حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

فعدتهن قرءان بالسنة (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) من الولد أو الحيض (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَ) أزواجهن (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) بمراجعتهن ولو أبين (فِي ذلِكَ) أي في زمن التربص (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) بينهما لا ضرار المرأة وهو تحريض على قصده لا شرط لجواز الرجعة وهذا في الطلاق الرجعي وأحق لا تفضيل فيه إذ لاحق لغيرهم في نكاحهن في العدة (وَلَهُنَ) على الأزواج (مِثْلُ الَّذِي) لهم (عَلَيْهِنَ) من الحقوق (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا من حسن العشرة وترك الضرار ونحو ذلك (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فضيلة في الحق من وجوب طاعتهن لهم لما ساقوه من المهر والإنفاق (وَاللهُ عَزِيزٌ) في ملكه (حَكِيمٌ) (٢٢٨) فيما دبره لخلقه (الطَّلاقُ) أي التطليق الذي يراجع بعده (مَرَّتانِ) أي اثنتان (فَإِمْساكٌ) أي فعليكم بعده بأن تراجعوهن (بِمَعْرُوفٍ) من غير إضرار (أَوْ تَسْرِيحٌ) أي إرسالهن (بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) أيها

____________________________________

والأمة ، وأما من يأتيها الحيض فعدتها ثلاثة أقراء إن كانت حرة ، وقرءان إن كانت أمة ، وهذا في الطلاق ، وأما في الوفاة فسيأتي أنها للحرة أربعة أشهر وعشرة وللأمة نصفها ، وللحامل وضع الحمل. قوله : (من الولد أو الحيض) أي أو عيوب الفرج كالرتق والقرن والعفل والبخر والإفضاء.

قوله : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ) هذا من باب الزجر والتشديد عليهن ، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله فلا يحل. قوله : (وَبُعُولَتُهُنَ) جمع بعل يطلق على الرجل والمرأة ، لكن المراد به هنا الرجل ، فالتاء لتأنيث الجمع لأن كل جمع يجوز تأنيثه. قوله : (لا ضرار المرأة) فتحرم الرجعة إذ ذاك ويعتريها الوجوب إن خشي على نفسه الزنا ، وتكره إن أشغلته عن عبادة مندوبة ، وتندب إن كانت تعينه على تلك العبادة. قوله : (لجواز الرجعة) أي مضيها فلا ينافي أنه شرط في جواز القدوم عليها. قوله : (في نكاحهن في العدة) صوابه أو يقول فلا حق لغيرهم في ردهن ورجعتهن كما عبر به غيره تأمل. قوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) حاصله أن الرجل له حقوق على المرأة من طبخ وعجن وكنس وغير ذلك من الخدمة الباطنية ، وللمرأة حقوق على الرجل من نفقة وكسوة وإظهار محبة وغير ذلك ، فالمماثلة في الآية في مطلق الوجوب لا في صفة الحقوق ، وفي الآية احتباك حيث حذف من كل نظير ما اثبته في الآخر ، يشير لذلك تقدير المفسر قوله : (الأزواج) وقوله : (لهم). قوله : (فضيلة في الحق) أي فحق الرجل زائد على حقها. قوله : (لما ساقوه) علة لوجوب طاعتهن لهم ومعناه دفعوه ، وقوله من المهر والانفاق بيان لما.

قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) سبب نزول هذه الآية أنه كان في صدر الإسلام إذا طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا وراجعها في العدة كان له ذلك ولو طلق الف مرة ، فطلق رجل امرأته طلقة رجعية ثم راجعها قبل انقضاء عدتها بشيء يسير فقال : والله لا آويك ولا تحلين لغيري أبدا فنزلت الآية فاستأنف الناس الطلاق والغوا ما مضى ، وقوله مرتان أي مرة بعد أخرى أو المرتان دفعة وهو تخصيص لقوله : (وبعولتهن أحق بردهن) في ذلك. قوله : (أي التطليق) إنما فسر اسم المصدر بالمصدر لأجل قوله أو تسريح. قوله : (أي اثنتان) دفع بذلك ما يتوهم أنه لا بد أن يكون على مرتين. قوله : (أي فعليكم) قدر ذلك إشارة إلى أن إمساك مبتدأ خبره محذوف ، وقدره مقدما عليه ليكون مسوغا للابتداء بالنكرة. قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ) يحتمل أن المراد بذلك إنشاء طلاق ثالث بعد المراجعة الثانية ، ويحتمل أن المراد عدم

١٤١

الأزواج (أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) من المهور (شَيْئاً) إذا طلقتموهن (إِلَّا أَنْ يَخافا) أي الزوجان (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي لا يأتيا بما حده لهما من الحقوق وفي قراءة يخافا بالبناء للمفعول فأن لا يقيما بدل اشتمال من الضمير فيه وقرىء بالفوقانية في الفعلين (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) نفسها من المال ليطلقها أي لا حرج على الزوج في أخذه ولا الزوجة في بذله (تِلْكَ) الاحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩) (فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج بعد الثنتين (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) بعد الطلقة الثالثة (حَتَّى تَنْكِحَ) تتزوج (زَوْجاً غَيْرَهُ) ويطأها كما في الحديث ، رواه الشيخان (فَإِنْ طَلَّقَها)

____________________________________

المراجعة إذا طلقها ثانيا ، وأما الطلقة الثالثة فمأخوذة من قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وهو الأقرب لأنه المتبادر من المفسر ، فالرجل مخير في عدة الطلقة الأولى بين أن يراجعها بالمعروف أو يسرحها من غير مراجعة ، وكذا في عدة الثانية. قوله : (بِإِحْسانٍ) أي فيؤدي ما عليه لها من الحقوق ولا يذكرها بسوء. قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) يوضح بمعنى الآية قوله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا) الآيتين. قوله : (من المهور) بيان لما. قوله : (إذا طلقتموهن) أي وأما إن كانت في عصمته ووهبت له صداقها أو بعضه فلا بأس بذلك. قوله : (ألا يقيما حدود الله تعالى) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بمن ، التقدير من عدم إقامتها حدود الله ، وسبب نزولها أن امرأة اسمها جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فشكت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قالت يا رسول الله إني لا أعيبه في دين ولا في خلق غير أني وجدته مقبلا في جماعة فرأيته أشدهم سوادا وقصرا وأقبحهم وجها لا يجمع رأسي ورأسه شيء وإني لأكره الكفر في الإسلام ، فلما نزلت هذه الآية أمرها رسول الله بالفداء فأخذ ما كان أعطاه لها وطلقها ، وكان قد أمهرها حديقة. قوله : (وفي قرءاة) أي فهما سبعيتان. قوله : (بالبناء للمفعول) أي فالضمير نائب فاعل والفاعل ولاة ولاة الأمور ، أي فإن خاف ولاة الأمور الزوجين وأن لا يقيما بدل اشتمال من نائب الفاعل ، قوله : (وقرى) أي قراءة شاذة.

قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) خطاب لولاة لأمور. قوله : (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي كان بمهرها أو أقل أو أكثر. قوله : (لا حرج على الزوج في أخذه) أي لعدم ظلمه لها ، وقوله : (ولا على الزوجة في بذله) أي لدفعها الضرر عن نفسها. قوله : (فَلا تَعْتَدُوها) أي تتجاوزوها بأن تعينوا الظالم على المظلوم منهما. قوله : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) ذكر هذا الوعيد بعد النهي عن تعديها للمبالغة في التهديد. وقوله : (الظَّالِمُونَ) أي لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه.

قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) أي طلقة ثالثة سواء وقع الاثنتان في مرة أو مرتين ، والمعنى فإن ثبت طلاقها ثلاثا في مرة أو مرات (فَلا تَحِلُ) الخ ، كما إذا قال لها أنت طالق ثلاثا أو البتة وهذا هو المجمع عليه ، وأما القول بأن الطلاق الثلاث في مرة واحدة لا يقع إلا طلقة فلم يعرف إلا لابن تيمية من الحنابلة ، وقد ورد عليه أثمة مذهبه حتى قال العلماء إنه الضال المضل ، ونسبتها للإمام أشهب من أئمة المالكية باطلة. قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ) المراد به هنا العقد مع الوطء كما بين ذلك في الحديث والإجماع عليه ، خلافا لما نقل عن ابن المسيب أن العقد كاف في التحليل. قوله : (زَوْجاً) أي لا سيدا فلا يقع به تحليل ، ولا بد من

١٤٢

أي الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي الزوجة والزوج الأول (أَنْ يَتَراجَعا) إلى النكاح بعد انقضاء العدة (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ) المذكورات (حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠) أي يتدبرون (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) قاربن انقضاء عدتهن (فَأَمْسِكُوهُنَ) بأن تراجعوهن (بِمَعْرُوفٍ) من غير ضرار (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) اتركوهن حتى تنقضي عدتهن (وَلا تُمْسِكُوهُنَ) بالرجعة (ضِراراً) مفعول له (لِتَعْتَدُوا) عليهن بالإلجاء إلى الافتداء والتطليق وتطويل الحبس (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها إلى عذاب

____________________________________

كون الزوج بالغا عند مالك لقوله في الحديث «حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته» ولا عسيلة للصبي ، وقال الشافعي بعدم اشتراط بلوغه ، ومن هنا المسألة الملفقة وهي أن يقلد الشافعي في صحة تحليل غير البالغ ، ومالكا في صحة طلاق وليه عنه لمصلحة وفي عدم العدة عليها من وطئه ، وهذه المسألة قال العلماء فيها الورع تركها ، ويشترط للتحليل عند مالك شروط عشرة تعلم من الفروع. قوله : (ويطؤها) أي ولا يشترط الأنزال. قوله : (كما في الحديث) وهو أنه جاءت امرأة تسمى تميمة القرظية وكانت متزوجة بابن عمها رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت يا رسول الله إن رفاعة أبتّ طلاقي فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي ، وإنما معه مثل هدبة الثوب ، فتبسم رسول الله وقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ، فمكثت مدة ثم جاءت ثانيا لرسول الله وقالت إنه مسني وذقت منه وذاق مني ، فقال لها رسول الله إن قولك الأول كذبك الآن ، فجاءت للصديق في خلافته وقالت له مثل ما قالت لرسول الله ، فقال لها إني شهدت مجيئك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلامك له ، لا ترجعي ، فجاءت لعمر في خلافته فقالت له كذلك فقال لها إن عدت لرفاعة رجمتك. قوله : (رواه الشيخان) أي عن عائشة.

قوله : (أَنْ يَتَراجَعا) (إلى النكاح) أي بعقد ومهر وولي وشهود. قوله : (بعد انقضاء العدة) أي فلا بد من عدتين : عدة للزوج الأول وعدة للثاني. قوله : (أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ظن الثاني ، ومعنى إقامة حدود الله زوال ما في أنفسهما من الكدر الذي كان سببا في الطلاق. قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) خصهم لأنهم المنتفعون بتلك الأحكام وهم الذين يعقلون الخطاب. قوله : (أي يتدبرون) أي ينظرون في عواقب أمورهم (تنبيه) : يقع الطلاق فيما ذكر ولو كان سكرانا بحرام لعدم عذره بذلك أو في حماقة ، وليست الحماقة من باب الإكراه الذي قال فيه رسول الله «لا طلاق في إغلاق» ، خلافا لمن يفتي بذلك فإنه ضال مضل ، اللهم إلا أن يطيش عقله فلا يعرف الأرض من السماء ويصير كالمجنون فلا شيء عليه.

قوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) أي طلاقا رجعيا وإنما كرره للإيضاح. قوله : (قاربن انقضاء عدتهن) أي أشرفهن عليها. قوله : (مفعول له) أي لإجله. قوله : (لِتَعْتَدُوا) علة لقوله ضرارا. قوله : (بالإلجاء) أي الأضطرار. قوله : (تطويل الحبس) أي العدة. قوله : (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي لما في الحديث : «بغلبن كريما ويغلبهن لئيم ، فأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا». قوله :

١٤٣

الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) مهزوءا بها بمخالفتها (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ) القرآن (وَالْحِكْمَةِ) ما فيه من الأحكام (يَعِظُكُمْ بِهِ) بأن تشكروها بالعمل به (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١) لا يخفى عليه شيء (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) انقضت عدتهن (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) خطاب للأولياء أي تمنعوهن من (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) المطلقين لهن لأن سبب نزولها أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فأراد أن يراجعها فمنعها معقل بن يسار كما رواه الحاكم (إِذا تَراضَوْا) أي الأزواج والنساء (بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) شرعا (ذلِكَ) النهي عن العضل (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأنه المنتفع به (ذلِكُمْ) أي ترك العضل (أَزْكى) خير (لَكُمْ وَأَطْهَرُ) لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه المصلحة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢٣٢) ذلك فاتبعوا أمره (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) أي ليرضعن (أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ) عامين (كامِلَيْنِ) صفة مؤكدة ذلك (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ولا زيادة عليه (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي

____________________________________

(بمخالفتها) أي فأطلق الاستهزاء وأراد المخالفة ، قوله : (ما فيه من الأحكام) أي العلوم النافعة. قوله : (بالعمل به) أي ولا تتخذوها هزوا. قوله : (لا يخفى عليه شيء) أي فيثيب المطيع ويعذب العاصي. قوله : (انقضت عدتهن) أي فبلوغ الأجل في المحلين مختلف. قوله : (خطاب للأولياء) أي وأما الخطاب في طلقتم فهو خطاب للأزواج ، ويصح أن يكون خطابا للأولياء أيضا ، والمعنى إذا رفعن أمورهن إليكم أيها الأولياء وتسببتم في طلاقهن من أزواجهن ، ثم زال ما في النفوس وأرادوا العقد على أزواجهم فلا يكن منكم عضل لهن من ذلك. قوله : (أن أخت معقل) أي واسمها جميلة. قوله : (طلقها زوجها) أي واسمه عاصم بن عدي. قوله : (أي الأزواج والنساء) وغلب الذكور لشرفهم وهو جمع باعتبار أفراد الرجال والنساء. قوله : (لأنه المنتفع به) جواب عما يقال لمن خص المؤمنين. قوله : (بسبب العلاقة) أي الارتباط. قوله : (فاتبعوا أمره) أي ولا تطيعوا أنفسكم في العضل ، فمتى كان لكم منهما رغبة في الآخر فلا يكن منكم منع في ذلك لأنه لا مصلحة فيه ، وقد جرت عادة الله في كتابه أنه يتخلل الأحكام والقصص بالمواعظ الجليلة ، وفي الحديث «كان يتخولنا بالمواعظ مخافة السآمة» علينا. قوله : (أي ليرضعن) فسره بالأمر إشارة إلى أن الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى فالمقصود منها الأمر وهو للندب للأم بشروط ثلاثة إن كان للولد أب موسر ، أو مال ، ووجد من ترضعه غير أمه وقبلها ، فإن فقد شرط منها وجب عليها الرضاع.

قوله : (أَوْلادَهُنَ) أي ذكورا أو إناثا. قوله : (كامِلَيْنِ) هذا تقريب عند مالك فألحق الشهران بالحولين وتحديد عند الشافعي. قوله : (صفة مؤكدة) أي لدفع توهم تسمية الأقل منهما باسم الكامل تسمحا ، والمقصود من النص على الحولين قطع النزاع بين الزوجين حيث اراد أحدهما أكثر من الحولين أو أقل ، والآخر الحولين فإنه يقضى لمن ارادهما. قوله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) الجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف قدره المفسر بقوله ذلك وهو جواب عن سؤال مقدر. قوله : (ولا زيادة عليه) أي خلافا لمن قال إذا شحت المرأة قضي لها بثلاثين شهر أو لمن قال بثلاثة أعوام. قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي

١٤٤

الأب (رِزْقُهُنَ) إطعام الوالدات (وَكِسْوَتُهُنَ) على الإرضاع إذا كن مطلقات (بِالْمَعْرُوفِ) بقدر طاقته (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) طاقتها (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) بسببه بأن تكره على إرضاعه إذا امتنعت (وَلا) يضار (مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي بسببه بأن يكلف فوق طاقته وإضافة الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف (وَعَلَى الْوارِثِ) أي وارث الأب وهو الصبي أي على وليه في ماله (مِثْلُ ذلِكَ) الذي على الأب للوالدة من الرزق والكسوة (فَإِنْ أَرادا) أي الوالدان (فِصالاً) فطاما له قبل الحولين صادرا (عَنْ تَراضٍ) اتفاق (مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) بينهما لتظهر مصلحة الصبي فيه (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك (وَإِنْ أَرَدْتُمْ) خطاب للآباء (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) مراضع غير الوالدات (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فيه (إِذا سَلَّمْتُمْ) إليهن (ما آتَيْتُمْ) أي أردتم إيتاءه لهن من الأجرة (بِالْمَعْرُوفِ) بالجميل كطيب النفس (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٣)

____________________________________

المنسوب له الولد احترازا عن ابن الزنا ، ومن نفاه أبوه بلعان فلا يلزم أباه شيء من أجله لقطع نسبه. قوله : (رِزْقُهُنَ) أي دفع الرزق بمعنى الأجرة التي يتحصل بها الطعام والشراب والكسوة. قوله : (إذا كن مطلقات) أي بائنا ، وأما الرجعيات واللاتي في العصمة فلا يلزمه أجرة على الرضاع عند الشافعي وكذا عند مالك في غير من شأنها عدم الأرضاع بنفسها كنساء الملوك ، وأما هي فلها أن تأخذ الأجرة على ذلك ، هكذا حمله المفسر على غير الزوجة ، وبعضهم حمله على ما يعم الزوجة بمعنى أن الزوجة تأخذ الأجرة على الرضاع ولو ناشزا ولو يجرى على حكم النفقة الزوجية. قوله : (بقدر طاقته) أي عسرا ويسرا.

قوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) ببناء الفعل للمجهول ونفس نائب الفاعل ، وفي قراءة يكلف نفسا ببناء للفاعل ، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى. قوله : (بأن تكره على إرضاعه) أي بغير أجرة أو بأجرة دون أجرة المثل حيث طلبتها ، قوله : (إذا امتنعت) أي ووجد غيرها وقبلها الولد وكان الأب موسرا وللولد مال ، وإلا أكرهت الأم على إرضاعه إما بنفسها أو تكري له من يرضعه ، قوله : (في ماله) أي وهو مقدم ثم مال الأب ثم مال الأم عند مالك ، قوله : (للوالدة) أي المرضعة والدة كانت أو غيرها.

قوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) هذا تقييد لما تقدم في قوله حولين كاملين. قوله : (عَنْ تَراضٍ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لفصالا قدره المفسر بقوله صادرا. قوله : (في فعل ذلك) أي ولا في الزيادة على الحولين عند الاتفاق بل هو جائز شرعا ، ومنعه الحكماء لما فيه من توريث البلادة للطفل. قوله : (مراضع) مفعول أول لتسترضعوا مؤخر ، وأولادكم مفعول ثان مقدم على حذف الجار أي إن أردتم أن تطلبوا مراضع لأولادكم ، لأن أفعل إذا كان متعديا إلى مفعول واحد وزيدت فيه السين للطلب ، أو النسبة يصير متعديا إلى مفعولين كما قال الزمخشري ، وقال الجمهور إنما يتعدى للثاني بحرف الجر فيكون أولادكم منصوبا بنزع الخافض ، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول أردتم. قوله : (غير الوالدات) أي حيث كانت أجرة الغير أقل من أجرة الأم أو كانت الغير ترضع مجانا ، أما إذا استويا فالأم أولى. قوله : (إِذا سَلَّمْتُمْ) ليس شرطا لصحة الإجارة بل هو بيان للأكمل لأن التعجيل أطيب لنفوسهن. قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه متعلق بسلمتم ، الثاني أنه متعلق بآتيتم ، الثالث أنه حال من فاعل سلمتم أو آتيتم ، والعامل فيه حينئذ محذوف أي ملتبسين بالمعروف. قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) مبالغة في

١٤٥

لا يخفى عليه شيء منه (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) يموتون (مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ) يتركون (أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) أي ليتربصن (بِأَنْفُسِهِنَ) بعدهم عن النكاح (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) من الليالي وهذا في غير الحوامل وأما الحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق والأمة على النصف من ذلك بالسنة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) انقضت مدة تربصهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأولياء (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من التزين والتعرض للخطاب (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٣٤) عالم بباطنه كظاهره (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ) لوحتم (بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) المتوفى عنهن أزواجهن في العدة كقول الإنسان مثلا إنك لجميلة ومن يجد مثلك ورب راغب فيك (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) أضمرتم (فِي أَنْفُسِكُمْ) من قصد نكاحهن (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) بالخطبة ولا تصبرون

____________________________________

المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع.

قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) بضم الياء مبنيا للمفعول ، وفي قراءة بفتحها مبنيا للفاعل ، والمعنى عليها يستوفون آجالهم. قوله : (يموتون) المناسب تقبض أرواحهم ليناسب الفعل المبني للمفعول. قوله : (أَزْواجاً) جمع زوج بمعنى زوجة لأن الزوج يقع على الذكر والأنثى. قوله : (أي ليتربصن) أشار بذلك إلى أن المراد من الآية الأمر وإن كان ظاهرها الخبر له. قوله : (بِأَنْفُسِهِنَ) الباء زائدة للتأكد والأصل يتربصن أنفسهن يعني لا بواسطة حكم حاكم ، فإن العدة لا تحتاج لذلك. قوله : (بعدهم) الضمير عائد على اسم الموصول الواقع على الرجال ، وقدره المفسر ليصح الأخبار بجملة يتربصن عن الموصول هكذا أعرب المفسر ، وبعضهم قدر في المبتدأ فقال وأزواج الذين يتوفون ، وبعضهم قدر في الخبر حيث قال والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربصن ، فأزواجهم مبتدأ ، وجملة يتربصن خبره ، والمبتدأ وخبره خبر الأول والرابط موجود. قوله : (عن النكاح) أي نكاح الغير لهن.

قوله : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) إما مفعول ليتربصن على حذف مضاف أي مضى أربعة أشهر وعشر أو ظرف له. قوله : (من الليالي) أي مع النهار وخص الليالي لسبقها على النهار. قوله : (وهذا في غير الحوامل) أي ما تقدم من العموم لا يتناول الحوامل والاماء. قوله : (أن يضعن حملهن) أي كله ولو علقة أو مضغة فلا تحل إلا بوضعه ولو مكث الزمن الطويل في بطنها. قوله : (والأمة) بالجر معطوف على الحوامل. قوله : (على النصف من ذلك) أي فعدتها شهران وخمس ليال وهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره وهي على النصف من ذلك وأعلم أن ذلك تعبد أمرنا به الشارع ولم نعقل له معنى ، ولذا أمرت بتلك العدة الصغيرة وزوجة الصغير ، وما قيل إنه معلل بوجود حركة الحمل بعد الأربعة أشهر فغير مطرد في الأمة الصغيرة وزوجة الصغير. قوله : (بالسنة) أي الدليل السني. قوله : (من التزين) أي الشرعي بأن تفعل ذلك ببيتها. قوله : (والتعرض للخطاب) معطوف على التزين فلا يحرم كل من التزين والتعرض للخطاب بعد العدة ، وأما فيها فيحرم على الأولياء وعليهن إذا بلغن ويجب عليهن كفهن ولو بالشتم والضرب ، قوله : (فِيما عَرَّضْتُمْ) التعريض هو الكلام الذي يفهم منه المقصود بطرف خفي. قوله : (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) بكسر الخاء التماس النكاح قوله : (ورب راغب) رب للتكثير.

قوله : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي ولو أخبرتم بذلك غير المجبر لها ، فالحرمة في التصريح لها أو

١٤٦

عنهن فأباح لكم التعريض (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي نكاحا (إِلَّا) لكن (أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي ما عرف شرعا من التعريض فلكم ذلك (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي على عقده (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ) أي المكتوب من العدة (أَجَلَهُ) بأن ينتهي (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم وغيره (فَاحْذَرُوهُ) أن يعاقبكم إذا عزمتم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن يحذره (حَلِيمٌ) (٢٣٥) بتأخير العقوبة عن مستحقها (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) وفي قراءة تماسوهن أي تجامعوهن (أَوْ) لم (تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) مهرا ، وما مصدرية ظرفية أي لا تبعة عليكم في الطلاق زمن عدم المسيس والفرض باثم ولا مهر فطلقوهن (وَمَتِّعُوهُنَ) أعطوهن ما يتمتعن به (عَلَى الْمُوسِعِ) الغني منكم (قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ) الضيق

____________________________________

لوليها المجبر. قوله : (فأباح لكم التعريض) أي والأضمار في أنفسكم وهو تفريع على قوله علم الله الواقع علة لقوله ولا جناح عليكم ، والمعنى إنما لم يحرم عليهم التعريض والأضمار في الأنفس لعلمه أنه إن حرم عليكم ذلك لوقعتم فيما هو أعظم الذي هو التصريح فأباح لكم التعريض. قوله : (سِرًّا) هو في الأصل ضد الجهر أطلق وأريد منه الوطء لأنه لا يكون إلا كذلك ، ثم أطلق وأريد منه العقد لأنه سببه فهو مجاز على مجاز. قوله : (أي نكاحا) أي عقدا. قوله : (إِلَّا) (لكن) (أَنْ تَقُولُوا) الخ. جعل المفسر الاستثناء منقطعا لأن التعريض ليس من المواعدة ، والمواعدة إنما تحرم إذا كانت من الجانبين ، وأما من جانب فتكره عند مالك. قوله : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي فالعقد في العدة فاسد ، ويفسخ ، فإن انضم لذلك العقد مباشرة ولو بعد العدة تأبد تحريمها عند مالك ، وعند الشافعي يفسخ العقد فقط ، وله العقد عليها ثانية بعدها. قوله : (من العزم) أي التصميم على العقد فالعزم يؤاخذ الإنسان به خيرا كان أو شرا ، وقد نظم بعضهم الأمور التي تطرأ على الشخص فقال :

مراتب القصد خمس هاجس ذكروا

فخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه هم فعزم كلها رفعت

سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

قوله : (فَاحْذَرُوهُ) أي الله بمعنى احذروا عقابه. قوله : (لمن يحذره) أي يخافه ، ففي الحديث : «إذا أذنب العبد ذنبا وعلم أن الله يغفره غفر له بمجرد فعله الذنب». قوله : (بتأخير العقوبة عن مستحقها) أي فلا يغتر العاصي بذلك فلربما يكون ذلك التأخير استدراجا له. قوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) سبب نزولها أن رجلا من الأنصار تزوج امرأة تفويضا ثم طلقها قبل الدخول ، فرفعته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت ، فقال له رسول الله أمتعها ولو بقلنسوتك. قوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) فعله مس مسند للرجل لأنه الأقوى في المس ، والأقرب أن ما شرطية بمعنى إن وليست مصدرية ظرفية كما قال المفسر ، لأن محل الظرفية فيما يقتضي الامتداد كقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) لأن شأن الخلود الامتداد. قوله : (وفي قراءة تماسوهن) أي بضم التاء وفعله ماس مماسة مفاعلة من الجانبين ، لأن كلّا يمس الآخر ، واستشكل مفهوم الآية بأن الطلاق بعد المس لا إثم فيه نعم فيه المهر. وأجيب بأنه مظنة الجناح بدفع المهر ، ووجود الأثم من حيث إنه قد يوقعه زمن الحيض ، وأما الطلاق قبل الدخول فلا جناح فيه أصلا. قوله : (فطلقوهن) (وَمَتِّعُوهُنَ) أشار بذلك إلى أن ومتعوهن معطوف على

١٤٧

الرزق (قَدَرُهُ) يفيد أنه لا نظر إلى قدر الزوجة (مَتاعاً) تمتيعا (بِالْمَعْرُوفِ) شرعا صفة متاعا (حَقًّا) صفة ثانية أو مصدر مؤكد (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦) المطيعين (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يجب لهن ويرجع لكم النصف (إِلَّا) لكن (أَنْ يَعْفُونَ) أي الزوجات فيتركنه (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو الزوج فيترك لها الكل وعن ابن عباس الولي إذا كانت محجورة فلا حرج في ذلك (وَأَنْ تَعْفُوا) مبتدأ خبره (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي أن يتفضل بعضكم على بعض (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧) فيجازيكم به (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) الخمس بأدائها في أوقاتها (وَالصَّلاةِ

____________________________________

محذوف قدره بقوله فطلقوهن. قوله : (قَدَرُهُ) بفتح الدال وسكونها قراءتان سبعيتان قوله : (يفيد أنه لا نظر إلى قدر الزوجة) أي وهو أحد الأقوال عند الشافعي ، والمفتى به عند مالك ، ولكن المعتمد عند الشافعي مراعاة حال الزوج والزوجة. قوله : (تمتيعا) أشار بذلك إلى أن اسم المصدر بمعنى المصدر. قوله : (شرعا) أي لا بشيء حرام. قوله : (أو مصدر مؤكد) أي وعامله محذوف أي أحقه حقا. وأعلم أنه اختلف في المتعة ، فقيل واجبة نظرا للأمر ولقوله حقا وبه أخذ الشافعي ، وقيل مندوبة نظرا لقوله بالمعروف ، ولقوله على المحسنين ، وبه أخذ مالك. قوله : (مِنْ قَبْلِ) متعلق بطلقتموهن وقوله : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ) الجملة حالية. قوله : (فَرِيضَةً) بمعنى مفروضة مفعول به ، وقيل مفعول مطلق بمعنى فرض ، لكن الأول أقرب. قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) مبتدأ خبره محذوف قدره المفسر بقوله (يجب لهن) ويحتمل أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فاللازم لكم ما فرضتم ، وما اسم موصول والعائد محذوف ، وجملة فرضتم صلته ونصف مثلث الوزن ونصيف كرغيف ، ولا يقرأ في جميع مواضع القرآن إلا بكسر النون لا غير. قوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) إلا أداة استثناء ، وأن حرف مصدري ونصب ، ويعفون مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهي فاعل ، والواو لام الكلمة لا واو الجماعة لأن وزنها يفعلن بخلاف الرجال يعفون فإن وزنه يفعون ، وقدر المفسر لكن إشارة إلى أن الاستثناء منقطع لأن العفو ليس من جنس ما قبله فإن ما قبله وجوب دفع نصف المهر. قوله : (فيترك لها الكل) أي وتسميته عفوا مشاكلة لما قبله. قوله : (الولي) أي المجبر ، وقال به مالك. قوله : (محجورة) أي مجبورة.

قوله : (وَأَنْ تَعْفُوا) الضمير عائد على من ذكر من الرجال والنساء ، وإنما غلب الرجال لشرفهم ، وأصله تعفوون دخل الناصب فحذف النون ثم استثقلت الضمة على الواو فحذفت فالتقى ساكنان حذفت لام الكلمة لالتقائهما. قوله : (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) استشكل كلام ابن عباس بأن عفو الولي لا تقوى فيه. أجيب بأن المراد بالتقوى الألفة ، أي فإذا عفا الولي فربما تحصل الألفة من الزوج ثانيا. قوله : (أي أن يتفضل بعضكم على بعض) أي يفعل بعضكم مع بعض مكارم الأخلاق بأن يحصل العفو عن جميع المهر من الزوج ، أو تعفو الزوجة عن النصف الذي يخصها.

قوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) أتى بهذه الآية في خلال ما يتعلق بالأزواج والأولاد تنبيها على أنه لا ينبغي من العبد أن يشتغل عن حقوق سيده بأمر الأزواج والأولاد ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ). قوله : (بأدائها في أوقاتها) أي مع استكمال شروطها وفرائضها

١٤٨

الْوُسْطى) هي العصر أو الصبح أو الظهر أو غيرها أقوال وأفردها بالذكر لفضلها (وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة (قانِتِينَ) (٢٣٨) قيل مطيعين لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل قنوت في القرآن فهو طاعة» رواه أحمد وغيره وقيل ساكتين لحديث زيد بن أرقم «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» رواه الشيخان (فَإِنْ خِفْتُمْ) من عدو أو سيل أو سبع (فَرِجالاً) جمع راجل أي مشاة صلوا (أَوْ رُكْباناً) جمع راكب أي كيف أمكن مستقبلي القبلة أو غيرها ويومىء بالركوع والسجود (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) أي صلوا (كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢٣٩) قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها والكاف بمعنى مثل وما موصولة أو مصدرية (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ

____________________________________

وسننها وآدابها ، فإن فقد شيء من ذلك دخل في الوعيد ، قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) وخص بالذكر لأنها عماد الدين ، ومعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين من أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين.

قوله : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فعلى مؤنث الأوسط بمعنى الأفضل والأخير لا بمعنى المتوسطة بين شيئين ، فإنه ليس فيه مزيد مزية وهو من عطف الخاص على العام ، والنكتة مزيد فضلها على غيرها كليلة القدر فهي أفضل الليالي. قوله : (هي العصر) أي لأنه وقت نزول ملائكة الليل وصعود ملائكة النهار ، وبه قال الشافعي. قوله : (أو الصبح) أي لما ذكر ولما في الحديث «بورك لأمتي في بكورها» ولأنها تأتي الناس وهم نيام ، وبه قال مالك. قوله : (أو الظهر) أي لأنها أول صلاة ظهرت في الإسلام ، وقوله : (أو غيرها) قيل هي المغرب لأنها وتر صلاة النهار ، وقيل العشاء لأنها تأتي الناس وهم كسالى ، وقيل هي الصلاة على النبي ، وقيل هي صلاة الجمعة ، وقيل الجنازة ، وقيل صلاة العيد وحكمه إخفائها ليحافظ الإنسان على ذلك كله ، كما أخفى ليلة القدر في سائر الليالي ليقوم الإنسان جميع الليالي وساعة الإجابة في يوم الجمعة والرجل الصالح في الخلق ، واختار ابن العربي وابن أبي جمرة أن الصلاة الوسطى هي مجموع العصر والصبح مستدلين بأدلة كثيرة تشهد بفضل هذين الوقتين. قوله : (وأفردها بالذكر لفضلها) أشار بذلك لنكتة عطفها على الصلوات ، لأن عطف الخاص على العام يحتاج لنكتة. قوله : (قيل مطيعين) أي لا مكرهين ولا كسالى بل ممتثلين الأمر مجتنبين النهي. قوله : (وقيل ساكتين) أي إلا عن ذكر الله ويلحق به مخاطبة النبي فإنها لا تبطل الصلاة. قوله : (من عدو) أي مسلم أو كافر ، وقوله : (أو سيل أو سبع) أي دافع كل منهما الناس لو توانى واحد منهم أخذه ما ذكر. قوله : (جمع راجل) أي ويجمع أيضا على رجل بسكون الجيم ، قال تعالى : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) ويجمع أيضا على رجال بتشديد الجيم المفتوحة. قوله : (أي مشاة) أي مستقبلين القبلة أم لا. قوله : (جمع راكب) هو في الأصل راكب الإبل ، لكن المراد به هنا الراكب مطلقا إبلا أو غيرها لصلاة الخوف أقسام تأتي في سورة النساء. قوله : (أي صلوا) إنما سمى الصلاة ذكرا لأنها جمعت أنواع الذكر.

قوله : (كَما عَلَّمَكُمْ) أي على الصفة التي علمكم إياها قبل حصول الخوف ولو ركعة ، وحكمة الإتيان في جانب الخوف بإن التي تفيد الشك وبإذا في جانب الأمن المفيدة للتحقيق ، الإشارة إلى أن الأصل الأمن وهو محقق ، والخوف طارىء يزول. قوله : (وما موصولة) أي والعائد محذوف ، والتقدير

١٤٩

وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) فليوصوا (وَصِيَّةً) وفي قراءة بالرفع أي عليهم (لِأَزْواجِهِمْ) ويعطوهن (مَتاعاً) ما يتمتعن به من النفقة والكسوة (إِلَى) تمام (الْحَوْلِ) من موتهم الواجب عليهن تربصه (غَيْرَ إِخْراجٍ) حال أي غير مخرجات من مسكنهن (فَإِنْ خَرَجْنَ) بأنفسهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يا أولياء الميت (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) شرعا كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها (وَاللهُ عَزِيزٌ) في ملكه (حَكِيمٌ) (٢٤٠) في صنعه والوصية المذكورة منسوخة بآية الميراث وتربص الحول بآية أربعة أشهر وعشرا السابقة المتأخرة في النزول والسكنى ثابتة لها عند الشافعي رحمه‌الله (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) يعطينه (بِالْمَعْرُوفِ) بقدر الإمكان (حَقًّا) نصب بفعله المقدر (عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١) الله تعالى كرره ليعم الممسوسة أيضا إذ الآية السابقة في غيرها (كَذلِكَ) كما بين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢) تتدبرون (أَلَمْ تَرَ) استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده أي ينته عملك (إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ

____________________________________

فأذكروا الله ذكرا مثل الذكر الذي علمكموه ما لم تكونوا تعلمون ، وما الثانية بدل من ما الأولى أو من الضمير المحذوف ، وقوله : (أو مصدرية) أي تسبك بمصدر ، وظاهره أن الكاف أيضا بمعنى مثل ولكنه بعيد فالأظهر أنها للتعليل ، والتقدير فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمون ، وما معمول لتعليم.

قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) حاصله أنه كان في صدر الإسلام يجب على الرجل إذا حضرته الوفاة أن يوصي بالنفقة والكسوة والسكنى لزوجته سنة لأنها عدتها ، ولا ينقطع عنها ذلك إلا بخروجها من نفسها ، ثم نسخ ذلك. قوله : (وفي قراءة بالرفع) أي وهي سبعية. قوله : (مَتاعاً) مفعول لمحذوف قدره المفسر بقوله ويعطوهن. قوله : (حال) أي من الزوجات. قوله : (كالتزين وترك الأحداد) أي فكان حلالا في العدة. قوله : (وقطع النفقة عنها) أي بخروجها من نفسها من غير إخراج أحد لها. قوله : (المتأخرة في النزول) جواب عن سؤال وهو أن المتقدم لا ينسخ المتأخر ، أجاب بأنه وإن تقدم تلاوة إلا أنه متأخر في النزول. قوله : (والسكنى ثابتة لها عند الشافعي) أي أربعة أشهر وعشرا ، وأما عند مالك فهي ثابتة لها إن كان المسكن له أو نقد كراءه ، وإلا نقدت هي كراءه ومكثت مكانها حتى تخرج من العدة.

قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ) أي مطلقا قبل الدخول أو بعده إلا من طلقت قبل الدخول وأخذت نصف الصداق فلا متعة لها ، وزاد مالك المختلعة فلا متعة لها أيضا. قوله : (مَتاعٌ) أي متعة وهي بقدر إمكان الزوج فقط عند مالك وعند الشافعي بقدرهما ، ويسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهما. قوله : (عَلَى الْمُتَّقِينَ) إنما قال هنا ذلك وقال فيما تقدم على المحسنين ، لأن بعض الأعراب حين نزلت الآية الأولى طلق زوجته ولم يمتعها وقال إن أردت أحسنت وإن أردت لم أحسن ، فنزلت حقا على المتقين. قوله : (بفعله المقدر) أي تقديره أحقه حقا. قوله : (إذ الآية السابقة في غيرها) أي وأما هذه فهي عامة في كل مطلقة ما عدا المطلقة قبل الدخول وأخذت نصف المهر ، المختلعة والمخيرة والمملكة عند مالك. قوله : (كما بين لكم ما ذكر) هذا وعد من الله ببيان كل شيء في القرآن ، ولذا قال الشافعي : لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في القرآن. قوله : (استفهام تعجيب) أي إيقاع في العجب ، والخطاب قيل للنبي ، وقيل لكل من

١٥٠

أُلُوفٌ) أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفا (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففروا (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) فماتوا (ثُمَّ أَحْياهُمْ) بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن واستمرت في أسباطهم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ومنه إحياء هؤلاء (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الكفار (لا يَشْكُرُونَ) (٢٤٣) والقصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال ولذا عطف عليه (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لإعلاء دينه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) (٢٤٤) بأحوالكم فمجازيكم (مَنْ ذَا الَّذِي

____________________________________

يصلح للخطاب وهو أولى. قوله : (وتشويق) أي إيقاعه في الشوق لأن ما سيق بعد الطلب ألذ مما سيق بلا تعب ، وعطف التشويق على التعجيب من عطف المسبب على السبب. قوله : (أي ينته علمك) أشار بذلك إلى أن ترى مضمن معنى ينته والحامل له على ذلك تصريح الله بالى. وإلا فرأى علمية تتعدى للمفعولين بنفسها. قوله : (ألفا) تمييز حذفه من الأول لدلالة الأخير عليه ، وقد ذكر المفسر ستة أقوال أصحها الثلاثة الأخيرة لأن ألوفا جمع كثرة ومبدؤه بعد العشرات. قوله : (مفعول له) أي لأجله وقد استوفى شروطه المذكورة في العربية. قوله : (ففروا) أخذت الأئمة من الآية النهي عن الخروج من بلد فيها الطاعون ، فقال مالك بالكراهية ، وقال الشافعي بالحرمة. قوله : (فماتوا) قدره المفسر لعطف قوله : (ثُمَّ أَحْياهُمْ) عليه ، وقوله : (فَقالَ لَهُمُ) قيل المراد على لسان ملك ، وقيل كناية عن سرعة الإيجاد. قوله : (بعد ثمانية أيام) أي حتى انتشرت عظامهم وذاب لحمهم (قوله حزقيل) هو الخليفة الثالث في بني إسرائيل بعد موسى ، لأن موسى لما حضرته الوفاة خلف يوشع بن نون ، فلما حضزته الوفاة خلف كالب ، ثم عند موته خلف حزقيل ويسمى ابن العجوز لأنه جاءها وهي عجوز ، ويلقب بذي الكفل لأنه كفل أي وقى سبعين نبيا من القتل. ورد أنه لما مر عليهم وهم موتى قال يا رب كنت في قوم يحمدونك ويهللونك ويكبرونك ، فبقيت وحدي لا قوم لي ، فأوحى الله إليه أن قل أيها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت العظام ، فأوحى الله إليه أن قل أيها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست ، ثم أمره الله أن يقول لها إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا قائلين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. إن قلت : كيف مات هؤلاء مرتين مع قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) قلت : إن الموت قبل استيفاء الأجل ، إما عقوبة كموت الذين سألوا الرؤية قبلهم ، أو عبرة كموت العزيز وحماره. قوله : (فعاشوا دهرا) أي مدة عمرهم. قوله : (أثر الموت) أي من الصفرة. قوله : (واستمرت في اسباطهم) أي أولادهم كما هو مشاهد في بعض اليهود. قوله : (ومنه إحياء هؤلاء) أي ليعتبروا ويظفروا بالسعادة. قوله : (تشجيع المؤمنين) أي حملهم على القتال. قوله : (ولذا عطف عليه) أي الخبر المذكور ، وقيل معطوف على قوله : (حافظوا على الصلوات) الآية ، وما بينهما اعتراض. قوله : (لإعلاء دينه) أي لا لغنيمة ولا لإظهار شجاعة ونحو ذلك. قوله : (وَاعْلَمُوا) الخ ، فيه وعد للمجاهدين ووعيد لمن تخلف عنهم. قوله : (فيجازيكم) أي على ما يعلم منكم الجزاء على حساب البواطن لا الظواهر.

قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي) يحتمل أن من اسم استفهام مبتدأ وذا خبر والذي بدل منها ويقرض صلة الموصول لا محل لها من الأعراب ، ويحتمل أن من ذا اسم استفهام مبتدأ والذي خبر ويقرض صلة

١٥١

يُقْرِضُ اللهَ) بإنفاق ماله في سبيل الله (قَرْضاً حَسَناً) بأن ينفقه لله عزوجل عن طيب قلب (فَيُضاعِفَهُ) وفي قراءة يضعفه بالتشديد (لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) من عشر إلى أكثر من سبعمائة كما سيأتي (وَاللهُ يَقْبِضُ) يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء (وَيَبْصُطُ) يوسعه لمن يشاء امتحانا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٤٥) في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ) الجماعة (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ

____________________________________

الموصول. قوله : (يُقْرِضُ اللهَ) أي يسلفه وهذا من تنزلات المولى لعباده ، حيث خاطبهم مخاطبة المحتاج المضطر ، مع إنه غني عنهم رحمة بهم على حد كتب ربكم على نفسه الرحمة ، وسماه هنا قرضا وفي آية براءة بيعا ، وفي الحقيقة لا بيع ولا قرض لان الملك كله له ، وحينئذ فليست مضاعفته على ذلك ربا لأنه لا تجري أحكام الربا بين السيد وعبده الحادثين لملكه له صورة ، فأولى بين السيد المالك القديم وعبده الذليل الضعيف الذي لا يملك شيئا أصلا فمن إحسانه عليه خلق ونسب إليه. قوله : (قَرْضاً) مفعول مطلق لقوله يقرض. قوله : (عن طيب قلب) أي لا رياء ولا سمعة بل ينفقه من حلال خالصا لله.

قوله : (فَيُضاعِفَهُ) بالرفع والنصب والتشديد والتخفيف قراءات أربع سبعية ، فالرفع عطف على يقرض ، والنصب بأن مضمرة بعد فاء السببية في جواب الاستفهام. قوله : (كما سيأتي) أي في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) الآية ، وكثرة المضاعفة على حسب الاخلاص قال عليه الصلاة والسّلام : «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي ، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه».

قوله : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) هذا كالدليل لما قبله ، أي إن الانفاق لا يقبض الرزق وعدمه لا يبسطه ، بل القابض الباسط هو الله. قوله : (ابتلاء) أي اختبارا هل يصيرون ولا يشكون أم لا. قوله : (امتحانا) أي هل يشكرون أم لا ، فالمطلوب من الإنسان أن يكون كما قال الشاعر :

استغن ما أغناك ربك بالغنى

وإذا تصبك خصاصة فتحمل

فلا يشكو ربه في حال فقره ، ولا يطغى في حال غناه ، قال أهل الاشارات : في الآية إشارة خفية إلى أن القبض لا بد وأن يعقبه بسط بخلاف العكس. قوله : (فيجازيكم بأعمالكم) أي فيثيب المنفق ويعذب الممسك.

قوله : (أَلَمْ تَرَ) ضمنت معنى ينتهي فعديت بإلى كما تقدم نظيره ، والاستفهام هنا نظير ما تقدم ، فالمقصود من ذكر هذه القصة العبرة حيث كانوا كثيرا ولم يوجد الصدق في غالبهم ، فالمعنى لا تكونوا يا أمة محمد كمن ذكروا في الجبن والمخالفة. قوله : (الجماعة) أي الأشراف لأنهم هم الذين يملأون العين هيبة وأنسا. قوله : (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) من تبعيضية. وحاصل مبدأ تلك القصة أنه عند وفاة موسى خلف الله على بني إسرائيل يوشع بن نون فقام بالخلافة حق قيام ، ثم لما مات تخلف عليهم كالب ثم حزقيل ثم الياس ثم اليسع فقاموا جميعا بالخلافة كمن قبلهم. ثم ظهرت لهم العمالقة وكانوا في بلد قريبة من بيت المقدس يقال لها فلسطين وهم من أولاد عمليق بن عاد ، فغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وزيادة وضربوا عليهم الجزية ، ولم يكن فيهم إذ ذاك نبي ولا ذرية نبي إلا امرأة حبلى من ذرية لاوى من أولاد يعقوب فولدت غلاما فسمته شمويل ، فلما كبر نبأه الله عليهم وأرسله إليهم ، ثم إنهم

١٥٢

بَعْدِ) موت (مُوسى) أي إلى قصتهم وخبرهم (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو شمويل (ابْعَثْ) أقم (لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ) معه (فِي سَبِيلِ اللهِ) تنتظم به كلمتنا ونرجع إليه (قالَ) النبي لهم (هَلْ عَسَيْتُمْ) بالفتح والكسر (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) خبر عسى والاستفهام لتقرير التوقع بها (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) بسببهم وقتلهم وقد فعل بهم ذلك قوم جالوت أي لا مانع لنا منه مع وجود مقتضيه قال تعالى (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) عنه وجبنوا (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين عبروا النهر مع طالوت كما سيأتي (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٢٤٦) فمجازيهم وسأل النبي ربه إرسال ملك فأجابه إلى إرسال طالوت (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى) كيف (يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) لأنه ليس من سبط المملكة ولا النبوة وكان دباغا أو راعيا (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) يستعين بها على إقامة الملك (قالَ) النبي لهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ) اختاره لذلك (عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً) سعة (فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) وكان أعلم بني إسرائيل يومئذ وأجملهم خلقا (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ

____________________________________

طلبوا منه ملكا يقيم أمرهم ويرشدهم لما فيه صلاحهم فأقام لهم طالوت إلى آخر ما قص الله.

قوله : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) من ابتدائية. قوله : (إلى قصتهم وخبرهم) بيان للمراد من الآية لأنه لا معنى لرؤية ذواتهم. قوله : (نُقاتِلْ) مجزوم في جواب الأمر. قوله : (والاستفهام لتقرير التوقع) والمعنى أترقب منكم عدم القيام بالقتال ، وقوله : (خبر عسى) أي واسمها التاء ، وقوله : (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) جملة معترضة بين اسمها وخبرها ، وجواب الشرط محذوف تقديره فلا تقاتلوا. قوله : (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) ما استفهامية بمعنى شيء مبتدأ ، ولنا متعلق بمحذوف خبر ، وأن مقدر قبلها الجار ، ولا بمعنى عدم ، ويكون المعنى أي شيء ثبت لنا في عدم القتال. قوله : (وَقَدْ أُخْرِجْنا) جملة حالية والمعنى أخرج أصولنا وأبناؤهم. قوله : (فعل بهم ذلك قوم جالوت) أي حين مات آخر نبي لهم وهو اليسع ، وضربوا عليهم الجزية وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وشيئا فضلا عن غيرهم. قوله : (أي لا مانع لنا منه) تفسير للمعنى المراد من الآية.

قوله : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) مرتب على محذوف تقديره فدعا شمويل ربه بذلك فبعث لهم مكلا وكتب عليهم القتال فلما كتب عليهم الخ. قوله : (وجبنوا) عطف تفسير وهو ترك القتال خوف الموت وسيأتي بيان جبنهم. قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) منصوبا على الاستثناء من الواو في تولوا وهو استثناء متصل ، وكان عدتهم ثلثمائة وثلاثة عشر. قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي منهم وهذا وعيد عظيم لمن جبن عن القتال. قوله : (كيف) تفسير لأنى والعامل فيها يكون. قوله : (لأنه ليس من سبط المملكة) أي لكونه لم يكن من ذرية يهوذا بن يعقوب ، وقوله : (ولا النبوة) أي لكونه لم يكن من ذرية لاوى بل هو من ذرية بنيامين أصغر أولاد يعقوب ، وكانت ذريته لا نبوة فيهم ولا مملكة ، بل أقيموا في الحرف الدنيئة من أجل معاصيهم. قوله : (سَعَةً) أصله وسع حذفت فاء الكلمة وهي الواو وعوض عنها تاء التأنيث كما في عدة وزنة ، وحذف في مضارعه لوقوعها بين عدوتيها لأن أصله يوسع. قوله : (وكان أعلم بني إسرائيل) أي فكان يحفظ التوراة ، وقوله : (وأتمهم خلقا) أي فكان يزيد على أهل زمانه بكتفيه ورأسه. قيل ورد أنه

١٥٣

مَنْ يَشاءُ) إيتاءه لا اعتراض عليه (وَاللهُ واسِعٌ) فضله (عَلِيمٌ) (٢٤٧) هو أهل له (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) لما طلبوا منه آية على ملكه (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) الصندوق كان فيه صور الأنبياء أنزل الله على آدم واستمر إليهم فغلبتهم العمالقة عليه وأخذوه وكانوا يستفتحون به على عدوهم ويقدمونه في القتال ويسكنون إليه كما قال الله تعالى (فِيهِ سَكِينَةٌ) طمأنينة لقلوبكم (مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) أي تركاهما وهي نعلا موسى وعصاه وعمامة هرون وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم ورضاض من الألواح (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) حال من فاعل يأتيكم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) على ملكه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٤٨) فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت فأقروا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد

____________________________________

لما دعا شمويل ربه أن يبعث لهم ملكا أعطاه الله قرنا فيه طيب ويسمى طيب القدس وعصا ، وأوحى إليه إذا دخل عليك رجل اسمه طالوت فانظر في القرن فإذا فار فادهن رأسه به وقسه بالعصا ، فإذا جاء طولها فهو الملك فلما دخل عليه فعل به كما أمر فإذا هو طولها ، ثم دهن رأسه بذلك الدهن وقال له إن الله جعلك ملكا على بني إسرائيل ، فقال كيف ذلك مع أني أدنى منهم فقال له : الله يؤتي ملكه من يشاء. قوله : (عَلِيمٌ) (بمن هو أهل له) أي فلا حرج عليه في فعل ولا ترك.

قوله : (قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) أي حين استبعدوا مجيء الملك له. قوله : (لما طلبوا منه آية) لما بمعنى حين ظرف لقوله قالوا أي وقع منهم القول وقت طلبهم منه آية. قوله : (الصندوق) ويقال بالزاي والسين وكل من الثلاثة إما مفتوح أو مضموم أفصحها بالصاد مع الضم ، وكان من خشب الشمشار وطوله ثلاثة أذرع ، وعرضه ذراعان مموه بالذهب ، وكان عند آدم فيه صور الأنبياء جميعهم ، وفيه صورة محمد وبيته وأصحابه وقيامه يصلي بينهم ، ثم توارثه ذرية آدم إلى أن وصل لموسى فكان يضع فيه التوراة ووضع فيه بقية الألواح التي تكسرت ، ثم أخذه بنو إسرائيل بعد موسى ، وكانوا إذا خرجوا للقتال يقدمونه بين أيديهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق رؤوس المتقاتلين ، ثم يشرعون في القتال فإذا سمعوا صيحة تيقنوا النصر ، فلما انقرضت أنبياؤهم سلط الله عليهم العمالقة بسبب فسادهم فأخذوا منهم الصندوق وجعلوه في موضع البول والغائط ، فلما أراد الله إظهار ملك طالوت سلط عليهم البلاء ، فكان كل من بال عنده ابتلي بالبواسير ، حتى خرجت خمس بلاد من بلادهم ، فلما كبر خوفهم منه أخرجوه للخلاء ، ثم حملته الملائكة وأتت به طالوت. قوله : (أنزل الله على آدم) أي ثم توارثه ذريته من بعده. قوله : (فغلبتهم العمالقة) أي بعد موت أنبيائهم. قوله : (وكانوا يستفتحون به) أي يطلبون الفتح والنصر به. قوله : (ويسكنون إليه) أي يطمئنون بقدومه على العدو. قوله : (طمأنينة لقلوبكم) أي ففي للسببية فالمعنى أن السكينة تحصل بسببه ومن أجله ، وقيل المراد بالسكينة صورة من زبرجد على صورة الهرة غير أن لها جناحين فإذا صوتت في الصندوق استبشروا بالنصر ، وقيل المراد بالسكينة صورة الأنبياء ، فالظرفية على بابها. قوله : (أي تركاهما) بيان للمراد من الآية فأطلق الآل وأراد منه نفس موسى وهارون ، وكثيرا ما يطلق آل الرجل على الرجل نفسه. قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي إتيان التابوت على الوصف المذكور. قوله : (فاختار من شبابهم) أي الذين لا شاغل لهم دنيوي لأنه

١٥٤

فاختار من شبابهم سبعين ألفا (فَلَمَّا فَصَلَ) خرج (طالُوتُ بِالْجُنُودِ) من بيت المقدس وكان حرا شديدا وطلبوا منه الماء (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ) مختبركم (بِنَهَرٍ) ليظهر المطيع منكم والعاصي وهو بين الأردن وفلسطين (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) أي من مائه (فَلَيْسَ مِنِّي) أي أتباعي (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) يذقه (فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) بالفتح والضم (بِيَدِهِ) فاكتفى بها ولم يزد عليها فإنه مني (فَشَرِبُوا مِنْهُ) لما وافوا بكثرة (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) فاقتصروا على الغرفة روي أنها كفتهم لشربهم ودوابهم وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وهم الذين اقتصروا على الغرفة (قالُوا) أي الذين شربوا (لا طاقَةَ) قوة (لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي بقتالهم وجبنوا ولم يجاوزوه (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يوقنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) بالبعث وهم الذين جاوزوه (كَمْ) خبرية بمعنى كثير (مِنْ فِئَةٍ) جماعة (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢٤٩) بالعون والنصر (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي ظهروا لقتالهم

____________________________________

كان لا يأخذ من كان عنده بناء لم يتم ، ومن عقد على زوجة ولم يدخل بها ، ومن كان مشغولا بتجارة. قوله : (سبعين ألفا) (١) وقيل ثمانون ألفا وقيل مائة ألف وعشرون ألفا.

قوله : (فَلَمَّا فَصَلَ) أي انفصل وهو مرتب على محذوف تقديره فجمعهم. قوله : (وهو بين الأردن) بفتح الهمزة وسكون الراء وضم الدال وتشديد النون ، موضع قريب من بيت المقدس ، وقوله : (وفلسطين) بفتح الفاء وكسرها وفتح اللام لا غير ، قال بعضهم إنه قرية ، وقال بعضهم إنه عدة قرى قرب بيت المقدس.

قوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) أي بكثرة بدليل ما بعده ، وهذا النهر باق يجري إلى الآن بين الخليل وغزة. قوله : (يذقه) أشار بذلك إلى أن الطعم بمعنى الذوقان ، يطلق على المأكول والمشروب. قوله : (بالفتح والضم) قراءتان سبعيتان بمعنى الشيء المغروف ، وقيل بالفتح اسم للاغتراف وبالضم اسم للشيء المغروف ، وقيل بالفتح والضم بمعنى المصدر أشهرها أوسطها. قوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) استثناء من قوله فشربوا منه المقيد بالكثرة ، فالمعنى إلا قليلا شربوا منه بقلة ، فيؤخذ منه أن الجميع شربوا لكن أكثرهم شرب بكثرة ، وأقلهم شرب منه بقلة. قوله : (وبضعة عشر) البضعة من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر ، لكن المراد هنا ثلاثة عشر كما في أكثر الروايات وهم عدة غزوة بدر.

قوله : (فَلَمَّا جاوَزَهُ) أي تعداه. قوله : (وَجُنُودِهِ) قيل عدتهم مائة الف شاكى السلاح وقيل أكثر ، وكان طول جالوت ميلا وخوذته التي على رأسه ثلثمائة رطل. قوله : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) استشكل بأن من شرب كثيرا مؤمنون أيضا ، وأجيب بأنهم صلب إيمانهم بكثرة شربهم ، وأجيب أيضا بان المراد يظنون أنهم ملاقوا الله أي بالموت في تلك الواقعة فلا أمل لهم في الحياة. قوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) قيل من كلامهم من كلام الله بشارة لهم ، والمراد معية معنوية خاصة. قوله : (أي ظهروا

١٥٥

وتصافوا (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ) اصبب (عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) بتقوية قلوبنا على الجهاد (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٥٠) (فَهَزَمُوهُمْ) كسروهم (بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته (وَقَتَلَ داوُدُ) وكان في عسكر طالوت (جالُوتَ وَآتاهُ) أي داود (اللهُ الْمُلْكَ) في بني إسرائيل (وَالْحِكْمَةَ) النبوة بعد موت شمويل وطالوت ولم يجتمعا لأحد قبله (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كصنعة الدروع ومنطق الطير (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ) بدل بعض من الناس (بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) بغلبة المشركين وقتل المسلمين وتخريب المساجد (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) فدفع بعضهم

____________________________________

لقتالهم) أي فلم يبق بينهم حجاب أبدا ، بل خرجوا في البراز الذي هو صحراء الأرض. قوله : (اصبب) (عَلَيْنا صَبْراً) أي كصب الماء على الأرض الجرز.

قوله : (وَقَتَلَ داوُدُ) أي ابن أيشا وكان أيشا من جملة عسكر طالوت ، وكان أولاده ثلاثة عشر معه أصغرهم داود وكان يرعى الغنم ، فلما خرجوا للقتال مر داود بحجر فناداه يا داود احملني فإني حجر هارون ، فحمله ثم مر بآخر فقال له احملني فإني حجر موسى فحمله ، ثم مر بآخر فقال له احملني فإني حجرك الذي تقتل به جالوت فحمله ، ووضع الثلاثة في مخلاته ، فلما تصافوا للقتال نادى طالوت كل من يقتل جالوت أزوجه ابنتي وأناصفه في ملكي ، فلم يتقدم أحد ، فسأل طالوت شمويل فدعا ربه فأتى بقرن فيه دهن وقيل له إن الذي يقتل جالوت هو الذي إذا وضع الدهن على رأسه لا يسيل على وجهه ، فدعا طالوت القوم فصار يدهن رؤوسهم فلم تصادف تلك الصفة أحدا ، إلى أن وصل لداود فصادف ، فقال له أنت تبرز له؟ فقال نعم ، فأتى بالمقلاع وأخرج حجرا من مخلاته وقال باسم رب إبراهيم ، وأخرج حجرا آخر وقال باسم رب إسحاق ، وأخرج حجرا آخر وقال باسم رب يعقوب ، ثم وضعها في مقلاعه فصارت الثلاثة حجرا واحدا ، فرمى به جالوت فأصابه في خوذته وخرج من دماغه فقتل ثلاثين رجلا ، فأخذ داود جالوت حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح هو ومن معه من بني إسرائيل وزوجه ابنته وأعطاه نصف الملك ، فمكث كذلك أربعين سنة ، فلما مات طالوت وشمويل انفرد فعاش نبيا ملكا سبع سنين ، ثم خلفه سليمان ولده في النبوة والملك. قوله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي استقلالا سبع سنين. قوله : (كصنعة الدروع) أي وكان يلين في يده من غير نار وينسجه كالغزل. قوله : (ومنطق الطير) أي فهم أصواتها بل وجميع الحيوانات.

قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) أي لو لا أن الله دفع الناس وهم أهل الكفر والمعاصي ، ببعض الناس وهم أهل الإيمان والطاعة ، لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد ، وقيل معناه لو لا دفع الله بالمؤمنين والأبرار على الكفار والفجار لفسدت الأرض أي هلكت ومن فيها ، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر ، وبالصالح عن الفاجر ، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيت من جيرانه البلاء» ثم قرأ (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) الآية. قوله : (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) يعني دفع الفساد على هذا الوجه بطريق إنعام الله وتفضله فعم الناس كلهم ، ومن المعلوم أن لو لا حرف امتناع لوجود فالمعنى امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم عن بعضهم ، وهذه الآية كالدليل لما ذكر في القصة من مشروعية القتال ،

١٥٦

ببعض (تِلْكَ) أي هذه الآيات (آياتُ اللهِ نَتْلُوها) نقصها (عَلَيْكَ) يا محمد (بِالْحَقِ) بالصدق (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢٥٢) التأكيد وغيرها رد لقول الكفار له لست مرسلا (تِلْكَ) مبتدأ (الرُّسُلُ) صفة ، والخبر (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) كموسى (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ) أي محمدا (دَرَجاتٍ) على غيره بعموم الدعوة وختم النبوة وتفضيل أمته على سائر الأمم والمعجزات المتكاثرة والخصائص العديدة (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ) قويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبريل يسير معه حيث سار (وَلَوْ شاءَ اللهُ) هدى

____________________________________

ونصر داود على جالوت. قوله : (هذه الآيات) أي فالإشارة عائدة على ما تقدم من أول الربيع إلى آخره لما فيه من عظيم العجائب والإشارة في الآية للبعد نظرا لبعد زمن تلك القصة ، وإنما فسره بالقريب نظرا للفظ الدال عليها ، فأفاد المفسر أنه يصح إرادة المعنيين ، فلا مخالفة بين إشارة الآية وإشارة المفسر. قوله : (بالصدق) أي الذي لا يحتمل النقيض. قوله : (وغيرها) أي وهي اللام والجملة الأسمية.

قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ) اسم الإشارة عائد على الرسل المذكورين من أول السورة إلى هنا أو على المذكورين بلصقها ، وأتى بالإشارة البعيدة نظرا لبعد زمنهم أو لبعد رتبتهم وعلوها عند الله. قوله : (صفة) أي أو عطف بيان أو بدل لأن المحلى بأل بعد اسم الإشارة يجوز فيه الثلاثة. قوله : (بتخصيصه بمنقبه) أي بصفة الكمال وذلك بفضل الله لا بصفة قائمة بذاته بحيث تقتضي التخصيص بالمناقب لذاته ، قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء. قوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) بيان للتفضيل ، وقوله : (كلم الله) أي كلمة الله بغير واسطة. قوله : (كموسى) أي في الطور ليلة الإسراء ، وإنما لم يشتهر بالكلام لأنه حاز منصبا أشرف من المكالمة وهي الرؤية. قوله : (أي محمدا) مثل هذا التفسير لا يقال من قبل الرأي بل هو الوارد ، وقد أشار لذلك العارف بقوله :

وإن ذكروا نجي الطور فاذكر

نجي العرش مفتقرا لتغنى

فإن الله كلم ذاك وحيا

وكلم ذا مشافهة وأدنى

وإن قابلت لفظة لن تراني

بما كذب الفؤاد فهمت معنى

فموسى خر مغشيا عليه

وأحمد لم يكن ليزيغ ذهنا

قوله : (بعموم الدعوة) أي لجميع المخلوقات حتى الجمادات والملائكة والجن ، ولا يرد حكم سليمان في الجن فإنه حكم سلطنة لا رسالة. قوله : (وختم النبوة) أي فلا نبي بعده تبتدأ رسالته ويلزم من ذلك نسخ شرعه. قوله : (وتفضيل أمته على سائر الأمم) قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وأما قوله تعالى في حق بني إسرائيل : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) فالمراد عالمو زمانهم. قوله : (والمعجزات المتكاثرة) أي الكثيرة التي لا تحصى بحد ولا عد ، قال العارف البوصيري :

إنما فضلك الزمان وآيا

تك فيما نعده الآناء

قوله : (والخصائص العديدة) أي كالحوض المورود والمقام المحمود والوسيلة وغير ذلك قوله : (الْبَيِّناتِ) أي كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. قوله : (يسير معه حيث سار) أي من مبدأ خلقه لأن خلقه كان

١٥٧

الناس جميعا (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد الرسل أي أممهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) لاختلافهم وتضليل بعضهم بعضا (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) لمشيئة ذلك (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) ثبت على إيمانه (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) كالنصارى بعد المسيح (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) تأكيد (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣) من توفيق من شاء وخذلان من شاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) زكاته (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ) فداء (فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) صداقة تنفع (وَلا شَفاعَةٌ) بغير إذنه وهو يوم القيامة وفي قراءة برفع الثلاثة (وَالْكافِرُونَ) بالله أو بما فرض عليهم (هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤) لوضعهم أمر الله في غير محله (اللهُ لا إِلهَ) أي لا معبود بحق في الوجود (إِلَّا هُوَ الْحَيُ) الدائم

____________________________________

على يده. قوله : (هدى الناس) مفعول لشاء ، وقوله : (مَا اقْتَتَلَ) جواب لو ، وهو إشارة لقياس استثنائي نظمه أن تقول لو شاء الله هدى الناس جميعا ما اقتتل الذين من بعد الرسل ولكنهم اقتتلوا فلم يشأ الله هداهم جميعا. قوله : (بعد الرسل) أي بعد مجيئهم. قوله : (أي أممهم) تفسير للذين ، وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ) متعلق باقتتل وما مصدرية أي من بعد مجيء البينات لهم. قوله : (لاختلافهم) علة للاقتتال.

قوله : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) هذا استثناء لنقيض التالي فينتج نقيض المقدم ، وهو لم يشأ الله هداهم لكنه عبر بالسبب وهو الاختلاف عن المسبب وهو الاقتتال. قوله : (لمشيئة ذلك) أي فلو شاء هداهم لم يختلفوا ولم يقتتلوا ، فالحق واضح ظاهر ، وإنما كفر من كفر بإرادة الله عدم إيمانه فالعبد مجبور في قالب مختار. قوله : (ثبت على إيمانه) أي بإرادة الله. قوله : (زكاته) قدره إشارة إلى أن المراد الانفاق الواجب بدليل الوعيد العظيم ونحو الزكاة كل نفقة واجبة. قوله : (بغير إذنه) أشار بذلك إلى أن الآية المطلقة فتحمل على المقيدة وهي قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية. قوله : (برفع الثلاثة) أي على أن لا نافية مهملة أو عاملة عمل ليس ، لأنها إذا تكررت جاز إعمالها وإلغاؤها ، وأما على القراءة الأولى فهي عاملة عمل إن تنصب الاسم وترفع الخبر. قوله : (بالله) أي فهو كفر حقيقي ، وقوله : (أو بما فرض عليهم) أي بالتفريط في الفرائض وهو كفر مجازي.

قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذه الآية تسمى آية الكرسي وهي أفضل أي القرآن ، لأن التوحيد الذي استفيد منها لم يستفد من آية سواها ، لأن الشيء يشرف بشرف موضوعه ، فإنها اشتملت على أمهات المسائل الدالة على ثبوت الكمالات لله ونفي النقائض عنه تعالى ، وورد في فضلها من الأحاديث الكثيرة ما يجل عن الحصر ، منها من قرأها عند خروجه من بيته كان في ضمان الله حتى يرجع ، ومنها من قرأها دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ومنها ما قرئت في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوما ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ، يا علي علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها ، ومنها من قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله ، ومنها سيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي ، ومنها ما ورد أنه نزل جبريل على موسى وقال له ربك يقول لك من قال عقب كل صلاة اللهم إني أقدم إليك بين يدي كل نفس ولمحة وطرفة يطرف بها أهل السموات وأهل الأرض وكل شيء هو في علمك كائن أو قد كان أقدم إليك بين يدي ذلك كله الله لا إله إلا هو الحي القيوم إلى آخرها ، فإن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ليس منها ساعة إلا ويصعد إلى

١٥٨

البقاء (الْقَيُّومُ) المبالغ في القيام بتدبير خلقه (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) نعاس (وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا (مَنْ ذَا الَّذِي) أي لا أحد (يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) له فيها (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي الخلق (وَما خَلْفَهُمْ) أي من أمر الدنيا والآخرة (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ

____________________________________

الله منه فيها سبعون ألف ألف حسنة ، حتى ينفخ في الصور وتشتغل الملائكة ، وأخذ العارفون منها فوائد جمة منها من فرأها عقب كل صلاة أربع عشرة عدة فصولها أحبه العالم العلوي والسفلي ، ومن قرأها عدة الرسل ثلاثمائة وثلاث عشرة فرج الله عنه وأزال عنه ما يكره ، ومنها من قرأها عدد حروفها وهي مائة وسبعون حرفا لا يطلب منزلة إلا وجدها ولا سعة إلا نالها ولا فرجا من سائر الشدائد إلا حصل ، ومنها أنه إذا سقي المبطون حروفها مقطعة شفي بإذن الله ، ومنها من كتبها عدد كلماتها وهي خمسون كلمة وحملها أدرك غرضه من عدوه وحاسده ، وإن كان للمحبة والألفة نال مقصوده ، وتسميتها آية الكرسي من باب تسمية الشيء باسم جزئه لذكره فيها. قوله : (الدائم البقاء) أي فحياته ذاتية له.

قوله : (الْقَيُّومُ) هو من صيغ المبالغة وإن لم تكن من الصيغ المشهورة. قوله : (المبالغ في القيام بتدبير خلقه) أي فلا يشغله شأن عن شأن (ولا تخفى عليه خافية) أبدا سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ، ومن هو مستخف بالليل وسارب النهار ، وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ، فقوم السماء وزينها ، وبسط الأرض وجملها ، وأرضى كل إنسان بما قسم له من غير تعب يحصل له من ذلك ، قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ).

قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) هذا من صفات السلوب والسنة هي النوم في العين وهي نوم الأنبياء. قوله : (وَلا نَوْمٌ) عرف بأنه فترة طبيعية تهجم على الشخص قهرا عليه ، تمنع حواسه الحركة وعقله الإدراك ، إن قلت حيث كان منزها عن السنة فهو منزه عن النوم بالأولى أجيب بأنه زيادة في الإيضاح ، وأجيب أيضا بأنه ذكر النوم لأنه ربما يتوهم من كونه يهجم قهرا أنه يغلبه فلا يلزم من نفي السنة نفي النوم وهذا هو الأثم ، لأنه لا يلزم من نفي الأخف نفي الأثقل. إن قلت : إن الملائكة أيضا لا تأخذهم سنة ولا نوم فليس في ذكر هذه الصفة مزيد مزية. أجيب : بأن تنزه الملائكة عن النوم من إخبار الله فقط ، وإلا فالعقل يجوزه عليهم بخلاف تنزه الله عنه ، فالدليل العقلي قائم على تنزهه عنه. قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كالدليل لما قبله ، وأتى بما تغليبا لغير العاقل لكثرته. قوله : (ملكا (بضم الميم معناه التصرف ، وقوله وخلقا أي إيجادا ، وقوله وعبيدا أي مملوكين له (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) ولا نزاع في كون السموات والأرض ملكا لله ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) وفي ذلك رد على الكفار حيث أثبتوا له شريكا ، فكأن الله يقول لهم ما أشركتموه لا يخرج عن السموات والأرض ، وشأن الشريك أن يكون مستقلا خارجا عن مملكة الشريك الآخر.

قوله : (مَنْ ذَا) اسم استفهام مبتدأ و (الَّذِي) خبره وهو استفهام إنكاري بمعنى النفي ، أي لا شفيع في أحد يستحق النار يشفع عنده بغير مراده. قوله : (أي لا أحد) تفسير للاستفهام الإنكاري. قوله : (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي مراده. قوله : (أي من أمر الدنيا) راجع لقوله ما بين أيديهم ، وقوله : (والآخرة) راجع لقوله : (وَما خَلْفَهُمْ) فهو لف ونشر مرتب ويصح العكس فيكون لفا ونشرا مشوشا ،

١٥٩

مِنْ عِلْمِهِ) أي لا يعلمون شيئا من معلوماته (إِلَّا بِما شاءَ) أن يعلمهم به منها باخبار الرسل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قيل أحاط علمه بهما وقيل الكرسي نفسه مشتمل عليهما لعظمته لحديث» ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس» (وَلا يَؤُدُهُ) يثقله (حِفْظُهُما) أي السموات والأرض (وَهُوَ الْعَلِيُ) فوق خلقه بالقهر (الْعَظِيمُ) (٢٥٥) الكبير (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) على الدخول فيه (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي ظهر بالآيات البينات أن الإيمان رشد والكفر غي نزلت فيمن كان له من الأنصار أولاد أراد أن يكرههم على الإسلام

____________________________________

والأقرب أن يقال المراد بما بين أيديهم ما يستقبل من الدنيا والآخرة ، وقوله وما خلفهم ما انقضى من أمر الدنيا ، فعلم أمر الدنيا والآخرة مستو عنده بخلاف المخلوقات ، قال الشاعر :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عمي

قوله : (أي لا يعلمون شيئا من معلوماته) دفع بذلك ما يتوهم أن علم الله يتجزأ مع أنه ليس كذلك ، وما يتوهم أيضا أنه يشاء إطلاع أحد على علمه مع أنه مستحيل ، إذ ليس في طاقة الحادث اطلاع على حقيقة القديم ولا صفاته ، سبحان من لا يعلم قدره غيره ، ولا يبلغ الواصفون صفته. قوله : (منها) أي من معلوماته. قوله : (بأخبار الرسل) أي فلا يصل لأحد علم إلا بواسطة الأنبياء ، فالأنبياء وسائط لأممهم في كل شيء ، وواسطتهم رسول الله ، قال العارف : اللهم صل على من منه انشقت الأسرار ، وانفلقت الأنوار ، وفيه ارتقت الحقائق ، وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق. قوله : (وقيل أحاط علمه بهما) أي فالكرسي بضم الكاف وكسرها يطلق على العلم ، كما يطلق على السرير الذي يجلس عليه. قوله : (وقيل الكرسي نفسه) أي وهو مخلوق عظيم فوق السماء السابعة ، يحمله أربعة ملائكة ، لكل ملك أربعة أوجه أرجلهم تحت الصخرة التي تحت الأرض السابعة ، وتحت الأرض السفلى ملك على صورة آدم يسأل الرزق لبني آدم ، وملك على صورة الثور يسأل الرزق للبهائم ، وملك على صورة السبع يسأل الرزق للوحوش ، وملك على صورة النسر يسأل الرزق للطيور ، بينهم وبين حملة العرش سبعون حجابا من ظلمه ، وسبعون حجابا من نور ، سمك كل حجاب خمسمائة سنة ، وذلك لئلا تحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش ، وخلق العرش والكرسي من حكم الله لا لاحتياج لهما. قال صاحب الجوهرة :

والعرش والكرسي ثم القلم

والكاتبون اللوح كل حكم

قوله : (في ترس) هو ما يتترس به عند الحرب ، وهو المسمى بالدرقة. قوله : (وَلا يَؤُدُهُ) أي الله وهو ظاهر ، أو الكرسي وهو أبلغ ، لأنه إذا لم تثقل السموات والأرض مع عظمها الكرسي مع أنه مخلوق فكيف بخالقه. قوله : (وَهُوَ الْعَلِيُ) أي المنزه عن صفات الحوادث فهو من صفات السلوب. قوله : (الْعَظِيمُ) أي المتصف بالعظم وقدم العلي عليه لأنه من باب تقديم التخلية على التحلية. قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قيل إن من هنا إلى خالدون من تمام آية الكرسي ، وقيل ليست منها وهو الحق ، وإنما ذكرت عقبها كالنتيجة لما ذكر فيها من خالص التوحيد ، والمعنى لا يكره أحد أحدا على الدخول في الإسلام ، فإن الحق والباطل ظاهران لكل أحد فلا ينفع الاكراه ، قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). قوله : (أي ظهر بالآيات البينات) أي الدلائل الظاهرة على باهر قدرته وعظيم حكمته ، قال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. قوله : (فيمن كان له من الأنصار أولاد) أي وهو

١٦٠