حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

استمتع (بِالْعُمْرَةِ) أي بسبب فراغه منها بمحظورات الاحرام (إِلَى الْحَجِ) أي إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره (فَمَا اسْتَيْسَرَ) تيسر (مِنَ الْهَدْيِ) عليه وهو شاة بذبحها بعد الاحرام به والأفضل يوم النحر (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدي لفقده أو فقد ثمنه (فَصِيامُ) أي فعليه صيام (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي في حال الإحرام به فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة والأفضل قبل السادس لكراهة صوم يوم عرفة ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) إلى وطنكم مكة أو غيرها وقيل إذا فرغتم من أعمال الحج وفيه التفات عن الغيبة (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) جملة تأكيد لما قبلها (ذلِكَ) الحكم المذكور من وجوب الهدي أو الصيام على من تمتع (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي فإن كان فلا دم عليه ولا صيام وإن ، تمتع وفي ذكر الأهل إشعار باشتراط الاستيطان فلو أقام قبل أشهر الحج ولم يستوطن وتمتع فعليه ذلك وهو أحد وجهين عند الشافعي والثاني لا ، والأهل كناية عن النفس وألحق بالمتمتع فيما ذكر بالسنة القارن وهو من أحرم بالعمرة

____________________________________

لغير عذر وألحق بذلك من قلم أظافره ، وأما الوطء وتقبيل الزوجة فكذا عند الشافعي وعند مالك وفيه هدى.

قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) أي ابتداء وانتهاء. قوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ) حاصل ما في المقام أن الشخص إذا كان مفردا فإنه لا شيء عليه ، وأما إذا كان قارنا أو متمتعا فعليه دم. قوله : (أي بسبب فراغه منها دفع بذلك ما يقال إن العمرة فيها مشقة ولا تمتع فيها. قوله : (إِلَى الْحَجِ) أي تمتع من فراغه من العمرة واستمر على ذلك إلى الإحرام بالحج. قوله : (تيسر) من قوله : (الْهَدْيِ) أي وأفضل الهدايا الإبل ثم البقر ثم الغنم.

قوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي فهو على الترتيب ، وهذا الدم يلزم بشروط أربعة : الأول : أن لا يكون أهله بالمسجد الحرام. الثاني : أن يكون تحلله من العمرة في أشهر الحج. الثالث : أن يحج في عامه. الرابع : أن لا يرجع إلى بلده أو مثلها ، وقال الشافعي أن لا يرجع إلى الميقات. قوله : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) محل ذلك إن كان النقص قبل الوقوف وإلا صام العشرة متى شاء. قوله : (قبل السابع) أي ليصوم الثلاثة الأيام ، وما مشى عليه المفسر قول ضعيف في مذهب الشافعي ، والمعتمد أنه لا يجب عليه ذلك ، لأنه لا يجب عليه تحصيل سبب الوجوب ، ووافقه مالك على ذلك. قوله : (على أصح قولي الشافعي) وقال مالك بجواز صومها. قوله : (وفيه التفات عن الغيبة) أي مع مراعاة معنى من قوله : (تأكيد لما قبلها) أي لدفع توهم الكثرة في العدد ، وقوله : (كامِلَةٌ) أي في الثواب كالهدي وفيه تسلية الفقير العاجز عن الهدي. قوله : (عند الشافعي) أي وعند مالك لا ينتفي الهدي إلا عمن كان متوطنا بأرض الحرم ، فيشمل أهل منى ومزدلفة. قوله : (وهو أحد وجهين عند الشافعي) أي وهو مذهب مالك. قوله : (والأهل كناية عن النفس) أي فعلى هذا يكون معنى الآية ذلك لمن أي لمحرم لم يكن أهله أي نفسه حاضري المسجد الحرام وهذا معنى بعيد ، فالأولى ما قاله غيره من أن المراد بالأهل الزوجة والأولاد الذين تحت حجره دون الآباء والإخوة ، ومعدوم الأهل المتوطن بنفسه كذلك ، وإنما عبر بالأهل لكون شأن

١٢١

والحج معا أو يدخل الحج عليها قبل الطواف (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٩٦) لمن خالفه (الْحَجُ) وقته (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) شوال وذو العقدة وعشر ليال من ذي الحجة وقيل كله (فَمَنْ فَرَضَ) على نفسه (فِيهِنَّ الْحَجَ) بالاحرام به (فَلا رَفَثَ) جماع فيه (وَلا فُسُوقَ) معاص (وَلا جِدالَ) خصام (فِي الْحَجِ) وفي قراءة بفتح الأولين والمراد في الثلاثة النهي (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) كصدقة (يَعْلَمْهُ اللهُ) فيجازيكم به ونزل في أهل اليمن

____________________________________

المتوطن يكون بذلك. قوله : (القارن) أي ويطوف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا عند مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة لا بد لهما من طوافين وسعيين. قوله : (فيما يأمركم به إلخ) أي وخصوصا في الحج والعمرة. قوله : (وقته) إنما قدره لأن الحج عمل والأشهر زمن ولا يخبر عن العمل بالزمن.

قوله : (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) هذه الآية مقيدة لآية قل هي مواقيت للناس والحج ، لأن المتبادر منها أن الأهلة كلها مواقيت الحج ، فأفاد بهذه الآية أن الحج له زمن معلوم يؤدى فيه ، وأما العمرة فوقتها السنة كلها ما لم يكن متلبسا بالحج ، وإلا فلا يعتمر حتى يفرغ منه. قوله : (وعشر ليال من ذي الحجة) أي فالجمع في الآية لما فوق الواحد أو باعتبار جبر الكسر. قوله : (وقيل كله) أي فالجمع على حقيقته وبذلك قال مالك ، والمعنى على ما قال مالك أن له التحلل في ذي الحجة بتمامه ولا يلزمه دم إلا بدخول الحرم ، لا أن المعنى أن يبتدىء الإحرام به بعد فجر النحر ، فإن ذلك لم يقله مالك ولا غيره ممن يعتد به ، فالحاصل أن الحج له ميقاتان مكاني وزماني ، فالمكاني ما أشار له بعضهم بقوله :

عرق العراق يلملم اليمن

وبذي الحليفة يحرم المدني

والشام جحفة إن مررت بها

ولأهل نجد قرن فاستبن

والزماني لابتداء الإحرام به شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة ، وأما لإنتهاء التحليل منه فبقية ذي الحجة. قوله : (فَمَنْ فَرَضَ) (على نفسه) أي ألزم نفسه الدخول في أفعال الحج بأن أحرم به ، وسواء كان فرضا عليه قبل ذلك أو لا. قوله : (فِيهِنَ) أي الشهرين والعشر ليال ، وأما في غير هذه الأشهر فقال مالك ينعقد ويكره وقال غيره لا ينعقد. قوله : (فَلا رَفَثَ) في الآية ثلاث قراءات غير شاذة ، الأولى برفع الجميع مع التنوين ، الثانية برفع الأولين وبناء الثالث على الفتح ، الثالثة بناء الثلاثة على الفتح ، وقرىء شاذا بنصب الثلاثة. قوله : (معاص) أي بأي وجه من أوجه المعاصي والنهي عنها وإن كان عاما إلا أنه في الحج أشد. قوله : (وَلا جِدالَ) هو مقابلة الحجة بالحجة لنصرة الباطل ، وأما لنصرة الحق فلا بأس بذلك. قوله : (فِي الْحَجِ) أظهر في مقام الإضمار اهتماما بشأنه. قوله : (بفتح الأولين) أي مع الثالث. قوله : (والمراد في الثلاثة النهي) أي لا الإخبار وإنما أتى بها على صورة الأخبار ، إشارة إلى أنه لا ينبغي أن ييقع ذلك والتعبير على النهي بصورة الخبر أبلغ في الإنزجار.

قوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) إن قلت إن الله كما يعلم الخير من العبد يعلم الشر منه ، أجيب بأن شأن الله ستر الشر عن العبيد فلا يظهره عليهم ، بخلاف الخير فيظهره للخلائق لما في الحديث : «إذا تاب العبد أنسى الله الحفظة ذنوبه وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه حتى يأتي يوم القيامة وليس عليه شاهد بذنب» وأيضا الآية مسوقة في أفعال الحج وكلها خير. قوله : (ونزل في أهل اليمن) أي وكانوا

١٢٢

وكانوا يحجون بلا زاد فيكونون كلا على الناس (وَتَزَوَّدُوا) ما يبلغكم لسفركم (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) ما يتقى به سؤال الناس وغيره (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٧) ذوي العقول (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) في (أَنْ تَبْتَغُوا) تطلبوا (فَضْلاً) رزقا (مِنْ رَبِّكُمْ) بالتجارة في الحج نزل ردا لكراهتهم ذلك (فَإِذا أَفَضْتُمْ) دفعتم (مِنْ عَرَفاتٍ) بعد الوقوف بها (فَاذْكُرُوا اللهَ) بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) هو جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح وفي الحديث «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدا» رواه مسلم (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) لمعالم دينه ومناسك حجه والكاف للتعليل (وَإِنْ) مخففة (كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) قبل هداه (لَمِنَ الضَّالِّينَ) (١٩٨) (ثُمَّ أَفِيضُوا) يا قريش (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من عرفة بأن تقفوا بها

____________________________________

حديثي عهد بإسلام ويزعمون أنهم متوكلون. قوله : (كلا على الناس) أي عالة. قوله : (وغيره) أي كالغصب والسرقة. قوله : (نزل ردا لكراهتهم ذلك) أي فلا بأس بالتجارة بالحج إذا كانت لا تشغله عن أفعاله ، واختلف هل التجارة تنقص ثواب الحج أو لا ، قال بعضهم إن كانت التجارة أكبر همه ومبلغ علمه سقط الفرض عنه وليس ثوابه كمن لا قصد له إلا الحج ، وإن استوى الأمران فلا يذم ولا يمدح وإن كانت التجارة تبعا للحج فقد حاز خير الدنيا والآخرة.

قوله : (مِنْ عَرَفاتٍ) هو مصروف ويصح منعه من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه علم على البقعة. قوله : (بعد الوقوف بها) أعلم أن الركن عند مالك إدراك جزء من الليل ، وأما النهار فهو واجب يجبر بالدم ، وعند الشافعي أحدهما كاف ، فمن أدرك جزءا من الليل وجزءا من النهار فقد تم حجه باتفاق ، والأفضل الوقوف عند الصخرات العظام هناك لأنه موقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (بعد المبيت بمزدلفة) أي ويجمعون بها المغرب والعشاء جمع تأخير ويقصرون العشاء إلا أهلها ويستمرون بها إلى صلاة الصبح فيصلونها ثم يتوجهون إلى المشعر الحرام فيقفون به إلى الأسفار. قوله : (التلبية) هذا جرى على مذهب الشافعي ، وأما عند مالك فيقطع التلبية من وصوله لعرفة وصلاته الظهر والعصر بها. قوله : (هو جبل في آخر المزدلفة) أي من جهة منى عند منارة بلا جامع. قوله : (قزح) على وزن عمر. قوله : (والكاف للتعليل) أي فالمعنى اذكره لأجل هدايته إياكم ، ولأجل أنكم كنتم قبل ذلك من الضالين. قوله : (وَإِنْ) (مخففة) أي مهملة لا عمل لها. قوله : (لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي من التائهين عن الهدى فهي نعمة ثانية يجب الشكر عليها ، قال تعالى في مقام تعداد النعم : (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) الآية.

قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا) أي قفوا بعرفة ، وتقدم أن معنى الإفاضة الدفع فأطلقه وأراد لازمه وهو الوقوف. قوله : (ترفعا) أي تكبرا. قوله : (وثم للترتيب في الذكر) جواب عن سؤال مقدر حاصله أن الإتيان بثم يقتضي أن الأمر بالوقوف بعد رجوع الناس من عرفة ووصولهم منى مع أن الأمر ليس كذلك ، فأجاب المفسر بذلك ، وأجيب أيضا بأن ثم بمعنى الواو وهي لا تقتضي ترتيبا وأجيب أيضا بأن في الكلام تقديما وتأخيرا ، فقوله : (ثم أفيضوا) معطوف على قوله فاتقون ، وقوله : (فإذا أفضتم) مرتب عليه ،

١٢٣

معهم وكانوا يقفون بالمزدلفة ترفعا عن الوقوف معهم ، وثم للترتيب في الذكر (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من ذنوبكم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للمؤمنين (رَحِيمٌ) (١٩٩) بهم (فَإِذا قَضَيْتُمْ) أديتم (مَناسِكَكُمْ) عبادات حجكم بأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى (فَاذْكُرُوا اللهَ) بالتكبير والثناء (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخرة (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) من ذكركم إياهم ونصب أشد على الحال من ذكرا المنصوب باذكروا إذ لو تأخر عنه لكان صفة له (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا) نصيبنا (فِي الدُّنْيا) فيؤتاه فيها (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢٠٠) نصيب (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) نعمة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) هي الجنة (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢٠١) بعدم دخولها وهذا بيان لما كان عليه المشركون ولحال المؤمنين والقصد به الحث على طلب خيري الدارين كما وعد بالثواب عليه بقوله (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ) ثواب «من» أجل

____________________________________

ويكون الخطاب لعموم الناس. قوله : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي اطلبوا منه مغفرة ذنوبكم بتلك المواضع المطهرة فإنها مهبط تجلي الرحمات وإجابة الدعوات.

قوله : (مَناسِكَكُمْ) جمع منسك وهي العبادات التي عين الشارع لها أماكن مخصوصة ، كالطواف لا يكون إلا بالبيت ، والسعي لا يكون إلا بين الصفا والمروة ، والوقوف لا يكون إلا بعرفة ، والرمي لا يكون إلا بمنى ، فالمعنى أديتم العبادات في أماكنها المعهودة. قوله : (المفاخرة) كانت العرب في الجاهلية بعد فراغ حجهم يذكرون آبائهم بالخصال الحميدة نظما ونثرا فكان الواحد منهم يقول مثلا إن أبي كان كبير الجفنة أي القصعة فتاكا بالشجعان وهكذا لأنه يوما اجتماع للقبائل من العام إلى العام. قوله : (من ذكرا المنصوب باذكروا) أي على المصدرية. قوله : (إذ لو تأخر عنه لكان صفة له) أي لأن القاعدة أن نعت النكرة إذا تقدم عليها يعرب حالا وتعرب النكرة بحسب العوامل ، فيكون التقدير فاذكروا الله ذكرا كائنا كذكركم آباءكم أو أشد.

قوله : (فَمِنَ النَّاسِ) هذا بيان لحال من يقف بعرفة ، قوله : (مِنْ خَلاقٍ) من صلة. قوله : (نصيب) أي حظ وهذا دعاء غير المؤمنين بغير الآخرة ، وقوله ومنهم هذا هو دعاء المؤمنين بها. قوله : (نعمة) أي بركة وخيرا وذلك كالعافية والزوجة الحسنة والدار الواسعة وغير ذلك مما يعين على الدار الآخرة فكل أمر في الدنيا يوافق الطبع ويعين على الدار الآخرة فهو من حسنات الدنيا. قوله : (هي الجنة) أي دخولها بسلام بحيث يموت على الإسلام ولا يلحقه حساب ولا عذاب ويرى وجه الله الكريم ، وهذا أحسن ما فسر به حسنة الدنيا والآخرة ، وهو معنى قوله في الحديث لعائشة : «سلي الله العافية في الدارين».

قوله : (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) من عطف اللازم على الملزوم ، وأصل قنا أو قنا حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها في المضارع ثم حذفت الهمزة للإستغناء عنها لأنه أتى بها توصلا للنطق بالساكن وقد زال ، وقد ورد أن المؤمن الناجي يكون بينه وبين النار مسيرة خمسمائة عام عرضا وعمقا. قوله : (بعدم دخولها) أي أصلا فلا ندخلها ولا نراها. قوله : (لما كان عليه المشركون) أي هو الأول ، وقوله ، ولحال المؤمنين أي وهو الثاني. ، قوله : (الحث على طلب خيري الدارين) أي لا التخيير بين كونه يدعوه بشيء

١٢٤

ما (كَسَبُوا) عملوا من الحج والدعاء (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٢٠٢) يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا لحديث بذلك (وَاذْكُرُوا اللهَ) بالتكبير عند رمي الجمرات (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) أي أيام التشريق الثلاثة (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أي استعجل بالنفر من منى (فِي يَوْمَيْنِ) أي في ثاني أيام التشريق بعد رمي جماره (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بالتعجيل (وَمَنْ تَأَخَّرَ) بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بذلك أي هم مخيرون في ذلك ونفي الأثم (لِمَنِ اتَّقى) الله في حجه لأنه الحاج في الحقيقة (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٠٣) في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم (وَمِنَ

____________________________________

يؤتاه في الدنيا فقط ، أو بحسنة الدنيا والآخرة ، ولخسة الأول في دعائهم لم يبين الله ما طلبوه في الدنيا. قوله : (ثواب) أي على الطلب فيؤتون سؤالهم ويزادون ثوابا على طلبهم ، ذلك لأن الدعاء مع العبادة. قوله : (في قدر نصف نهار) بل قد ورد أنه في مقدار ساعة بل ورد أيضا كلمح البصر ، وذلك كناية عن عظيم قدرته ، فمن كان هذا وصفه ينبغي أن يتقي ويخشى ، وما من أحد من لمحاسبين إلا ويرى أنه لا محاسب غيره وذلك بعد انفضاض الموقف الذي تدنو الشمس فيه من الرؤوس ، ويسيل العرق في الأرض سبعين ذراعا ، وتكون النار حول الخلائق ، وتحيط الملائكة بالمخلوقات فيكونون سبع صفوف يحولون بينهم وبين النار ، وهو يختلف باختلاف الناس فنسأل الله السلامة من أهواله. قوله : (عند رمي الجمرات) أي عند رمي كل حصاة من حصيات الجمار يقول الله أكبر ، وكذلك عقب الصلوات وعند الذبح بأن يقول : بسم الله والله أكبر اللهم إن هذا منك وإليك ، قوله : (أي أيام التشريق الثلاثة) أي وهي ثاني يوم النحر وتالياه ، وأما يوم النحر فمعلوم للذبح غير معدود للرمي ، واليومان بعده معلومان معدودان ، والرابع معدود غير معلوم عند مالك وأبي حنيفة وعند الشافعي معلوم أيضا ، وما ذكره المفسر من أن المراد بالأيام المعدودات أيام التشريق الثلاثة هو ما عليه مالك والشافعي ، وإطلاق التشريق على الثلاثة اعتبار بمذهب الشافعي ، والحاصل أن يوم النحر يفعل فيه رمي جمرة العقبة ثم النحر ثم الحلق ثم طواف الإفاضة ، وفي الثاني يرمي ثلاث جمرات يبدأ بالتي تلي مسجد منى ثم بالوسطى ثم يختم بالعقبة ، وكذا في الثالث والرابع إن لم يتعجل. قوله : (أي في ثاني أيام التشريق) دفع بذلك ما يتوهم أن له التعجل في كل من اليومين مع أنه لا معنى له. قوله : (بعد رمي جماره) أو هو بعد الزوال ومحل التخيير إن لم تغرب عليه الشمس وهو بمنى وإلا فيلزمه المبيت بها لرمي الثالث ، وأصل مشروعية الرمي عند أمر إبراهيم الخليل بذبح ولده ، فلما توجه به لمنى تعرض له الشيطان عند المسجد فرماه بسبع حصيات ، ثم تعرض له عند الوسطى فرماه أيضا بسبع ، ثم تعرض له عند العقبة فرماه أيضا بسبع ، فهو ما زال سببه وبقي حكمه.

قوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي لا حرج لأنه رخصة. قوله : (أي هم مخيرون) جواب عن سؤال وهو أن المتأخر أتى بالمطلوب فكيف ينفى عنه الإثم ، وأجيب أيضا بأن ذكر الإثم في جانب المتأخر مشاكلة ، وأجيب أيضا بأنه رد على من زعم من الجاهلية أن على المعجل الإثم وعلى من زعم منهم أن على المتأخر الإثم. قوله : (ونفي الإثم) (لِمَنِ اتَّقى) أشار بذلك إلى أن لمن اتقى خبر لمحذوف قدره بقوله ونفي الإثم. قوله : (لأنه الحاج على الحقيقة) وفي نسخة في الحقيقة أي لاستكماله الشروط والآداب ، وأما غير المتقي فعليه الإثم مطلقا تعجل أو تأخر كالحاج بالمال الحرام ومرتكب المعاصي. قوله : (فيجازيكم بأعمالكم) أي إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

١٢٥

النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ولا يعجبك في الآخرة لمخالفته لاعتقاده (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أنه موافق لقوله (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢٠٤) شديد الخصومة لك ولأتباعك لعداوته لك وهو الأخنس بن شريق كان منافقا حلو الكلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلف أنه مؤمن به ومحب له فيدني مجلسه فأكذبه الله في ذلك ومر بزرع وحمر لبعض المسلمين فأحرقه وعقرها ليلا كما قال تعالى (وَإِذا تَوَلَّى) انصرف عنك (سَعى) مشى (فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) من جملة الفساد (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢٠٥) أي لا يرضى به (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) في فعلك (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) حملته الأنفة والحمية على العمل (بِالْإِثْمِ) الذي أمر بإتقائه (فَحَسْبُهُ) كافيه (جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢٠٦) الفراش هي (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) يبيع (نَفْسَهُ) أي يبذلها في طاعة الله (ابْتِغاءَ) طلب (مَرْضاتِ اللهِ) رضاه وهو صهيب لما آذاه المشركون هاجر إلى المدينة وترك لهم ماله (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٢٠٧) حيث أرشدهم لما فيه رضاه. ونزل في عبد الله ابن سلام وأصحابه لما عظموا السبت وكرهوا الإبل بعد الإسلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي

____________________________________

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ) معطوف على قوله فمن الناس من يقول ربنا الآية ، فقد قسم الله الناس على أربعة أقسام : الأول من يطلب الدنيا لا غير ، ومنهم من يطلب الدنيا والآخرة ، ومنهم من يظهر أنه من أهل الآخرة مع أنه في الواقع من أهل النار ، ومنهم من هو مؤمن ظاهرا وباطنا ، وذكرهم على هذا الترتيب. قوله : (الأخنس بن شريق) هذا لقبه واسمه أبي وكان يتبعه ثلاثمئة منافق من بني زهرة ، وسبب تلقيبه بالأخنس أنه اختفى يوم بدر هو وجماعته فقال لهم إن انتصر محمد فالعزة لكم لعدم ظهور العداوة منكم ، وإن انتصر الكفار فقد كفيتموه. قوله : (حلو الكلام) أي والمنظر قوله : (فيدني مجلسه) أي فيقربه منه ، وفي الحديث : «إن لنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم». قوله : (فأكذبه الله في ذلك) أي في دعواه وفي حلفه. قوله : (وحمر) جمع حمار. قوله : (وعقرها) أي قطع رجلها. قوله : (لِيُفْسِدَ فِيها) علة لقوله سعى. قوله : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) تفصيل للإفساد.

قوله : (بِالْإِثْمِ) الباه للملابسة ، والإتيان بقوله بالإثم يسمى عند علماء البديع تتميما لأنه ربما يتوهم أن المراد عزة ممدوحة. قوله : (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي إن الله جعل له جهنم غطاء ووطاء ، فأكرمه كما تكرم أم الصبي ولدها بالغطاء والوطاء اللينين وذلك من باب التهكم. قوله : (وهو صهيب) أي ابن سنان الرومي حين أسلم تعرض له المشركون وآذوه ، فقال إني رجل كبير مسكين ليس بنافعكم وفراري ليس بضاركم ، فإن كان من جهة المال فها هو فتركه وهاجر لرسول الله ، وقد مدحه رسول الله بقوله نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، أي لو انتفى عنه خوف الله لا يقع منه عصيان ، لأن طاعته محبة في الله لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار. قوله : (حيث أرشدهم لما فيه رضاه) أي فقد جعل النعيم الدائم في نظير العمل القليل ، فإن الخلود في الجملة جزاء كلمة الإخلاص ومن جملة رأفته مضاعفة الحسنات وعدم مضاعفة السيئات ، وعدم مؤاخذة من كفر خوف القتل ، وقبول التائب وأن بالغ في العصيان وطال زمانه. قوله : (ونزل في عبد الله بن سلام) أي وكان من أحبار اليهود. قوله : (وأصحابه) أي الذين أسلموا معه من اليهود. قوله : (لما عظموا السبت) أي احترموه بتحريم الصيد فيه كما كان في شرع موسى. قوله :

١٢٦

السِّلْمِ) بفتح السين وكسرها الإسلام (كَافَّةً) حال من السلم أي في جميع شرائعه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ) طرق (الشَّيْطانِ) أي تزيينه بالتفريق (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٠٨) بين العداوة (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) ملتم عن الدخول في جميعه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الحجج الظاهرة على أنه حق (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم (حَكِيمٌ) (٢٠٩) في صنعه (هَلْ) ما (يَنْظُرُونَ) ينتظر التاركون الدخول فيه (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) أي أمره كقوله أو يأتي أمر ربك أي عذابه (فِي ظُلَلٍ) جمع ظلة (مِنَ الْغَمامِ) السحاب (وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تم أمر هلاكهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠) بالبناء للمفعول والفاعل في الآخرة فيجازي (سَلْ) يا محمد

____________________________________

(وكرهوا الإبل) أي حيث حرموا أكل لحومها وشرب ألبانها. قوله : (بعد الإسلام) أي بعد أن دخلوا في الإسلام لم يتمسكوا بجميع شرائعه ، فوبخهم الله على ذلك. قوله : (بفتح السين وكسرها) قراءتان سبعيتان هنا وفي الأنفال والقتال لكن الأكثر هنا الكسر وما هناك العكس ، وقوله الإسلام إشارة لمعناه هنا على القراءتين ، وأما في الأنفال والقتال فمعناه الصلح. قوله : (حال من السلم) أي وهو يذكر ويؤنث فلذا أتى بالتاء في كافة ، وقال تعالى أيضا : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها). قوله : (أي تزيينه) أي تحسينه أمورا لكم ، والمعنى لا تتبعوا طرق الشيطان التي يزينها لكم بوسوسته. قوله : (بالتفريق) أي بأن تتبعوا محمدا في أمور وموسى في أمور أخر.

قوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ) تعليل لما قبله ، والعدو هو الذي يسره ما يضرك ويضره ما يسرك. قوله : (بين العداوة) من أبان اللازم ، والمعنى أن عداوته بينة وظاهرة لمن نور الله بصيرته وأراد به خيرا ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا). قوله : (عن الدخول في جميعه) أي جميع أحكامه. قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) إن قلت أن الزلل لا يكون إلا بعد مجيئها أجيب بأن المراد بمجيئها ظهورها ظهورا بينا. قوله : (لا يعجزه شيء) أي فلا تفلتون منه. قوله : (حَكِيمٌ) (في صنعه) أي يضع الأشياء في محلها ومنها عذاب المفرق.

قوله : ب (هَلْ يَنْظُرُونَ) الإستفهام هنا إنكاري توبيخي. قوله : (الدخول فيه) أي في جميع أحكامه. قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) استثناء مفرغ ، والمعنى لا ينتظرون شيئا إلا اتيان الله في ظلل. قوله : (أي أمره) دفع بذلك ما يقال إن الإتيان بمعنى الإنتقال من صفات الحوادث وهي مستحيلة على الله تعالى. قوله : (فِي ظُلَلٍ) ظرف للإتيان المذكور ، والمعنى أن الله يرسل عليهم العذاب في صورة الرحمة ، وذلك لأن شأن السحاب الرقيق أن تأتي بالأمطار التي يكون فيها منافع لهم ، وذلك مكر عظيم من الله بهم.

قوله : (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على لفظ الجلالة ، والمعنى أن إتيان الملائكة مصاحب لعذاب الله المظروف في السحاب الرقيق ، وقرىء شاذا بجر الملائكة واختلفوا في عطفه ، فقيل معطوف على ظلل وقيل على الغمام. قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) عبر بالماضي لتحقق وقوعه ، فالمقام للمضارع لمناسبة يأتيهم وينظرون وهذا وعيد عظيم لكل من لم يستجمع أحكام الإسلام ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : (فيجازي كلا بعمله) أي فيحاسبكم على النقير والقطمير ويؤول أمركم إما إلى جنة أو إلى نار.

١٢٧

(بَنِي إِسْرائِيلَ) تبكيتا (كَمْ آتَيْناهُمْ) كم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني وهي ثاني مفعولي آتينا ومميزها (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) ظاهرة كفلق البحر وإنزال المن والسلوى فبدلوها كفرا (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) أي ما أنعم به عليه من الآيات لأنها سبب الهداية (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) كفرا (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢١١) له (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (الْحَياةُ الدُّنْيا) بالتمويه فأحبوها (وَ) هم (يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) لفقرهم كبلال وعمار وصهيب أي يستهزئون بهم ويتعالون عليهم بالمال (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك وهم هؤلاء (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ

____________________________________

قوله : (سَلْ) أصله اسأل نقلت فتحة الهمزة الثانية إلى الساكن قبلها فسقطت تلك الهمزة تخفيفا ثم سقطت همزة الوصل للإستغناء عنها فصار وزنه فل. قوله : (تبكيتا) أي تقريعا وتوبيخا لا للإستفهام منهم ، وهذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فلا غرابة في عدم إيمانهم بك ، فأننا آتيناهم آيات بينات على يد موسى فلم يؤمنوا ولم ينقادوا. قوله : (معلقة سل عن المفعول الثاني) التعليق هو إبطال العمل لفظا لا محلا والإلغاء إبطاله لفظا ومحلا فتكون جملة كم آتيناهم في المعنى في محل المفعول الثاني لسل إن قلت إن التعليق مختص بأفعال القلوب وسل ليست منها ، أجيب بأنها سبب للعلم والعلم منها. قوله : (وهو ثاني مفعولي آتينا) أي كم ومفعولها الأول الهاء من هم. قوله : (ومميزها) أي مميزكم. قوله : (كفلق البحر) أي اثني عشر طريقا. قوله : (وإنزال المن والسلوى) أي وهم في التيه حين أمروا بقتل الجبارين. قوله : (فبدلوها كفرا) هذا إشارة للبدل ، والمعنى أن الله يأتيهم بالآيات فيبدلونها بالكفر.

قوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) من شرطية ويبدل فعل الشرط ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) جوابه. قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي اتضحت وثبتت له. قوله : (كفرا) هذا هو المفعول الثاني وقد صرح به في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً). قوله : (له) قدره المفسر لصحة جعل الجملة جواب الشرط.

قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) زين فعل ماض مبني للمفعول ، ونائب الفاعل قوله الحياة الدنيا ، وللذين كفروا متعلق بزين ، وفاعل الزينة حقيقة هو الله ، والشيطان مجازا ، وقرىء ببناء الفعل للفاعل ، والحياة مفعول ، والفاعل ضمير يعود على الله أو الشيطان ، وجرد الفعل من العلامة لكون نائب الفعل مجازي التأنيث سيما مع وجود الفاصل. قوله : (من أهل مكة) تخصيص بحسب السبب وإلا فكل كافر كذلك. قوله : (بالتمويه) أي التحسين الظاهر الذي باطنه قبيح. قوله : (وَ) (هم) (يَسْخَرُونَ) قدره المفسر إشارة إلى أن الجملة حالية ، قال ابن مالك :

وذات واو بعدها انو مبتدأ

له المضارع اجعلن مسندا

قوله : (لفقرهم) أي لتركهم الدنيا وإقبالهم على الآخرة. قوله : (كعمار) أي ابن ياسر. (قوله : وبلال) أي الحبشي لما أسلم عذب في الله عذابا شديدا ، وقوله وصهيب تقدمت قصته. قوله : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) جملة حالية. قوله : (فَوْقَهُمْ) أي حسا لكونهم في الجنة وهي عالية وجهنم سافلة ، ومعنى لكونهم مكرمين والكفار مهانون. قوله : (والله يرزق) جملة مستأنفة كالدليل لما قبلها.

١٢٨

يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢) أي رزقا واسعا في الآخرة أو الدنيا بأن يملك المسخور منهم أموال الساخرين ورقابهم (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) على الإيمان فاختلفوا بأن آمن بعض وكفر بعض (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) إليهم (مُبَشِّرِينَ) من آمن بالجنة (وَمُنْذِرِينَ) من كفر بالنار (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) بمعنى الكتب (بِالْحَقِ) متعلق بأنزل (لِيَحْكُمَ) به (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) من الدين (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) أي الدين (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي الكتاب فآمن بعض وكفر بعض (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) الحجج الظاهرة على التوحيد ومن متعلقة باختلف وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء في المعنى (بَغْياً) من الكافرين (بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ) للبيان (الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) بإرادته (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣) الطريق الحق. ونزل في جهد أصاب المسلمين (أَمْ) بل أ(حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ

____________________________________

قوله : (أي رزقا واسعا في الآخرة) أي لما في الحديث «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها». قوله : (أو في الدنيا هذا تفسير آخر ، وقوله : (بأن يملك المسخور منهم إلخ) أي وقد حصل ذلك بعد الفتح وفي الغزوات ، فإنه ما من غزوة إلا ويأخذ منهم الأموال والرقاب في تلك الغزوة ، بل زادهم الله بأن ملكهم رقاب الملوك وأموالهم ، والحاصل أن رزق المؤمن في الدنيا بغير حساب بخلاف الكافر ، وفي الحديث : «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب» ، وأما في الآخرة فالأمر ظاهر.

قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي في مبدأ الدنيا من آدم إلى إدريس وقيل من آدم إلى نوح ، والمعنى أنهم كانوا على الحق ولا اختلاف بينهم في تلك المدة ، وقيل كانوا على باطل في تلك المدة وهو ضعيف ، ولذا لم يعرج عليه المفسر. قوله : (بأن آمن بعض الخ) أي بعد ظهور نوح أو إدريس. قوله : (من آمن) هذا معمول مبشرين ، وقوله : (من كفر) معمول لمنذرين. قوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ) أي مع مجموعهم لا جميعهم. قوله : (بمعنى الكتب) أشار بذلك إلى أن أل جنسية. قوله : (متعلق بأنزل) أي والباء للملابسة. قوله (لِيَحْكُمَ) يحتمل عود الضمير على الله لأنه الحاكم حقيقة ، ويحتمل عوده على الأنبياء باعتبار كل فرد من أفرادهم ، أي ليحكم كل نبي بين أمته. قوله : (من الدين) بيان لما.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) استثناء مفرغ فالمستثنى منه محذوف ، أي وما اختلف فيه أحد إلا الذين أوتوه ، والمعنى لم يختلف في الدين أحد إلا الذين أوتوا الكتاب ، فالاختلاف من عهد إنزال الكتب ، وذلك يؤيد القول بأن الاختلاف من زمن إدريس. قوله : (وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء) أي فيكون المعنى وما اختلف في الدين أحد من بعد ظهور الحجج الواضحة حال كون الاختلاف بغيا إلا الذين أوتوه ، وإنما جعل مقدما على الاستثناء لئلا يكون الاستثناء المفرغ متعددا مع أنه لا يكون كذلك لأنه يصير المعنى حينئذ : إلا الذين أوتوه إلا من بعد ما جائتهم البينات إلا بغيا بينهم.

قوله : (بَغْياً) أي ظلما وتعديا. قوله : (للبيان) أي بيان الأمر الذي اختلفوا فيه. قوله : (بإرادته) أي سبقت إرادته بهداية الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه الكفار. قوله : (هدايته) أشار بذلك إلى أنه مفعول يشاء ، وأشار بذلك إلى أن الهداية والاضلال ليسا من فعل الإنسان بل بخلق الله ، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا. قوله : (طريق الحق) أي دين

١٢٩

وَلَمَّا) لم (يَأْتِكُمْ مَثَلُ) شبه ما أتى (الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) من المؤمنين من المحن فتصبروا كما صبروا (مَسَّتْهُمُ) جملة مستأنفة مبينة ما قبلها (الْبَأْساءُ) شدة الفقر (وَالضَّرَّاءُ) المرض (وَزُلْزِلُوا) أزعجوا بأنواع البلاء (حَتَّى يَقُولَ) بالنصب والرفع أي قال (الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) استبطاء للنصر لتناهي الشدة عليهم (مَتى) يأتي (نَصْرُ اللهِ) الذي وعدناه فأجيبوا من قبل الله (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤) إتيانه (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (ما ذا يُنْفِقُونَ) أي الذين ينفقونه ، والسائل عمرو بن الجموح وكان شيخا ذا مال فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما ينفق وعلى من ينفق (قُلْ) لهم (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) بيان لما شامل للقليل والكثير وفيه بيان المنفق الذي هو أحد

____________________________________

الإسلام ، سمي طريقا لأنه يوصل للمقصود كما أن الطريق كذلك. قوله : (ونزل في جهد) هو بالفتح المشقة. قوله : (أصاب المسلمين) قيل كان ذلك في غزوة الأحزاب حين حاصر الكفار المدينة واحتاطوا بها وقطعوا عنها الوارد ولم يكن بينهم وبين دخولها إلا الخندق ، وكانوا إذ ذاك عشرة آلاف مقاتل ، فاشتد الكرب والخوف على المسلمين ولا سيما مع وجود ثلاثمائة منافق بين أظهرهم فنزلت الآية.

قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ) قدر المفسر بل إشارة إلى أن أم منقطعة والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ، والمقصود منه تقويتهم على الصبر. قوله : «لم» قدرها إشارة إلى أن لما نافية بمعناها. قوله : (ما أتى) قدر ذلك المضاف إشارة إلى أن الشبه في الأمر الذي أتاهم لا في الذوات. قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) تأكيد لخلوا. قوله : (من المحن) بيان لما أتى. قوله : (بالنصب والرفع) أي فهما قراءتان سبعيتان والنصب بأن مضمرة وحتى بمعنى إلى وهي تنصب المضارع إذا كان مستقبلا ولا شك أن القول مستقبل بالنسبة للزلزال. إن قلت : إن القول والزلزال قد مضى. فالجواب : أنه على حكاية الحال الماضية ، وأما الرفع فهو بناء على أن الفعل بعدها حال مقارن لما قبلها ، والحال لا ينصب بعد حتى فتحصل أن لها بعد حتى ثلاثة أحوال : إما أن يكون مستقبلا أو ماضيا أو حالا ، فالأول ينصب والأخيران يرفعان. قوله : (مَتى نَصْرُ اللهِ) قدر المفسر يأتي إشارة إلى أن نصر الله فاعل بفعل محذوف ، ولكن الأحسن جعله مبتدأ مؤخرا ومتى خبر مقدم ، وليس قول الرسول قلقا وعدم صبر بل ذلك دعاء وطلب لما وعده الله به. قوله : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) أخذ من ذلك أنه إذا اشتد الكرب كان الدعاء بالفرج مستجابا ، قال تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) وقد حقق الله ذلك سريعا كما قال في سورة الأحزاب : (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها).

قوله : (يَسْئَلُونَكَ) أي أصحابك المسلمون. قوله : (ما ذا يُنْفِقُونَ) ما اسم استفهام مبتدأ ، وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره ، وجملة ينفقون صلته والعائد محذوف أي ينفقونه ، والمعنى أن أصحابك يسألونك عن الشيء الذي ينفقونه هل ينفقون مما تيسر ولو حراما أو يتحرون الحلال ، وفي الآية حذف سؤال آخر دل عليه الجواب ، والتقدير وعلى من ينفقون ، والسؤال عن صدقة التطوع بدليل الجواب. قوله : (السائل عمرو) أي إنما جمع السائل في الآية لأن التكليف لكل مسلم ، فكان هذا السائل ترجمانا عن كل مسلم ، وإنما اعتنى بذلك السؤال لأن الإنسان يوم القيامة ورد أنه يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. قوله : (فسأل النبي الخ) أي وحينئذ ففي الآية اكتفاء في السؤال حيث حذف الشق الثاني

١٣٠

شقي السؤال وأجاب عن المصرف الذي هو الشق الآخر بقوله (فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي هم أولى به (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) إنفاق أو غيره (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢١٥) فمجاز عليه (كُتِبَ) فرض (عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) للكفار (وَهُوَ كُرْهٌ) مكروه (لَكُمْ) طبعا لمشقته (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) لميل النفس إلى الشهوات الموجبة لهلاكها ونفورها عن التكليفات الموجبة لسعادتها فلعل لكم في القتال وإن كرهتموه خيرا لأن إما الظفر والغنيمة أو الشهادة والأجر ، وفي تركه وإن أحببتموه شرا لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما هو خير لكم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢١٦) ذلك فبادروا

____________________________________

واكتفى بجوابه. قوله : (مِنْ خَيْرٍ) أي حلال. قوله : (الذي هو أحد شقي السؤال) أي المذكور في الآية ، قوله : (وأجاب أي عن المصرف الخ) أي الذي سؤاله مطوي.

قوله : (وَالْأَقْرَبِينَ) أي من أولاد وإخوة وأعمام وعمات ، وهو من عطف العام على الخاص ، وصرح بذكر الوالدين وإن دخلا في الأقربين اعتناء بشأنهما. قوله : (وَالْيَتامى) جمع يتيم وهو من فقد أباه وهو دون البلوغ ، وقدم اليتامى على المساكين لعجزهم عن التكسب. قوله : (وَالْمَساكِينِ) المراد بهم ما يشمل الفقراء. قوله : (وَابْنِ السَّبِيلِ) أي الغريب المسافر. قوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) ما شرطية ، وتفعلوا فعل الشرط ، وما بعد الفاء جوابه ، وأتى بتلك الجملة طمأنينة للمؤمن في الاكتفاء بوعد الله في المجازاة لأنه وعد بها ووعده لا يتخلف ، ومع ذلك لا يغيب عن علمه مثقال ذرة ، فيلزم من علمه بالخير من العبد مجازاته عليه ، والأسرار بنفقة التطوع أفضل لأن صاحبها من جملة من يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. قوله : (أو غيره) أي كالكلام اللين الطيب. قوله : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي وقد التزم جزاءه وحقيق بأن ينجزه.

قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) أي وكان فرضه بعد الهجرة بعد أن نهى رسول الله عنه في نيف وسبعين آية ، وهو فرض عين إن فجأ العدو ، وكفاية إن لم يفجأ بأن كان في بلده ونحن الطالبون له. قوله : (الكفار) أي الحربيين أهل الذمة فيحرم قتالهم. قوله : (طبعا) أي فهو مكروه من جهة الطبع ولا يلزم من كون الطبع يكرهه أنه كاره حكم الله به ، بل هو من باب مخالفة النفس. قوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) الترجي في كلام الله ليس على بابه بل هو للتحقيق لأنه خبر من أحاط بكل شيء علما ، وعسى هنا تامة تكتفي بمرفوعها قال ابن مالك :

بعد عسى اخلولق أوشك قد يرد

غنى بأن يفعل عن ثان فقد

قوله : (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) جملة حالية من قوله شيئا أو صفة له ، فاستشكل كل منهما بأن الحال لا يتأتى من النكرة بدون مسوغ وبأن الصفة لا تقترن بالواو. وأجيب عن الأول بأن إتيان الحال من النكرة بدون مسوغ قليل ، وعن الثاني أن الصفة أجريت مجرى الحال في جواز اقترانها بالواو ، قوله الموجبة لسعادتها أي فالسعادة في طاعة الله والشقاوة في معاصيه. قوله : (إما الظفر والغنيمة) أي لمن عاش. قوله : (أو الشهادة والأجر) أي لمن مات. قوله : (لأن فيه الذل) أي بغلبة العدو علينا. وقوله : (والفقر) أي لكونه يسلب مالنا. وقوله : (وحرمان الأجر) أي المترتب على الجهاد في سبيل الله وهو مضاعفة الحسنات إلى سبعمائة

١٣١

إلى ما يأمركم به وأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول سراياه وعليها عبد الله بن جحش فقاتلوا المشركين وقتلوا ابن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة والتبس عليهم برجب فعيرهم الكفار باستحلاله فنزل (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) المحرم (قِتالٍ فِيهِ) بدل اشتمال (قُلْ) لهم (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) عظيم وزرا ، مبتدأ وخبر (وَصَدٌّ) مبتدأ منع للناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (وَكُفْرٌ بِهِ) بالله (وَ) صد عن (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي مكة (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون وخبر المبتدأ (أَكْبَرُ) أعظم وزرا (عِنْدَ اللهِ) من القتال فيه (وَالْفِتْنَةُ) الشرك منكم (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) لكم فيه (وَلا يَزالُونَ) أي الكفار (يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المؤمنون (حَتَّى) كي (يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) إلى

____________________________________

ضعف ، وغير ذلك مما وعد الله به المجاهدين. قوله : (وأرسل النبي) هذا بيان لسبب نزول هذه الآيات من هنا إلى آخر الربع. قوله : (أول سراياه) أي وكانت تلك السرية إذ ذاك رجال وقيل اثني عشر ، أرسلهم النبي لمحل يقال له نخلة جهة الطائف يتجسسون على الكفار ويأتون بأخبارهم ، فبينما هم في ذلك الموضع إذ مرت بهم عير لقريش من جهة الطائف ومعها أربعة رجال ، فقتل أهل السرية أحد الأربعة وأسروا اثنين وهرب واحد وغنموا العير وما عليها ، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين. وأعلم أن جملة سراياه وغزواته سبعون ، والسرية من خمسة رجال إلى أربعمائة وما فوقها يقال لها جيش ، ثم صريح المفسر يقتضي أنه لم يكن قبلها سرية ، والذي ذكره في المواهب أو أول سرية كانت في رمضان سابع شهر من هجرته عليه الصلاة والسّلام ، والثانية في شوال ، والثالثة في صفر ، وهذه هي الرابعة ، وغزا قبل تلك السرية ثلاث غزوات إلا أن يجاب عن المفسر بأن المراد بأول سراياه التي حصل منها القتل والغنيمة للكفار ، وأما ما قبلها فلم يقع فيها قتل ولا غنيمة. قوله : (وعليها عبد الله بن جحش) أي أميرا وهو ابن عمة رسول الله. قوله : (فقاتلوا المشركين) أي الذين كانوا مع العير. قوله : (والتبس عليهم برجب) أي حيث رأوا الهلال كبيرا فالتبس عليهم هل هو ابن ليلة أو ليلتين قول : (تعيرهم الكفار باستحلاله) أي حيث قال الكفار للمسلمين أنتم قد استحللتم القتال في الأشهر الحرم.

قوله : و (يَسْئَلُونَكَ) أي سؤال اعتراض. قوله : (بدل اشتمال) أي من الشهر إذ هو مشتمل على القتال لوقوعه فيه. قوله : (كَبِيرٌ) أي إن كان عمدا. قوله : (مبتدأ وخبر) أي والمسوغ وصفه بالجار والمجرور. قوله : (وَ) (صد عن) قدر ذلك المفسر إشارة إلى أنه معطوف على سبيل مسلط عليه صد ، لكن يلزم عليه العطف على المبتدأ قبل استكمال مسوغه ، وأجيب بأنه لا يلزم محذور إلا إذا كان المعطوف أجنبيا من المعطوف عليه ، وهنا ليس بأجنبي لأن الكفر والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام من واد واحد. قوله : (وخبر المبتدأ) أي وما عطف عليه وإنما أفرد الخبر لأنه اسم تفضيل مجرد ، والقاعدة أن اسم التفضيل إذا كان مجردا أو مضافا لنكرة يلزم أن يكون بلفظ واحد للمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، قال ابن مالك :

وإن لمنكور يضف أو جردا

ألزم تذكيرا وإن يوحدا

قوله : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) المقصود من ذلك تحريض المؤمنين على القتال. قوله : (كي) (يَرُدُّوكُمْ) أشار بذلك إلى أن حتى للتعليل والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ، وعن دينكم متعلق

١٣٢

الكفر (إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ) بطلت (أَعْمالُهُمْ) الصالحة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها والتقييد بالموت عليه يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام لم يبطل عمله فيثاب عليه ولا يعيده كالحج مثلا وعليه الشافعي (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢١٧) ولما ظن السرية أنهم إن سلموا من الإثم فلا يحصل لهم أجر نزل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) فارقوا أوطانهم (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء دينه (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) ثوابه (وَاللهُ غَفُورٌ) للمؤمنين (رَحِيمٌ) (٢١٨) بهم (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) القمار ما حكمهما (قُلْ) لهم (فِيهِما) أي في تعاطيهما (إِثْمٌ كَبِيرٌ) عظيم

____________________________________

بيردوكم. قوله : (إِنِ اسْتَطاعُوا) جملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما قبلها عليه ومفعولها محذوف أيضا ، أي إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم. قوله : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ) هكذا القراءة هنا بالفك لا غير ، وأما في المائدة ففيها قراءتان بالفك والادغام. قوله : (أَعْمالُهُمْ) (الصالحة) أي وأما السيئة فباقية يعذبون عليها. قوله : (وعليه الشافعي) هذا ضعيف والمعتمد عنده أنه يرجع له عمله مجردا عن الثواب ، وأما عند مالك وأبي حنيفة فهو كالكافر الأصلي إذا أسلم فلا يرجع له شيء من أعماله ، ولا يؤمر بالقضاء ترغيبا له في الإسلام إلا ما أسلم في وقته فيفعله ، وثمرة الخلاف تظهر في صحابي ارتد ثم عاد للإسلام ولم تثبت رؤيته للنبي بعد ذلك ، هل ترجع له الصحبة مجردة عن الثواب ، وعليه الشافعي أولا وعليه مالك وأبو حنيفة ، وأما زوجته ، فتبين منه وترجع له بالإسلام من غير عقد عند الشافعي ، وعند مالك وأبي حنيفة لا ترجع له إلا بالعقد ، وحكم المرتد عند مالك أنه يستتاب ثلاثة أيام ، فان تاب وإلا قتل بعد غروب الثالث. قوله : (ولما ظن السرية الخ) بل ورد أنهم سألوا النبي عن ذلك.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي وهم عبد الله بن جحش ومن معه. قوله : (فارقوا أوطانهم) أشار بذلك إلى معنى الهجرة هنا. قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ومن رحمته بهم غفران خطيئتهم وقسم الغنيمة عليهم فإنه نزل بعد هذه الآية : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية ، فأخذ رسول الله الخمس لبيت المال وفرق عليهم الأربعة أخماس.

قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) السائل عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الصحابة بقولهم : إن الخمر والميسر يضيعان العقل والمال فأفتنا فيهما ، وحاصل ما وقع في الخمر في زمان رسول الله أنه نزل فيه أربع آيات : الأولى نزلت بمكة تدل على حله وهي قوله تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) ثم سأل عمر ومعاذ وجماعة النبي بالمدينة عن حكمه فنزل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية ، فشربها قوم لقوله : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) وامتنع آخرون خوفا من قوله (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ثم إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما لبعض أصحابه فأكلوا وشربوا الخمر ، فحضرت صلاة المغرب فأمهم واحد منهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بإسقاط لا إلى آخر السورة فنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الآية ، فحرمت في أوقات الصلاة دون غيرها ، ثم إن عتبان بن مالك صنع طعاما لجماعة من الصحابة وفيهم سعد بن أبي وقاص فأكلوا وشربوا الخمر فافتخروا وتناشدوا الشعر ، فأنشد سعد قصيدة يمدح بها قومه ويهجو الانصار فشج رجل منهم

١٣٣

وفي قراءة بالمثلثة لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) باللذة والفرح في الخمر وإصابة المال بلا كد في الميسر (وَإِثْمُهُما) أي ما ينشأ عنهما من المفاسد (أَكْبَرُ) أعظم (مِنْ نَفْعِهِما) ولما نزلت شربها قوم وامتنع آخرون إلى أن حرمتها آية المائدة (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) أي ما قدره (قُلْ) أنفقوا (الْعَفْوَ) أي الفاضل عن الحاجة ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه وتضيعوا أنفسكم وفي قراءة بالرفع بتقدير هو (كَذلِكَ) أي كما بين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢١٩) (فِي) أمر (الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فتأخذون بالأصلح لكم فيهما (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) وما يلقونه من الحرج في شأنهم فإن واكلوهم يأثموا وإن عزلوا ما لهم

____________________________________

رأسه ، فرفع ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله آية المائدة إلى قوله : (فهل أنتم منتهون) فقال عمر : انتهينا يا رب ، فكان يوم نزولها عيدا عظيما ، والخمر كل مائع غيب العقل ولو من غير ماء العنب وهو نجس وفيه الحد قليلا أو كثيرا ، بل بالغ بعض المالكية في الحديث أوجبه على من وضع إبرة فيه ومصها وبلع ريقه ، والحاصل أن المتخذ من ماء العنب نجس يحرم قليله وكثيرة أسكر أم لا ويحد شاربه بإجماع ، وأما المتخذ من غيره من سائر المائعات التي دخلتها الشدة المطربة فكذلك عند الأئمة الثلاثة وبعض الحنفية ، وقال بعضهم لا يحرم منه إلا القدر المسكر ، وأما الجامد الذي يغيب العقل كالحشيشة والأفيون والبنج والداتورة فطاهر يحرم تعاطي القدر المغيب للعقل منه وفيه الأدب. قوله : (القمار) هو آلات الملاهي التي يلعب بها في نظير مال فيشمل الطاب والشطرنج والسيجة ، وأما إن كان بغير مال ففيه خلاف ، قيل كبيرة وقيل صغيرة وقيل مكروه. قوله : (أي في تعاطيهما) لا حاجة له بعد تقدير حكمهما. قوله : (بالمثلثة) أي كثير. قوله : (باللذة والفرح) أي القوة على الجماع والشجاعة والكرم. قوله : (إلى أن حرمتها آية المائدة) ظاهره أن آية المائدة نزلت بعد هذه الآية وليس كذلك بل بينهما آية النساء.

قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ) السائل عمرو بن الجموح المتقدم ، فسأل أولا عن جنس المال الذي ينفق منه وعلى من ينفقه ، وسأل ثانيا عن القدر المنفق فلم يكن بين السؤالين تكرار ، وتقدم الجواب عن الجمع بأنه لما كان ذلك السؤال ينفع جميع الناس فكأن السائل جميع الناس. قوله : (وتضيعوا أنفسكم) أي فالاسراف مذموم وكذا التقتير ، قال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الآية ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً). قوله : (قراءة بالرفع) أي وهي لأبي عمرو من السبع ، وسبب القراءتين الاختلاف في إعراب ماذا ينفقون ، فمن أعرب ماذا جميعها اسم استفهام معمولا لينفقون فالجملة فعلية فيكون جوابها كذلك ، فقوله العفو بالنصب معمول لمحذوف ، والجملة في محل نصب مقول القول لأن القول لا ينصب إلا الجمل أو ما قام مقامها ، ومن أعرب ما وحدها اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة ينفقون صلته فالجملة اسمية فيكون جوابها كذلك ، فالعفو بالرفع خبر لمحذوف أي هو العفو ، والجملة على كل حال مقول القول وهذا هو المناسب ، وإلا فيصح جعل السؤال جملة اسمية ، والجواب جملة فعلية وبالعكس. قوله : (فِي) (أمر) (الدُّنْيا) أي فتصلحوها ولا تسرفوا ولا تقتروا. قوله : (وَالْآخِرَةِ) أي فتصلحوها بالأعمال

١٣٤

من أموالهم وصنعوا لهم طعاما وحدهم فحرج (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ) في أموالهم بتنميتها ومداخلتكم (خَيْرٌ) من ترك ذلك (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) أي تخلطوا نفقتكم بنفقتهم (فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم في الدين ومن شأن الأخ أن يخالط أخاه أي فلكم ذلك (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ) لأموالهم بمخالطته (مِنَ الْمُصْلِحِ) بها فيجازي كلا منهما (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) لضيق عليكم بتحريم المخالطة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره (حَكِيمٌ) (٢٢٠) في صنعه (وَلا تَنْكِحُوا) تتزوجوا أيها

____________________________________

الصالحة ، فلا تشددوا حتى تملوا ، ولا تتركوا حتى تغفلوا بل التوسط مطلوب في أمر الدنيا والآخرة.

قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) سبب نزولها أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) اشتد الكرب على أولياء الأيتام فشكوا الرسول الله ذلك فقالوا يا رسول الله إنا إن خالطناهم فبالضرورة لا بد من أكل شيء من أموالهم ، وإن عزلناهم يلزم عليه المشقة على اليتامى وعلى أوليائهم فنزلت الآية. قوله : (وما يلقونه من الحرج) هذا بيان لوجه السؤال كأنه قال ويسألونك عما يلقونه من الحرج في شأن اليتامى ، والمراد بالحرج الوعيد الوارد في سورة النساء. قوله : (فان واكلوهم) أي خالطوهم. قوله : (يأثموا) أي يقعوا في الأثم المترتب عليه الوعيد ، وهذا بيان لوجه الحرج. قوله : (وإن عزلوا مالهم) أي مال اليتامى ، وقوله (من أموالهم) أي الأولياء ويصح العكس.

قوله : (فحرج) أي هو حرج فالجملة جواب الشرط.

قوله : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) التنوين عوض عن المضاف إليه أي إصلاحكم لهم خير ، والوعيد محمول على الأكل بنية الافساد. قوله : (بتنميتها) الباء للسببية أي بسبب زيادتها بالاتجار فيها ، وفي الحديث «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة». قوله : (ومداخلتكم) أي مخالطتكم لهم بأن تدخلوا أموالهم في أموالكم قوله : (خَيْرٌ) (من ترك ذلك) أي العزل واختلف في تنمية مال اليتيم بالاتجار ونحوه ، فقال مالك حفظ ماله بأي وجه واجب ، والأولى أن يكون بالتنمية فهي ليست واجبة وحمل حديث اتجروا على الندب واسم التفضيل على بابه فترك التنمية خير أيضا لكن الأولى التنمية ، وقال الشافعي تنميته والاتجار فيه على حسب الطاقة واجب ، وحمل الحديث على الوجوب واسم التفضيل في الآية على غير بابه ، فترك التنمية لا خير فيه بل هي المتعينة. قوله : (أي فهم إخوانكم) أشار بذلك إلى أنه خبر لمحذوف والجملة جواب الشرط وهذا من التعبير باللازم ، ولذا أشار له المفسر بقوله (أي فلكم ذلك).

قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي فيدخل المفسد النار والمصلح الجنة ، ودفع بذلك ما يقال ربما الأولياء يدعون الاصلاح بالخلطة ، والواقع غير ذلك. قوله : (بتحريم المخالطة) أي بأن يكلف الأولياء بعزل مال اليتيم وطعامه وشرابه ، وإن تلف شيء من ذلك فعلى الولي. قوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) هذا كالتعليل لما قبله ، فالمعنى لو شاء الله عنتكم لأعنتكم لأنه غالب على أمره. قوله : (حَكِيمٌ) (في صنعه) أي يضع الشيء في محله فحيث أوجب الله حفظ مال اليتيم سوغ المخالطة وفقا بالأولياء ، والحاصل أنه يخرج من تركة أبي الأيتام مؤن تجهيزه ، وأما ما أوصى به من السبح والجمع فمن ثلثه إن وسعه ، وأما إن لم يوص وقد جرت العادة بذلك والمال واسع وفعل ذلك كبير رشيد ، فعند المالكية يلزم الأيتام ذلك ولا

١٣٥

المسلمون (الْمُشْرِكاتِ) أي الكافرات (حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) حرة لأن سبب نزولها العيب على من تزوج أمة وترغيبه في نكاح حرة مشركة (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) لجمالها ومالها وهذا مخصوص بغير الكتابيات بآية والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب (وَلا تَنْكِحُوا) تزوجوا (الْمُشْرِكِينَ) أي الكفار المؤمنات (حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) لماله وجماله (أُولئِكَ) أي أهل الشرك (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) بدعائهم إلى العمل الموجب لها فلا تليق مناكحتهم (وَاللهُ يَدْعُوا) على لسان رسله (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي العمل الموجب لهما (بِإِذْنِهِ) بإرادته فتجب إجابته بتزويج أوليائه (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٢١) يتعظون (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) أي الحيض أو مكانه ما ذا يفعل بالنساء فيه (قُلْ هُوَ أَذىً) قذر أو

____________________________________

يحرم الأكل منه حيث لا إسراف فيه وعند الشافعية لا يلزم الأيتام ذلك ويحرم الأكل منه ، وأما إن كان المال ضيقا فلا يلزم الأيتام ذلك اتفاقا ويحرم الأكل منه ، إلا أن يهدي للأيتام ما يفي بما أكله. قوله : (تتزوجوا) يشير إلى أن المراد بالنكاح العقد لا الوطء ، ولم يرد في القرآن بمعنى الوطء ، وسبب نزول الآية أن رجلا من الصحابة كان عاشقا امرأة في الجاهلية ، فلما أسلم اجتمع بها في مكة بعد هجرة النبي إلى المدينة فراودته عن نفسه ، فقال لها : قد حال بيني وبين ما تطلبينه الإسلام ، فقالت له فهل لك في التزوج بي فقال حتى استأذن رسول الله فلما أخبره نزلت الآية. قوله : (أيها المسلمون) تفسير للواو في تنكحوا. قوله : (الكافرات) أي الغير الكتابيات بدليل ما يأتي في المفسر.

قوله : (حَتَّى يُؤْمِنَ) فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهي فاعله سكنت وأدغمت في نون الفعل. قوله : (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) اسم التفضيل ليس على بابه أو باعتبار أمر الدنيا قوله : (على من تزوج أمة) أي وهو عبد الله بن رواحة أو حذيفة بن اليمان كان عند كل منهما أمة فأعتقها وتزوج بها فعيرا بذلك وفي الحقيقة لم يتزوجا إلا بحرة ، وأما التزوج بالأمة من غير عتق فيجوز بشرط أن لا يجد للحرائر طولا وأن يخشى العنت أو تكون أمة كالجد وهذا إن كان يولد له منها وإلا فيجوز بغير شرط ، وسيأتي التعرض له في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) الآيات.

قوله : (بغير الكتابيات) أي الحرائر وأما الأمة الكتابية فلا تحل إلا بالملك.

قوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) القراءة بضم التاء بإجماع ، وهو ينصب مفعولين المشركين مفعول أول وقدر المفسر المفعول الثاني ، والمعنى لا تزوجوا الكفار ولو أهل كتاب المؤمنات. قوله : (المؤمنات) قدره إشارة إلى مفعول تنكحوا الثاني. قوله : (حَتَّى يُؤْمِنُوا) أي إلى أن يدخلوا في الإيمان. قوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) الواو للحال ولو شرطية بمعنى أن جوابها محذوف تقديره فلا تزوجوه قوله : (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) قدم الجنة هنا لمناسبة النار ، وإلا فالمغفرة سبب في دخول الجنة ، والسبب مقدم على المسبب ، وقد قدمت في قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) وقوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ). قوله : (بتزويج أوليائه) أي وهم المسلمون. قوله : (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) أي يظهرها ويوضحها لهم وللناس متعلق بيبين.

قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) السائل أبو الدحداح وجماعة من الصحابة ، وسبب ذلك أن

١٣٦

محله (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) اتركوا وطأهن (فِي الْمَحِيضِ) أي وقته أو مكانه (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) بالجماع (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بسكون الطاء وتشديدها والهاء وفيه إدغام التاء في الأصل في الطاء أي يغتسلن بعد انقطاعه (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) بالجماع (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تعدوه إلى غيره (إِنَّ اللهَ يُحِبُ) يثيب ويكرم (التَّوَّابِينَ) من الذنوب (وَيُحِبُ

____________________________________

اليهود كانوا يعتزلون النساء في المحيض بالمرة ، حتى إنه لا يبيت في مكان فيه حائض ، ولا تصنع له حاجة أبدا ، ثم اقتدت بهم الجاهلية ، وأما النصارى فبخلاف ذلك فإنهم كانوا لا يفرقون بين كونها حائضا أو لا ، فبين الله أن شرعنا بين ذلك قواما. قوله : (أي الحيض أو مكانه) أعلم أن المحيض مصدر ميمي يصلح للزمان والمكان ، فقوله أو مكانه أي أو زمانه ، والحيض لغة السيلان يقال حاض الوادي إذا سأل ، واصطلاحا دم أو صفرة أو كدرة خرج من قبل من تحمل عادة حالة الصحة والاعتياد ، فخرج بقولنا دم الخ القصة البيضاء فإنها علامة الطهر من الحيض لا نفس الحيض ، وبقولنا من قبل من تحمل عادة أي وهو ما بين الاثنتي عشرة والخمسين سنة ، وأما ما فوق الخمسين إلى الستين من التسعة إلى الاثني عشر يسأل النساء العارفات ، فإن قلن إنه حيض كان حيضا. وإلا فلا خرج به من لا تحمل عادة لصغر أو يأس كبنت ست أو سبعين فليس بحيض ، وقولنا حالة الصحة والاعتياد خرج بذلك ما نزل على وجه المرض كالسلس فليس بحيض إلا أن تميزه بعد طهر تام وأكثره للمبتدأة نصف شهر فإن زاد كان استحاضة ، وللمعتادة عادتها فإن زاد استظهرت عليها بثلاثة أيام ما لم تجاوز نصف شهر وتصير هي مع الاستظهار عادة لها ، وأحكام الحيض مفصلة في الفروع. قوله : (ماذا يفعل بالنساء) هذا هو صورة السؤال.

قوله : (قُلْ هُوَ) أي المحيض بمعنى الدم السائل لا بالمعنى المصدري الذي هو السيلان ففيه استخدام. قوله : (قذر أو محله) لف ونشر مرتب فإن قوله قذر راجع لتفسيره بالمصدر ، وقوله أو محله راجع لتفسيره بالمكان. قوله : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) مفرع على قوله (قُلْ هُوَ أَذىً) ولما نزلت هذه الآية فهم بعض الصحابة أن الاعتزال مطلق حتى في المسكن ، فقال ناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة ، فان آثرناهن هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض ، فقال إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن ولم تؤمروا باخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم ، ثم أعلم أنه يحرم وطء الحائض في الفرج باجماع ، وأما التلذذ بما بين السرة والركبة فان كان من الأزار ففيه خلاف ، وأما ما عدا ذلك من سائر الجسد فهو جائز باجماع لما في الحديث : «الحائض تشد إزارها وشأنك بأعلاها». قوله : (أي وقته أو مكانه) تفسير له بالزمان أو المكان. قوله : (بالجماع) أي فالمراد قرب خاص. قوله : (وفيه إدغام التاء في الأصل) أي فأصله يتطهرن فلبت التاء طاء ثم أدغمت في الطاء. قوله : (أي يغتسلن بعد انقطاعه) أي الماء إن كان موجودا وقدرن على استعماله وإلا فالتيمم يقوم مقامه ، ولا يجوز فربانها بعد الانقطاع وقبل الطهر عند الأثمة الثلاثة ، وجوزه أبو حنيفة حيث انقطع بعد مضي أكثره وهو عشرة أيام عنده ، وأما ان انقطع قبل مضي أكثره فلا يجوز قربانها إلا بالغسل أو بمضي وقت الصلاة.

قوله : (مِنْ حَيْثُ) أي في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في زمن المحيض. قوله : (ولا تعدوه) بسكون العين وضم الدال ، ويصح فتح العين وتشديد الدال. قوله : (إلى غيره) أي وهو الدبر فلا يجوز الايلاج فيه مطلقا زمن الحيض أو لا. قوله : (التَّوَّابِينَ) أي وهم الذين كلما أذنبوا تابوا. قوله : (من

١٣٧

الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢) من الأقذار (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أي محل زرعكم الولد (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) أي محله وهو القبل (أَنَّى) كيف (شِئْتُمْ) من قيام وقعود واضطجاع وإقبال وإدبار نزل ردا لقول اليهود : من أتى امرأته في قبلها من جهة دبرها جاء الولد أحول (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) العمل الصالح كالتسمية عن الجماع (وَاتَّقُوا اللهَ) في أمره ونهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) بالبعث فيجازيكم بأعمالكم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٢٣) الذين اتقوه بالجنة (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ) أي الحلف به (عُرْضَةً) علة مانعة (لِأَيْمانِكُمْ) أي نصبا لها بأن تكثروا الحلف به (أَنْ) لا (تَبَرُّوا

____________________________________

الأقذار) أي الحسية والمعنوية ، وقدم التوابين لئلا يقنطوا وأخر المتطهرين لئلا يعجبوا وان كانوا اعلى منهم.

قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ) أي كالأرض تحرث ليوضع فيها البذر ، فشبه النساء بالأرض التي تحرث وشبه النطفة بالبذر الذي يوضع في تلك الأرض ، وشبه الولد بالزرع الذي ينبت من الأرض ، والمراد من تلك الآية بيان الآية المتقدمة وهي قوله : (من حيث أمركم الله) فبين أن المراد به موضع الزرع وهو القبل لا غيره. قوله : (وهو القبل) أخذ بعضهم من الآية أنه يحرم وطء النساء في ادبارهن لأنه ليس محل الزرع ، وحكمه النكاح وجود النسل ، وإنما جعلت الشهوة وسيلة لذلك ، وجعلت شهوة النساء أعظم ، لأن مشقة النسل عليهن أعظم من الرجال ، فتتسلى النساء عن المشقة بعظم الشهوة. قوله : (أَنَّى شِئْتُمْ) أنى بمعنى كيف فهي لتعميم الأحوال. قوله : (وأدبار) أي فيجامعها من جهة دبرها لكن في الفرج ، والوارد في السنة عن رسول الله في صفة إتيانه لنسائه أنه كان يجلس بين شعبها الاربع وهي مستلقية على ظهرها ، وقال الحكماء ادامة الجماع وهو مضطجع على جنبه يورث وجع الجنب. قوله : (جاء الولد أحول) أي بياض عينه مكان سوادها. قوله : (كالتسمية عند الجماع) أي بأن يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إذا فعل ذلك حفظ الولد من الشيطان ، وكتب له بعدد انفاسه وانفاس اولاده حسنات إلى يوم القيامة. قوله : (في أمر) أي بالأتيان في القبل والتسمية وقوله ونهيه عن الأتيان في الدبر ، وإنما طلبت التسمية في ذلك الموضع لأنها ذكر في وقت غفلة فيكتب من الذاكرين الله في الغافلين ، وأهل الله في ذلك لهم تجليات ومشاهدات تجل عن الحصر والكيف ، وإلى ذلك الإشارة بقوله عليه الصلاة والسّلام : «حبب إليّ من دنياكم ثلاث النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» حيث قدم النساء ، ولا يقال إن الاشتغال بمشاهدة المنعم يحجب عن اللذة ، لأنه يقال إنه مقام جمال وبسط لا جلال وقبض ، فعند ذلك تزداد القوة لما ورد أن رسول اعطي قوة أربعة آلاف رجل من أهل الدنيا في الجماع ، ويقرب ذلك إذا اضافك ملك عظيم وصنع لك طعاما عظيما وجلس معك يباسطك بأنواع المباسطات ، فان شهودك له ومسامرته تزيد لذتك في طعامه وشرابه أكثر من تمتعك بذلك في حال غيبتك عنه ، فسبحان المعطي المانع.

قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي ملاقوا جزائه. قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً) سبب نزول هذه الآية أن عبد الله بن رواحة كان بينه وبين ختنه أي نسيبه وهو النعمان بن بشير شيء ، فحلف أنه لا يواصله أبدا فنزلت ، وقيل نزلت في حق الصديق حين حلف على مسطح لما تكلم في الافك أن لا يصله. قوله : (لِأَيْمانِكُمْ) أي افعال بركم ، وسميت أيمانا لتعلق الإيمان بها ، وقوله أن تبروا الخ بدل من

١٣٨

وَتَتَّقُوا) فتكره اليمين على ذلك ويسن فيه الحنث ويكفر بخلافها على فعل البر ونحوه فهي طاعة (وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) المعنى لا تمتنعوا من فعل ما ذكر من البر ونحوه إذا حلفتم عليه بل ائتوه وكفروا لأن سبب نزولها الامتناع من ذلك (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) (٢٢٤) بأحوالكم (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ) الكائن (فِي أَيْمانِكُمْ) وهو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف نحو لا والله وبلى والله فلا إثم عليه ولا كفارة (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي قصدته من الإيمان إذا حنثتم (وَاللهُ غَفُورٌ) لما كان من اللغو (حَلِيمٌ) (٢٢٥) بتأخير العقوبة عن مستحقها (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أي يحلفون أن يجامعوهن (تَرَبُّصُ) انتظار (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ

____________________________________

أيمانكم. قوله : (أي نصبا لها) أي عرضا مانعا من فعل البر. قوله : (بأن تكثروا الحلف به) هذا تفسير آخر للآية ، فكان المناسب للمفسر أن يأتي بأو. قوله : (أَنْ تَبَرُّوا) أي تصلوا الرحم مثلا ، وقوله : (وَتَتَّقُوا) أي تصلوا أو تصوموا مثلا ، وقوله : (وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) من عطف الخاص على العام ، والمعنى أن الفعل الذي يحصل لكم به خير فلا تحلفوا على تركه وهذا على التفسير الأول ، وأما على الثاني فلا يحتاج لتقدير لا وإنما يقدر لام التعليل ، أي لا تكثروا الحلف بالله لما فيه من ابتذال اسمه تعالى في كل شيء قليل أو كثير عظيم أو حقير ، لأجل أن تكونوا من أهل البر والتقوى والاصلاح بين الناس ، فالنهي عن الكثرة على هذا والإيمان على بابها بمعنى الأقسام ، وعرضة بمعنى معروض فهي اسم مفعول أي محل للحلف كغرض الرماة ، وعلى الأول فهي بمعنى عارضة ، أي لا تجعلوا الله مانعا من بركم وتقواكم واصلاحكم بواسطة القسم به. قوله : (فتكره اليمين على ذلك) أي إن كان مندوبا وهو مفرع على التفسير الأول. قوله : (فهي طاعة) أي مندوب وتعتريها الحرمة كما إذا حلف على ترك واجب.

قوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ) اختلف العلماء في معنى اللغو ، فقال الشافعي هو ما سبق إليه اللسان من غير قصد عقد اليمين فلا أثم ولا كفارة له ، وقال أبو حنيفة ومالك هو أن يحلف على ما يعتقد فيتبين خلافه ، وفي الفروع تفاصيل موكولة لأربابها. قوله : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وقعت هنا لكن بين نقيضين باعتبار وجود اليمين لأنها لا تخلو إما أن لا يقصدها القلب بل جرت على اللسان وهي اللغو عند الشافعي ، وإما أن يقصدها وهي المنعقدة ، والمعنى لا يؤاخذكم الله بغير المقصودة لقلوبكم وإنما يؤاخذكم بالمقصودة لها ، وهذا التقرير على مذهب الشافعي ، ويقال على مذهب أبي حنيفة ومالك لا يؤاخذكم الله باللغو أي بما حلفتم عليه معتقدين حقيقته بحيث يكون اللسان موافقا للجنان ، ولكن يؤاخذكم بما حلفتم عليه غير معتقدين حقيقته وهي اليمين الغموس ، وقذ نظم الاجهوري من المالكية صور كفارة اللغو والغموس بقوله :

كفر غموسا بلا ماض بكون كذا

لغو بمستقبل لا غير فامتثلا

قوله : (لما كان من اللغو) أي والخطأ. قوله : (بتأخير العقوبة عن مستحقها) أي ومن ذلك اليمين الغموس فكفارتها الغمس في جهنم. قوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) حقيقة الايلاء الحلف بالله أو بغيره على ترك وطء الزوجة المدخول بها المطيقة للوطء أكثر من أربعة أشهر ، إما صريحا كلا أطؤك ، أو ضمنا كلا أغتسل من جنابة منك ، وخكمه كما قال الله ، وللذين خبر مقدم وتربص مبتدأ مؤخر ،

١٣٩

فاؤُ) رجعوا فيها أو بعدها عن اليمين إلى الوطء (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم ما أتوه من ضرر المرأة بالحلف (رَحِيمٌ) (٢٢٦) بهم (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أي عليه بأن لم يفيؤوا فليوقعوه (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقولهم (عَلِيمٌ) (٢٢٧) بعزمهم. المعنى ليس لهم بعد تربص ما ذكر إلا الفيئة أو الطلاق (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) أي لينتظرن (بِأَنْفُسِهِنَ) عن نكاح (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) تمضى من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف وهو الطهر أو الحيض قولان ، وهذا في المدخول بهن أما غيرهن فلا عدة عليهن لقوله (فمالكم عليهن من عدة) وفي غير الآيسة والصغيرة فعدتهن ثلاثة أشهر والحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن كما في سورة الطلاق والإماء

____________________________________

والإضافة على معنى في أي انتظار في أربعة أشهر ولها النفقة والكسوة في تلك المدة ، لأن الامتناع من قبله بخلاف الناشز فلا نفقة لها ولا كسوة لأن الامتناع منها. قوله : (أي يحلفون أن لا يجامعوهن) بيان لحقيقة الايلاء الشرعي ، وإلا فمعناه لغة مطلق الحلف. قوله : (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أي وتحسب من يوم الحلف إن كانت صريحة في ترك الوطء ، ومن يوم الرفع للحاكم إن لم تكن صريحة. قوله : (رجعوا فيها) أي في الأربعة أشهر ويلزمه ما يترتب على الحنث من كفارة إن كانت اليمين بالله أو العتق إن كان به. قوله : (أي عليه) إشار بذلك إلى أن الطلاق منصوب بنزع الخافض. قوله : (فليوقعوه) قدره المفسر إشارة لجواب الشرط ، فإن امتنعوا من إيقاعه ومن الوطء فإن الحاكم يأمرها بالطلاق ثم يحكم به ، وقيل شيء الطلاق وهو رجعي كالطلاق على المعسر بالنفقة ، لأن كل طلاق اوقعه الحاكم فهو بائن إلا المولي والمعسر بالنفقة. قوله : (المعنى) أي المراد من قوله تعالى : (فَإِنْ فاؤُ) الآيتين. قوله : (تربص ما ذكر) أي الأربعة أشهر قوله : (إلا الفيئة أو الطلاق) أي ما لم ترض بالمقام معه بلا وطء ، فإن استمرت على ذلك فالأمر ظاهر. فإن رفعت ثانيا وشكت للحاكم أمره إما بالفيئة أو الطلاق ، فإن امتنع منهما طلق عليه الحاكم.

قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ) أي رجعيا أو بائنا. قوله : (بِأَنْفُسِهِنَ) يحتمل أن الباء زائدة لتوكيد النون أي يتربصن أنفسهن ، ويحتمل أنها للتعدية ، والمعنى أنهن لا يحتجن لحكم. قوله : (عن النكاح) أي نكاح غير المطلق. قوله : (تمضى من حين الطلاق) أي وتصدق المرأة في ذلك لأنها امينة على فرجها ان مضى زمن تقضي العادة فيه بمضي الثلاثة الأقراء. قوله : (بفتح القاف) أي وأما الضم فجمعه اقراء كقفل واقفال ، وإنما ضبطه المفسر بالفتح فقط لأجل جمعه في الآية على قروء ، وإلا فهو في نفسه يصح فيه الضم والفتح. قوله : (وهو الطهر) أي وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد في أول امره. قوله : (أو الحيض) أي وإليه ذهب أبو حنيفة وأحمد في آخر امره. قوله : (قولان) أي للعلماء وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا طلقت في طهر ثم حاضت ثم طهرت ثم حاضت ثم طهرت ثم حاضت ، فعنمد مالك والشافعي وأحمد في أول امره أنها تحل للأزواج بمجرد رؤية الدم لأن الأقراء قد تمت ، وعند أبي حنيفة وأحمد في آخر امره أنها لا تحل حتى تطهر ، وأما إذا طلقها في الحيض فلا تحسب ذلك الحيض من العدة اتفاقا ، ويأتي الخلاف في الحيضة الرابعة هل تحل بأولها أو بانقضائها. قوله : (وفي غير الآيسة) أي وهي بنت كسبعين. قوله : (والصغيرة) أي المطيقة للوطء ولم تبلغ أوان الحمل. قوله : (كما في سورة الطلاق) راجع للآيسة والصغيرة والحامل ، وحاصل ما في المقام أن غير المدخول بها لا عدة عليها في الطلاق حرة كانت أو أمة ، وأما المدخول بها ففيها تفصيل ، فالآيسة والصغيرة عدتهما ثلاثة أشهر ، والحامل وضع حملها كله لا فرق في ذلك كله بين الحرة

١٤٠