حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) الشيطان أو الأصنام وهو يطلق على المفرد والجمع (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) تمسك (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) بالعقد المحكم (لَا انْفِصامَ) انقطاع (لَها وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يقال (عَلِيمٌ) (٢٥٦) بما يفعل (اللهُ وَلِيُ) ناصر (الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) الكفر (إِلَى النُّورِ) الإيمان (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) ذكر الإخراج إما في مقابلة قوله يخرجهم في الظلمات أو في كل من آمن بالنبي قبل بعثته

____________________________________

أبو الحصين كان له ابنان تنصرا قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قدما المدينة بتجارة زيت فلقيهما أبوهما ، وأحب أن يكرههما على الإسلام ، فارتفع معهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبوهما يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر إليه فنزلت وهذه الآية يحتمل أنها منسوخة بآيات القتال أو محكمة ، وتحمل على من ضرب عليهم الجزية ويؤيده سبب نزولها. قوله : (بِالطَّاغُوتِ) مبالغة في الطغيان كالجبروت والملكوت ، والمراد به ما يعبد من دون الله ، ومعنى الكفر به جحده والإعراض عنه. قوله : (وهو يطلق على المفرد والجمع) أي ويعود الضمير عليه مؤنثا ومذكرا وهو قيل مصدر وقيل اسم جنس.

قوله : (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) تقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله من باب تقديم التخلية على التحلية ، لأنه لا يصح إيمان بالله مع إشراك غيره معه. قوله : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) هذه الجملة جواب الشرط الذي هو من وقرن بالفاء لدخول قد عليها. قوله : (تمسك) أشار بذلك إلى السين والتاء زائدتان لتقوية الاستمساك. قوله : (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) فيه استعارة تصريحية أصلية ، حيث شبه دين الإسلام بالعروة الوثقى ، وهي موضع المسك من الحبل بجامع أن كلا لا يخشى منه الخلل ، واستعير اسم المشبه به وهو العروة الوثقى للمشبه وهو دين الإسلام ، والاستمساك وعدم الانفصام ترشيحان لأنه من ملائمات المشبه به ، أو فيه استعارة تمثيلية بأن يقال شبه حال من تمسك بدين الإسلام وأحكامه بحال من تمسك بالعروة الوثقى ، بجامع أن كلا لا يخشى الانفكاك ولا الخلل ، واستعير اسم المشبه به للمشبه والاستمساك وعدم الانفصام ترشيحان أيضا. قوله : (لَا انْفِصامَ لَها) الانفصام الانقطاع بغير بينونة ، والانقصام بالقاف الانقطاع مع بينونة ، فالتعبير بالانفصام أبلغ. قوله : (لما يقال) أي سرا أو جهرا. قوله : (بما يفعل) أي خيرا أو شرا سرا أو جهرا.

قوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) هذا كالدليل لما قبله وولي فعيل بمعنى فاعل أي متولي أمر عباده ، وأما الولي من العبيد فبمعنى فاعل أي موالي طاعة ربه ، أو بمعنى مفعول أي تولاه الله فلم يكله لغيره. قوله : (الكفر) شبه بالظلمات الحسية للحيرة وعدم الاهتداء في كل ، ولأنه يكون كذلك يوم القيامة ، قال تعالى : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) ، وقوله : (الإيمان) شبه بالنور لأنه يهتدى بكل ولأنه يكون كذلك يوم القيامة ، قال تعالى : (نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ، فالكفر ظلمة معنوية في الدنيا وحسية في الآخرة ، والإيمان نور معنوي في الدنيا وحسي في الآخرة ، قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) إنما لم يقل والطاغوت أولياء الذين كفروا لأجل المقابلة لئلا يكون الطاغوت مقابلا لاسم الله وهو قبيح ، فبدأ بكفرهم تقبيحا وتبكيتا لهم. قوله : (ذكر الاخراج الخ) جواب عن سؤال مقدر حاصله أن الكفار لم يكونوا في نور فأخرجوا منه إلى الظلمات كيف ذلك أجاب المفسر

١٦١

من اليهود ثم كفر به (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَ) جادل (إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) ل (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي حمله بطره بنعم الله على ذلك وهو نمروذ (إِذْ) بدل من حاج (قالَ إِبْراهِيمُ) لما قال له من ربك الذي تدعونا إليه (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي بخلق الحياة والموت في الأجساد (قالَ) هو (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) بالقتل والعفو عنه ودعا برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر فلما رآه غبيا (قالَ إِبْراهِيمُ) منتقلا إلى حجة أوضح (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها) أنت (مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) تحير ودهش

____________________________________

بجوابين : الأول أنه مشاكلة لما قبله والمراد منهم من أصل النور ، والثاني أنه إخراج حقيقي وهو في كل من آمن بالنبي قبل مبعثه ثم ارتد بعد ذلك ، وفي هذه الآية وعد من الله بالأمن للمؤمن من المخاوف دنيا وأخرى.

قوله : (أَلَمْ تَرَ) الاستفهام لتقرير النفي مع التعجيب ، والمعنى ألم ينته علمك إلى هذا الذي قابله الله بالجود والاحسان ، وقابل مولاه بالكفر والطغيان ، وهذا كالدليل لقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) الآية. فإن الشيطان طاغوت نمروذ وهو طاغوت غيره ما عدا إبراهيم ومن تبعه قوله : (إِلَى الَّذِي حَاجَ) لم يصرح باسمه تبكيتا له وإظهارا لقبحه. قوله : (جادل) أي مجادلة باطلة وهي مقابلة الحجة بالحجة فإبراهيم يجادل بالحق ، ونمروذ يجادل بالباطل. قوله : (فِي رَبِّهِ) أي إبراهيم فالإضافة للتشريف ، أو نمروذ والإضافة لإقامة الحجة عليه حيث نازع خالقه في وصفه. قوله : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) مفعول لأجله وهو مجرور باللام لفقد أحد شروطه وهو عدم اتحاد الفاعل ، لأن فاعل المحاججة النمروذ وفاعل إيتاء الملك هو الله ، قال ابن مالك : وإن شرط فقد. فاجرره بالحرف. وحذف الجار لأن حذفه مطرد مع أن وإن. قوله : (بطره) هو الاستخفاف بآلاء الله. قوله : (بنعم الله) أي وهي ملك الدنيا ، لأنه لم يملك إلا أربعة اثنان مسلمان ، واثنان كافران سليمان وذو القرنين ، والنمروذ وبختنصر. قوله : (وهو نمروذ) أي ابن كنعان حملت به أمه من زنا خوفا على ملك أبيه من الضياع حيث كان أبوه عقيما ، وهو أول من لبس التاج المكلل ، وهذه الواقعة كانت بعد إلقاء إبراهيم في النار ، وكان النمروذ قد ملك أقوات الأرض كلها ، فكان لا يعطي القوت إلا لمن آمن به ، فذهب إبراهيم إليه وطلب منه شيئا من القوت فامتنع حتى يتبعه ، فذهب إبراهيم إلى كثيب من رمل وملأ وعاءه فلما وصل منزله صار دقيقا فصار يأكل منه هو ومن تبعه. قوله : (بدل من حاج) أي بدل اشتمال. قوله : (لما قال له) ظرف لقوله قال إبراهيم ، أي قال إبراهيم ذلك وقت قوله له من ربك؟

قوله : (أَنَا أُحْيِي) الضمير قيل أن وحدها والألف زائدة لبيان الحركة في حالة الوقف ، وقيل بل كلها الضمير ، والصحيح أن فيه لغتين لغة تميم إثبات ألفه وصلا ووقفا ، والثانية إثباتها وقفا وحذفها وصلا. قوله : (غبيا) أي بليدا لا يفهم جوابا ولا يحسن خطابا ، وهو جواب عن سؤال مقدر حاصله أن ما وقع من إبراهيم ليس صناعة المناظرة لأنه كان الواجب إبطال حجة الأحياء والإماتة التي ادعاها اللعين أولا ثم ينتقل لحجة أخرى ، أجاب المفسر بأنه لما رآه غبيا لم يدقق عليه في ذلك وانتقل لحجة أخرى.

١٦٢

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) بالكفر إلى حجة (أَوْ) رأيت (كَالَّذِي) الكاف زائدة (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) هي بيت المقدس راكبا على حمار ومعه سلة تين وقدح عصير وهو عزير (وَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) سقوفها لما خربها بختنصر (قالَ أَنَّى) كيف (يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) استعظاما لقدرته تعالى (فَأَماتَهُ اللهُ) وألبثه (مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) أحياه ليريه كيفية ذلك (قالَ) تعالى له (كَمْ لَبِثْتَ) مكثت هنا (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنه نام أول النهار فقبض وأحيي عند الغروب فظن أنه يوم النوم (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) التين (وَشَرابِكَ) العصير (لَمْ يَتَسَنَّهْ) يتغير مع طول الزمان والهاء قيل أصل من سانهت وقيل للسكت من سانيت

____________________________________

قوله : (أَوْ كَالَّذِي) هذا كالدليل لقوله : الله ولي الذين آمنوا ، فهو من باب اللف والنشر المشوش فمن أراد الله هدايته جعل له كل شيء دليلا يستدل به على ذات صانعه وصفاته ، ومن أراد الله خذلانه أضله بكل شيء وأعمى قلبه عن النظر في المصنوعات ، وإنما قدم ما يتعلق بالكافر لقصر الكلام عليه واتصاله بما قبله بخلاف ما يتعلق بالمؤمن ، واعلم أنهم ذكروا أن في الكاف قولين : الأول أنها بمعنى مثل وعليه درج المفسر حيث قدر رأيت فيكون المعنى ألم ينته علمك إلى الشخص الذي مر الخ. قوله : الكاف زائدة غير مناسب لحله ، الثاني أنها زائدة والمعنى ألم ينته علمك إلى الشخص الذي مر الخ. قوله : (وهو عزيز) أي ابن شرخيا كان من بني إسرائيل ، قيل كان نبيا وقيل وليا وقيل هو الخضر وقيل رجل كان كافرا ينكر البعث فأراد الله له الهدى ، والقرية قيل هي بيت المقدس كما قال المفسر ، وقيل هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت. قوله : (لما خربها بختنصر) بخت معناه ابن ونصر اسم للصنم ، سمي بذلك لأن أمه لما ولدته وضعته عنده فلما وجدوه قالوا بختنصر أي ابن الصنم ، وكان كافرا ملك الأرض مشرقا ومغربا ، وسبب تخريبها أن بني إسرائيل لما طغوا سلط الله عليهم بختنصر فتوجه إليهم في ستمائة راية ، فلما ملكهم قسمهم ثلاثة أقسام : قسم قتله وقسم أقره بالشام وقسم استرقه ، وكان ذلك مائة ألف ، فقسمه بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل واحد أربعة فكانوا خمسة وعشرين ألف ملك ، وكان من جملة من أسر عزيز ، وفك من الأسر فلما مر عليها وهي بهذه الحالة قال ما ذكر.

قوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) يحتمل أن المراد في الدنيا أو يوم القيامة ، وليس ذلك شكا واستغرابا لفعل الله ، بل ذلك سؤال عن تعلق قدرة الله كأنه قال هل تعلقت قدرة الله بإحيائها فيحييها ، أو بعدمه فيبقيها على ما هي عليه. قوله : (كيف) وقيل بمعنى متى. قوله : (استعظاما لقدرته) أي إنه لا يقدر على ذلك إلا صاحب القدرة العظيمة. قوله : (وألبثه) قدره إشارة إلى أن قوله مائة عام متعلق بمحذوف ، ولا يصح تعلقه بأماته لأنه لا معنى له. وسبب ذلك أنه لما دخل بيت المقدس وربط حماره فلم ير أحدا بها ثم رأى أشجارها قد أثمرت فأكل منها ونام فأماته الله في منامه ، فلما مضى من موته سبعون سنة ، وجه الله ملكا من ملوك فارس إلى بيت الله المقدس ليعمره فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل إليه ، فلما تمت المائدة أحياه الله.

قوله : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أو للاضراب لأنه نام ضحوة النهار فأحيي آخر النهار ، فظن أنه يوم النوم ، فبالضرورة ليس يوما كاملا. قوله : (قيل أصل) أي فهي لام الكلمة والفعل مجزوم بسكون الهاء

١٦٣

وفي قراءة بحذفها (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف هو فرآه ميتا وعظامه بيض تلوح ، فعلنا ذلك لتعلم (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً) على البعث (لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) من حمارك (كَيْفَ نُنْشِزُها) نحييها بضم النون وقرىء بفتحها من أنشر ونشر لغتان وفي قراءة بضمها والزاي نحركها ونرفعها (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) فنظر إليها وقد تركبت وكسيت لحما ونفخ فيه الروح ونهق (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) ذلك بالمشاهدة (قالَ أَعْلَمُ) علم مشاهدة (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩) وفي قراءة أعلم ، أمر من الله له (وَ) اذكر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ) تعالى (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بقدرتي

____________________________________

فأصل سنة سنهة. قوله : (وقيل للسكت) أي فهي زائدة وأصل سنة سنو. قوله : (وفي قراءة بحذفها) أي وصلا. قوله : (من أنشر ونشر) لف ونشر مرتب. قوله : (ونرفعها) أي نرفع بعضها إلى بعض. قوله : (علم مشاهدة) جواب عن سؤال مقدر. قوله : (أمر من الله له) أي وترقى من علم اليقين إلى عين اليقين ، روي أن العزيز لما أحيي ورأسه ولحيته إذ ذاك سوداوان وهو ابن أربعين سنة ، ركب حماره وأتى محلته ، فأنكره الناس وأنكر هو الناس والمنازل ، فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله ، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزير ، فقال عزير : يا هذه هذا منزل عزير ، قالت : نعم ، وأين عزير ، قد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاء شديدا قال : فإني عزير ، قالت : سبحان الله وأني يكون ذلك ، قال : قد أماتني الله مائة عام ثم بعثني. قالت : إن عزيرا كان رجلا مجاب الدعوة فادع الله لي يرد علي بصري حتى أراك ، فدعا ربه ومسح بين عينيها فصحتا فأخذ بيدها فقال لها قومي بإذن الله فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال ، فنظرت إليه فقالت أشهد أنك عزير ، فانطلقت به إلى محلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ، وكان في المجلس ابن لعزير قد بلغ مائة وثماني عشرة سنة وبنو بنته شيوخ ، فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها ، فقالت انظروا فإني بدعائه رجعت إلى هذه الحالة ، فنهض الناس فأقبلوا إليه ، فقال ابنه كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكشف فإذا هو كذلك ، وقد كان قبل بختنصر ببيت المقدس من قراء التوراة أربعون ألف رجل ، ولم يكن يومئذ بينهم نسخة من التوراة ولا أحد يعرف التوراة ، فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخل منها بحرف ، فقال رجل من أولاد المسبيين ممن ورد بيت المقدس بعد هلاك بختنصر حدثني أبي عن جدي أنه دفت التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم ، فذهبوا به إلى كرم جده ففتشوا فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزير عن ظهر القلب فما اختلفا في حرف واحد ، فعند ذلك قالوا هو ابن الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) هذا دليل آخر لقوله الله ولي الذين آمنوا ، وقصة إبراهيم أبلغ من قصة العزيز لعظم مقام إبراهيم ، وإنما غاير الأسلوب ولم يقل أو كالذي (قال رب أرني) الخ لأن إبراهيم قد تقدم له ذكر ، وأيضا الأمر المعجز لم يقع له في نفسه كالعزير وإنما أراه الله ذلك في غيره ، وسبب سؤال إبراهيم أنه مر بساحل طبريا فوجد جيفة إنسان وقيل حمار وقيل حوت ، فلما رآه وجد السباع والطيور والسمك تأكل منها ، فاشتاقت نفسه إلى رؤية جمع الله لها ، فقال أعلم أن الله قادر على جمعها لكن أحب أن أرى ذلك ، وقيل سبب سؤاله أنه لما حاجج النمروذ حيث (قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت) فقال النمروذ أنا أحيي وأميت ، ودعا رجلين فقتل أحدهما وعفا عن الآخر ، فقال له إبراهيم ليس هذا إحياء إدخال الروح في الجسم وتقويمه بها ، فقال النمروذ أو ربك يفعل ذلك فقال إبراهيم نعم ، فقال له هل عاينته

١٦٤

على الأحياء سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيبه بما سأل فيعلم السامعون غرضه (قالَ بَلى) آمنت (وَلكِنْ) سألتك (لِيَطْمَئِنَ) يسكن (قَلْبِي) بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بكسر الصاد وضمها أملهن إليك وقطعهن واخلط لحمهن وريشهن (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ) من جبال أرضك (مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَ) إليك (يَأْتِينَكَ سَعْياً) سريعا (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) (٢٦٠) في صنعه فأخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا وفعل بهن ما ذكر وأمسك رؤوسهن عنده ودعاهن فتطايرت الأجزاء إلى بعضها حتى تكاملت ثم أقبلت إلى رؤوسها (مَثَلُ) صفة نفقات (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي

____________________________________

فانتقل لحجة أخرى وهي (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) الآية ، فعند ذلك تشوق للمعاينة لتقوى حجته على قومه إذا سألوه عن المعاينة وقال رب أرني ، الآية.

قوله : (أَرِنِي) أصله أرئيني بوزن أكرمئي حذفت الياء لأن الأمر كالمضارع فصار أرئيني ثم نقلت حركة الهمزة إلى الراء ، وحذفت الهمزة والرؤية هنا بصرية تتعدى إلى مفعول واحد فلما دخلت همزة النقل تعدت إلى مفعول ثان وهو جملة الاستفهام. قوله : (سأله) أي سأل إبراهيم. قوله : (بذلك) أي بقدرته على إحياء الموتى. قوله : (ليجيب) علة لسأل وفاعل الإجابة إبراهيم وهو المسؤول. وقوله : (بما سأله) أي الله ، وقوله : (فيعلم السامعون غرضه) أي لأن سؤاله أولا يوهم عدم إيمانه فترتب على سؤال الله بقوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) كشف إبراهيم عن مراده. بقوله : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قوله : (آمنت) قدره إشارة إلى أن قوله ولكن ليطمئن قلبي مرتب عليه وهناك محذوف آخر تقديره وليس سؤالي لعدم إيمان مني ولكن الخ. قوله : (يسكن) (قَلْبِي) أي من اضطرابه واشتياقه إلى المعاينة ، ولا يقدح ذلك في إيمان إبراهيم ، فإن الإنسان مؤمن برسول الله وبيت الله الحرام ، ولكن قلبه مشتاق ومضطرب لمشاهدة رسول الله وبيته الحرام غاية الاشتياق ، ومع ذلك لا يقدح في إيمانه بما ذكر ، وكسؤال موسى رؤية الله مع كونه في أعلى مراتب الإيمان بالله. قوله : (بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال) إن قلت : إن إيمان الأنبياء حق يقين لا علم يقين ولا عين يقين ، فكيف يطلب إبراهيم الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين مع أن مرتبته فوق ذلك ، أجيب بأن هذا الكلام بالنسبة للذات والصفات لوجدها بجيث لو كشف عنا الحجاب لرأيناها ، وأما إيجاد الله للأشياء فهو أمر اعتباري يطلع الله على ذلك من خصه برحمته فلا يشاهده إلا من رآه بعينه ، وأجيب أيضا بأنه من أهل حق اليقين في الجميع لأن الله يمثل لأحبائه الأمور الاعتبارية التي ستحصل. فتصير كالمشاهدة الحاضرة فلا فرق في حق اليقين بين شهود الذات والصفات والأفعال ، وإنما طلب ذلك لأجل تمام الاستدلال والاحتجاج على قومه وهذا هو الأتم. قوله : (بكسر الصاد وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أملهن إليك) أي (وقطعهن) فهما معنيان لصرهن والمفسر جمع بينهما. قوله : من جبال أرضك) أي من جبال حولك وكانت أربعا وقيل سبعا. قوله : (فأخذ طاووسا الخ) الحكمة في اختيار هذه الطيور الأربعة شبهها بالإنسان فإن في الطاووس الخيلاء والعجب ، وفي النسر شهوة الأكل والشرب ، وفي الغراب الحرص ، وفي الديك شهوة النكاح ، وذلك كله في الإنسان. قوله : (ثم أقبلت إلى رؤوسها) أي بدعائها ثانيا ، فالدعوة الأولى لالتئام أجزائها ، والثانية لاتيانها إليه لأخذ رؤوسها وإنما لم تكن من جنس

١٦٥

طاعته (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) فكذلك نفقاتهم تضاعف لسبعمائة ضعف (وَاللهُ يُضاعِفُ) أكثر من ذلك (لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) فضله (عَلِيمٌ) (٢٦١) بمن يستحق المضاعفة (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا) على المنفق عليه بقولهم مثلا قد أحسنت إليه وجبرت حاله (وَلا أَذىً) له بذكر ذلك إلى من لا يحب وقوفه عليه ونحوه (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) ثواب إنفاقهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٦٢) في

____________________________________

واحد ليظهر التمييز وكانت من الطيور لأن الطير صفته الطيران في العلو ، وهمة إبراهيم إلى جهة العلو فمعجزته مشاكلة لهمته.

قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) مثل مبتدأ مضاف للموصول وينفقون صلته والخبر قوله كمثل حبة ، وقدر المفسر قوله نفقات ليصح التشبيه لأن ذوات المنفقين لا يصح تشبيهها بالحبة. والحاصل أنه لا يصح التشبيه إلا بتقدير ، إما في الأول كما صنع المفسر أو في الثاني أي مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل باذر حبة ، قوله : (طاعته) أي واجبة أو مندوبة فيشمل الجهاد وطلب العلم والحج والتوسعة على العيال وغير ذلك ، وكلما عظمت القربة كانت الحسنات فيها أكثر ، قوله : (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) أي في سبع شعب والأصل والساق واحد وسنابل جمع سنبلة ويقال أيضا : سبل وسبلة وفعل الأول سنبل والثاني سبل وغالبا يوجد ذلك في الذرة والدخن والشعير.

قوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ) (أكثر من ذلك) أي على حسب الأخلاص وطيب المال ويشهد لذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وأعلم أن أقل المضاعفة عشر ثم سبعون ثم سبعمائة ثم إلى غير نهاية ، وظاهر المفسر أن وعد الله الذي لا يتخلف هو المضاعفة بالسبعمائة ، وأما ما زاد فيختص برحمته من يشاء ، والحق أن وعد الله الذي لا يختلف هو المضاعفة بالعشر وما زاد فيخص به من يشاء فقوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) صادق بما فوق العشرة ، قوله : (وَاللهُ واسِعٌ) (فضله) أي فلا يستغرب إعطاؤه الشيء الكثير في نظير شيء قليل لا تخفى عليه خافية ، وهذا كالدليل لما قبله ، قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) ، نزلت هذه الآية في حق عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في غزوة تبوك ، حيث جهز عثمان ألف بعير بأحلاسها وأقتابها ووضع بين يدي رسول الله الف دينار ، فصار رسول الله يقلبها ويقول : «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» «وأتى عبد الرحمن النبي عليه الصلاة والسّلام بأربعة آلاف درهم وأخبره بأنه أبقى لأهله نظيرها ،. فقال له : بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت» فصار بعد ذلك ماله كالتراب. قوله : (مَنًّا) هو تعداد النعم ، وأتى بثم إشارة أن المن يقع بعد الانفاق بمهلة وهو حرام محبط للعمل إلا من الوالد على ولده ، والشيخ على تلميذه والسيد على عبده ، فليس بحرام ، قوله : (وَلا أَذىً) من عطف العام على الخاص ، لأن المن من جملة الأذى ، قوله : (ونحوه) أي كان يعطيه ويسبه ، قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي مدخر عنده والعندية عندية مكانة وشرف لا مكان.

قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي في الآخرة والخوف غم لما يستقبل ، وقوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

١٦٦

الآخرة (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) كلام حسن ورد على السائل جميل (وَمَغْفِرَةٌ) له في إلحاحه (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) بالمن وتعبير له بالسؤال (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقة العباد (حَلِيمٌ) (٢٦٣) بتأخير العقوبة عن المان والمؤذي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) أي أجورها (بِالْمَنِّ وَالْأَذى) إبطالا (كَالَّذِي) أي كابطال نفقة الذي (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) أي مرائيا لهم (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو المنافق (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) حجر أملس (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) مطر شديد (فَتَرَكَهُ صَلْداً) صلبا أملس لا شيء عليه (لا يَقْدِرُونَ) استئناف لبيان مثل المنافق المنفق رئاء الناس وجمع الضمير باعتبار معنى الذي (عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) عملوا أي لا يجدون له ثوابا في الآخرة كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه لإذهاب المطر له (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢٦٤) (وَمَثَلُ) نفقات (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ) طلب (مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي تحقيقا للثواب عليه بخلاف المنافقين الذين لا يرجونه لانكارهم له.

____________________________________

أي فيها والحزن غم لما مضى فقوله : (والآخرة) راجع لهما وأما في الدنيا فلا مانع من حصول ذلك لما في الحديث «اشدكم بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل». قوله : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) الخ ، قول مبتدأ ومعروف صفته ومغفرة معطوف عليه وخير خبره ، وسوغ الابتداء بالنكرة الأولى وصفها ، وبالثانية عطفها على ما له مسوغ. قوله : (كلام حسن) أي من المسؤول كأن يقول له الله يرزقك مثلا ، قوله : (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) أعلم أن أعلى المراتب الأحسان مع الكلام الحسن ، ثم الكلام الحسن من غير إعطاء ، وادناها الاعطاء مع الأذى ، وهل له في هذه الحالة ثواب لقضاء حاجة السائل ، ويعاقب من جهة الأذية أو لا ثواب ولا عقاب ، أو يعاقب فقط ولا ثواب لوجود الأذية ، ويؤيده ما يأتي في قوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِ) الآية ، وعلى ذلك فيشكل الأتيان باسم التفضيل ، وأجيب بأن الخيرية بالنسبة للسائل لا للمسؤول.

قوله : (وَاللهُ غَنِيٌ) أي فلا يحوج عباده الفقراء إلى من الأغنياء وأذاهم ، ويرزقهم من جهة أخرى إذا استد باب يفتح الله عشرة وفي الحقيقة الصدقة نفع صرف لصاحبها (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) وأما قسمة الله للعبد فلا تخطئه ، بل إن لم تكن من هذا فمن غيره ، قوله : (أي أجورها) يحتمل أن المراد مضاعفتها أو ثوابها من أصله ، قوله : (إبطالا) أشار بذلك إلى قوله كالذي صفة لمصدر محذوف ، قوله : (أي كإبطال نفقة الذي) الكلام على حذف مضاف أي كإبطال أجر نفقة الذي الخ ، قوله : (أي مرائيا لهم) أشار بذلك إلى أن رئاه مصدر بمعنى اسم الفاعل حال من فاعل ينفق ، والمراءاة مفاعلة من الجانبين. قوله : (وهو المنافق) أي وهو قسمان : نفاق عملي ونفاق ديني ، فالأول أن يقصد بصدقاته وصلاته وصومه غير وجه الله لكنه مسلم ، والثاني أن يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، فمعنى قوله : (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي أصلا بأن يكون كافرا أو إيمانا كاملا بأن يكون مسلما عاصيا.

قوله : (فَمَثَلُهُ) أي في الانفاق ، قوله : (حجر أملس) أي وهو كبير ، قوله : (مطر شديد) وأوله رش ثم طش ثم طل ثم نضح ثم هطل ثم وابل ، قوله : (وجمع الضمير باعتبار معنى الذي) أي وأفرد فيما قبله نظر اللفظة قوله : (ابْتِغاءَ) مفعول لأجله. قوله : (أي تحقيقا للثواب) أي جازما ومصمما أن الله

١٦٧

ومن ابتدائية (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) بستان (بِرَبْوَةٍ) بضم الراء وفتحها مكان مرتفع مستو (أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ) أعطت (أُكُلَها) بضم الكاف وسكونها ثمرها (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما يثمر غيرها (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها المعنى تثمر وتزكو كثر المطر أم قل فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أم قلت (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٦٥) فيجازيكم به (أَيَوَدُّ) أيحب (أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) بستان (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها) ثمر (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ) قد (أَصابَهُ الْكِبَرُ) فضعف من الكبر الكسب (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) أولاد صغار لا يقدرون عليه (فَأَصابَها إِعْصارٌ) ريح شديدة (فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) ففقدها أحوج ما كان إليها وبقي هو وأولاده عجزة متحيرين لا حيلة لهم وهذا تمثيل لنفقة المرائي والمان في ذهابها وعدم نفعها أحوج ما يكون إليها في الآخرة والاستفهام بمعنى النفي وعن ابن

____________________________________

يثيبه. قوله : (مكان مرتفع) أي طيب حسن شجره تام ثمره ، وقوله : (مستو) أي لا مسنم لعدم بقاء الماء عليه ، وقوله : (بضم الراء وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، قوله : (لارتفاعها) أي واستوائها ، قوله : (كثرت أم قلت) أي فحيث حسن باطنه بالإخلاص فقليل عمله ككثيره في رضا الله عنه ، قال العارف :

وبعد الفنا في الله كن كيف ما تشا

فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر

قوله : (فيجازيكم به) في ذلك وعد للمخلصين برضا الله والفوز الأكبر ووعيد للمرائين بغضب الله وعدم الرضا عليهم ، قوله : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) شروع في ذكر مثال آخر للمرائي والمان والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ومصبه قوله فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. وقوله : (أيحب) تفسير ليود فالمودة هي المحبة لكن مع تمني اللقاء ، قوله : (جَنَّةٌ) قيل إن المراد بالجنة الأرض ذات الشجر ، وقيل الشجر نفسه ، قوله : (مِنْ نَخِيلٍ) اسم جنس جمعي واحدة نخلة ولا يكون إلا لشجر البلح ، والأعناب جمع عنبة اسم للكرم المعلوم ، وخصمهما لعظم منافعهما ومزيد فضلهما على سائر الأشجار ، وإلا فالمراد في الآية جميع الثمار بدليل باقي الآية.

قوله : (لَهُ فِيها) (ثمر) (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أشار بذلك إلى أن من كل الثمرات جر ومجرور متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف على حد منا ظعن ومنا أقام ، أي منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، وكقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي ما منا أحد ، وقوله له متعلق بمحذوف خبر لثمر المقدر وقوله فيها متعلق بمحذوف حال من ضمير الخبر. قوله : (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) الجملة حالية و (قد) مقدرة كما ذكره المفسر ، لأن الجملة الماضوية إذا وقعت حالا فإن قد تصحبها إما لفظا أو تقديرا. قوله : (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) جملة حالية أيضا.

قوله : (فَأَصابَها إِعْصارٌ) هذا هو مصب الاستفهام لأن هذا هو موضع المصيبة. قوله : (ريح شديدة) هي المسماة بالزوبعة لأنها تعصر الشجر كما يعصر الإنسان الثوب وتقلعه من أصله. قوله : (فَاحْتَرَقَتْ) معطوف على أصابها. قوله : (أحوج ما كان إليها) حال من فاعل فقدها ، أي فقدها هو حال كونه محتاجا إليها. قوله : (عجزة) جمع عاجز ككملة وكامل. قوله : (وهذا تمثيل لنفقة المرائي والمان) أي لأنهما خصلتان من خصال المنافقين ، وهو كافر بهما إن استحل ذلك. قوله : (والاستفهام بمعنى النفي)

١٦٨

عباس هو لرجل عمل بالطاعات ثم بعث له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله (كَذلِكَ) كما بين ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦) فتعتبرون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) أي زكوا (مِنْ طَيِّباتِ) جياد (ما كَسَبْتُمْ) من المال «ومن» طيبات ما (أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) من الحبوب والثمار (وَلا تَيَمَّمُوا) تقصدوا (الْخَبِيثَ) الرديء (مِنْهُ) أي من المذكور (تُنْفِقُونَ) ه في الزكاة حال من ضمير تيمموا (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي الخبيث لو أعطيتموه في حقوقكم (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) بالتساهل وغض البصر فكيف تؤدون منه حق الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن نفقاتكم (حَمِيدٌ) (٢٦٧) محمود على كل حال (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) يخوفكم

____________________________________

أي فهو إنكاري يعنى لا يحب مسلم ذلك. قوله : (وعن ابن عباس) أي فهو تفسير آخر لمعنى الآية. قوله : (ما ذكر) أي من نفقة المخلص. بقوله : (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) الآية ، ونفقة المرائي والمان. بقوله : (فمثله كمثل صفوان) الآية. قوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي فلم يكلفكم إلا بعد البيان.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) هذا نتيجة ما قبله ، فبين أولا الأخلاص في الأنفاق ، وبين هنا الأخلاص في الشيء المنفق. قوله : (زكوا) أي أدوا الزكاة وما قاربها. قوله : (من المال) أي وهو النقد والمواشي وعروض التجارة. قوله : (ومن) (طيبات) ما (أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ظاهر الآية أن جميع ما خرج من الأرض يجب فيه الزكاة ، ولكن تفصيل ذلك موكول للسنة ، فأوجب الشافعي الزكاة فيما كان مقتاتا للآدمي حالة الاختيار إذا بلغ ذلك خمسة أو سق ففيه إن سقي بآلة نصف العشر وبغيرها العشر ، وأبقاها أبو حنيفة على ظاهرها فأوجب الزكاة في جميع ما يخرج من الأرض من مأكولات الآدمي كالفواكه والخضراوات وأوجب في ذلك العشر قليلا أو كثيرا ، وعند مالك تجب الزكاة في عشرين نوعا : القمح والشعير والسلث والدخن والذرة والأرز والعلس ، والقطاني السبع وهي : الفول والحمص والترمس والبسلة والجليان واللوبيا والعدس ، وذوات الزيوت الأربع وهي : الزيتون والقرطم وحب الفجل الأحمر والسمسم والتمر والزبيب ، فيخرج من ذلك نصف العشر إن سقي بآلة ، والعشر كاملا إن سقي بغيرها إن بلغ حب ذلك أو زيت ما له زيت خمسة أو سق. قوله : (أي من المذكور) أي الخبيث. فقوله : (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) متعلق بالخبيث.

قوله : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) هذا احتجاج على من أدى الزكاة من الرديء وامتنع من إعطائها من الطيب ، وقد نزلت في الأنصار عن البراء بن عازب قال نزلت فينا معشر الأنصار ، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر أو التمر فيأكل ، وكان فينا من لا يرغب في الخير ، فيأتي بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد أنكسر فيعلقه ، فأنزل الله (ولا تيمموا) الآية. قوله : (بالتساهل) أشار بذلك إلى قوله : (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) كناية عن التساهل ، لأن من تساهل في شيء فقد غض بصره عنه. قوله : (عن نفقاتكم) أي فأمركم بها لانتفاعكم بها لا لعجزه عن نفقة الفقراء.

قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ) أي يخبركم بأسباب الفقر ويجعله بين أعينكم. قوله : (البخل) قال

١٦٩

به إن تصدقتم فتمسكوا (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) البخل ومنع الزكاة (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) على الإنفاق (مَغْفِرَةً مِنْهُ) لذنوبكم (وَفَضْلاً) رزقا خلفا منه (وَاللهُ واسِعٌ) فضله (عَلِيمٌ) (٢٦٨) بالمنفق (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) العلم النافع المؤدي إلى العمل (مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) لمصيره إلى السعادة الأبدية (وَما يَذَّكَّرُ) فيه إدغام التاء في الأصل في الذال يتعظ (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩) أصحاب العقول (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) أديتم من زكاة أو صدقة (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) فوفيتم به (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) فيجازيكم عليه (وَما لِلظَّالِمِينَ) بمنع الزكاة أو النذر أو بوضع الانفاق في غير محله من معاصي الله (مِنْ أَنْصارٍ) (٢٧٠) مانعين لهم من عذابه (إِنْ تُبْدُوا) تظهروا (الصَّدَقاتِ) أي النوافل (فَنِعِمَّا هِيَ) أي نعم شيئا إبداؤها (وَإِنْ تُخْفُوها) تسروها

____________________________________

بعضهم الفحشاء في القرآن جميعه معناه الزنا إلا هذه فمعناها البخل ، والمعنى يغويكم ويخبركم بأمور يتسبب عنها البخل فيترتب على ذلك مطاوعتكم له كمطاوعة المأمور للآمر ، وسمي إخبار الشيطان بالفقر وعد مع إنه وعيد لأنه شر مشاكلة لقوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً). قوله : (خلفا منه) ورد أن الله بعث ملكين أحدهما ينادي : اللهم أعط منفقا خلفا والآخر ينادي اللهم أعط ممسكا تلفا ، وفي الحديث أيضا «إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة به ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء» أخرجه الترمذي. قوله : (بالمنفق) يقرأ بصيغة اسم الفاعل أي بنية الشخص المنفق ، وبصيغة اسم المفعول أي بالشيء المنفق. قوله : (العلم النافع الخ) هذا هو أصح الأقوال وأولاها بالصواب وفي تفسيرها أقوال كثيرة : قيل النبوة ، وقيل المعرفة بإحكام القرآن ، وقيل الفهم فيه ، وقيل الإصابة في القول والفعل ، وقيل الفقه في الدين مطلقا ، وقيل بإحكام القرآن ، وقيل الفهم فيه ، وقيل الإصابة في القول والفعل ، وقيل الفقه في الدين مطلقا ، وقيل خشية الله ، وقيل القرآن لما ورد «إذا أراد الله إنزال العذاب بقوم سمع تعليم صبيانهم الحكمة رفعه عنهم» ويشهد لما قاله المفسر حديث «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها للناس» قوله : (المؤدي إلى العمل) أي وأما شقشقة اللسان التي لم تورث القلب خشية فلا تسمى حكمة بل يعذب الإنسان على ذلك ويبعث جاهلا ، قال الإمام الشافعي :

إذا لم يزيد علم الفتى قلبه هدى

وسيرته عدلا وأخلاقه حسنا

فبشره أن الله أولاه نقمة

ينكل بها من قبل من عبد الوثنا

نسأل الله السلامة. قوله : (فيه إدغام التاء في الأصل الخ) أي فإن أصله يتذكر قلبت التاء دالا ثم أعجمت وأدغمت في الذال. قوله : (أصحاب العقول) أي الكاملة السالمة من شوائب النقص. قوله : (فوفيتم به) أشار بذلك إلى أن في الآية حذف العاطف والمعطوف ، لأن المجازاة لا تترتب إلا على الوفاء بالنذر لا على نفس النذر. قوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) دليل الجواب ، وقدر المفسر الجواب. بقوله : (فيجازيكم عليه). قوله : (مِنْ أَنْصارٍ) من صلة ، والأنصار الأعوان.

قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) لما تقدم فضل الصدقة كأن قائلا يقول هل هذا الفضل مخصوص بمن أسرها أو بمن أعلنها فأجاب بذلك وحذف من هنا شيئا أثبت نظيره في الآخر ، تقديره إن تبدو الصدقات

١٧٠

(وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من ابدائها وإيتائها الأغنياء أما صدقة الفرض فالأفضل إظهارها ليقتدى به ولئلايتهم ، وإيتاؤها الفقراء متعين (وَيُكَفِّرُ) بالياء وبالنون مجزوما بالعطف على محل فهو مرفوعا على الاستئناف (عَنْكُمْ مِنْ) بعض (سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٧١) عالم بباطنه كظاهره لا يخفى عليه شيء منه ، ولما منع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التصدق على المشركين ليسلموا نزل (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي الناس إلى الدخول في الإسلام إنما عليك البلاغ (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته إلى الدخول فيه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ) لأن ثوابه لها (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي ثوابه لا غيره من أعراض الدنيا خبر بمعنى النهي (وَما تُنْفِقُوا مِنْ

____________________________________

وتعطوها الأغنياء فنعما هي. قوله : (أي النوافل) أي فالمراد بالصدقات صدقات التطوع لأنها هي التي يصح اعطاؤها للأغنياء. قوله : (فَنِعِمَّا هِيَ) بكسر النون وفتحها قراءتان سبعيتان ، والعين مكسورة على كل حال ، والقياس فتح النون لأنه على وزن علم ، وإنما كسرت النون في القراءة الأخرى اتباعا لكسرة العين ، ونعم فعل ماض وما مميز وقيل فاعل وهي هو المخصوص بالمدح. قوله : (شيئا) تفسير لما ، وقوله : (ابداؤها) بيان لكون المخصوص على حذف مضاف قوله : (فالأفضل إظهارها) أي حيث كان مشهورا بالمال ولم يخش على نفسه تسلط الظلمة على مال. قوله : (وايتاؤها الفقراء متعين) التعيين بالنسبة للأغنياء وإلا فالأصناف التي تدفع لهم ثمانية مذكورة في سورة براءة. قوله : (بالياء) أي مع الرفع لا غير ، وقوله : (والنون) أي مع الجزم والرفع فالقراءات ثلاث ، فقول المفسر مجزوما ومرفوعا راجع لقوله والنون لا غير. قوله : (على محل فهو) أي مع خبره ومحله جزم لوقوعه جواب الشرط. قوله : (بعض) (سَيِّئاتِكُمْ) أشار بذلك إلى أن (مِنْ) للتبعيض لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات ، بخلاف التوبة فتكفر جميعها قوله : (لا يخفى عليه شيء منه) أي من العمل سرا أو جهرا ، فاسرار العمل لا يدل على الاخلاص ، واجهاره لا يدل على الرياء قوله : (ولما منع) أشار بذلك إلى سبب نزول الآية. قوله : (من التصدق على المشركين) أي الكفار الفقراء يهودا أو غيرهم. قوله : (ليسوا) أي ليضطروا فربما يترتب على ذلك إسلامهم.

قوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي لم يكلفك يا محمد ربك يخلق الهدى فيهم ، بل كلفك بتبليغ شرعه ، ويسمى هدى أيضا ، قال تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) بمعنى مبلغ ودال لهم على طريق الحق ، فتحصل أن الهدى يطلق بمعنى الدلالة وهو مكلف به الأنبياء والعلماء ، وبمعنى إيصال الخير للقلب ، وهو لم يكلف به أحد ، قال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ومن هنا قول العارف : من نظر للخلق بعين الحقيقة عذرهم ، ومن نظر لهم بعين الشريعة مقتهم ، فعذرهم بالنظر لخلق الله الضلال والهدى في قلوبهم ، فالخالق للضلال والهدى والأفعال جميعها هو الله وحده ، فمن نظر لذلك لم يستقبح فعل أحد لأنه فعل الله في الحقيقة قال العارف :

إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا

رأيت جميع الكائنات ملاحا

وإن لم تر إلا مظاهر صنعه

حجبت فصيرت الحسان قباحا

ومقتهم بالنظر للتكليف الظاهري فالعبد مجبور في قالب مختار قوله : (هدايته) قدره إشارة إلى مفعول يشاء قوله : (لأن ثوابه لها) أي فلا يضيع الثواب سواء تصدق على مؤمن أو مشرك. قوله : (لا غيره من أعراض الدنيا) أي فلا تجعلوا نفقاتكم عليه إلا لوجه الله لا لشيء آخر لأن من كان مقصده وجه الله فلا يخيب أبدا

١٧١

خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢٧٢) تنقصون منه شيئا والجملتان تأكيد للأولى (لِلْفُقَراءِ) خبر مبتدأ محذوف أي الصدقات (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي حبسوا أنفسهم على الجهاد ، نزلت في أهل الصفة وهم أربعمائة من المهاجرين أرصدوا لتعلم القرآن والخروج مع السرايا (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً) سفرا (فِي الْأَرْضِ) للتجارة والمعاش لشغلهم عنه بالجهاد (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي لتعففهم عن السؤال وتركه (تَعْرِفُهُمْ) يا مخاطبا (بِسِيماهُمْ) علامتهم من التواضع وأثر الجهد (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ) شيئا فيلحفون (إِلْحافاً) أي لا سؤال لهم أصلا فلا يقع منهم إلحاف وهو الإلحاح (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢٧٣) فمجاز عليه (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤) (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) أي يأخذونه وهو الزيادة

____________________________________

كانت النفقة على مسلم أو كافر ، بل ورد أن الله غفر لإنسان بسبب سقيه كلبا يلهث عطشا. قوله : (خبر بمعنى النهي) راجع للجملة الثانية أي فهي خبرية لفظا إنشائية معنى ، والمعنى لا تجعلوا إنفاقكم إلا خالصا لوجه الله لا لغرض آخر لا دنيوي ولا أخروي ، وهذا هو المقام الأعلى ، أو لا تقصدوا إلا وجه الله بمعنى ثوابه ، وهذا أدنى منه ، وارتكبه المفسر وإن كانت الآية محتملة لهما بالنظر لأخلاق العامة ، والمعنى في هذه الجملة أن تكون خبرية لفظا ومعنى وتكون قيدا فيما قبلها فالمعنى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) إن قصدتم بها وجه الله. قوله : (مِنْ خَيْرٍ) أي قليلا أو كثيرا. قوله : (تنقصون منه شيئا) أي سواء كان قليلا أو كثيرا ولو خردلة. قوله : (للأولى) أي وهي. قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) قوله : (أي الصدقات) أي المتقدم ذكرها تصرف وتعطى للفقراء الذين أحصروا الخ. قوله : (في أهل الصفة) أي وهي محل في مؤخر المسجد النبوي ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالمراد كل من كان متصفا بأوصافهم فالصدقات تعطى له. قوله : (وهم أربعمائة) أي ورئيسهم عبد الرحمن بن صخر المكنى بأبي هريرة. قوله : (من المهاجرين) أي الذين هاجروا مع رسول الله من مكة وما حولها وتركوا أموالهم وديارهم ، ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر ، وكانوا غير متزوجين ، وكانوا يستغرقون أوقاتهم في الاشتغال بالقرآن والسنة والعبادة ليلا والجهاد نهارا ، وكانوا يقفون أول صف في الصلاة والجهاد. قوله : (أرصدوا لتعلم القرآن) أي والصلاة خلف النبي وقيام الليل. قوله : (بالجهاد) أي في طاعة الله ، إما بالغزو أو بتعلمهم القرآن ، وغير ذلك من أنواع الطاعات. قوله : (وأثر الجهد) أي من عظيم الخدمة مع الجوع. قوله : (شيئا) قدره إشارة إلى مفعول يسألون ، قوله : (فيحلفون) قدره إشارة إلى أن إلحافا مفعول لمحذوف. قوله : (أي لا سؤال لهم أصلا) أي فالنفي منصب على القيد وهو الالحاف والمقيد وهو أصل السؤال ، فالالحاف منفي قطعا لانتفاء أصل السؤال.

قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) هذه الجملة تأكيد للجملة المتقدمة. قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) قيل نزلت في أبي بكر حيث تصدق بأربعين ألف دينار ، عشرة آلاف بالليل ومثلها بالنهار ، ومثلها سرا ومثلها علانية ، وقيل في علي كان معه أربعة دراهم لم يملك غيرها ، فتصدق بدرهم ليلا. وبآخر نهارا وبآخر سرا وبآخر علانية ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالمراد بيان أجر

١٧٢

في المعاملة بالنقود والمطعومات في القدر أو الأجل (لا يَقُومُونَ) من قبورهم (إِلَّا) قياما (كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ) يصرعه (الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) الجنون بهم متعلق بيقومون (ذلِكَ) الذي نزل بهم (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) في الجواز وهذا عن عكس التشبيه مبالغة فقال تعالى ردا عليهم (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ) بلغه (مَوْعِظَةٌ) وعظ (مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) عن أكله (فَلَهُ ما سَلَفَ) قبل النهي أي لا يسترد منه (وَأَمْرُهُ) في العفو عنه (إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ) إلى أكله مشبها له بالبيع في الحل (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥) (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) ينقصه ويذهب بركته (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) يزيدها وينميها ويضاعف ثوابها (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ) بتحليل الربا (أَثِيمٍ) (٢٧٦) فاجر بأكله أي يعاقبه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٧) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا) اتركوا (ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ

____________________________________

المنفق على هذا الوجه ، فلا خصوصية لأبي بكر بذلك ولا لعلي. قوله : (أي يأخذونه) أشار بذلك إلى أن المراد ليس خصوص الأكل بل التناول مطلقا. قوله : (القدر) مراده به ربا الفضل أي الزيادة وهو حرام في متحد الجنس فقط ، وقوله : (والأجل) مراده به ربا النساء وهو حرام وإن تعدد الجنس ، قال الأجهوري :

ربا النسا في النقد حرم مثله

طعام وإن جنساهما قد تعددا

وخص ربا فضل بنقد ومثله

طعام ربا إن جنس كل توحدا

واعلم أن الربا محرم كتابا وسنة وإجماعا فمن استحله فقد كفر ، وقد ورد في ذم آكل الربا من الأحاديث ما لا يحصى ، فمنها «لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده كلهم في اللعنة سواء» ، ومنها «أنه رأى ليلة الأسراء رجلا يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة فقال ما هذا يا جبريل قال هذا مثل آكل الربا». قوله : (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) أي وهذه علامة يعرفون بها يوم القيامة. قوله : (بسبب أنهم) (قالُوا) الخ أي فقد ضلوا بالربا قولا وفعلا واعتقادا. قوله : (وهذا عن عكس التشبيه) أي فقد جعلوا المشبه به مشبها ، فجعلوا الربا أصلا في الحل والبيع مقيسا عليه. قوله : (له ما سلف) أي سبق قبل النهي عنه قوله : (في العفو عنه) أي عن آكله ، والمعنى فأمره في الثواب لامتثال أمر الله موكول له ، يعني أن من سمع النهي من رسول الله عنه وتاب فقد فاز بما أكله قبل النهي وثوابه موكول لله ، فهذه الآية محمولة على الصحابة الذين سبق منهم الربا قبل تحريمه. قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لاستحلالهم ما حرم الله. قوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) أي المال كله. قوله : (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي لما في الحديث «إذا تصدق العبد بصدقة فإن الله يربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون في ميزانه كأحد». قوله : (أي يعاقبه) تفسير لعدم محبة الله له. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بما أنزل الله ومن جملة ذلك تحريم الربا. وقوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي بتركهم الربا واتباعهم ما أحل الله. قوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) نص عليهما وإن كانا داخلين في قوله وعملوا الصالحات لعظم شأنهما. قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي من مكروه يوم القيامة. وقوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي في يوم القيامة على ما فاتهم من الدنيا. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه. قوله : (وَذَرُوا) أمر من وذر يذر وأصله أو

١٧٣

مُؤْمِنِينَ) (٢٧٨) صادقين في إيمانكم فإن من شأن المؤمن امتثال أمر الله تعالى. نزلت لما طالب بعض الصحابة بعد النهي بربا كان له قبل (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به (فَأْذَنُوا) أعلموا (بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) لكم. فيه تهديد شديد لهم ، ولما نزلت قالوا لا يدي لنا بحربه (وَإِنْ تُبْتُمْ) رجعتم عنه (فَلَكُمْ رُؤُسُ) أصول (أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) بزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) (٢٧٩) بنقص (وَإِنْ كانَ) وقع غريم (ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ) له أي عليكم تأخيره (إِلى مَيْسَرَةٍ) بفتح السين وضمها أي وقت يسر (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بالتشديد على إدغام التاء في الأصل في الصاد وبالتخفيف على حذفها أي تتصدقوا على المعسر بالابراء (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٨٠) أنه خير فافعلوه في الحديث :

____________________________________

ذروا حذفت الواو حملا على حذفها في المضارع. قوله : (لما طالب بعض الصحابة) قيل هو عثمان بن عفان والعباس كانا أسلما رجلا في قدر من التمر ، فلما حل الأجل طالباه فقال لهما إن اعطيتكما الحق بتمامه لم يبق شيء للعيال ، وإنما أعطيكما الآن نصفه والنصف الآخر أخواني به وأزيدكما مثله ، فتراضيا معه على ذلك قبل التحريم ثم حل الأجل فطالباه بذلك فنزلت الآية. إن قلت : كيف يطالبانه بالربا مع علمهما بالنهي السابق قبل التحريم؟ أجيب : بأنهما تأولا ذلك حيث ظنا أنه لا حرمة إلا على من جدد عقدا بعد التحريم. قوله : (فَأْذَنُوا) بالقصر والمد قراءتان سبعيتان ، فعلى القصر معناها أيقنوا وعلى المد معناها أعلموا غيركم بذلك ، وكلام المفسر يحتملهما. قوله : (بِحَرْبٍ) أي حرب الكفار إن استحله أو البغاة إن لم يستحله. قوله : (لا يدي لنا) هكذا بالتثنية وكان مقتضى الفصيح لا يدين إلا أن يقال حذفت النون تخفيفا ، أو يلاحظ إضافته للضمير واللام مقحمة ، وفي نسخة لا بد لنا بالأفراد وهي ظاهرة ، ومعناهما لا طاقة ولا قدرة لنا على محاربته ، وهذا كناية عن كونهم امتثلوا ما أمروا به لورود هذا الوعيد العظيم فيه ، ومن ذلك قول عمر وكان قد صعد المنير : أيها الناس إن آية الربا آخر ما نزل على نبيكم ولو عاش لبين لكم وجوها كثيرة لا تعلمونها فاتقوا الربا والريبة. قوله : (لا تَظْلِمُونَ) (بزيادة) ومن ذلك مهاداة المدين لرب الدين فهو حرام وربا ان لم تكن عادته الهدية قبل شغل الذمة. قوله : (وقع غريم) أشار بذلك إلى أن كان تامة وذو فاعلها وهو الأقرب ، ويصح كونها ناقصة وذو اسمها وخبرها محذوف تقديره غريما لكم. قوله : (ذُو عُسْرَةٍ) أي حيث كان ثابتا عسره بالبينة أو بإقرار صاحب الدين ، وأما من لم يكن عسره ثابتا بأن كان ظاهر الملاء فإنه يحبس حتى يؤدي أو يثبت عسره أو يموت. قوله : (عليكم تأخيره) أي وجوبا وأشار بذلك إلى أن نظرة مبتدأ خبره محذوف. قوله : (في الأصل في الصاد) أي فأصله تتصدقوا قلبت الثانية صادا ثم أدغمت في الصاد. قوله : (على حذفها) أي التاء ، قال ابن مالك :

وما بتاءين ابتدى قد يقتصر

فيه على تا كتبين العبر

قوله : (بالإبراء) أي وهو مندوب وهو أفضل من الواجب الذي هو الأنظار لأنه انظار وزيادة ، وله نظائر نظمها المفسر بقوله :

الفرض أفضل ما أتى متعبد

حتى ولو قد جاء منه بأكثر

إلا التطهر قبل وقت وابتدا

بالسلام كذاك أبرأ المعسر

١٧٤

«من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» رواه مسلم (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ) بالبناء للمفعول تردون وللفاعل تصيرون (فِيهِ إِلَى اللهِ) هو يوم القيامة (ثُمَّ تُوَفَّى) فيه (كُلُّ نَفْسٍ) جزاء (ما كَسَبَتْ) عملت من خير وشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١) بنقص حسنة أو زيادة سيئة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ) تعاملتم (بِدَيْنٍ) كسلم وقرض (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) معلوم (فَاكْتُبُوهُ) استيثاقا ودفعا للنزاع (وَلْيَكْتُبْ) كتاب الدين (بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) بالحق في كتابته لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص (وَلا يَأْبَ) يمتنع (كاتِبٌ) من (أَنْ يَكْتُبَ) إذا دعي إليها (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) أي فضله بالكتابة فلا يبخل بها. والكاف متعلقة بيأب (فَلْيَكْتُبْ)

____________________________________

قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً) هذه الآية آخر القرآن نزولا كما قال ابن عباس ، وأمر جبريل رسول الله بوضعها على رأس مائتين وثمانين آية ، وتقدم لنا أن البقرة مائتان وست وثمانون آية ، فيكون الباقي بعد خمس آيات أولها آية الدين ، وثانيها وإن كنتم على سفر إلى قوله عليم ، ثالثها لله ما في السموات وما في الأرض إلى قدير ، رابعها آمن الرسول إلى المصير ، خامسها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى آخرها ، ونزلت قبل وفاة رسول الله بثلاث ساعات ، وقيل بسبعة أيام ، وقيل بأحد وعشرين ، وقيل بأحد وثمانين ، قوله : (جزاء) (ما كَسَبَتْ) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) هذه الآية من هنا إلى عليم أطول آي القرآن ، وقد اشتملت على بيان إرشاد العباد لمصالح دنياهم ، وذلك لأن الدنيا مزرعة الآخرة والدين المعاملة ، فحينئذ لا يتم إصلاح الآخرة إلا باصلاح الدنيا ، فبين هنا ما به إصلاح الدنيا. قوله : (تعاملتم) فسر المداينة بالمعاملة التي هي مفاعلة من الجانبين ، أي سواء كنت آخذا أو مأخوذا منك. قوله : (بِدَيْنٍ) حكمة التصريح به وإن علم من تداينتم ليعود الضمير في قوله فاكتبوه عليه صراحة ، وأيضا لدفع توهم أن المراد بالمداينة المجازاة كقوله كما يدين الفتى يدان أي كما يجازي يجازي ، وأيضا صرح به إشارة إلى عموم الدين قليلا أو كثيرا جليلا أو حقيرا ، فالمعنى لا تستخفون به. قوله : (كسلم) أي مسلم فيه كما إذا دفع عشرة دراهم مثلا ليأتي له بقنطار من سمن عند أجل معلوم بينهما. وقوله : (وقرض) المراد به السلف.

قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وأما الحال فلا يحتاج لكتابة ، لأنه ليس من المهمات ولمزيد المشقة قوله : (معلوم) أي فالجهل فيه مفسد للعقد إن كان مسلما ، وأما السلف فيجوز فيه التأجيل والحلول فإن وقع على الحلول فلا بد عند مالك من مضي زمن يمكن انتفاعه به عادة ، وإن وقع على التأجيل فيلزم المقرض الصبر إلى الأجل عند مالك ، وعند الشافعي لا يلزمه الصبر إليه بل له أن يطلبه قبله. قوله : (استيثاقا) أشار بذلك إلى أن الأمر في الآية للإرشاد لا للوجوب ، كالأمر بالصلاة والصوم بحيث يعاقب على تركه. قوله : (كتاب الدين) أشار بذلك إلى أن مفعول يكتب محذوف. قوله : (بِالْعَدْلِ) أي ولا يكون إلا فقيها عدلا ، ويشترط أن يكتب كلاما معروفا لا موهما

قوله : (وَلا يَأْبَ) لا ناهية والفعل مجزوم بحذف الألف والفتحة دليل عليها وكاتب فاعل يأب ، وقوله : (من) (أَنْ يَكْتُبَ) قدر من إشارة إلى أن الجار والمجرور محذوف وهو مطرد مع أن وإن عند أمن اللبس فهو في محل نصب مفعول ليأب. قوله : (والكاف متعلقة بيأب) أي تعليلية وما مصدرية وعبارة

١٧٥

تأكيد (وَلْيُمْلِلِ) يمل الكاتب (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) الدين لأنه المشهود عليه فيقر ليعلم ما عليه (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في إملائه (وَلا يَبْخَسْ) ينقص (مِنْهُ) أي الحق (شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) مبذرا (أَوْ ضَعِيفاً) عن الإملاء لصغر أو كبر (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) لخرس أو جهل باللغة أو نحو ذلك (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) متولي أمره من والد ووصي وقيم ومترجم (بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا) أشهدوا على الدين (شَهِيدَيْنِ) شاهدين (مِنْ رِجالِكُمْ) أي بالغي المسلمين الأحرار (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي الشهيدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) يشهدون (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) لدينه وعدالته وتعدد النساء لأجل (أَنْ تَضِلَ) تنسى (إِحْداهُما) الشهادة لنقص عقلهن وضبطهن (فَتُذَكِّرَ) بالتخفيف والتشديد (إِحْداهُما) الذاكرة (الْأُخْرى) الناسية وجملة

____________________________________

غيره والكاف متعلقة بلا يأب وهي الأوضح ، لأن من لم يعرف الوضع ولا الأحكام لا يتعلق به النهي ، والمعنى لا يمتنع كاتب من الكتابة من أجل تعليم الله له تلك الكتابة. قوله : (تأكيد) أي زيادة في الإيضاح. قوله : (الكاتب) مفعول أول ليملل ومفعوله الثاني قوله الدين ، قوله : (يمل) أشار بذلك إلى أن الأملاء والأملال لغتان يقال أمليته وأمللته بمعنى ألقيت عليه ذلك شيئا فشيئا ، ومن ذلك سميت الملة ملة لا ملائها وإلقائها على رسول الله شيئا فشيئا والقراءة بالفك هنا ، ويصح في غير القرآن الادغام لقول ابن مالك : وفي جزم وشبه الجزم تخيير قفي. قوله : (لأنه المشهود عليه) أي فلا يكتب الكاتب إلا بحضرتهما لقطع النزاع بينهما.

قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي فلا يكتب كلاما موهما للزيادة أو النقص ، قوله : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) تفسير للتقوى وذلك كأن يكتب ألفا ولم يبين كونه فضة أو محبوبا أو ريالا أو غير ذلك أو عشرين محبوبا مثلا ، ولم يبين كونها معاملة أو ذهبا أو غير ذلك. قوله : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) أي أو الذي له الحق ، قوله : (مبذرا) أي في أمور دنياه عند مالك أو في أمور دنياه ودينه عند الشافعي ، قوله : (أو كبر) أي مفرط بحيث لا يدري شيئا أو كان من عليه الحق أنثى يخشى منها الفتنة فتوكل محرمها. قوله : (ومترجم) أي إن كان لا يعرف اللغة العربية مثلا ، قوله : (بِالْعَدْلِ) متعلق بقوله فليملل ، قوله : (أشهدوا على الدين) أشار بذلك إلى السين والتاء لتأكيد الطلب. قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق بمحذوف صفة لشهيدين. قوله : (أي بالغي المسلمين الأحرار) أي العقلاء العدول ، فشهادة الصبيان لا تقبل في الأموال ولا فيما آل إليها ، وعند مالك تجوز شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح ، وكذا لا تقبل شهادة العبيد ولا الكفار ولا المجانين ولا غير العدول ، ولكن إذا لم يوجد العدول فليستكثر من الشهود ، قوله : (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي في الأموال وما آل إليها ، فإذا لم يوجد الرجل كفى اليمين معهما كما يكفي اليمين معه وحده ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأما أبو حنيفة فلا يكتفي باليمين مع الشاهد.

قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) متعلق باستشهدوا فيؤخذ منه شرط العدالة في الجميع ، وقد صرح بالعدالة في مواضع أخر ، قوله : (وعدالته) العدل هو من لم يفعل كبيرة ولا صغيرة خسة كتطفيف حبة ، ولا ما يخل بالمروءة كالأكل في الأسواق. قوله : (وتعدد النساء الخ) أشار بذلك إلى قوله إن قوله أن تضل متعلق بمحذوف جواب عن سؤال مقدر تقديره لم اشترط تعدد النساء مع أنهن شقائق الرجال ، أجيب بأنه لتذكر إحداهما الأخرى ، وإنما احتيج للتذكار لأن شأنهن النسيان لنقص عقلهن وعدم ضبطهن. قوله : (فتذكر)

١٧٦

الأذكار محل العلة أي لتذكر إن ضلت ودخلت على الضلال لأنه سببه وفي قراءة بكسر إن شرطية ورفع تذكر استئناف جوابه (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما) زائدة (دُعُوا) إلى تحمل الشهادة وأدائها (وَلا تَسْئَمُوا) تملوا من (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي ما شهدتم عليه من الحق لكثرة وقوع ذلك (صَغِيراً) كان (أَوْ كَبِيراً) قليلا أو كثيرا (إِلى أَجَلِهِ) وقت حلوله حال من الهاء في تكتبوه (ذلِكُمْ) أي الكتب (أَقْسَطُ) أعدل (عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أعون على إقامتها لأنه يذكرها (وَأَدْنى) أقرب إلى (أَلَّا تَرْتابُوا) تشكوا في قدر الحق والأجل (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) تقع (تِجارَةً حاضِرَةً) وفي قراءة بالنصب فتكون ناقصة واسمها ضمير التجارة (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) أي تقبضونها ولا أجل

____________________________________

معطوف على تضل عطف مسبب على سبب أو معلول على علة ، لأن التذكار علة للتعداد ، والاضلال علة للتذكار فهو علة للعلة ، قوله : (ورفع تذكر) أي بالتشديد لا غير ، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية فعلى هذه القراءة تضل فعل الشرط وهو مجزوم بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الادغام ، قوله : (استئناف) أي خبر لميتدأ محذوف ، والجملة في محل جزم جواب الشرط ، أي فهي تذكر.

قوله : (لا يأب الشهداء) أي لا يجوز للشهود الامتناع من أداء الشهادة أو تحملها ، لأنه فرض كفاية إن وجد من يثبت به الحق غيرهم وإن لم يوجد غيرهم كان التحمل أو الأداء فرض عين ، ومن تأخر عن ذلك كان عاصيا. قوله : (من) (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أشار بذلك إلى أن قوله أن تكتبوه في تأويل مصدر مجرور بمن مقدرة معمول لتسأموا ، والمعنى : لا تسأموا من كتابته وظاهره لزوم تقديره من ، وليس كذلك لأن سئم يتعدى بنفسه وبحرف الجر فعلى عدم التقدير أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول لتسأموا. قوله : (لكثرة وقوع ذلك) علة للنهي أي لا يسأم من الكتابة من يكثر منه الحقوق فبالأولى من لم تكثر منه ، وظاهر قوله أي ما شهدتم عليه أن الضمير في تكتبوه عائد على الشهود وهو معنى صحيح فبين أولا كتابة المتداينين ، وثانيا كتابة الشاهدين لشهادتهما لتكون تلك الكتابة مذكرة لهما ، ويصح أن يكون خطابا للمتداينين ويؤول قول المفسر ما شهدتم بأشهدتم ، قوله : (صَغِيراً) (كان) قدر كان إشارة إلى أن صغيرا أو كبيرا خبران لكان المحذوف ، قال ابن مالك :

ويحذفونها ويبقون الخبر

وبعد إن ولو كثيرا ذا اشتهر

وليس بمتعين بل يصح جعلهما حالين من الهاء في تكتبوه ، قوله : (أي الكتب) أي المفهوم من أن تكتبوه على حد (اعدلوا هو أقرب للتقوى). قوله : (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) هذا يؤيد ما ذكره المفسر أولا من أن الضمير في تكتبوه عائد على الشهود. قوله : (أي تشكوا في قدر الحق والأجل) أي فيلزم على ذلك إما ضرر المدين أو من له الدين.

قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) إما بالرفع على أن تكون تامة ، أو بالنصب على أنها ناقصة واسمها ضمير تكون قراءتان سبعيتان وحاضرة وتديرونها صفتان لتجارة ، وهو وصف بالجملة بعد الوصف بالمفرد ، عكس قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) والاستثناء يحتمل أن يكون متصلا من عموم الأحوال ويحتمل أن يكون منقطعا وهو الأقرب ، لأن ما بيع مناجزة ليس داخلا تحت قوله إلى أجل مسمى ، الآية ، قوله : (تقبضونها) راجع لقوله تديرونها وقوله ولأجل فيها راجع لقوله حاضرة ، فهو لف

١٧٧

فيها (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) في (أَلَّا تَكْتُبُوها) والمراد بها المتجر فيه (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) عليه فإنه أدفع للاختلاف وهذا وما قبله أمر ندب (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) صاحب الحق ومن عليه بتحريف أو امتناع من الشهادة أو الكتابة ألا ولا يضرهما صاحب الحق بتكليفهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ) خروج عن الطاعة لاحق (بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) في أمره ونهيه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) مصالح أموركم حال مقدرة أو مستأنف (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢) (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين وتداينتم (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ)

____________________________________

ونشر مشوش ، قوله : (أمر ندب) أي إرشاد لمصالح الدنيا لقطع النزاع ، وهذا تقييد للاستثناء أي إن الاشهاد المذكور يكون في العقارات والأمور التي تبقى ، وأما الاستثناء فمحله الأمور التي لا تبقى ، قوله : (صاحب الحق) قدره إشارة إلى أن يضار اسم فاعل ، وكاتب فاعل ، وأصله يضارر ، فلا ناهية ويضار مجزوم بسكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الأدغام ، قوله : (بتحريف) أي في الكتابة بأن يزيد أو ينقص فيضر البائع أو المشتري ، وقوله : (أو امتناع من الشهادة) أي يتركها حتى يأخذ عليها جعلا مثلا وذلك إضرار من الكاتب ، والشهيد لصاحب الحق ، قوله : (أو لا يضرهما صاحب الحق) أي فيضار مبني للمفعول ، وكاتب وشهيد نائب الفاعل فأصله يضارر ، قوله : (ما لا يليق في الكتابة) أي بأن يأمره بكتابة ما لم يطلع عليه أو يمتنع من إعطاء أجرته له ، وقوله : (والشهادة) أي بأن يستشهد على ما لم يرد ويأخذه على مسافة القصر قهرا من غير دفع شيء له يتمون به. قوله : (ما نهيتم عنه) أي من مضارة الكاتب والشاهد.

قوله : (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ) أي يترتب عليه الفسوق آخرا لأن من لم يدر العواقب فليس له في الدنيا صاحب ، قوله : (لاحق) (بِكُمْ) قدره إشارة إلى أن بكم متعلق بمحذوف ، قوله : (أو مستأنفة) الأولى الاقتصار عليه لأن جعله حالا خلاف القاعدة النحوية ، فإن القاعدة أن الجملة المضارعية المثبتة إذا وقعت حالا فإن الضمير يلزمها وتخلو من الواو ، ولا يصح أيضا عطفها على جملة واتقوا الله لأنه يلزم عليه عطف الخبر على الانشاء وفيه خلاف ، وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أي العلم النافع لأن العلم نور لا يهدى لغير المتقي ، قال الإمام الشافعي :

شكوت إلى وكيع سوء حظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأعلمني بأن العلم نور

ونور الله لا يهدي لعاصي

وقال الإمام مالك : من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم ، فالتقوى سبب لإعطاء العلم النافع. قوله : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فيجازي كلا من الفاسق والمتقي على ما صدر منه. قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) فيه استعارة تبعية حيث شبه الظرفية المطلقة بالاستعلاء المطلق ، فسرى التشبيه من الكليات للجزئيات فاستعيرت على الموضوعة للاستعلاء الخاص لمعنى في الموضوعة للظرفية الخاصة عكس ولأصلبنكم في جذوع النخل ، والجامع بينهما التمكن في كل ، فكما أن المسافر متمكن من السفر ، كذلك الراكب متمكن من الركوب ومستعل على المركوب ، وقد أشار للاستعارة المفسر بقوله : (أي مسافرين).

١٧٨

وفي قراءة فرهان جمع رهن (مَقْبُوضَةٌ) تستوثقون بها وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ووجود الكاتب فالتقييد بما ذكر لأن التوثيق فيه أشد ، وأفاد قوله مقبوضة اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن ووكيله (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي الدائن المدين على حقه فلم يرتهنه (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) أي المدين (أَمانَتَهُ) دينه (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في أدائه (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) إذا دعيتم لإقامتها (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) خص بالذكر لأنه محل الشهادة ولأنه إذا أثم تبعه غيره فيعاقب عليه معاقبة الآثمين (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨٣) لا يخفى عليه شيء منه. (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا) تظهروا (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من السوء والعزم عليه (أَوْ

____________________________________

قوله : (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يصح عطفه على فعل الشرط فهو في محل جزم ، أو على خبر كان فهو في محل نصب ، أو حالا فهو في محل نصب أيضا ، ولم يقل ولا شهودا لأن الشأن وجودهم إذ ذاك بخلاف الكاتب. قوله : (فَرِهانٌ) مبتدأ وقوله (مَقْبُوضَةٌ) صفته وخبره محذوف قدره المفسر بقوله تستوثقون بها والجملة جواب الشرط في محل جزم. قوله : (جمع رهن) أي كل من رهن ورهان جمع لرهن. قوله : (وبينت السنة الخ) جواب عن سؤال مقدر ، وهو أن مفهوم الآية أن الرهن في الحضر لا يسوغ أخذه أجاب بأن السنة بينت الجواز في الحضر. قوله : (لأن التوثق فيه أشد) أي لأن الغالب في السفر عدم وجود الكاتب ونسيان الدين والتعرض للموت. قوله : (اشترط القبض في الرهن) أي وهل يشترط من الراهن الاقباض بأن يسلمه الرهن بيده خلاف عند مالك والشافعي والمعتمد عدم اشتراطه ولا بد أن يكون القبض بعلم الراهن أو وكيله ورضاه ، فلو سرقه المرتهن مثلا ومات الراهن أو فلس فلا يختص المرتهن به بل هو أسوة الغرماء.

قوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي رضي بعضكم وهو صاحب الدين بأمانة بعض وهو المدين. قوله : (فلم يرتهنه) تفريع على قوله فإن أمن الخ. قوله : (فَلْيُؤَدِّ) الخ جواب الشرط وقرن بالفاء لأن الجملة طلبية ، وقد أكد ذلك بأمور : منها الأمر ، ومنها تسميته أمانة ، ومنها الأمر بتقوى الله في الأداء ، ومنها التصريح بقوله : الله ربه. قوله : (دينه) إنما سماه أمانة لأنه صار لا يعلم إلا منه. قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) أي ليخش عقاب ربه في الأداء ولا يماطله به.

قوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) أي الإقرار بالدين وسمي شهادة لأنه لا يعلم إلا من المدين فكأنه شاهد بالدين ، فحيث كتمه فقد كتم الشهادة بالدين. قوله : (فَإِنَّهُ آثِمٌ) جواب الشرط وقلبه فاعل بآثم. قوله : (ولأنه إذا تبعه غيره) أي في الأثم لأنه سلطان الأعضاء إذا صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله ، قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي فيجازي الخلق على أعمالهم خيرا أو شرا. قوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ملكا وخلقا وعبيدا وهذا كالدليل لما قبله ، وعبر بما تغليبا لغير العاقل لكثرته. قوله : (تظهروا) (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) أي فتفعلوا بمقتضاه. قوله : (والعزم عليه) عطف تفسير وهذا هو محل المؤاخذة ، وهو إشارة لجواب عن الآية حيث عمم في المؤاخذة مع أن لا يؤاخذ إلا بالفعل أو العزم عليه ، ولكن ينافيه ما يأتي من أن عموم الآية منسوخ بآية (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) إلا أن يقال إنه إشارة لجواب آخر ، فما يأتي على هذا بيان للمراد هنا ، والحاصل أنه إن أبقيت الآية على عمومها

١٧٩

تُخْفُوهُ) تسروه (يُحاسِبْكُمْ) يخبركم (بِهِ اللهُ) يوم القيامة (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) المغفرة له (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه والفعلان بالجزم عطفا على جواب الشرط والرفع أي فهو (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٨٤) ومنه محاسبتكم وجزاؤكم (آمَنَ) صدق (الرَّسُولُ) محمد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) من القرآن (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف عليه (كُلٌ) تنويه عوض عن المضاف إليه (آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ) بالجمع والإفراد (وَرُسُلِهِ) يقولون (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فنؤمن ببعض ونكفر

____________________________________

كانت منسوخة بما بعدها وإن حملت على العزم فلا نسخ ، وما يأتي توضيح لما أجمل هنا ، وقد تقدمت مراتب القصد نظما ونثرا. قوله : (يخبركم) أي يعلمكم به. قوله : (والفعلان بالجزم عطفا على جواب الشرط) أي الذي هو يحاسب ، وقوله : (والرفع أي) على الاستئناف خبر لمحذوف قراءتان سبعيتان ، ويصح في غير القرآن النصب على إضمار إن قال ابن مالك :

والفعل من بعد الجزاإن يقترن

بالفا أو الواو بتثليث قمن

وهذه الآية محمولة على من مات مسلما عاصيا لا من مات كافرا. قوله : (ومنه محاسبتكم) ورد أنه يحاسب الخلق في نصف يوم من أيام الدنيا. قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ هاتين الآيتين آخر سورة البقرة كفتاة». قيل عن قيام الليل كما روي عن ابن عمر قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنزل الله علي آيتين من كنوز الجنة ختم بهما سورة البقرة من قرأهما بعد العشاء مرتين أجزأتاه عن قيام الليل آمن الرسول إلى آخر السورة». وقيل كفتاه من شر الشيطان فلا يكون عليه سلطان ، وإنما ختم السورة بهاتين الآيتين لأنها بينت فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والايلاء والحيض والجهاد وقصص الأنبياء فناسب أن يذكر تصديق النبي والمؤمنين بجميع ذلك.

قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ) أي فاشترك الرسول والمؤمنون في أصل الإيمان ، لكن افترقا من جهة أخرى ، وهو أن إيمان الرسول من قبيل حق اليقين ، وإيمان المؤمنين من قبيل علم اليقين أو عين اليقين فالافتراق من حيث المراتب لا من حيث أصله. قوله : (عطف عليه) أي فهو مرفوع بالفاعلية والوقف عليه ، ويدل على صحة هذا قراءة علي بن أبي طالب وآمن المؤمنون فأظهر الفعل ويكون قوله : (كُلٌّ آمَنَ) جملة مبتدأ وخبر تدل على أن جميع من تقدم ذكره آمن بما ذكر. قوله : (عوض عن المضاف إليه) أي فيكون الضمير الذي ناب عنه التنوين في كل راجعا إلى الرسول والمؤمنين أي كلهم ، وتوحيد الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين ، ليكون المراد بيان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع.

قوله : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) كل مبتدأ أخبر عنه بخبرين راعى في اولهما لفظ كل فأفرد ، وفي ثانيهما معناها فجمع حيث قال : (وقالوا سمعنا) الخ. قوله : (بالجمع والأفراد) أي في الكتب قراءتان سبعيتان. قوله : (يقول الخ) قدر الفعل ليفيد أن هذه الجملة منصوبة بقول محذوف ، وهذا القول المضمر في محل نصب على الحال أي قائلين. قوله : (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أي في الإيمان به وأضيف بين إلى أحد وهو مفرد ، وإن كانت قاعدتهم أنه إنما يضاف إلى متعدد نحو بين زيد وعمر ، ولأن أحد يستوي فيه الواحد والمتعدد. وقله : (فنؤمن ببعض الخ) بالنصب في حين النفي فالنفي مسلط عليه ، وسيأتي وصفهم في قوله

١٨٠