حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

فقال زكريا أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالوا لا حتى نقترع فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن وألقوا أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها فثبت قلم زكريا فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد بسلم لا يصعد إليها غيره وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، كما قال تعالى (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) ضمها إليه وفي قراءة بالتشديد ونصب زكريا ممدودا أو مقصورا والفاعل الله (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) الغرفة وهي أشرف المجالس (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى) من أين (لَكِ هذا قالَتْ) وهي صغيرة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يأتيني به من الجنة (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧) رزقا واسعا بلا تبعة (هُنالِكَ) أي لما رأى زكريا ذلك وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير حينه قادر على الإتيان بالولد على الكبر وكان أهل بيته انقرضوا (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) لما دخل المحراب للصلاة جوف الليل (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) ولدا

____________________________________

(لأن خالتها عندي) ورد أنهم قالوا لو كانت القرابة مقتضية لأخذها لكانت أمها أولى. قوله : (إلى نهر الأردن) أي وهو نهر يجري إلى الآن. قوله : (وألقوا أقلامهم) قيل سهامهم ، وقيل التي كانوا يكتبون بها التوراة ، وقيل اقلامهم من حديد. قوله : (وصعد) أي على وجه الماء ، أي من غرق قلمه أو ذهب مع الماء فلا حق له فيها. قوله : (بأكلها) بضم الهمزة فيه وفيما بعده بمعنى الشيء المأكول والمشروب والذي يدهن به. قوله (ممدودا أو مقصورا) راجع لقراءة التشديد لا غير ، وأما التخفيف فليس فيه إلا المد مع رفعه على الفاعلية. قوله : (والفاعل الله) أي بالنسبة للتشديد.

قوله : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا) أي في وقت دخل عليها فيه وجد الخ ، وزكريا بالمد والقصر قراءتان سبعيتان. قوله : (الْمِحْرابَ) هو اسم لكل محل من محال العبادة فسميت الغرفة بذلك لأنها في المسجد وهو محل العبادة. قوله : (وَجَدَ عِنْدَها) حال من زكريا ، التقدير قائلا : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) حال كونه واجدا عندها رزقا يا مريم الخ ، ورزقا مفعول لقوله وجد ووجد بمعنى أصاب. قوله : (وهي صغيرة) أي فهي من جملة من تكلم في المهد. قوله : (بلا تبعة) أي حق عليه ، فليس اعطاؤه الرزق لحق العباد ، بل هو من محض فضله وجوده.

قوله : (هُنالِكَ) أصلها ظرف مكان لكن استعملت هنا ظرف زمان ، ويحتمل أن تكون ظرف مكان معنوي ، والمعنى عند تلك الواقعة دعا زكريا الخ وهو كلام مستأنف وقصة مستقلة سيقت في اثناء قصة مريم لما بينهما من قوة الارتباط ، لأن فضل بعض الأقارب يدل على فضل الآخر وهو حكمة قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ). قوله : (لما رأى ذلك زكريا) أي ما تقدم من قصة حنة حيث دعت الله أن يرزقها بولد مع يأسها وكبر سنها ، فأجابها الله مع كونها لم تكن نبية ، واعطاها مريم وجعلها افضل من الذكور ، وصار يأتيها رزقها من الجنة ، واكرمها اكراما عظيما ، فكان ذلك الأمر العجيب باعثا له على طلب الولد. قوله : (وعلم) أي تنبه واستحضر عند مشاهدة تلك الخوارق للعادة على حد : (ولكن ليطمئن قلبي) فشهود الكرامات تزيد في اليقين والكامل يقبل الكمال. قوله : (على الكبر) أي منه ومن زوجته ، قيل كان وقت الدعاء عمره ثمانون سنة ، وعمرها ثمان وخمسون ، وبين الدعاء والإجابة أربعون سنة. قوله : (وكان أهل بيته) أي أقاربه. قوله : (لما دخل المحراب) أي المسجد.

٢٠١

صالحا (إِنَّكَ سَمِيعُ) مجيب (الدُّعاءِ) (٣٨) (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي جبريل (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أي المسجد (أَنَ) أي بأن وفي قراءة بالكسر بتقدير القول (اللهَ يُبَشِّرُكَ) مثقلا ومخففا (بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ) كائنة (مِنَ اللهِ) أي بعيسى أنه روح وسمي كلمة لأنه خلق بكلمة كن (وَسَيِّداً) متبوعا (وَحَصُوراً) ممنوعا من النساء (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣٩) روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها (قالَ رَبِّ أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ) ولد (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) أي بلغت نهاية السن مائة وعشرين سنة (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) بلغت ثمانية وتسعين سنة (قالَ) الأمر (كَذلِكَ)

____________________________________

قوله : (ذُرِّيَّةً) الذرية تطلق على المفرد والجمع ، فلذا قال المفسر ولدا صالحا. قوله : (إِنَّكَ سَمِيعُ) ليس المراد به الاسم بل المراد المجيب أي سميع سماع إجابة كما قال المفسر. قوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) أي بعد مضي أربعين سنة من دعوته. قوله : (أي جبريل) أي فهو من تسمية الخاص باسم العام تعظيما له. قوله : (وَهُوَ قائِمٌ) جملة حالية من الهاء في نادته ، وجملة يصلي إما خبر ثان أو حال ثانية أو صفة لقائم ، وقوله : (فِي الْمِحْرابِ) متعلق بيصلي أو بقائم. قوله : (أي بأن) أي فهو بدل من نادته. قوله : (بتقدير القول) أي استئناف تقديره قائلين إن الله يبشرك الخ. قوله : (مثقلا ومخففا أي فهما قراءتان سبعيتان مع فتح همزة إن وكسرها فهما أربع ، فالمثقل بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين المشددة ، والمخفف بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين المخففة.

قوله : (بِيَحْيى) قيل إنه منقول من الفعل فيكون ممنوعا من الصرف للعلمية ووزن الفعل ويكون عربيا ، وسمي بذلك لأنه يحيي القلوب الميتة ، وقيل أعجمي فيكون ممنوعا من الصرف للعلمية والعجمة ، ويجمع في حالة الرفع على يحيون ، وفي حال النصب على يحيين ، وتثنيته في حالة الرفع بحيان ، وفي النصب والجر يحيين. قوله : (مُصَدِّقاً) هو وما بعده أحوال من يحيى. قوله : (إنه روح الله) أي سر نشأ من الله. قوله : (لأنه خلقه بكلمة كن) وقيل لأن الكلمة التي قالها لها الله وهي كذلك الله يخلق ما يشاء ، وقيل لأنه الكلمة التي قالها الله لجبريل حيث أمره بالنفخ في جيبها. قوله : (متبوعا) أي ما يقتدى به قيل إنه أعطي النبوة من حين الولادة. قوله : (ممنوعا من النساء) أي اختيارا لشغله بربه وهذا هو المراد بالحصور هنا ، وإلا فمعناه الممنوع من النساء مطلقا سواء كان اضطرارا أو اختيارا.

قوله : (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من كبار المرسلين القائمين بحقوقك وحقوق عبادك. قوله : (روي أنه لم يعمل خطيئة الخ) هذا لا يخصه بل كذلك غيره من الأنبياء. قوله : (أَنَّى يَكُونُ) تستعمل أني شرطية كقول الشاعر :

فأصبحت أنى تأتها تستجر بها

تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

وتستعمل اسم استفهام كما هنا فلذا فسرها بكيف ويكون ناقصة وغلام اسمها وخبرها أنى ، التقدير رب يكون لي غلام علي أي حالة ، فالاستفهام من أحوال الغلام لا عن ذاته. قوله : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) هنا أسند البلوغ للكبر ، وفيما يأتي في سورة مريم أسنده لنفسه ، وكلاهما صحيح لأن البلوغ من الطرفين ، والجملة حالية وكذا ما بعدها. قوله : (أي بلغت نهاية السن) أي بالنسبة لأهل زماني فلا ينافي أن المتقدمين كان الواحد منهم يعمر الألف.

٢٠٢

من خلق الله غلاما منكما (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٤٠) لا يعجزه عنه شيء ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه السؤال ليجاب بها ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة على حمل امرأتي (قالَ آيَتُكَ) عليه (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي تمتنع من كلامهم بخلاف ذكر الله تعالى (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي بلياليها (إِلَّا رَمْزاً) إشارة (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ) صل (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١) أواخر النهار وأوائله (وَ) اذكر (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي جبريل (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) اختارك (وَطَهَّرَكِ) من مسيس الرجال (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢) أي أهل زمانك (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أطيعيه (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ

____________________________________

قوله : (كَذلِكَ) خبر لمحذوف قدره بقوله : (الأمر) وقوله من خلق غلام بيان لمرجع اسم الإشارة ، والكاف في كذلك يحتمل أن تكون صلة ، والمعنى قال الله الأمر ذلك ، واسم الإشارة راجع إلى خلق الولد ، ويحتمل أن تكون اصلية ، والمعنى قال الله الأمر كذلك أي كما قلت لا تغيير فيه ولا تبديل ، فاسم الإشارة راجع إلى القول. قوله : (ألهمه السؤال) أي بقوله أنى يكون لي غلام. قوله : (ليجاب بها) علة للإلهام وقوله ؛ (لإظهار) علة لقوله : (ليجاب) فهو علة مقدمة على معاولها. إن قلت : ما الحكمة في قوله في قصة زكريا الله يفعل الله يفعل ما يشاء ، وفي قصة مريم الله يخلق ما يشاء؟ قلت : الحكمة أن خرق العادة في عيسى أعظم من يحيى ، فإن عيسى لم يكن له أب مع كون أمه عذراء ، وأما يحيى فأبواه موجودان وإن كان هناك مانع من الحمل ، فعبر في جانب عيسى بالخلق الذي هو إنشاء واختراع دون الفعل. قوله : (ولما تاقت نفسه) أي اشتاقت.

قوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي لأزداد بها شكرا على ما أعطيتني وسرورا به. قوله : (وعلامة على حمل امرأتي) أي فإن الحمل في مبدئه خفي فطلب علامة على ظهور علوقها به. قوله : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي يأتيك مانع من الله يمنعك من الكلام بغير ذكر الله. قوله : (أي بلياليها) أخذ ذلك ممن يأتي في سورة مريم جمعا بين الموضعين والقصتين ، ومن ذلك اختار بعض أكابر الصوفية أن الخلوة مع الرياضة لبلوغ المراد ثلاثة أيام بلياليها ، يجعل ذكر الله فيها شعاره ودثاره ولا يتكلم فيها. قوله : (إِلَّا رَمْزاً) استثناء منقطع على التحقيق ، لأن الرمز لا يقال له كلام اصطلاحا وإن كان كلاما لغة ، لكن ليس مرادا هنا. قوله : (إشارة) أي وكانت بسبابته اليمنى. قوله : (اواخر النهار) راجع للعشي وقوله : (واوائلة) راجع للأبكار فهو لف ونشر مرتب ، وخص هذين الوقتين لفرضية الصلاة عليه فيهما.

قوله : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) عطف على قوله إذ قالت امرأة عمران ، والمناسبة بينهما ظاهرة ، فإن تلك قصة الأم وهذه قصة البنت ، وأما قصة زكريا فذكرت بينهما ، لأن رؤية العجائب في الأولى هي الحاملة لزكريا على طلب الولد. قوله : (أي جبريل) أشار بذلك إلى أنه من باب تسمية الخاص باسم العام تعظيما له. قوله : (يا مَرْيَمُ) الحكمة في أن الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا هي ، الإشارة بطرف خفي إلى رد ما قاله الكفار من أنها زوجته ، فإن العظيم على الهمة يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس : فكأن الله يقول لو كانت زوجة لي لما صرحت باسمها. قوله : (من مسيس الرجال) أي ومن الحيض والنفاس وكل قذر. قوله : (أي أهل زمانك) اشار بذلك إلى أن العالمين عام مخصوص بما عدا

٢٠٣

الرَّاكِعِينَ) (٤٣) أي صلي مع المصلين (ذلِكَ) المذكور من أمر زكريا ومريم (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أخبار ما غاب عنك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا محمد (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) في الماء يقترعون ليظهر لهم (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) يربي (مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤) في كفالتها فتعرف ذلك فتخبر به وإنما عرفته من جهة الوحي ، اذكر (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي جبريل (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي ولد (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) خاطبها بنسبته إليها

____________________________________

خديجة وفاطمة وعائشة ، وهذه طريقة مرجوحة ، والحق أن مريم أفضل النساء على الاطلاق ثم فاطمة ثم خديجة ثم عائشة ، قال بعضهم في ذلك :

فضلى النسا بنت عمران ففاطمة

خديجة ثم من قد برأ الله

وبالجملة فأفضل النساء خمسة : مريم وخديجة وفاطمة وعائشة وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون وهي زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة وكذلك مريم. قوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) تكرار الخطاب باسمها يفيد ما قلنا أولا من أنه اشار لرد ما قيل إنها زوجته. قوله : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) قدم السجود لشرفه والواو لا تقتضي ترتيبا إن كانت صلاتهم كصلاتنا من تقديم الركوع على السجود ، وإن كانت بالعكس فالأمر ظاهر. قوله : (مَعَ الرَّاكِعِينَ) لم يقل مع الراكعات ، إما لدخول جمع المؤنث في المذكر بالتغليب ، أو المعنى صلي كصلاة الرجال من حيث الخشية وعلو الهمة ، لا كصلاة النساء من حيث التفريط وعدم الخشية. قوله : (نُوحِيهِ) أي المذكور فالضمير عائد على اسم الإشارة لأفراده. قوله : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أي وقت القائهم اقلامهم. قوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) هذا بمعنى ما قبله ، والمعنى يختصمون قبل القاء الأقلام. قوله : (فتعرف ذلك الخ) مسبب عن النفي أي ما كنت حاضرا حتى تعرف ذلك وتخبر به ، وإنما عرفته من جهة الوحي لا من جهة غيره ، لأن بلده ليست بلد علم ، ولم يجلس بين يدي معلم ، ولم يقرأ كتابا ، ولم يكن هو ولا أحد من اجداده حاضرا وقت حصول تلك الوقائع ، فتعين أن يكون ذلك بوحي من الله ، قال العارف :

كفاك بالعلم في الأمي معجزة

في الجاهلية والتأديب في اليتم

قوله : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) قدر المفسر اذكر إشارة إلى أن إذ ظرف معمول لمحذوف ، وهذا شروع في ذكر قصة عيسى وما فيها من العجائب. قوله : (أي جبريل) أي فهو من باب تسمية الخاص باسم العام. قوله : (يُبَشِّرُكِ) البشارة هي الخبر السار وضدها النذارة وهي الخبر الضار. قوله : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي الله. قوله : (أي ولد) أي مولود وعبر عنه بالكلمة لأنه يقول كن من غير واسطة مادة ، واتفق أن نصرانيا قدم على الرشيد فوجد عنده الحسن بن علي الواقدي ، فقال النصراني للخليفة والعالم : إن في كلام الله آية تدل على أن عيسى جزء من الله ، فقال له : وما تلك الآية؟ فقال النصراني : (إن الله يبشرك بكلمة منه) فمن للتبعيض ، فمقتضى ذلك أنه جزء منه ، فقال الشيخ : إذا كانت من للتبعيض هنا فكذلك هي في قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) إذ لا فرق بينهما ، فبهت النصراني واسلم ، واغدق الخليفة على الشيخ اغداقا عظيما وكان يوما مشهودا ، وإنما من للابتداء على حد إن الله خلق نور نبيك من نوره ، والمعنى خلقه بلا واسطة مادة. وأعلم أن تلك البشارة تضمنت خمسة عشر وصفا.

٢٠٤

تنبيها على أنها تلده بلا أب إذ عادة الرجال نسبتهم إلى آبائهم (وَجِيهاً) ذا جاه (فِي الدُّنْيا) بالنبوة (وَالْآخِرَةِ) بالشفاعة والدرجات العلا (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٤٥) عند الله (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي طفلا قبل وقت الكلام (وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤٦) (قالَتْ رَبِّ أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) بتزوج ولا غيره (قالَ) الأمر (كَذلِكِ) من خلق ولد منك بلا أب (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً) أراد خلقه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧) أي فهو يكون (وَيُعَلِّمُهُ) بالنون والياء (الْكِتابَ) الخط (وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٤٨) (وَ) نجعله (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) في الصبا أو بعد البلوغ فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت وكان من

____________________________________

قوله : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ظاهره أن هذه الأشياء كلها جعلت اسما واحدا له ، مع أن المسيح لقبه وابن مريم كنيته ، وإنما الاسم عيسى فقط ، ويجاب بأنه لما كان لا يتميز إلا بهذه الأشياء كلها جعلت اسما واحدا ، والمسيح فعيل إما بمعنى فاعل لأنه ما مسح على ذي عاهة إلا برىء ، أو لأنه كان يمسح الأرض في الزمن القليل لهداية الخلق ، أو مفعول لأنه ممسوح بالبركة أو ممسوح القدم بمعنى أنها لا أخمص لها ، وأما الدجال فيلقب بالمسيح إما لأنه يمسح الأرض في الزمن القليل لإضلال الناس ، أو لأنه ممسوح العين ، فهو من تسمية الأضداد ومن الأسماء المشتركة ، وعيسى من العيس وهو البياض المشرب بحمرة لأن لونه كان كذلك ، قوله : (إذ عادة الرجال) أي والنساء.

قوله : (وَجِيهاً) حال من المسيح. قوله : (ذا جاه) أي عز وسؤدد. قوله : (بالنبوة) أي والمعجزات الباهرة والحكمة التي لا تضاهى. قوله : (والدرجات العلا) أي من حيث إنه من أولي العزم. قوله : (عند الله) عندية مكانة لا مكان أي قرب ومنزلة. قوله : (فِي الْمَهْدِ) أي زمنه والمهد فراش الصبي زمن طفوليته ، وورد أنه كان تكلم حين ولادته كما قص الله في سورة مريم. قوله : (قبل وقت الكلام) أي وانقطع إلى وقته المعتاد ، وكان يحدث أمه وهو في بطنها ، فإذا اشتغلت أمه بكلام إنسان اشتغل هو بالتسبيح. قوله : (وَكَهْلاً) أي بين الثلاثين والاربعين ، والمقصود بشارة أمه بطول عمره لا كون كلامه حينئذ خرق عادة. قوله : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي الكاملين في الصلاح وهم سادات الرسل ، فأل في الصالحين للكمال. قوله : (بتزوج ولا غيره) أي كالزنا وقد صرح به في سورة مريم بقوله : (ولم أك بغيا) وهذا استفهام عن الحالة التي يأتي عليها ذلك الولد ، وإنما استفهمت عن ذلك لأنها جازمة أنها منذورة لخدمة بيت المقدس وإنها مقبولة ، وكانت عاداتهم إن المنذور لا يتزوج ، فهذا هو حكمة استعظامها ذلك.

قوله : (كَذلِكِ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله : الأمر والكاف يحتمل زيادتها والأصل الأمر ذلك ويحتمل اصالتها ، وقد تقدم ذلك. قوله : (إِذا قَضى أَمْراً) القضاء هو تعلق ارادة الله بالأشياء أزلا. قوله : (اراد خلقه) أي تعلقت ارادته بخلقه تعلقا تنجيزيا قديما. قوله : (أي فهو يكون) اشار بذلك إلى أن جملة خبر لمحذوف. قوله : (بالنون والياء) أي قراءتان سبعيتان ، فعلى الياء الأمر ظاهر وعلى النون فهو التفات من الغيبة للخطاب. قوله : (الخط) ورد أنه كان حسن الخط جدا ، وكان يعلمه للصغار في المكتب. قوله : (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوة. قوله : (وَالتَّوْراةَ) إن قلت إنها كتاب موسى. أجيب بأنه كان يحفظها ويتعبد بها إلا ما نسخ منها في الإنجيل. قوله : (وَرَسُولاً) معمول بمحذوف قدره المفسر بقوله :

٢٠٥

أمرها ما ذكر في سورة مريم ، فلما بعثه الله إلى بني إسرائيل قال لهم إني رسول الله إليكم (أَنِّي) أي بأني (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) علامه على صدقي (مِنْ رَبِّكُمْ) هي (أَنِّي) وفي قراءة بالكسر استئنافا (أَخْلُقُ) أصور (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) مثل صورته فالكاف اسم مفعول (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الضمير للكاف (فَيَكُونُ طَيْراً) وفي قراءة طائرا (بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته فخلق لهم الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا فكان يطير وهم ينظرونه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا (وَأُبْرِئُ) أشفي (الْأَكْمَهَ) الذي ولد أعمى (وَالْأَبْرَصَ) وخصّا بالذكر لأنهما داءا إعياء ، وكان بعثه في زمن الطب فأبرأ في يوم خمسين ألفا بالدعاء بشرط الإيمان (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) كرره لنفي

____________________________________

(نجعله) لأنه المناسب له. قوله : (في الصبا) أي وهو ابن ثلاث سنين ، وقوله : (أو بعد البلوغ) أي وهو ابن ثلاثين سنة ، وكلا القولين ضعيف ، والمعتمد أنه نبىء على رأس الأربعين ، وعاش نبيا ورسولا ثمانين سنة ، فلم يرفع إلا وهو ابن مائة وعشرين سنة. قوله : (فنفخ جبريل في جيب درعها) أي وكان عمرها إذ ذاك قيل عشر سنين ، وقيل ثلاث عشرة ، وقيل ست عشرة سنة. قوله : (ما ذكر في سورة مريم) أي في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) الآيات ، واختلف في مدة حملها ، فقيل تسعة أشهر ، وقيل ثلاث ساعات ، وقيل ساعة واحدة وهو المشهور.

قوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله فلما بعثه الله الخ ، وهو إشارة لقصة رسالته بعد أن ذكر قصة بشارته وحمله وولادته. قوله : (اصور) دفع بذلك ما يقال إن الخلق هو الإيجاد بعد العدم وهو مخصوص بالله تعالى ، فأجاب بأن معنى الخلق التصوير. قوله : (مفعول) أي لأخلق. قوله : (الضمير للكاف) ويصح أن يعود على الطين ، وحكمة المغايرة بين ما هنا وبين ما يأتي في آخر المائدة أن المتكلم هنا عيسى وهناك الله. قوله : (وفي قراءة طائرا) أي بالإفراد وأما الأولى فهو اسم جمع وهما سبعيتان. قوله : (الخفاش) أي الوطواط. وقوله : (لأنه أكمل الطير خلقا) أي لأن له اسنانا وثديا ، ويحيض كالنساء ويطير من غير ريش ، ولا يبصر إلا في ساعة المغرب وبعد الصبح ، وما بقي من الزمن هو فيه اعمى. قوله : (سقط ميتا) أي ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق. قوله : (الذي ولد اعمى) أي ممسوح العين أم لا وابراؤه للطارىء أولوي.

قوله : (وَالْأَبْرَصَ) هو من به داء البرص وهو داء عظيم يشبه البهق إذا نخس نزل منه ماء قوله : (لأنهما داءا إعياء) أي أعييا الأطباء الذين كانوا في زمنه ، فإن معجزة كل نبي على شكل أهل زمانه ، كموسى فإنه بعث في زمن كثرت فيه السحرة فأعياهم بالعصا واليد البيضاء ، وسيدنا محمد فإنه بعث في زمن العرب البلغاء فأعياهم بالقرآن. قوله : (بشرط الإيمان) أي بالقلب واللسان ، فإن آمن بلسانه فقط لم يشف. قوله : (لنفي توهم الألوهية فيه) أي في عيسى بهذا الوصف الذي لم يشارك الله فيه أحد صورة ، فقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) رد عليهم ، فالمعنى لو كان دليلا على ألوهيته لكان بإذنه. قوله : (عازر) بفتح الزاي. وقوله : (صديقا له) أي عيسى وكان قد تمرض ، فأرسلت أخته لعيسى فأخبرته بمرضه وكان على مسافة ثلاثة أيام ، فجاء فوجده قد مات ودفن ، فذهب مع أخته إلى قبره فدعا بالاسم الأعظم فأحيي وعاش إلى

٢٠٦

توهم الألوهية فيه فأحيا عازر صديقا له وابن العجوز وابنة العاشر فعاشوا وولد لهم وسام بن نوح ومات في الحال (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ) تخبئون (فِي بُيُوتِكُمْ) مما لم أعاينه فكان يخبر الشخص بما أكل وبما يأكل بعد (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩) (وَ) جئتكم (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) قبلي (مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) فيها فأحل لهم من السمك والطير ما لا صيصية له وقيل أحل الجميع فبعض بمعنى كل (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كرره تأكيدا وليبني عليه (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (٥٠) فيما آمركم من توحيد الله وطاعته

____________________________________

أن ولد له. قوله : (وابن العجوز) أي وأحياه قبل دفنه حين مر به على عيسى وهو على أعناق الرجال ، فدعا الله فجلس ولبس ثيابه وأتى أهله ، وقوله : (وابنة العاشر) أي الذي كان يأخذ العشر من الناس ، وقوله : (وسام بن نوح) أي وكان قد مات من نحو أربعة آلاف سنة ، فدعا الله فأحياه فقام وقد شاب نصف رأسه. ثم قال له مت بإذن الله فقال نعم لكن لا أذوق حرارة الموت ثانيا فقال له كذلك.

قوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) ورد أنه كان يخبر الصبيان الذين يعلمهم الخط بما في بيوت آبائهم من المدخرات ، فيذهب الأولاد ويخبرون آباءهم بذلك ، ثم إنهم تجمعوا وحبسوا أولادهم عنه فجاء إليهم وسأل عنهم فأنكروهم ، فقال لهم من الذي خلف الأبواب فقالوا هم خنازير ، فقال كذلك إن شاء الله ففتحوا عليهم فوجدوهم كذلك ، فكربوا وتجمعوا على قتله فحملته أمه على حمار لها وجاءت به مصر ، فإن قلت قد يخبر المنجم والكاهن عن مثل ذلك فما الفرق؟ أجيب بأن المنجم والكاهن لا بد لكل واحد من معدمات يرجع إليها ويعتمد عليها في أخباره ، فالمنجم يستعين بواسطة الكواكب والكاهن يستعين بخبر من الجن ، وقد يخطئان كثيرا ، وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام فبواسطة الوحي السماوي ، وهو من عند الله لا بواسطة ولا غيره فتأمل.

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) هذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام عيسى أو من كلام الله. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) جوابه محذوف أي انتفعتم بهذه الآية. قوله : (وَمُصَدِّقاً) حال معطوفة على حال مقدرة ، وهي متعلق قوله بآية التقدير جئتكم حال كوني متلبسا بآية وحال كوني مصدقا ، ويشعر بذلك تقدير المفسر قوله جئتكم وليس معطوفا على وجيها لأن وجيها من جملة المبشر به وهو من كلام الله ، وأما قوله مصدقا فهو من كلام عيسى. قوله : (قبلي) (مِنَ التَّوْراةِ) أي وهو كتاب موسى ، وكان بينه وبين عيسى ألف سنة وتسعمائة وخمسة وسبعون سنة ، وأول أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى. قوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) معمول لمحذوف تقديره وجئتكم لأجل التحليل ، ولا يصح عطفه على مصدقا لأن ذاك حال وذا تعليل (قوله بعض الذي حرم عليكم) أي بسبب ظلمكم كذي الظفر وشحوم البقر والغنم. قوله : (ما لا صيصية له) أي شوكة يؤذي بها ، وأما ما له صيصية فهو باق على حله لم يحرم. قوله : (فبعض بمعنى كل) استشكل بأنه يلزم عليه تحليل كالزنا والقتل. وأجيب بأن المراد جميع ما طرأ تحريمه من أجل التشديد ، لا ما كان محرما بالأصالة. قوله : (وليبني عليه) (فَاتَّقُوا اللهَ) أي فحيث أمرتكم بما ذكر من ظهور الآيات فاتقوا الله الخ. قوله : (وطاعته) معطوف على توحيد الله من عطف العام على الخاص.

٢٠٧

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا) الذي آمركم به (صِراطٌ) طريق (مُسْتَقِيمٌ) (٥١) فكذبوه ولم يؤمنوا به (فَلَمَّا أَحَسَ) علم (عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) وأرادوا قتله (قالَ مَنْ أَنْصارِي) أعواني ذاهبا (إِلَى اللهِ) لأنصر دينه (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أعوان دينه وهم أصفياء عيسى أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلا ، من الحور ، وهو البياض الخالص ، وقيل كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها (آمَنَّا) صدقنا (بِاللهِ وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٥٢) (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من الإنجيل (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عيسى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥٣) لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق ، قال تعالى (وَمَكَرُوا) أي كفار بني إسرائيل بعيسى إذ وكلوا به من يقتله غيلة

____________________________________

قوله : (اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) هذا رد لدعواهم بنوته لله ، وإلا لقال إن الله أبي. (قوله طريق مستقيم) أي دين قيم من تمسك به فقد نجا ومن حاد عنه وقع في الردى. قوله : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أحس يتعدى بنفسه وبحرف الجر ، والاحساس الإدراك بأحد الحواس الخمس : السمع والبصر والذوق واللمس والشم ، والمعنى أدركه منهم عنادا بعد ظهور تلك الآيات البينات.

قوله : (قالَ مَنْ أَنْصارِي) أي من ينصرني. وقوله : (إِلَى اللهِ) جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الياء في انصاري ، قدره المفسر بقوله ذاهبا. قوله : (اعوان دينه) أي أهل دينه فنصرة الدين كناية عن نصرة أهله. قوله : (وكانوا اثني عشر) أي وكان لهم كبيران اسمهما شمعون ويعقوب قوله : (وهو البياض الخالص) أي لبياض قلوبهم وثيابهم فأعطاهم الله بياض بواطنهم وظواهرهم قوله : (وقيل كانوا قصارين) وقيل لأنهم حوروا النبي بمعنى نصروه ، وقيل كانوا صيادين للسمك ، وقيل كانوا صباغين ، وقيل كانوا ملوكا ، ورد أن عيسى مر على هؤلاء وهم يصطادون السمك ، فقال لهم : اذهبوا بنا لنصطاد الخلق ، فقالوا له : وما آيتك على ذلك؟ وكانوا طول نهارهم يطرحون الشبك لا يخرج لهم شيء من السمك ، فأمر أن يطرح الشبكة واحد منهم ففعل ، فخرج لهم سمك ملأ مركبين ، فآمنوا به وساروا بسيره ، وقيل إن شمعون كان ملكا ، فرأى عيسى ذات يوم يأكل من إناء هو والناس ولا يفرغ ذلك الطعام ، فآمن به ونزل عن ملكه وتبعه أقاربه ، وقيل كان في صغره عند صباغ ، فأمره بصبغ ثياب متعددة ألوانا متغايرة وذهب لحاجة ، فوضع تلك الثياب في دن واحد وقال أيتها الثياب كوني كما أريد ، فجاء الصباغ وسأله عن الثياب فقال ها هي في هذا الدن ، فحزن حزنا عظيما فأخرجها من الدن فوجدها كما أمره الصباغ فآمن به هو وأقاربه ، وقيل إن الأثني عشر كانوا لا صنعة لهم حين آمنوا بعيسى وكانوا سياحين معه ، وكانوا كلما جاعوا شكوا لعيسى فينزل لهم كل واحد رغيفان ، وكلما ظمئوا شكوا له فتنبع لهم عين في أي محل كانوا فيه ، فقال لهم يوما هناك من هو أفضل منكم ، فقالوا من فقال الذين يأكلون من كسب أيديهم ، فاستعملوا قصارة الثياب ، وقد يجمع بين الروايات المختلفة بأن بعض الاثني عشر كان من الملوك ، وبعضهم من الصيادين ، وبعضهم من القصارين ، وبعضهم من الصباغين قوله : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي الموحدين مطلقا أو الذين فضلتهم بالشهادة وهم محمد وأمته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الأمم بالتكذيب

قوله : (وَمَكَرُوا) المكر هو الخديعة وإظهار خلاف ما يبطن قوله : (غيلة) هي بكسر الغين

٢٠٨

(وَمَكَرَ اللهُ) بهم بأن ألقى شبه عيسى على من قصد قتله فقتلوه ورفع عيسى إلى السماء (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤) أعلمهم به ، اذكر (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) قابضك (وَرافِعُكَ إِلَيَ) من الدنيا من غير موت (وَمُطَهِّرُكَ) مبعدك (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف

____________________________________

المعجمة وسكون الياء التحتية ، أي يخدع الرجل فيذهب به إلى موضع لا يراه أحد به ويقتله

قوله : (وَمَكَرَ اللهُ) أي جازاهم على مكرهم ، فحيث أضمروا على أخذ عيسى من حيث لا يحتسب ، جازاهم على ذلك وأخذهم من حيث لم يحتسبوا. قوله : (بأن القى شبه عيسى الخ) حاصل ذلك أنهم لما تجمعوا على قتله ، جاءه جبريل فوجده في مكان في سقفه فرجة فرفعه من تلك الفرجة إلى السماء ، وأمر ملك اليهود رجلا اسمه ططيانوس أن يدخل على عيسى فيقتله. فلما دخل فلم يجده خرج وقد القى الله شبه عيسى عليه ، فلما رأوه ظنوه عيسى فقتلوه ، وفتشوا على عيسى فلم يجدوه ، ثم قالوا إذا كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإذا كان صاحبنا فأين عيسى ، فوقع بينهم قتال عظيم.

قوله : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أقواهم مكرا بحيث يقدر على إيصال الضرر لهم من حيث لم يحتسبوا كما أضمروا ذلك لعيسى ، ولا يقال لله ماكر أو مكار إلا مشاكلة ويؤول بما علمت ، لأن أصل المكر يستعمل في المحتال لأخذ صاحبه لعجزه عنه وهو مستحيل على الله. قوله : (اذكر) (إِذْ قالَ اللهُ) أشار بذلك إلى أن إذ ظرف معمول لمحذوف ، والمعنى أن اليهود لما تجمعوا على قتله وتحيلوا على أخذه جعل الله كيدهم في نحورهم ، وقال الله يا عيسى الخ فهو من تفصيل قوله ومكر الله. قوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) اختلف في التوفي فقيل معناه مبلغك الأمل بأن تبلغ عمرك بتمامه ولا تموت بقتل أحد بل من الله ، وقيل معناه بالنوم أي فرفع إلى السماء وهو نائم فلم يحصل له انزعاج ، وقيل معناه مميتك قابض لروحك لا يقال إنه يقتضي أنه يموت قبل الرفع إلى السماء لأنه يقال إن الواو لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا فالكلام على التقديم والتأخير ، والمعنى أني رافعك إليّ ومتوفيك بعد ذلك ، والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ورفعه إلى السماء ، واعلم أن الأنبياء الذين أمروا بالقتال معصومون من القتل فلا خصوصية لعيسى ، وأما من لم يؤمر به فلا مانع من كون الكفار يقتلونه لأنه مأمور بالصبر ، وذلك كما وقع لزكريا حين نشروه بالشجرة. قوله : (قابضك) (وَرافِعُكَ) أشار بذلك إلى أن عطف ورافعك على متوفيك للتفسير وهو تقدير آخر غير ما تقدم. قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) أي إلى كرامتي وأهل قربي. وقوله : (من الدنيا) أراد بها الأرض.

قوله : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) أي أحبوك وانتسبوا لك ، فإن صدقوا بمحمد أيضا وأحبوه أو ماتوا قبل بعثته فقد تم لهم العز دنيا وأخرى ، وإن لم يصدقوا بمحمد ولم يحبوه فقد حازوا على الدنيا. (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) فالنصارى لهم عز في الدنيا وسلطنة على اليهود إلى يوم القيامة. قوله : (وهم اليهود) أي فهو عز على خصوص اليهود لا مطلقا ما داموا كفارا ، وذلك أنه لما رفع الله عيسى افترق أصحابه ثلاث فرق ، فقالت فرقة كان الله فينا ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية ، وقالت أخرى كان فينا ابن الله ثم رفعه إليه وهم النسطورية ، وقالت أخرى كان فينا عبد الله ورسوله ثم رفعه الله إليه وهذه الفرقة هم

٢٠٩

(إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥٥) من أمر الدين (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي والجزية (وَالْآخِرَةِ) بالنار (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٥٦) مانعين منه (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ) بالياء والنون (أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٥٧) أي يعاقبهم ، روي أن الله أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت فقال لها إن القيامة تجمعنا وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة وعاشت أمه بعده ست سنين ، وروي الشيخان حديث «إنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية» وفي حديث مسلم «إنه يمكث سبع سنين» وفي حديث عند أبي داود الطيالسي «أربعين سنة ويتوفى ويصلى عليه»

____________________________________

المسلمون ، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم ، فلم يزل الإسلام منطمسا إلى أن بعث محمد. قوله : (يعلونهم بالحجة) أي يغلبونهم بالأدلة. قوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي طائفة بعد طائفة. قوله : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) خطاب لجميع المخلوقات.

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ) تفصيل لما يؤول أمر الناس إليه في الآخرة. قوله : (بالقتل والسبي) أي مع الذل والهوان. قوله : (مانعين منه) أي من العذاب. قوله : (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (فتعلقت به أمه) أعلم أنه بعد رفعه بسبعة أيام قال الله له اهبط إلى مريم ، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ، ولم يحزن عليك أحد حزنها ، ثم لتجمعن الحواريين فبثهم في الأرض دعاة إلى الله ، فأهبطه الله عزوجل ، فاجتمعت له الحواريون فبثهم في الأرض ، فلما أصبح الحواريون تكلم كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليه ، إذا علمت ذلك ، فقوله : (تعلقت به أمه) محمول على هذا الصعود الثاني ، وإلا فالأول لم تعلم به وهي ولا أصحابه. قوله : (وبكت) أي على فراقه. قوله : (وكان ذلك ليلة القدر) إن قلت إن ليلة القدر من خصائص هذه الأمة ، أجيب بأن الذي من خصائص هذه الأمة فضلها من كونها خيرا من الف شهر ، وكونها تنزل فيها الملائكة من الغروب إلى طلوع الفجر ، وكون الدعاء فيها مجابا بعين المطلوب ، فلا ينافي ثبوتها في الأمم السابقة ، لكن لا بهذا الفضل. قوله : (وله ثلاث وثلاثون سنة) أي وعليه فقيل جاءته النبوة من حين الولادة وقيل على رأس الثلاثين ، وبعد هذا فما قاله المفسر ضعيف رجع عنه كما قاله سيدي محمد الزرقاني في شرح المواهب ، والحق الذي اعتمده الاشياخ أنه ما رفع إلا بعد مضي مائة وعشرين سنة ، وجاءته النبوة على رأس الأربعين كغيره ، وعمر أمه حين رفع على الأول ست وأربعون سنة وعاشت بعده ست سنين فيكون عمرها اثنين وخمسين ، وعلى الثاني مائة وتسعة وثلاثين ، واعلم أنه لما رفع كساه الله خلعة النور وسلبه شهوة الطعام والشراب والنوم ، وجعل له ريشا يطير به كالملائكة فهو حكمهم. قوله : (إنه ينزل) أي على منارة بني أمية حين يضايق الدجال المهدي والخلق جميعا ، فيهرعون إلى دمشق الشام وهو محتاط بهم ، فينزل عند إقامة الصلاة ، فيريد المهدي التأخر فيأمره عيسى بالتقدم ، فبعد الصلاة يتوجهون إلى الدجال وهو في بلد ، فإذا رأى عيسى ذاب كالملح فيهزمه الله ، ثم يظهر العدل والصلاح في الأرض. قوله : (ويحكم بشريعة نبينا) إن قلت إن وضع الجزية ليس من شرع نبينا. أجيب بأنه غير أن أخذها مغيى بنزول عيسى كما أخبر بذلك نبينا فوضعها أيضا من شرعنا (قوله سبع سنين) أي فوق الثلاث والثلاثين وهو ضعيف. قوله : (أربعين سنة) قيل من ولادته فيكون مكثه بعد النزول سبع سنين كالرواية

٢١٠

فيحتمل أن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده (ذلِكَ) المذكور من أمر عيسى (نَتْلُوهُ) نقصه (عَلَيْكَ) يا محمد (مِنَ الْآياتِ) حال من الهاء في نتلوه وعامله في ذلك من معنى الإشارة (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٥٨) المحكم أي القرآن (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) شأنه الغريب (عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) كشأنه في خلقه من غير أب وهو من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس (خَلَقَهُ) أي آدم أي قالبه (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) بشرا (فَيَكُونُ) (٥٩) أي فكان وكذلك عيسى قال له كن من غير أب فكان (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر لمبتدأ محذوف أي أمر عيسى (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٦٠) الشاكين فيه (فَمَنْ حَاجَّكَ) جادلك من النصارى (فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ

____________________________________

الأولى ، وقيل مبدأ الأربعين من نزوله ، وعلى كونها من نزوله فعلى كونه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين يكون عمره ثلاثا وسبعين سنة ، وعلى أنه رفع وهو ابن مائة وعشرين فيكون عمره مائة وستين. قوله : (ويصلى عليه) أي يصلي عليه المسلمون ويدفن في السهوة الشريفة ، فإذا جاء يوم القيامة قام أبو بكر وعمر بين رسولين سيدنا محمد وعيسى عليهما‌السلام.

قوله : (ذلِكَ) اسم الإشارة عائد على ما تقدم من عجائب عيسى ، وأفرد باعتبار ما ذكر كما أشار لذلك المفسر. قوله : (وعامله في ذلك الخ) لأنه مضمن معنى أشير واعتراض ذلك بأن العامل في صاحبها ، هو الهاء في نتلوه ، فالعامل فيه هو نتلوه ، قال بعضهم معتذرا عن المفسر بأنه خلط إعرابا بآخر. وحاصل ذلك أن قوله ذلك مبتدأ وقوله نتلوه خبره ، وقوله من الآيات حال من الهاء وعامله هو نتلو أو من الآيات خبره ونتلوه حال ، وعاملها ما في ذلك من معنى الإشارة ، وهذا هو الذي يشير له المفسر على قول بعضهم. قوله : (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) عطف على الآيات للتفسير.

قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) سبب نزولها أن وفد نجران قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : نراك تسب صاحبنا ، فقال من هو؟ قالوا عيسى تزعم أنه عبد الله ، فقال رسول الله أجل إنه عبد الله ورسوله ، فقالوا : هل له مثل من الخلق خلق من غير أب؟ فنزلت الآية. قوله : (الغريب) أي وهو عيسى ، قوله : (بالإغرب) أي وهو آدم ، وأغربيته من وجوه منها أنه لم يسبق له أمثال أصلا ، ومنها وجود الأم لعيسى دون آدم ، إن قلت : وجه الشبه بينهما ليس بتمام. أجيب : بأنه يكفي وجه واحد وهو عدم الأبوة لكل.

قوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة مفسرة لما قبلها لا محل لها من الأعراب. قوله : (أي قالبه) بفتح اللام وهو الجسم ، وأما الروح فمن نور نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما حمل الخلق على القالب لا على صورة الجسم الشاملة للروح نظرا لقوله ثم قال كن الخ ، وإلا لكان ضائعا. قوله : (وكذلك عيسى الخ) أشار بذلك إلى وجه الشبه بينهما ، واتفق أن عالما أسر في بلاد الروم فوجدهم يعبدون عيسى ، فقال لهم لم تعبدون عيسى؟ فقالوا لأنه لا أب له ، فقال لهم : آدم أولى لأنه معدوم الأبوين ، فقالوا له : آدم وإن كان بلا أب إلا أنه لا يحيى الموتى ، فقال لهم : إذا كان كذلك فحزقيل أولى لأنه أحيا ثمانية آلاف وقيل أكثر بدعوته وعيسى أحيا أربعة أنفار ، فقالوا : إن عيسى يبرىء الأكمة والأبرص ، فقال : جرجيس أحرق وطبخ ولم يضره الحرق ولا الطبخ. قوله : (أي أمر عيسى) أي الذي قصة الله في كتابه. قوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) خطاب له والمراد أمته على حد (لئن أشركت ليحبطن عملك) ، لأنه معصوم من الامتراء والشرك وكل كبيرة

٢١١

الْعِلْمِ) بأمره (فَقُلْ) لهم (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) فنجمعهم (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) نتضرع في الدعاء (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٦١) بأن نقول اللهم العن الكاذب في شأن عيسى ، وقد دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نجران لذلك لما حاجوه فيه ، فقالوا حتى ننظر في أمرنا ثم نأتيك ، فقال ذوو رأيهم : لقد عرفتم نبوته وأنه ما بأهل قوم نبيا إلا هلكوا ، فوادعوا الرجل وانصرفوا ، فأتوه وقد خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي وقال لهم : إذا دعوت فأمنوا ، فأبوا أن يلاعنوا وصالحوه على الجزية ، رواه أبو نعيم ، وعن ابن عباس قال لو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا ، وروي لو خرجوا لاحترقوا (إِنَّ هذا) المذكور (لَهُوَ الْقَصَصُ) الخبر (الْحَقُ) الذي لا شك فيه (وَما مِنْ) زائدة (إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) (٦٢) في صنعه (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (٦٣) فيجازيهم وفيه وضع الظاهر موضع المضمر (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) اليهود

____________________________________

وصغيرة. قوله : (من النصارى) أي نصارى نجران أو غيرهم. وقوله : (بأمره) أي أنه عبد الله ولم يكن ابنه.

قوله : (تَعالَوْا) أصله تعاليوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فالتقى ساكنان الألف والواو وحذفت الألف لالتقائهما وهو فعل أمر صحيح مبني على حذف النون والواو فاعل وهو مفتوح اللام دائما لمذكر أو مؤنث. قوله : (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) أي الذكور ، وقوله : (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) أي الاناث منهم ، والحكمة في حضور الأولاد زيادة التغليظ في اليمين ، وتأكيد لمزيد صدقه وكذبهم ، ولما كانت المباهلة أمرا عظيما لم تشرع بعد النبي إلا في اللعان بين الزوجين.

قوله : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) الابتهال من البهلة بفتح الباء وضمها هي اللعنة في الأصل ، ثم استعمل في كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. قوله : (لذلك) أي للتضرع والدعاء. قوله فقال : (ذوو رأيهم) أي فرجعوا إليهم وشاوروهم فقال الخ. قوله : (لقد عرفتم نبوته) أي نبوة محمد ، وقوله : (ما باهل) أي نازع. قوله : (فوادعوا الرجل) أي صالحوه على مال يأخذه منكم. قوله : (وقد خرج) الجملة حالية. قوله : (وصالحوه على الجزية) ورد أنها ألفا حلة نصفها في صفر ونصفها في رجب ، وثلاثون درعا وثلاثون بعيرا وثلاثون فرسا وثلاثون من كل صنف من أصناف السلاح ، وقد ثبتت هذه الرواية في بعض نسخ الجلال القديمة. قوله : (وعن ابن عباس الخ) أي وورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تولى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم عليهم الوادي نارا ، ولم يبق نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة».

قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) هذا نتيجة ما قبله واسم الإشارة عائد على ما ذكر من أمر عيسى وأنه ليس ابن الله ، وأكد الجملة بأن اللام وكونها معرفة الطرفين لشدة إنكارهم. قوله : (زائدة) أي وإله مبتدأ والله خبره وهو قصر إفراد. قوله : (وفيه وضع الظاهر الخ) أي زيادة التبكيت عليهم.

قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) سبب نزولها أن نصارى نجران اختصموا مع اليهود في شأن إبراهيم ، فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه ، وزعمت اليهود أنه كان يهوديا وهم على دينه ، فقدموا

٢١٢

والنصارى (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) مصدر بمعنى مستو أمرها (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) هي (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) كما اتخذتم الأحبار والرهبان (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن التوحيد (فَقُولُوا) أنتم لهم (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤) موحدون. ونزل لما قال اليهود : إبراهيم يهودي ونحن على دينه ، وقالت النصارى كذلك (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ) تخاصمون (فِي إِبْراهِيمَ) بزعمكم أنه على دينكم (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) بزمن طويل ، وبعد نزولهما حدثت اليهودية والنصرانية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٥)

____________________________________

متحاكمين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلا الفريقين كاذب ، فقالت النصارى ما تريد إلا أن نتخذك معبودا كما اتخذت اليهود العزيز ربا ، وقالت اليهود ما تريد إلا أن نتخذك معبودا كما اتخذت النصارى المسيح ربا ، فنزلت. قوله : (إِلى كَلِمَةٍ) متعلق بتعالوا ذكره المتعلق هنا لأن المقصود الاجتماع على هذه الكلمة بخلاف التي قبلها ، فإن المقصود منها مجرد الأقبال أو حذفه من الأول ، وتقديره إلى المباهلة لدلالة الثاني عليه.

قوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) هذه الجملة في محل رفع خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله هي ، وإنما أطلق عليها كلمة مع أنها جمل لارتباط بعضها ببعض ، قال ابن مالك : وكلمة بها قد يؤم. نظير قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها). قوله : (كما اتخذتم الأحبار) أي وهم علماء اليهود والرهبان عباد النصارى واتخاذهم أربابا من حيث إنهم ينسبون التحليل والتحريم والاقالة من الذنوب لهم ولا يتبعون ما أنزل الله ، بل المدار عندهم على ما حللته الأحبار والرهبان أو حرموه ، وهذه الآية وإن كانت خطابا لليهود والنصارى إلا أنها تجر بذيلها على من يشرك بالله غيره من المسلمين كضعفاء الإيمان الذين يعتقدون في الأولياء أنهم يضرون أو ينفعون بذواتهم ، ويحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ، ومع ذلك يحدثون بدعا عظيمة ما أنزل الله بها من سلطان ، ويجعلون تلك البدع طرقا لهؤلاء الأولياء ويزعمون أنها منجية وإن كانت مخالفة للشرع ، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هو الخاسرون). قوله : (أعرضوا عن التوحيد) أي لم يمتثلوا أمرك واتبعوا أحبارهم ورهبانهم فيما يأمرونهم به.

قوله : (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) أي منقادون لله وبريئون منكم ومن عقائدكم. قوله : (ونزل لما قال اليهود الخ) أي وتحاكموا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليفصل بينهما. قوله : (وقالت النصارى كذلك) أي هو نصراني ونحن على دينه.

قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى. قوله : (لِمَ تُحَاجُّونَ) أي يحاجج بعضكم بعضا ، والإستفهام توبيخي إنكاري. قوله : (فِي إِبْراهِيمَ) أي في دينه فهو على حذف مضاف ، وإليه يشير المفسر بقوله : (بزعمكم أنه على دينكم). قوله : (بزمن طويل) أي فكان بين التوراة وإبراهيم ألف سنة ، وبينه وبين الإنجيل ألفا سنة وتسعمائة وخمسة وسبعون سنة. قوله : (وبعد نزولها الخ) بهذا التقدير تمت الحجة عليهم ، فالمعنى أن المانع من كونهم على دين إبراهيم تغييرهم وتبديلهم ، وإلا فلو تمسكوا بالتوراة والإنجيل حقيقة لما اختلفوا ولكانوا على دين إبراهيم. قوله : (حدثت اليهودية والنصرانية) أي

٢١٣

بطلان قولكم (ها أَنْتُمْ) للتنبيه مبتدأ يا (هؤُلاءِ) والخبر (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من أمر موسى وعيسى وزعمكم أنكم على دينهما (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من شأن إبراهيم (وَاللهُ يَعْلَمُ) شأنه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ه (٦٦) ، قال تعالى تبرئة لإبراهيم (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مائلا عن الأديان كلها إلى الدين القيم (مُسْلِماً) موحدا (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦٧) (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ) أحقهم (بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في زمانه (وَهذَا النَّبِيُ) محمد لموافقته له في أكثر شرعه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أمته فهم الذين ينبغي أن يقولوا نحن على دينه لا أنتم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨) ناصرهم وحافظهم. ونزل لما دعا اليهود معاذا وحذيفة وعمارا إلى دينهم (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن إثم إضلالهم عليهم والمؤمنون لا يطيعونهم فيه (وَما يَشْعُرُونَ) (٦٩) بذلك

____________________________________

اللتان ابتدعوهما حيث غيروا التوراة وسموها اليهودية ، وغيروا الإنجيل وسموه النصرانية. قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أغفلتم عما زعمتم فلا تعقلون ما تقولونه.

قوله : (ها أَنْتُمْ) يقرأ إما بألف وبعدها همزة إما محققة أو مسهلة أو بدون ألف ، والهمزة إما محققة أو مسهلة أو بألف فقط بدون همزة أصلا ، فالقراءات خمس وكلها سبعية. قوله : (من أمر موسى وعيسى) أي الذي نطقت به التوراة والإنجيل من أنهما عبدان ورسولان لله ، يأمران بعبادة الله وحده ولا يشركان به غيره. وقوله : (من شأن إبراهيم) أي لكونه لم يذكر في كتبكم ما كان إبراهيم عليه ، فكيف تدعون أنكم على دينه مع جهلكم به. قوله : (إلى الدين القيم) أي المستقيم الذي لا اعوجاج فيه. قوله : (موحدا) أي منقادا ممتثلا أوامر ربه مجتنبا نواهيه. قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي معه غيره. قوله : (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) زيدت اللام للتقوية وهي لام الابتداء زحلقت للخبر ، كما قال في الخلاصة :

وبعد ذات الكسر تصحب الخبر

لام ابتداء نحو إني لوزر

قوله : (في زمانه) أي وهم أولاده كإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولادهم إلى يوم القيامة ، قال : تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) الآية. قوله : (لموافقته له في أكثر شرعه) أي فعقائد محمد التي هو عليها لا تخالف ما قصه الله في كتابه عن إبراهيم. إذا علمت ذلك ، فالمناسب للمفسر أن يقول لموافقته له في الأصول ، أو يقال إن الموافقة في الفروع من حيث السهولة ، فإن شريعة محمد سهلة نهلة كشريعة إبراهيم ، لا كشريعة موسى فإنها صعبة التكاليف بسبب عناد بني إسرائيل ، وهذا هو محمل المفسر. قوله : (من أمته) أي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (ناصرهم) أي على أعدائهم ، وقوله : (وحافظهم) أي واقيهم من أعدائهم.

قوله : (وَدَّتْ) أي أحبت ولو مصدرية ، والمعنى أحبت جماعة من اليهود والنصارى إضلالكم أي رجوعكم عن الإسلام إلى الكفر ، وكانوا يتوددون إليهم بالهدايا. قوله : (لأن اثم اضلالهم عليهم) أي لأن الدال على الشر كفاعله ، ويؤخذ من ذلك أن المقوي لشوكة الكفر بالشبه الباطلة والحجج العاطلة عليه إثم كفره وإثم كفر من تبعه إلى يوم القيامة. قوله : (بذلك) أي يكون إثم الضلال لاحقا بهم لقساوة

٢١٤

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) القرآن المشتمل على نعت محمد (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (٧٠) تعلمون أنه حق (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ) تخلطون (الْحَقَّ بِالْباطِلِ) بالتحريف والتزوير (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) أي نعت النبي (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٧١) أنه حق (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود لبعضهم (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي القرآن (وَجْهَ النَّهارِ) أوله (وَاكْفُرُوا) به (آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ) أي المؤمنين (يَرْجِعُونَ) (٧٢) عن دينهم إذ يقولون ما رجع هؤلاء عنه بعد دخلوهم فيه وهم أولو علم إلا لعلمهم بطلانه ، وقالوا أيضا (وَلا تُؤْمِنُوا) تصدقوا (إِلَّا لِمَنْ) اللام زائدة (تَبِعَ) وافق (دِينَكُمْ) قال تعالى (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) الذي هو الإسلام وما عداه ضلال والجملة اعتراض (إِنَ) أي بأن (يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من الكتاب والحكمة والفضائل ، وأن مفعول تؤمنوا ، والمستثنى منه أحد قدم عليه المستثنى ، المعنى لا تقروا بأن أحدا يؤتى ذلك إلا لمن تبع دينكم (أَوْ) بأن (يُحاجُّوكُمْ) أي المؤمنون يغلبوكم

____________________________________

قلوبهم ، فلم يعرفوا أنهم لا يضرون إلا أنفسهم. قوله : (القرآن المشتمل على نعت محمد) أي وقيل هي التوراة والإنجيل فإنهما مشتملان على نعته أيضا ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) الآية. قوله : (تعلمون أنه حق) أي من التوراة والإنجيل. قوله : (الْحَقَ) أي وهو نعت محمد وأصحابه المذكور في التوراة والإنجيل ، وقوله : (بِالْباطِلِ) أي وهو التغيير لتلك النعوت. قوله : (بالتحريف والتزوير) أي الكذب في تلك الصفات. قوله : (إنه حق) أي إنه نبي حقا ، وما جاء به من عند ربه حق.

قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ) شروع في بيان تلبيسات اليهود ، ورد أنه اجتمع اثنا عشر من أحبار خيبر ، وأجمع رأيهم على أنهم يظهرون الإسلام في أول النهار وفي آخره يرجعون لدينهم ويأمرون الناس بذلك ، وقصدهم بذلك دخول الشك على من آمن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أجمعوا وصمموا على ذلك جعل الله كيدهم في نحورهم ولم يفعلوا شيئا من ذلك ، ولو فعلوه لعاد شؤمه عليهم وقتلوا إن لم يتوبوا ، لأن المرتد لا يبقى على ردته فمن نكث فإنما ينكث على نفسه. قوله : (آمِنُوا) أي صدقوا ظاهرا باللسان. قوله : (أي القرآن) هذا هو المشهور في تفسير الآية ، وقيل الذي أنزل على الذين آمنوا هو القبلة حين أمر النبي بالتحول للكعبة ثانيا بعد استقباله بيت المقدس ، فحينئذ حصل لليهود غيظ وحزن عظيم ، فأجمع رأيهم على موافقة المؤمنين أول النهار ومخالفتهم آخره ، لعله يحصل الشك لأصحابه فيرجعون عن دينهم. قوله : (أوله) أشار بذلك إلى أن وجه النهار ظرف زمان لقوله آمنوا. قوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) علة لقوله آمنوا بالذي أنزل الخ. قوله : (إذ يقولون) علة للعلة.

قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا) هذا من جملة تلبيساتهم ، وحاصل إعراب هذه الآية أن يقال لا ناهية وتؤمنوا مجزوم بها وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ، وقوله : (أَنْ يُؤْتى) أن حرف مصدري ونصب ، ويؤتى منصوب بها وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر وهو في تأويل مصدر معمول لقوله ولا تؤمنوا ، وأحد نائب فاعل يؤتى وهو مفعول أول له ومثل مفعول ثان ، وقوله : (إلا) أداة استثناء و (لمن) اللام زائدة ومن منصوب على الاستثناء والمستثنى منه قوله أحد وما اسم موصول وأوتيتم

٢١٥

(عِنْدَ رَبِّكُمْ) يوم القيامة لأنكم أصح دينا ، وفي قراءة أأن بهمزة التوبيخ أي أإيتاء أحد مثله تقرون به ، قال تعالى (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فمن أين لكم أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (وَاللهُ واسِعٌ) كثير الفضل (عَلِيمٌ) (٧٣) بمن هو أهله (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤) (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) أي بمال كثير (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)

____________________________________

صلتها والعائد محذوف ، والمعنى لا تصدقوا إتيان أحد من الفضائل والكمالات مثل الذي أوتيتموه إلا من تبع دينكم ، وأما من لم يتبعه كمحمد فلا تصدقوه ، وهذا الوجه وإن كان صحيحا من جهة المعنى ، إلا أنه مشكل من جهة الصناعة ، لأن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه ومعمول الصلة عليها. قوله : والجملة اعتراض) أي بين العامل والمعمول. قوله : (وأن مفعول تؤمنوا) أي مع صلتها. قوله : (والمعنى لا تقروا الخ) إيضاحة أنهم قالوا انظروا فيمت ادعى شيئا من النبوة والفضائل والكمالات ، فإن كان متبعا لدينكم فصدقوه وإلا فكذبوه ، والمناسب للمفسر أن يقول والمعنى لا تصدقوا الخ ، وحاصل هذا المعنى الذي أشار له المفسر أنه ضمن تؤمنوا معنى تقروا لتكون اللام أصلية والمستثنى منه محذوف تقديره : لأحد ، والمعنى لا تقروا ولا تعترفوا لأحد بأنه يؤتى أحد مثل الذي أوتيتموه من الفضائل والكمالات إلا لشخص اتبع دينكم ، وهذا كله كناية عن نفي النبوة عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا المعنى صحيح من جهة العربية ، والمعنى والمفسر من شدة اختصاره خلط هذا التقرير المتقدم وقد علمتهما.

قوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) معطوف على يؤتى ، والضمير عائد على أحد المتقدم ، وإنما جمعه لأن أحدا في معنى الجمع ، والمعنى على الأول لا تصدقوا أحدا يحاججكم ويغلبكم عند ربكم يوم القيامة إلا من اتبع دينكم ، وأما من لم يتبعه فلا حجة له عليكم ، وعلى الثاني لا تقروا بأن أحدا يغلبكم ويحاججكم عند ربكم إلا من تبع دينكم ، وأما غيره فلا تقروا ولا تعترفوا له بذلك. قوله : (وفي قراءة أأن) وهي سبعية لابن كثير لكن بتسهيل الثانية. قوله : (بهمزة التوبيخ) أي الاستفهام التوبيخي ، والكلام قد تم قبل الاستفهام ، والمستثنى منه محذوف على كلا التقديرين ، والمعنى لا تصدقوا أحدا في دعواه النبوة والفضائل إلا من تبع دينكم ، ألا لا تقروا لأحد من الناس أنه على هدى وخير إلا لمن تبع دينكم ، وقوله قل إن الهدى هدى الله رد لمقالتهم ، وجملة الاستفهام استثنائية ، فالمعنى أن يؤتى أحد مثل الذي أوتيتموه أو يكون له محاججة عند ربكم ، وجوابه لا يكون ذلك وهو استبعاد منهم لفضل الله. قوله : (أي إيتاء أحد الخ) أشار بذلك إلى أن قوله أن يؤتي في تأويل مصدر مبتدأ خبره محذوف تقديره تقرون به.

قوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) رد عليهم حيث استبعدوا أن الله لا يؤتي أحدا مثل ما آتاهم من الفضل والنبوة ، وفي الحقيقة هو رد لدعواهم من أولها إلى آخرها. قوله : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي فيعطيه لمن يشاء. قوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) شروع في بيان قبائحهم في أمور الدنيا ، بعد أن ذكر قبائحهم في أمور الدين ، والجار والمجرور خبر مقدم ، ومن اسم موصول أو نكرة موصوفة مبتدأ مؤخر ، وقوله : (إِنْ تَأْمَنْهُ) ويؤده جملة شرطية إما صلة أو صفة ، وراعى في افراد الضمير في تأمنه لفظ من ، ولو راعى معناها لقال تأمنهم. قوله : (أي بمال كثير) أشار بذلك إلى بيان شأن هذا المؤتمن ، وإن كان سبب النزول في قنطار حقيقة ، فالمقصود بيان شرفه من جهة الأمانة فلا مفهوم للقنطار ، بل لو ائتمن على قناطير متعددة لم يخنه فيها. قوله : (يُؤَدِّهِ) يقرأ بالسكون وبالكسر مع الأشباع وتركه فهي ثلاث سبعيات.

٢١٦

لأمانته كعبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداها إليه (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) لخيانته (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) لا تفارقه فمتى فارقته أنكره ككعب بن الأشرف استودعه قرشي دينارا فجحده (ذلِكَ) أي ترك الأداء (بِأَنَّهُمْ قالُوا) بسبب قولهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ) أي العرب (سَبِيلٌ) أي إثم ، لاستحلالهم ظلم من خالف دينهم ، ونسبوه إليه تعالى (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في نسبة ذلك إليه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) أنهم كاذبون (بَلى) عليهم فيهم سبيل (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) الذي عاهد الله عليه أو بعهد الله إليه من أداء الأمانة وغيره (وَاتَّقى) الله بترك المعاصي وعمل الطاعات (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧٦) فيه وضع الظاهر موضع المضمر ، أي يحبهم بمعنى يثيبهم ، ونزل في اليهود لما بدلوا نعت النبي وعهد الله إليهم في التوراة أو

____________________________________

قوله : (أودعه رجل) أي قرشي. قوله : (بِدِينارٍ) أصله دننار بنونين قلبت الأولى ياء دفعا للثقل ، والباء في قوله بدينار وبقنطار بمعنى في وهو على حذف مضاف ، في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار ، ويصح أن تكون بمعنى على لتعدي الأمانة بها في القرآن كثيرا ، نحو لا تأمنا على يوسف ، هل آمنكم على عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ، والدينار أربعة وعشرون قيراطا ، والقيراط وزنه ثلاث شعيرات ، فوزن الدينار بالشعير اثنتان وسبعون شعيرة.

قوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) ما مصدرية ظرفية ودام فعل ماض والتاء اسمها وقائما خبرها ، إلا مدة دوامك قائما عليه ، والمعنى لا يؤده إليك في حال من الأحوال ، إلا في حال ملازمتك له وإشهادك عليه قوله : (فجحده) أي أنكره. قوله : (أي بسبب قولهم) أشار بذلك إلى أن الباء سببية وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالباء. قوله : (أي العرب) أي وغيرهم ممن ليس من أهل كتابهم. قوله : (لاستحلالهم ظلم من خالف دينهم الخ) روي أنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ، وجميع ما في الأرض ملك لأبينا ، وأولاد السيد يتصرفون في ملك أبيهم ، وقيل إنهم قالوا : المال لنا وظلمنا فيه العرب ، وقيل : إنهم قالوا إن الله أباح لنا مال من خالف ديننا ، وادعوا أن ذلك في التوراة. ورد أن النبي لما قالوا ذلك قال : «كذبوا ما من شيء إلا وهو تحت قدمي ، يعني منسوخ ، ما عدا الأمانة فإنها مؤداة للبر والفاجر». قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) هذا بالنسبة لعلمائهم ، وما عداهم مقلدون لهم في ذلك. قوله : (بَلى) إضراب إبطالي وهو مغن عن جملة قدرها المفسر بقوله عليهم فيهم سبيل. قوله : (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) جملة مستأنفة مؤكدة للإبطال الأول. قوله : (الذي عاهد الله عليه) أي فهم من إضافة المصدر لفاعله ، وقوله : (أو بعهد الله إليه) أي فهو من إضافة المصدر لمفعوله ، فكل من العبد والمولى معاهد ومعاهد ، فعهد الله للعبد إثابته ، وعهد العبد لمولاه عدم مخالفته له. قوله : (من أداء الأمانة الخ) ورد في الحديث : «خمس من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كان فيه واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر». قوله : (فيه وضع الظاهر موضع المضمر) أي وكان مقتضى الظاهر أن يقول فإن الله يحيه ، وفيه أيضا مراعاة معنى من. قوله : (لما بدلوا الخ) شروع في سبب نزول الآية وقد ذكره على ثلاثة أوجه. قوله : (نعت النبي) من الجماعة الذين بدلوا

٢١٧

فيمن حلف كاذبا في دعوى أو في بيع سلعة (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) يستبدلون (بِعَهْدِ اللهِ) إليهم في الإيمان بالنبي وأداء الأمانة (وَأَيْمانِهِمْ) حلفهم به تعالى كاذبين (ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا (أُولئِكَ لا خَلاقَ) نصيب (لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) غضبا عليهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) يرحمهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) يطهرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٧) مؤلم (وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي أهل الكتاب (لَفَرِيقاً) طائفة ككعب بن الأشرف (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أي يعطفونها بقراءته عن المنزل إلى ما حرفوه من نعت النبي ونحوه (لِتَحْسَبُوهُ) أي المحرف (مِنَ الْكِتابِ) الذي أنزله الله (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨) أنهم كاذبون. ونزل لما قال نصارى نجران : إن عيسى أمرهم أن

____________________________________

نعته حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف. قوله : (في دعوى) أي كانت بين رجلين في بئر أحدهما الأشعث بن قيس فاختصما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال شاهداك أو يمينه فقال الأشعث بن قيس إذا يحلف كاذبا ولا يبالي ، وقوله : (أو بيع سلعة) أي فيمن أراد بيعها وحلف لقد أعطي فيها كذا كاذبا.

قوله : (بِعَهْدِ اللهِ) الباء داخلة على المتروك أي يتركون الوفاء به في نظير الثمن القليل. قوله : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ) أي فهم مخلدون في النار إن استحلوا ذلك. قوله : (ولا يكلمهم الله) إن قلت إن قوله تعالى في سورة المؤمنون : (قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون) الآية ، يقتضي أن الله يقع منه كلام لهم ، فكيف الجمع بين الاثنين؟ أجيب بأن قوله تعالى (ولا يكلمهم الله) أي كلام رضا فلا ينافي أنه يكلمهم كلام غضب أو لا يكلمهم أصلا وآيات الكلام على لسان الملائكة ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ). قوله : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي نظر رحمة وإلا فهو ناظر لكل شيء. قول (يطهرهم) أي من الذنوب ولا يثني عليهم وهذا استخفاف بهم.

قوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً) هذا من جملة قبائحهم وتلبيساتهم ، وأكدت الجملة بأن واللام إشارة إلى أن ذلك محقق منهم. قوله : (ككعب بن الأشرف) أدخلت الكاف ، مالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وأبي ياسر ، وشعبة بن عمرو الشاعر. قوله : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) في محل نصب صفة لفريقا ، وقوله : (مِنْهُمْ) متعلق بمحذوف خبر إن ، وراعى في الجمع معنى فريقا لأنه اسم جمع كرهط وقوم ، قال بعضهم يجوز مراعاة اللفط ، وألسنتهم جمع لسان ، وهذا على أنه مذكر ، وأما على أنه مؤنث فهو جمع لألسن كذراع وأذرع ، والمراد من الألسنة الكلام ، ففيه إطلاق الشيء على آلته ، والباء في الكتاب بمعنى في ، أي يلفتون ألسنتهم في حال قراءة الكتاب. قوله : (أي يعطفونها) أي يلفتونها. قوله : (عن المنزل) متعلق بيعطفونها ، وكذا قوله : (من نعت النبي) بيان لما. قوله : (ونحوه) أي كآية الرجم وغيرها مما يشهد للنبي بالتصديق.

قوله : (لِتَحْسَبُوهُ) أي أيها المؤمنون ، فالمقصود من ذلك إدخال اللبس على المؤمنين. قوله : (مِنَ الْكِتابِ) في محل نصب مفعول ثان لتحسبوه ، والهاء مفعول أول. قوله : (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) أي لا في الواقع ولا في اعتقادهم ، وأظهر في محل الاضمار في الموضعين زيادة في التبكيت عليهم. قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الواو للحال ، وقوله : (أنهم كاذبون) إشارة إلى مفعول يعلمون. قوله : (ونزل لما قال نصارى

٢١٨

يتخذوه ربا ، أو لما طلب بعض المسلمين السجود له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما كانَ) ينبغي (لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) أي الفهم للشريعة (وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ) يقول (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) علماء عاملين منسوب إلى الرب بزيادة ألف ونون تفخيما (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) بالتخفيف والتشديد (الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (٧٩) أي سبب ذلك فإن فائدته أن تعملوا (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالرفع استئنافا أي الله ، والنصب عطفا على يقول أي البشر (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) كما اتخذت الصابئة الملائكة واليهود عزيزا والنصارى عيسى (أَيَأْمُرُكُمْ

____________________________________

نجران) أي حين قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمراد بالبشر على هذا هو عيسى وبالكتاب الإنجيل ، قوله : (أو لما طلب بعض المسلمين الخ) أو لتنويع الخلاف ، فالمراد بالبشر على ذلك هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالكتاب القرآن ، وآخر الآية يؤيد هذا السبب.

قوله : (ما كانَ) الخ هذه الصيغة يؤتى بها للنفي العام الذي لا يجوز عقلا ثبوته وهو المراد هنا ، وكذلك قوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي لا يمكن ولا يتصور عقلا صدور دعوى الأولوهية من نبي قط ويؤتى بها للنفي الخاص ، كقول أبي بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم في الصلاة بين يدي رسول الله ، أي ما ينبغي له ذلك ، فقول المفسر ينبغي أي يمكن وقد فسره المحلي في سورة يس في قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) بذلك. قوله : (ثُمَّ يَقُولَ) معطوف على يؤتى ، ولهذا العطف لازم يتوقف صحة المعنى عليه لأن مصب النفي المعطوف والمعطوف عليه. قوله : (لِلنَّاسِ) أي أمة محمد على الثاني ، ونصارى نجران على الأول. قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير أن يقصرهم على الله بأن يشرك نفسه مع الله في العبادة أو يفرد نفسه بالعبادة ، وهذه الجملة حال من الواو في (كُونُوا) أي حال كونكم متجاوزين الله إشراكا أو إفرادا. قوله : (وَلكِنْ) استدارك على ما تقدم. قوله : (زيادة ألف ونون) أي كرقباني وشعراني ولحياني ، وقوله : (تفخيما) أي للمبالغة. قوله : (وَبِما كُنْتُمْ) الباء سببية.

قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فالعلم سبب للعمل ، فقبيح على العالم تركه العمل ، وأقبح منه أن يرشد الناس يهديهم مع كونه هو غير مهتد في نفسه ، قال بعضهم :

وعالم بعلمه لن يعلمن

معذب من قبل عباد الوثن

فمثل العالم الذي يعلم الناس وهو غير عامل ، كشمعة موقودة تضيء للناس وتحرق نفسها ، وفي هذا المعنى قال بعضهم :

أتنهى الأناس ولا تنتهي

متى تلحق القوم يا لكع

ويا حجر السن ما تستحي

تسن الحديد ولا تقطع

قوله : (أي الله) أشار بذلك إلى أن فاعل يأمر ضمير مستتر عائد على الله. قوله : (عطفا على يقول) أي لأنه في حيز النفي ، وتكون لا زائدة لتأكيد النفي ، والمعنى لا يمكن لبشر أن يأمر بعبادة الناس له ، ولا بعبادة الملائكة والنبيين ، وقوله : (أي البشر) أي ففاعلة ضمير يعود على البشر ، ولا يصح كون الفاعل ضميرا يعود على الله. قوله : (أَرْباباً) أي بل نحبهم ونعتقد أنهم عبيد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، لا يضرون ولا ينفعون ، فنتوسل بهم إلى الله ، لذلك لا لكونهم أربابا.

٢١٩

بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٨٠) لا ينبغي له هذا (وَ) أذكر (إِذْ) حين (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) عهدهم (لَما) بفتح اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق وكسرها متعلقة بأخذ ، وما موصولة على الوجهين أي الذي (آتَيْتُكُمْ) إياه وفي قراءة آتيناكم (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) من الكتاب والحكمة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) جواب القسم إن أدركتموه وأممهم تبع لهم في ذلك (قالَ) تعالى لهم (أَأَقْرَرْتُمْ) بذلك (وَأَخَذْتُمْ) قبلتم (عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) عهدي (قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا) على أنفسكم

____________________________________

قوله : (كما اتخذت الصابئة الخ) هم فرقة من اليهود صبؤوا بمعنى مالوا عن دين موسى إلى عبادة الملائكة وقالوا إنهم بنات الله. قوله : (واليهود عزيرا) أي حيث رأوه يحفظ التوراة. قوله : (والنصارى عيسى) أي حيث رأوه جاء من غير أب ويحيى الموتى. قوله : (لا ينبغي له هذا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري تعجبي ، نظير قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ).

قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) إذ ظرف لمحذوف قدره المفسر بقوله اذكر ، والمراد ذكر العهد نفسه لا ذكر وقته ، والميثاق هو عهد مؤكد باليمين ، واختلف فيه هل كان ذلك في عالم الدر ، وعليه يكون قوله آتيتكم من كتاب وحكمة في عالم الأشباح ، فالمعاهدة لما يأتي أو كان ذلك في عالم الأشباح ، وكانت تلك المعاهدة تنزل في كتبهم ، وعليه تكون المعاهدة في الحالة الراهنة ، واختلف في الرسول المعاهد عليه في جميع الأنبياء ، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، منهم سعيد بن جبير وطاوس إلى أن كل نبي يعاهد على من يأتي بعده من الأنبياء ، فأخذ العهد على آدم إن جاءه رسول مصدق لما معه ليؤمنن به ولينصرنه ، وكذلك شيث أخذ عليه العهد ، وهكذا إلى إبراهيم إلى موسى إلى بقية أنبياء بني إسرائيل ، إلى عيسى ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاهد عليه مع كل نبي في عموم الأنبياء ، ومع عيسى عوهد عليه بالخصوص ، وهي حكمة قوله تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) وذهب جماعة أخرى من الصحابة منهم ابن عباس وعلي بن أبي طالب والسدي وقتادة ، إلى أن المراد بالرسول المعاهد عليه هو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ الله العهد على كل نبي بإنفراده لئن جاءه محمد وهو حي مصدق لما معه ليؤمنن به ولينصرنه ، وعليه فلو ظهر محمد في زمن أي نبي من الأنبياء ، لبطل شرع ذلك النبي وكان هو وأمته من أتباعه ، واقتصر على هذا القول المفسر ، قال السبكي يؤخذ من الآية على هذا التفسير أنه نبي الأنبياء وأن الأنبياء نوابه ، والحكمة في تلك المعاهدة ارتباط أولهم بآخرهم ، وبيان عصمتهم من داء الحسد ، من الأمم التي تكفر بالرسول المبعوث. قوله : (وتوكيد معنى القسم) أي مؤكدة لليمين المأخوذ من الميثاق ، فإنه تقدم أن معنى الميثاق عهد مؤكد بيمين. قوله : (متعلقة بأخذ) أي على أنها للتعليل مع حذف المضاف ، أي لرعاية وحفظ ما آتيتكم. قوله : (وما موصولة) على الوجهين وهي على الأول مبتدأ وآتيتكم صلتها ، وقوله : (مِنْ كِتابٍ) بيان لما (وَحِكْمَةٍ) معطوف على (كِتابٍ). وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) معطوف على آتيتكم و (مُصَدِّقٌ) صفة لرسول ، وقوله : (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) جواب القسم ، وخبر المبتدأ محذوف تقديره تؤمنون به وتنصرونه ، والضميران في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) راجعان للرسول ، واستشكل عود الضمير على الرسول ، مع أن المبتدأ في الحقيقة الكتاب والحكمة ، وانظر ما الجواب. قوله : (أَأَقْرَرْتُمْ) بتخفيف الهمزتين بألف بينهما وتركها ، وتسهيل الثانية بألف وبدونها ، وبإبدال الثانية ألفا ، فالقراءات خمس. قوله : (عهد) سمي العهد بالإصر لأن فيه مشقة.

٢٢٠