دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

فصل في أن النهي عن الشيء هل يقتضي فساده أم لا؟

وليقدم أمور (١) :

الأول (٢) :

أنّه قد عرفت في المسألة السابقة : الفرق بينها وبين هذه المسألة ، وأنّه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما بما هو جهة البحث في الأخرى ، وأنّ البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على الفساد ، بخلاف تلك المسألة فإنّ

______________________________________________________

هل النهي يقتضي الفساد أم لا

(١) يعني : قبل الخوض في أصل البحث لا بدّ من تقديم أمور ثمانية.

(٢) الامر الاول : بيان الفرق بين المسألة السابقة وبين هذه المسألة.

وخلاصة الفرق : إنّه ليس الامتياز بين المسائل بمجرّد تعدد الموضوع ؛ بل إنّما هو بتعدد الجهة المقصودة بالبحث ولو مع وحدة الموضوع.

فالجهة المبحوث عنها في مسألة الاجتماع هي : سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر ؛ لاتحاد متعلقيهما ـ كعنوان الصلاة مع عنوان الغصب ـ وجودا ، وعدم سراية كلّ منهما إلى متعلق الآخر لتعددهما كذلك.

وأمّا الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة : فهي مفسدية النهي للعبادة أو المعاملة وعدمها ؛ بعد الفراغ عن أصل توجهه وسرايته إليهما.

ومن الواضح : أن الجهة المقصودة في تلك المسألة أجنبيّة عن الجهة المقصودة بالبحث في مسألة دلالة النهي على الفساد وعدمها عليه.

وبعبارة أخرى : أن النزاع في هذه المسألة كبروي ؛ بمعنى : أن المبحوث عنه فيها هو ثبوت الملازمة بين النهي عن العبادة وفسادها ، وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى وهي تعلق النهي بالعبادة قطعا.

وأما النزاع في المسألة السابقة فهو صغرويّ بمعنى : أن البحث فيها إنّما هو عن سراية النهي في مورد الاجتماع إلى متعلق الأمر وعدم سرايته إليه.

فالفرق بين المسألتين واضح ، وهذا الفرق هو مختار المصنف.

٨١

البحث فيها في أنّ تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع أم لا؟

الثاني (١):

أنّه لا يخفى : أن عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ ، إنّما هو لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات ، مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة

______________________________________________________

ولكن قال المحقق القمي «قدس‌سره» (١) بفرق آخر بين المسألتين وهو : أن النسبة بين متعلق الأمر ومتعلق النهي عموم من وجه في مسألة الاجتماع ؛ إذ بين الصلاة والغصب مصداقا عموم من وجه نحو «صلّ ولا تغصب» ، وفي هذه المسألة تكون النسبة بين متعلقي الأمر والنهي عموما مطلقا ؛ إذ بين الصلاة والصلاة المقيدة بكونها في الدار المغصوبة تكون النسبة عموما مطلقا ، نحو «صلّ ولا تصل في الدار المغصوبة» ، وهناك فرق آخر من صاحب الفصول (٢) وهو : اعتبار تغاير متعلق الأمر والنهي واقعا وحقيقة في مسألة الاجتماع ، واعتبار وحدتهما حقيقة ، ولحاظ تغايرهما بالإطلاق والتقييد في هذه المسألة. وتركنا تفصيل الكلام رعاية للاختصار.

(١) قال المصنف في المسألة السابقة : إنّها عقلية. ثم يقول : إنّ عدّ هذه المسألة لفظية لاقتضاء جعل عنوان المسألة في لسان بعض الأصوليين دلالة النهي على فساد المنهي عنه كونها لفظية ؛ لأن الدلالة من أحوال اللفظ.

وكيف كان ؛ ففي الأقوال في المسألة قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات ، مع إنكار هذا البعض الملازمة بين الفساد وبين الحرمة التي هي مفاد النهي في المعاملات.

والغرض من عقد هذا الأمر الثاني ـ التنبيه على فساد ما ذكره بعض المحققين من : أنّ النزاع في هذه المسألة كالمسألة السابقة عقلي وليس بلفظي ؛ لأن النزاع إنّما هو في حكم العقل بالملازمة بين الحرمة والفساد وعدمه سواء كان الدال على الحرمة صيغة النهي أم الإجماع أم الضرورة ، فالنزاع في هذه المسألة عقلي لا لفظي ؛ لعدم ارتباطها باللفظ ، والمصنف أشار إلى إمكان كون المسألة لفظية لإنكار بعض الأصوليين الملازمة بين الحرمة والفساد ، واعترافه بدلالة النهي على الفساد في المعاملات ، فلو كان النزاع في

__________________

(١) الفصول الغروية ، ص ١٤٠ ، س ٢١.

(٢) مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٧٢٧.

٨٢

الّتي هي مفاده فيها ، ولا ينافي ذلك أن الملازمة ـ على تقدير ثبوتها في العبادة ـ إنّما تكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة ، وعلى تقدير عدمها تكون منتفية بينهما ؛ لإمكان (١) أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة بما تعمّ دلالتها بالالتزام ،

______________________________________________________

الملازمة العقلية التي لا مساس لها بالدلالة اللفظية لكان هذا القائل من النافين ، مع أنّهم عدّوه من المثبتين ، فيستكشف من هذا : أنّ النزاع في دلالة اللفظ لا في الملازمة العقلية ، هذا ما اشار إليه بقوله :

«إن عدّ هذه المسألة من مباحث الألفاظ إنّما هو لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالته على الفساد» أي : في الأقوال قول بدلالة النهي على الفساد ، فالتحفظ على إدراج هذا القول في حريم النزاع أوجب تحرير البحث في دلالة اللفظ.

قوله : «ولا ينافي ذلك أن الملازمة ...» إلخ إشارة إلى ردّ ما في التقريرات المنسوبة إلى الشيخ الأنصاري من التوهم حيث قال ما لفظه : «قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة على وجه التفصيل ، ومحصله هو : أن المسئول عنه في تلك المسألة هو إمكان اجتماع هذين النحوين من الطلب في مورد واحد وامتناعه ، والمسئول عنه في هذه المسألة هو ثبوت الملازمة بين تعلق النهي بشيء وبين فساد ذلك الشيء (١) ـ إلى أن قال ـ ومن هنا يظهر : إن المسألة لا ينبغي أن تعدّ من مباحث الألفاظ ، فإنّ هذه الملازمة ـ على تقدير ثبوتها ـ إنّما هي موجودة بين مفاد النهي المتعلق بشيء وبين فساد ذلك الشيء ، وإن لم يكن ذلك النهي مدلولا بالصيغة اللفظية ، وعلى تقدير عدمها إنّما يحكم بانتفائها بين المعنيين» (٢).

ومحصل ما في التقريرات ـ مع طوله ـ أن محل الكلام في المسألة نفيا وإثباتا إنّما هو الملازمة بين الحرمة والفساد عقلا ؛ وإن لم تكن الحرمة مستفادة من اللفظ أصلا ، كما إذا كانت مستفادة من عقل أو إجماع أو نحوهما.

وعليه : فالمسألة ليست لفظية ؛ بل عقلية ، لأنّ البحث إنما هو في الملازمة ، لا في الدلالة اللفظية.

(١) تعليل لقوله : «ولا ينافي» ، وردّ للتوهم المذكور وهو التنافي بين جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ ، وبين التزام العلماء بالملازمة بين الحرمة والفساد في العبادات ، والتنافي بين القول بالملازمة بين الحرمة والفساد في العبادات وبين القول بدلالة النهي

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٧٢٧.

(٢) السابق ، ص ٧٢٨.

٨٣

فلا تقاس (١) بتلك المسألة الّتي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس. فتأمل جيّدا.

الثالث (٢):

ظاهر لفظ النهي وإن كان هو النهي التحريمي ؛ إلّا إن ملاك البحث يعمّ التنزيهي ،

______________________________________________________

لفظا واضح.

وحاصل ردّ المصنف على التوهم المذكور : إنّه لا ينافي ذلك أن يكون النزاع مع ذلك في دلالة الصيغة على الفساد وعدمها ، غاية الأمر : أنّها تدل على الحرمة بالمطابقة ، وعلى الفساد الملازم للحرمة بالالتزام ، قوله : «معه» أي : مع القائل بدلالة النهي في المعاملات على الفساد مع إنكاره الملازمة بين الحرمة والفساد.

وبعبارة أخرى : أنّه يمكن إرجاع النزاع إلى حال اللفظ ، وتعميم الدلالة وجعلها أعم من الالتزامية ، بأن يقال : إن النهي يدل بالمطابقة على الحرمة وبالالتزام على الفساد ؛ لما بين الحرمة والفساد من التلازم. وعلى هذا : فلا مانع من جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ مع التلازم بين الحرمة المستفادة من الصيغة والفساد. فينتفي التنافي بين القول بالملازمة نظرا إلى الدلالة الالتزامية ، وبين القول بدلالة لفظ النهي على الفساد نظرا إلى الدلالة المطابقية.

(١) أي : فلا تقاس مسألة اقتضاء النهي للفساد الممكن عدّها لفظية «بتلك المسألة» أي : مسألة اجتماع الأمر والنهي «التي» كان الكلام فيها في إمكان الاجتماع وعدمه عقلا بحيث «لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس» أصلا. «فتأمل جيدا» حتى تعرف أنّه يمكن عدّ مسألة الاجتماع لفظية أيضا.

فغرض المصنف من قوله : «فلا تقاس» : إنه بعد إمكان إرجاع البحث في هذه المسألة إلى مباحث الألفاظ فلا تقاس بالمسألة السابقة ، وهي اجتماع الأمر والنهي ؛ لأنّ مسألة الاجتماع عقلية لا مساس لها بالألفاظ ، بخلاف هذه المسألة حيث يمكن جعلها لفظية وإن كانت عقلية.

في شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي

(٢) الغرض من هذا الأمر الثالث : تحرير محل النزاع. وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان أقسام النهي فنقول : إنّ النهي ينقسم إلى التكليفي والإرشادي ؛ كالنهي عن نكاح العبد بدون إذن سيّده ، حيث يكون إرشادا إلى فساد النكاح ، ثم النهي التكليفي له أقسام :

٨٤

ومعه (١) لا وجه لتخصيص العنوان ، واختصاص عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به كما لا يخفى ، كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي ، فيعمّ الغيري إذا كان

______________________________________________________

١ ـ التحريمي ، نحو : «لا تأكل أموال اليتامى ظلما».

٢ ـ التنزيهي ، نحو : «لا تكن في مواضع التهمة».

٣ ـ النفسي ، نحو : «لا تشرب الخمر».

٤ ـ الغيري ، كالنهي عن فعل الصلاة بعد الأمر بالإزالة ، حيث يكون تركها واجبا مقدمة للإزالة ، ففعلها يكون منهيا عنه بالنهي الغيري.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المتبادر من لفظ النهي وإن كان هو خصوص النهي المولوي التحريمي النفسي دون الإرشادي والتنزيهي والغيري ؛ ولكن المراد به في هذه المسألة أعم منه ، فيشمل التنزيهي والغيري ، والقرينة على إرادة الأعم هو عموم ملاك البحث ؛ وهو منافاة المرجوحية لصحة العبادة ، وذلك لاقتضاء العبادة المحبوبية ، والكراهة المبغوضية ، ومن المعلوم : تضادّ الحب والبغض ، فلا تجتمع الصحة في العبادة مع الكراهة ، هذا ما أشار المصنف إليه بقوله : «إلّا إن ملاك البحث يعمّ التنزيهي» ، والمراد بالملاك هنا هو : التنافي بين ما يقتضيه النهي ـ أعني : المرجوحية ـ وبين الصحة ، وهذا الملاك يكون قرينة على إرادة خلاف ظاهر النهي أعني : التحريمي المولوي ، وأنّ المراد به هنا ما يعمّ التنزيهي.

(١) أي : ومع عموم ملاك البحث للنهي التنزيهي لا وجه لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي ، كما صنعه في التقريرات ، قال فيها في أوائل بحث اقتضاء النهي للفساد :

«الثاني : ظاهر النهي المأخوذ في العنوان. هو النهي التحريمي ، وإن كان مناط البحث في التنزيهي موجودا ؛ وذلك لا يوجب تعميم العنوان» (١). والمصنف يقول ردّا على التقريرات : إنّه لا وجه لتخصيص العنوان بالتحريمي مع عموم ملاك البحث.

قوله : «واختصاص عموم ملاكه ...» إلخ إشارة إلى توهم ، وتقريب التوهم : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٤٨» ـ أن عموم الملاك يختصّ بالعبادات ؛ لأن المرجوحية المستكشفة عن النهي ـ تحريميّا كان أو تنزيهيّا ـ إنّما تنافي صحة العبادة لأنّها تستدعي المحبوبية المنافية للمرجوحية ، دون المعاملة ، إذ لا ملازمة قطعا بين النهي التنزيهي وبين الفساد فيها ، فلا تنافي مرجوحيتها صحتها ، وحيث لا يشمل عموم الملاك المعاملات ، فبما أنّ النهي التحريمي مطرد في العبادات والمعاملات ، فيكون عدم اطّراد عموم الملاك في المعاملات قرينة على إرادة التحريمي من النهي المذكور في العنوان.

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٧٢٨.

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فالنتيجة : أنّ المراد بالنهي هو خصوص التحريمي.

هذا تمام الكلام في تقريب التوهم ، وقد أشار إلى دفعه بقوله : «لا يوجب التخصيص به» ، وحاصله : إنّ اختصاص عموم الملاك بالعبادات لا يصلح لأن يكون قرينة على إرادة النهي التحريمي في العنوان حتى يكون قرينة على تخصيص النهي في العنوان بالتحريمي ، وذلك لكفاية عموميّة الملاك في صحة إرادة الأعم من التحريمي.

فلا وجه لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي ، كما لا وجه لتخصيص النهي بالنفسي كما أشار إليه بقوله : «كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي فيعم الغيري إذا كان أصليا» وغرضه من هذا الكلام هو : تعميم النهي في مورد البحث للنهي الغيري الأصلي.

وحاصله : أن النهي وإن كان ظاهرا في النفسي ـ كما تقدم في محلّه ـ إلّا إنّ المراد به هنا ما يعمّ الغيري.

ثم إن النهي الغيري على قسمين :

أحدهما : أن يكون أصليا ، بأن يدل عليه خطاب مستقل من الشارع ، فإنّه لكونه مسوقا لبيان المانعية يدل على الفساد قطعا ؛ كالنهي عن الصلاة في غير المأكول ، أو الحرير والذهب للرجال ، فإنّ المأمور به المقيد بقيد عدمي إذا أتى فاقدا للقيد العدمي وقع فاسدا لا محالة.

ثانيهما : أن يكون تبعيا ، بأن لا يكون مدلولا للخطاب بحيث يكون مقصودا من اللفظ ؛ بل كان لازما للمراد باللزوم العقلي ، الذي يحكم به العقل بملاحظة الخطاب ، وشيء آخر وهو مقدمية ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر ، كما إذا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد المتوقفة على مقدمات منها ترك الصلاة ، فيقال : إنّ الصلاة حينئذ تكون منهيا عنها بالنهي الغيري التبعي.

أمّا القسم الأول : فهو داخل في محل النزاع.

وأمّا القسم الثاني : فهو وإن كان خارجا عن حيّز النزاع عنوانا لعدم نهي لفظي في البين حتى يبحث عن دلالته على الفساد وعدمها ؛ لكنّه داخل فيه ملاكا ، لملازمة الحرمة مطلقا ـ وإن لم تكن مدلولة للصيغة ـ للفساد ، وقد أشار إلى دخوله ملاكا بقوله : «إلّا إنّه داخل ...» إلخ أي : إلّا إن النهي التبعي داخل فيما هو ملاك البحث وهو التنافي بين المرجوحية والصحة ، وقد أشار إلى دلالة النهي التبعي على الفساد بقوله : «فإنّ دلالته على الفساد ...» إلخ بتقريب : أن النهي إذا لم يكن للإرشاد إلى

٨٦

أصليا ، وأمّا إذا كان تبعيا ، فهو وإن كان خارجا عن محل البحث ، لما عرفت أنه في دلالة النهي والتبعي منه من مقولة المعنى ، إلّا إنه داخل فيما هو ملاكه ، فإنّ دلالته على الفساد على القول به فيما لم يكن للإرشاد إليه ، إنّما يكون لدلالته على الحرمة ، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك (١) ، كما توهمه القمّي «قدس سرّه» (*).

ويؤيد ذلك (٢) : أنّه جعل ثمرة النزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه فساده إذا كان عبادة (**) ، فتدبر (٣) جيّدا.

______________________________________________________

الفساد ـ كما في المعاملات ـ إنما تكون دلالته على الفساد لأجل دلالته على الحرمة التي هي موجودة في النهي التبعي ؛ لا لأجل استحقاق العقوبة على مخالفته حتى يقال إنه منتف في النهي التبعي ، كما ذهب إليه المحقق القميّ «قدس‌سره» مدعيا لعدم اقتضاء التبعي الفساد قطعا ؛ لانحصار مورد النزاع فيما يترتب عليه العقاب المعلوم انتفاؤه في التبعي.

(١) أي : في الدلالة على الفساد كما توهمه المحقق القمّي «قدس‌سره» حيث قال في ذيل المقدمة السادسة من مقدمات بحث مقدمة الواجب : «إنّ النهي المستلزم للفساد ليس إلّا ما كان فاعله معاقبا». ثم قال في المقدمة السابعة : «لعدم ثبوت العقاب على الخطاب التبعي» (١). ومن المعلوم : أنّ المستفاد من العبارتين المذكورتين : أن النهي التبعي لا يستلزم الفساد لعدم العقاب على مخالفته.

(٢) أي : كون النهي التبعي داخلا في محل النزاع يعني : يؤيد تعميم النزاع للنهي الغيري التبعي «أنه جعل ثمرة النزاع ...» إلخ. ووجه التأييد : أنّهم جعلوا ثمرة نزاع اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه فساد الضدّ إذا كان عبادة ، فتبطل صلاة من ترك الإزالة المأمور بها ، مع إنّ النهي المتعلق بالضدّ ـ كالصلاة في المثال ـ غيري تبعي ، فيظهر من هذا : دخول النهي التبعي في حريم النزاع ، فما ذكره المحقق القمي «قدس‌سره» من عدم دخول النهي التبعي في محل النزاع لا يلائم هذه الثمرة.

ثم التعبير بقوله : «ويؤيد» دون «ويدّل» لعلّه لإمكان استناد بطلان الضدّ العبادي إلى عدم الأمر ؛ لا إلى النهي التبعي.

(٣) قوله : «فتدبر جيّدا» تدقيقي بقرينة كلمة «جيّدا». أو إشارة إلى سائر أقسام

__________________

(*) قوانين الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٢ ، في المقدمة السادسة والسابعة.

(**) قوانين الأصول ، ج ١ ، ص ١٠١ ، س ٢٤.

(١) قوانين الأصول ، ج ١ ، ص ١٠٢.

٨٧

الرابع (١):

ما يتعلق به النهي ، إمّا أن يكون عبادة أو غيرها ، والمراد بالعبادة هاهنا : ما يكون

______________________________________________________

النهي ، بمعنى أنّه كلّما كان من أقسامه واجدا لملاك البحث كان داخلا في النزاع ، وكلما لم يكن فيه الملاك لم يجر فيه النزاع.

في تعيين المراد بالعبادة في المسألة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر الرابع هو : بيان المراد بالعبادة التي يتعلق بها النهي.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن العبادة قد عرفت بتعاريف عديدة ؛ منها :

ما يكون بذاته عبادة من دون إناطة عباديتها بأمر ، فالعبادة حينئذ فعلية ذاتية ، كالسجود والركوع ونحوهما مما يكون بنفسه عبادة ، فإذا تعلق النهي بهذا القسم من العبادات لا يخرج عن العبادية ـ لكون عباديته ذاتية ـ بل يخرج بسبب النهي عن المقربيّة.

ومنها : ما تكون عباديته تعليقيّة بمعنى : أنّه لو أمر به لصار عبادة ، وكان أمره عباديا بحيث لا يسقط إلّا إذا أتى به على وجه قربي ؛ كصوم العيدين والصلاة في أيّام الحيض ، بداهة : أنّه لو تعلق بهما الأمر كان عباديا لا توصليا.

ومنها : ما يكون الأمر به لأجل التعبد به فعلا ، كما في «التقريرات».

ومنها : ما تكون صحته متوقفة على النية كما في «القوانين». قال المحقق القمّي : في المقدمة الأولى من مقدمات دلالة النهي على الفساد ما لفظه :

«المراد بالعبادة هنا : ما احتاج صحتها إلى النيّة ، وبعبارة أخرى : ما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء سواء لم يعلم المصلحة أصلا أو علمت في الجملة» (١).

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ المراد بالعبادة عند المصنف في هذه المسألة أحد معينين ـ وهما ـ المعنى الأول ، والثاني : لا المعنى الثالث والرابع.

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «المراد بالعبادة هاهنا ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى» ، سواء أمر به أو نهى عنه أم لا؟ نعم يكون «موجبا بذاته للتقرب من حضرته لو لا حرمته» فإنّ القرب يدور مدار المحبوبية ، فلا يكون التقرب بشيء محرم مبغوض ، نعم ؛ إنّ الحرمة مانعة عن المقربية لا عن صدق العبادة «كالسجود والخضوع ...» إلخ.

والثاني : ما أشار إليه بقوله : «أو ما لو تعلق الأمر به كان أمره أمرا عباديا ...» إلخ يعني : أنّ المراد بالعبادة : ما تكون عباديته تعليقية ، وقد عرفت توضيح ذلك.

__________________

(١) قوانين الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٤ ، س ٢٢.

٨٨

بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى ، موجبا بذاته للتقرب من حضرته لو لا حرمته ؛ كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه ، أو ما لو تعلق الأمر به كان أمره أمرا عباديا لا يكاد يسقط إلّا إذا أتى به بنحو قربي كسائر أمثاله ، نحو : صوم العيدين ، والصلاة في أيّام العادة ؛ لا ما أمر به لأجل التعبد به ، ولا ما يتوقف صحته على النيّة ، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيه في شيء كما عرّف بكل منها العبادة ، ضرورة (١) : أنها بواحد منها لا يكاد يمكن أن يتعلق بها النهي. مع ما أورد عليها (٢) بالانتقاض طردا أو عكسا ، أو بغيره (٣) كما يظهر من مراجعة المطولات ، وإن كان

______________________________________________________

الثالث : ما أشار إليه بقوله : «ما أمر به لأجل التعبد به».

والرابع : ما أشار إليه بقوله : «ما يتوقف صحته على النيّة».

(١) تعليل لعدم إرادة ما عدا المعنيين الأولين من معاني العبادة في هذه المسألة بتقريب : أنه يمتنع تعلق النهي بالعبادة بأحد هذه المعاني عدا المعنيين الأولين ؛ إذ المفروض : وجود الأمر الفعلي فيما عداهما ، ومعه يستحيل تعلق النهي به لاستلزامه اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوان واحد ، هذا بخلاف المعنيين الأولين لعدم الأمر الفعلي فيهما. ومن هنا ظهر الفرق بينهما وبين سائر المعاني للعبادة وهو وجود الأمر الفعلي فيها دونهما.

والضمير في «أنّها» و «بها» يعود إلى العبادة ، وفي «منها» و «عليها» راجع إلى التعريفات المستفادة من العبارة.

(٢) يعني : أورد على التعريفات المزبورة بالانتقاض طردا ـ أي : بعدم كونها مانعة ـ كانتقاض تعريف المحقق القمّي «قدس‌سره» ـ كما في الفصول ـ طردا بالتوصليات الّتي لا نعلم مصلحتها كتوجيه الميّت إلى القبلة ، وعكسا ـ أي : عدم كونها جامعة ـ بالوضوء الّذي علم انحصار المصلحة فيه في الطهارة ، مع إنّه عبادة ، فتعريف العبادة بما ذكره المحقق القمّي «قدس‌سره» لا يكون جامعا ولا مانعا ؛ لخروج الوضوء الذي هو عبادة قطعا عنه ، ودخول مثل توجيه الميّت إلى القبلة من التوصليات فيه مع عدم كونه عبادة ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٤٥» مع تصرف ما.

(٣) أي : كالدور الذي أورده في التقريرات على تعريف العبادة «بأنّها ما يتوقف صحته على النيّة» قال المقرر : «إنّ أخذ الصحة في التعريف يوجب الدور ـ بتقريب : ـ أن معرفة العبادة موقوفة على معرفة الصحة ، لوقوعها جزءا لحدّها ، ومعرفة الصحة موقوفة على معرفة العبادة ؛ لأنّ الصحة في العبادات معناها سقوط القضاء لا الصحة على وجه

٨٩

الإشكال بذلك فيها في غير محلّه ؛ لأجل كون مثلها من التعريفات ليس بحدّ ، ولا برسم ؛ بل من قبيل شرح الاسم ، كما نبهنا عليه غير مرة ، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تعريف العبادة ، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة.

الخامس (١):

أنّه لا يدخل في عنوان النزاع إلّا ما كان قابلا للاتصاف بالصحة والفساد ؛ بأن

______________________________________________________

الإطلاق ، ومعرفة المقيد موقوفة على معرفة القيد والتقيّد». قوله «المطولات» كالتقريرات والفصول.

«وإن كان الإشكال بذلك» أي : بالانتقاض طردا وعكسا ، أو بغيره في التعريفات المذكورة «في غير محلّه» ؛ لعدم اعتبار الطرد والعكس في غير التعريفات الحقيقية ، قوله : «لأجل كونها مثلها ...» إلخ تعليل لعدم كون الإشكال على التعريفات المذكورة في محلّه.

وحاصل التعليل : أنّ التعريفات المذكورة ليست حدودا حقيقيّة حتى يراعى كونها مطردة ومنعكسة ؛ بل هي تعاريف لفظية يطلب بها شرح اسم المعرف لا حقيقته ، ومن المعلوم هو : عدم اعتبار الطرد والعكس في التعاريف اللفظية.

في تحرير محل النزاع وتعيين المراد من المعاملة

(١) المقصود من عقد هذا الأمر الخامس هو : تعيين المراد من المعاملة التي يقع البحث عن اقتضاء النهي فسادها وعدمه.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنّه لا شك في اتصاف العبادات بالصحة تارة والفساد أخرى ، لكونها مركبة من الأجزاء والشرائط ، فهي داخلة في النزاع بلا نزاع.

وأمّا المعاملات ، فهي على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما يتصف بالصحة والفساد ؛ كالعقود والإيقاعات وغسل النجاسات.

الثاني : ما لا يتصف بالصحة والفساد مع ترتّب الأثر الشرعي عليه ؛ كالغصب والإتلاف واليد والجنايات ونحوها.

أمّا وجه عدم اتصاف هذا القسم الثاني بالصحة والفساد ، مع كونه ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي فهو : عدم تركبه من أجزاء وشرائط كي يكون قابلا لطروء النقص والتمام عليه ، بخلاف مثل العقود والإيقاعات وغسل النجاسات ، فإنّها مركبة من أمور خاصة

٩٠

يكون تارة تامّا يترتب عليه ما يترقب عنه من الأثر ، وأخرى لا كذلك (١) ، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه ، أمّا ما لا أثر له شرعا ، أو كان أثره ممّا لا يكاد ينفك عنه ـ كبعض أسباب الضمان ـ فلا يدخل في عنوان النزاع ؛ لعدم طروّ الفساد عليه كي ينازع في أنّ النهي عنه يقتضيه أو لا ، فالمراد بالشيء في العنوان : هو العبادة بالمعنى الذي تقدم.

والمعاملة بالمعنى الأعم ممّا يتصف بالصحة والفساد عقدا (٢) كان أو ...

______________________________________________________

حتى مثل الغسل لما يعتبر فيه من التعدد ولو في بعض النجاسات كالبول ، ويعتبر فيه العصر فيما يقبل العصر ، وانفصال الغسالة إذا كان بالقليل ونحو ذلك.

الثالث : ما لا يتصف بالصحة والفساد مع عدم ترتّب أثر شرعي عليه أصلا كالغلبة في باب القمار.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ المراد بالمعاملة هي المعاملة بالمعنى الأعم مع قابليّتها للاتصاف بالصحة والفساد ؛ إذ مع عدم قابلية الاتصاف بالصحة والفساد لا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد فيه وعدمه.

أمّا وجه تعميم المعاملة لمطلق ما يقبل الاتصاف بالصحة والفساد ؛ كغسل النجاسات فهو أحد أمرين : أحدهما : عموم الأدلة.

وثانيهما : ما ذكره الشيخ في محكي المبسوط من الاستدلال على عدم حصول الطهارة ، فيما لو استنجى بالمطعوم ونحوه ممّا تعلق النهي بالاستنجاء به بما هذا لفظه : قال «كل ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا إن استعمل في ذلك ونقي به الموضع لا يجزي ؛ لأنّه منهي ، والنهي يقتضي الفساد».

قال في التقريرات : «وقد نقله في المعتبر ولم يعترض عليه بخروجه عن محل الكلام كغيره ، وإنّما اعترضوا عليه بعدم اقتضاء النهي للفساد».

ثم المصنف قد تابع التقريرات فاختار : أن الداخل في عنوان النزاع هو القسم الأول من الأقسام الثلاثة المتقدمة ، كما في «عناية الأصول ، ج ٢ ، ص ١٣٨» مع تصرف منّا.

(١) أي : لا يكون تامّا ، ووجه عدم تماميته : اختلال بعض ما يعتبر في ترتّب الأثر عليه ، مثل : كونه فاقدا لبعض الشرائط المعتبرة فيه كالعربية مثلا على القول باعتبارها في العقد ، قوله : «لاختلال ...» إلخ تعليل لعدم التمامية.

والمراد بالمعنى الذي تقدم هو العبادة الذاتية أو التقديرية ، دون سائر المعاني المذكورة لها.

(٢) أي : كالبيع ، فإن صحيحه ما يجمع الشرائط ؛ كالصرف المقرون بالقبض في

٩١

.. إيقاعا (١) أو غيرهما (٢) فافهم (٣).

______________________________________________________

المجلس ، وفاسده ما لا يكون جامعا لها ؛ كالصرف غير المقرون بالقبض.

(١) كالطلاق الواقع مع الشرائط وبدونها ، فإنّ الأوّل : صحيح ، والثاني : فاسد.

(٢) مثل حيازة المباحات فإنها صحيحة مع نية التملك ـ بناء على اعتبارها في ملكية الحيازة ـ كما هو الأصح ، وفاسدة بدونها.

(٣) لعلّه إشارة إلى ما قيل : من إمكان دعوى عموم النزاع لما لو أمر به لصح إتيانه عبادة ، فيصح اتصافه بهذا الاعتبار بالصحة والفساد وإن ترتّب عليه أثره التوصلي بمجرد إتيانه ؛ ولو بلا تعلق أمر به ، فلا يصح اتصافه بهذا الاعتبار بالصّحة والفساد ؛ بل بالوجود مرة وبالعدم أخرى إذ عدم الاتصاف بهما بالإضافة إلى الأثر التوصلي لا يمنع من دخوله في محل النزاع بالإضافة إلى الأثر التعبّدي ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٤٩».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره» :

يتلخّص البحث في أمور :

١ ـ الفرق بين المسألة السابقة وبين هذه المسألة ، وخلاصة الفرق بينهما إنّما هو بالجهة المبحوث عنها وهي في مسألة الاجتماع سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر ؛ لاتحاد متعلقيهما ، وعدم سراية كل منهما إلى متعلق الآخر لتعددهما. وأمّا الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة : فهي مفسدية النهي للعبادة أو المعاملة وعدمها ، بعد الفراغ عن أصل توجهه وسرايته إليهما.

فالجهة المبحوث عنها في كل منهما مغايرة للأخرى ؛ ولكن قال المحقق القمّي «قدس‌سره» بفرق آخر بين المسألتين وهو : أن النسبة بين متعلق الأمر والنهي عموم من وجه في مسألة الاجتماع وعموم مطلق في هذه المسألة.

٢ ـ قال المصنف في المسألة السابقة : إنّها عقلية : ثم يقول : في هذه المسألة إنّ عدّ هذه المسألة لفظية لاقتضاء جعل عنوان المسألة في لسان بعض الأصوليين دلالة النهي على فساد المنهي عنه كونها لفظية ؛ لأنّ الدلالة من أحوال اللفظ.

وكيف كان ؛ فالغرض من عقد هذا الأمر الثاني هو : التنبيه على ما ذكره بعض المحققين من : أن النزاع في هذه المسألة كالمسألة السابقة عقلي لا لفظي ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في حكم العقل بالملازمة بين الحرمة والفساد وعدمه سواء كان الدال على الحرمة لفظا أو غيره.

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والمصنف قد أشار إلى إمكان كون المسألة لفظية لإنكار بعض الأصوليين الملازمة بين الحرمة والفساد. واعترافه بدلالة النهي على الفساد في المعاملات ، فلو كان النزاع في الملازمة العقلية الّتي لا مساس لها بدلالة اللفظ لكان هذا القائل من النافين ، مع إنّهم عدّوه من المثبتين ، فهذا كاشف عن أنّ النزاع في دلالة اللفظ لا في الملازمة العقلية.

٣ ـ وتوهم التنافي بين جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ ، وبين التزام العلماء بالملازمة بين الحرمة والفساد في العبادات مردود ، وحاصل الرد : إنّه لا ينافي ذلك أن يكون النزاع ـ مع القول بالملازمة بين الحرمة والفساد ـ في دلالة الصيغة على الفساد وعدمها ، غاية الأمر : أنها تدل على الحرمة بالمطابقة ، وعلى الفساد الملازم للحرمة بالالتزام ، فينتفي التنافي بين القول بالملازمة نظرا إلى الدلالة الالتزامية ، وبين القول بدلالة لفظ النهي على الفساد نظرا إلى الدلالة المطابقية.

وبعد إمكان إرجاع البحث في هذه المسألة إلى مباحث الألفاظ لا تقاس بالمسألة السابقة وهي مسألة الاجتماع ؛ لأن مسألة الاجتماع عقلية بخلاف هذه المسألة حيث يمكن جعلها لفظية.

٤ ـ شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي بتقريب : أن المتبادر من لفظ النهي وإن كان هو خصوص النهي المولوي التحريمي النفسي إلّا إن المراد به في هذه المسألة أعم منه ، فيشمل التنزيهي والغيري بقرينة عموم ملاك البحث أعني : منافاة المرجوحية لصحة العبادة ؛ لاقتضاء العبادة المحبوبيّة والكراهة المبغوضية. ومن المعلوم : أن التضاد بين الحبّ والبغض أوضح من أن يخفى.

ومع عموم ملاك البحث للنهي التنزيهي لا وجه لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي.

وتوهم اختصاص عموم الملاك بالعبادات : لأن المرجوحيّة المستكشفة بالنهي إنّما تنافي صحة العبادة دون المعاملة ـ إذ لا ملازمة بين النهي التنزيهي وبين الفساد فيها ، فيكون عدم الملاك في المعاملات قرينة على إرادة النهي التحريمي من النهي المذكور في العنوان ـ مدفوع بما حاصله : من أن اختصاص عموم الملاك بالعبادات لا يصلح لأن يكون قرينة على إرادة النهي التحريمي في العنوان حتى يكون قرينة على تخصيص النهي في العنوان بالتحريمي ؛ وذلك لكفاية عمومية الملاك في صحة إرادة الأعم من التحريمي ، فلا وجه

٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لتخصيص العنوان بالنهي التحريمي ، كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي فيعم الغيري والتنزيهي.

ويؤيد دخول النهي التبعي في محل النزاع : جعلهم ثمرة النزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه فساده ؛ لأن النهي المتعلق بالضدّ غيري تبعي ، فيظهر من هذا : دخول النهي التبعي في محل النزاع.

٥ ـ في تعيين ما هو المراد بالعبادة في المسألة فيقال : إن للعبادة تعاريف عديدة وأقسام متعددة :

١ ـ ما يكون بذاته عبادة ؛ كالسجود والركوع ونحوهما.

٢ ـ ما تكون عباديته تقديرية بمعنى : لو أمر به لصار عبادة ، وكان أمره عباديا لا توصليا ؛ كصوم العيدين ، والصلاة في أيام الحيض.

٣ ـ ما يكون الأمر لأجل التعبّد به فعلا.

٤ ـ ما تكون صحته متوقفة على النيّة.

ولكن المراد بالعبادة في هذه المسألة أحد المعنيين الأوليين ، ثم الإشكال على التعاريف المذكورة بالانتقاض طردا وعكسا أو بغيره في غير محلّه ؛ لأن التعاريف المذكورة لها تعاريف لفظية لا يعتبر فيها الطرد ولا العكس ، فلا مجال للإشكال ، وإنّما يتم الإشكال على فرض كون تلك التعاريف تعاريف حقيقية ، وليس الأمر كذلك.

٦ ـ في تعيين المراد بالمعاملة الّتي يقع البحث عن اقتضاء النهي فسادها وعدمه ، فلا يدخل في محل النزاع إلّا ما يتصف بالصحة والفساد ؛ ولا شك في اتصاف العبادات بالصحة والفساد ، فتدخل في محلّ النزاع بلا إشكال.

وأمّا المعاملات فعلى ثلاثة أقسام : قسم منها يتصف بالصحة والفساد ؛ كالعقود والإيقاعات ، وقسم منها لا يتصف بهما أصلا ، وهذا القسم على قسمين :

أحدهما : ما يترتّب عليه الأثر الشرعي كالغصب والإتلاف ونحوهما ، والآخر ما لا يترتّب عليه الأثر الشرعي أصلا.

إذا عرفت هذه الأقسام فاعلم : أنّ المراد بالمعاملة هي المعاملة بالمعنى الأعم مع قابليّتها للاتصاف بالصحة والفساد.

«فافهم» لعلّه إشارة إلى أن هناك قسما ثالثا يصح اتّصافه بالصحة والفساد باعتبار ؛ وإن لم يصح اتّصافه بهما باعتبار آخر ، وذلك مثل الشيء الذي لو أمر به لصح اتّصافه

٩٤

السادس (١):

أن الصّحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والأنظار ، فربما يكون

______________________________________________________

بالعبادية ، فإنّه باعتبار أثره التعبّدي يتصف بهما ، وباعتبار أثره التوصلي لا يتصف بهما ؛ بل بالوجود مرة والعدم أخرى.

رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة إنّما هو من حيث الجهة المبحوث عنها.

٢ ـ صحّة جعل هذه المسألة لفظية نظرا إلى وجود قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات ، مع إنكار الملازمة بين الحرمة والفساد فيها.

٣ ـ المراد بالنهي في العنوان هو : الأعم من التحريمي والتنزيهي نظرا إلى عموم ملاك البحث.

٤ ـ المراد بالعبادة في هذه المسألة : ما يكون بذاته عبادة ؛ كالسجود لله تعالى ، أو ما لو أمر به لكان أمره عباديا.

٥ ـ المراد بالمعاملة هي : المعاملة بالمعنى الأعم مع قابليتها للاتصاف بالصحة والفساد.

هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

الكلام في بيان معنى الصحة والفساد

المقصود من هذا الأمر السادس هو بيان أمرين :

الأول : أنّ الصّحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والأنظار.

الثاني : أنّ اختلاف الفقيه والمتكلم في تعريف الصحة والفساد لا يوجب اختلافهما في المعنى. هذا مجمل الكلام في المقام.

وأمّا تفصيل ذلك فيقال : إنّه لمّا كان الفساد المقابل للصحّة من الألفاظ الواقعة في عنوان هذه المسألة فقد عقد المصنف هذا الأمر السادس في تفسيرهما ، وحاصل ما أفاده المصنف فيه هو بيان أمرين :

الأول : أنّ الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والأنظار بمعنى  أنّ عملا واحدا صحيح بالنسبة إلى أثر دون أثر آخر ، بل يكون فاسدا بالنسبة إلى أثر آخر ، أو يكون صحيحا بالنسبة إلى نظر وفاسدا بالنسبة إلى نظر آخر ، وذلك كالمأمور به بالأمر الظاهري كالأمر بالصلاة مع الوضوء المستصحب ، أو بالأمر الواقعي الثانوي كالأمر بالوضوء منكوسا في حال التقية ، فإن المأمور به في هذين الموردين صحيح

٩٥

شيء واحد صحيحا بحسب أثرا ونظر ، وفاسدا بحسب آخر ، ومن هنا صحّ أن يقال : إنّ الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف ؛ بل فيهما بمعنى واحد وهو التمامية ، وإنّما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار الّتي بالقياس عليها تتصف بالتمامية وعدمها.

وهكذا (١) الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في صحة العبادة إنّما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الأثر بعد الاتفاق ظاهرا على أنّها بمعنى التمامية كما هي معناها لغة وعرفا ، فلمّا كان غرض الفقيه هو وجوب القضاء أو

______________________________________________________

بحسب أثر ـ وهو موافقة الأمر والشريعة ـ وفاسد بحسب أثر آخر ـ وهو سقوط القضاء والإعادة ـ وكذا يكون صحيحا بالنظر إلى أمره وهو الأمر الثانوي أو الظاهري ، وفاسدا بالنظر إلى أمر آخر وهو الأمر الواقعي الأوّلي ، أو يكون صحيحا بنظر العرف كبيع المنابذة أو النقدين بلا قبض في المجلس وفاسدا بنظر الشرع.

وبالجملة : أن الصحة والفساد من الأمور الإضافية لا الحقيقية الّتي يكون لها بحسب الواقع حدّ معيّن في نفسه لا يتعدّاه ، فربما يكون عمل واحد صحيحا بالنسبة إلى أثر أو نظر أو أمر دون آخر ، مثلا : الصلاة جالسا صحيحة بالنسبة إلى المريض ، وفاسدة بالنسبة إلى السليم ، والصلاة مع الطهارة الاستصحابية صحيحة بعد كشف الخلاف بالنسبة إلى القضاء ، وفاسدة بالنسبة إلى الأداء وصحيحة في نظر القائل بالإجزاء ، وفاسدة في نظر غيره. صحيحة بالنسبة إلى موافقة الأمر الظاهري لا الواقعي.

الأمر الثاني : أن اختلاف المتكلم والفقيه في تعريف الصحة والفساد لا يوجب اختلافهما في المعنى وهو التمامية وعدم التمامية ، فالأوّل عرّف الصحة في العبادات بما يوافق الأمر أو الشريعة. والثاني ، بما يسقط معه القضاء والإعادة ؛ وهذا الاختلاف في تفسيرهما بين الفقيه والمتكلم إنّما هو بحسب الأثر المهم عند كل منهما ، فإنّ المهم في نظر الفقيه هو سقوط القضاء والإعادة في العبادات ، ففسّر صحّتها بذلك. وفي نظر المتكلم هو : موافقة الأمر الموجبة لاستحقاق المثوبة ، ففسّر صحة العبادة بذلك.

والمتحصّل : أنّ مفهوم الصحة والفساد واحد عند الكل ؛ وهو معناهما اللغوي والعرفي أعني : الصحة بمعنى : التمامية ، والفساد بمعنى : عدم التمامية ، والاختلاف في التفسير ناشئ عن الاختلاف فيما هو المهم في نظر كلّ منهما.

(١) هذا إشارة إلى الأمر الثاني من الأمرين اللّذين تقدم ذكرهما تفصيلا.

٩٦

الإعادة أو عدم الوجوب فسّر صحة العبادة بسقوطهما ، وكان غرض المتكلم هو حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة فسّرها بما يوافق الأمر تارة ، وبما يوافق الشريعة أخرى ، وحيث (١) إن الأمر في الشريعة يكون على أقسام (٢) من

______________________________________________________

(١) شروع في بيان كيفيّة اختلاف الصحة والفساد بحسب الآثار والأنظار.

في تقسيم الأمر إلى أقسام

(٢) غرضه من هذا التقسيم : تحقيق النسبة بين التعريفين ، وهي ـ على ما اشتهر بينهم ـ عموم مطلق ؛ لأنّ كل ما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر والشريعة ولا عكس ، وذلك كما في الصلاة بالطهارة المستصحبة فإنّها موافقة للأمر وليست مسقطة للإعادة والقضاء مع انكشاف الخلاف.

ولمّا كان تحقيق ذلك منوطا بمعرفة أقسام الأمر قدّم ذلك على بيان حال النسبة المذكورة ، فقال : الأمر على ثلاثة أقسام :

١ ـ الواقعي الأوّلي : كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ*).

٢ ـ الواقعي الثانوي : كالأمر بالصلاة متكتّفا تقية.

٣ ـ الظاهري : كالصلاة مع الطهارة المستصحبة.

إذا عرفت هذه الأقسام فيقال : إن كون النسبة بين التعريفين عموما مطلقا منوط بأمرين : أحدهما : أن يكون المراد بالأمر في تعريف المتكلم ما يعمّ أقسامه الثلاثة المذكورة.

ثانيهما : بناء الفقيه على عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري ، فحينئذ يصدق أنّ كلّما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر الواقعي الأوّلي أو الثانوي ، وكلاهما مراد للمتكلم. ولا عكس ، أي : لا يصدق أن كل ما هو موافق للأمر مسقط للإعادة أو القضاء ، وذلك لأن المأمور به بالأمر الظاهري وإن كان موافقا للأمر عند المتكلم ـ لأن المفروض : أنّ المراد بالأمر ما يعمّ أقسامه الثلاثة ـ لكنّه ليس مسقطا للإعادة أو القضاء ؛ لأنّ الفقيه لا يقول بمسقطيّة الأمر الظاهري لهما.

وبالجملة : أن كون النسبة بين التعريفين عموما مطلقا مبني على الأمرين ، وهما كون المراد بالأمر : ما يعمّ أقسامه الثلاثة ، وعدم إجزاء الأمر الظاهري ، وحينئذ فبانتفاء أحد الأمرين تنتفي النسبة المذكورة بين التعريفين ، وتكون النسبة بينهما هي التساوي ؛ لأنّ موافقة مطلق الأمر مسقطة للإعادة أو القضاء ، وكذا كل مسقط لهما موافق للأمر.

فالنتيجة : هي المنع عن كون النسبة بينهما عموما مطلقا لما عرفت من توقفها على

٩٧

الواقعي الأوّلي والثانوي والظاهري والأنظار تختلف في أنّ الأخيرين يفيدان الإجزاء ، أو لا يفيدان ، كان (١) الإتيان بعبادة موافقة لأمر ومخالفة لآخر ، أو مسقطا للقضاء والإعادة بنظر ، وغير مسقط لهما بنظر آخر.

فالعبادة (٢) الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه بناء على أنّ

______________________________________________________

ثبوت الأمرين المذكورين اللّذين بانتفاء أحدهما تنقلب النسبة إلى التساوي ، وحيث إنّهما غير ثابتين ، لاختلاف الأنظار فيهما فلم يثبت كون النسبة بينهما هي العموم المطلق ؛ بل ربما تكون هي التساوي كما عرفت ، كما يمكن أن يكون تعريف الفقيه أعم من تعريف المتكلم على خلاف ما هو المشهور ؛ وذلك إذا أريد بالأمر في تعريف المتكلم خصوص الأمر الواقعي ، مع بناء الفقيه على الإجزاء بموافقة الأمر الظاهري ؛ إذ يصدق حينئذ أن كل ما يوافق الأمر الواقعي مسقط للإعادة والقضاء ؛ ولا عكس ، إذ المفروض : أن المأمور به بالأمر الظاهري مسقط لهما. وليس موافقا للأمر عند المتكلم.

(١) جواب «حيث» في قوله : «وحيث إنّ الأمر ...» إلخ وغرضه : ما يترتّب على أقسام الأمر ، واختلاف الأنظار في الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الثانوي والظاهري.

(٢) هذا شروع في بيان صور النسبة بين نظر المتكلم والفقيه : الصورة الأولى : هي التساوي. وقد أشار إليها بقوله : «فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه» ، فيما إذا كان مراد المتكلم من الأمر في تعريف الصحة بموافقة الأمر أعمّ من الأمر الظاهري والواقعي ، مع كون الفقيه قائلا باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ، وحينئذ يتحقق التساوي بين القولين بمعنى : أنّ كلّ ما يوافق الأمر مسقط للإعادة أو القضاء ، وكل ما يسقط الإعادة أو القضاء موافق للأمر.

وكذا يتحقق التساوي بين القولين فيما لو كان مراد المتكلم من الأمر خصوص الأمر الواقعي ، ولم يقل الفقيه بالإجزاء إلّا في الأمر الواقعي ؛ إذ حينئذ كلّما وافق الأمر الواقعي كان مجزئا ، وكلّما لم يوافق الأمر الواقعي لم يكن مجزئا. وأمّا الصورة الثانية : ـ وهي العموم المطلق مع كون العموم من طرف المتكلم ـ فهي ما أشار إليه بقوله : «وعدم اتصافها بها» أي : عدم اتّصاف العبادة بالصحة عند الفقيه بموافقة الأمر الظاهري يعني : الفقيه يقول بعدم الإجزاء في الأمر الظاهري مع قول المتكلم بأنّ المراد بالأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر أعم من الظاهري والواقعي ، فإنّه حينئذ كلّما أجزأ كان موافقا للأمر ، وليس كلّما وافق الأمر كان مجزئا ، فالإجزاء ـ وهو قول الفقيه ـ أخصّ من موافقة الأمر وهو قول المتكلم.

٩٨

الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر أعمّ من الظاهري ، مع اقتضائه للإجزاء ؛ وعدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته ، بناء على عدم الإجزاء وكونه مراعى بموافقة الأمر الواقعي وعند المتكلم بناء على كون الأمر في تفسيرها خصوص الواقعي.

تنبيه (١) ، وهو : أنه لا شبهة في أن الصحة والفساد عند المتكلم وصفان اعتباريان

______________________________________________________

وأمّا الصورة الثالثة ـ وهي العموم المطلق ، مع كون العموم من طرف الفقيه ـ فهي ما أشار إليه بقوله : «وعند المتكلم ...» إلخ أي : عدم اتصاف العبادة بالصحة عند المتكلم مع اتصافها بها عند الفقيه ، بناء على كون الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر هو خصوص الأمر الواقعي عند المتكلم ، مع كون الفقيه قائلا بالإجزاء في مطلق الأمر ، فحينئذ كلّما كان موافقا للأمر كان مجزئا ، وليس كلما كان مجزئا موافقا للأمر عند المتكلم.

فالمتحصل : أنّ النسبة بين القولين لا تنحصر في العموم المطلق ، مع كون العموم من طرف المتكلم كما هو المشهور ؛ بل يمكن التساوي لو قال كلّ من الفقيه والمتكلم بعموم الأمر أو بالخصوص ، أو العموم المطلق مع كون العموم من طرف الفقيه عكس ما هو المشهور. هذا وعبارة المصنف في المقام لا تخلو عن الإجمال.

هل الصحة والفساد حكمان شرعيان أم اعتباريان

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه : تحقيق كون الصحة والفساد من الأحكام الشرعية الوضعية الاستقلالية أو التبعية ، أو من الأحكام العقلية ، أو من الأمور الاعتبارية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الصحة والفساد تارة : تلاحظان بالإضافة إلى الأمر الواقعي الأوّلي من حيث كون المأتي به مطابقا للمأمور به كمّا وكيفا ، ومن حيث عدم كونه مطابقا له كذلك.

وأخرى : تلاحظان بالنسبة إلى الأمر الظاهري والواقعي الثانوي من حيث كون المأتى به مطابقا له شطرا وشرطا ، ومن حيث عدم كونه مطابقا له كذلك.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ الصحة والفساد عند المتكلم أمران انتزاعيان ينتزعان عن مطابقة المأتي به للمأمور به وعدم المطابقة.

ولا فرق في ذلك بين إرادة المتكلم خصوص الأمر الواقعي وبين إرادة ما يعمّ الظاهري ، فلا تكون الصحة والفساد حينئذ من الأحكام الشرعية الوضعية ولا من الأحكام العقلية ؛ بل من الأمور الاعتبارية الانتزاعية.

وأمّا الصحة والفساد عند الفقيه فهما من الأحكام العقلية بالإضافة إلى الأمر الواقعي

٩٩

ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها ، وأمّا الصّحة ـ بمعنى سقوط القضاء

______________________________________________________

الأوّلي ، ومن الأحكام الشرعية الوضعية أو الأحكام العقلية بالإضافة إلى الأمر الظاهري ، أو الواقعي الثانوي.

وأمّا كونهما من الأحكام العقلية بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأوّلى : فلأن الصحة عند الفقيه بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ الأولي إنّما هي من اللوازم العقلية المترتّبة على الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي ، لأنّه بعد انطباق المأمور به على المأتي به يحكم العقل بسقوط الأمر ، فلا موجب للإعادة والقضاء بعد سقوطه بملاكه ، فليست الصحة أمرا انتزاعيا ، كما عن التقريرات حيث قال فيها : «إنّ الصحة والفساد وصفان اعتباريان ينتزعان من الموارد بعد ملاحظة العقل انطباق المورد لما هو المأمور به ، أو لما هو المجعول سبّبا وعدمه مطلقا سواء كان في العبادات أو في المعاملات ، سواء فسّرت الصحة بما فسّرها المتكلمون أو بما فسرها الفقهاء» انتهى.

وحاصل ما في التقريرات : أنّ الصحة والفساد سواء كانا في العبادات أو المعاملات سواء كانا بتفسير المتكلم أو بتفسير الفقيه هما وصفان انتزاعيان ، غاية الأمر : أنّه في العبادات ينتزعان من مطابقة المورد لما هو المأمور به ، وفي المعاملات من مطابقته لما هو المجعول سبّبا ، هذا في نظر الشيخ الأنصاري في التقريرات.

وأمّا المصنف : فقد فصّل في العبادات بين تفسيريّ المتكلم والفقيه ، فعلى تفسير المتكلم هما وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به لما هو المأمور به ، كما عرفت.

وأمّا على تفسير الفقيه أي : سقوط الإعادة والقضاء : ففي المأمور به الواقعي الأوّلي فهي لازم عقلي ، بمعنى أنّ العقل يحكم بأنه مسقط للإعادة والقضاء كما عرفت أيضا. وأمّا الصحة بالنسبة إلى الأمر الظاهري أو الواقعي الثانوي : فتتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن تكون الصحة فيهما حكما وضعيا شرعيا ، بمعنى : أن الشرع يحكم بأنّه مسقط للقضاء والإعادة منّة منه على العباد ، وتخفيفا عنهم مع ثبوت المقتضى لهما لفوت الواقعي الأوّلي.

وبعبارة أخرى : كما إذا بقي من الملاك الداعي إلى الأمر الواقعي الأوّلي مقدار يقتضي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء ، لكنّه تبارك وتعالى تخفيفا على العباد لم يشرّع وجوب شيء منهما واكتفى بالمأمور به بالأمر الثانوي أو الظاهري تفضّلا عليهم ، فالصحة حينئذ تكون حكما وضعيا شرعيا لا عقليا ولا انتزاعيا.

وثانيهما : أن تكون الصحة حكما عقليا ، كما إذا فرض وفاء المأمور به بالأمر الثانوي

١٠٠