حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

وأتباعكم بذلك (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١) عليكم وعليهم (فَمَنْ تَوَلَّى) أعرض (بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٨٢) (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) بالياء أي المتولون والتاء (وَلَهُ أَسْلَمَ) انقاد (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً) بلا إباء (وَكَرْهاً) بالسيف ومعاينة ما يلجىء إليه (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣) بالتاء والياء والهمزة للإنكار (قُلْ) لهم يا محمد (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أولاده (وَما أُوتِيَ

____________________________________

قوله : (قالُوا أَقْرَرْنا) جواب عن سؤال تقديره ماذا قالوا حينئذ؟ وثمرة المعاهدة على محمد مع علم الله أنه لا يأتي في زمن نبي من الأنبياء الثواب على العزم بالاتباع ، والعقاب على العزم بعدم الإيمان ، فجميع الأنبياء يثابون على الإيمان بمحمد ، ومن عزم على عدم الإيمان به لو ظهر عوقب. قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) إن قلت إن الأنبياء معصومون من ذلك ، أجيب بأن الشرطية لا تقتضي الوقوع أو خطاب لهم ، والمراد أممهم. قوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) هذا رد على اليهود والنصارى ، حيث ادعى كل دين إبراهيم واختصموا إلى النبي ، فقال النبي : كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم ، والهمزة داخلة على محذوف تقديره أعموا فغير دين الله يبغون؟

قوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ) جملة حالية. قوله : (طَوْعاً) راجع لجميع أهل السماء وبعض أهل الأرض ، وقوله : (وَكَرْهاً) راجع لبعض أهل الأرض فطوعا وكرها مصدران في موضع الحال ، والتقدير طائعين وكارهين. قوله : (ومعاينة ما يلجأ إليه) أي إلى الإسلام كنطق الجبل وإدراك فرعون وقومه الغرق ، قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) الآية. قوله : (والهمزة للإنكار) أي التوبيخي وقدم المفعول لأن المقصود إنكاره.

قوله : (قُلْ آمَنَّا) لما تقدم أن الله أمر الأنبياء بالإيمان بمحمد على أرجح التفسيرين ، ذكر هنا أمره بالإيمان وأفرد في قوله قل ، وجمع في قوله آمنا ، لأن النبي هو المخاطب بالوحي والتبليغ فقط ، وأما الإيمان فمخاطب به هو وأتباعه. قوله : (بِاللهِ) أي صدقنا بأن الله متصف بكل كمال ، ومستحيل عليه كل نقص. قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي وهو القرآن ، وعبر هنا بعلى ، وفي سورة البقرة بإلى ، لأن مادة النزول تتعدى بهما ، غير أنه بالنظر للمبدأ يعدى بعلى كما هنا لأن المخاطب بذلك هو الموحى إليه وهو محمد والأنبياء بعده ، وبالنظر للمنتهى كما في البقرة بعد بإلى لأن المأمور بذلك أمم.

قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ) إنما صرح بأسماء هؤلاء لأن أهل الكتاب يعترفون بكتبهم ونبوتهم. قوله : (وَإِسْماعِيلَ) الخ ، وما أنزل على هؤلاء من الوحي ، وكانوا يتعبدون بشرع إبراهيم بوحي من الله ، وإسماعيل أبو العرب ، وإسحاق أبو العجم ، ويعقوب بن إسحاق ، والأسباط أولاد يعقوب وكانوا اثني عشر رجلا ، يوسف وإخوته ، ويؤخذ من الآية أنهم أنبياء يجب الإيمان بهم وهو المعتمد ، وما يأتي في سورة يوسف من الوقائع العظيمة الموهمة عدم عصمتهم ، فمؤول بأنهم مأمورون بذلك باطنا من حضرة الله ، كأفعال الخضر عليه‌السلام ، قال تعالى في حقه : (وما فعلته عن أمري) ويقال فيهم ما قيل فيه بالأولى ، فإن المعتمد أن الخضر ليس بنبي ، والأسباط أنبياء على المعتمد ، وموافقة ظاهر الشرع إنما تلزم الرسول المشرع فتأمل. قوله : (أولاده) أي أولاد يعقوب فهم أسباط لإبراهيم ،

٢٢١

مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بالتصديق والتكذيب (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٨٤) مخلصون في العبادة ، ونزل فيمن ارتد ولحق بالكفار (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥) لمصيره إلى النار مؤبدة عليه (كَيْفَ) أي لا (يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا) أي وشهادتهم (أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ) قد (جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الحجج الظاهرات على صدق النبي (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٨٦) أي الكافرين (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٨٧) (خالِدِينَ فِيها) أي اللعنة أو النار المدلول بها عليها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٨٨) يمهلون (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا

____________________________________

بمعنى أولاد بنيه لا بالمعنى المصطلح عليه وهو أولاد البنت.

قوله : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) أي من التوراة والإنجيل ومعجزاتهما ، قوله : (وَالنَّبِيُّونَ) عطف عام على خاص ، فيجب الإيمان بالنبيين عموما إجمالا في الإجمالي ، وتفصيلا في التفصيلي ، فيجب الإيمان تفصيلا بخمسة وعشرين نبيا ثمانية عشر في الأنعام ، ومحمد وآدم وهود وصالح وشعيب وإدريس وذو الكفل ، من أنكر أي واحد منهم بعد علمه فقد كفر ، ويجب الإيمان الإجمالي بما عدا هؤلاء ، ولا يعلم عدتهم إلا الله. قوله : (بالتصديق والتكذيب) أي بالتصديق لبعض والتكذيب للبعض الآخر ، كما فعلت اليهود والنصارى. قوله : (مخلصون في العبادة) أشار بذلك إلى أن المراد بالإسلام هنا حقيقته وهو الانقياد الظاهري. قوله : (فيمن ارتد) أي وهم اثنا عشر أسلموا بالمدينة ، ولحقوا بأهل الكفر في مكة ، منهم الحرث بن سويد الأنصاري ولكنه أسلم بعد ذلك.

قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) أعلم أن جمهور السبعة على الفك لوجود الفاصل الحكمي وهو الياء التي حذفها الجازم ، لأن المحذوف لعله كالثابت ، وقرأ أبو عمرو في أحد وجهيه بالإدغام نظرا للصورة الظاهرية ، ونظيره في القرآن كل مثلين بينهما فاصل حكمي ففيه الوجهان نحو (يخل لكم وجه أبيكم) (وإن يك كاذبا) ومن اسم شرط ، ويبتغ فعله ، وغير مفعول ، ودينا تمييز لغير أو بدل منه أو مفعول وغير حال لأنه نعت نكرة قدم عليها. قوله : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) أي ولا يقر عليه قوله : (كَيْفَ) استفهام إنكاري بمعنى النفي كما يشير له المفسر بقوله : (أي) (يَهْدِي) وقيل إنه استبعادي أي فهداهم مستبعد ، قال العارف البوصيري :

وإذا البينات لم تغن شيئا

فالتماس الهدى بهن عناء

قوله : (أي وشهادتهم) أشار بذلك إلى أن الفعل مؤول باسم الذي هو الإيمان. قوله : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي حتى أهل النار في النار ، قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها). قوله : (أي اللعنة) أي ومن لوازمها الخلود في النار ، قوله : (المدلول بها) أي اللعنة ، وقوله : (عليها) أي على النار ، قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) أي كالحرث بن سويد فإنه لما ارتد وذهب لمكة مع المفار وأراد الله له الهدى بعث لأخ له في المدينة وكان مسلما يقول له أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أني إذا اتيت هل أقبل ، فأخبر رسول الله بذلك فنزلت هذه الآية ، فبعثها له بمكة فأتى طائعا وأسلم وحسن إسلامه ، وهذا شروع في تقسيم الكفار إلى ثلاثة أقسام : قسم منهم كفر ولم يعد ، وقسم كفر ثم عاد للإسلام ظاهرا فقط ، وقسم كفر ثم أسلم ظاهرا وباطنا ،

٢٢٢

مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) عملهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم (رَحِيمٌ) (٨٩) بهم ، ونزل في اليهود (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعيسى (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بموسى (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) إذا غرغروا وماتوا كفارا (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (٩٠) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ) مقدار ما يملؤها (ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) أدخل الفاء في خبر إن لشبه الذين بالشرط وإيذانا بتسبب عدم القبول عن الموت على الكفر (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١) مانعين منه (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) أي ثوابه وهو الجنة (حَتَّى تُنْفِقُوا) تصدقوا (مِمَّا تُحِبُّونَ) من أموالكم (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢) فيجازي عليه. ونزل لما قال اليهود إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان لا يأكل لحوم الإبل وألبابها (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا) حلالا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) يعقوب (عَلى نَفْسِهِ) وهو الإبل لما حصل له عرق النسا بالفتح والقصر فنذر إن شفي لا يأكلها فحرم عليه (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) وذلك

____________________________________

قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي الكفر ، قوله : (رَحِيمٌ) (بهم) أي حيث قبل توبتهم ، قوله : (بعيسى) أي والإنجيل ، وقوله : (بموسى) أي والتوراة ، وقوله : (بمحمد) أي والقرآن ، قوله : (إذا غرغروا) أشار بذلك إلى أن الآية مقيدة بذلك وهذا في الكافر ، وأما العاصي فتقبل منه عند الغرغرة ، قوله : (أو ماتوا كفّارا) أي بأن تابوا عند معاينة العذاب. قوله : (مِلْءُ الْأَرْضِ) أي مشرقها ومغربها ، قوله : (ذَهَباً) تمييز وخصه بالذكر لأنه أحسن الأموال وأغلاها ، قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) أي هذا إذا تصدق به ، بل ولو افتداه أهله به بالصدقة لا تنفعه منه أو من غيره لإجله.

قوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) لما ذكر أن صدقة الكافر لا تنفعه ، ذكر هنا أن صدقة المسلم وجميع طاعاته تنفعه ، قوله : (أي ثوابه) أي البر أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف. قوله : (تصدقوا) بحذف إحدى التاءين على التخفيف ، أو بدون حذف على التشديد بقلب إحدى التاءين صادا أو بادغامها في الصاد. قوله : (من أموالكم) أي وغيرها من الأنفس والجاه ، قوله : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) هذه الجملة في محل الجواب ، أي فحيث كان عليما بذلك لا يضيع من جزائه شيء. وقد أشار لذلك المفسر بقوله فيجازون عليه ، قوله : (ونزل لما قال اليهود الخ) أي سبب نزولها قول اليهود ما ذكر. قوله : (وكان لا يأكل لحوم الإبل) أي زعموا أن ما ذكر حرام على إبراهيم ، فلو كنت على ملته لما كان ذلك حلا لك ، فرد الله عليهم زعمهم.

قوله : (كُلُّ الطَّعامِ) أي الذي هو حلال في شرعنا ، فما هو حلال في شرعنا كان حلالا في شرعه.

قوله : (حلالا) أشار بذلك إلى أنه يقال حل وحلال وكذلك حرم وحرام ، قوله : (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) معناه بالعربية عبد الله وهو اسمه ويعقوب لقبه. قوله : (عرق النسا) أي وهو عرق ينفر في بطن الفخذ يعجز صاحبه ، وورد في دوائه عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يؤتى بكبش عربي ويذبح وتؤخذ أليته وتقطع ثم تسلى بالنار ، ثم يؤخذ ذلك ويقسم ثلاثة أجزاء ويشرب كل جزء على الريق ، قال أنس : فما زلت أصف ذلك لمن نزل به فشفي به أكثر من مائة ، قوله : (فنذر إن شفي لا يأكلها) أي وكان لحمها أحب المأكول إليه ، ولبنها أحب المشروب إليه ، ومثل هذا النذر لا يلزم في شرعنا لأن النذر إنما يلزم به ما ندب ، وترك

٢٢٣

بعد إبراهيم ، ولم تكن على عهده حراما كما زعموا (قُلْ) لهم (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) ليتبين صدق قولكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣) فيه فبهتوا ولم يأتوا بها قال تعالى (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٩٤) المتجاوزون الحق إلى الباطل (قُلْ صَدَقَ اللهُ) في هذا كجميع ما أخبر به (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) التي أنا عليها (حَنِيفاً) مائلا عن كل دين إلى الإسلام (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٥) ونزل لما قالوا قبلتنا قبل قبلتكم (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ) متعبدا (لِلنَّاسِ) في الأرض (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) بالباء لغة في مكة سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها بناه الملائكة قبل خلق آدم ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين ، وفي الحديث «أنه أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السموات والأرض زبدة بيضاء فدحيت الأرض من تحته» (مُبارَكاً) حال من الذي أي ذا بركة (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٩٦) لأنه قبلتهم (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) منها (مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت فأثر

____________________________________

ما ذكر ليس مندوبا ، قوله : (فحرم عليه) قيل حرمت أيضا على أولاده تبعا له ، وقيل هو حرمها على نفسه وعلى ذريته.

قوله : (مِنْ قَبْلِ) ظرف متعلق بحلا مع ملاحظة الإستثناء ، ويحتمل أنه متعلق بقوله إلا ما حرم قوله : (وذلك بعد إبراهيم) أي بألف سنة ، قوله : (صدق قولكم) أي أخباركم عنه بأن ما ذكر حرام عليه. قوله : (فبهتوا) من باب علم أو نصر أو كرم أو زهي ، والمعنى دهشوا وتحيروا وانقطعت حجتهم. قوله : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي اختلقه من عند نفسه ، قوله : (أن التحريم) أي لخصوص لحوم الإبل والبانها. قوله : (قُلْ صَدَقَ اللهُ) أي ثبت وتقرر صدقه وظهر كذبكم. قوله : (كجميع ما أخبر به) أي كصدقة في جميع أخباره التي جاءت بها الرسل. قوله : (التي أنا عليها) أي وجميع المؤمنين.

قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض لهم بأنهم هم المشركون ، وبيان أن النبي على ملة إبراهيم من حيث السهولة وأصول الدين. قوله : (ونزل لما قالوا إلخ) أي حين حولت القبلة قالوا لم تحولت عن قبلتنا مع كونها أقدم وأفضل. قوله : (لغة في مكة) أي فأبدلت الميم باء ، قوله : (لأنها تبك أعناق الجبابرة) أي وسميت مكة لأنها من الملك وهو الإزالة ، فإنها تزيل الذنوب وتمحوها ، قوله : (بناه الملائكة) ورد أن الله خلق البيت المعمور ، وكانت ملائكة السماء تطوف به ، اشتاقت ملائكة الأرض لبيت مثله ، فأمرهم ببناء بيت محاذ للبيت الذي في السماء وكان من درة بيضاء وطافت به قبل آدم الفي سنة. قوله : (ووضع بعده) أي بعد بنائه ظاهره أنه وضع بعد بناء الملائكة بأربعين سنة ، فيكون من وضع الملائكة ويكون متقدما على آدم وليس كذلك ، بل الحق أن بيت المقدس وضعه آدم بعد بنائه هو البيت الحرام بأربعين سنة. قوله : (زبدة) بالتحريك رغوة بيضاء. قوله : (ذا بركة) أي من حيث الحج به وتكفير السيئات لمن دخله بذل وانكسار. قوله : (لأنه قبلتهم) أي يتوجهون إليه عند الصلاة ، وعموم

٢٢٤

قدماه فيه وبقي إلى الآن مع تطاول الزمان وتداول الأيدي عليه ومنها تضعيف الحسنات فيه وأن الطير لا يعلوه (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) لا يتعرض إليه بقتل أو ظلم أو غير ذلك (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) واجب بكسر الحاء وفتحها لغتان في مصدر حج بمعنى قصد ويبدل من الناس (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) طريقا فسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزاد والراحلة رواخ الحاكم وغيره (وَمَنْ كَفَرَ) بالله أو بما فرضه من الحج (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧) الأنس والجن والملائكة وعن عبادتهم (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) القرآن (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٩٨) فيجازيكم عليه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ) تصرفون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي دينه (مَنْ آمَنَ) بتكذيبكم النبي وكتم نعمته (تَبْغُونَها) أي تطلبون السبيل (عِوَجاً) مصدر بمعنى معوجة أي مائلة عن

____________________________________

الآية يشهد بأنه قبلة حتى للجمادات ، ولذلك ترى الأشجار عند انحنائها تكون لجهته. قوله : (وبقي إلى الآن) أشار بذلك إلى أن في الحجر آيتين غوص إبراهيم فيه وصعوده به ونزوله به ، وكونه باقيا إلى الآن. قوله : (تضعيف الحسنات فيه) أي فالصلاة فيه بمائة ألف صلاة ، قوله : (وأن الطير لا يعلوه) أي لا يمر على ظهره إلا إذا كان بالطير مرض فيمر ليشتفي بهوائه. قوله : (بقتل) أي ولو قصاصا ، هذا ما كان في الجاهلية فكان الرجل يقتل ويدخله فلا يتعرض له ما دام فيه ، وأما بعد الإسلام فعند مالك والشافعي أن قتل اقتص منه فيه ، وعند أبي حنيفة لا يقتص منه فيه ما دام فيه وإنما يضيق عليه حتى يخرج ، وهذا هو الأمر في الدنيا ، وأما في الآخرة فبتكفير السيئات ومضاعفة الحسنات.

قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) خبر مقدم و (حِجُّ الْبَيْتِ) مبتدأ مؤخر ، والحج لغة القصد ، واصطلاحا عبادة ، يلزمها طواف بالبيت سبعا وسعيا بين الصفة والمروة كذلك ووقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة على وجه مخصوص ، وهو فرض عين في العمر مرة ، وواجب كفاية كل عام إن قصد إقامة الموسم ، ومندوب إن لم يقصد ذلك. قوله : (لغتان) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (ويبدل من الناس) أي بدل بعض من كل ، والعائد محذوف تقديره منهم. قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أي على سبيل العادة ، فلا يجب بطيران ولا خطوة ، لكن لو فعل سقط الفرض ، وأما المشي فيجب به عند مالك إن قدر عليه.

قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) (بالله) أي أنكر وحدانيته أو جحد شيئا من أحكامه. قوله : (أو بما فرضه) تفسير ثان. قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي فلا تنفعه طاعتهم ولا تضره معاصيهم قال تعالى : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى ، وخصهم بالذكر لأن كفرهم محض عناد قوله : (القرآن) أو وما ألحق به من المعجزات الباهرة. قوله : (عَلى ما تَعْمَلُونَ) أي من الكفر. قوله : (تصرفون) أي تمنعون. قوله : (أي دينه) أي المعتدل.

قوله : (مَنْ آمَنَ) يحتمل أن المعنى من آمن بالفعل تسعون في رده عن الإيمان إلى الكفر ويحتمل أن المراد من أراد الإيمان تصدوه عن كونه يؤمن بالله. قوله : (تَبْغُونَها) الجملة حالية من الواو في تصدون. قوله : (عِوَجاً) هو بكسر العين في المعاني ويفتحها في الأجسام ، يقال اعوجت الطريق

٢٢٥

الحق (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) عالمون بأن الدين المرضي القيم هو دين الإسلام كما في كتابكم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩) من الكفر والتكذيب وإنما يؤخركم إلى وقتكم ليجازيكم. ونزل لما مر بعض اليهود على الأوس والخزرج فغاظه تآلفهم فذكرهم بما كان بينهم في الجاهلية من الفتن فتشاجروا وكادوا يقتتلون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) (١٠٠) (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) استفهام تعجيب وتوبيخ (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ) يتمسك (بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٠١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) بأن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى فقالوا يا

____________________________________

واعوجت الحائط ، بمعنى قام بالأول العوج بالكسر ، وبالثاني للعوج بالفتح ، والمعنى تتركون السبيل المعتدلة وتطلبون السبيل المعوجة. قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قوله : (مصدر) أي حال من ضمير تبغونها. قوله : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) الجملة حالية من الواو في تبغونها. قوله : (كما في كتابكم) المراد به الجنس الصادق بالتوراة والأنجيل.

قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) دفع بذلك توهم أن الله حيث أمهلهم فهو غافل عنهم ، وقال تعالى أيضا : (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) الآيات. قوله : (من الكفر إلخ) بيان لما. قوله : (ونزل لما مر بعض اليهود) أي واسمه شاس. قوله : (فغاظه تآلفهم) أي توددهم ومحبة بعضهم لبعض ، بعد أن كان ما كان بينهم من الشحناء والبغضاء. قوله : (فذكرهم) ورد أنه كان معه شاب يهودي فقال له اذهب إلى بني قيلة هؤلاء وقل لهم أتذكرون يوم بعاث ، واذكر لهم ما تناشدوه بينهم من الأشعار التي فيها الهجو لبعضهم بعضا ، وكان يوم بعاث عظيما في اقتتال الأوس والخزرج ، وكان الغلبة فيه للخزرج ، فذهب ففعل كما أمره ، فقالوا السلاح السلاح ، فنزل جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات إلى قوله : (لعلكم تهتدون) فخرج النبي مع بعض اصحابه فوجدهم في الصحراء مصطفين للقتال ، فقال يا معشر المسلمين أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع عنكم إصر الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمك الله بالإسلام وقطع عنكم إصر الجاهلية وألف بين قلوبكم ، وقرأ عليهم الآيات ، فعلموا أنها نزعة من عدوهم ، فألقوا السلاح وصار يعانق بعضهم بعضا ، قال جابر بن عبد الله : ما رأيت يوما أشأم منه ولا أسر منه ، كان أوله شؤما وآخره سرورا ، قوله : (فَرِيقاً) هو شاس واتباعه ، قوله : (يَرُدُّوكُمْ) أي يصيروكم فالكاف مفعول أول ، وكافرين مفعول ثان فرد تنصب مفعولين ، كقول الشاعر :

فرد وجوههن البيض سودا

ورد شعورهن السود بيضا

قوله : (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) هاتان الجملتان حالان والمعنى كيف يحصل منكم الكفر والحال أنكم تتلى عليكم آيات الله أي القرآن وفيكم رسوله محمد فهذا الأمر مستبعد أن يكون بعد تمام الهدى والكفر والضلال. قوله : (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي دين قيم لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام. قوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) صفة المصدر محذوف أي تقوى حق تقاته. قوله : (بأن يطاع إلخ) تصوير للتقوى حق التقوى ، وهذه أخلاق الأنبياء والمرسلين لعصمتهم وتكون لخواص عباد الله الذين على

٢٢٦

رسول الله ومن يقوى على هذا فنسخ بقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢) موحدون (وَاعْتَصِمُوا) تمسكوا (بِحَبْلِ اللهِ) أي دينه (جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) بعد الإسلام (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) إنعامه (عَلَيْكُمْ) يا معشر الأوس والخزرج (إِذْ كُنْتُمْ) قبل الإسلام (أَعْداءً فَأَلَّفَ) جمع (بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام (فَأَصْبَحْتُمْ) فصرتم (بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) في الدين والولاية (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا) طرف (حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا كفارا (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالإيمان (كَذلِكَ) كما بين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣) (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) الإسلام (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

____________________________________

قدم الأنبياء ولذلك قال بعض العارفين :

ولو خطرت لي في سواك إرادة

على خاطري يوما حكمت بردتي

ولكن ليس معنى ذلك أنه يكون كافرا يستحق الخلود في النار ، بل هذا لسان محب عاشق وردته نقصه عن مرتبة حبه إلى مرتبة أدنى منها في الحب ، وأما القرآن فنزل على أخلاق العوام لتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين ، فنسخ الآية من حيث التكليف بهذا المعنى على سبيل الوجوب ، وأما الرقي لتلك المراتب فمما يتنافس فيه المتنافسون على سبيل التطوع والتقرب فتدبر. قوله : (فنسخ بقوله إلخ) أي فيقال في قوله : (بأن يطاع) بحسب الطاقة ، وقوله : (فلا يعصى) يعني أصلا ، وكذا قوله : (ويشكر ولا يكفر ويذكر فلا ينسى) ويناسب الناسخة قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) وقيل إن الآية ليست منسوخة بل آية (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) مبينة للمراد منها. قوله : (وَلا تَمُوتُنَ) أي يا بني قيلة الأوس والخزرج ، قوله : (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي فلا يكن منكم موت على حالة دون حالة الإسلام ، والمعنى دوموا على الإسلام إلى الممات ، ولا تغيروا ولا تبدلوا لئلا يصادفكم الموت في حالة التغيير ، قال المفسر في بعض كتبه وما شاع من تفسير قوله تعالى : (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) متزوجون فهو باطل لا أصل له ، ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي ، وخص حالة الموت بذلك لأن ثمرة الأعمال تظهر في تلك الحالة والمدار عليها.

قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) أي حين الدخول في الإسلام. وقوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) أي فدوموا على الإجتماع ولا يكن منكم تفرقة. قوله : (أي دينه) أي أو القرآن ، وفي الكلام استعارة حيث شبه الدين أو القرآن بالحبل ، واستعير اسم المشبه به وهو الحبل للمشبه ، وهو الدين أو القرآن على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، والجامع بينهما التوصل للمقصود في كل ، وإضافته للفظ الجلالة قرينة مانعة والاعتصام ترشيح ، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث شبه الوثوق بالإعتصام ، واستعار الإعتصام للوثوق ، واشتق من الإعتصام اعتصموا بمعنى ثقوا ، قوله : (إِخْواناً) خبر ثان لأصبحتم ، وقوله : (والولاية) أي النصرة أي ينصر بعضكم بعضا. قوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي يزيدكم بيانا ما دام رسول الله فيكم ، قوله : (تَهْتَدُونَ) أي تدومون على الهداية وتزيدون فيها.

قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) يحتمل أنها ناقصة ، وأمة اسمها ويدعون خبرها ، ومنكم إما ظرف لغو متعلق بتكن أو حال من أمة أو من الواو في يدعون أو تامة وأمة فاعلها ، وجملة يدعون صفة لأمة

٢٢٧

الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ) الداعون الآمرون الناهون (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٤) الفائزون ومن للتبعيض لأن ما ذكر فرض كفاية لا يلزم كل أمة ولا يليق بكل أحد كالجاهل وقيل زائدة أي لتكونوا أمة (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) عن دينهم (وَاخْتَلَفُوا) فيه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) وهم اليهود والنصارى (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٥) (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أي يوم القيامة

____________________________________

ومنكم حال أو متعلق بتكن قوله : (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) مفعوله هو وما بعده من يأمرون وينهون محذوف تقديره الناس. قوله : (الإسلام) إنما قصره عليه لأنه رأس الأمور ولأجل قوله بعد (ويأمرون بالمعروف). قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) المراد به ما طلبه الشارع ، إما على سبيل الوجوب كالصلوات الخمس وبر الوالدين وصلة الرحم ، أو الندب كالنوافل وصدقات التطوع. وقوله : (عَنِ الْمُنْكَرِ) المراد به ما نهى عنه الشارع ، إما عن سبيل الحرمة كالزنا والقتل والسرقة أو على سبيل الكراهة. قوله : (ومن للتبعيض) أي بناء على أن المخاطب بفرض الكفاية بعض غير معين أو معين في علم الله. قوله : (كالجاهل) أي فلا يأمر ولا ينهى ، لأنه ربما أمر بمنكر أو نهى عن معروف لعدم علمه بذلك. قوله : (وقيل زائدة) أي بناء على أن المخاطب بفرض الكفاية الجميع ويسقط بفعل بعضهم. قوله : (أي لتكونوا أمة) أي دعاة للخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر. قوله : (وهم اليهود والنصارى) أي فافترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة واحدة ناجية والباقون في النار ، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة والباقون في النار ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذه الأمة ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة واحدة ناجية والباقون في النار ، وهذا التفرق من بعد الصحابة ، فالناجي من كان على قدم النبي وأصحابه ، ويختلف في كل زمن بالقلة والكثرة ، ففي الصدر الأول كانوا ظاهرين أقوياء ، وكلما تقادم الزمان ازدادوا في الإختفاء ، لكن لا تنقطع الفرقة الناجية ما دام القرآن موجودا. قال الله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) الآية ، فلو لا أن أهل القرآن الذين يتدبرونه موجودون لما بقي القرآن ، إن قلت إن دعاءهم مستجاب فهلا دعوا باصلاح العالم مثلا؟ أجيب بأنهم لا يلهمون الدعاء بغير ما في علم الله ، فإذا علم الله أن العالم لا يصلح مثلا فلا يلهمون ولا يوفقون للدعاء باصلاحه بل هم أشد الناس صبرا وتحملا للمكاره ورضا بالقضاء والقدر وفي ذلك قلت :

أرح قلبك العاني وسلم له القضا

تفز بالرضا فالأصل لا يتحول

علامة أهل الله فينا ثلاثة

أمان وتسليم وصبر مجمل

والتفرق المذموم إنما هو في العقائد لا في الفروع فإنه رحمة لعباد الله. قوله : (وَأُولئِكَ) مبتدأ وعذابان مبتدأ ثان ولهم متعلق بمحذوف خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول. وقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) ظرف متعلق بما تعلق به الجار والمجرور تقديره وأولئك الذين تفرقوا في العقائد عذاب عظيم مستقر لهم يوم تبيض وجوه إلخ. يعني أنه يكون ويحصل ذلك العذاب حينئذ ، ويحتمل أن قوله : (يَوْمَ) مفعول المحذوف تقديره اذكر يوم تبيض وجوه. وبياض الوجه إما حقيقة فقد ورد أن وجه المؤمن يكون أضوأ من الشمس في رابعة النهار ، وإما كناية عن الفرج والسرور ومثله يقال في اسوداد الوجه ، وذلك حين تطاير الصحف ، فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه ويقول : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) الآية والكافر

٢٢٨

(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) وهم الكافرون فيلقون في النار ويقال لهم توبيخا (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) يوم أخذ الميثاق (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (١٠٦) (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) وهم المؤمنون (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي جنته (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١٠٧) (تِلْكَ) أي هذه الآيات (آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) يا محمد (بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (١٠٨) بأن يأخذهم بغير جرم (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ) تصير (الْأُمُورُ) (١٠٩) (كُنْتُمْ) يا أمة محمد في علم الله تعالى (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) أظهرت (لِلنَّاسِ

____________________________________

يأخذ كتابه بشماله ويقول : (يا ليتني لم أوت كتابيه) الآية.

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) تفصيل لما أجمل أولا ، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إن اردت تفصيل ما تقدم فأقول لك أما الذين أسودت وجوههم وقدم في التفصيل هذا القسم مبادرة بالتحذير ، وليكون في الكلام حسن ابتداء وحسن اختتام ، فابتدأ الآية بالبشرى وختمها كذلك. قوله : (فيلقون في النار) أي والقاؤهم مختلف ، فمنهم من يؤخذ بالكلاليب ، ومنهم من يؤخذ بالنواصي والأقدام ، وعلى كل حال فهم يسحبون في النار على وجوههم ، وهذه الجملة خبر المبتدأ قدره المفسر ، وذلك لأن الجزاء في المقابل هو الكون في الجنة ، فالمناسب هنا أن يكون هو الكون في النار ، وتقدير القول هنا لأجل أن يكون حذف الفاء في جواب أما مقيسا. قوله : (ويقال لهم) يحتمل أن ذلك من كلام الله لهم ، ويحتمل أن ذلك على لسان الملائكة. قوله : (يوم أخذ الميثاق) دفع بذلك ما يقال إن الآية ظاهرة فيمن ارتد بعد إيمانه لا فيمن كان كافرا واستمر على كفره ، وأجيب أيضا بأن هذا يحمل على اليهود والنصارى ، فإنهم كانوا مؤمنين برسول الله قبل البعثة ثم كفروا به بعدها ، وأجيب أيضا بأن قوله : (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي بعد ظهور الأدلة التي توجب الإيمان.

قوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) فيه استعارة بالكناية حيث شبه العذاب بشيء مر يذاق ، وطوي ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الإذاقة فاثباتها تخييل. قوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) الباء سببية ، فالكفر سبب في إذاقة العذاب ، بخلاف الطاعات فلم يجعلها الله سببا لدخول الجنة ، بل دخول الجنة بمحض فضل الله ، وإنما كان جزاء الكفار الخلود في النار ، لأن الكفر إنكار لكمالات الله وهي لا تتناهى ، فكان جزاؤه عذابا لا يتناهى ، وذلك يتحقق الخلود ، بخلاف معصية المؤمن. قوله : (أي جنته) أي ففيه إطلاق الحال وإرادة المحل ، فالجنة محل هبوط الرحمة والرحمة ناشئة عن ذات الله فقولهم اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك ، فالمراد بالمستقر محل هبوط الرحمة وهي الجنة لا ذات الله ، قوله : (بِالْحَقِ) أي الصدق. قوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) أي فحيث انتفت إرادة الظلم فالظلم منفي بالأولى ، لأن تعلق الإرادة في التعقل سابق على الفعل. قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي فيتصرف في ملكه كيف شاء. قوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي فلا مفر منه ولا محيص عنه قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) هذا مدح عظيم وتفضيل من الله لهذه الأمة المحمدية ، وفيه إعلام بتثبيتهم على تلك الأوصاف العظيمة ، واعلم أن المخاطب مشافهة الصحابة وثبتت لهم هذه الصفات المرضية فمدحهم الله على ذلك ، ومن تمسك بأوصافهم وأخلاقهم كان ممدوحا مثلهم ، وهذا المدح يدل على أن أوصافهم مرضية لله ، فشرفهم الله بشرف نبيهم ، قال صاحب البردة :

٢٢٩

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ) الإيمان (خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كعبد الله بن سلام رضي الله عنه وأصحابه (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠) الكافرون (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) أي اليهود يا معشر المسلمين بشيء (إِلَّا أَذىً) باللسان من سب ووعيد

____________________________________

لما دعا الله داعيا لطاعته

بأشرف الرسل كنا أكرم الأمم

وقال في الهمزية :

ولك الأمة التي غبطتها

بك لما أتيتها الأنبياء

ومدحهم الله سابقا بقوله : (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) الآية ، وبالجملة فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الخلق على الإطلاق ، وأمته أفضل الأمم على الإطلاق ، وكان فعل ناقص يفيد الإتصاف في الماضي ، لكن المراد هنا الدوام على حد (وكان الله غفورا رحيما) والتاء اسمها وخير خبرها ، وقوله : (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) صفة لأمة. قوله : (في علم الله) أي وقيل في اللوح المحفوظ ، وقيل في كتب الأمم السابقة. قوله : (لِلنَّاسِ) إنما عبر باللام دون من ، إشارة إلى أن هذه الأمة نفع ورحمة لنفسها وللخلق عموما. في الدنيا بالدعاء لجميع الأمم ، وفي الآخرة بالشهادة للأنبياء. قوله : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) إما خبر بعد خبر لكان ، والمقصود منه تفصيل ما أجمل أولا ، أو صفة لمعنى الخيرية ، أو استئناف بياني واقع في جواب سؤال مقدر تقديره ما وجه الخيرية ، وراعى في الخطاب لفظ كنتم ، ولو راعى الخبر لقال يأمرون ، لأن الإسم الظاهر من قبيل الغيبة ، واختيرت صيغة الخطاب تشريفا لهم وإشارة إلى رفع الحجب عنهم ، حيث خاطبهم ولم يخبر عنهم وأنهم مقربون من حضرة الله. إن قلت إن الإيمان هو الأصل فلم لم يقدم؟ أجيب بأنه غير مخصوص به ، وإنما الفضل الثابت لهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذه الأمة لها شبه بالأنبياء من حيث إنها مهتدية في نفسها هادية لغيرها. قوله : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى.

قوله : (خَيْراً لَهُمْ) أي من الإيمان بموسى وعيسى في زمانهما ، أي أن من آمن بمحمد أعلى وأفضل من أدرك موسى وعيسى وآمن به لدخوله في هذا المدح العظيم ، أو المعنى خيرا لهم مما هم عليه في زعمهم ، وإن كان في الواقع ما هم عليه ليس بخير ، أو ذلك تهكم بهم ، أو أن أفعل التفضيل ليس على بابه أي لكان هو الخير لهم. قوله : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) استئناف بياني واقع في جواب سؤال مقدر نشأ من قوله : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) كأن قائلا قال وهل آمن منهم أحد أو لا فأجاب بذلك. قوله : (كعبد الله بن سلام) أي من اليهود وادخلت الكاف النجاشي وغيره من النصارى. قوله : (الكافرون) أي وسماهم فاسقين لأنهم فسقوا في دينهم ، فليسوا عدولا فيه. قوله : (إِلَّا أَذىً) قيل استثناء منقطع وهو المتبادر من المفسر ، والمعنى لا يصل لكم منهم ضرر بشيء أصلا لكن يقع منهم أذى باللسان ، قال تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) ففي الحقيقة لا ضرر في ذلك ، وقيل الإستثناء متصل ، والمعنى لن يصل لكم منهم ضرر في حال من الأحوال ، إلا في حال الضرر اللساني. قوله : (من سب) أي للنبي وأصحابه ، وقوله : (ووعيد) أي للمؤمنين بقولهم إنا نغلبهم ، وستكون العزة لنا والذلة لهم.

٢٣٠

(وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) منهزمين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١١١) عليكم بل لكم النصر عليهم (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) حيثما وجدوا فلا عزلهم ولا اعتصام (إِلَّا) كائنين (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) المؤمنين وهو عهدهم إليهم بالأمان على أداء الجزية أي لا عصمة لهم غير ذلك (وَباؤُ) رجعوا (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ) تأكيد (بِما عَصَوْا) أمر الله (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (١١٢) يتجاوزون الحلال إلى الحرام (لَيْسُوا) أي أهل الكتاب (سَواءً) مستوين (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) مستقيمة ثابتة على الحق كعبد الله بن سلام رضي الله عنه وأصحابه (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) أي في ساعاته (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (١١٣) يصلون حال (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ

____________________________________

قوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ليس معطوفا على جواب الشرط ، وإلا لأوهم أنهم قد ينصرون من غير قتال ، بل هو مستأنف ليفيد سلب النصرة عنهم في جميع الأحوال. قوله : (أَيْنَما ثُقِفُوا) أين اسم شرط وثقفوا فعل الشرط وجوابه محذوف لدلالة ضربت عليهم الذلة عليه ، التقدير أينما ثقفوا تضرب عليهم الذلة. قوله : (فلا عز لهم) أي ولذا لم يوجد منهم سلطان أصلا فالذل قد علاهم للمؤمنين والنصارى لقوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا). قوله : (ولا اعتصام) معطوف على قوله فلا عز لهم ، وقدر ذلك ليرتب قوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) عليه إشارة إلى أنه مستثنى من محذوف. قوله : (بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) أي وهو الإيمان. قوله : (أي لا عصمة لهم غير ذلك) أي لكن إن كان اعتصامهم بحبل من الله ارتفع عنهم الذل وعصموا نفوسهم وأموالهم ، وإن كان من الناس فقد عصموا نفوسهم وأموالهم وعاشوا في الذل. قوله : (ذلك) أي المذكور من ضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله. قوله : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ) أي فقتلوا أول النهار سبعين نبيا وآخره أربعمائة عابد. إن قلت : إن القاتل للأنبياء أجدادهم فلم أوخذوا بفعل أصولهم أجيب بأن رضا الفروع بقتل أصولهم الأنبياء صيره كأنه واقع منهم ، فالقتل وقع من أصولهم بالفعل ومنهم بالعزم والتصميم فهم الآن لو تمكنوا من النبي والمسلمين ما أبقوا واحدا. قوله : (بِغَيْرِ حَقٍ) أي حتى في اعتقادهم ، فاعتقادهم عدم الحقيقة مطابق للواقع غير أنه عناد منهم. قوله : (تأكيد) أي فالعصيان والإعتداء هو عين الكفر وقتل الأنبياء ، ويحتمل أنه ليس تأكيدا بل هو علة للعلة ، أي فعلة ضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله كفرهم وقتلهم الأنبياء ، وعلة الكفر والقتل عصيانهم أمر الله وتجاوزهم الحد.

قوله : (لَيْسُوا سَواءً) هذه الجملة راجعة لجميع أهل الكتاب أي هم غير مستوين في العقيدة ، بل منهم من هو على حق ومنهم من هو على باطل. قوله : (مستوين) دفع بذلك ما يقال إن سواء خبر عن الواو في ليسوا فكان حقه أن يجمع مطابقة له ، فأجاب بأن سواء مصدر من التسوية بمعنى مستوين. قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ) هذا كالتفصيل لقوله ليسوا سواء. قوله : (كعبد الله بن سلام وأصحابه) أي من اليهود ، وكالنجاشي وأربعين من نصارى نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثلاثة من الروم ، كجماعة من الأنصار كأسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن سلمة وصرمة ابن أنس ، كانوا يتعبدون بما يعرفون من الشرائع القديمة ، فما بعث النبي صدقوه ونصروه. قوله : (آناءَ اللَّيْلِ) إما جمع أنى كعصا أو أنى كظبي أو أنى كحمل أو أنو كجرو. قوله : (أي في ساعاته) أي اللغوية وهي دقائقه ولحظاته ،

٢٣١

الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٤) ومنهم من ليسوا كذلك وليسوا من الصالحين (وَما يَفْعَلُوا) بالتاء أيتها الأمة وبالياء أي الأمة القائمة (مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) بالوجهين أي تعدموا ثوابه بل تجازون عليه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (١١٥) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ) تدفع (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذابه (شَيْئاً) وخصهما بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١٦) (مَثَلُ) صفة (ما يُنْفِقُونَ) أي الكفار (فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) في عداوة النبي أو صدقة ونحوها (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) حر أو برد شديد (أَصابَتْ حَرْثَ) زرع (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية (فَأَهْلَكَتْهُ) فلم ينتفعوا به فكذلك نفقاتهم ذاهبة لا ينتفعون بها (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بضياع نفقاتهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٧) بالكفر الموجب لضياعها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) أصفياء

____________________________________

قال تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ). قوله : (يصلون) سمى الصلاة سجودا لأنه أشرف أجزائها ، وقوله : (حال) أي من قوله : (يَتْلُونَ) أي يقرؤون القرآن في حال صلاتهم.

قوله : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي يصدقون بأن الله متصف بكل كمال مستحيل عليه كل نقص ، وقوله : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي وما فيه من النعيم والعقاب فيصدقون بأنه حق ، قوله : (وَيَأْمُرُونَ) مفعوله هو وينهون محذوف تقديره الناس. قوله : (وَيُسارِعُونَ) أي يبادرون بامتثال أمر الله ، إن قلت إن العجلة مذمومة ، ففي الحديث العجلة من الشيطان إلا في أمور ، أجيب : بأن معنى المسارعة أنه إذا تعارض حق لله وحظ لنفسه بادر لحق الله وترك حظه ، وأما العجلة فهي المبادرة للشيء مطلقا كأن يبادر للصلاة قبل وقتها ، أو في الصلاة بأن لا يتقن ركوعها ولا سجودها ، فإن ذلك مذموم إلا في أمور ، فهي مسارعة لا عجل كالتوبة وتقديم الطعام للضيف وتجهيز الميت وزواج البكر والصلاة في أول وقتها. قوله : (ومنهم من ليسوا كذلك) قدر ذلك إشارة إلى أن في الآية حذف المقابل. قوله : (وبالياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (مِنْ خَيْرٍ) أي قليل أو كثير ، قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ). قوله : (بالوجهين) أي التاء والياء. قوله : (بل تجازون عليه) أي في الآخرة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) قيل نزلت في قريظة وبني النضير ، وقيل في مشركي العرب ، وقيل فيما هو أعم وهو الأقرب. قوله : (شَيْئاً) أي قليلا كان أو كثيرا. قوله : (يدفع عن نفسه) أي في الدنيا.

قوله : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) يحتمل أن ما اسم موصول وينفقون صلتها والعائد محذوف ، ويحتمل أنها مصدرية تسبك مع ما بعدها بمصدر تقدير الأول مثل المال الذي ينفقونه ، وتقدير الثاني مثل إنفاقهم. قوله : (في عداوة النبي) أي في مثل حروبه ، وقوله : (أو صدقة) أي على فقرائهم أو فقراء المسلمين. قوله : (ونحوها) أي كصلة الرحم ومواساة الفقراء.

قوله : (كَمَثَلِ رِيحٍ) أي كمثل مهلك ريح فالكلام على حذف مضاف. قوله : (حر) أي ويسمى بالسموم وقوله : (أو برد شديد) أي ويسمى بالزمهرير. قوله : (أَصابَتْ) أي تلك الريح قوله : (أي زرع) سماه حرثا لأنه يحرث. قوله : (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) هذا وصف المشبه به. قوله :

٢٣٢

تطلعونهم على سركم (مِنْ دُونِكُمْ) أي غيركم من اليهود والنصارى والمنافقين (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) نصب بنزع الخافض أي لا يقصرون لكم في الفساد (وَدُّوا) تمنوا (ما عَنِتُّمْ) أي عنتكم وهو شدة الضرر (قَدْ بَدَتِ) ظهرت (الْبَغْضاءُ) العداوة لكم (مِنْ أَفْواهِهِمْ) بالوقيعة فيكم واطلاع المشركين على سركم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من العداوة (أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) على عداوتهم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (١١٨) ذلك فلا توالوهم (ها أَنْتُمْ) للتنبيه يا (أُولاءِ) المؤمنين (تُحِبُّونَهُمْ) لقرابتهم منكم وصداقتهم (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لمخالفتهم لكم في الدين (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي بالكتب كلها ولا يؤمنون بكتابكم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) أطراف الأصابع (مِنَ الْغَيْظِ) شدة الغضب لما يرون من ائتلافكم ويعبر عن شدة الغضب بعض الأنامل مجازا وإن لم يكن ثم عض (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أي ابقوا عليه إلى الموت فلن تروا ما يسركم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١١٩) بما في القلوب ومنه ما يضمره هؤلاء (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) تصبكم (حَسَنَةٌ) نعمة كنصر وغنيمة (تَسُؤْهُمْ) تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) كهزيمة وجدب (يَفْرَحُوا بِها) وجملة الشرط متصلة بالشرط قبل وما بينهما اعتراض والمعنى أنهم متناهون في عداوتكم فلم توالونهم فاجتنبوهم (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم (وَتَتَّقُوا) الله في موالاتهم وغيرها (لا يَضُرُّكُمْ) بكسر الضاد وسكون الراء وضمها وتشديدها (كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) بالياء والتاء (مُحِيطٌ) (١٢٠) عالم فيجازيهم به (وَ) اذكر يا محمد (إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) من المدينة (تُبَوِّئُ) تنزل (الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ) مراكز يقفون فيها (لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ)

____________________________________

(وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) هذا في جانب المشبه فلا تكرار.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزلت في قوم من المؤمنين كان لهم أقارب من المنافقين والكفار وكانوا يواصلونهم. قوله : (أصفياء) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة ، حيث شبه الأصفياء ببطانة الثوب الملتصقة به ، واستعير اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية ، والجامع شدة الالتصاق على حد الناس دثار والأنصار شعار. قوله : (أي لا يقصرون في الفساد) أي فليس عندهم تقصير في ذلك بل هو شأنهم. قوله : (ما عَنِتُّمْ) ما مصدرية تسبك بمصدر أي ودوا عنتكم بمعنى تعبكم ومشقتكم. قوله : (بالوقيعة فيكم) أي في أعراضكم بالغيبة وغيرها. قوله : (فلا توالوهم) أشار بذلك إلى أن جواب الشرط محذوف. قوله : (بِالْكِتابِ) أي جنسه ، وقوله : (ولا يؤمنون بكتابكم) أي القرآن. قوله : (وَإِذا خَلَوْا) أي خلا بعضهم ببعض. قوله : (عَلَيْكُمُ) أي من أجلكم.

قوله : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أي مصاحبين له وهو دعاء عليهم بذلك. قوله : (وجدب) هو ضد الخصب. قوله : (وجملة الشرط) أي وهي إن تمسكم إلخ وقوله : (بالشرط) وهو قوله : (وَإِذا لَقُوكُمْ) وقوله : (وما بينهما) أي وهو قوله : (قُلْ مُوتُوا) الآية. قوله : (بكسر الضاد) أي فهما قراءتان سبعيتان ، الأولى من ضار يضير ، والثانية من ضر يضر ، والفعل من كليهما مجزوم جوابا للشرط ، وجزمه على الأولى ظاهر ، وعلى الثانية بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الإتباع. قوله : (كَيْدُهُمْ) الكيد احتيال الشخص ليقع غيره في مكروه. قوله : (بالياء) أي وقد اتفق عليها العشرة ، وقوله : (والتاء) أي وهي شاذة ، فكان على المفسر أن ينبه على شذوذها ، كأن يقول : وقرىء

٢٣٣

لأقوالكم (عَلِيمٌ) (١٢١) بأحوالكم وهو يوم أحد خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف أو إلا خمسين رجلا والمشركون ثلاثة آلاف ونزل بالشعب يوم السبت سابع شوال سنة ثلاث من الهجرة وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفوفهم وأجلس جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير بسفح الجبل وقال انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ولا تبرحوا غلبنا أو نصرنا (إِذْ) بدل من إذ قبله (هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ) بنو سلمة وبنو حارثة جناحا العسكر (أَنْ تَفْشَلا) تجبنا عن القتال وترجعا لما رجع عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وقال علام نقتل أنفسنا وأولادنا وقال لأبي جابر السلمي القائل له أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم لو نعلم قتالا لاتبعناكم فثبتهما الله ولم ينصرفا

____________________________________

بالتاء كما هو عادته.

قوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ) جمهور المفسرين على أن هذه الآية متعلقة بغزوة أحد ، وقيل بغزوة بدر ، وقيل بغزوة الأحزاب ، والصحيح الأول ، ولذا مشى المفسر عليه. قوله : (مِنْ أَهْلِكَ) أي من بيت أهلك وهي زوجته عائشة ، وكان قدوم جيش الكفار يوم الأربعاء رابع شوال وأميرهم إذا ذاك أبو سفيان فجمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار والمهاجرين وشاورهم في الخروج لهم أو المكث في المدينة ينتظرونهم ، فأشار عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين هو وجماعة من الأنصار بعدم الخروج فإن أبوا قاتلوهم الرجال والنساء ، وأشار جماعة بالخروج ، فدخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزله ولبس لأمته وخرج فقال هلموا إلى الخروج ، فقالوا يا رسول الله ما لنا رأي معك ، فقال ما من نبي يلبس لأمته ويرجع حتى يحكم الله له بين عدوه ، وكان قد رأى في المنام بقرا ودرعا حصينا وضع يده فيه وثلما في ذبابة سيفه ، فقالوا ما أولته فقال أما البقر فخير ، وأما الدرع الحصين فهي المدينة ، وأما الثلم في السيف فهزيمة ، فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأصحابه بعد صلاة الجمعة ، فلما أصبحوا جعل الجيش خمسة أقسام ، جناحان ومقدم وساقة ووسط ، وأنزل كلا في منزلته ، وأمرهم أن يثبتوا مكانهم ولا يتحولوا ، وأخبرهم أنه بمجرد ملاقاة الصفوف تحصل الهزيمة للكفار ، فلما التقى الصفان ولى عبد الله بن أبي بن سلول هو وجماعته الثلثمائة وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، ولم يبق إلا ستمائة وخمسون ، فهزم الصحابة الكفار أولا واشتغلوا بالغنيمة ، فنزع الله من قلوب الكفار الرعب فكروا عليهم مرة واحدة ، ففر المسلمون ما عدا النبي وبعض الصحابة ، فبعد ذلك اجتمع المسلمون للقتال ، فقتل من كل سبعون وكان العزة لله ورسوله. قوله : (وهو يوم أحد) أي وهو قول جمهور المفسرين وهو المعتمد. قوله : (أو إلا خمسين) أي فهما قولان. قوله : (سابع شوال) وقيل كان في نصفه فيكون قدوم الكفار يوم اثني عشر منه. قوله : (وعسكره) بالجر معطوف على الضمير المجرور في ظهره أي وجعل ظهر عسكره. قوله : (وأجلس جيشا من الرماة) أي وهم المسلمون بالساقة. قوله : (وقال انضحوا) أي فرقوا من النضح وهو الرش ، والمعنى فرقوا الأعداء عنا بالنبل. قوله : (ولا تبرحوا) هذا في الحقيقة خطاب وأمر للجميع. قوله : (هَمَّتْ طائِفَتانِ) أي أرادت ولما كان الهم بالمعصية لا يكتب مدحهم الله بقوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) وأما بالطاعة فيكتب ، وأما العزم فيكتب خيرا أو شرا ، وما دون ذلك من مراتب القصد لا يكتب أصلا لا خيرا ولا شرا. قال بعضهم :

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا

فخاطر فحديث النفس فاستمعا

٢٣٤

(وَاللهُ وَلِيُّهُما) ناصرهما (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢) ليثقوا به دون غيره. ونزل لما هزموا تذكيرا لهم بنعمة الله (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) موضع بين مكة والمدينة (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) بقلة العدد والسلاح (فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢٣) نعمه (إِذْ) ظرف لنصركم (تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) توعدهم تطمينا (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ) يعينكم (رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (١٢٤) بالتخفيف والتشديد (بَلى) يكفيكم ذلك وفي الأنفال بألف لأنه أمدهم أولا بها ثم صارت ثلاثة ثم صارت خمسة كما قال تعالى (إِنْ تَصْبِرُوا) على لقاء العدو (وَتَتَّقُوا) الله في المخالفة (وَيَأْتُوكُمْ) أي المشركون (مِنْ فَوْرِهِمْ) وقتهم (هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ

____________________________________

يليه هم فعزم كلها رفعت

سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

قوله : (بنو سلمة) أي وهم من الخزرج ، وقوله : (وبنو حارثة) أي وهم من الأوس. قوله : (وأصحابه) أي وكانوا ثلثمائة. قوله : (علام نقتل أنفسنا وأولادنا) أي لأي شيء نقتل قوله : (وقال) أي عبد الله بن أبي ومقول القول قوله : (لو نعلم قتالا إلخ). قوله : (القائل له) صفة لأبي جابر. قوله : (أنشدكم الله) أي أحلفكم بالله ، وقوله : (في نبيكم وأنفسكم) أي في حفظهما قوله : (فثبتهما الله) أي الطائفتين بعد أن حصلت لهما التفرقة أولا ، وشج وجه رسول الله وكسرت رباعيته وضرب نيفا وسبعين ضربة ما بين سهم وسيف ، وطلحة بن عبيد الله أحد العشرة يلقاها عن رسول الله ، وحينئذ نادى إبليس والمنافقون في الناس إن محمدا قد مات ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في محل منخفض فأراد الصعود ليراه المسلمون فلم ينهض ، فحمله طلحة على ظهره وقد كان على المصطفى درعان ، فما رآه المسلمون فرحوا وصاروا يأتون إليه من كل فج كالناقة الغائب عنها ولدها إذا رأته ، فحصل الثبات والنصر وباتت الهزيمة على الكفار. قوله : (ناصرهما) أي ولم يؤاخذهما بذلك الهم.

قوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ) هذا الكلام تسلية للنبي وأصحابه فيما وقع لهم في غزوة أحد ، يعني أنه سبق لكم النصر فلا تحزنوا بحصول تلك الشدة ، وحكمتها تمييز المنافق من المؤمن لا الهزيمة كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ). قوله : (موضع بين مكة والمدينة) أي فسميت الواقعة باسم الموضع ، وقيل إن بدرا اسم بئر حفرها رجل يقال له بدر فسمي المكان باسم ذلك الرجل. قوله : (بقلة العدد والسلاح) أي فلم يكن معهم إلا ثلاثة أفراس وثلاثة سيوف وكان عدتهم ثلثمائة وثلاثة عشر وعدة الكفار نحو ألف. قوله : أف (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (نعمه) أي حديث نصركم مع كونكم أذلة فظفروا بهم وأخذوا شجعانهم ما بين قتيل وأسير.

قوله : (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) سبب هذا القول أنه لما تلاقى الصفان جاء للصحابة خبر بأن كرز بن جابر يمد الكفار ويعينهم ، فحزنت الصحابة حزنا شديدا فأنزل الله تلك الآية. قوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الإستفهام إنكاري نظير ألست بربكم. قوله : (يعينكم) أي يزيدكم. قوله : (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) إن قلت : ما الحاجة إلى ذلك العدد الكثير فإن جبريل وحده أو أي ملك كاف في قتال الكفار؟ أجيب : بأن ذلك ينسب النصر لرسول الله والمؤمنين لقوله تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) فلو هلكوا بشيء مما هلك به الأمم السابقة لم يكن في ذلك مزيد فخر للمؤمنين ولا شفاء لغيظهم ، لكونه خارجا عن اختيارهم.

٢٣٥

الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (١٢٥) بكسر الواو وفتحها أي معلمين وقد صبروا وأنجز الله وعدهم بأن قاتلت معهم الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي الأمداد (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) بالنصر (وَلِتَطْمَئِنَ) تسكن (قُلُوبُكُمْ بِهِ) فلا تجزع من كثرة العدو وقلتكم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦) يؤتيه من يشاء وليس بكثرة الجند (لِيَقْطَعَ) متعلق بنصركم أي ليهلك (طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يذلهم بالهزيمة (فَيَنْقَلِبُوا) يرجعوا (خائِبِينَ) (١٢٧) لم ينالوا ما راموه. ونزل لما كسرت رباعيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشج وجهه يوم أحد وقال كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)

____________________________________

قوله : (بَلى) حرف جواب أي وهو إيجاب للنفي في قوله : تعالى (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) وأما جواب الشرط فهو قوله يمددكم. قوله : (لأن أمدهم أولا بها) هذا إشارة لوجه الجمع بين ما هنا وبين ما يأتي. قوله : (مِنْ فَوْرِهِمْ) يطلق الفور على قوة الغليان يقال فار القدر غلا ، ويطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا. قوله : (بكسر الواو) أي اسم فاعل والمعنى معلمين أنفسهم آداب الحرب ، وقوله : (وفتحها) أي اسم مفعول بمعنى أن الله علمهم آدابه. قوله : (وأنجز الله وعدهم) أي فكلما حصل للمؤمنين ضعف زادهم الله من الملائكة. قوله : (على خيل بلق) أي وجوهها وأيديها وأرجلها بيض ، وقوله : (وعليهم عمائم صفر أو بيض) أي فهما روايتان وجمع بأن جبريل كانت عمامته صفراء وباقيهم بيض. قوله : (أرسلوها) أي طرفها ، ورد عن علي أنه قال كنت في قليب بدر فاشتدت ريح عظيمة فرأيت جبريل نزل بألفين من الملائكة فسار أمام المصطفى ، ثم اشتدت ريح فرأيت إسرافيل نزل بألفين من الملائكة فسار على يمينه. ثم اشتدت ريح فرأيت ميكائيل نزل بألف فسار على يساره. واعلم أن قتال الملائكة من خصائص هذه الأمة وليس مخصوصا بواقعة بدر ، بل ورد أن جبريل وميكائيل قاتلا مع النبي في أحد حين فرت أصحابه. قوله : (أي الأمداد) أي المفهوم من قوله يمددكم.

قوله : (إِلَّا بُشْرى) البشارة هي الخبر السار ، ولا تطلق على الضد إلا مقيدة ، كقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). قوله : (وَلِتَطْمَئِنَ) معطوف على بشرى ، الواقع مفعولا لأجله ، وجر باللام لعدم استيفائه شروط المفعول من أجله ، فإن فاعل الجعل الله ، وفاعل الطمأنينة القلوب ، فلم يتحد في الفاعل وشرطه الإتحاد. قوله : (فلا تجزع من كثرة العدو) ورد أن الملائكة كانت تقاتل وتقول للمؤمنين اثبتوا فإن عدوكم قليل والله معكم. قوله : (وليس بكثرة الجند) أي فلا تتوهموا أن النصر بكثرة العدد. قوله : (متعلق بنصركم) أي المتقدم في قوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ). قوله : (أي ليهلك) إنما فسره بذلك لأن القطع يأتي لمعان منها التفريق كقوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) وليس مرادا هنا ، ومنها الهلاك وهو المراد. قوله : (بالقتل) أي وكانوا سبعين ، وقوله : (والأسر) أي وكانوا كذلك.

قوله : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) الكبت بمعنى الكبد فتاؤه مبدلة من الدال وهو الغيظ الذي يحرق الكبد. قوله : (لم ينالوا ما راموا) أي ما قصدوه. قوله : (لما كسرت رباعيته) أي السنة التي بين الثنايا والناب ، وقوله : (وشج وجهه) أي غاصت في حلقه المغفر. قوله : (وقال كيف يفلح قوم إلخ) أي وقد عزم على أن يدعو عليهم كذا قيل ، والأقرب أن مقالة النبي حزنا على عدم إيمانهم فإن قصد النبي هداهم ، وحيث وقع منهم ذلك الفعل فهو دليل على عدم إيمانهم فيفوت مقصد النبي ، فسلاه الله بالآية كما سلاه بقوله :

٢٣٦

بل الأمر لله فاصبر (أَوْ) بمعنى إلى أن (يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بالإسلام (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨) بالكفر (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) المغفرة له (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه (وَاللهُ غَفُورٌ) لأوليائه (رَحِيمٌ) (١٢٩) بأهل طاعته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) بألف ودونها بأن تزيدوا في المال عند حلول الأجل وتؤخروا الطلب (وَاتَّقُوا اللهَ) بتركه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٣٠) تفوزون (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (١٣١) أن تعذبوا بها (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٣٢) (وَسارِعُوا) بواو ودونها (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي كعرضهما

____________________________________

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ). وبقوله : (إنك لا تهدي من أحببت). وقوله : (يوم أحد) أي وقيل نزلت في أهل بئر معونة ، وهم سبعون رجلا من القراء بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بئر معونة ، وهي بين مكة وعسفان ، ليعلموا الناس القرآن والعلم ، وأمره عليهم المنذر بن عمرو ، وكان ذلك في صفر سنة أربع من الهجرة ، فخانهم عامر بن الطفيل وقتلهم عن آخرهم. فاشتد غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلاه الله بذلك.

قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي لا تملك لهم نفعا فتصلحهم ولا ضرا فتهلكهم ، فنفى ذلك من حيث الإيجاد والإعدام ، وأما من حيث الدلالة والشفاعة فهو الدليل الشفيع المشفع جعل الله مفاتيح خزائنه بيده ، فمن زعم أن النبي كآحاد الناس لا يملك شيئا أصلا ولا نفع به لا ظاهرا ولا باطنا ، فهو كافر خاسر الدنيا والآخرة ، واستدلاله بهذه الآية ضلال مبين. قوله : (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) علة لقوله : (أو يعذبهم). قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هذا كالدليل لما قبله. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) سبب نزول هذه الآية أن الرجل كان في الجاهلية إذا كان له دين على آخر وحل الأجل ولم يقدر الغريم على وفائه قال له صاحب الدين زدني في الدين وأزيدك في الأجل ، فكانوا يفعلون ذلك مرارا ، فربما زاد الدين زيادة عظيمة. قوله : (وتؤخروا الطلب) أي في نظير تلك الزيادة والواجب إنظار المعسر من غير شيء والتشديد على الموسر المماطل. قوله : (بتركه) أي الربا وكذا كل ما نهى الله عنه. قوله : (أن تعذبوا بها) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف ، أي اتقوا تعذيب النار ، أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية.

(وَسارِعُوا) أي بادروا. قوله : (بواو ودونها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فعلى الواو تكون الجملة معطوفة على جملة واتقوا النار ، وعلى عدمها تكون الجملة استئنافية ، كأن قائلا قال وما كيفية تقوى النار وبأي شيء يكون تقواها ، فأجاب بقوله سارعوا إلخ ، إن قلت : إن ما خالف الرسم العثماني شاذ فمقتضاه أن أحد القراءتين مخالف للرسم. أجيب : بأن المصاحف العثمانية تعددت ، فبعضها بالواو وبعضها بدونها ، ولا يرد هذا الإشكال إلا لو كان واحدا. قوله : (إِلى مَغْفِرَةٍ) أي إلى أسبابها وهو الإنهماك في الطاعات والبعد عن المعاصي. قوله : (وَجَنَّةٍ) عطفها على المغفرة من عطف المسبب على السبب ، ومرادنا بالسبب الظاهري وإلا فالسبب الحقيقي هو فضل الله. قوله : (كعرضهما) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف وأداة التشبيه وقد صرح بهما في سورة الحديد ، قال تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) واختلف هل هذا التشبيه حقيقي والمعنى لو بسطت السموات كل واحدة بجانب الأخرى وكذلك الأرض ، لكان ما ذكر مماثلا لعرض الجنة ، وأما طولها فلا يعلمه إلا الله ، وإنما لم يقل طولها لأنه لا يلزم من سعة الطول سعة العرض بخلاف العكس ، وهذا تفسير

٢٣٧

لو وصلت إحداهما بالأخرى والعرض السعة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣) الله بعمل الطاعات وترك المعاصي (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) في طاعة الله (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) اليسر والعسر (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الكافين عن إمضائه مع القدرة (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ممن ظلمهم أي التاركين عقوبتهم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣٤) بهذه الأفعال أي يثيبهم (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) ذنبا قبيحا كالزنا (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بما دونه كالقبلة (ذَكَرُوا اللهَ) أي وعيده

____________________________________

ابن عباس ، أو مجازي وهو كناية عن عظم سعتها ، وإلا فالسموات والأرض لو اتصلت بعضها ببعض كان ما ذكر أقل مما يعطاه أبو بكر الصديق فضلا عن غيره ، لما ورد أن جبريل يسير بأجنحته الستمائة في ملكه شهرا. إذا علمت ذلك ، فالمناسب للمفسر أن يقول أو العرض السعة ليفيد أنه تفسير آخر.

قوله : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت وأحضرت وقدم هذا الوصف لأن مستلزم لجميع الأوصاف ، والمتقين جمع متق وهو المنهمك في الطاعات المجتنب المعاصي. قوله : (اليسر والعسر) أي الرخاء والشدة وذلك لثقته بربه واعتماده عليه ، فينفق في كل زمن على حسب حاله فيه قليلا أو كثيرا ولا يستخف بالصدقة ، ففي الحديث : «اتقوا النار ولو بشق تمرة» وفي رواية «ولو بظلف محرق». قوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي وهو نارية تحل في القلب تظهر آثارها على الجوارح. قوله : (الكافين على إمضائه مع القدرة) أي الكاتمين الغضب مع القدرة على العمل بمقتضاه بظواهرهم وبواطنهم ، وكظم الغيظ من أعظم العبادة ، ورد من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا ، إن قلت : ورد عن الشافعي أنه قال من استغضب ولم يغضب فهو حمار فمقتضاه أنه مذموم ومقتضى الآية أنه من المتقين. أجيب : بأن كلام الشافعي يحمل على إذا ما رأى حرمات الله تفعل ولم ينه عنها ولم يغضب لأجلها ، وقد اتفق للإمام الحسن زمن خلافته وكان حليما جدا أن رجلا قدم عليه ليمتحنه فصار يسبه ويتكلم فيه وهو يبتسم ، فقال له الرجل إن شتمتني واحدة شتمتك مائة ، فقال له الحسن إن شتمتني مائة ما شتمتك واحدة فوقع على قدمه وقبلها وقال أشهد أنك على خلق رسول الله.

قوله : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) عطف على الكاظمين من عطف العام على الخاص ، لأن العفو أعم من أن يكون معه كظم غيظ أو لا ، كما إذا سبه وهو غائب فبلغه ذلك فعفا عنه من غير أن يستفزه الغضب ، واتفق للإمام زين العابدين أن جاريته كانت تصب عليه ماء الوضوء ، فسقط الإبريق على رأسه فشج وجهه فرفع بصره لها فقالت له والكاظمين الغيظ ، فقال كظمت غيظي ، فقالت والعافين عن الناس فقال عفوت عنك ، فقالت والله يحب المحسنين ، فقال أنت حرة لوجه الله. قوله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا) شروع في ذكر التوابين بعد أن ذكر المطهرين ، وبقي قسم ثالث وهم الذين أصروا على المعاصي وماتوا من غير توبة فأمرهم مفوض الله إما أن يدخلهم الجنة من غير سابقة عذاب أو يعذبهم بقدر الجرم ثم يدخلهم الجنة خلافا للمعتزلة حيث منعوا عن غفران الذنوب لهم.

قوله : (وَالَّذِينَ) مبتدأ أول أولئك مبتدأ ثان وجزاؤهم مبتدأ ثالث ، وقوله : (مَغْفِرَةٌ) خبر الثالث وهو وخبره خبر الثاني وهو وخبره خبر الأول ، وقوله : (كالزنا) أي وغيره من الكبائر قوله : (ذنبا قبيحا) أي كبيرا ، وقوله : (بما دونه) أي كالصغائر وهذه الآية نزلت في حق رجل تمار مرت عليه امرأة

٢٣٨

(فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ) أي لا (يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا) يديموا (عَلى ما فَعَلُوا) بل أقلعوا عنه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٣٥) أن الذي أتوه معصية (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة أي مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦) بالطاعة هذا الأجر. ونزل في هزيمة أحد (قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) طرائق في الكفار بامهالهم ثم أخذهم (فَسِيرُوا) أيها المؤمنون (فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١٣٧) الرسل أي آخر أمرهم من الهلاك فلا تحزنوا لغلبتهم فإنما أمهلهم لوقتهم (هذا) القرآن (بَيانٌ لِلنَّاسِ) كلهم (وَهُدىً) من الضلالة (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٨) منهم

____________________________________

وأرادت أن تشتري منه تمرأ فاعجبته فقال لها إن التمر الجيد داخل الحانوت فدخل معها الحانوت وفعل معها ما عدا الإيلاج وأعطاها التمر ، فتذكر هيبة الله وعقابه ، فجاء لرسول الله يبكي فنزلت الآية ، قوله : (أي وعيده) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف.

قوله : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي أقلعوا عنها وتابوا ، (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) جملة معترضة بين الحال وصاحبها قصد بها التعليل ، قوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا) جملة حالية من الواو في استغفروا ، قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية أيضا. وقوله : (إن الذي أتوه معصية) إشارة لمفعول يعلمون. والمعنى وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها والنهي عنها والوعيد عليها لأنه قد يقوم على الذنوب من لا يعلم أنه ذنب. ولا يؤخذ بذلك كالمجتهدين من الصحابة في قتال بعضهم. ولذلك كان الواحد منهم إذا ظهر له الخطأ أقلع في الحال. قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) المعنى أن القصور والأشجار مشرفة على الأنهار.

قوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) نعم فعل ماض وأجر فاعل والمخصوص بالمدح محذوف قدره المفسر بقوله هذا الأجر الذي هو المغفرة أو الجنة. قوله : (ونزل في هزيمة أحد) أي تسلية للنبي وأصحابه على ما أصابهم من الحزن الذي وقع لهم في تلك الغزوة ، فكأن الله يقول لهم لا تحزنوا فإن هذه سنن من قبلكم والعبرة بالخواتم وقد تم النصر لكم على أعدائكم. قوله : (قَدْ خَلَتْ) من الخلو بمعنى المضي قوله : (في الكفار) أي كعاد مع هود. وكثمود مع صالح ، وكقوم نوح معه ، وكقوم لوط معه ، وكالنمروذ مع إبراهيم. وكفرعون مع موسى. فإن الله أمهل هؤلاء ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فكذلك هؤلاء. قال تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) وقال عليه الصلاة والسّلام : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». قوله : (بامهالهم) أي على سبيل الاستدراج. والمعنى فلا تحزنوا مما وقع لكم فإن الله يمهل ولا يهمل.

قوله : (فَسِيرُوا) إنما قرن الفعل بالفاء لما في الجملة الأولى من معنى الشرط ، كأن الله يقول إن كنتم في شك مما ذكرته لكم فسيروا في الأرض لتروا آثارهم ، قوله : (أي آخر أمرهم) أي وهو الهلاك الأخروي بإخبار الله ورسله والدنيوي بالمشاهدة. قوله : (فإنما أمهلهم لوقتهم) أي المقدر لهم ولا يعجل بالعقوبة إلا من يخاف الفوات. قوله : (بَيانٌ) إما باق على مصدريته مبالغة أو بمعنى مبين أو ذو بيان على حد زيد عدل ، ولذلك يسمى القرآن أيضا فرقانا لأنه يفرق بين الحق والباطل. قوله : (كلهم) أي

٢٣٩

(وَلا تَهِنُوا) تضعفوا عن قتال الكفار (وَلا تَحْزَنُوا) على ما أصابكم بأحد (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) بالغلبة عليهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩) حقا وجوابه دل عليه مجموع ما قبله (إِنْ يَمْسَسْكُمْ) يصبكم بأحد (قَرْحٌ) بفتح القاف وضمها جهد من جرح ونحوه (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) الكفار (قَرْحٌ مِثْلُهُ) ببدر (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها) نصرفها (بَيْنَ النَّاسِ) يوما لفرقة ويوما لأخرى ليتعظوا (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) علم ظهور (الَّذِينَ آمَنُوا) أخلصوا في إيمانهم من غيرهم (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) يكرمهم بالشهادة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (١٤٠) الكافرين أي يعاقبهم وما ينعم به

____________________________________

مسلمين أو كفارا ، وإنما كان بيانا للجميع لإقامة الحجة على الكافر يوم القيامة وتعذيبه.

قوله : (وَهُدىً) (من الضلالة) أي هاد من الكفر أو المعصية. قوله : (لِلْمُتَّقِينَ) راجع لقوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ) وخصهم لأنهم هم المنتفعون بذلك. قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ). قوله : (وَلا تَهِنُوا) هذا من جملة التسلية للنبي وأصحابه ، وأصله توهنوا حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها. وسبب ذلك أنه لما حصلت التفرقة لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد وقتل منهم سبعون وجرح منهم ناس كثيرون ، وقتل من الكفار نيف وعشرون وجرح منهم ناس كثيرون ، قال أبو سفيان رئيس الكفار مناديا للنبي وأصحابه أفي القوم محمد ثلاث مرات فنهى القوم أن يجيبوه ، فقال أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال أفي القوم عمر بن الخطاب ثلاث مرات ، ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا ، فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله ، إن الذين عددت أحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك ، ثم أخذ أبو سفيان يرتجز بقوله : أعل هبل أعل هبل. فقال عليه الصلاة والسّلام ألا تجيبوه قولوا : الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان : إن لنا عزى ولا عزى لكم. فقال عليه الصلاة والسّلام قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم. وفي رواية قال أبو سفيان : يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، ثم أمر النبي أصحابه جميعا بالإقبال على قتال الكفار ثانيا فصار الجريح منهم يزحف على الركب ، ووقع الحرب بينهم وباتت الهزيمة على الكفار ، فنزلت الآية تسلية للنبي وأصحابه.

وقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أصله الأعلوون استثقلت للضمة على الواو فحذفت ثم تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت الفا فالتقى ساكنان حذفت الألف لإلتقائهما وبقيت الفتحة لتدل عليها. قوله : (مجموع ما قبله) أي وهو قوله ولا تهنوا ولا تحزنوا. قوله : (بفتح القاف وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وجواب الشرط محذوف تقديره فلا تحزنوا ، وقوله : (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ) إلخ مفرع عليه. قوله : (ببدر) أي فكانت الغلبة فيه للمؤمنين من أوله إلى آخره ، وقال بعضهم بل في أحد أيضا ، لأن الغلبة آخرا كانت للمؤمنين ، وأما غزوة بدر فكانت للمؤمنين خاصة. قوله : (نُداوِلُها) المداولة نقل الشيء من واحد لآخر ، والمعنى إنما جعلنا الأيام دولا بين الناس يوما للكفار ويوما للمسلمين لتتعظوا وليعلم الله إلخ. قوله : (علم ظهور) جواب عن سؤال مقدر حاصله أن علم الله قديم لا يتجدد فكيف ذلك؟ فأجاب : بأن المراد ليظهر متعلق علمه بتمييز المؤمن من غيره ، والمعنى أن نصرة الكافر تارة ليست لمحبة الله له ، بل ليتميز المؤمن من المنافق وليتخذ منكم شهداء ، وإلا فالله لا يحب الكافرين. قوله : (أي يعاقبهم) تفسير لعدم محبة الله للظالمين. قوله : (وما ينعم به عليهم استدراج) جواب عن سؤال مقدر تقديره إنا نرى الله ينصرهم تارة وينعم عليهم بالدنيا وزينتها ،

٢٤٠