حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
ISBN: 978-2-7451-3977-0
الصفحات: ٦٠٠

(إِذْ) بدل من إذ قبله (تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) أي الرؤساء (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أي أنكروا إضلالهم (وَ) قد (رَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ) عطف على تبرأ (بِهِمُ) عنهم (الْأَسْبابُ) (١٦٦) الوصل التي كانت بينهم في الدنيا من الارحام والمودة (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) أي المتبوعين (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) اليوم ، ولو للتمني ونتبرأ جوابه (كَذلِكَ) أي كما أراهم شدة عذابه وتبرأ بعضهم من بعض (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ) السيئة (حَسَراتٍ) حال ندامات (عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١٦٧) بعد دخولها. ونزل فيمن حرم السوائب ونحوها (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً) حال (طَيِّباً) صفة موكدة أي مستلذا (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ) طرق (الشَّيْطانِ) أي تزيينه (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٦٨) بين العداوة (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ

____________________________________

هذا هو جواب الشرط. قوله : (أي الرؤساء) أي كفرعون والنمروذ وعبد الله بن سلول وحيي بن أخطب وغيرهم. قوله : (أي أنكروا إضلالهم) أي قالوا يا ربنا لم نضل هؤلاء بل ضلوا في أنفسهم وكفروا بإرادتهم. قوله : (عنهم) أشار بذلك إلى أن الباء بمعنى عن على حد (فسئل به خبيرا). قوله : (من الأرحام) قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ). قوله : (ونتبرأ جوابه) أي فهو منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية.

قوله : (كَذلِكَ) أي يتحاجون ولا تنفعهم المحاججة. قوله : (وتبرأ بعضهم) معطوف على أراهم أي مثل ما أراهم شدة العذاب ومثل ما تبرأ بعضهم يريهم. قوله : (أَعْمالَهُمْ) أي جزاءها. قوله : (حال) أي من أعمالهم. قوله : (ندامات) جمع ندامة. قوله : (ونزل فيمن حرم السوائب) أي وهم قبائل العرب حرموا أمورا لم يرد تحريمها من الشرع ، والسوائب جمع سائبة والمراد بها في عرف الجاهلية الناقة أو البعير المنذورة للصنم ، كان يقول الواحد منهم : إن قدمت من سفري فناقتي أو بعيري سائبة للأصنام ، فتصير لا ملك لأحد عليها ولا تؤكل وإن ذكيت. قوله : (ونحوها) أي كالبحيرة والوصيلة والحام ، فالبحيرة هي المنذورة اللبن للأصنام ، والوصيلة التي تبكر بالأنثى ثم تتبعها بالأنثى فإن الأم صارت عتيقة الأصنام لا يحمل عليها ولا يؤكل لبنها ولا لحمها ، والحام فحل الإبل يضرب مدة في الإبل معلومة فإذا استوفاها صار عتيقا للأصنام ، وسيأتي إيضاح ذلك.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا خطاب لأهل مكة ولا ينافيه كون السورة مدنية فإن ذلك من حيث النزول. قوله : (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) من للتبعيض لأن بعض ما في الأرض لا يجوز أكله ، كالحجارة والخنزير وما ورد تحريمه. قوله : (صفة مؤكدة) أي فمعنى الطيب الحلال ، وقوله : (أي مستلذا) أي لنفس المؤمن وهو ما عدا الحرام ، هكذا في نسخة ، وفي نسخة أخرى أو مستلذا وهي أولى فعليها هو صفة مخصصة ، فإن الحلال بعضه غير مستلذ كالصبر والمر ، وبعضه مستلذ كالسمن والعسل ، والحاصل أنه إن أريد بالمستلذ الشرعي وهو ما عدا الحرام فالصفة مؤكدة ويناسبها نسخة أي مستلذا ، وإن أريد به المستلذ الطبعي أي الذي لا يمجه الطبع فالصفة مخصصة ويناسبها نسخة أو مستلذا. قوله : (خُطُواتِ) بسكون الطاء وضمها قراءتان سبعيتان ، وقرأ أبو السماك بفتح الخاء والطاء. قوله : (أي تزيينه) أي فأطلق الخطوات التي هي ما بين القدمين وأراد التزيين ، والجامع بينهما الإتباع في كل. قوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ)

١٠١

بِالسُّوءِ) الإثم (وَالْفَحْشاءِ) القبيح شرعا (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١٦٩) من تحريم ما لم يحرم وغيره (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي الكفار (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من التوحيد وتحليل الصيبات (قالُوا) لا (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا) وجدنا (عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام وتحريم السوائب والبحائر ، قال تعالى (أَ) يتبعونهم (وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) من أمر الدين (وَلا يَهْتَدُونَ) (١٧٠) إلى حق والهمزة للإنكار (وَمَثَلُ) صفة (الَّذِينَ كَفَرُوا) ومن يدعوهم

____________________________________

هذا علة للنهي عن ابتاع تزيينه. قوله : (بين العداوة) أي للصالحين ، وأما غيرهم فلا يظهر عداوته لمصاحبتهم له ، ويقرب ذلك البيت الذي فيه النور فإنه يبين فيه كل مؤذ بخلاف غيره.

قوله : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) هذا كالعلة لقوله إنه لكم عدو مبين ، والسوء اسم جامع لما يغضب الله كان فيه حد أو لا سمي بذلك لأنه بسوء صاحبه ، فعطف الفحشاء عليه من عطف الخاص على العام لأن المراد بها الكبائر ، وكلام المفسر يريد أن السوء والفحشاء مترادفان وكل صحيح. قوله : (وَأَنْ تَقُولُوا) معطوف على السوء أي وقولهم على الله. قوله : (من تحريم ما لم يحرم) أي كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وقوله : (وغيره) أي كاتخاذ أنداد غير الله. قوله : (من التوحيد) أي فلا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا. قوله : (وتحليل الطيبات) أي كالبحائر والسوائب والوصيلة والحام وهو لف ونشر مرتب ، فإن قوله من التوحيد راجع لقوله ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ، وقوله وتحليل الطيبات راجع لقوله يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا.

قوله : (قالُوا) (لا) أي لا تتبع ما أنزل الله ، وقوله بل نتبع بل للإضراب الإبطالي وهو معطوف على جملة محذوفة ، أشار لها المفسر بتقدير لا قيل كل اضراب في القرآن انتقالي أي يفيد الإنتقال من قصة إلى قصة إلا هذه ، وإلا بل في قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ، فمحتمل للأمرين ، فإن اعتبرت قوله أم يقولون افتراء كان انتقاليا ، وإن اعتبرت افتراء وحده كان ابطاليا. قوله : (وجدنا) إن كانت وجد بمعنى أصاب نصبت مفعولا واحدا وهو آباؤنا وقوله عليه ظرف لغو متعلق بألفينا ، وإن كانت بمعنى علم نصبت مفعولين عليه وآباؤنا. قوله : (من عبادة الأصنام) راجع للفريق الأول ، وقوله تحريم السوائب إلخ راجع للفريق الثاني ، فهو لف ونشر مرتب. قوله : (أَ) (يتبعونهم) أشار بذلك إلى أن الهمزة للإنكار داخلة على محذوف ، والواو عاطفة على ذلك المحذوف ، والجملة حالية فالواو للحال أيضا. قوله : (وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) أي فهم تابعون لهم سواء ظهر لهم عقل آبائهم وهداهم أو شكوا في ذلك ، بل ولو ظهر لهم عدم عقلهم وعدم هداهم. قوله : (والهمزة للإنكار) أي والتوبيخ والتعجب ، والمعنى لا يليق منك بذلك.

قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي المدعوين وقوله : (ومن يدعوهم) أي كالأنبياء فقد حذف الداعي من هنا وذكر ما يدل عليه بقوله كمثل الذي ينعق ، والمعنى أن مثل الكفار في عدم سماع المواعظ والآيات والبراهين القطيعة ومثل داعيهم وهو النبي في تكرار المواعظ والآيات ، كمثل راع يرشد البهائم الوحشية بصوته إلى مصالحها ، فكما أن البهائم الوحشية لا ينفع فيها الصوت ولا تفهمه ولا تعقل معناه ، بل لا يرشدها إلا الضرب مثلا ، كذلك الكفار لا تنفع فيهم المواعظ والآيات ، بل جزاؤهم في الدنيا

١٠٢

إلى الهدى (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) يصوت (بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) أي صوتا ولا يفهم معناه أي هم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم تسمع صوت راعيها ولا تفهمه هم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١) الموعظة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) حلالات (ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على ما أحل لكم (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١٧٢) (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) أي أكلها إذ الكلام فيه وكذا ما بعدها وهي ما لم يذكّ شرعا وألحق بها بالسنة ما أبين من حي وخص

____________________________________

السيف وفي الآخرة النار وعذابها. قوله : (بِما لا يَسْمَعُ) الباء بمعنى على. قوله : (وَنِداءً) عطف مرادف. قوله : (كالبهائم) أي الوحشية وإلا فالإنسية ربما تسمع صوت راعيها وتنزجر به. قوله : (هم) (صُمٌ) أشار بذلك إلى أن صم وما عطف عليه خبر لمبتدأ محذوف ، وقوله صم أي لا يسمعون المواعظ ولا ينزجرون بها ، وقوله : (بُكْمٌ) أي لا ينطقون بالحق ، وقوله عمي أي لا ينظرون الهدى ولا يتبعونه وإن كانت صورة الحواس موجودة. قوله : (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) نتيجة ما قبله.

تنبيه : ما حل به المفسر هذه الآية هو أظهر التفاسير لأنهم اختلفوا في ذلك فمنهم من قال مثل ما قال المفسر ، ومنهم من قال إن المثل مضروب لتشبيه الكافر في دعائه للأصنام بالناعق على البهائم ، ومنهم من قال غير ذلك.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) جرت عادة الله في كتابه غالبا ومناداة أهل مكة بيا أيها الناس ، ومناداة أهل المدينة بيا أيها الذين آمنوا. قوله : (حلالات) أي مستلذة كانت أو لا أو المراد المستلذات وتقدم ذلك ، ويطلق الطيب في المأكولات على الطاهر ، قال تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) وقوله من طيبات من تبعيضية في موضع المفعول ، والأمر للوجوب بالنسبة لإقامة البنية ، وللندب بالنسبة للإستعانة على أمور مندوبة ، وللإباحة إن كان تفكها أو تبسطا. قوله : (ما رَزَقْناكُمْ) يصع أن تكون ما مصدرية أي من طيبات رزقنا إياكم أو اسم وصول. والجملة صلة أو نكرة موصوفة والجملة صفة أي من طيبات الشيء الذي رزقناكموه ، أو شيء رزقناكموه ويؤخذ من ذلك أن ذلك الرزق بعضه حلال وبعضه غير حلال وهو مذهب أهل السنة ، قال في الجوهرة :

فيرزق الله الحلال فاعلما

ويرزق المكروه والمحرما

قوله : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) أي اعتقدوا أن النعم صادرة لكم من الله ، وهو بذلك المعنى واجب وإنكاره كفر ، أو المعنى راقبوا في كل لحظة أن كل نعمة من الله وهو بهذا المعنى مندوب لأن هذا مقام الخواص. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن شرطية وكنتم فعل الشرط ، والتاء اسمها وجملة تعبدون خبرها وإياه مفعول تعبدون قدم رعاية للفواصل وللحصر ، وجواب الشرط محذوف دل عليه الأمر أي فكلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله.

قوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) المقصود من هذا الحصر الرد على من حرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وعلى من أحل بعض المحرمات فالحصر إضافي. قوله : (وهو ما لم يذك شرعا) أي إما لكونها لا تعمل فيه أصلا كالبغال والحمير أو تعمل فيه ولكن لم يذك كالأنعام إجماعا والخيل على مذهب الشافعي. قوله : (ما أبين من حي) أي فهو ميتة. قوله : (وخص منها السمك والجراد) أي لما في الحديث

١٠٣

منها السمك والجراد (وَالدَّمَ) أي المسفوح كما في الأنعام (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) خص اللحم لأنه معظم المقصود وغيره تبع له (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي ذبح على اسم غيره والاهلال رفع الصوت وكانوا يرفعونه عند الذبح لآلهتهم (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر فأكله (غَيْرَ باغٍ) خارج على المسلمين (وَلا عادٍ) متعد عليهم بقطع الطريق (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في أكله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لأوليائه (رَحِيمٌ) (١٧٣) بأهل طاعته حيث وسع لهم في ذلك وخرج الباغي والعادي ويلحق بهما كل عاص بسفره كالآبق والمكاس فلا يحل لهم أكل شيء من ذلك ما لم يتوبوا ، وعليه الشافعي (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) المشتمل على نعت محمد

____________________________________

«أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» وإنما أحل الكبد والطحال المنفصلان من الحيوان بعد ذكاته شرعا لكونهما ليسا من الدم المسفوح. قوله : (أي المسفوح) أي ولو من سمك خلافا لأبي حنيفة ، ومن هنا اختلف في الفسيخ فقال الأئمة الثلاثة : محرمة أكله وبيعه لشرب بعضه من دم بعض حين تكديسه ، وقال أبو حنيفة بطهارته لأنه لا دم له أصلا ، وإنما الذي ينزل منه دهن لا دم بدليل أنه لو نشف لصار أبيض لا أحمر ، وقال أستاذنا العارف بالله تعالى شيخنا الشيخ الدردير الذي أدين الله به أن الفسيخ بجميع أجزائه طاهر يجوز أكله ، وأما لو نشف بحيث لم يسل منه دم كالسمك المالح فهو طاهر حلال بإجماع. قوله : (كما في الأنعام) أي في سورة الأنعام في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية ، فما هنا يقيد بما هناك.

قوله : (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) أي البر إنسيا أو وحشيا ، وأما البحري فهو حلال وكلبه كذلك. قوله : (وغيره تبع له) ظاهره حتى الشعر ولكن مذهب مالك حل لبسه والانتفاع. قوله : (والإهلال رفع الصوت) أي قد سمي الشيء باسم صاحبه ، ولذلك يقال استهل المولود بمعنى صاح عند الولادة وسمي الهلال بذلك لرفع الصوت عند رؤيته. قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) هذا كالإستدراك على عموم قوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ). قوله : (غَيْرَ باغٍ) حال من الضمير في اضطر. قوله : (لأوليائه) أي الذين أكلوا عن اضطرار. قوله : (حيث وسع لهم في ذلك) أي فأباح لهم أكلها والشبع منها حيث كانت المخمصة دائمة ، وأجمعت الأئمة على ذلك ، واختلفوا إذا لم تدم المخمصة فرجح مالك الشبع والتزود وذكره غيره قولين ، وعلى كل فإذا استغنى عنها طرحها ويقدم الميتة وما أهل لغير الله في الأكل على لحم الخنزير. قوله : (وعليه الشافعي) أي فمذهب الشافعي أن العاصي بسفره لا يأكل من الميتة إلا إن تاب ، وأما مذهب مالك وأبي حنيفة أن العاصي بسفره له الأكل من الميتة وإن لم يتب ، وفسر قوله غير باغ أي غير طالب الميتة وما معها وهو يجد غيرها وغير عاد أي متعد ما أحل الله وقيل غير مستحل لها.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) نزلت هذه الآية في حق علماء اليهود ، وقد كانوا يأخذون من سفلتهم مالا ، وكانوا يودون أن نبي آخر الزمان يكون منهم ، فلما بعث رسول الله من غيرهم خافوا أن رئاستهم تذهب بسبب ظهوره واتباع سفلتهم له ، فينقطع ما كان يصلهم من سفلتهم فغيروا صفته وصفة أصحابه وبلده حرصا على الرياسة وعلى ما كانوا يأخذونه من سفلتهم ، قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). قوله : (المشتمل على

١٠٤

وهم اليهود (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من الدنيا يأخذونه بدله من سفلتهم فلا يظهرونه خوف فوته عليهم (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) لأنها مآله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) غضبا عليهم (وَلا يُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من دنس الذنوب (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٤) مؤلم ، هو النار (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أخذوها بدله في الدنيا (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) المعدة لهم في الآخرة لو لم يكتموا (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (١٧٥) أي ما أشد صبرهم وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم (ذلِكَ) الذي ذكر من أكلهم النار وما بعدها (بِأَنَ) بسبب أن (اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) متعلق بنزل فاختلفوا فيه حيث آمنوا ببعضه وكفروا

____________________________________

نعت محمد) أي فالكتاب مشتمل على أمور كثيرة ، منها نعت محمد ومنها غيره ، فالمغير إنما هو المشتمل على نعت محمد لا جميع ما في الكتاب. قوله : (يأخذونه بدله) أي يأخذون الثمن بدل الكتمان ، بمعنى أن الحامل لهم على الكتمان إنما هو العرض الفاني الذي يأخذونه من سفلتهم ، وليس المراد أنهم قالوا لهم خذوا هذا المال واكتموا وصف محمد. قوله : (خوف فوته) أي الأمر الدنيوي عليهم. قوله : (إِلَّا النَّارَ) أي سببها كما يشير له قول المفسر لأنها مآله أي مأواه وعاقبة أمره ففيه مجاز الأول.

قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) أي كلام رضا بل يكلمهم كلام غضب. قوله : (غضبا عليهم) أي من أجل غضبه عليهم أي طرده لهم وإبعادهم عن رضاه. قوله : (يطهرهم من دنس الذنوب) أو المعنى لا يشهد لهم بالطهارة يوم القيامة قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا بيان حالهم في الآخرة وهو عدم كلام الله لهم المترتب على كتمانهم ، وعدم طهارة الله لهم المترتب على اشترائهم ثمنا قليلا ، والعذاب الأليم المترتب على أكلهم سبب النار.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) هذا بيان لحالهم في الدنيا. قوله : (بِالْهُدى) الباء داخلة على المتروك أي فقد تركوا الهدى وأخذوا الضلالة بدله. قوله : (لو لم يكتموا) لو شرطية وجوابها محذوف تقديره ما اشتروا العذاب بالمغفرة. قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) الأحسن أن ما نكرة تامة مبتدأ والجملة بعدها في محل رفع خبر ، والمعنى أي شيء أصبرهم على النار فأصبر فعل تعجب والفاعل مستتر وجوبا والهاء مفعول وقيل استفهامية فيها معنى التعجب والإعراب واحد ، وقيل اسم موصول وما بعدها صلتها والخبر محذوف ، وقيل نكرة موصوفة وما بعدها صفتها والخبر محذوف. قوله : (أي ما أشد صبرهم) هذا حل معنى لا إعراب. قوله : (وهو تعجيب للمؤمنين) جواب عن سؤال مقدر ، حاصله أن التعجب هو استعظام شيء خفي سببه وذلك مستحيل على الله تعالى لأنه لا يخفى عليه خافية ، فأجاب بأن التعجب واقع من المؤمنين ، فالمعنى تعجبوا أيها المؤمنون من صبر هؤلاء على موجبات النار التي من جملتها الكتمان وأخذهم الثمن القليل وغير ذلك من غير مبالاة قوله : (وإلا فأي صبر لهم) أي وإلا نقدر موجبات بل لو أبقينا الكلام على ظاهره فلا يصح ذلك لأنه ليس لأحد صبر على ذات النار. قوله : (الذي ذكر) أي وهو أمور ستة : أكلهم سبب النار وعدم كلام الله وعدم تزكيته لهم والعذاب الأليم واشتراؤهم الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.

قوله : (نَزَّلَ الْكِتابَ) المراد به التوراة باتفاق المفسرين ، وإنما الخلاف في الكتاب الثاني. قوله :

١٠٥

ببعضه بكتمه (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) بذلك وهم اليهود وقيل المشركون في القرآن حيث قال بعضهم شعر وبعضهم سحر وبعضهم كهانة (لَفِي شِقاقٍ) خلاف (بَعِيدٍ) (١٧٦) عن الحق (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) في الصلاة (قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) نزل ردا على اليهود والنصارى حيث زعموا ذلك (وَلكِنَّ الْبِرَّ) أي ذا البر وقرىء بفتح الباء أي البار (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ) أي الكتب (وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى) مع (حُبِّهِ) له (ذَوِي

____________________________________

(فاختلفوا فيه) قدره المفسر لتمام الفائدة وإلا فالسبب ليس نزول الكتاب بالحق فقط. قوله : (وكفروا ببعضه) أي فما وافق هواهم آمنوا به وما خالفه كتموه وقالوا لم ينزله ربنا. قوله : (وهم اليهود) أي فالمراد بالكتاب التوراة والآية من تمام ما قبلها. قوله : (وقيل المشركون) أي فهو كلام مستأنف والكتاب هو القرآن. قوله : (حيث قال بعضهم شعر) هذا هو وجه الإختلاف. قوله : (بَعِيدٍ) (عن الحق) أي فمن آمن بالبعض وكفر بالبعض لم يصادف الحق بل هو بعيد عنه ، ومن قال من المشركين إنه شعر أو سحر أو كهانة أو غير ذلك لم يصادف الحق بل هو بعيد عنه ، وبهذه الآية تم الرد على جميع من كفر كان من اليهود أو المشركين.

قوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) هذا ابتداء نصف السورة الثاني وهو متعلق بتبيين غالب أحكام الدين ، وأما النصف الأول فهو متعلق بأصول الدين وقبائح اليهود ، والبر بالنصب والرفع قراءتان سبعيتان ، فمن نصب جعله خبرا لليس مقدما وأن تولوا في تأويل مصدر اسمها مؤخر ، ومن رفع جعله اسمها وأن تولوا خبرها ، والبراسم جامع لكل خير ، كما أن الإثم اسم جامع لكل شر. قوله : (نزل ردا على اليهود والنصارى) أي فقد زعم النصارى أن البر في استقبال جهة طلوع الشمس ، وزعم اليهود أن البر في استقبال بيت المقدس ، فالمراد بالمغرب ما عدا المشرق فيشمل جهة الشمال وقيل بكسر القاف وفتح الباء ظرف مكان معناه جهة ، وقيل نزلت ردا على المسلمين وكانوا في صدر الإسلام أمروا بالإيمان بالله والصلاة فقط لأي جهة كانت ، فالمعنى ليس البر كما تعتقدون أنه مقصور على الإيمان والصلاة فقط بل هو من جميع هذه الخصال والأظهر الأول. قوله : (أي ذا البر) قدر ذا إشارة إلى أن من اتصف بهذه الخصال يسمى بارا لا برا ، وبالجملة يقال فيه ما قيل في زيد عدل وقيل إن برا اسم فاعل أصله برر نقلت كسرة الراء إلى الباء ثم أدغمت إحدى الراءين في الأخرى.

قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي صدق بقلبه ونطق بلسانه أن الله يجب له كل كمال ويستحيل عليه كل نقص. قوله : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ما يتعلق به من الحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار وما فيهما من الثواب والعقاب. قوله : (وَالْمَلائِكَةِ) أي بأنهم عباد مكرمون ، أجسام نوارنية لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون. قوله : (أي الكتب) أي المنزلة من عند الله على أنبيائه. قوله : (وَالنَّبِيِّينَ) أي إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي ، فيجب الإيمان بخمسة وعشرين منهم وهم المذكورون في القرآن. قوله : (مع) (حُبِّهِ) (له) أي المال بأن يعطيه مع كونه يحبه لنفسه ، ويحتمل أن المعنى مع حبه لله أي يعطي المال مع كونه يحب الله ، وكل صحيح. قوله : (القرابة) أي فإعطاء الأقارب مقدم لأن فيه قربتين الصدقة وصلة الرحم.

١٠٦

الْقُرْبى) القرابة (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر (وَالسَّائِلِينَ) الطالبين (وَفِي) فك (الرِّقابِ) المكاتبين والأسرى (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) المفروضة وما قبله في التطوع (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) الله أو الناس (وَالصَّابِرِينَ) نصب على المدح (فِي الْبَأْساءِ) شدة الفقر (وَالضَّرَّاءِ) المرض (وَحِينَ الْبَأْسِ) وقت شدة القتال في سبيل الله (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم أو ادعاء البر (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧) الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ) فرض (عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) المماثلة (فِي الْقَتْلى) وصفا وفعلا (الْحُرُّ) يقتل (بِالْحُرِّ) ولا يقتل بالعبد (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) وبينت السنة أن الذكر يقتل بها وأنه

____________________________________

قوله : (وَالْيَتامى) أي الفقراء منهم وهم من مات أبوهم قبل بلوغهم. قوله : (وَالْمَساكِينَ) المراد ما يشمل الفقراء وهم المحتاجون. قوله : (المسافر) أي الغريب ولو مليئا ببلده. قوله : (الطالبين) أي مطلقا لما في الحديث : «أعطوا السائل ولو جاء على فرس». قوله : (المكاتبين) أي ليستعينوا على فك رقابهم من الرق. قوله : (والأسرى) أي ليستعينوا على خلاص أنفسهم من الكفرة. قوله : (المفروضة) أي ومن المعلوم أن لها أصنافا مذكورة في الفقه تصرف لها.

قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) أي وهم من إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا نذروا أوفوا ، وإذا حلفوا لم يحنثوا في أيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في أقوالهم ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، والموفون معطوف على من آمن ، التقدير ولكن البر المؤمنون والموفون. قوله : (نصب على المدح) أي بفعل محذوف تقديره وأمدح الصابرين وخصهم بالذكر ، لأن الصبر يزين العبادة وتركه يشينها. قوله : (شدة الفقر) أي فلا يشكون لأحد غير الله لأنه يحب الملحين في الدعاء. قوله : (وقت شدة القتال) أي فلا يفر من الأعداء. قوله : (الموصوفون بما ذكر) أي بجميع هذه الخصال ، قال بعضهم : لا تكون هذه الخصال جميعها إلا في الأنبياء ، وقال بعضهم لا مانع أن تكون في غيرهم. قوله : (أو دعاء البر) أي فمعنى الصدق هنا الصدق في الأقوال ، فإذا أخبروا بشيء فهم صادقون فيه.

قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (الله) أي الكاملون في التقوى. قوله : (فرض) (عَلَيْكُمُ) إن قلت إن مقتضى الفرض أنه متحتم لا يجوز العدول عنه وهو مخالف لما يأتي. أجيب بأن الفرض بالنسبة لولاة الأمور إذا شح الولي وأبى إلا القتل ، فالمعنى يجب عليهم فعل القتل إن شح المولى ولم يعف. وسبب نزول الآية أن رسول الله لما دخل المدينة وجد الأوس والخزرج يتفاخران على بعضهم فصاروا يقتلون الأثنين بالواحد والحر بالعبد منهم ، فنزلت هذه الآية فآمنوا وأسلموا. قوله : (الْقِصاصُ) نائب فاعل كتب وقوله في القتلى أي بسببها ففي للسببية على حد «دخلت امرأة النار في هرة حبستها» والقتلى جمع قتيل. قوله : (المماثلة) أي التماثل في الوصف والفعل وهذا هو المراد به هنا ، وإلا فالقصاص في الأصل القود وهو قتل القاتل. قوله : (وصفا) أي يشترط التماثل في الوصف بأن يكون مماثلا له في وصفه من حرية وإسلام ، وبالجملة فالمدار في القصاص من كون القاتل مثل المقتول أو أدنى ، فإن كان أعلى منه إما بالدين أو الحرية فلا قود. قوله : (وفعلا) أي فلو قتل بسيف فإنه يقتل به أو بغيره فبغيره. قوله : (ولا بقتل بالعبد) أي بل يلزمه قيمته ويضرب مائة ويحبس سنة كما بينته السنة.

١٠٧

تعتبر المماثلة في الدين فلا يقتل مسلم ولو عبدا بكافر ولو حرا (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) من القاتلين (مِنْ) دم (أَخِيهِ) المقتول (شَيْءٌ) بأن ترك القصاص منه وتنكير شيء يفيد سقوط القصاص بالعفو عن بعضه ومن بعض الورثة وفي ذكر أخيه تعطف داع إلى العفو وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان ومن مبتدأ شرطية أو موصولة والخبر (فَاتِّباعٌ) أي فعلى العافي اتباع للقاتل (بِالْمَعْرُوفِ) بأن يطالبه بالدية بلا عنف ، وترتيب الاتباع على العفو يفيد أن الواجب أحدهما وهو أحد قولي الشافعي والثاني الواجب القصاص والدية بدل عنه فلو عفا ولم يسمها فلا شيء ورجح (وَ) على القاتل (أَداءٌ) للدية (إِلَيْهِ) أي العافي وهو الوارث (بِإِحْسانٍ) بلا مطل ولا بخس (ذلِكَ) الحكم المذكور من جواز القصاص والعفو عنه على الدية (تَخْفِيفٌ) تسهيل (مِنْ رَبِّكُمْ) عليكم (وَرَحْمَةٌ) بكم حيث وسع في ذلك ولم يحتم واحدا منهما كما حتم على اليهود القصاص وعلى النصارى الدية (فَمَنِ اعْتَدى) ظلم القاتل بأن قتله (بَعْدَ ذلِكَ) أي العفو (فَلَهُ

____________________________________

قوله : (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) أي إن طلب سيد المقتول القصاص وإلا فله إما قيمة القاتل أو المقتول أو ذات القاتل ، والخيار في ذلك لسيد القاتل. قوله : (وأن الذكر يقتل بالأنثى) أي وبالعكس. قوله : (وأنه تعتبر المماثلة) معطوف على أن الذكر مسلط عليه قوله وبينت السنة. قوله : (فلا يقتل مسلم إلخ) أي فالإسلام أعلى من الحرية وعكسه يقتل به. قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) هذا تقييد لما قبله ، وسيأتي للمفسر أن من يصح أن تكون شرطية أو موصولة فالمعنى على الثاني ، فالشخص الذي ترك له شيء من دم أخيه فاتباع بالدية بالمعروف ، وقرن بالفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط وعلى الأول فأي شخص ترك له الخ فقد بطل القتل فلا مطالبة به. قوله : (من القاتلين) بيان لمن.

قوله : (مِنْ) (دم) (أَخِيهِ) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (المقتول) وصف للأخ. قوله : (عن بعضه) أي القصاص ولو شيئا يسيرا كعشرة وذلك كما إذا كان الولي واحدا وعفا عن بعض القصاص. قوله : (ومن بعض الورثة) أي ولو كان العافي واحدا من ألف مثلا ولمن بقي نصيبه من الدية. قوله : (تعطف) أي من الله. قوله : (لا يقطع أخوة الإيمان) أي خلافا للخوارج القائلين بقطع الإيمان بالمعاصي. قوله : (والخبر) (فَاتِّباعٌ) أي جملته من المبتدأ والخبر الذي قدره المفسر بقوله فعلى العافي اتباع.

قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لاتباع أي اتباع ملتبس بالمعروف. قوله : (وترتيب الإتباع على العفو) أي بعد ذكر وجوب القصاص. قوله : (أن الواجب أحدهما) أي القصاص أو الدية ، فالدية واجب مستقل مقابل للقصاص. قوله : (وهو أحد قولي الشافعي) أي ومالك أي فأحد قوليهما أن الواجب أحدهما ، فإذا كان عفا على الدية وامتنع من إعطائها فله جبره على الدية ولا يقتل. قوله : (والثاني الواجب القصاص إلخ) أي فالخيار للأولياء في ثلاثة ، إما القصاص أو العفو على الدية أو مجانا ، فلو عفوا على الدية وامتنع القاتل من دفعها فللأولياء إما قتله أو العفو مجانا ، وهذا هو المرتضى في المذهبين. قوله : (فلا شيء) أي على هذا القول وأما على الأول فيلزمه الدية. قوله : (والعفو عنه لا على الدية) أي أو مجانا كما بينته السنة. قوله : (بأن قتله) (بَعْدَ ذلِكَ) أي فحيث ترك حقه لا حق له.

١٠٨

عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٨) مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي بقاء عظيم (يا أُولِي الْأَلْبابِ) ذوي العقول لأن القاتل إذا علم أنه يقتل ارتدع فأحيا نفسه ومن أراد قتله فشرع (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩) القتل مخافة القود (كُتِبَ) فرض (عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسبابه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) مالا (الْوَصِيَّةُ) مرفوع بكتب ، ومتعلق إذا إن كانت ظرفية ودال على جوابها إن كانت شرطية وجواب إن أي فليوص (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) بالعدل بأن لا يزيد على الثلث ولا يفضل الغنى (حَقًّا) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله (عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠) الله وهذا منسوخ بآية الميراث وبحديث «لا وصية لوارث» رواه الترمذي (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي الإيصاء من شاهد ووصي (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) علمه (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أي الإيصاء المبدل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) فيه إقامة الظاهر مقام المضمر (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لقول الموصي (عَلِيمٌ) (١٨١)

____________________________________

قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ) هذا هو حكمة القصاص. قوله : (بقاء عظيم) أي للقاتل والمقتول. قوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) جمع لب وهو العقل الكامل. قوله : (فشرع) تفريع على بيان الحكمة وأخره لتعلق لعلكم تتقون به. قوله : (مخافة القود) أي مخافة أن يقتص منكم. قوله : (أي أسبابه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والمراد بأسبابه علاماته كالأمراض الشديدة والجراحات التي يظن منها الموت عادة. قوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) شرط في الشرط الذي هو إذا. قوله : (مالا) سماه خيرا إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون حلالا طيبا. قوله : (مرفوع بكتب) أي على أنه نائب الفاعل ولو لم توجد في الفعل علامة التأنيث لوجود الفاعل سيما مع كونه مجازي التأنيث كقولهم طلع في النهار الشمس. قوله : (إن كانت ظرفية) أي محضة لم يكن فيها معنى الشرط بل المراد منها الوقت والزمن. إن قلت الوصية إما مصدر أو اسم مصدر والمصدر أو اسمه لا يتقدم معموله عليه. أجيب بأنه يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيرها. قوله : (وجواب إن) بالجر معطوف على جوابها أي ودالة على جواب إن وقوله أي فليوص هذا هو جواب إذا وإن.

قوله : (لِلْوالِدَيْنِ) متعلق بالوصية ، وقوله : (وَالْأَقْرَبِينَ) عطف عام على خاص. قوله : (مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله) أي حيث صدر بقوله كتب على حد : زيد أبوك عطوفا ، واستشكل بأن المصدر المؤكد لا يعمل مع أنه عامل في قوله على المتقين ، فالأحسن أن يجعل مصدرا مبينا للنوع إلا أن يقال يتوسع في الظرف والمجرورات ما لا يتوسع في غيرها لأنه يكتفي فيها بأي عامل ولو ضعيفا قوله : (وهذا منسوخ) أي الحكم لا التلاوة فحكمها حكم القرآن. قوله : (بآية الميراث) أي قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآيات. قوله : (لا وصية لوارث) صدره إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية إلخ. قوله : (أي الإيصاء) أي أو المعروف أو الوصية. قوله : (من شاهد ووصي) بيان لمن. قوله : (علمه) أي ولو لم يسمعه من الموصي. قوله : (أي الإيصال المبدل) أو المعروف. قوله : (فيه إقامة الظاهر إلخ) أي مع مراعاة معنى من ، ولو راعى لفظها لقال على الذي بدله ، ولو أضمر لقال عليه.

١٠٩

بفعل الوصي فمجاز عليه (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ) مخففا ومثقلا (جَنَفاً) ميلا عن الحق خطأ (أَوْ إِثْماً) بأن تعمد ذلك بالزيادة على الثلث أو تخصيص غنى مثلا (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الموصي والموصى له بالعدل (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في ذلك (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨٢) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ) فرض (عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأمم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣) المعاصي فإنه يكسر الشهوة التي هي مبدؤها (أَيَّاماً) نصب بالصيام أو بصوموا مقدرا (مَعْدُوداتٍ) أي قلائل أو مؤقتات بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي وقلله تسهيلا على المكلفين (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ) حين شهوده (مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرا سفر القصر وأجهده الصوم في الحالين فأنظر (فَعِدَّةٌ) فعليه عدة ما أفطر (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يصومها بدله (وَعَلَى

____________________________________

قوله : (فَمَنْ خافَ) الأحسن أن هذا الحكم عام فهو غير منسوخ ، ويؤخذ هذا من تقديم المفسر قوله وهذا منسوخ عليه. قوله : (مخففا ومثقلا) أي فهما قراءتان سبعيتان والمعنى واحد. قوله : (خطأ) حمله على ذلك عطف قوله أو إثما عليه وإلا فالجنف في الأصل الميل عن الحق مطلقا. قوله : (بين الموصي والموصى له) أي إن أدرك وهو حي وحصل إصلاح فالإثم مرتفع وإلا فعليه الإثم ويبطل مما زاد على الثلث.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين من أهل المدينة لكن المراد العموم قوله : (الصِّيامُ) هو لغة الإمساك ومنه (إني نذرت للرحمن صوما) أي إمساكا عن الكلام ومنه أيضا : خيل صيام وخيل غير صائمة. أي ممسكة عن الجري وغير ممسكة عنه ، واصطلاحا الإمساك عن شهوتي البطن والفرج يوما كاملا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التقرب إلى الله تعالى. قوله : (من الأمم) أي وأنبيائهم من آدم إلى نبينا لكن لا كصومنا من كل جهة فالتشبه في الفرضية لا الكيفية والثواب وحكمة ذكر التشبيه التأكيد في الأمر والتسلي بمن قبلنا لأن في الصوم نوع صعوبة. قوله : (فإنه يكسر الشهوة) أي لما في الحديث «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» أي قاطع لشهوته كما تنقطع بالخصى. قوله : (نصب بالصوم) أي على أنه ظرف له أي الصيام في أيام ، وقوله أو بصوموا مقدرا أي دل عليه قوله الصيام وهو الأحسن.

قوله : (مَعْدُوداتٍ) أي أقل من أربعين إذ العادة في لغة العرب متى ذكر لفظ العدد يكون المراد به ذلك. قوله : (أو مؤقتات) هذا هو الأولى ليعلم منه تعيينها ، وقيل معنى معدودات معدات للعطايا الربانية ، فالصالحون يتهيؤون لها لما في الحديث «إن لله في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها» وأيضا فيه ليلة خير من الف شهر وغير ذلك من فضائله المشهورة. قوله : (تسهيلا على المكلفين) أي ليقدموا عليها. قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) الآية. قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي ملتبسا به قوله : (في الحالين) أي المرض والسفر وهذا ظاهر بالنسبة للمرض لا للسفر ، فإن المسافر يباح له الفطر وإن لم يجهده بالصوم ، لكن الصوم أفضل له في هذه الحالة ، ولا فرق في السفر بين كونه برا أو بحرا.

قوله : (أُخَرَ) بالجمع صفة لأيام ممنوع من الصرف للوصفية والعدل ، ولم يقل أخرى مع

١١٠

الَّذِينَ) لا (يُطِيقُونَهُ) لكبر أو مرض لا يرجى برؤه (فِدْيَةٌ) هي (طَعامُ مِسْكِينٍ) أي قدر ما يأكله في يومه وهو مد من غالب قوت البلد لكل يوم وفي قراءة بإضافة فدية وهي للبيان وقيل لا غير مقدرة وكانوا مخيرين في صدر الإسلام بين الصوم والفدية ثم نسخ بتعيين الصوم بقوله (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) قال ابن عباس : إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفا على الولد فإنها باقية بلا نسخ في حقهما (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) بالزيادة على القدر المذكور في الفدية (فَهُوَ) أي التطوع (خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) مبتدأ خبره (خَيْرٌ لَكُمْ) من الافطار والفدية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٤) أنه خير لكم فافعلوه تلك الأيام (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر منه (هُدىً) حال ، هاديا من الضلالة (لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ)

____________________________________

صحته لتوهم كونه صفة لعدة مع أنه ليس مرادا. قوله : (لا يرجى برؤه) أي كمرض القصبة والجذام. قوله : (هي) (طَعامُ) أشار بذلك إلى أن فدية بالتنوين وطعام خبر لمبتدأ محذوف بيان لفدية. قوله : (وفي قراءة بإضافة فدية) أي مع جمع مسكين ، وأما الأولى ففيها وجهان الإفراد والجمع. قوله : (وقيل لا غير مقدرة) هذا مقابل ما حل به المفسرد ، فعلى الأول الآية محكمة ، وعلى الثاني منسوخة. قوله : (بتعيين الصوم) أي ولا يقبل منه فدية بعد ذلك والتارك له جحدا كافر أو كسلا يؤخر لمقدار النية قبل الفجر فإن لم ينو قتل حدا. قوله : (خوفا على الولد) أي فإنهما يقضيان ويفتديان. وأما على أنفسهما فقط أو للولد فإن عليهما القضاء لا غير. قوله : (بالزيادة على القدر المذكور) أي بأن زاد على المذكور وفي عدد المساكين. قوله : (مبتدأ) أي مؤول بمصدر تقديره صيامكم. قوله : (فافعلوه) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف.

قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ) خبر لمبتدأ محذوف قدره المفسر بقوله تلك الأيام ، واعلم أن اسماء الشهور أعلام أجناس ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزياد. الألف والنون لأنه من الرمض وهو الأحراق لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها وسمي الشهر شهرا لاشتهاره لمنافع الناس في دينهم ودنياهم ، وسيأتي ايضاحه في قوله تعالى يسئلونك عن الأهلة. قوله : (الْقُرْآنُ) هو لغة من القرء وهو الجمع واصطلاحا اللفظ المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتعبد بتلاوته للإعجاز بأقصر سورة منه. قوله : (في ليلة القدر منه) أي فقد حوى رمضان مزيتين : نزول القرآن فيه ووجود ليلة القدر به ، وليلة القدر به هي المعنية بقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ). والحاصل أن جبريل تلقاه من اللوح المحفوظ ونزل به إلى السماء الدنيا فأملاه للسفرة فكتبته في الصحف على هذا الترتيب ومقرها بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم نزل به على النبي في ثلاث وعشرين سنة مفرقا على حسب الوقائع ، فجبريل أملى للسفرة ابتداء وتلقى عنها انتهاء ، والحكمة في نزوله مفرقا تثبيته في قلبه وتجديد الحجج على المعاندين وزيادة إيمان للمؤمنين ، قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) وقال تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) وقال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) وتلك الليلة التي نزل فيها القرآن ليلة أربع وعشرين. واعلم أن ليلة القدر تكون في رمضان وقد تنتقل عنه لغيره لكن الغالب كونها في العشر الأواخر منه ، والغالب

١١١

آيات واضحات (مِنَ الْهُدى) بما يهدي إلى الحق من الأحكام (وَ) من (الْفُرْقانِ) مما يفرق بين الحق والباطل (فَمَنْ شَهِدَ) حضر (مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تقدم مثله وكرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم من شهد (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ولذا أباح لكم الفطر في المرض والسفر ولكون ذلك في معنى العلة أيضا للأمر بالصوم

____________________________________

كونها في الأوتار هذا مذهب مالك ، وذهب الشافعي إلى أنها لا تنتقل عن رمضان بل هي ملازمة له ، والغالب كونها في العشر الأواخر منه ، والغالب كونها في الأوتار خصوصا إذا صادف الوتر ليلة جمعة قوله : (هاديا) يصح أن يبقى على مصدريته والوصف به مبالغ ، ويصح أن يكون على حذف مضاف أي ذو هدى على حد : زيد عدل قوله : (من الضلالة) أي الكفر.

قوله : (وَبَيِّناتٍ) معطوف على هدى من عطف الخاص على العام ، لأن الهدى بعضه ظاهر واضح كآية الكرسي والإخلاص وغير ذلك ، وبعضه غير واضح ، قال تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) إلى أن قال : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ، فالإيمان بكل آية هدى واضحة أو لا. قوله : قوله : (مما يفرق بين الحق والباطل) أي فيه آيات بينات مصحوبة بالأدلة القطعية التي تقنع الخصم كقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ). وقوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) الآيات. وعطف الفرقان على الهدى من عطف الخاص على العام فكل أخص ما قبله الهدى صادق بالواضح وغيره كان معه دليل أم لا ، والبينات من الهدى صادقة بوجود الحجج معها أم لا ، والفرقان هو الآيات البينات التي معها حجج.

قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) إن كان المراد به الأيام فالمعنى شهد بعضه وإن كان المراد به الهلال ، فالمعنى علمه إما أن يكون رآه أو ثبت عنده ، وقوله : (فَلْيَصُمْهُ) الشهر بمعنى الأيام ، وعلى كل ففيه استخدام على كل حال لأنه ذكر الإسم الظاهر بمعنى وأعاد الضمير بمعنى آخر ، والخطاب للمكلف القادر الغير المعذور. قوله : (مَرِيضاً) أي مرضا شديدا يشق معه الصوم. قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي سفر قصر وتلبس به قبل الفجر ، والمعنى فأفطروا فعليهم عدة. قوله : (بتعميم من شهد) أي فإن لفظ من يعم المسافر وغيره والمريض وغيره.

قوله : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) عطف لازم على ملزوم. قوله : (في المرض والسفر) أي وما والاهما من الأعذار المبيحة للفطر التي نص عليها الفقهاء. قوله : (في معنى العلة أيضا للأمر بالصوم) أي فهو علة لأمرين الأول جواز الفطر للمريض والمسافر ، الثاني التوسعة في القضاء فلم يجب زمن معين ولا تتابع ولا مبادرة. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي عدة صوم رمضان) يحتمل أن المعنى من جهة قضائه أي أردت بكم اليسر لتكملوا قضاءه إذا فاتكم لعذر ، فإذا فاتكم شهر رمضان مثلا فاقضوا شهرا إن كاملا فكاملا وإن ناقصا فناقصا ويحتمل أن المعنى من جهة صوم رمضان الحاضر ، أي أردت بكم اليسر لتكملوا عدة رمضان ولا تنقصوها إلا لعذر كمرض وسفر فلا بأس بالفطر لذلك ، وهذا مرتب أيضا على قوله يريد الله بكم اليسر ، فالمعنى أبحت لكم الفطر في السفر والمرض لإرادة اليسر بكم وكلفتكم بالصوم مع اليسر وأبحت لكم الفطر في المرض والسفر لتكمل منكم العدة إما في رمضان أو في أيام آخر.

١١٢

عطف عليه (وَلِتُكْمِلُوا) بالتخفيف والتشديد (الْعِدَّةَ) أي عدة صوم رمضان (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) عند إكمالها (عَلى ما هَداكُمْ) أرشدكم لمعالم دينه (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٨٥) الله على ذلك. وسأل جماعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقريب ربنا فنناجيه أو بعيد فنناديه فنزل (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) منهم بعلمي فأخبرهم بذلك (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) بإنالته ما سأل (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)

____________________________________

قوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) أي يوم العبد وهو يوم إكمال العدة وبينت السنة كيفية التكبير. قوله : (على ذلك) أي على التكليف مع اليسر. قوله : (وسأل جماعة) هذا إشارة من المفسر لسبب نزول الآية. قوله : (فنناجيه) أي نسارره أي ندعوه سرا ولا نجهر بالدعاء. قوله : (فنناديه) أي ندعوه جهرا والفعلان يصح فيهما النصب بأن مضمرة بعد فاء السببية لوقوعهما في جواب الإستفهام والرفع على الإستئناف أي فنحن نناجيه ونحن نناديه والأظهر الثاني لقول بعض شراح الحديث إنه الرواية ، واعلم أن هذا السؤال الواقع من الصحابة لا يقتضي جهلهم بالتوحيد ، لأن الله منزه عن القرب والبعد الحسيين لأنهما من صفات الحوادث والله منزه عنها فمن ذلك حارت عقولهم في ذلك ، فمقتضى إحاطته بجميع خلقه وتصرفه فيهم كيف يشاء يوصف بالقرب ، ومقتضى تنزهه عن صفات الحوادث جميعها يوصف بالبعد لأن صفاته توفيقية فالمسؤول عنه القرب أو البعد المعنويان لا الحسيان ، وإلا لذمهم الله على ذلك ولم يضفهم له. قوله : (فأخبرهم بذلك) أي بأني قريب وقدر ذلك المفسر لعدم صحة ترتيب قوله فإني قريب على الشرط الذي هو إذا فإن جوابها لا بد وأن يكون مستقبلا ، وكون الله قريبا وصف ذاتي له لا ينفك عنه أزلا ولا أبدا وإنما المستقبل الأخبار بذلك ، وقوله بعلمي أي وسمعي وبصري وقدرتي وإرادتي ولم يقل بذاته وإن كانت الصفات لا تفارق الذات لأنه ربما يتوهم للقاصر الحلول فيقع في الحيرة ، وأما من فني عن وجوده فلم يشهد إلا الله فقد زال عنه الحجاب فلا حيرة عنده إذ لم يشهد غيره ، وإنما خص المفسر العلم بذلك لأنه من صفات الإحاطة ومن غلبة رحمته تعالى أنه وصف نفسه بالقرب وإلا فمقتضى التوحيد وصفه بالبعد أيضا بالإعتبار المتقدم ، فلو قال فإني بعيد لحصل اليأس من رحمته.

قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) الياءان من قوله الداع ودعان من الزوائد عند القراء ، ومعناه أن الصحابة لم تثبت لها صورة في المصحف ولذا اختلفت فيها القراء ، فمنهم من أسقطها وصلا ووقفا تبعا للرسم ، ومنهم من يثبتها في الحالين ، ومنهم من يثبتها وصلا ويحذفها وقفا. قوله : (بإنالته ما سأل) أي ما لم يسأل باثم أو قطيعة رحم ، وهذه الإجابة وعد من الله وهو لا يتخلف لكن على مراده تعالى لا على مراد الداعي ، فالدعاء نافع ولا يخيب فاعله ، وما يحتمل أن تكون موصولة وسأل صلتها والعائد محذوف أو نكرة موصوفة وسأل صفتها أو مصدرية أي بإنالته سؤاله.

قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) يحتمل أن السين والتاء زائدتان ، والمعنى فليجيبوني بالإمتثال والطاعة كما أجبت دعاءهم ، (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ، وهذا ما مشى عليه المفسر ، ويحتمل أنهما للطلب ، والمعنى فليطلبوا مني الإجابة ، فشرط الإجابة عقب دعائهم ، وفي الحديث : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» فشرط الإجابة تيقنها ، وقد أشار لذلك السيد البكري بقوله : فلا تردنا واستجب لنا كما وعدتنا. قوله : (يديموا) فعله آدم رباعيا وفي نسخة يدوموا وفعله دام ثلاثيا وهما لغتان فصيحتان. قوله :

١١٣

دعائي بالطاعة (وَلْيُؤْمِنُوا) يدوموا على الإيمان (بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) يهتدون (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) بمعنى الإفضاء (إِلى نِسائِكُمْ) بالجماع. نزل نسخا لما كان في صدر الإسلام من تحريمه وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ) تخونون (أَنْفُسَكُمْ) بالجماع ليلة الصيام وقع ذلك لعمر وغيره واعتذروا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) قبل توبتكم (وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ) إذ حل لكم (بَاشِرُوهُنَ) جامعوهن (وَابْتَغُوا) اطلبوا (ما كَتَبَ اللهُ

____________________________________

(على الإيمان) (بِي) أي فلا يرتدوا. قوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) هكذا أقر الجمهور بفتح الياء وضم الشين من باب قتل ، وقرىء بكسر الشين وفتحها والياء مفتوحة على كل من بابي ضرب وعلم ، وقرىء بضم الياء مبنيا للفاعل والمفعول محذوف أي غيرهم أي يدلوهم على طريق الرشاد ، ولذا قيل حال رجل في الف رجل أنفع من وعظ ألف رجل في رجل ، أو مبنيا للمفعول فقراءات غير الجمهور أربع.

قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) ليلة ظرف لأحل والمعنى أحل لكم في ليلة الصيام ، وفي الناصب له ثلاثة أقوال : قيل أحل وهو المشهور عند المعربين وليس بشيء لأن الإحلال ثابت قبل ذلك الوقت ، وقيل مقدر مدلول عليه بلفظ الرفث تقديره أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام ، وقيل متعلق بالرفث لأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها. قوله : (الرَّفَثُ) ضمنه معنى الإفضاء فعداه بإلى وإلا فهو يتعدى بالباء أو بفي وهو في الأصل الكلام الذي يستقبح ذكره الواقع عند الجماع ، فأطلق وأريد منه الجماع على سبيل الكناية لاستقباح ذكره. قوله : (بمعنى الإفضاء) هو في الأصل أن لا يكون بينك وبين الشيء حائل ، وليس مرادا هنا بل المراد به هنا إفضاء خاص بالجماع ، ولذا قال المفسر بمعنى الإفضاء إلى نسائكم بالجماع.

قوله : (إِلى نِسائِكُمْ) المراد حلائلكم من زوجة وأمة. قوله : (من تحريمه) أي الجماع. (بعد العشاء) أي دخول وقتها أو بعد النوم ولو كان قبلها. قوله : (كناية عن تعانقهما) أي فالتشبيه من حيث الإعتناق ، فكما أن اللباس يسلك في العنق كذلك المرأة تسلك في عنق الرجل والرجل يسلك في عنقها ، ويصح أن التشبيه من حيث الستر ، فالمرأة تستر الرجل والرجل يسترها ، قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). وإليه ، الإشارة بقول المفسر أو احتياج كل منهما لصاحبه والحكمة في تقديم قوله هن لباس لكم أن طلب المواقعة غالبا يكون ابتداء من الرجل إليها أكثر لما في الحديث لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريما مغلوبا ، ولا أحب أن أكون لئيما غالبا.

قوله : (تَخْتانُونَ) هو أبلغ من تخونون لزيادة بنائه. قوله : (وقع ذلك لعمر). وحاصله أنه بعد أن صلى العشاء ، وجد بأهله رائحة طيبة فواقع أهله حينئذ ، ثم لما أصبح جاء رسول الله واخبره الخبر فقال يا رسول الله إني اعتذر إلى الله وإليك ما وقع مني ، فقام جماعة فقالوا مثل ما قال عمر ، فنزلت الآية نسخا للتحريم الواقع بالسنة. قوله : (فَالْآنَ) إن قلت إنه ظرف للزمان الحاضر. وقوله : (بَاشِرُوهُنَ) مستقبل فحينئذ لا يحسن ذلك. أشار المفسر لدفع ذلك حيث حول العبارة بقوله إذ حل لكم فمتعلق

١١٤

لَكُمْ) أي أباحة من الجماع أو قدره من الولد (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الليل كله (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) يظهر (لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) أي الصادق بيان للخيط الأبيض وبيان الأسود محذوف أي من الليل شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ) من الفجر (إِلَى اللَّيْلِ) أي إلى دخوله بغروب الشمس (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أي نساءكم (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) مقيمون بنية الإعتكاف (فِي الْمَساجِدِ) متعلق بعاكفون نهي لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود (تِلْكَ) الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ) حدها لعباده ليقفوا عندها (فَلا تَقْرَبُوها) أبلغ من لا تعتدوها المعبر به في آية أخرى (كَذلِكَ) كما بين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧) محارمه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض (بِالْباطِلِ) الحرام شرعا كالسرقة والغصب

____________________________________

الظرف الحل لا المباشرة ، فالمعنى حصل لكم التحليل الآن فحينئذ باشروهن فيما يستقبل. قوله : (جامعوهن) أي فالمراد مباشرة خاصة ، فأطلق الملزوم وهو المباشرة ، وأراد لازمه وهو الجماع. قوله : (أي أباحة من الجماع) أي في النساء الحلائل ، واشار بذلك إلى أن ينبغي أن يقصد بجماعه العفة بالحلال عن الحرام له ولها أو رجاء النسل لتكثير الأمة ، ففي الحديث «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة».

قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) نزلت في صرمة بن قيس وكان عاملا في أرض له وهو صائم ، فحين جاء المساء رجع لأهله فلم يجد طعاما فغلبته عيناه من التعب ، فلما حضر الطعام استيقظ فكره أن يأكل خوفا من الله فبات طاويا ، فما انتصف النهار حتى غشي عليه ، فما افاق أخبر النبي بذلك فنزلت الآية. قوله : (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) قيل قبل نزول قوله من الفجر ، وضع علي بن حاتم عقالا أبيض وعقالا أسود وجعل يأكل ويشرب حتى تبين كل منهما فلما أصبح أخبر النبي بذلك فقال له أنما ذلك سواد الليل وبياض النهار. قوله : (أي الصادق) احترز بذلك عن الكاذب وهو ما يظهر قبل الصادق كذنب السرحان ، ثم تعقبه ظلمة ثم يطلع الصادق وهو الضياء المنتشر. قوله : (وبيان الأسود محذوف) أي فلو بينه لقال من الفجر والليل ليكون لفا ونشرا مرتبا ، ولم يذكره لعدم تعلق حكم به ، فإن الصوم متعلق بظهور الأبيض. (من الغبش) أي ظلمة الليل. قوله : (أبيض وأسود) لف ونشر مرتب ، والتشبيه هنا إنما هو في الصورة والهيئة ، وليس هناك خيط أبيض ولا أسود ، كما توهمه بعض الصحابة. قوله : (في الإمتداد) هذا هو وجه الشبه. قوله : (بغروب الشمس) أشار بذلك إلى أن الغاية غير داخلة في المغيا ، وإنما صيام جزء من الليل من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

قوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أي مطلقا ليلا كان أو نهارا وليس كالصيام. قوله : (نهي) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه الآية نهي. قوله : (الأحكام المذكورة) أي من أول آية الصيام هنا. واستشكل ذلك بأن الحد هو قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) الآية. وأجيب بأن الله أمرنا بالصوم بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) والأمر بالشيء منهى عن ضده. قوله : (أبلغ من لا تعتدوها) أي لأن النهي عن المقاربة نهي عن المجاوزة وزيادة. قوله : (أي لا يأكل بعضكم مال بعض) أي لأن الله قدر لك رزقه ، فلا يتسع بالباطل

١١٥

(وَ) لا (تُدْلُوا) تلقوا (بِها) أي بحكومتها أو بالأموال رشوة (إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم (فَرِيقاً) طائفة (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ) ملتبسين (بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٨) أنكم مبطلون (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنِ الْأَهِلَّةِ) جمع هلال لم تبدو دقيقة ثم تزيد حتى تمتلىء نورا ثم تعود كما بدت ولا تكون على حالة واحدة كالشمس (قُلْ) لهم (هِيَ مَواقِيتُ) جمع ميقات (لِلنَّاسِ) يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم وصيامهم وإفطارهم (وَالْحَجِ) عطف على الناس أي يعلم بها وقته فلو استمرت على حالة لم يعرف ذلك (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) في الإحرام بأن تنقبوا فيها نقبا تدخلون منه وتخرجون وتتركوا الباب ، وكانوا يفعلون

____________________________________

ولا يضيق بالحق. قوله : (كالسرقة) أي والمكس والنهب من كل ما لم يأذن فيه الشارع. قوله : (تلقوا) أي تسرعوا أو تبادروا. قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية من فاعل تأكلوا. قوله : (أنكم مبطلون) بفتح الهمزة إشارة إلى أنه مفعول تعلمون.

قوله : (يَسْئَلُونَكَ) أي أصحابك. قوله : (لم تبدو دقيقة) هذا هو صورة السؤال. قوله : (ثم تزيد) أي شيئا فشيئا. قوله : (حتى تمتلىء نورا) أي وذلك ليلة أربعة عشر. قوله : (ثم تعود كما بدت) أي فالهلال إما آخذ في الزيادة وذلك في النصف الأول من الشهر ، وإما آخذ في النقص وذلك في النصف الأخير منه.

قوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) قيل إن الجواب غير مطابق للسؤال ، لأن سؤالهم عن حكمة كونه يبدو دقيقا ، ثم إذا تم عاد كما كان ، والجواب إنما هو عن حكمة الهلال الظاهرية وهي كونه مواقيت للناس والحج ، وأما جواب سؤالهم فليسوا مكلفين به ولا حاجة لهم بذلك لأنه من المغيبات ، وقيل إن الجواب مطابق للسؤال ، فقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) أي عن حكمتها الظاهرة وهذا هو الأنسب بمقامهم لأن الأول من باب (لا تسئلوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم) والضمير يعود على الأهلة وتقدم أنه جمع هلال سمي بذلك لاستهلال الناس عند رؤيته بمعنى رفع أصواتهم ، ويسمى بالهلال ليلتين أو ثلاثا وبعد ذلك يسمى قمرا. قوله : (جمع ميقات) أصله موقات وقعت الواو ساكنة إثر كسرة قلبت ياء. قوله : (أوقات زرعهم) أي فكل زرع له وقت يطلع فيه ، فزرع هذا الشهر مثلا لا يطلع في غيره وهكذا. قوله : (وعدد نسائهم) أي من كونها أربعة أشهر وعشرا أو ثلاثة أشهر مثلا قوله : (وصيامهم) أي في رمضان مثلا. قوله : (وإفطارهم) أي في شوال. قوله : (عطف على الناس) أي مسلط عليه مواقيت واللام وفي الحقيقة هو معطوف على المضاف المحذوف أي لمصالح الناس والحج. قوله : (يعلم بها وقته) أي وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة فلو تقدم أو تأخر لم يصح ، وهذا هو حكمة تخصيصه من دون العبادات وإن كان من مصالح الناس.

قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) الحكمة في ذكر هذه الآية بعد ما تقدم أنهم سألوا عن ذلك أيضا ، وصورة سؤالهم هل من البر إتيان البيوت من ظهورها ، فأجابهم الله بأنه ليس من البر ، ويتعين رفع البر هنا لأن ما بعد الباء يتعين جعله خبرا لليس فإن الباء إنما تدخل على الخبر لا على الإسم. قوله : (بأن تنقبوا فيها نقبا) أي من خوف الإستظلال بالسقف وهذا في الحاضر ، وأما البادي فكان يشق الخيمة وذلك في الإحرام ،

١١٦

ذلك ويزعمونه برا (وَلكِنَّ الْبِرَّ) أي ذا البر (مَنِ اتَّقى) الله بترك مخالفته (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) في الإحرام كغيره (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩) تفوزون. ولما صد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيت عام الحديبية وصالح الكفار على أن يعود العام القابل ويخلوا له مكة ثلاثة وتجهز لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي قريش ويقاتلوهم وكره المسلمون قتالهم في الحرم والإحرام والشهر الحرام نزل (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لإعلاء دينه (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) من الكفار (وَلا تَعْتَدُوا) عليهم بالابتداء بالقتال (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١٩٠) المتجاوزين ما حد لهم وهذا منسوخ بآية براءة أو بقوله (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وجدتموهم (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي مكة

____________________________________

زاعمين أن عدم تغطية الرأس بشيء أصلا غير السماء بر. قوله : (بترك مخالفته) أي مطلقا وامتثال المأمورات على حسب الطاقة.

قوله : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) حاصل ذلك أن الله أخبرنا بجملتين وأمرنا بجملتين مرتبا على الأوليين : فقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) جملة خبرية رتب عليها قوله : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها). وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) جملة خبرية أيضا رتب عليها قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ). قوله : (تفوزون) أي تسعدون وتظفرون برضاه. قوله : (ولما صد إلخ) أي صده المشركون ومنعوه وصرفوه ، والمراد بالبيت الكعبة ، وحاصله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة ست من الهجرة توجه مع ألف وأربعمائة لفعل عمرة لأن الحج إذ ذاك لم يكن فرض ، فنزلوا الحديبية بمكان قريب من مكة يسمى وادي فاطمة ، فخرجت عليهم سفهاء مكة يقاتلونهم بالأحجار والسهام ، فأرسل رسول الله عثمان يستأذن أهل مكة في أن يدخل هو وأصحابه ويطوفوا ويكملوا عمرتهم ، فأشاع الكفار وابليس أن عثمان قد مات فبايع النبي أصحابه تحت الشجرة على قتالهم ، فحصل صلح بينه وبينهم عشر سنين ، وتبين أن عثمان حي لم يمت وأتى اليهم وقال إن الكفار أوعدونا إلى العام القابل. فتحلل المسلمون مكانهم في الحديبية ونحروا هديهم وحلقوا وانصرفوا راجعين ، ثم في العام القابل وهو سنة سبع ، تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرة القضاء ، وسميت قضاء لأنها وقع فيها المقاضاة والصلح لا أنه لزمهم قضاء للعمرة السابقة ، لأن من صد لا يلزمه قضاء ، فخافت المسلمون أن قريشا لا تفي بالوعد ويحصل قتال في الشهر الحرام والحرم والإحرام فنزلت الآية. قوله : (وصالح الكفار) يصح أن الكفار فاعل بصالح والمفعول محذوف تقديره صالحه ، ويصح أن الفاعل مستتر تقديره هو يعود على النبي والكفار مفعول. قوله : (على أن يعود العام القابل) تقدم أنه عام سبع. قوله : (وخافوا أن لا تفي قريش إلخ) أي فيحصل المحذور الذي هو القتال في الحرم والإحرام والشهر الحرام. قوله : (نزل) هذا جواب لما أي فهو سبب النزول.

قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) السبيل في الأصل الطريق فاستعير لدين الله وشرائعه بجامع التوصل للمقصود في كل. قوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) أي لا تبتدئوهم بالقتال. قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) المراد بالإعتداء هنا ابتداء القتال لا حقيقة الإعتداء الذي هو تجاوز الحد. قوله : (وهذا منسوخ بآية براءة) أي بقوله وقاتلوا المشركين كافة ، فأزال الله الضيق عن المسلمين وأبدله بالسعة ، وفي الحقيقة هذه الآية نسخت نحو سبعين آية من القرآن حصل فيها نهي عن القتال. قوله : (أو بقوله إلخ) أي وهذا أبلغ لكونها بلصقها. قوله : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من المكان الذي أخرجوكم منه

١١٧

وقد فعل بهم ذلك عام الفتح (وَالْفِتْنَةُ) الشرك منهم (أَشَدُّ) أعظم (مِنَ الْقَتْلِ) لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظموه (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي في الحرم (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) فيه (فَاقْتُلُوهُمْ) فيه ، وفي قراءة بلا ألف في الأفعال الثلاثة (كَذلِكَ) القتل والاخراج (جَزاءُ الْكافِرِينَ) (١٩١) (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر وأسلموا (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم (رَحِيمٌ) (١٩٢) بهم (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ) توجد (فِتْنَةٌ) شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ) العبادة (لِلَّهِ) وحده لا يعبد سواه (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك فلا تعتدوا عليهم ، دل على هذا (فَلا عُدْوانَ) اعتداء بقتل أو غيره (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣) ومن انتهى فليس بظالم فلا عدوان عليه (الشَّهْرُ الْحَرامُ) المحرم مقابل (بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) فكما قاتلوكم فيه فاقتلوهم في مثله رد لاستعظام

____________________________________

يعني مكة وهو أمر بالإخراج ، فكأنه وعد من الله بالفتح لمكة ، وقد أنجز الله ما وعد به عام ثمان. قوله : (وقد فعل) أي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم أي الكفار منهم. قوله : (عام الفتح) أي وهو العام الثامن. إن قلت : إن مدة الصلح باقية مع أن إخراجهم وقتالهم حصل قبل مضي تلك المدة. أجيب : بأنه حصل منهم نقض للعهد بعد عمرة القضاء.

قوله : (وَالْفِتْنَةُ) إلخ هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره إن خفتم أن تقاتلوهم في الشهر الحرام وراعيتم حرمة الشهر والإحرام والحرم ، فالشرك الذي حصل منهم الذي فيه تهاون برب الحرم أبلغ قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) إلخ هذا توكيد المنسوخ وهو تفسير لقوله : (ولا تعتدوا). قوله : (أي في الحرم) إنما فسر عند بفي ، لأنه ظرف منصوب وهو على تقدير في ، وأطلق المسجد الحرام وأراد ما يعم الحرم بتمامه. قوله : (وفي قراءة بلا ألف) والقراءتان سبعيتان ، والتلاوة على هذا : ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم ، والمعنى فخذوا في أسباب قتلهم. قوله : (جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي في الدنيا وفي الآخرة العذاب الأليم.

قوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي رجعوا عن الكفر ، وأصله انتهيوا بياء مضمومه بعد الهاء ، استثقلت الضمة على الياء فحذفت وتحركت الياء بحسب الأصل وانفتح ما قبلها بحسب الآن قلبت ألفا فالتقى ساكنان حذفت الألف وبقيت الفتحة دليلا عليها.

قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) هذا الآية ناسخة أيضا لما قبلها. قوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي في مكة أي لأن المراد تخليص للدين في مكة من الشرك فقط لا كل الجهات ، وأما آية الأنفال في قوله : (ويكون الدين كله) أي في كل الجهات. قوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي رجعوا عن الكفر وأسلموا. قوله : (فَلا عُدْوانَ) إلخ هذا خبر في صورة الأمر مبالغة ، أي فلا تنتقموا ولا تقتلوا إلا الظالمين ، والمعنى لا يجازى على عدوانه إلا الظالمون ، لأن العدوان واقع من الكفار بكفرهم وقتالهم للمسلمين لا من المسلمين بقتالهم لهم.

قوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ) إلخ هذا نزل أيضا زيادة طمأنينة للمسلمين لأنه كان يشق عليهم القتال فيها تعظيما لها ، وقيل إنها نزلت ردا على الكفار والمنافقين المعترضين في قولهم إن الأشهر الحرم

١١٨

المسلمين ذلك (وَالْحُرُماتُ) جمع حرمة ما يجب احترامه (قِصاصٌ) أي يقتص بمثلها إذا انتهكت (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) بالقتال في الحرم أو الاحرام أو الشهر الحرام (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) سمى مقابلته اعتداء لشبهها بالمقابل به في الصورة (وَاتَّقُوا اللهَ) في الانتصار وترك الاعتداء (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤) بالعون والنصر (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) طاعته الجهاد وغيره (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أي أنفسكم والباء زائدة (إِلَى التَّهْلُكَةِ) الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو تركه لأنه يقوي العدو عليكم (وَأَحْسِنُوا) بالنفقة وغيرها (إِنَّ اللهَ يُحِبُ

____________________________________

والحرم معظمة قديما ، ويزعم محمد أنه يحكم بالعدل وهو ينتهك حرمة الشهر الحرام والحرم ، فرد الله عليهم بقوله الشهر الحرام أي الذي نقاتلكم فيه في مقابلة الشهر الحرام ، أي الذي صددتمونا فيه عن العمرة والدخول وقاتلنا سفهاؤكم ولا يسمى انتهاكا ولا عدم تعظيم للحرم ، لأنه لما كان بأمر الله اندفع ذلك كله. قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي متى حصل انتهاك من أحد لحرمة آخر سقطت حرمته فيقتص له منه ، ومن هنا قول بعضهم ملغزا فيمن قطعت يده ظلما ومن قطعت يده لأجل السرقة :

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

أجاب عنه القاضي عبد الوهاب البغدادي بقوله :

عز الأمانة أغلاها وأرخصها

ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

قوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) تسميته اعتداء ظاهر لأنه للحذ ، وقوله : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) أي انتقموا منه وقاتلوا فتسميته اعداء مشاكلة لمقابله ، قوله : (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) توكيد لقوله والحرمات قصاص ، وكل هذا منسوخ بقوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم. قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي ومن التقوى رحمة عباده سيما إذا لم يقاتلوكم أو إذا قدرتم عليهم فالأولى العفو. قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي معية خاصة فيمدهم بالنصر والعون ، وإلا فهو مع كل نفس بعلمه وتصرفه.

قوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ابذلوا أنفسكم وأموالكم في طاعته ومراضيه ، سواء الجهاد وغيره كصلة الرحم ومراعاة الضعفاء والفقراء من عباد الله. قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) عبر الأيدي عن الأنفس اكتفاء بالجزء الأهم من النفس كقوله في آية أخرى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) أي أنفسكم. قوله : (إِلَى التَّهْلُكَةِ) أي إلى الهلاك أي إلى أسبابه ، وأسباب الهلاك إمساك الأموال والأنفس عن الجهاد لأن به يقوى العدو وتكثر المصائب في الدين والذل لأهله كما هو مشاهد ، ومن أنفق أمواله ونفسه في سبيل الله فقد ألقى بنفسه إلى العز الدائم في الدنيا والآخرة ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. قوله : (وَأَحْسِنُوا) أي افعلوا الإحسان بالإنفاق في سبيل الله وغيره من أنواع العبادات. قوله : (أي يثيبهم) فسر المحبة في حق الله بالإثابة ، لأن حقيقتها وهي ميل القلب للمحبوب مستحيلة في حق الله تعالى ، والإثابة لازمة لذلك ، والقاعدة أن كل ما استحال على الله باعتبار مبدئه وورد يطلق ويراد لازمه وغايته.

١١٩

الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥) أي يثيبهم (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أدوهما بحقوقهما (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) منعتم عن إتمامها بعدو (فَمَا اسْتَيْسَرَ) تيسر (مِنَ الْهَدْيِ) عليكم وهو شاة (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) أي لا تتحللوا (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ) المذكور (مَحِلَّهُ) حيث يحل ذبحه وهو مكان الاحصار عند الشافعي فيذبح فيه بنية التحلل ويفرق على مساكينه ويحلق وبه يحصل التحلل (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كقمل وصداع فحلق في الاحرام (فَفِدْيَةٌ) عليه (مِنْ صِيامٍ) لثلاثة أيام (أَوْ صَدَقَةٍ) بثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين (أَوْ نُسُكٍ) أي ذبح شاة وأو للتخيير وألحق به من خلق لغير عذر لأنه أولى بالكفارة وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره (فَإِذا أَمِنْتُمْ) العدو بأن ذهب أو لم يكن (فَمَنْ تَمَتَّعَ)

____________________________________

قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) المتبادر من الآية يشهد لقول الشافعي بوجوب العمرة عينا في العمر مرة كالحج ، وقال مالك بسنيتها في العمر مرة عينا ، وقرىء وأقيموا الحج والعمرة وهي تؤيد مذهب الشافعي سيما مع كون الأصل في الأمر الوجوب ، وحجة مالك أن المراد تمموهما إذا شرعتم فيهما ، ولا يلزم من وجوب الإتمام وجوب الإبتداء ، فالحاصل أن العلماء اتفقوا على وجوب الحج عينا في العمر مرة وما عدا ذلك فهو فرض كفاية لإقامة الموسم ، واتفقوا على مشروعية العمرة واختلفوا في حكمها ، فقال الشافعي بوجوبها كالحج وحمل الإتمام على الأداء ، وقال مالك بسنيتها وحمل الإتمام على حقيقته.

قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي عن البيت ولم تتمكنوا من دخوله كما وقع للمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا رفع للحرج الواقع في الأمر من قوله وأتموا. قوله : (تيسر) أشار بذلك إلى أن السين ليست لمعنى زائد ، بل استيسر وتيسر بمعنى واحد. قوله : (وهو شاة) أي ضأنا أو معزا مجزئة في الضحية. قوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) أعلم أنه إذا اجتمع هدي وحلق فالهدي مقدم على الحلق ، فإذا اجتمع معهما رمي وطواف قدم الرمي ، ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف ، وضبطها بعضهم بقوله ونحط. قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) اعلم أنه اختلف في الهدي فقيل يؤمر به وهو قول الشافعي ، وعليه فإن لم يجد هديا قومه بطعام وأخرجه ، فإن لم يجد صام بعدد الأمداد ، وقيل لا يؤمر به ، والآية محمولة على من كان معه هدي تطوعا مثلا وهو قول مالك ، وعليه فإن لم يجد هديا فلا شيء عليه غير الحلق. قوله : (مَحِلَّهُ) وهو بالكسر يطلق على الزمان والمكان ، وبالفتح على المكان فقط. قوله : (عند الشافعي) أي ومالك أيضا فالمدار عندهما على مكان الإحصار حلالا أو حراما ، وقال أبو حنيفة لا بد أن يذبح بالحرم. قوله : (أَوْ بِهِ أَذىً) متعلق بمحذوف معطوف على مريضا الواقع خبرا لكان ، وقوله أذى فاعل بالجار والمجرور خبر مقدم ، وأذى مبتدأ مؤخر ، والجملة معطوفة على مريضا.

قوله : (فَفِدْيَةٌ) (عليه) قدره إشارة إلى أنه خبر المبتدأ ، والجملة جواب من. واعلم أن دماء الحج ثلاثة : فدية وهدي ، وقد ذكرهما هنا ، وجزاء وقد ذكره في المائدة ، فما كان عن إزالة أذى أو ترفه فهو فدية ، وما ترتب عن نقص في حج أو عمرة بفعل اختياري أو لا فهدي ، وما كان عن صيد فجزاء. قوله : (على ستة مساكين) أي لكل مسكين مدان. قوله : (لغير عذر) أي وإن كان حراما. قوله : (وكذا من استمتع بغير الحلق) أي فهو مقيس عليه. قوله : (بعذر أو غيره) راجع للثلاثة ، غير أن الحرمة فيما كان

١٢٠