم بأعمالكم. وقال دليلا على البعث لما أنكروه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي الأرض وما فيها (جَمِيعاً) لتنتفعوا به وتعتبروا (ثُمَّ اسْتَوى) بعد خلق الأرض أي قصد (إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَ) الضمير يرجع إلى السماء لأنها

____________________________________

ويحتمل خاص على عام فإن التعويق من أكبر المعاصي. قوله : (أُولئِكَ) مبتدأ أول وهم مبتدأ ثان والخاسرون خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول ، ويحتمل أن هم ضمير فصل لا محل له من الإعراب والخاسرون خبر أولئك ، قوله : (لمصيرهم) علة لكونهم خاسرين. قوله : (يا أهل مكة) الأحسن العموم سواء كان للمخاطب جنا أو إنسا من أهل مكة أو غيرها. قوله : (وَ) (قد) (كُنْتُمْ) قدر المفسر لفظ قد إشارة إلى أن الجملة حالية مع كونها ماضوية والجملة الماضوية إذا وقعت حالا وجب اقترانها بقد إما لفظا أو تقديرا. قوله : (في الأصلاب) إنما قدره لأجل اقتصاره على النطق وإلا ففي حالة كونهم في الرحم علقة ومضغة أموات أيضا. قوله : (فَأَحْياكُمْ) مرتب على محذوف تقديره وكنتم علقة فمضغة فأحياكم وإنما قلنا ذلك لأن الإحياء لا يكون عقب كونهم نطفا بسرعة بل بعد مضي زمن كونهم علقة وكونهم مضغة ولو قال المفسر وقد كنتم أمواتا نطفا أو علقا أو مضغا فأحياكم لحسن الترتيب. قوله : (بنفخ الروح) الباء سببية. قوله : (والإستفهام للتعجب) التعجب استعظام أمر خفي سببه ، وهو بالنسبة للخلق لا للخالق فهو مستحيل ، والأحسن أن يكون الإستفهام للتعجب والتوبيخ معا ، وهو الرعد والزجر.

قوله : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) الترتيب في هذا وما بعده ظاهر ، فإن بين نفخ الروح والموت زمنا طويلا وبين الموت والإحياء بالبعث زمن طويل ، وبين الإحياء والمجازاة على الأعمال كذلك. قوله : (لما أنكروه) أي استغرابا واستبعادا ، قال تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). قوله : (أي الأرض وما فيها) أي فمراده العالم السفلي بجميع أجزائه ، وأل في الأرض للجنس ، فيشمل الأرضين السبع. قوله : (وتعتبروا) أي إذا تأملتم الأرض وتغير الأحوال فيها وما حوته ، علمتم أن ذلك صنع حكيم قادر فينشأ عن ذلك الإعتبار كمال التوحيد ، وقوله : (لتنتفوا به) ، أي ظاهرا وباطنا ، وهو جميع المخلوقات ما عدا المؤذيات ، وأما المؤذيات كالحيات والعقارب والسباع وغير ذلك فنفعها من حيث العبرة بها ، فما من شيء مخلوق إلا وفي خلقه حكمة تبهر العقول ، سبحانك ما خلقت هذا عبثا ، ولما سئل الإمام الشافعي رضي الله عنه عن حكمة خلق الذباب أجاب بقوله : مذلة للملوك.

قوله : (ثُمَّ اسْتَوى) الإستواء في الأصل الإعتدال والإستقامة ، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى ، فالمراد منه هنا في حق الله القصد والإرادة ، فقوله قصد أي تعلقت إرادته التعلق التنجيزي الحادث بخلق السموات ، وثم للترتيب مع الإنفصال ، لأنه خلق الأرض في يومين ، وخلق الجبال والأقوات وما في الأرض في يومين ، فتكون الجملة أربعة أيام ، فالترتيب الرتبي ظاهر ويشهد لذلك قوله تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ

٢٧

في معنى الجمع الآيلة إليه أي صيرها كما في آية أخرى فقضاهن (سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) مجملا ومفصلا أفلا تعتبرون أن القادر على خلق ذلك ابتداء وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم (وَ) اذكر يا محمد (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يخلفني في

____________________________________

لتَكْفُرُونَ) بالذي خلق الأرض في يومين) الآيات ، وعلى ذلك درج المفسر حيث قال أي الأرض وما فيها ، ويحتمل أن ثم للترتيب الذكري بناء على أن الأرض خلقت مكورة ، فبعد ذلك خلقت السماء ثم بعد خلق السماء دحا الأرض وخلق جميع ما فيها ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) ثم قال : (والأرض بعد ذلك دحاها) وعلى ذلك درج القرطبي وغيره وهو الحق. قوله : (إِلَى السَّماءِ) أي جهة العلو وأل للجنس. قوله : (فقضاهن) بدل من آية فسوى وصير وقضى بمعنى واحد وكل واحد ينصب مفعولين.

قوله : (سَبْعَ سَماواتٍ) أي طباقا بالإجماع للآية وبين كل سماء خمسمائة عام وسمكها كذلك ، والأولى من موج مكفوف ، والثانية من مرمرة بيضاء ، والثالثة من حديد ، والرابعة من نحاس ، والخامسة من فضة والسادسة من ذهب ، والسابعة زمردة خضراء. قوله : (مجملا ومفصلا) هذا هو مذهب أهل السنة خلافا لمن ينكر علم الله بالأشياء تفصيلا فإنه كافر. قوله : (على خلق ذلك) أي الأرض وما فيها والسموات وما فيها ، وقوله : (وهو) الضمير عائد على اسم الإشارة ، قوله : (وهو أعظم منكم) أي لقوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أكبر من خلق الناس ، قوله : (قادر على إعادتكم) هذا هو روح الدليل.

قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) إذ ظرف في محل نصب معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر أي اذكر يا محمد قصة قول ربك إلخ ، والأحسن أنه معمول لقوله بعد (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) وقت قول ربك للملائكة إلخ ، لأن إذ إذا وقعت ظرفا لا تكون إلا للزمان ، قوله : (لِلْمَلائِكَةِ) جمع ملك مخفف ملأك وأصله مألك على وزن مفعل مشتق من الألوكة وهي الإرسال دخله القلب المكاني فأخرت الهمزة عن اللام فنقلت حركت الهمزة للساكن قبلها وهو اللام فسقطت الهمزة ، قوله : (إِنِّي جاعِلٌ) يصح أن يكون بمعنى مصير فخليفة مفعول أول وفي الأرض مفعول ثاني قدم لأنه المسوغ للإبتداء بالنكرة في الأصل ، ويصح أن يكون بمعنى خالق فخليفة مفعول وفي الأرض متعلق به ، قوله : (خَلِيفَةً) فعليه بمعنى مفعول أي مخلوف أو بمعنى فاعل أي خالف بمعنى أنه قائم بالخلافة ، وحكمة جعله خليفة الرحمة بالعباد لا لإفتقار الله له ، وذلك أن العباد لا طاقة لهم على تلقي الأوامر والنواهي من الله بلا واسطة ، بل ولا بواسطة ملك ، فمن رحمته ولطفه وإحسانه إرسال الرسل من البشر ، قوله : (وهو آدم) أي فهو البشر والخليفة الأول باعتبار عالم الأجساد ، وأما باعتبار عالم الأرواح فهو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال العارف :

فإني وإن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوتي

وهو مأخوذ من أديم الأرض لخلقه من جميع أجزائها وكانت ستين جزءا ، ولذلك كان طباع نبيه ستين طبعا. وكفارة الظهار والصوم ستين ، وعاش من العمر تسعمائة وستين وما مات حتى رأى من أولاده مائة ألف عمروا الأرض بأنواع الصنائع ، والملائكة المخاطبون يحتمل أنهم من النوع المسمى بالجان ،

٢٨

تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) بالمعاصي (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) يرفعها بالقتل كما فعل بنو الجان وكانوا فيها فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) متلبسين (بِحَمْدِكَ) أي نقول سبحان الله وبحمده (وَنُقَدِّسُ لَكَ) ننزهك عما لا يليق بك ، فاللام زائدة والجملة حال أي فنحن أحق بالإستخلاف (قالَ) تعالى (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠) من المصلحة في استخلاف آدم وأن ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم ، فقالوا لن يخلق ربنا خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم لسبقنا له ورؤيتنا ما لم يره ، فخلق تعالى آدم من أديم الأرض أي وجهها بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها وعجنت بالمياه المختلفة وسواه ونفخ فيه الروح فصار حيوانا حساسا بعد أن كان جمادا (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) أي

____________________________________

ورئيسهم إبليس ، فإن الله خلق خلقا وأسكنهم الأرض يسمون بني الجان فأفسدوا في الأرض ، فسلط الله عليهم هؤلاء الملائكة فطردوهم وسكنوا موضعهم ، ويحتمل أن الخطاب لعموم الملائكة ، قوله : (مَنْ يُفْسِدُ فِيها) أي بمقتضى القوة الشهوية ، وقوله : (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي بمقتضى القوة الغضبية ، فإن في الإنسان ثلاثة اشياء : قوة شهوية ، وقوة غضبية ، وقوة عقلية فبالأوليين يحصل النقص ، وبالأخيرة يحصل الكمال والفضل ، وقد نظر الملائكة للأوليين ولم ينظروا للثالثة. قوله : (كما فعل بنو الجان) قيل الجان ابليس ، وقيل مخلوق آخر ، وإبليس أبو الشياطين ، قوله : (أرسل الله عليهم الملائكة) أي المسلمين بالجان ورئيسهم إبليس ، وفي هذه الآية امور منها : مشاورة العظيم للحقير ، ولا بأس بها لتأليف الحقير ، قال تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ، ومنها إظهار عجز الملائكة عن علم الغيب ، ومنها اظهار فضل آدم للملائكة ، ومنها أنه لا ينبغي ترك الخير الكثير من أجل شر قليل ، فإن بني آدم خيرهم غالب سرهم ، فإن منهم الأنبياء والرسل والأولياء ، وإن لم يكن منهم إلا سيدنا محمد لكفى ، قوله : (متلبسين) أشار بذلك إلى أن الباء للملابسة ، والجملة من قبيل الحال المتداخلة ، قوله : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) التقديس في اللغة يرجع لمعنى التسبيح وهو التنزيه عما لا يليق ، وأما هنا فالتسبيح يرجع للعبادة الظاهرية ، والتقديس يرجع للإعتقادات الباطنية ، قوله : (فاللام زائدة) أي لتأكيد التخصيص ، ويحتمل أنها للتعدية والتعليل أي ننزهك لك لا طمعا في عاجل ولا آجل ، ولا خوفا من عاجل ولا آجل فتنزيهنا لذاتك فقط ، قوله : (أي فنحن أحق بالإستخلاف) ليس المقصود من ذلك الإعتراض على الله ولا احتقار آدم ، وإنما ذلك لطلب جواب يريحهم من العناء ، حيث وقعت المشورة من الله لهم ، قوله : (فيظهر العدل بينهم) أي فالطائع المؤمن له الجنة ، والعاصي الكافر له النار ، قوله : (فقالوا) أي سرا في أنفسهم ، قوله : (لسبقنا له) أي للخلق وهو راجع لقوله أكرم ، وقوله : (ورؤيتنا) راجع لقوله ولا أعلم فهو لف ونشر مرتب ، قوله : (جميع ألوانها) تقدم أنها ستون ، وورد أن الله لما أراد خلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خلقا من أطاعني ادخلته الجنة ، ومن عصاني أدخلته النار ، فقالت يا ربنا أتخلق مني خلقا يدخل النار؟ فقال نعم فبكت فنبعت العيون من بكائها فهي تجري إلى يوم القيامة ، قوله : (بالمياة المختلفة) أي على حسب الألوان. قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ) الحق أن آدم ممنوع من الصرف للعلمية والعجمية وليس منصرفا ولا مشتقا على التحقيق ، قوله : (أي اسماء المسميات) أشار بذلك إلى أن أل عوض عن المضاف اليه ، والمراد

٢٩

أسماء المسميات (كُلَّها) حتى القصعة والقصيعة والفسوة والفسية والمغرفة بأن ألقى في قلبه علمها (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي المسميات وفيه تغليب العقلاء (عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ) لهم تبكيتا (أَنْبِئُونِي) أخبروني (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) المسميات (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١) في أني لا أخلق أعلم منكم أو أنكم أحق بالخلافة ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله (قالُوا سُبْحانَكَ) تنزيها لك عن الإعتراض عليك (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) إياه (إِنَّكَ أَنْتَ) تأكيد للكاف (الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٣٢) الذي لا يخرج شيء عن علمه وحكمته (قالَ) تعالى (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) أي الملائكة (بِأَسْمائِهِمْ) أي المسميات

____________________________________

بالمسميات مدلولات الأسماء ، سواء كانت جواهر أو أعراضا أو معاني أو معنوية فالحاصل أن الله أطلع آدم على المسميات جميعها وعلمه أسماءها ، وأطلع الملائكة على المسميات ولم يعلمهم أسماءها فاشترك آدم مع الملائكة في معرفة المسميات ، واختص آدم بمعرفة الأسماء بجميع اللغات وتلك اللغات تفرقت في أولاده قوله : (حتى القصعة) غاية في الخسة ، إشارة إلى كونه تعلم جميع الأسماء شريفة أو خسيسة وحكمتها أيضا كما يأتي ، والقصعة هي الإناء الكبير من الخشب ، والقصعية الإناء الصغير منه أيضا المسمى بالزويلي. قوله : (والفسوة) من باب عتا والمصدر فسوا والاسم الفساء بالمد واوي هو الريح الخارج من الدبر بلا صوت ، فإن كان شديدا سمي فسوة ، وإن كان خفيفا سمي فسية ، وإن كان بصوت سمي ضراطا ، وهو من باب تعب وضرب ، والمصدر ضرطا بفتح الراء وسكونها فالمكبر للشديد والمصغر للخفيف. قوله : (بأن ألقى في قلبه علمها) أي الأسماء وحكمتها حين صور الله المسميات كالذر وذلك قبل دخوله الجنة وهو ظاهر في الأشياء المحسوسة ، وأما المعقولة كالحياة والقدرة والفرح وغير ذلك فبإلقاء الله الدال والمدلول في قلبه. قوله : (وفيه تغليب العقلاء) أي في الإتيان بميم الجمع التي للعقلاء المذكور ، وإلا فلو لم يغلب لقال عرضها أو عرضهن وبهما قرىء شاذا. قوله : (عَلَى الْمَلائِكَةِ) يحتمل عموم الملائكة ويحتمل خصوص الملائكة المسمين بالجان الذين كانوا في الأرض. قوله : (أَنْبِئُونِي) الأنباء هو الإخبار بالشيء العظيم فهو أخص من الخبر. قوله : (أخبروني) أي أجيبوني ليظهر علمكم ، وذلك تعجيز لهم لأنهم ليسوا بعالمين ذلك لا لاستفادته العلم منهم. قوله : (في أني لا أخلق أعلم منكم) معلق بصادقين. قوله : (دل على ما قبله) أي قوله أنبئوني ، فهو دليل الجواب والجواب محذوف تقديره إن كنتم صادقين فأنبئوني. قوله : (سُبْحانَكَ) مصدر وقيل اسم مصدر منصوب بعامل محذوف وجوبا أي أسبح ، وهي كلمة تقال مقدمة للأمر العظيم ، كان توبة واستغفارا أم لا ، والمقصود منها توبتهم واستغفارهم ، كقول موسى عليه‌السلام (سبحانك تبت إليك) ، وقول يونس (سبحانك إني كنت من الظالمين) ، والغالب عليه الإضافة وأما سبحان من علقمة الفاخر ، فمؤول أو شاذ ، ومن غير الغالب. قوله : (إياه) أشار بذلك إلى أن المفعول الثاني محذوف. قوله : (إِنَّكَ) كالدليل لما قبله. قوله : (تأكيد للكاف) أي فهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب ، أو في محل نصب كالمؤكد والعليم الحكيم خبران لأن الحكيم صفة للعليم ، ويحتمل أن أنت مبتدأ والعليم خبره والجملة خبر أن. قوله : (الْعَلِيمُ) قدم العلم على الحكمة لمناسبة علم آدم ولا علم لنا ، ولأن الحكمة تنشأ عن العلم ، والعلم في حق الله صفة أزلية تتعلق بجميع أقسام الحكم العقلي الواجب والمستحيل والجائز تعلق إحاطة وانكشاف. قوله : (الْحَكِيمُ) أي ذو الحكمة أي الإتقان فهو صفة فعل أو العلم فيكون صفة ذات. قوله : (فسمى) أي آدم. قوله : (توبيخا) أي تقريعا ولوما لهم على ما مضى منهم فالهمزة في ألم أقل

٣٠

فسمى كل شيء باسمه وذكر حكمته التي خلق لها (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ) تعالى لهم توبيخا (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب فيهما (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) تظهرون من قولكم أتجعل فيها الخ (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣) تسرون من قولكم لن يخلق الله أكرم عليه منا ولا أعلم (وَ) اذكر (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود تحية بالإنحناء (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)

____________________________________

للاستفهام التوبيخي ، والقصد منه توبيخهم على ما مضى منهم وليست الإنكار ولا للتقرير. قوله : (ما غاب فيهما) أي عنا. قوله : (أتجعل فيها إلخ) أي من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. بقي شيء آخر وهو أن مقتضى الآية أن آدم علم الأسماء والمسميات ، ومقتضى قول البويصيري في الهمزية :

لك ذات العلوم من عالم الغي

ب ومنها لآدم الأسماء

أن آدم علم الأسماء دون المسميات ، فيكون بينه وبين الآية مخالفة ، والحق أنه لا مخالفة لأنه يلزم من علم الأسماء علم المسميات لعرض المسميات عليه أولا ، فمعنى قول البوصيري لك ذات العلوم أي أصلها ، فعلم آدم مأخوذ من نبينا ، لأن رسول الله أعطي أصل العلوم بل وأصل كل كمال ، ويشهد لذلك قول ابن مشيش وتنزلت علوم آدم أي صل على من منه تنزلت علوم آدم ، فعلوم آدم كائنة منه فأعجز بها الملائكة خاصة ، وأما علوم رسول الله فاعجز بها الخلائق جميعا ، هذا هو الحق ولا تغتر بما قيل إن آدم علم الأسماء فقط ، ومحمد علم الأسماء والمسميات. قوله : (وَ) اذكر (إِذْ قُلْنا) أشار المفسر بذلك إلى أن إذ ظرف عاملها محذوف والتقدير واذكر وقت قولنا إلخ إن قلت إن المقصود ذكر القصة لا ذكر الوقت ، أجيب بأن التقدير ذكر القصة الواقعة في ذلك الوقت ، ومحصل ذلك أنه بعد خلق آدم ونفخ الروح فيه ، وعرض المسميات على الملائكة ، وإنباء آدم لهم بالأسماء أمرهم الله بالسجود له لأنه صار شيخهم ، ومن حق الشيخ التعظيم والتوقير ، وكان ذلك كله خاو.

قوله : (بالإنحناء) أشار بذلك إلى أن المراد السجود اللغوي وهو الإنحناء كسجود إخوة يوسف وأبويه له وهو تحية الأمم الماضية ، وأما تحيتنا فهي السّلام ، وعليه فلا إشكال ، وقال بعض المفسرين إن السجود شرعي بوضع الجبهة على الأرض ، وآدم قبلة كالكعبة ، فالسجود لله وإنما آدم قبلة ، والآية محتملة للمعنيين ولا نص يعين أحدهما ، وعلى الثاني فاللام بمعنى إلى أي اسجدوا جهة آدم فاجعلوه قبلتكم. قوله : (فَسَجَدُوا) أي الملائكة كلهم أجمعون بدليل الآية الأخرى ، فالخطاب بالسجود لجميع الملائة على التحقيق لا الملائكة الذين طردوا بني الجان. قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ) قيل مشتق من أبلس إبلاسا بمعنى بئس وهذا هو اسمه في اللوح المحفوظ.

فائدة : قال كعب الإحبار : إن إبليس اللعين كان خازن الجنة أربعين الف سنة ، ومع الملائكة ثمانين الف سنة ، ووعظ الملائكة عشرين الف سنة ، وسيد الكروبيين ثلاثين الف سنة ، وسيد الروحانيين الف سنة ، وطاف حول العرش أربعة عشر الف سنة ، وكان اسمه في سماء الدنيا العابد ، وفي الثانية الزاهد ، وفي الثالثة العارف ، وفي الرابعة الولي ، وفي الخامسة التقي ، وفي السادسة الخازن ، وفي السابعة عزازيل ، وفي اللوح المحفوظ إبليس وهو غافل عن عاقبة أمره. قوله : (هو أبو الجن) هذا أحد قولين والثاني هو أبو الشياطين فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد. قوله : (كان بين الملائكة) أشار بذلك إلى أن الإستثناء منقطع

٣١

هو أبو الجن كان بين الملائكة (أَبى) امتنع من السجود (وَاسْتَكْبَرَ) تكبر وقال أنا خير منه (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٤) في علم الله (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ) تأكيد للضمير المستتر ليعطف عليه (وَزَوْجُكَ) حواء بالمد وكان خلقها من ضلعه الأيسر (الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها) أكلا (رَغَداً) واسعا لا

____________________________________

وأنه ليس من الملائكة ، قال في الكشاف لما اتصف بصفات الملائكة جمع معهم في الآية واحتيج إلى استثنائه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ) وكررت قصة إبليس في سبعة مواضع : في البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وص تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبرة لبني آدم ، فلا يغتر العابد ولا يقنط العاصي ، ويحتمل أن الإستثناء متصل وقوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِّ) أي في الفعل والأقرب الأول.

قوله : (وَاسْتَكْبَرَ) من عطف العلة على المعلول أي أبى وامتنع لكبره والسين للتأكيد. قوله : (قال أنا خير منه) هذا وجه تكبره وبين وجه الخيرية في الآية الأخرى ، قوله تعالى : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين) قال بعض المفسرين : وذلك مردود بأمور ، منها أن آدم مركب من العناصر الأربع بخلاف إبليس فلا وجه للخيرية ، ومنها أن الله هو الخالق لكل شيء ولا يعلم الفضل إلا هو ، فله أن يفضل من شاء على من يشاء ، ومنها غير ذلك. قوله : (في علم الله) دفع بذلك ما قيل إنه لم يكن كافرا بل كان عابدا وإنما كفر الآن ، ويجاب أيضا بأن كان بمعنى صار.

قوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ) هذه الجملة معطوفة على جملة (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) من عطف قصة على قصة وإنما عطفت عليها لوقوعها بعدها ، فإنه بعد أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وامتناع إبليس منه ، أمر آدم بسكنى الجنة. قوله : (ليعطف عليه) (وَزَوْجُكَ) إن قلت إن فعل الأمر يعمل في الظاهر والمعطوف على الفاعل فاعل فيقتضي عمله في الظاهر ، أجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ، وفصل بالضمير المنفصل لقول ابن مالك :

وإن على ضمير رفع متصل

عطفت فافصل بالضمير المنفصل

قوله : (وكان خلقها) أي الله وقوله : (من ضلعه) أي آدم فلذلك كان كل ذكر ناقصا ضلعا من الجانب الأيسر ، فجهة اليمين ثمانية عشر ، واليسار سبعة عشر ، وقد خلقت بعد دخوله الجنة نام فلما استيقظ وجدها فأراد أن يمد يده إليها فقالت له الملائكة مه يا آدم حتى تؤدي مهرها ، فقال وما مهرها فقالوا ثلاث صلوات أو عشرون صلاة على سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يقال إن شرط الصداق عود منفعته للزوجة ، لأننا نقول ليس المقصود منه حقيقة المهر ، وإنما هو ليظهر قدر محمد لآدم من أول قدم ، إذ لولاه ما تمتع بزوجه ، فهو الواسطة لكل واسطة حتى آدم ، وقوله من ضلعه الأيسر أي وهو القصير ، ووضع الله مكانة لحما من غير أن يحس آدم بذلك ، ولم يجد له ألما ، ولو وجده لما عطف رجل على امرأة ، والنون في قلنا للعظمة ، وقوله : (اسْكُنْ) أي دم على السكنى ، فإنه كان ساكنا فيها قبل خلق حواء ، واستشكل شيخ الإسلام هذه الآية بأنه أتى في هذه الآية بالواو في قوله : (وَكُلا) وفي آية الأعراف بالفاء ، هل لذلك من حكمة أجاب بأن الأمر هنا في هذه الآية كان داخل الجنة ، فلا ترتيب بين السكنى والأكل ، وفي آية الأعراف كان خارجها ، فحسن الترتيب بين السكنى والأكل ا. ه. والحق أن يقال : إن ذلك ظاهر إن دل

٣٢

حجر فيه (حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) بالأكل منها وهي الحنطة أو الكرم أو غيرهما (فَتَكُونا) فتصيرا (مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣٥) العاصين (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) إبليس أذهبهما وفي قراءة فأزالهما نحاهما (عَنْها) أي الجنة بأن قال لهما هل أدلكما على شجرة الخلد وقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين فأكلا منها (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من النعيم (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) إلى الأرض أي أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما (بَعْضُكُمْ) بعض الذرية (لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) من ظلم بعضهم بعضا (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) موضع قرار (وَمَتاعٌ) ما تتمتعون به من نباتها (إِلى حِينٍ) (٣٦) وقت

____________________________________

دليل على اختلاف القصة ولم يوجد فالقصة واحدة ، والأمر في الموضعين ايحتمل أن يكون داخل الجنة أو خارجها ، فعلى الأول معنى اسكن دم على السكنى ، والفاء في آية الأعراف بمعنى الواو ، وعلى الثاني معناه ادخل على سبيل السكنى ، فتكون الواو بمعنى الفاء.

قوله : (رَغَداً) يقال رغد بالضم رغادة من باب ظرف ، ورغد رغدا من باب تعب اتسع عيشه. قوله : (حَيْثُ شِئْتُما) أي في أي مكان أردتماه. قوله : (أو غيرهما) قيل شجر التين أو البلح أو الأرتج ، والأقرب أنها الحنطة ، وفي الحقيقة لا يعلمها إلا الله. قوله : (فَتَكُونا) مسبب عن قوله ولا تقربا وتعبيره بعدم القرب منها كناية عن عدم الأكل ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) فالنهي عن القرب يستلزم النهي عن الفعل بالأولى. قوله : (العاصين) أي الذين تعدوا حدود الله. قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) أتى بالفاء إشارة إلى أن ذلك عقب السكنى ، والشيطان مأخوذ من شاط بمعنى احترق لأنه محروق بالنار ، أو من شطن بمعنى بعد لأنه بعيد عن رحمة الله ، والزلل الزلق وهو العثرة في الطين مثلا فأطلق وأريد لازمه وهو الإذهاب. قوله : (وفي قراءة) أي سبعية لحمزة. قوله : (أي الجنة) ويحتمل أن الضمير عائد على الشجرة ، وعن بمعنى الباء أي أوقعهما في الزلة بسبب أكل الشجرة. قوله : (بأن قال لهما) أي وهو خارج الجنة وهما داخلها لكن أتوا على بابها فقال لهما ذلك ، ويحتمل أنه دخل الجنة على صورة دابة من دوابها وخزنتها غفلوا عنه ، ويحتمل أنه دخلها في فم الحية ، ويحتمل أنه وسوس في الأرض فوصلت وسوسته لهما ، إن قلت إن ذلك ظاهر في حواء لعدم عصمتها وما الحكم في آدم ، أجيب بأنه اجتهد فأخطأ فسمى الله خطأه معصية ، فلم يقع منه صغيرة ولا كبيرة ، وإنما هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين فلم يتعمد المخالفة ، ومن نسب التعمد والعصيان له بمعنى فعل الكبيرة أو الصغيرة فقد كفر ، كما أن من نفى اسم العصيان عنه فقد كفر أيضا لنص الآية.

قوله : (مِمَّا كانا فِيهِ) يحتمل أن ما اسم موصول ، وما بعده صلته ، أو نكرة موصوفة ، وما بعدها صفة ، وقوله من النعيم بيان لما. قوله : (أي أنتما الخ) أشار بذلك إلى حكمة الإتيان بالواو في اهبطوا أي الجمع باعتبار ما اشتملا عليه من الذرية ، ويحتمل أن الأمر لآدم وحواء وإبليس والحية ، فهبط آدم بالهند بمكان يقال له سرنديب ، وحواء بجدة ، وإبليس بالأبلة ، والحية بأصبهان. قوله : (بعض الذرية) أشار بذلك إلى أن العداوة في الذرية لا في الأصول ، ويحتمل أن يكون ذلك في بعض الأصول كالحية وإبليس ، وأفرد عدوا إما مراعاة للفظ بعض أو لأنه يستعمل بلفظ واح د للمثنى والجمع. بقي شيء آخر وهو أنه تقدم لنا أن حواء خلقت داخل الجنة حين القى على آدم النوم ، كيف ذلك مع أن الجنة لا نوم فيها ، ولا

٣٣

انقضاء آجالكم (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) ألهمه إياها وفي قراءة بنصب آدم ورفع كلمات أي جاءه وهي (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية فدعا بها (فَتابَ عَلَيْهِ) قبل توبته (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) على عباده

____________________________________

يخرج أهلها منها ولا تكليف فيها ، والثلاثة قد حصلت. أجيب بأن ذلك في الدخول يوم القيامة ، وأما الدخول الأولى فلا يمتنع فيه شيء من ذلك. قوله : (ألهمه إياها) أي فهم آدم من ربه تلك الكلمات. قوله : (وفي قراءة) أي سبعية لابن كثير. قوله : (بنصب آدم) أي على المفعولية ، وقوله : (ورفع كلمات) أي على الفاعلية فتحصل أن التلقي نسبة تصلح للجانبين ، يقال تلقيت زيدا وتلقاني زيد فالمعنى على القراءة الأولى ، تعلم آدم الكلمات فحفظ بسببها من المهالك ، وعلى الثانية الكلمات تلقت آدم من السقوط في المهاوي إذ لولاها لسقط فهي الدواء له ، وأما إبليس فلم يجعل الله له دواء فالكلمات جاءته بالإسعاف وهو جاءها بالقبول والتسليم ، ومن هنا أن الذاكر لا ينتفع بالذكر ولا ينور باطنه إلا إذا كان الشيخ عارفا وأذنه في ذلك ، والذاكر مشتاقا كتلقي آدم الكلمات. قوله : (وهي ربنا ظلمنا أنفسنا إلخ) مشى المفسر على أن المراد بالكلمات المذكورة في سورة الأعراف وهو أحد أقوال ، ولا يقال إن التلقي كان لآدم فقط والدعاء بها صدر منهما ، لأنه يقال إن الخطاب لآدم والمراد هو معها ، وكم من خطاب في القرآن يقصد به الرجال ، والمراد ما يشمل الرجال والنساء ، وقيل إن المراد بالكلمات سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، وتقدم أن معصية آدم ليست كالمعاصي بل من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ، والحق أن يقال إن ذلك من سر القدر ، فهو منهي عنه ظاهرا لا باطنا ، فإنه في الباطن مأمور بالأولى من قصة الخضر مع موسى وإخوة يوسف معه على أنهم أنبياء ، فإن الله حين قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة كان قبل خلقه ، وهذا الأمر مبرم يستحيل تخلفه ، فلما خلقه وأسكنه الجنة أعلمه بالنهي عن الشجرة صورة فهذا النهي صوري ، وأكله من الشجرة جبري لعلمه أن المصلحة مترتبة على أكله ، وإنما سمي معصية نظرا للنهي الظاهري ، فمن حيث الحقيقة لم يقع منه عصيان ، ومن حيث الشريعة وقعت منه المخالفة ، ومن ذلك قول ابن العربي : لو كنت مكان آدم لأكلت الشجرة بتمامها لما ترتب على أكله من الخير العظيم ، وإن لم يكن من ذلك إلا وجود سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكفى. ومن هذا المقام قول الجبلي :

ولي نكتة غرا هنا سأقولها

وحق لها أن ترعويها المسامع

هي الفرق ما بين الولي وفاسق

تنبه لها فالأمر فيه بدائع

وما هو إلا أنه قبل وقعه

يخبر قلبي بالذي هو واقع

فأجني الذي يقضيه في مرادها

وعيني لها قبل الفعال تطالع

فكنت أرى منها الإرادة قبل ما

أرى الفعل مني والأسير مطاوع

إذا كنت في أمر الشريعة عاصيا

فإني في حكم الحقيقة طائع

قوله : (التَّوَّابُ) أي كثير التوبة ، بمعنى أن العبد كلما أذنب وتاب قبله فهو كثير القبول لتوبة من تاب ، ويسمى العبد توابا بمعنى أنه كلما أذنب ندم واستغفر ولا يصر ، وشرط توبة العبد الندم والإقلاع والعزم على أن لا يعود ، فإن كانت المعصية متعلقة بمخلوق اشترط إما رد المظالم لأهلها أو مسامحتهم له ، فكل من العبد والرب يسمى توابا بالوجه المتقدم ، لكن لا يقال في الرب تائب لأن أسماءه توقيفية ، وقد

٣٤

(الرَّحِيمُ) (٣٧) بهم (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها) من الجنة (جَمِيعاً) كرره ليعطف عليه (فَإِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة (يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) كتاب ورسول (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) فآمن بي وعمل بطاعتي (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٨) في الآخرة بأن يدخلوا الجنة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) كتبنا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٩) ماكثون أبدا لا يفنون ولا يخرجون (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) أولاد يعقوب (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي على

____________________________________

قيل إن آدم لما نزل الأرض مكث ثلثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى ، وقد قيل لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر ، ولو أن دموع داود مع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر. قوله : (قُلْنَا) أتى بنون العظمة لأنها له حقيقة ومن ادعاها غير مولانا قصم. قوله : (اهْبِطُوا) جمع باعتبار الذرية التي في صلب آدم. قوله : (جَمِيعاً) حال من فاعل اهبطوا أي مجتمعين إما في زمان واحد أو في أزمنة متفرقة ، لأن المراد الإشتراك في أصل الفعل ، فإن جاؤوا جميعا لا تستلزم الصحبة بخلاف جاؤوا معا. قوله : (ليعطف عليه) أي فهذا حكمة التكرار ، فالأول أفاد الأمر بالهبوط مع ثبوت العداوة ، والثاني أفاد الأمر بالهبوط والتكاليف ، وترتب السعادة والشقاوة على الإمتثال وعدمه ، فالشيء مع غيره ، غيره في نفسه. قوله : (كتاب ورسول) أي أو رسول فقط ، فالمراد بالهدى مطلق دال على الله ، والمراد أي رسول وأي كتاب من آدم إلى محمد ، والرسول صادق بكونه من الملك أو البشر فيشمل الأمم والأنبياء فتأمل. قوله : (إن الشرطية) أي وفعلها يأتينكم مبني على الفتح لإتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، وجوابه جملة فمن اتبع هداي وجملة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية إذا التقدير ومن لم يتبع هداي وجملة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية إذ التقدير ومن لم يتبع هداي فأولئك أصحاب النار.

قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ذكر سبحانه وتعالى خطاب المكلفين عموما في أول السورة ، ثم ثنى بمبدأ خلق آدم وقصته مع إبليس ، وثلث بذكر بني إسرائيل سواء كانوا في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قبله ، وما يتعلق بهم من هنا إلى (سيقول السفهاء) ، فعدد عليهم نعما عشرة وقبائح عشرة وانتقامات عشرة ، والحكمة في ذكر بني إسرائيل الذين تقدموا قبل رسول الله مع أنهم لم يخاطبوا بالإيمان برسول الله أن من كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعى أنه على قدمهم وأنه متبع لهم وأن أصولهم كانوا على شيء فلذلك تبعوهم ، فبين سبحانه وتعالى النعم التي أنعم الله بها على أصولهم وبين لهم انهم قابلوا تلك النعم بالقبائح وبين أنه أنزل عليهم العفاف ليعتبر من يأتي بعدهم وحكمة تخصيصهم بالخطاب أن السورة أو ما نزل بالمدينة وأهل المدينة كان غالبهم يهود أو هم أصحاب كتاب وشوكة فإذا أسلموا وانقادوا انقاد جميع أتباعهم فلذلك توجه الخطاب لهم وبني منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم لكونه ليس علما ولا صفة لمذكر عاقل ، وبني مضاف وإسرائيل مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه اسم لا ينصرف ، والمانع له من الصرف العلمية والعجمة ، وبني جمع ابن وأصله قيل بنو فهو واوي وقيل بني فهو يأتي ، فعلى الأول هو من البنوة كالأبوة وعلى الثاني هو من البناء ، وإسرائيل قيل معنا عبد الله وقيل القوي بالله لأن إسراقيل معناه عبد أو القوي وإيل معناه الله ، وقيل مأخوذ من الإسراء لأنه أسرى بالليل مهاجرا إلى الله تعالى ، وإسرائيل فيه لغات سبع الأولى بالألف ثم همزة ثم ياء ثم لام وبها جاءت القراءات السبع ، الثانية بقلب الهمزة ياء بعد الألف ، الثالثة بإسقاط الياء مع بقاء الهمزة والألف ، الرابعة والخامسة بإسقاط الألف والياء مع بقاء الهمزة مفتوحة ومكسورة ،

٣٥

آبائكم من الإنجاء من فرعون ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وغير ذلك بأن تشكروها بطاعتي (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) الذي عهدته إليكم من الإيمان بمحمد (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الذي عهدت إليكم من الثواب عليه بدخول الجنة (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠) خافون في ترك الوفاء به دون غيري (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) من القرآن (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) من التوراة بموافقته له في التوحيد والنبوة (وَلا تَكُونُوا

____________________________________

السادسة بإسقاط الهمزة والياء مع بقاء الألف ، السابعة إبدال اللام الأخيرة بالنون مع بقاء الألف والهمزة والياء وجمعه أساريل وأسارلة وأسارل ، قوله : (أولاد يعقوب) أي ابن اسحق ابن ابراهيم الخليل.

قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) الذكر بكسر الدال وضمها بمعنى واحد ، وهو ما كان باللسان أو بالجنان وقال الكسائي ما كان باللسان فهو بالكسر وما كان بالقلب فهو بالضم وضد الأول صمت والثاني نسيان والنعمة اسم لما ينعم به وهي شبيهة بفعل بمعنى مفعول ، والمراد بها الجمع لأنها اسم جنس ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) وقوله : (الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) جملة الصلة والموصول صفة للنعمة والعائد محذوف تقديره أنعمتها بالنصب على نزع الخافض ولا يقدر أنعمت بها لئلا يلزم حذف العائد من غير وجود شرطه لقول ابن مالك : كذا الذي جر بما الموصول جر. وليس الموصول مجرورا ، فتأمل ، قوله : (وغير ذلك) أي من بقية العشرة وهي العفو عنهم وغفران خطاياهم ، وإتيان موسى الكتاب والحجر الذي تفجرت منه اثنتا عشرة عينا والبعث بعد الموت وإنزال المن والسلوى عليهم.

تنبيه : بقي ذكر قبائحهم العشرة وهي : قولهم سمعنا وعصينا ، واتخاذهم العجل ، وقولهم أرنا الله جهرة وتبديل القول الذي أمروا به ، وقولهم لن نصبر على طعام واحد ، وتحريف الكلم وتوليهم عن الحق بعد ظهوره وقسوة قلوبهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق. وأما عقوباتهم العشرة فهي ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، والغضب من الله ، وإعطاء الجزية ، وأمرهم بقتل أنفسهم ، ومسخهم قردة وخنازير ، وإنزال الرجز عليهم من السماء ، وأخذ الصاعقة لهم ، وتحريم طيبات أحلت لهم ، وهذ العشرات في أصولهم ، وقد وبخ الله المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعشرة أخرى : كتمانهم أمر محمد ، وتحريف الكلم ، وقولهم هذا من عند الله ، وقتلهم أنفسهم ، وإخراجهم فريقا من ديارهم ، وحرصهم على الحياة ، وعداوتهم لجبريل ، واتباعهم السحر ، وقولهم نحن ابناء الله ، وقولهم يد الله مغلولة ، قوله تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا). قوله : (بأن تشكروها) أي تصرفوها فيما يرضي ربكم.

وقوله : (وَأَوْفُوا) يقال أوفى ووفى مشددا ومخففا. قوله : (من الإيمان بمحمد) أي في قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) الآيات. قوله : (بدخول الجنة) أي في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) الآيات وقوله تعالى : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الآيات. قوله : (دون غيري) أخذ الحصر من تقديم المعمول ، وإياي مفعول المحذوف يفسره قوله فارهبون ، وهذا في الحصر أبلغ من (إياك نعبد) لأن اياك معمول لنعبد ، وأما هنا فهو معمول لمحذوف لإستيفاء الفعل المذكور معموله وهو الياء المذكورة أو المحذوفة تخفيفا فهو في قوة تكرار الفعل مرتين. قوله : (وَآمِنُوا) من عطف المسبب على السبب. قوله : (من القرآن) بيان لما قوله : (مُصَدِّقاً) حال من الضمير المحذوف في أنزلت أو من ما. قوله : (بموافقته) الباء سسة ولا يلزم من موافقته للتوراة أنه لم يزد عليها بل القرآن جمع الكتب

٣٦

أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) من أهل الكتاب لأن خلفكم تبع لكم فإثمهم عليكم (وَلا تَشْتَرُوا) تستبدلوا (بِآياتِي) التي في كتابكم من نعت محمد (ثَمَناً قَلِيلاً) عوضا يسيرا من الدنيا أي لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (٤١) خافون في ذلك دون غيري (وَلا تَلْبِسُوا) تخلطوا (الْحَقَ) الذي أنزل عليكم (بِالْباطِلِ) الذي تفترونه (وَ) لا (تَكْتُمُوا الْحَقَ) نعت محمد (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤٢) أنه حق (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) صلوا مع المصلين محمد وأصحابه. ونزل في علمائهم وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين اثبتوا على دين محمد فإنه حق (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) بالإيمان بمحمد (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) تتركونها فلا تأمرونها به

____________________________________

السماوية وزاد عليها. قوله : (من أهل الكتاب) هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره إن أول بعثة النبي في مكة وأول كافر أهلها ولم يأت للمدينة إلا بعد ثلاث عشرة سنة فليس كفار أهل الكتاب بأول كافر أجاب المفسر بأن المراد الذي في أيديهم الكتب بالنسبة لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. فليس المراد الأولية الحقيقية بل النسبية. قوله : (فإثمهم عليكم) أي لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملها إلى يوم القيامة. قوله : (تستبدلوا) حول المفسر العبارة لأن الشراء ليس حقيقيا بل هو مطلق استبدال ومعاوضة. قوله : (من نعت محمد) أي أوصافه وأخلاقه التي ذكرت في التوراة والإنجيل. قوله : (من سفلتكم) أي عامتكم. قوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) يقال فيه ما قيل في (وإياي فارهبون).

قوله : (وَلا تَلْبِسُوا) من لبس بالفتح من باب ضرب وأما اللبس وهو سلك الثوب في العنق فمن باب تعب قوله : (الذي تفترونه) أي من تغيير صفات محمد. قوله : (صلوا مع المصلين) أشار بذلك إلى أنه من باب تسمية الكل باسم جزئه ، وآثر الركوع على غيره لأنه لم يكن في شريعتهم ، فكأنه قال : صلوا الصلاة ذات الركوع جماعة. قوله : (ونزل في علمائهم) فاعل نزل جملة أتأمرون الناس والضمير في علمائهم عائد على اليهود ، ومثل ذلك يقال في علماء المسلمين لأن كل آية وردت في الكفار تجر ذيلها على عصاة المؤمنين ، فالحاصل أن العالم إن كان كافرا فهو معذب من قبل عباد الوثن لأن وزر من كفر في عنقه ، وأما إن كان مسلما ولكنه فرط في العمل بالعلم فهو أقبح العصاة عذابا ، هذا هو الحق. فقوله :

وعالم بعلمه لن يعملن

معذب من قبل عباد الوثن

محمول على العالم الكافر كعلماء اليهود والنصارى. قوله : (لأقربائهم المسلمين) إنما فضحوا معهم ليأسهم من دنياهم.

قوله : (أَتَأْمُرُونَ) سيأتي للمفسر أن الهمزة للإستفهام الإنكاري ، ومحط الإستفهام قوله وتنسون أنفسكم ، أي لا يليق منكم الأمر بالمعروف والبر لغيركم مع كونكم ناسين أنفسكم قال الشاعر :

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

إلى أن قال :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال الشاعر أيضا :

أتنهى الناس ولا تنتهي

متى تلحق القوم يا لكع

ويا حجر السن ما تستحي

تسن الحديد ولا تقطع

٣٧

(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤) سوء فعلكم فترجعون ، فجملة النسيان محل الإستفهام الإنكاري (وَاسْتَعِينُوا) اطلبوا المعونة على أموركم (بِالصَّبْرِ) الحبس للنفس على ما تكره (وَالصَّلاةِ) أفردها بالذكر تعظيما لشأنها وفي الحديث كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة وقيل الخطاب لليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة فأمروا بالصبر وهو الصوم لأنه يكسر الشهوة والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر (وَإِنَّها) أي الصلاة (لَكَبِيرَةٌ) ثقيلة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٤٥) الساكنين إلى الطاعة (الَّذِينَ

____________________________________

قوله : (بالإيمان بمحمد) الأخصر حذف بالإيمان ، فالبر اسم جامع لكل خير كما أن الإثم اسم جامع لكل شر. ولما كان الإيمان بمحمد يستلزم كل خير فسره به. وسيأتي تفسيره في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) الآية. قوله : (تتركونها) أشار بذلك إلى أنه من باب استعمال اللازم في الملزوم ، أو السبب في المسبب ، لأنه يلزم من نسيان الشيء تركه ، وسبب الترك النسيان ، والحكمة في ارتكاب المجاز الإشارة إلى أن الشأن أن العالم لا يقع منه ذلك إلا نسيانا. قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قال بعض المفسرين إن الفاء في مثل هذا الموضع مؤخرة من تقديم ، وجملة تعقلون معطوفة على جملة تتلون ، والمستفهم عنه ما بعد الفاء ، التقدير فأي شيء لا تعقلونه ، وقال الزمخشري إن الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، التقدير أتفعلون ذلك فلا تعقلون.

قوله : (وَاسْتَعِينُوا) قيل إن هذا الخطاب للمسلمين ، وقيل لليهود فعلى الأول تكون الجملة معترضة بين أجزاء القصة ، وعلى الثاني لا اعتراض. قوله : (الحبس للنفس على ما تكره) أي من المصائب والطاعات وترك المعاصي ، فأقسام الصبر ثلاثة : صبر على المصيبة ، وصبر على دوام الطاعة ، وصبر عن المعاصي فلا يفعلها ، والكامل من تحقق بجميعها. قوله : (أفردها بالذكر) أي مع أنها داخلة في الصبر فذكر الخاص بعد العام لا بد له من نكتة ، أجاب عن ذلك بقوله تعظيما لشأنها. قوله : (تعظيما لشأنها) أي من حيث إن الصلاة جامعة لأنواع للعبادة من تسبيح وتهليل وتكبير وذكر وصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وركوع وسجود ، وفي الحديث لما أسرى به ورأى الملائكة منهم القائم لا غير ، والراكع لا غير ، وهكذا تمنى عبادة تجمع عبادات الملائكة فأعطي الصلاة. قوله : (إذا حزبه) بالباء والنون ومعناها همه وشق عليه ، وهذا يؤيد أن الخطاب لمحمد وأصحابه. قوله : (الشره) أي الشهوة فالمانع لهم من الإيمان بمحمد الشهوات والكبر ، ولكن قد يقال إن الكافر لا يصح منه صوم ولا صلاة حتى يدخل في الإسلام ، فما معنى أمرهم بذلك ، أجيب بأن المراد أمرهم بعد الإسلام. قوله : (لأنه يكسر الشهوة) أي يضعفها. قوله : (تورث الخشوع) هو خضوع النفس وسكونها تحت المقادير قوله : (ثقيلة) قوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) الآية.

قوله : (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) استثناء مفرغ مضمن معنى النفي ، أي لا تسهل إلا على الخاشعين. قوله : (الساكنين) أي الماثلين المحبين للطاعة الذين اطمأنت قلوبهم لها ، وفي الحديث أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وفي الحديث وجعلت قرة عيني في الصلاة ، هكذا مشى المفسر على أن الضمير عائد على الصلاة ، ويحتمل عوده على الإستعانة بالصبر والصلاة ، ويحتمل عوده على ما تقدم من قوله :

٣٨

يَظُنُّونَ) يوقنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بالبعث (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦) في الآخرة فيجازيهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) بالشكر عليها بطاعتي (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) أي آباءكم (عَلَى الْعالَمِينَ) (٤٧) عالمي زمانهم (وَاتَّقُوا) خافوا (يَوْماً لا تَجْزِي) فيه (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) هو يوم القيامة (وَلا يُقْبَلُ) بالتاء والياء (مِنْها شَفاعَةٌ) أي ليس لها شفاعة فتقبل فمالنا من

____________________________________

(اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) ، أي وإن ما أمر به بنو إسرائيل لكبيرة. قوله : (يوقنون) أشار بذلك إلى أن الظن يستعمل بمعنى اليقين ، وقد يستعمل اليقين بمعنى الظن ، قال تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أي ظننتموهن. قوله : (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي يعتقدون أنهم يبعثون ويرون ربهم ، فقوله بالبعث الباء سببية. قوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي صائرون فيحاسبهم على أعمالهم فيدخلهم إما الجنة أو النار ، وبهذا التفسير فلا تكرار بين قوله : (أنهم ملاقوا ربهم) ، وبين قوله : (وأنهم إليه راجعون).

قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) كرر هذا النداء لطول الفصل ، بناء على أن الخطاب في (واستعينوا بالصبر والصلاة) لغير بني إسرائيل ولتعداد النعم عليهم وللتأكيد لبلادتهم ، فإن الذكي يفهم بالمثال الواحد ما لا يفهمه الغبي بألف شاهد. قوله : (بالشكر عليها) أي باتباع محمد والدخول في دينه ، ولا ينفعهم الإنتساب لغيره مع وجوده. قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) في تأويل مصدر معطوف على نعمتي أي اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم. قوله : (أي آباؤكم) اشارة إلى أنه على حذف مضاف ، فالفضل ثابت لآبائهم المتقدمين لا لمن وجد في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن المصر منهم على الكفر من همج الهمج. قوله : (عالمي زمانهم) دفع بذلك ما يقال إن المراد بالعالمين ما سوى الله ، فيقتضى أن بني إسرائيل أفضل مما سواهم من الأولين والآخرين ، فأجاب بأن المراد بالعالمين عالمو زمانهم وهذا هو المرتضى ، وهناك أجوبة أخر منها أن المراد بآبائهم الأنبياء وهو مخدوش بأن ابراهيم أفضل من أنبياء بني إسرائيل ، ومحمدا أفضل الخلق جميعا ، ومنها أن المراد تفضيل أمم بني إسرائل على جميع الأمم وهو مخدوش أيضا بأن أمة محمد أفضل الأمم جميعا باتفاق لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، ولذلك طلب موسى أن يكون منهم فلم يتم إلا الأول.

قوله : (وَاتَّقُوا) أصله أوتقوا قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء ، وقوله يوما مفعول به وليس ظرفا لأن الخوف واقع على اليوم لا في اليوم. قوله : (لا تَجْزِي) (فيه) صفة ليوما وقدر المفسر قوله فيه إشارة للرابط ، وحذف لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. قوله : (عَنْ نَفْسٍ) متعلق بتجزي ونفس فاعل تجزي وهو بمعنى تغني أي لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة شيئا من عذاب الله ، وأما قوله يحشر المرء مع من أحب أي إذا كان المحب مؤمنا ، والأصول لا تنفع الفروع إلا إذا كان مع الفروع إيمان ، قال تعالى : (بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ). قوله : (بالتاء الياء) قراءتان سبعيتان فعلى التاء الأمر ظاهر ، وعلى الياء لأنه مجازي التأنيث ، فيصح تذكير الفعل وتأنيثه. قوله : (مِنْها شَفاعَةٌ) أي النفس المؤمنة لا تقبل شفاعتها في النفس الكافرة. قوله : (وليس لها شفاعة فتقبل) أي لم يؤذن لها في أصل الشفاعة حتى يتسبب عنها القبول ، وليس المراد أنها تشفع ولكن لا يقبل منها تلك الشفاعة لقوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ)

٣٩

شافعين (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) فداء (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٨) يمنعون من عذاب الله (وَ) اذكروا (إِذْ نَجَّيْناكُمْ) أي آباءكم والخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا بما أنعم على آبائهم تذكيرا لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ) يذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أشده ، والجملة حال من ضمير أنجيناكم (يُذَبِّحُونَ) بيان لما قبله (أَبْناءَكُمْ) المولودين (وَيَسْتَحْيُونَ) يستبقون (نِساءَكُمْ) لقول بعض الكهنة له إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سببا

____________________________________

وخير ما فسرته بالوارد كما أشار لذلك المفسر. قوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) الضمير عائد على النفس الكافرة ، والعدل بالفتح الفداء ، ويطلق على المماثل في القدر لا في الجنس ، وأما المماثل في الجنس فبالكسر. قوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) جمع باعتبار أفراد النفس ، لأن المراد بها جنس الأنفس ، وأتى بالجملة اسمية للتأكيد ، والمعنى ليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله.

قوله : (إِذْ نَجَّيْناكُمْ) معطوف على نعمتي مسلط عليه اذكروا الأول أي اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم ووقت إنجائي لكم ، والمقصود ذكر الإنجاء أو معطوف على جملة اذكروا ، فقول المفسر اذكروا ليس تقديرا للعامل الأول بل هو عامل مماثلة ، وهكذا يقال فيما يأتي ما فيه إذ من جميع ما يتعلق ببني إسرائيل. قوله : (أي آبائكم) ويصح أن النجاة لهم إذ لو غرقت أصولهم ما وجدوا ، والنجاة مأخوذة من النجوة وهي الأرض المرتفعة ، والوضع عليها ليسلم من الآفات يسمى إنجاء لهم ثم أطلق على كل خلوص من ضيق إلى سعة ، فالمعنى خلصناهم من الهلكات. قوله : (بما أنعم على آبائهم) أي وعدد عليهم نعما عشرة نهايتها (وإذ استسقى).

قوله : (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) لا يرد أن الآل لا يضاف إلا لذي شرف لأن فرعون ذو شرف دنيوي ، والمراد أعوانه وكانوا يوم الغرق ألف ألف وسبعمائة ألف غير المتخلفين بمصر ، وكانت الخيل الدهم سبعين ألفا ، وبنو إسرائيل كانوا ستمائة ألف وعشرين ألفا وعند دخول يعقوب مصر كانوا سبعين نفسا ذكورا وإناثا ، وبين موسى ويعقوب أربعمائة سنة ، فكمل فيها ذلك العدد مع كثرة قتل الأطفال وموت الشيوخ ، فسبحان الخلاق العظيم ، وفرعون اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، وفرعون لقب له من الفرعنة وهي العتو والتمرد ، ومدة ادعائه الألوهية أربعمائة سنة ، وكان يأكل كل يوم فصيلا ، وكان لا يتغوط إلا كل أربعين يوما مرة ، وفرعون اسم لكل من ملك العمالقة ، كما أن قيصر اسم لمن ملك الروم ، وكسرى لمن ملك الفرس ، والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وتبع لمن ملك اليمن ، وخافان لمن ملك الترك. قوله : (يذيقونكم) أي على سبيل الدوام. قوله : (سُوءَ الْعَذابِ) اسم جامع لكل ما يعم النفس كالشر وهو ضد الخير ، إن قلت إن العذاب شيء أجاب المفسر بأن المراد أشده. قوله : (بيان لما قبله) أي لبعض ما قبله فإنهم يعذبون بأنواع العذاب ، فكانوا يخدمون أقوياء بني إسرائيل في قطع الحجر والحديد والبناء وضرب الطوب والنجارة وغير ذلك وكان نساؤهم يغزلن الكتان لهم وينسجنه ، وضعفاؤهم يضربون عليهم الجزية ، وإنما قلنا لبعض ما قبله لأن ذبح الأولاد وما ذكر معه ليس هو عين أشد العذاب بل بعضه بدليل سورة إبراهيم فإنها بالعطف وهو يقتضي المغايرة.

قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ) أصله يستحييون بياءين الأولى عين الكلمة والثانية لامها استثقلت الكسرة

٤٠