حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

ببعض كما فعل اليهود والنصارى (وَقالُوا سَمِعْنا) أي ما أمرنا به سماع قبول (وَأَطَعْنا) نسألك (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢٨٥) المرجع بالبعث. ولما نزلت الآية قبلها شكا المؤمنون من الوسوسة وشق عليهم المحاسبة بها فنزل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي ما تسعه قدرتها (لَها ما كَسَبَتْ) من الخير أي ثوابا (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من الشر أي وزره ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوست به نفسه وقولوا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) بالعقاب (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) تركنا الصواب لا عن عمد كما آخذت به من قبلنا وقد رفع الله ذلك عن هذه الأمة كما ورد في الحديث ، فسؤاله اعتراف بنعمة الله (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أمرا يثقل علينا حمله (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) أي بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في

____________________________________

تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) الآية. قوله : (سماع قبول) فيه تعريض بالرد على من قال سمعنا وعصينا ، قوله : (وَأَطَعْنا) أي انقدنا للطاعة ولو بالعزم عليها.

قوله : (غُفْرانَكَ) مفعول المحذوف قدره المفسر بقوله نسألك ، ومعنى الغفران ستر الذنوب كبيرها وصغيرها جليها وخفيها ، فالإنسان يطلب المغفرة ولو في حالة الطاعة بسبب ما يطرأ عليها من العجب وحب المحمدة وغير ذلك من الآفات التي تذهبها ، فالعارف لا يعتمد على أعماله أبدا ، وعلامة ذلك كونه يجدد التوبة والاستغفار ولو كان متلبسا بأكبر الطاعات. قوله : (رَبَّنا) منادى وحرف النداء محذوف أي يا ربنا. قوله : (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قيل معطوف على محذوف تقديره لك المبدأ وإليك المصير. قوله : (ولما نزلت الآية قبلها) أي قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله. قوله : (من الوسوسة) أي التي تطرأ على القلب كالهاجس وهو ما لاح وذهب بسرعة ، والخاطر وهو ما لاح ومكث برهة من الزمن ، وحديث النفس وهو تزيينها الأمور وتحسينها ، وهذه لا تكتب خيرا كانت أو شرا ، والهم وهو ترجيح الفعل وهو يكتب إن كان خيرا لا شرا ، وأما العزم فيكتب خيره وشره. قوله : (فنزل) (لا يُكَلِّفُ اللهُ) أي فهذه الآية إما ناسخة للأولى أو مبينة لها ، وتقدمت الإشارة بذلك.

قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) عبر في جانب الخير باللام ، وفي جانب الشر بعلى ، لأن اللام للمسرة وعلى للمضرة ، وعبر في جانب الطاعة بكسبت ، وفي جانب المعصية باكتسبت ، لأن شأن المعصية التعالي والشهوة بخلاف الطاعة فشأنها عدم الشهوة لما في الحديث «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» وأيضا لا يؤخذ في المعصية بالهم بل بالعزم أو الفعل بخلاف الطاعة فيكتب له ثواب الهم عليها ، وأيضا يؤجر المرء رغما عن انفه بخلاف المعصية ، وأيضا الطاعة تتعدى لغير فاعلها بخلاف المعصية. قوله : (ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد) هذا في جانب المعصية ، وأما في جانب الطاعة فقد تنفع في غير فاعلها. قوله : (ولا بما لم يكسبه) المناسب يكتسبه. قوله : (مما وسوست به نفسه) أي من هاجس وخاطر وحديث نفس وهم.

قوله : (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي أو استكرهنا عليه ، وقد علم ذلك من قوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ومن هنا إلى آخر السور سبع دعوات مستجابة. قوله : (تركنا الصواب لا عن عمد) تفسير لكل

١٨١

الزكاة وقرض موضع النجاسة (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ) قوة (لَنا بِهِ) من التكاليف والبلاء (وَاعْفُ عَنَّا) امح ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) في الرحمة زيادة على المغفرة (أَنْتَ مَوْلانا) سيدنا ومتولي أمورنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦) بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء وفي الحديث لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت.

____________________________________

من الخطأ والنسيان. قوله : (كما ورد في الحديث) أي رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه قوله : (فسؤاله اعتراف بنعمة الله) جواب عما يقال حيث رفعه الله فما وجه سؤالنا لرفعه فأجاب بما ذكر. قوله : (من قتل النفس في التوبة) أي حين عبدوا العجل فتوبتهم قتل طائعهم العاصي منهم ، وأما توبتنا فالندم. قوله : (وإخراج ربع المال في الزكاة) أي وأما نحن فربع العشر في النقدين والعشر أو نصفه في الحبوب ، قوله : (وقرض موضع النجاسة) أي من الثواب أو البدن. قوله : (من التكاليف) أي فلم يكفنا بالحج من غير استطاعة مثلا ، ولا بالصلاة من قيام مع كونه مريضا لا يقدر عليه ، ولا باستعمال الماء مع عدم القدرة عليه. قوله : (والبلاء) أي فكان ينزل بمن قبلنا الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والصيحة والخسف والمسخ ، وغير ذلك من أنواع البلايا العامة التي لا تبقي ولا تذر. قوله : (امح ذنوبنا) أي من الصحف.

قوله : (وَاغْفِرْ لَنا) أي استرها عن أعين المخلوقات. قوله : (وَارْحَمْنا) أي أنعم علينا وذلك في حق من تاب جزما ، وأما من لم يتب ومات فأمره مفوض لخالقه. قوله : (سيدنا ومتولي أمورنا) هذا أحد معاني المولى ويطلق على الناصر ، ولا شك أن الله كذلك. قوله : (أن ينصر مواليه) أي عبيده فإن المولى كما يطلق على العبد يطلق على السيد. قوله : (عقيب) لغة رديئة في عقب. وقوله : (كل كلمة) أي وهي سبع وكلها مستجابة ، وكرر لفظ ربنا بين المتعاطفات زيادة في التضرع. قوله : (قد فعلت) أي أجبت مطلوبكم لما في الحديث : «إن الله لأفرح بتوبة عبده ممن ضلت منه راحلته فوجدها بعد طلبها» وفي رواية لما قرأ النبي قوله : (غفرانك ربنا) قال الله قد غفرت ، وفي قوله : (ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال لا أؤاخذكم ، وفي قوله : (ولا تحمل علينا إصرا) قال لا أحمل عليكم ، وفي قوله : (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال لا أحملكم ، وفي قوله : (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) ، قال قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين ، والحكمة في زيادة قوله القوم ولم يقل الكافرين ، إنه لا يلزم من النصرة على أفراد الكفار النصرة على الهيئة المجتمعة وفي هذه الآية تعليم آداب الدعاء ، وفي الحديث : «إذا دعوتم فعمموا».

***

١٨٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سوره آل عمران مدنية وآياتها مائتان (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم) (١) الله أعلم بمراده بذلك (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢) (نَزَّلَ عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) القرآن ملتبسا (بِالْحَقِ) بالصدق في أخباره

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران

مدنية مائتان أو إلا آية

قوله : (سورة آل عمران) مبتدأ ومدنية خبره ، ومائتان خبر ثان. وقوله : (مدنية) أي نزلت بعد الهجرة وإن بغير أرض المدينة ، وتسميتها بذلك الاسم من باب تسمية الشيء باسم جزئه ، واختلف في عمران الذي سميت به ، فقيل المراد به أبو موسى وهرون فآله موسى وهرون ، وقيل المراد به أبو مريم والمراد بآله مريم وابنها عيسى ، ويقرب ذلك ذكر قصتهما أثر ذكره ، وبين عمران أبي موسى وعمران أبي مريم ألف وثمانمائة عام. قوله : (أو إلا آية) أو الحكاية الخلاف ، وسببه الاختلاف في عد البسملة من السورة ، فمن عدها قال مائتان ومن لم يعدها قال إلا آية ، وورد في فضل هذه السورة أنها أمان من الحيات وكنز للفقير ، وأنه يكتب لمن قرأ منها (إن في خلق السموات والأرض) إلى آخرها آخر الليل ثواب من قام الليل كله ، قوله : (الله أعلم بمراده بذلك) مشى في ذلك على مذهب السلف في المتشابه ، وهكذا عادته في فواتح السور ، وقد تقدم الكلام في ذلك بأبسط عبارة ، وأعلم أنه قرىء عند إسقاط الهمزة من الله وفتح ميم ألم للنقل بمد الميم ست حركات أو حركتين ، وعند إسكان الميم حالة الوقف واثبات الهمزة بمد الميم ست حركات ، فالقراءات ثلاثة.

قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) سبب نزولها قدوم وفد نصارى نجران وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم كانوا أكابرهم أميرهم وحبرهم ووزيرهم يحاجون رسول الله في عيسى. فتارة قالوا إن عيسى ابن الله لأنه لم يكن له أب ، وتارة قالوا إنه الله لأنه يحيي الموتى ، وتارة قالوا إنه ثالث ثلاثة لأنه يقول فعلنا وخلقنا ، فلو كان واحدا لذكره مفردا ، فشرع النبي يرد عليهم تلك الشبه ، فقال لهم : أتسلمون أن الله حي لا يموت؟ فقالوا نعم ، أتسلمون أن عيسى يموت؟ فقالوا نعم ، فقال لهم أتسلمون أن الله يصور في الارحام كيف يشاء؟ فقالوا نعم ، إلى غير ذلك فنزلت تلك السورة منها نيف وثمانون آية على طبق ما رد عليهم به ، قوله : (الْحَيُ) أي ذو الحياة الذاتية. قوله : (الْقَيُّومُ) أي القائم بأمور خلقه من غير واسطة معين ، قوله : (ملتبسا) (بِالْحَقِ) أشار بذلك إلى الباء في بالحق للملابسة في

١٨٣

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قبله من الكتب (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣) (مِنْ قَبْلُ) أي قبل تنزيله (هُدىً) حال بمعنى هاديين من الضلالة (لِلنَّاسِ) ممن تبعهما وعبر فيهما بأنزل وفي القرآن بنزل المقتضي للتكرير لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلافه (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) بمعنى الكتب الفارقة بين الحق والباطل وذكره بعد ذكر الثلاثة ليعم ما عداها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) القرآن وغيره (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيد (ذُو انْتِقامٍ) (٤) عقوبة شديدة ممن عصاه لا يقدر على مثلها أحد (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) كائن (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٥) لعلمه بما يقع في العالم من كلي وجزئي ، وخصهما بالذكر لأن الحس لا

____________________________________

محل نصب على الحال فيكون مصدقا حالا بعد حال.

قوله : (مُصَدِّقاً) حال من الكتاب ، قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) في الكلام استعارة بالكناية حيث شبه بسلطان تقدمه عسكره ، وجاء على أثرهم يؤيدهم ويقويهم وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) فإثباته تخييل. قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) أي على موسى وقوله : (وَالْإِنْجِيلَ) أي على عيسى ، واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أم لا لكونهما أعجميين ، فذهب جماعة إلى الأول فقالوا التوراة مشتقة من قولهم ورى إذا قدح فظهر منه نار ، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنار من الظلام إلى النور سمي هذا الكتاب بالتوراة ، والإنجيل مشتق من النجل وهو التوسعة ومنه العين النجلاء لسعتها فسمي الإنجيل بذلك لأن فيه توسعة لم تكن في الوراة ، إذ حلل فيه أشياء كانت محرمة فيها ، والصحيح أنهما ليسا مشتقين لأنهما عبرانيان ، قوله : (أي قبل تنزيله) أي الكتاب الذي هو القرآن ، قوله : (حال) أي من التوراة والإنجيل ، قوله : (ممن تبعهما) أشار بذلك إلى أن المراد بالهدى الوصول لا مجرد الدلالة ، قوله : (وعبر فيهما بأنزل الخ) جواب عن سؤال مقدر ، وقيل إن ذلك تفنن ، وقيل إن مادة نزل تعيد التكرار غالبا ، ومادة أنزل تفيد عدمه غالبا ، فلعل المفسر بنى هذا الجواب على ذلك ، وإلا فالهمز والتضعيف أخوان. قوله : (بخلافه) أي فإنه نزل مفرقا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. قوله : (ليعم ما عداها) أي فهو من عطف العام على الخاص ، فالمراد بالفرقان هنا الفارق بين الحق والباطل لا خصوص القرآن فالفرقان كما يطلق على القرآن يطلق على غيره من الكتب.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كنصارى نجران. قوله : (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالنار. قوله : (وعده) أي بالخير وقوله ووعيده أي بالشر. قوله : (لا يقدر على مثلها أحد) أي لأن غاية عذاب غيره الموت وفيه راحة للمعذب ، ولا يقدر على إعادة روحه حتى تتألم ثانيا ، وأما عذاب الله فدائم لا آخر له ، قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ). قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) هذا رد لقولهم إن عيسى إله لأنه يعلم الأمور ، فرد عليهم بأن الله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وليس كذلك عيسى. قوله : (كائن) أشار بذلك إلى أن قوله : (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) متعلق بمحذوف صفة لشيء. قوله : (وخصهما بالذكر) جواب

١٨٤

يتجاوزهما (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) من ذكورة وأنوثة وبياض وسواد وغير ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) (٦) في صنعه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) واضحات الدلالة (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أصله المعتمد عليه في الأحكام (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) لا تفهم معانيها كأوائل السور وجعله كله محكما في قوله أحكمت آياته بمعنى أنه ليس فيه عيب ومتشابها في قوله كتابا متشابها بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والصدق (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) ميل عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ) طلب (الْفِتْنَةِ) لجهالهم

____________________________________

عن سؤال مقدر. قوله : (لا يتجاوزهما) أي لا يتعداهما. قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) هذه حجة أخرى للرد على تلك الفرقة كأنه يقول لا إله إلا من يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، وأما عيسى فإنه وإن كان يحيي الموتى فبإذن الله ، ولا يقدر أن يصوركم في الأرحام كيف يشاء بل هو مصور في الرحم ، فالمصور لا يصور غيره بل ولا نفسه. قوله : (الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره عديم المثال. قوله : (الْحَكِيمُ) أي ذو الحكمة وهي وضع الشيء في محله.

قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته؟ فقال نعم ، فقالوا حسبنا أي يكفينا ذلك في كونه ابن الله ، فنزلت الآية ، والمعنى أن الله أنزل القرآن منه محكم ومنه متشابه ، وقوله روح الله وكلمته من المتشابة الذي لا يعرفون معناه ولا يفهمون تأويله ، بل معنى ذلك أنه روح من الله أي نوره وكلمته ، بمعنى أنه قال له كن فكان ، فهو عبد من جملة العباد ميزه الله بالنبوة والرسالة. قوله : (أصله) إنما فسر الأم بذلك لصحة الأخبار بالمفرد عن الجمع ، لأن الأصل يصدق بالمتعدد. وأجيب أيضا بأنه عبر بالمفرد إشارة إلى أن المجموع بمنزلة آية واحدة على حد (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) وما سلكه المفسر أظهر. قوله : (المعتمد عليه في الأحكام) أي الذي يعول عليه في أحكام الدين والدنيا هو المحكم ، وأما المتشابة فلم يكلف بمعرفة معناه بل نؤمن به ونفوض علمه لله.

قوله : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ). إن قلت هلا نزل كله محكما لأنه نزل لارشاد العباد ومداره على المحكم لا على المتشابه؟ أجيب بأنه نزل على أسلوب العرب ، فإن أسلوبهم التعبير بالمجاز والكناية والتلميح وغير ذلك من المستحسنات ، فلو نزل كله محكما لقالت العرب إن القرآن على لغتنا فهلا ذكر فيه مستحسنات لغاتنا. قوله : (لا يفهم معانيها) أي إلا بفكر وتأمل كما هو مذهب الخلف. قوله : (كأوائل السور) أي بعضها وأدخلت الكاف باقي الآيات المتشابهة. قوله : (وجعله كله محكما الخ) جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا قال هذه الآية بينت أن القرآن بعضه محكم وبعضه متشابه ، وآية أخرى بينت أن كله محكم وآية أخرى أفادت أن كله متشابه ، فبين هذه الآيات تناف أجاب المفسر بما ذكره. قوله : (بمعنى أنه ليس فيه عيب) أي لا في ألفاظه ولا في معانيه. قوله : (في الحسن والصدق) قال ابن عباس : تفسير القرآن أربعة أقسام : قسم لا يسع أحدا جهله كقوله : (قل هو الله أحد) ، وقسم يتوقف على معرفة لغات العرب كقوله : (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي) ، وقسم تعرفه العلماء الراسخون في العلم ، وقسم لا يعلمه إلا الله ، ودخل تحت القسمين الأخيرين المتشابه ، وحكمة الإتيان بالمتشابه الزيادة في الاعجاز عن الإتيان بمثله ، فإن المحكم وإن فهموا معناه إلا أنهم عجزوا عن الإتيان بلفظ مثل ألفاظه ،

١٨٥

بوقوعهم في الشبهات واللبس (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) تفسيره (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) تفسيره (إِلَّا اللهُ) وحده (وَالرَّاسِخُونَ) الثابتون المتمكنون (فِي الْعِلْمِ) مبتدأ خبره (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه (كُلٌ) من المحكم والمتشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ) بإدغام التاء في الأصل في الذال أي يتعظ (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) أصحاب العقول ويقولون أيضا إذا رأوا من يتبعه (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) تملها عن الحق بإبتغاء تأويله الذي لا يليق بنا كما أزغت قلوب أولئك (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أرشدتنا إليه (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (رَحْمَةً) تثبيتا (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) يا (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) تجمعهم (لِيَوْمٍ) أي في يوم (لا رَيْبَ) شك (فِيهِ) هو يوم القيامة فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت بذلك (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩) موعده بالبعث فيه التفات عن الخطاب ، ويحتمل أن يكون من كلامه تعالى ، والغرض من الدعاء بذلك بيان أن همهم أمر الآخرة ، ولذلك سألوا الثبات على الهداية لينالوا ثوابها ، روى الشيخان عن عائشة رضي

____________________________________

والمتشابه عجزوا عن فهم معناه كما عجزوا عن الإتيان بمثله. قوله : (ميل عن الحق) أي إلى الباطل. قوله : (بوقوعهم في الشبهات واللبس) أي كنصارى نجران ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن ، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة.

قوله : (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) معطوف على ابتغاء الأول ، والمعنى أنهم يتجرؤون على تفسيره بتفسير باطل لا أصل له. قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أي تفسيره على الحقيقة. قوله : (إِلَّا اللهُ) (وحده) هذه طريقة السلف واختارها المفسر لكونها أسلم ، فالوقف على قوله إلا الله ، وأما طريقة الخلف فهي أحكم ، فالوقف على أولي الألباب ، فالراسخون معطوف على لفظ الجلالة ، قال بعضهم ويؤيد طريقة الخلف قوله تعالى بعد ذلك : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ). قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) كلام مستأنف قالوا وللاستئناف والراسخون مبتدأ ، وفي العلم متعلق بالراسخون وخبره يقولون كما قاله المفسر ، قال مالك : الراسخ في العلم من جمع أربع خصال : الخشية فيما بينه وبين الله ، والتواضع فيما بينه وبين الناس ، والزهد فيما بينه وبين الدنيا والمجاهدة فيما بينه وبين نفسه.

قوله : (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أي ففهمنا المحكم وأخفى علينا المتشابه. قوله : (في الأصل في الذال) أي فأصله يتذكر قلبت التاء ذالا ثم أدغمت في الذال. قوله : (أصحاب العقول) أي السليمة المستنيرة. قوله : (من يتبعه) أي يتبع الباطل. قوله : (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي بعد وقت هدايتك وتبيينك الحق لنا. قوله : (تثبيتا) فسر الرحمة هما بذلك لأنه المراد هنا ، وأما في غير هذا الموضع فقد تفسر بالمطر أو الغفران. قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي الذي تعطي النوال قبل السؤال.

قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) منادي وحرف النداء محذوف ، قدره المفسر إشارة إلى أنه دعاء. قوله : (أي في يوم) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى في. قوله : (فيه التفات) أي على أنه من كلام الراسخين. قوله : (ويحتمل أن يكون من كلامه تعالى) أي فلا التفات فيه على مذهب الجمهور ، وأما على مذهب السكاكي ففيه التفات على كل حال لأنه أتى على خلاف السياق. قوله : (روى الشيخان) قصده

١٨٦

الله تعالى عنها قالت : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) إلى آخرها وقال : «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» ، وروى الطبراني في الكبير عن أبي موسى الأشعري أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال ، وذكر منها «أن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وليس يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب» الحديث. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ) تدفع (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي عذابه (شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (١٠) بفتح الواو ما توقد به ، دأبهم (كَدَأْبِ) كعادة (آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم كعاد وثمود (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أهلكهم (بِذُنُوبِهِمْ) والجملة مفسرة لما قبلها (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١) ونزل لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهود

____________________________________

بذلك الاستدلال على ذم المتبعين للمتشابه ومدح الراسخين. قوله : (فأولئك الذين سمى الله) أي بقوله : (فأما الذين في قلوبهم زيغ) الآية. قوله : (فاحذروهم) الخطاب لعائشة وإنما ذكر وجمع تعظيما لها أو إشارة إلى عدم خصوصيتها بذلك. قوله : (وروى الطبراني) أي في معجمه الكبير. قوله : (إلا ثلاث خلال) هذه نسخة وفي أخرى خصال. قوله : (وذكر منها الخ) هذه هي الخلة الثانية وترك اثنتين ، ونص الحديث : أخرج الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال : أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا ، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون امنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ، وأن يزداد علمهم فيضعوه ولا يسألوا عنه».

قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) قيل المراد بهم جميع من كفروا من أول الزمان إلى آخره ، وقيل المراد بهم نصارى نجران ، وقيل كفار مكة ، وعلى كل فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) قدم الأموال لأن الشأن أن الشخص أول ما يقتدي بالأموال ثم بالأولاد ، والمعنى أن زينتهم وعزهم لا يدفع عنهم شيئا من عقاب الله أبدا لا قليلا ولا كثيرا. قوله : (أي عذابه) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضاف.

قوله : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) هذه الجملة تأكيد للجملة الأولى. قوله : (بفتح الواو) أي بإتفاق السبعة ، وقرأ الحسن بضم الواو مصدر بمعنى الإيقاد. قوله : (ما يوقد به) أي وهو الحطب مثلا. قوله : (دأبهم) (كَدَأْبِ) إشار بذلك إلى أن قوله كدأب خبر لمحذوف قدره بقوله دأبهم ، وهذا بيان لسبب كونهم وقود النار ، وفي ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فلا تحزن يا محمد فإن ما نزل بالأمم الذين كفروا من قبلك ينزل بمن كفر بك. قوله : (كعاد وثمود) بيان الأمم وأدخلت الكاف باقي الأمم الذين كفروا بأنبيائهم ، كقوم نوح وقوم موسى وغيرهم. قوله : (أهلكهم) (بِذُنُوبِهِمْ) أي انتقم منهم دنيا وأخرى. قوله : (والجملة مفسرة لما قبلها) أي جملة كذبوا وما قبلها هي قوله كدأب آل فرعون. وأعلم أن هنا قال كذبوا بآياتنا ، وفي آية أخرى كفروا بآيات الله وفي آية أخرى كذبوا بآيات ربهم ، وحكمة ذلك التفنن في التعبير على عادة فصحاء العرب ، والباء في قوله بذنوبهم يحتمل أن تكون للملابسة ، والمعنى أخذهم الله

١٨٧

بالإسلام مرجعه من بدر فقالوا له لا يغرنك أن قتلت نفرا من قريش اغمارا لا يعرفون القتال (قُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من اليهود (سَتُغْلَبُونَ) بالتاء والياء في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية وقد وقع ذلك (وَتُحْشَرُونَ) بالوجهين في الآخرة (إِلى جَهَنَّمَ) فتدخلونها (وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٢) الفراش هي (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) عبرة وذكر الفعل للفصل (فِي فِئَتَيْنِ) فرقتين (الْتَقَتا) يوم بدر للقتال (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي طاعته وهم النبي وأصحابه وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا معهم فرسان وست أدرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة (وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ) أي الكفار (مِثْلَيْهِمْ) أي المسلمين أي أكثر منهم وكانوا نحو ألف (رَأْيَ الْعَيْنِ) أي

____________________________________

والحال أنهم ملتبسون بذنوبهم يعني من غير توبة ، ويحتمل أن تكون للسببية والمعنى أخذهم الله بسبب ذنوبهم ، والأول أبلغ لأن فيه دفع توهم أن موتهم كفارة لما وقع منهم. قوله : (ونزل لما أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حاصل ذلك أنه لما رجع من غزوة بدر إلى المدينة ، جمع يهودها وهم قريظة وبنو النضير ، ودعاهم للإسلام وتوعدهم إن لم يسلموا أو يؤدوا الجزية قاتلهم ، فقالوا له ما ذكره المفسر. قوله : (أغمارا) جمع غمر بالضم وهو الرجل الذي لا يعرف الأمور ، وأما بالكسر فمعناه الحقد ، وبالفتح مع سكون الميم يطلق على الشدة ، واما بفتحتين فمعناه الدسم. قوله : (من اليهود) أي قريظة وبني النضير ومن حذا حذوهم كأهل خيبر. قوله : (وبالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان فالتاء ظاهرة في الخطاب لهم والياء معناها الأخبار بأنهم سيغلبون. قوله : (وقد وقع ذلك) أي فقتل من فحول قريظة ستمائة حول الخندق ، وكان القاتل لهم علي بن أبي طالب ، وقوله : (وضرب الجزية) أي على أهل خيبر ، وأما بنو النضير فأجلاهم إلى الشام. قوله : (بالوجهين) أي بالتاء والياء وهما سبعيتان أيضا. قوله : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) المقصود من ذلك بيان سوء مآلهم ، قال تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) ، قال تعالى : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ). قوله : (هي) هذا هو المخصوص بالذم وفاعل بئس قولهم المهاد.

قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) يحتمل أن يكون ذلك على جملة مقول النبي للكفار أي قل لهم ما ذكر وقل لهم (قد كان لكم آية) فعلى ذلك الخطاب لليهود ، ويحتمل أن يكون ذلك خطابا لكفار مكة أو للمؤمنين ويكون مستأنفا. قوله : (للفصل) أي بالجار والمجرور الواقع خبرا لكان على حد أتى القاضي بنت الواقف ، وأجيب أيضا بان الفاعل مجازي التأنيث أو مذكر معنى ، لأن الآية معناها البرهان. قوله : (فرقتين) إنما سميت الفرقة فئة لأنه يفاء بمعنى يرجع إليها في الشدائد.

قوله : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) برفع فئة بإتفاق السبعة مبتدأ خبره تقاتل الخ والمعنى فئة مؤمنة ، وقوله : (وَأُخْرى كافِرَةٌ) يعني تقاتل في سبيل الطاغوت ففيه شبه احتباك حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر. قوله : (كانوا ثلثمائة) أي من المهاجرين سبعة وسبعون صاحب رايتهم علي بن أبي طالب ، ومن الأنصار مائتان وستة وثلاثون صاحب رايتهم سعد بن عبادة ، والذي مات منهم في تلك الغزوة أربعة عشر ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. قوله : (معهم فرسان) ورد أنه كان معهم سبعون بعيرا. قوله : (رجالة) جمع راجل بمعنى ماش. قوله : (يَرَوْنَهُمْ) هكذا بالياء للسبعة ما عدا نافعا فقرا بالتاء ، ورأى بصرية والواو فاعل عائد على المؤمنين ، والهاء مفعول عائد على الكفار ومثليهم حال ، والهاء إما

١٨٨

رؤية ظاهرة معاينة وقد نصرهم الله مع قلتهم (وَاللهُ يُؤَيِّدُ) يقوي (بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) نصره (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣) لذوي البصائر أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) ما تشتهيه النفس وتدعو إليه زينها الله ابتلاء أو الشيطان (مِنَ النِّساءِ

____________________________________

عائدة على المؤمنين ، والمعنى يشاهد المؤمنون الكفار قدر أنفسهم مرتين ، أو الكفار والمعنى يرى المؤمنون الكفار قدر الكفار مرتين محنة للمؤمنين ، ويحتمل أن الواو عائدة على الكفار والهاء عائدة على المؤمنين ، والهاء في مثليهم إما عائدة على الكفار والمعنى يرى الكفار المؤمنين قدرهم مرتين فترتب على ذلك هزيمتهم ، أو عائدة على المؤمنين والمعنى يرى الكفار المؤمنين قدر المؤمنين مرتين ففي هذه القراءة احتمالات أربع قد علمتها ومثلها على قراءة التاء لأنه يحتمل أن الخطاب للمؤمنين ، فالواو عائدة على المؤمنين والهاء عائدة على الكفار ، والضمير في مثليهم إما عائد على الكفار وهو ظاهر ، أو على المؤمنين ويكون فيه التفات من الخطاب للغيبة وكان مقتضى الظاهر أن يقول مثليكم ، ويحتمل أن الخطاب للكفار فالواو عائدة على الكفار والهاء عائدة على المؤمنين ، والضمير في مثليهم إما عائد على المؤمنين وهو ظاهر أو على الكفار وفيه التفات أيضا. بقي شيء آخر وهو أن مقتضى الآية أن المرئي كثير ، سواء كان الرائي الكفار أو المسلمين ، ومقتضى ما يأتي في سورة الأنفال أن المرئي قليل فحصل بين الآيتين تناف ، وأجيب عن ذلك بحمل ما يأتي على حالة البعد ، وما هنا على حالة التقاء الصفين ، وحكمة ذلك أنهم إذا شاهدوا القلة على بعد حملهم ذلك على الاقتحام. قوله : (أي الكفار) يقرأ بالرفع تفسيرا للواو وبالنصب تفسيرا للهاء. قوله : (وقد نصرهم الله مع قلتهم) أي مع كونهم عددا قليلا جدا ولا عدد معهم.

قوله : (لِأُولِي الْأَبْصارِ) صفة لعبرة. قوله : (أفلا تعتبرون) الخطاب لليهود أو لكفار مكة. قوله : (بذلك) أي بالنصر ورؤية الجيش مثليهم. قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) هذه الآية مسوقة لبيان حقارة الدنيا وتزهيد المسلمين فيها ، ففي الحديث «ظاهرها وباطنها عبرة» وقال الشاعر :

هي الدنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي

فلا يغرركمو مني ابتسام

فقولي مضحك والفعل مبكي

والفعل مبني للمفعول ، والمزين حقيقة هو الله ، ويصح أن يكون الشيطان باعتبار وسوسته ، ولذا نوع فيه المفسر. قوله : (حُبُّ الشَّهَواتِ) جمع شهوة وهي ميل النفس لمحبوبها ، ولما كان ذلك المعنى ليس مرادا فسرها بالذي تشتهيه النفس ففيه إشارة إلى أنه أطلق المصدر ، وأريد اسم المفعول إن قلت إنه يدخل في الناس الأنبياء مع أنهم معصومون من ذلك. أجيب بأنه عام مخصوص بما عدا الأنبياء ، وأما هم فهم معصومون من الميل إلى ما سوى الله لما في الحديث «حبب إليّ من دنياكم ثلاث» ولم يقل من دنيانا ، وفي الحديث أيضا «لست من الدنيا ولا الدنيا مني». قوله : (زينها الله) أي أوجد فيها الزينة. قوله : (ابتلاء) أي اختبارا ، قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). قوله : (أو الشيطان) أي بالوسوسة.

قوله : (مِنَ النِّساءِ) متعلق بمحذوف حال من الشهوات وهو تفصيل لما أجمل فيها ، وقدم النساء لأنهن أعظم زينة الدنيا ، فإنهن حبالة الشيطان ، ويحملن الإنسان على قطع الرحم واكتساب المال من الحرام وارتكاب المحرمات ، وقال عليه الصلاة والسّلام : «ما تركت فتنة أضر الرجال من النساء ، ما

١٨٩

وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ) الأموال الكثيرة (الْمُقَنْطَرَةِ) المجمعة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) الحسان (وَالْأَنْعامِ) أي الابل والبقر والغنم (وَالْحَرْثِ) الزرع (ذلِكَ) المذكور (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يتمتع به فيها ثم يفنى (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤) المرجع وهو الجنة فينبغي الرغبة فيه دون غيره (قُلْ) يا محمد لقومك (أَأُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) المذكور من الشهوات استفهام تقرير (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك (عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر مبتدؤه (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ) أي مقدرين الخلود (فِيها) إذا دخولها (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض وغيره مما يستقذر (وَرِضْوانٌ) بكسر أوله وضمه لغتان أي رضا كثير (مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ) عالم (بِالْعِبادِ) (١٥)

____________________________________

رأيت ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحكيم منكن». قوله : (وَالْبَنِينَ) قدمهم على الأموال لأنهم فرع النساء وأكبر فتنة من الأموال ، لأن الإنسان يفدي بنيه بالمال ولم يقل والبنات لأن الشأن أن الفخر في الذكور دون الإناث.

قوله : (وَالْقَناطِيرِ) جمع قنطار قبل المراد به المال الكثير ، وقيل ألف أوقية ومائتا أوقية ، وقيل اثنا عشر ألف أوقية ، وقيل غير ذلك ، ودرج المفسر على الأول. قوله : (الْمُقَنْطَرَةِ) قيل وزنها مفعللة فتكون النون أصلية ، وقيل وزنها مفنعلة فالنون زائدة ، ويترتب على ذلك النون في قنطار هل هي أصلية فوزنه فعلال ، أو زائدة فوزنه فنعال ، وأقل القناطير المقنطرة تسعة ، لأن المراد تعددت جموع القناطير عنده ثلاثة ففوق. قوله : (وَالْفِضَّةِ) الواو بمعنى أو المانعة الخلو فتجوز الجمع ، وقدم الذهب والفضة على ما عداهما لأن فخر صاحبهما أعظم. قوله : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) قدمها على الأنعام لأن فخرها أعظم. قوله : (الزرع) أي مطلقا حسبت أو غيرها. قوله : (ثم يفنى) أي يزول هو وصاحبه ، قال تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) الآية. قوله : (فينبغي الرغبة فيه) أي في ذلك المآب ، وفي الآية اكتفاء أي وعنده سوء المآب ، فحسن المآب لمن لم يغتر بالدنيا وجعلها مزرعة للآخرة ، وسوء المآب لمن اغتر بها وآثرها على الآخرة.

قوله : (أُنَبِّئُكُمْ) قرىء في السبع بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية مع زيادة مد بينهما وبدون زيادة ، فالقراءات أربع ، وليس في القرآن همزة مضمومة بعد مفتوحة إلا ما هنا ، وما في ص أأنزل عليه الذكر ، وما في اقتربت الساعة أألقي عليه الذكر. قوله : (من الشهوات) أي المشتهيات. قوله : (استفهام تقرير) أي تثبيت. قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) (الشرك) أي الإيمان ، وإنما اقتصر عليه لأن أصل دخول الجنة إنما يتوقف عليه فقط. قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في محل نصب على الحال من جنات. قوله : (جَنَّاتٌ) أي سبع : جنة المأوى وجنة الخلد وجنة النعيم وجنة عدن وجنة الفردوس ودار السّلام ودار الجلال ، وأبوابها ثمانية وأعظمها جنة الفردوس. قوله : أي (مقدرين الخلود) أشار بذلك إلى أن قوله خالدين حال منتظرة أي منتظرين الخلود فيها إذا دخلوها ، لأنه ينادي المنادي حين استقرار أهل الدارين فيهما يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت ، فيقع الفرح الدائم في قلوب أهل الجنة ، والحزن الدائم في قلوب أهل النار.

قوله : (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي من الحور وغيرهن من نساء الدنيا. قوله : (لغتان) أي وقرىء بهما في

١٩٠

فيجازي كلا منهم بعمله (الَّذِينَ) نعت أو بدل من الذين قبله (يَقُولُونَ) يا (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) صدقنا بك وبرسولك (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٦) (الصَّابِرِينَ) على الطاعة وعن المعصية نعت (وَالصَّادِقِينَ) في الإيمان (وَالْقانِتِينَ) المطيعين لله (وَالْمُنْفِقِينَ) المتصدقين (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) الله بأن يقولوا اللهم اغفر لنا (بِالْأَسْحارِ) (١٧) أواخر الليل خصت بالذكر لأنها وقت الغفلة ولذة النوم (شَهِدَ اللهُ) بين لخلقه بالدلائل (أَنَّهُ لا إِلهَ) أي لا معبود في الوجود بحق (إِلَّا هُوَ وَ) شهد بذلك (الْمَلائِكَةُ) بالإقرار (وَأُولُوا الْعِلْمِ) من الأنبياء والمؤمنين بالإعتقاد

____________________________________

السبع في جميع لفظ رضوان الواقع في القرآن إلا الثاني في المائدة فإنه بالكسر بإتفاق السبعة ، وهو قوله من اتبع رضوانه سبل السّلام ، والمكسور قياسي والمضموم سماعي ومعناهما واحد ، وقول المفسر كثير أخذ الكثرة من التنوين. قوله : (أي رضا كثير) أي عظيم لا سخط بعده أبدا. قوله : (فيجازي كلا منهم بعمله) أي فيدخل المتقين الجنة والعاصين النار. قوله : (نعت) أي للذين اتقوا. قوله : (على الطاعة) أي على فعلها ، وقوله : (وعن المعصية) أي نهاهم الله عنها فأمسكوا عنها وانتهوا.

قوله : (وَالصَّادِقِينَ) إن قيل كيف دخلت الواو على هذه الصفات مع أن الموصوف فيها واحد؟ أجيب بجوابين : أحدهما أن الصفات إذا تكررت جاز أن يعطف بعضها على بعض بالواو وإن كان الموصوف بها واحدا ، ودخول الواو في مثل هذا للتفخيم لأنه يؤذن بأن كل صفة مستقلة بمدح الموصوف بها ، ثانيهما لا نسلم أن الموصوف بها واحد بل هو متعدد ، والصفات موزعة عليهم ، فبعضهم صابر وبعضهم صادق ، ففيه إشارة إلى أن بعضها كاف في المدح. قوله : (في الإيمان) أي صدقوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم. قوله : (المطيعين لله) أي بأي نوع من أنواع الطاعة. قوله : (بأن يقولوا اللهم اغفر لنا) أي أو غير ذلك من أنواع الطاعات ، فالمراد بالمستغفرين المتعرضون للمغفرة إما بسؤال المغفرة أو غيرها من الطاعات. قوله : (وآخر الليل) ويدخل بالنصف الأخير منه ، وقيل الأسحار ما بعد الفجر إلى طلوع الشمس ، فينبغي اغتنام هذين الوقتين فإن لم يمكن الأول فالثاني.

قوله : (شَهِدَ اللهُ) سبب نزولها أن حبرين من أحبار الشام قدما على رسول الله بالمدينة فقالا له نسألك عن شيء آخر إن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك ، فقال سلا ، فقالا له أخبرنا عن أعظم شهادة في القرآن فنزلت فآمنا به ، ولكونها أعظم كان وقت نزولها حول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فحين نزلت تساقطت تلك الأصنام ، وورد في فضلها أنه يوم القيامة يجاء بمن كان يحفظها فيقول الله تعالى لعبدي هذا عندي عهدا فأوفيه إياه أدخلوا عبدي الجنة فيدخلونه من غير سابقة عذاب ، ومن فضلها أنها تقلع عرق الشرك من القلب وتنفع من الوسواس ، ولذا اختارها العارفون في ختم صلاتهم فيقرؤونها عقب كل صلاة ، ثم أعلم أن معنى الشهادة الأقرار باللسان ، والإذعان بالقلب وذلك مستحيل على الله تعالى ، فالمراد بين وأظهر لخلقه بالدلائل القطعية أنه الخ ، ففي الكلام استعارة تبعية حيث شبه البيان بالشهادة ، واستعار اسم المشبه به للمشبه ، واشتق من الشهادة شهد بمعنى بين ، والجامع الوثوق بكل ، لأن من أقر وأذعن حصل له وثوق ، كما أن من بين حصل للسامع وثوق بخبره ، وإلى ذلك أشار المفسر بقوله : (بين لخلقه الخ). قوله : (في الوجود) أي الدنيوي والأخروي. قوله : (وَ) (شهد بذلك) (الْمَلائِكَةُ) أشار

١٩١

واللفظ (قائِماً) بتدبير مصنوعاته ونصبه على الحال والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد (بِالْقِسْطِ) بالعدل (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كرره تأكيدا (الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) (١٨) في صنعه (إِنَّ الدِّينَ) المرضي (عِنْدَ اللهِ) هو (الْإِسْلامُ) أي الشرع المبعوث به الرسل المبني على التوحيد وفي قراءة بفتح أن بدل من أنه الخ بدل اشتمال (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى في الدين بأن وحد بعض وكفر بعض (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بالتوحيد (بَغْياً) من

____________________________________

بذلك إلى أن الملائكة معطوف على لفظ الجلالة فهو مرفوع ، وقدر الفعل دفعا لاستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه وفيه خلاف ولا يتمشى التنزيل عليه ، فإن الشهادة في حق الملائكة معناها الإقرار ، وأما في حق الله فمعناها التبيين.

قوله : (وَأُولُوا الْعِلْمِ) لم يقدر الفعل اكتفاء بما قدره في جانب الملائكة. قوله : (بالاعتقاد) أي في القلب ، وقوله : (واللفظ) أي باللسان وإنما اقتصر في جانب الملائكة على الإقرار دون أولي العلم ، لأن توحيد الملائكة جبلي لهم مخلوقون عليه كالنفس ، فلا يتوهم فيهم عدم الاعتقاد بخلاف الإنس فاختياري لهم لوجود المنافقين فيهم دون الملائكة. قوله : (ونصبه على الحال) أي إما من لفظ الجلالة أو من الضمير المنفصل بعد إلا ، والاحسن الثاني ليفيد أن الله شهد شهادتين : الأولى أنه لا إله إلا هو ، والثانية أنه قائم بالقسط ، فمتعلق الأولى تنزيه ذاته ، ومتعلق الثانية تنزيه صفاته. قوله : (معنى الجملة) أي جملة لا إله إلا هو ، وقوله : (أي تفرد) بيان لمعنى الجملة. قوله : (بِالْقِسْطِ) بيان لكرمه تعالى : فالمعنى أنه تعالى ثابت الأولوهية ، وأن جميع الخلق مملوكون له يتصرف فيهم كيف يشاء ، فلو ادخل الطائعين جميعا النار لا حرج عليه ، غير أنه لا يفعل ذلك بل هو قائم بالقسط. قوله : (تأكيدا) أي وتوطئة لقوله : العزيز الحكيم. قوله : (الْعَزِيزُ) (في ملكه) أي عديم المثال أو قاهر لخلقه ، وهو راجع لقوله إنه لا إله إلا هو. قوله : (الْحَكِيمُ) (في صنعه) أي يصنع الشيء في محله وهو راجع لقوله قائما بالقسط ، والعزيز الحكيم إما خبران لمبتدأ محذوف ، وإما بدلان من ضمير المنفصل ، أو نعتان له على جواز نعت ضمير الغيبة.

قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) نزلت لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من دين اليهودية ، وادعت النصارى أن لا دين أفضل من دين النصرانية. قوله : (هو) (الْإِسْلامُ) قدر الضمير إشارة إلى أن الجملة معرفة الطرفين فتفيد الحصر. قوله : (المبعوث به الرسل) أي جميعهم من آدم إلى محمد قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) فأصل الدين واحد ، وإنما الاختلاف في الفروع. قوله : (بدل اشتمال) أي فيكون من تمام آية شهد الله ، لأن وحدانية الله اشتمل عليها الإسلام ، وهذا إن أريد بالإسلام الشرع المنقول ، وأما إن أريد به التوحيد كان بدل كل من كل.

قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) جواب عن سؤال نشأ من قوله : (إن الدين عند الله الإسلام) كأنه قيل حيث كان الدين واحدا من آدم إلى الآن فما اختلاف أهل الكتاب. قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) استثناء من محذوف ، أي ما كان اختلافهم في حال من الأحوال إلا في حال مجيء العلم لهم ، فالمعنى لا عذر ولا شبهة لهم في ذلك الاختلاف ، لأن الله بين لهم الحق من الباطل ، وإنما

١٩٢

الكافرين (بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩) أي المجازاة له (فَإِنْ حَاجُّوكَ) خاصمك الكفار يا محمد في الدين (فَقُلْ) لهم (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) انقدت له أنا (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) وخص الوجه بالذكر لشرفه فغيره أولى (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) مشركي العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) أي أسلموا (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) من الضلال (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي التبليغ للرسالة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٢٠) فيجازيهم بأعمالهم وهذا قبل الأمر بالقتال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ) وفي قراءة يقاتلون (النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) بالعدل (مِنَ النَّاسِ) وهم

____________________________________

كفرهم واختلافهم محض عناد ، قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا). قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ) من اسم شرط جازم ويكفر فعل الشرط ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) دليل الجواب والجواب محذوف أي فيعذبه ، وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قال له : لا تحزن على كفر من كفر فإن الله معذبه.

قوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي اليهود والنصارى حيث أنكروا عموم رسالتك أو أصلها ، وجملة حاجوك فعل الشرط ، وجوابه فقل وما عطف عليه. قوله : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) معطوف على ضمير (أَسْلَمْتُ) المتصل ، وقد وجد الفاصل وهو قوله : (وَجْهِيَ لِلَّهِ) إذا علمت ذلك ، فتقدير المفسر أنا ، توضيح وبيان للضمير المتصل لا ليفيد الفاصل فإنه قد حصل بقوله وجهي لله ، قال ابن مالك :

وإن على ضمير رفع متصل

عطف فافصل بالضمير المنفصل

أو فاصل ما وما هنا من قبيلة ، ومفعول اتبعن محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي ومن اتبعن أسلم وجهه. قوله : (لشرفه) أي لوجود الحواس الخمس فيه. قوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي التوراة بالنسبة لليهود ، والإنجيل بالنسبة للنصارى ، وفيه وضع الموصول موضع الضمير لمقابلته بالأميين. قوله : (مشركي العرب) أي ومن عداهم ممن لا كتاب لهم. قوله : (أي أسلموا) أي فهو استفهام تقريعي ، والمقصود الأمر على حد (فهل أنتم منتهون). قوله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي انتفعوا وحصل لهم الرضا والقبول وتم لهم السعد والوصول ، وبهذا اندفع ما يقال إن فعل الشرط متحد مع جوابه ، كأنه قال فإن أسلموا فقد أسلموا.

قوله : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي داموا عليه وهو فعل الشرط ، وقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) دليل الجواب ، والجواب محذوف تقديره فلا تحزن عليهم وأمرهم إلى الله. قوله : (أي التبليغ للرسالة) أي وقد بلغت فلا تأس عليهم. قوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي عليم بهم ومطلع عليهم وناظر إليهم فلا يغيب عنه شيء من أفعالهم. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي هذه الآية نزلت قبل الأمر به ، فإن رسول الله أمر بالأمساك والأعراض عنهم في نحو نيف وسبعين آية ثم أمر بقتالهم. قوله : (بِآياتِ اللهِ) أي القرآن وغيره. قوله : (وفي قراءة يقاتلون) صوابه تأخيرها بعد المعطوف إذ هي التي فيها القراءتان ، وأما هذه فيقتلون بإتفاق السبعة.

قوله : (بِغَيْرِ حَقٍ) إن قلت إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق. أجيب بأنه في اعتقادهم أيضا

١٩٣

اليهود روي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم (فَبَشِّرْهُمْ) أعلمهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢١) مؤلم وذكر البشارة تهكم بهم ودخلت الفاء في خبر إن لشبه اسمها الموصول بالشرط (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ) بطلت (أَعْمالُهُمْ) ما عملوا من خير كصدقة وصلة رحم (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فلا اعتداد بها لعدم شرطها (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٢) مانعين من العذاب (أَلَمْ تَرَ) تنظر (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) حظا (مِنَ الْكِتابِ) التوراة (يُدْعَوْنَ) حال (إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣) عن قبول حكمه. نزل في اليهود زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحكم عليهما بالرجم فأبوا فجيء بالتوراة فوجد فيها فرجما فغضبوا (ذلِكَ) التولي والإعراض (بِأَنَّهُمْ قالُوا) أي

____________________________________

فهو زيادة في التشنيع عليهم ، فالمعنى اعجب يا محمد من بلادة هؤلاء حيث يقتلون الأنبياء وهم معتقدون أن قتلهم خلاف الحق ويقتلون من يأمرهم بالعدل. قوله : (وهم اليهود) أي قوم موسى ، وإنما خوطب من كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك لرضاهم بفعلهم مع كونهم كانوا عازمين على قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (ثلاثة وأربعين) وفي رواية أخرى سبعين. قوله : (من يومهم) أي فقتلوا الأنبياء أول النهار والعباد آخره. قوله : (أعلمهم) أشار بذلك إلى أن في الكلام استعارة تبعية حيث شبه الاعلام بالعذاب بالبشارة ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، واشتق من البشارة بشرهم بمعنى أعلمهم بالعذاب ، والجامع الانتقال من حال لأخرى في كل. قوله : (وذكر البشارة تهكم) أي لأن البشارة هي الخبر السار ، والنذارة الخبر الضار ، فكأنه يقول هو لا يتخلف ، كما أن الوعد بالخير لا يتخلف. قوله : (لشبه اسمها الموصول) أي وهو في الأصل كان مبتدأ متى وقع اسم موصول ، ولو منسوخا قرن خبره بالفاء. قوله : (كصدقة وصلة رحم) إن قلت إن مثل هذا العمل لا يتوقف على الإسلام لعدم توقفه على النية فينتفع به الكافر فلا يتم ، قول المفسر فلا اعتداد بها لعدم شرطها ، فلعل ذلك محمول على جماعة مخصوصين باشروا قتل الأنبياء وعاندوهم ، وإلا فصدقة الكافر وصلة رحمه تنفعه في الدنيا بتوسعتها عليه مثلا لا غير ، ولا ينتفع بها في الآخرة إجماعا لأن محل الجزاء الجنة وهو عنها بمعزل ، لأنه ليس له في الآخرة إلا النار.

قوله : (أَلَمْ تَرَ) الخطاب للنبي أو لكل من يتأتى منه النظر. قوله : (إِلى كِتابِ اللهِ) أي التوراة. قوله : (في اليهود) أي يهود خيبر. قوله : (زنى منهم اثنان) أي من أشرافهم ثم سألوا أحبارهم فأخبروهم بأن التوراة نصت على رجمهم ، ولكن أخذتهم الشفقة عليهم لكونهم من أشرافهم فتحاكموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعله أن يوجد في دينه فرج لهم ، فقال لهم النبي حكم ديني رجمكم ، والذي أعلمه أن في التوراة كذلك ، فقال بعضهم حرت علينا يا محمد فقال هلموا إليّ بأعلمكم بالتوراة ، فقالوا عبد الله بن صوريا وكان بفدك ، فأتى به فسأله النبي عن حكم الزاني والزانية في التوراة ، فقال ائتوني بالتوراة ، فقرأ منها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى وصل آية الرجم فوضع يده عليها وقرأ ما بعدها ، وكان عبد الله بن سلام حاضرا إذ ذاك ، وكان من أحبارهم قبل الإسلام ، فقال يا رسول الله إن الرجل أخفى آية الرجم وقرأ ما بعدها ، فأمره النبي بأخذها منه فأخذها وقرأها فإذا فيها : إن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت امرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجمهما فغضبت اليهود لذلك. قوله : (فوجد فيها) أي الرجم.

١٩٤

بسبب قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أربعين يوما مدة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ) متعلق بقوله (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤) من قولهم ذلك (فَكَيْفَ) حالهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ) أي في يوم (لا رَيْبَ) شك (فِيهِ) هو يوم القيامة (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) من أهل الكتاب وغيرهم جزاء (ما كَسَبَتْ) عملت من خير وشر (وَهُمْ) أي الناس (لا يُظْلَمُونَ) (٢٥) بنقص حسنة أو زيادة سيئة ، ونزل لما وعد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون هيهات (قُلِ اللهُمَ) يا الله (مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي) تعطي (الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) من خلقك

____________________________________

قوله : (بِأَنَّهُمْ قالُوا) أي بسبب قولهم ذلك فهونوا على أنفسهم جميع المويقات من قتل الأنبياء وعصيانهم وغير ذلك. قوله : (من قولهم ذلك) أي وهو لن تمسنا النار إلا أياما معدودات. قوله : (فَكَيْفَ) (حالهم) رد لقولهم المذكور وإبطال لما غرهم باستعظام ما سيقع لهم من الأهوال ، ويجوز أن يكون كيف خبرا مقدما والمبتدأ محذوف ، قدره المفسر بقوله : (حالهم). وقوله : (إِذا جَمَعْناهُمْ) ظرف غير مضمن معنى الشرط منصوب على الظرفية والعامل فيه متعلق الخبر. قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي في مجيئه ووقوع ما فيه.

قوله : (وَهُمْ) (أي الناس) فيه إشارة إلى أنه ذكر ضميرهم ، وجمعه بإعتبار معنى كل نفس. قوله : (ونزل لما وعد) وذلك أنه حين تحزبت عليه الأحزاب سنة خمس من الهجرة حتى تجمع عليه عشر آلاف مقاتل ، وكان المسلمون إذ ذاك نحو الألفين معه بالمدينة ، فأشاروا عليه بحفر الخندق فجعل على كل عشرة أربعين ذراعا ، فبينما هم في ذلك ، إذ ظهرت لهم صخرة عظيمة لا تعمل فيها المعاول ، فكرب من كانت في قسمته ، فاستجاروا برسول الله ، فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعول من سلمان الفارسي وضرب الصخرة أول مرة فخرج منها نور فملأ ما بين لابتي المدينة ، فقال أضاء منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، والحيرة بكسر الحاء المهملة وسكون الياء مدينة بقرب الكوفة ، وتمثيله القصور بأنياب الكلاب لشبهها لها في البياض وانضمام بعضها لبعض مع الإشارة إلى تحقيرها ، ثم ضرب الثانية وقال : أضاء لي منها قصور الروم ، ثم ضرب الثالثة وقال : أضاء لي منها قصور صنعاء اليمن ، وأخبرني جبريل أن أمتي طاهرة على كلها فابشروا ، فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم بالباطل ويخبركم أنه يبصر ما ذكر ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من شدة الخوف ولا تستطيعون البروز ، فنزلت الآية ، وكسر الصخرة في الثلاث ضربات من عزمه وقوته البشرية ، وإلا لو كان معجزة لأشار لها فقط ، وروي في فضل تلك الآية أحاديث لا تحصى ، منها ما روي أن الله لما أمر فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله وقل اللهم مالك الملك بالنزول إلى الأرض ، قالوا يا ربنا لا تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ، فقال تعالى وعزتي وجلالي ما يقرؤكن عبد عقب كل صلاة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه ، وإلا نظرت له بعيني المكنونة في اليوم والليلة سبعين مرة ، وإلا قضيت له في اليوم والليلة سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وإلا أعذته من عدوه بنصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. قوله : (يا الله) أشار بذلك إلى أن الميم معوضة عن ياء النداء ، فهو مبني على الضم في محل نصب. والميم عوض عن ياء النداء ، وذلك من جملة ما خص به لفظ الجلالة ومن جملتها اجتماع يا وأل.

قوله : (مالِكَ الْمُلْكِ) يصح أن يكون بدلا أو عطف بيان أو نعتا لمحل اللهم أو منادى حذفت منه

١٩٥

(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإيتائه (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بنزعه منه (بِيَدِكَ) بقدرتك (الْخَيْرُ) أي والشر (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦) (تُولِجُ) تدخل (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ) تدخله (فِي اللَّيْلِ) فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ) كالنطفة والبيضة (مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢٧) أي رزقا واسعا (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) يوالونهم (مِنْ دُونِ) أي غير (الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي يوالهم (فَلَيْسَ مِنَ) دين (اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ

____________________________________

يا النداء ، والملك هو من العرش للفرش ، وفي بعض الكتب أنا الله ملك الملوك ومالك الملك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك ، ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وقله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) إما صفة لمالك الملك أو استئناف بياني ، دليل لكونه مالك الملك ، وقوله : (من تشاء) أي كمحمد وأصحابه. قوله : (بإيتائه) أي الملك. قوله : (بنزعه منه) أي بنزع الملك من فارس والروم وغيرهما. قوله : (بقدرتك) هذا تأويل الخلف ، وأما السلف فيؤمنون بذلك ويفوضون علم ذلك لله قوله : (أي والشر) أشار بذلك إلى أن فيه اكتفاء ، وإنما اقتصر على الخير لأن الآية مسوقة في الخير بدليل سبب نزولها وإن كان لفظها عاما ، أو يقال إنما اقتصر على الخير لأنه صنعه ، وأما الشر فبالنظر للمنعكس عليه قال بعض العارفين :

إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا

رأيت جميع الكائنات ملاحا

وإن لم تر إلا مظاهر صنعه

حجبت فصيرت الحسان قباحا

ففعل الله كله خير لأن أفعاله دائرة بين الفضل والعدل ، ولا ينسب له الشر أصلا ، وإنما ينسب الشر للمخالف ، وليس لمولانا حاكم يخالفه فيما أمره به بل هو الفعال لما يريد. قوله : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) دليل لما تقدم. قوله : (فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر) أي بقدر ما نقص ساعة بساعة ودرجة بدرجة. قوله : (كالإنسان والطائر الخ) ويصح أن يراد بالحي المسلم وبالميت الكافر قوله : (من النطفة والبيضة) لف ونشر مرتب. قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي ومن غير توقف على عمل ، وإلا فلو توقف رزقه على عمل منا لما أعطانا شيئا أبدا ، بل لم يبق لنا نعمه التي هي موجودة فينا ، كالسمع والبصر والكلام واليدين والرجلين وغير ذلك ، فسبحان الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاء.

قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) قيل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ، كان منافقا يخفي الكفر ويحب أهله ويواليهم باطنا ، وكان بصحبته على هذه الخصلة ثلثمائة ، وكانوا يحبون ظفر الأعداء برسول الله وأصحابه ، وإنما كانوا يظهرون الإسلام فقط ، فمعنى الآية أن من علامة الإيمان عدم موالاة أهل الكفر ، قال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) قوله : (أَوْلِياءَ) أي أصدقاء وقوله : (يوالونهم) أي يحبونهم ويميلون إليهم. قوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في محل الحال من الفاعل ، أي حال كون المؤمنين متجاوزين بموالاتهم المؤمنين أي تاركين قصر الولاية عليهم ، وذلك الترك يصدق بصورتين ، كونها مشتركة بين الكفار والمؤمنين ، أو مختصة بالكفار ، فالصورتان داخلتان في منطوق النهي ، وإنما

١٩٦

تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) مصدر تقيته أي تخافوا مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب وهذا قبل عزة الإسلام ويجري فيمن في بلد ليس قويا فيها (وَيُحَذِّرُكُمُ) يخوفكم (اللهُ نَفْسَهُ) أن يغضب عليكم إن واليتموهم (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨) المرجع فيجازيكم (قُلْ) لهم (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) قلوبكم من موالاتهم (أَوْ تُبْدُوهُ) تظهروه (يَعْلَمْهُ اللهُ وَ) هو (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩) ومنه تعذيب من والاهم اذكر (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) ه (مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ) ه (مِنْ سُوءٍ) مبتدأ خبره (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرر للتأكيد (وَاللهُ رَؤُفٌ

____________________________________

الواجب على المؤمنين قصر الموالاة والمحبة على بعضهم.

قوله : (فَلَيْسَ مِنَ) الكلام على حذف مضاف ، قدره المفسر بقوله دين وفيه حذف مضاف أيضا أي من أهل دين الله ، فالمعنى أنه كافر ، وإذا اطلعنا عليه فلا نبقيه بل نقتله ، ويسمى زنديقا ومنافقا ، واسم ليس ضمير يعود على من الشرطية. قوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) هذا استثناء مفرغ من عموم الأحوال ، أي لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء ، ولا لغرض من الأغراض إلا للتقية ظاهرا بحيث يكون مواليه في الظاهر ومعاديه في الباطن. ومحصله أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين ، أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه مطمئنا قلبه بالإيمان ، فالتقية لا تكون إلا مع الخوف على النفس أو العرض. قوله : (تُقاةً) وزنه فعلة ويجمع على تقى كرطبة ورطب ، وأصله وقية لأنه من الوقاية ، فأبدلت الواو تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وقوله : من (تقيته) بفتح القاف بوزن رميته وهو بمعنى اتقيته. قوله : (دون القلب) أي فالموالاة به حرام إجماعا. قوله : (وهذا) أي قوله إلا أن تتقوا. قوله : (ليس قويا فيها) أي الإسلام ليس قويا في تلك البلدة ، كأن يجعل أمراء تلك البلدة الحكام من أهل الكفر ، فالواجب مداراتهم ظاهرا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ، كما وقع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان في داره يوما ، إذ أقبل عليه رجل فطرق الباب فقال من؟ فقال فلان فقال سرا : بئس أخو العشيرة ، ثم لما خرج إليه أطلق له وجهه وصار يلاطفه بالقول ، فلما انصرف قالت له عائشة : رأيت منك عجبا ، سمعتك تقول قولا ثم فعلت خلافه ، فقال : يا عائشة إنا لنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم.

قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ) الكاف مفعول أول ، ونفسه مفعول ثان ، وهو على حذف مضاف أشار له المفسر بقوله أن يغضب عليكم ، والأصل غضبت نفسه ، أي فإن واليتموهم غضب الله بجلاله عليكم. قوله : (فيجازيكم) أي إما بالثواب إن لم توالوهم أو بالعقاب إن واليتموهم. قوله : (يَعْلَمْهُ اللهُ) أي فيرتب الجزاء على ذلك. قوله : (يَوْمَ تَجِدُ) ظرف لمحذوف أي ذكر. قوله : (مُحْضَراً) أي حاضرا ظاهرا تفرح به ، وذلك كالصدقات والصيام والصلاة مثلا. قوله : (أَمَداً بَعِيداً) أي مسافة طويلة فيتمنى أن لم يكن رآه ، وقد ورد أن العبد إذا خرج من قبره وجد عمله الصالح في صورة حسنة ، فيقول له طالما كنت أقلقك في الدنيا فاركب على ظهري الآن فيركبه إلى الحشر ، وذلك قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) وإذا كان غير صالح وجد عمله السيء في صورة قبيحة ، فيقول له طالما كنت تتمتع بي في

١٩٧

بِالْعِبادِ) (٣٠) ونزل لما قالوا ما نعبد الأصنام إلا حبا لله ليقربونا إليه (قُلْ) لهم يا محمد (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) بمعنى أنه يثيبكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ) لمن اتبعني ما سلف منه قبل ذلك (رَحِيمٌ) (٣١) به (قُلْ) لهم (أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) فيما يأمركم به من التوحيد (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الطاعة (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢) فيه إقامة الظاهر مقام المضمر أي لا يحبهم بمعنى أنه يعاقبهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) اختار (آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ

____________________________________

الدنيا فأنا أركبك الآن ، وذلك قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) ولو شرطية ، في الكلام حذفان أحدهما حذف مفعول تود ، والثاني حذف جواب لو ، والتقدير تود تباعدا ما بينها وبينه ، لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لسرت بذلك.

قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) أي شديد الرحمة بهم ، حيث قطع عذرهم بتبيين ذلك في زمن يسع التوبة والرجوع إليه فيه. ومن جملة رأفته كثرة التكرار والتأكيد في الكلام لعله يصل إلى قلوب السامعين فيعملوا بمقتضاه. قوله : (ونزل لما قالوا الخ) وقيل سبب نزولها قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل قول نصارى نجران ما عبدنا عيسى وأمه إلا محبة لله. وقيل سبب نزولها أن النبي دخل الكعبة فوجد الكفار يعلقون على الأصنام بيض النعام ويزخرفونها فقال لهم ما هذه ملة إبراهيم التي تدعونها ، فقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. قوله : (قُلْ) (لهم يا محمد) أي ردا لمقالهم. قوله : (فَاتَّبِعُونِي) أي في جميع ما جئت به ، والمعنى أن اتباع النبي فيما جاء به دليل على محبة الإنسان لربه ، وهي ميل القلب نحوه وإيثار طاعته على هوى نفسه فيلزم من المحبة الطاعة ، قال بعض العارفين :

لو قال تيها قف على جمر الغضا

لوقفت ممتثلا ولم أتوقف

وقال بعضهم :

تعصي الاله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

فمن ادعى المحبة من غير طاعة فدعواه باطلة لا تقبل. قوله : (بمعنى أنه يثيبكم) أشار بذلك إلى أن معنى المحبة الأصلي محال في حقه تعالى ، وأن المراد بمحبة الله للعبد قبوله والإثابة على أعماله. قوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي يمحها من الصحف ، فالمحبوب لا يبقى عليه ذنب ، والمبغوض لا تبقى له طاعة ، قال بعض العارفين : واجعل سيئاتنا سيئات من أحببت ، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت ، فالإحسان لا ينفع مع البغض منك ، والإساءة لا تضر مع الحب منك. قوله : (رحيم به) أي في الدنيا والآخرة. قوله : (من التوحيد) أي وغيره من شرائع الدين قوله : (أعرضوا عن الطاعة) أي فلم يتبعوك فيما أمرت به. قوله : (فيه إقامة الظاهر) أي تبكيتا لهم.

قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) قال ابن عباس : قالت اليهود نحن من أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى إن الله اصطفى هؤلاء بالإسلام والنبوة والرسالة ، وأنتم يا معشر اليهود على غير دينهم ، وعاش آدم في الأرض تسعمائة وستين سنة ، وأما مدة إقامته في الجنة فلا تحسب. قوله : (وَنُوحاً) هذا لقبه ، واسمه الأصلي عبد الغفار ، وقيل السكن ، ولقب

١٩٨

وَآلَ عِمْرانَ) بمعنى أنفسهما (عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٣) بجعل الأنبياء من نسلهم (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ) ولد (بَعْضٍ) منهم (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤) اذكر (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) حنة لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله وأحست بالحمل يا (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ) أن أجعل (لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) عتيقا خالصا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) الدعاء (الْعَلِيمُ) (٣٥) بالنيات ، وهلك عمران وهي حامل (فَلَمَّا وَضَعَتْها) ولدتها جارية وكانت ترجو أن يكون غلاما إذ لم يكن يحرر إلا الغلمان (قالَتْ) متعذرة يا (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ

____________________________________

بنوح لكثرة نوحه ، وهو من نسل إدريس لأنه ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليهم الصلاة والسّلام ، وعمر ألف سنة وخمسين ، والمعنى اختياره بالنبوة والرسالة وجعله من أولي العزم. قوله : (وَآلَ إِبْراهِيمَ) أي اصطفاه بالنبوة والرسالة والخلة ، وعمر إبراهيم مائة وسبعين سنة. قوله : (وَآلَ عِمْرانَ) قيل المراد عمران أبو مريم وهو الأقرب ، وقيل أبو موسى وهارون ، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة. قوله : (بمعنى أنفسهما) وقيل إنهما حقيقة ، فآل إبراهيم أولاده ، وآل عمران أبو مريم مريم وابنها ، وأبو موسى موسى هارون. قوله : (عَلَى الْعالَمِينَ) المراد عالمو زمانهم.

قوله : (ذُرِّيَّةً) بدل من آدم وما عطف عليه ، وهي إما مأخوذة من الذر أو من الذرء بمعنى الخلق. قوله : (بَعْضُها مِنْ) (ولد) (بَعْضٍ) أي متناسلين من بعض ، فالمراد البعضية في النسب ، وقيل المراد بعضها من بعض في الصلاح والنبوة والرسالة ، فكما أن الأصول أنبياء ورسل كذلك الذرية ، بل في بعضها ما يفوق الأصول جميعها كسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (إِذْ قالَتِ) ظرف في محل نصب على المفعولية لمحذوف ، قدره المفسر بقوله : (اذكر) والتقدير أذكر يا محمد وقت قول امرأة عمران ، والمقصود ذكر القصة الواقعة في ذلك الوقت لا ذكر الوقت نفسه. قوله : (حنة) أي بنت فاقود ، وكان لها أخت تسمى إشاع بنت فاقود أيضا متزوجة بزكريا عليه‌السلام ، وكان عمران من السادات الصالحين ، وكان له التكلم على سدنة بيت المقدس ، واسم أبيه ماثان قوله : (واشتاقت للولد) سبب ذلك أنها كانت يوما جالسة في ظل الشجرة ، فرأت طائرا يطعم فرخه ويسقيه ، فعطفت واشتاقت للولد من أجل رؤية ذلك الطائر ، فدعت الله أن يرزقها ولدا ونذرت أن تهبه لبيت المقدس يخدمه ، وكان ما من رجل من أشراف بيت المقدس إلا وله ولد منذور لخدمته ، فاستجاب الله دعاءها فحملت ، فلما أحست بالحمل جددت النذر ثانيا بقولها : (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) فلامها زوجها على ذلك حيث أطلقت في نذرها ولم تقيده بالذكر ، فبقيت في حيرة وكرب إلى أن وضعت ، فلما وضعتها ورأتها أنثى اعتذرت إلى الله إلى آخر ما يأتي. قوله : (عتيقا خالصا من شواغل الدنيا) أي وكانوا يفعلون ذلك بالصبيان إلى أن يبلغوا الحلم ، فإذا بلغوا عرضوا ذلك الأمر عليهم ، فإن اختاروا الخدمة مكثوا وكلفوا بها ولا يخرجون لشيء من شواغل الدنيا ، وإن اختاروا عدم الخدمة أجيبوا لذلك. قوله : (وهلك عمران وهي حامل) أي وحين نذرت ذلك النذر لامها فكربت ثم لما وضعتها الخ فهو مرتب محذوف. قوله : (جارية) حال من الهاء في ولدتها.

قوله : (قالَتِ) (معتذرة) حال من فاعل قالت لا إعلاما له تعالى فإنه لا يليق ذلك ، فإنه عالم بها

١٩٩

أَعْلَمُ) أي عالم (بِما وَضَعَتْ) جملة اعتراض من كلامه تعالى وفي قراءة بضم التاء (وَلَيْسَ الذَّكَرُ) الذي طلبت (كَالْأُنْثى) التي وهبت لأنه يقصد للخدمة وهي لا تصلح لها لضعفها وعورتها وما يعتريها من الحيض ونحوه (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها) أولادها (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (٣٦) المطرود في الحديث ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها رواه الشيخان (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) أي قبل مريم من أمها (بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أنشأها بخلق حسن فكانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام وأتت بها أنها لأحبار سدنة بيت المقدس فقالت دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم

____________________________________

من قبل أن تعلم بها هي. قوله : (أُنْثى) حال من الضمير في وضعتها مؤكدة له ، ويحتمل أن تكون مؤسسة بالنظر لعوده على النسمة الشاملة للذكر والأنثى. قوله : (جملة اعتراض) أي بين كلامي حنة تفخيما وتعظيما لشأن ذلك المولود. قوله : (وفي قراءة) أي سبعية. قوله : (بضم التاء) أي ويكون ذلك من كلامها اعتذارا. قوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) يحتمل أن يكون ذلك من كلام الله والمعنى ليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي أعطيتها لك ، فإن ما وهبته لك أعظم مما طلبته لنفسك ، فالقصد تفخيم شأنها ، ويحتمل أن يكون من كلام حنة ويكون في الكلام قلب ، والمعنى ليست الأنثى التي وهبت لي كالذكر الذي طلبته ، فالذكر أعظم من حيث قوته على الخدمة وخلوه من القذارة كالحيض والنفاس ، فيكون اعتذارا واقعا منها. قوله : (ونحوه) أي كالنفاس.

قوله : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها) معطوف على إني وضعتها أنثى ، ويكون ما بينهما اعتراض علي أنه من كلام الله ، وأما على أنه من كلامها فتكون من جملة مقولها. قوله : (مَرْيَمَ) معناه بلغتهم العابدة خادمة الرب. قوله : (وَإِنِّي أُعِيذُها) أي أحصنها وأجيرها. قوله : (أولادها) أي ولم تلد إلا عيسى. قوله : (الرَّجِيمِ) فعيل بمعنى مفعول أي مطرود كما قال المفسر ، أو مرجوم بالشهب من السماء. قوله : (إلا مسه الشيطان) أي نخسه في جنبه وظاهره حتى الأنبياء وهو كذلك. إن قلت الأنبياء معصومون من الشيطان فلا سبيل له عليهم ، أجيب بأنهم معصومون من وسوسته وإغوائه لا من نخسه في أجسامهم ، فإن ذلك لا يقدح في عصمتهم منه. إن قلت إن موضوع الآية أن دعوة أم مريم كانت بعد وضعها وتسميتها ، فلم تنفع مريم من نخس الشيطان ، وإنما نفعت ولدها فقط ، فلم تحصل مطابقة بين الآية والحديث إلا أن يقال إن حفظهما من نخس الشيطان كان واقعا ، وإن لم تدع حنة فدعوتها طابقت ما أراده الله بهما ، ومع ذلك فالمناسب للمفسر أن لا يأتي بالحديث تفسيرا للآية ، وقد ورد أن الشيطان نخسهما أيضا إلا أنه صادف الغشاء.

قوله : (فَتَقَبَّلَها) أي رضي بها خادمة لبيت المقدس ، وخلصها من دنس الأطفال والنساء. قوله : (بِقَبُولٍ) يحتمل أن الباء زائدة أي قبولا ، ويكون منصوبا على المصدر المحذوف الزوائد ، وإلا لقيل تقبلا أو تقبيلا ، ويحتمل أنها أصلية ، والمراد بالقبول اسم لما يقبل به الشيء كالوجور والسعوط. قوله : (كما ينبت المولود في العام) أي في العقل والمعرفة ، وإلا فالكلام من قبيل المبالغة. قوله : (سدنة بيت المقدس) أي خدمته. قوله : (هذه النذيرة) أي المنذورة. قوله : (لأنها بنت إمامهم) أي رئيسهم وأميرهم. قوله :

٢٠٠