دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ليس إلّا ترتّب المفسدة على فعل الحرام ، والمصلحة على فعل الواجب ، فلا مفسدة في ترك الواجب ، كما لا مصلحة في ترك الحرام.

نعم ؛ ترك الواجب يوجب فوات المصلحة التي يلزم استيفاؤها ؛ كما إذا كان في فعل الحرام مفسدة يحبب الاجتناب عن الوقوع فيها.

وعليه : فلا يدور الأمر في الواجب والحرام بين المفسدتين حتى يخرج ما نحن فيه عن قاعدة أولويّة دفع المفسدة من جلب المصلحة ؛ بل ما نحن فيه من صغريات تلك القاعدة.

والمتحصّل : أنه تكون في فعل الواجب مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن تكون في تركه مفسدة ، كما تكون في فعل الحرام مفسدة من دون أن تكون في تركه مصلحة ، فلا يتم ما أفاده المحقق القمي «قدس‌سره» من الإيراد.

والمصنف «قدس‌سره» بعد الجواب عن إيراد المحقق القمي أورد على المرجح الثاني بوجوه :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «ولكن يرد عليه : أن الأولوية مطلقا ممنوعة».

وحاصله : أنّ هذه الأولوية في جميع موارد دوران الأمر بين دفع المفسدة وبين جلب المنفعة ممنوعة ، فمرجع هذا الوجه : هو منع كلية الكبرى لعدم الدليل على أولويّة دفع المفسدة مطلقا من جلب المنفعة ، بعد وضوح : اختلاف المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام قوّة وضعفا ؛ إذ ربّ واجب تكون مصلحته في غاية القوّة ، وحرام تكون مفسدته في كمال الضعف ، فلا شبهة حينئذ في تقدم الواجب على الحرام عند الدوران بينهما ، كما سيأتي.

والمراد من «مطلقا» أي : في جميع الموارد ؛ حتى في صورة أقوائيّة مصلحة الواجب ـ كالصلاة ـ من مفسدة الحرام كالنظر إلى الأجنبية ؛ بل الأولويّة المذكورة مختصّة بما إذا كانت المفسدة أقوى من المصلحة.

قوله : «كما يشهد به» أي : كما يشهد بكون العكس أولى مقايسة فعل بعض المحرمات ـ كالتصرف في مال الغير بدون إذنه ـ مع ترك بعض الواجبات كإنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق ، فإن من المعلوم : أقوائية مصلحة هذين الواجبين من مفسدة الغصب.

٦١

ولكن يرد عليه : أن الأولويّة مطلقا ممنوعة ؛ بل ربما يكون العكس أولى ، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات ، خصوصا مثل : الصلاة وما يتلو تلوها (١).

ولو سلّم (٢) فهو أجنبي عن المقام ؛ فإنّه فيما إذا دار بين الواجب والحرام.

ولو سلّم (٣) ، فإنّما يجدي فيما لو حصل به القطع.

______________________________________________________

(١) أي : ما يتلو تلو الصلاة كالحج والصوم وغيرهما مما بني عليه الإسلام ، فإنّ مصلحة الصلاة مثلا أقوى من مفسدة النظر إلى الأجنبيّة.

(٢) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الّتي أوردها المصنف على المحقق القمي «قدس‌سره».

وحاصل هذا الوجه الثاني : لو سلّمنا كلية قاعدة أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة نمنع صغروية المقام لها ؛ بل هي أجنبية عن المقام ، وليس المقام من صغريات تلك الكبرى ، وذلك ، لأن موردها هو التخيير بعد عدم الأخذ بالترجيح ، مثل : ما لو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته بأن يكون هناك شيء واحد لا يعلم أنّه واجب أو حرام ؛ كما لو ترددت المرأة بين الأجنبية التي يحرم وطؤها وبين الزوجة رأس أربعة أشهر التي يجب وطؤها ، فإنّ ترك الوطء الذي فيه دفع مفسدة الزنا المحتمل أولى من الوطء الذي فيه جلب منفعة الوجوب المحتمل ، هذا مثال الشبهة الموضوعية.

وأما مثال الشبهة الحكمية : فكما لو ترددت صلاة الجمعة بين الوجوب والحرمة ، فإنّ الحكم فيها ـ بعد عدم إمكان ترجيح أحد الحكمين ـ هو التخيير ، هذا بخلاف المقام حيث قام الدليلان على الوجوب والحرمة ، وحكم العقل بامتناع الاجتماع ولم يعلم ترجيح أحدهما على الآخر من الخارج.

وكيف كان ؛ فلا موضوع حينئذ لتلك القاعدة إذ موضوعها وموردها هو : ما إذا دار أمر الفعل بين الواجب والحرام كصلاة الجمعة في عصر الغيبة ، فعند القائل بحرمتها فيها مفسدة ملزمة ، وعند القائل بوجوبها فيها مصلحة ملزمة ولا يتمكّن المكلف من دفع الأولى وجلب الثانية معا في مقام الامتثال ؛ لأنّه إمّا أنّ يفعلها فيجلب المصلحة ولا يدفع المفسدة ، وإمّا أن يتركها فيدفع المفسدة ولا يجلب المصلحة.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثالث من الوجوه الّتي أوردها المصنف على المحقق القمي «قدس‌سره» وحاصله : أنّ هذه القاعدة بعد تسليمها إنّما تجدي فيما إذا حصل القطع بالأولويّة وذلك ممنوع ؛ لأنّ غاية ما يحصل من هذه القاعدة هو الظنّ بالأولويّة ، وذلك لا يجدي لأنّ الأصل عدم اعتباره ، فالأولويّة الظنيّة لا تجدي في الترجيح ؛ لأنّ المعتمد

٦٢

ولو سلّم أنّه (١) يجدي ولو لم يحصل فإنّما يجدي (في نسخة يجري) فيما لا

______________________________________________________

في الترجيح هو أولويّة قطعية ، والمفروض : عدم حصولها.

وهناك تطويل في الكلام بذكر الأقسام والاحتمالات في المقام تركنا ذكرها رعاية للاختصار ، وتجنّبا عن التطويل الممل.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الرابع الّتي أوردها المصنف على المحقق القمي «قدس‌سره».

وحاصل هذا الوجه : أنّه لو سلم أنّ الظنّ بالأولويّة يجدي في مقام الترجيح ـ وإن لم يحصل القطع ـ فذلك يختصّ بما إذا لم تجر فيه أصالة البراءة أو الاشتغال ؛ كما في دوران الأمر بين المحذورين أي : الوجوب والحرمة التعيينيين ، حيث لا مجال للبراءة فيه للعلم بالتكليف الإلزامي المانع عن شمول أدلة البراءة ، ولا مجال فيه للاشتغال لتعذر الموافقة القطعية والمخالفة ، كذلك فلا أثر له مع عدم القدرة على الموافقة القطعية بالفعل أو الترك ، فلا محالة يكون مخيّرا بينهما عقلا ؛ لعدم المرجح لأحدهما على الآخر. وقد مثل لما لا يكون فيه مجال لأصالة البراءة والاشتغال بقوله : «كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين» ؛ مثل : ما لو لم يعلم بحرمة صلاة الجمعة أو وجوبها فإنّه لا مجال لأصل البراءة للعلم بالتكليف الإلزامي المانع عن جريان أصل البراءة ، وإنّما تجرى البراءة فيما لم يعلم بالتكليف الإلزامي أصلا.

وكذلك لا مجال لأصالة الاشتغال والاحتياط ؛ لعدم التمكن من الموافقة القطعية ، وإنّما تجري فيما يمكن فيه الموافقة القطعية ، ومع عدم قاعدة شرعية يحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك. هذا بخلاف المقام لإمكان جريان أصل البراءة في حرمة المجمع ؛ إذ لا يعلم بثبوت خصوص الحرمة في المجمع فيحكم بصحّته ببركة الأصل ، حتى على القول بمرجعيّة الاشتغال عند الشك في أجزاء المركّب الارتباطي وشرائطه ؛ إذ ليست شرطيّة الإباحة على حذو شرطيّة غيرها لكون الإباحة شرطا تزاحميا ، ومن المعلوم : توقف التزاحم على تنجز التكليف فما لم يعلم بفعلية النهي ـ كما في المقام ـ لا تكون الحرمة مانعة لعدم منافاتها لقصد القربة ، فمع ارتفاع فعلية النهي تصحّ الصلاة واقعا ؛ لخلوها عن المانع حقيقة.

هذا بخلاف مشكوك الجزئية والشرطية في غير الإباحة ؛ كالشك في جزئية الاستعاذة أو شرطية إباحة مكان المصلي ، فإنّه إذا جرت فيها البراءة حكم بصحة الصلاة ظاهرا لا واقعا ؛ إذ مع ثبوت الجزئية أو انتفاء الشرطية لا تصحّ الصلاة واقعا ، ولذا قيل بالاشتغال في المركب الارتباطي ؛ للشك في براءة الذّمة بالفاقد.

٦٣

يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو الاشتغال ؛ كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين ، لا فيما تجري ؛ كما في محل الاجتماع (١) لأصالة البراءة عن

______________________________________________________

فالمتحصل : أنّه فرق بين المقام وبين الدوران بين المحذورين وحاصله : هو العلم بثبوت أحد الحكمين الإلزاميين في مورد الدوران بين المحذورين ، ولكن الشك في الثابت منهما واقعا ، هذا بخلاف المقام حيث لا يعلم بثبوت ذلك ؛ بل يحتمل أن يكون أحد الوجوب والحرمة أقوى مقتضيا ، فيثبت ، وأن يكونا متساويين من أجل الاقتضاء فيتساقطان معا لعدم المرجّح في البين ، فحيث لم يعلم الإلزام بالفعل أو الترك كان احتمال ثبوت الحرمة مجرى لأصالة البراءة ، فندفع بها الحرمة الفعلية ، ونحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة ؛ إذ المانع من صحة الصلاة هي الحرمة الفعلية الموجبة لصدق عنوان المعصية ، فلا يمكن التقرّب المعتبر في العبادة ، أمّا بعد نفي الحرمة الفعلية بأصالة البراءة فأمكن التقرب لعدم كون المجمع حينئذ معصية.

(١) بين الصلاة والغصب حيث لا مانع عن جريان البراءة في الحرمة ، ومع جريان البراءة عن الحرمة يحكم بصحة الصلاة ، كما أشار إليه بقوله : «فيحكم بصحته» أي : بصحة محل الاجتماع ، وهذا الحكم الوضعي مترتب على جريان البراءة عن حرمة الغصب ، لأن المانع عن الصحّة هو فعلية الحرمة المرفوعة بالأصل.

لا يقال : إن جريان البراءة في محل الكلام إنّما يتمّ لو لم نقل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط.

وأما لو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط لكان ما نحن فيه مجرى للاشتغال لا للبراءة ، فاللازم حينئذ : هو الحكم ببطلان الصلاة في المجمع. فإنّه يقال : فرق بين ما نحن فيه وبين الشك في الأجزاء والشرائط ، فجريان قاعدة الاشتغال في الشك في الجزئية والشرطية لا يستلزم جريانها في مورد الاجتماع والشك في فعلية الحكم.

وتوضيح الفرق : أنّ الصحة الثابتة بأصل البراءة في الشك في الجزئية والشرطية ظاهرية ، لأنّه ـ على فرض ثبوتهما واقعا ـ يكون الفاقد لهما بمقتضى ارتباطيّة الأجزاء والشرائط فاسدا واقعا.

وهذا بخلاف مانعية الغصب ـ في محل الكلام ـ حيث إنّها مترتبة على فعلية حرمته ، فإذا جرت البراءة في نفي فعليتها انتفت المانعية حقيقة ، وصحّت الصلاة واقعا. فالصحة فيه واقعية ، وفي الشك في الجزئية والشرطية ظاهرية ، ولذا بنى غير واحد في الأقل والأكثر الارتباطيين على الاشتغال.

٦٤

حرمته ، فيحكم بصحته ، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط فإنّه لا مانع عقلا إلّا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها (١) عقلا ونقلا.

نعم ؛ لو قيل (٢) : بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ، ولو لم تكن الغلبة بمحرزة ، فأصالة البراءة غير جارية ؛ بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب ـ لو

______________________________________________________

قوله : «فإنّه لا مانع» تعليل لقوله : «فيحكم بصحته» ، يعني : أنّه لا مانع من الحكم بصحة مورد اجتماع الأمر والنهي إلّا فعلية الحرمة المنافية للتقرب به ، فإذا انتفت فعلية الحرمة صلح المجمع للقربيّة.

(١) أي : عن فعلية الحرمة ، فلا مانع عن صحة الصلاة بعد جريان البراءة الشرعية والعقلية ؛ لأنّ المانع عن صحة المجمع هي الحرمة الفعلية ، ولا حرمة فعلية بعد أدلّة البراءة من العقل والنقل.

وتركنا ما في المقام من طول الكلام رعاية للاختصار.

(٢) هذا استدراك على قوله : «لا فيما تجري كما في محل الاجتماع ...» إلخ يعني : أنّ المصنف «قدس‌سره» قد أثبت صحة المجمع بسبب البراءة العقلية والنقلية عن حرمته الفعلية ، ثم استدرك عليه وقال : نعم ؛ لو قلنا بأن مفسدة الغصب واقعية لا علمية ، وغالبة في الواقع على مصلحة الصلاة في الأرض المغصوبة فهي مؤثر في فعلية المبغوضيّة المانعة عن إمكان التقرّب بالمجمع ؛ وإن لم تحرز غلبتها ، فمع احتمال تأثيرها فيها لا تنفع البراءة عن حرمته الفعلية لأنّها رافعة للحرمة الفعلية وليست برافعة لاحتمال غلبة المفسدة الواقعية المؤثرة في المبغوضيّة ، بل لا مجال للبراءة لعدم إحراز موضوعها ـ وهو عدم البيان ـ ضرورة : أنّ العلم بالمفسدة ـ على تقدير غلبتها ـ صالح للبيانية ، وعليه : فأصالة الاشتغال هنا محكمة لو كان الواجب عبادة ؛ للشك في الفراغ الذي يرجع فيه إلى قاعدة الاشتغال ؛ ولو قلنا بالبراءة العقلية والنقلية في صورة الشك في الأجزاء والشرائط.

مثلا : إذا شككنا في اعتبار شيء على نحو الشرطية أو الشطرية في المأمور به وعدم اعتباره إمّا لفقدان النص ، وإما لإجماله ، أو لتعارض النصين. فقد تجري البراءة في هذا المورد ؛ لكون الشك في التكليف ، ولكون الشبهة حكمية. هذا بخلاف المقام ؛ فإنّ الشك فيه إنّما هو في حصول ما يعتبر قطعا في المأمور به وهو قصد القربة ، فكان الشك في المحصل وهو مجرى الاشتغال بحكم العقل ، فلا بد من إتيان الصلاة خارج الدار المغصوبة تحصيلا لليقين بالبراءة.

٦٥

كان عبادة ـ محكمة ، ولو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشرائط ، لعدم (١) تأتّي قصد القربة مع الشك في المبغوضية فتأمل.

______________________________________________________

(١) تعليل لجريان قاعدة الاشتغال. وحاصله : أنّ الشك في صحة الصلاة الواقعة في المغصوب مسبّب عن الشك في غلبة كل من المصلحة أو المفسدة على الأخرى في نظر الشارع ، وهذا المقدار من الشك كاف في عدم تمشي قصد القربة منه ؛ وذلك لأن أحد طرفي هذا الشك احتمال غلبة المفسدة ، ومع هذا الاحتمال كيف يتمشى منه قصد القربة. وحينئذ فلا تجري البراءة ، فيجرى الاشتغال ، وذلك يكشف عن فساد الصلاة ؛ لأنّ الأصل : عدم غلبة المصلحة على المفسدة ، واحتمال غلبة المفسدة يمنع عن تمشّي قصد القربة منه ، ولازم ذلك : بطلان الصلاة.

قوله : «فتأمّل» لعلّه إشارة إلى ما ذكره المصنف في الحاشية ، وحاصل ما في الحاشية : أن هذا القول وإن لم يكن في نفسه بعيدا كما يشهد به أنّ العلم بالحرمة يوجب تنجّزها بما لها من المرتبة الشديدة ، ولذا يستحق العقوبة على تلك المرتبة وإن لم تعلم ، لكنه لا ينفع مع إحراز المصلحة الّتي يحتمل مزاحمتها للمفسدة وغلبتها عليها ؛ إذ حينئذ يكون الفعل كما إذا لم يحرز أنّه ذو مصلحة أو ذو مفسدة ، فلا يستقل العقل بحسنه أو قبحه ، ولا مانع من التقرب به. وبعبارة واضحة : أن إحراز الحرمة الذاتية بإحراز المفسدة إحراز للمقتضي ، ومن المعلوم : إنّه لا يؤثر إلّا مع عدم المانع ، والمفروض : إحراز الوجوب الذاتي بإحراز المصلحة المقتضية له ، وهو مانع عن تأثير المفسدة.

لا يقال : إن حرمة الغصب في المجمع محرزة ، وإحرازها يكفي في تنجّز مرتبتها الغالبة إذا كانت قويّة غالبة واقعا ، فغلبتها محتملة في المجمع ، وعليه : فنحتمل مبغوضيّته ، ومع احتمالها لا يتمشى من المصلّي في الدار المغصوبة قصد التقرب على نحو الجزم ، فلا يجوز الحكم بصحة الصلاة فيها.

فإنّه يقال : إنّ للحرمة مراتب قوية متوسطة ضعيفة ومجرّد إحرازها يكفي في تنجّزها إذا كانت قويّة واقعا ، وهذا يدفع بأصالة العدم أي : عدم كونها قويّة غالبة.

هذا مضافا إلى أنّه لا يعتبر في العبادة أزيد من إتيانها قربة إلى المولى الجليل ، ولا يعتبر كونها راجحة ذاتا خاصة من شائبة احتمال الفساد ، نعم يعتبر أن لا تقع من المكلف في حالة كونها مبغوضة ، وهذا غير معلوم للمكلف ؛ لأن الأصل عدم كونها مبغوضة ، وكيف كان ؛ فالصلاة صحيحة على رأي المصنف «قدس‌سره».

٦٦

ومنها : الاستقراء ، فإنّه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ؛

______________________________________________________

الاستقراء

الوجه الثالث : من الوجوه الّتي ذكروها لترجيح النهي على الأمر : هو الاستقراء ، بدعوى : أنّنا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في المسائل الشرعية نجد : أن الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب ، فقد حرّم الفعل الذي يدور أمره بين الوجوب والحرمة.

وقد ذكر المصنف «قدس‌سره» موردين من موارد تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب.

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «كحرمة الصلاة : في أيّام الاستظهار».

والثاني : ما أشار إليه بقوله : «وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين».

وأما توضيح المورد الأول : فيتوقف على مقدمة وهي : أن الشارع قد حكم بترك الصلاة في أيّام الاستظهار ، وهي ـ في ذات العادة ـ الأيام الّتي ترى المرأة دما بعد تمام العادة قبل العشرة ، فإنّ أمرها دائر في هذه الأيّام بين وجوب الصلاة عليها إذا انقطع الدم دون العشرة ، وبين حرمتها عليها ، إذا استمرّ الدم إلى العشرة ، مثلا : لو كانت عادة المرأة في كلّ شهر ثلاثة أيّام ، ثم رأت الدم بعدها ، فبين الثلاثة والعشرة تسمّى أيام الاستظهار ، والدم في أيّام الاستظهار استحاضة إن تجاوز العشرة ، وحيض إن انقطع فيها ، هذا في ذات العادة. أمّا المرأة المبتدئة وهي الّتي لم تستقر بعد لها العادة فأيام الاستظهار في حقها أول رؤية الدم إلى ثلاثة أيّام ، فهي تستظهر إلى ثلاثة أيّام ، فإن لم ينقطع فيها الدم حكم بكونه حيضا وإلّا فهو استحاضة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يدور أمر الصلاة في أيّام الاستظهار بين الحرمة لاحتمال الحيضية ، وبين الوجوب لاحتمال الاستحاضة ، إلّا إنّ الشارع المقدس قدّم جانب الحرمة على الوجوب حيث أمرها بترك الصلاة في هذه الأيّام ، فيكون حكم الشارع بحرمة الصلاة دليلا على ترجيح النهي على الأمر. هذا تمام الكلام في توضيح المورد الأول.

وأما المورد الثاني : فلأن حكم الشارع بعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين اللذين اشتبه طاهرهما بمتنجّسهما ، مع وجوب الوضوء بالماء الطاهر. يكشف عن تقدم النهي على الأمر في جميع الموارد ، فحكم الشارع وأمره بإراقة المشتبهين ، والتيمم للصلاة ـ مع دوران الأمر بين وجوب الوضوء مقدمة للصلاة وحرمته لنجاسة الماء ـ يكون دليلا على تقديم الحرمة على الوجوب.

٦٧

كحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار ، وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين.

وفيه : أنّه (١) لا دليل على اعتبار الاستقراء ما لم يفد القطع ، ولو سلّم (٢) : فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار (٣).

ولو سلّم (٤) : فليس حرمة الصلاة في تلك الأيام ، ولا عدم جواز الوضوء منهما

______________________________________________________

(١) قد أورد المصنف على الاستقرار بوجوه :

الوجه الأول : إنّه لا دليل على حجية الاستقراء تعبّدا ما لم يفد القطع ، فاعتباره منوط بإفادته العلم وهو غير حاصل ؛ لأن غاية ما يفيده الاستقراء هو الظنّ الذي لا يغني من الحق شيئا.

(٢) الوجه الثاني الذي أورده المصنف على الاستقراء هو : إنّ الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار حتى الاستقراء الناقص ، فضلا عن الاستقراء التام ، والفرق بينهما : أن الاستقراء الناقص هو تتبع أكثر الجزئيات والأفراد ليفيد الظنّ بثبوت كبرى كلية في مقابل الاستقراء التام ـ وهو تتبع تمام الجزئيات والأفراد ، ـ وذلك يفيد العلم والقطع بثبوت كبرى كلية على فرض تحققه ، فنقول في المقام : إنه بعد تسليم اعتبار الاستقراء الظنّي لا يحصل الاستقراء الناقص المفيد للظنّ بهذين الموردين ؛ بل لا بد من تتبع موارد كثيرة حتى يحصل الظّن من الكثرة والغلبة.

(٣) لا يثبت الاستقراء بهذين الموردين ، يعني : لا يحصل الظن بالموردين المذكورين.

(٤) هذا هو الوجه الثالث الذي أورده المصنف على الاستقراء. وحاصل هذا الوجه الثالث : أنّه ـ بعد تسليم كفاية الظّن الاستقرائي ، وتحقق الاستقراء الناقص المفيد للظّن بالموردين المذكورين ـ لا يكون الموردان المذكوران من موارد ترجيح الحرمة على الوجوب ؛ بل هما أجنبيان عنها.

أما المورد الأوّل ـ وهو حرمة الصلاة في أيام الاستظهار ـ فلأن حرمة الصلاة فيما بعد العادة لذات العادة مستندة إلى أصل موضوعي ، وهو استصحاب حدث الحيض الموجب لترتب أحكامه في أيّام الاستظهار ، فليس هناك أمر حتى يدور الأمر بين الوجوب والحرمة.

وأمّا حرمة الصلاة بالنسبة إلى غير ذات العادة : فلقاعدة الإمكان المثبتة تعبدا لكون الدم حيضا ، فلا يكون هناك أمر أصلا ، كي يدور الأمر بين الوجوب والحرمة ، فحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار أجنبيّة عن مورد البحث ، أعني : ترجيح النهي على الأمر.

قوله : «لأنّ حرمة الصلاة ...» إلخ تعليل لعدم ارتباط حرمة الصلاة في أيّام الاستظهار بما نحن فيه من ترجيح النفي على الأمر.

٦٨

مربوطا بالمقام ؛ لأنّ حرمة الصلاة فيها إنّما تكون لقاعدة الإمكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا ، فيحكم بجميع أحكامه

ومنها (١) : حرمة الصلاة عليها ؛ لا (٢) لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى.

هذا (٣) لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض ؛ وإلّا فهو خارج عن محل الكلام.

______________________________________________________

(١) أي : ومن أحكام الحيض حرمة الصلاة على الحائض.

(٢) أي : حرمة الصلاة إنّما هي لأجل قاعدة الإمكان واستصحاب حدث الحيض ؛ لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى ، فحرمة الصلاة في أيّام الاستظهار أجنبيّة عما نحن فيه. هذا تمام الكلام في خروج المورد الأوّل عن مورد البحث.

وأمّا المورد الثاني : فلما يأتي من عدم كون حرمة الوضوء من الماء النجس ذاتيا ، حتى يكون عدم جوازه من الماءين المشتبهين من ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ؛ بل حرمته منهما ليس إلا تشريعيا ، حيث إنّه باطل لانتفاء شرطه وهو طهارة الماء ، فقصد التعبد به يكون تشريعا ، ولا تشريع إذا توضأ منهما احتياطا وبرجاء أن يدرك التوضؤ بالماء الطاهر.

(٣) أي : الدوران بين الوجوب والحرمة في مثال الصلاة في أيام الاستظهار مبنيّ على : كون حرمة الصلاة ذاتيّة حتى يدور حكم فعلها بين الوجوب والحرمة.

وأمّا على فرض حرمتها التشريعية ـ كما تنسب إلى المشهور ـ فيخرج مثال الصلاة في أيام الاستظهار ـ عن محل الكلام ، ضرورة : أنّ مجرد فعلها لا يكون حراما ، بل المحرم حينئذ هو التشريع الذي لا يتحقق بمجرّد فعلها ، بل بقصد كونها عبادة واردة في الشرع ، ومن المعلوم : أنه حينئذ مخالفة قطعية ، لكونه تشريعا محرما ولا يحتمل الامتثال في هذه الصورة أصلا.

وأمّا الإتيان بالصلاة برجاء المطلوبية وإدراك الواقع ، فهو حسن لكونه احتياطا ، ولا مخالفة حينئذ ولو احتمالا.

فقد اتضح ممّا ذكرنا : إنّه بناء على الحرمة التشريعية لا يدور أمر الصلاة بين الوجوب والحرمة ؛ بل على تقدير قصد التشريع يكون فعلها حراما ، وعلى تقدير الإتيان بها برجاء المطلوبيّة : يكون فعلها احتياطا ، وعلى كلا التقديرين : لا يدور الأمر بين الوجوب والحرمة حتى يكون من محل الكلام.

«وإلّا فهو خارج عن محل الكلام» أي : وإن لم تكن حرمة الصلاة ذاتية بأن كانت تشريعية كان خارجا عن محل الكلام ؛ لعدم الدوران بين الوجوب والحرمة ، وعدم تقديم أحدهما على الآخر كما هو مورد البحث ؛ بل إتيانها إمّا مخالفة قطعية بلا موافقة ولو احتمالية ، وإمّا احتياط بلا مخالفة أصلا.

٦٩

ومن هنا (١) انقدح : أنّه ليس منه (٢) ترك الوضوء من الإناءين ، فإنّ حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلّا تشريعيا ، ولا تشريع (٣) فيما لو توضأ منهما احتياطا ، فلا حرمة في البين غلب جانبها ، فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك ؛ بل إراقتهما كما في النص ليس إلّا من باب التعبّد ، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم

______________________________________________________

(١) أي : مما ذكرنا ـ من أنه إذا كانت الحرمة تشريعية فهو خارج عن محل الكلام ـ اتضح حال المورد الثاني ـ وهو عدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين ـ وظهر خروجه من محل الكلام ، لأنّ الوضوء بالماء المتنجس ليس حراما ذاتيا كالغصب حتى يدور حكم الوضوء بين الوجوب والحرمة ؛ بل حرمته تشريعية.

(٢) أي : إنه ليس من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة «ترك الوضوء من الإناءين» ، وقد بيّن وجه الانقداح بقوله : «فإنّ حرمة الوضوء ...» إلخ.

(٣) أي : لأنّ الاحتياط ضدّ للتشريع ، ومع الاحتياط ليس هناك حرمة ذاتية حتى يقدّم جانبها على الوجوب ، «فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك» أي : ولو بقصد الاحتياط ؛ «بل إراقتهما كما في النص» أي : إراقة الإناءين والتيمّم للصلاة إنما هو للنّص وهو خبر عمار عن الصادق «عليه‌السلام» : «سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيرهما ، قال «عليه‌السلام» : «يهريقهما جميعا ويتيمّم» (١).

قوله : «ليس إلّا من باب التعبد» خبر لقوله : «فعدم جواز الوضوء».

وغرض المصنف من هذا : هو تطبيق عدم جواز الوضوء من الإناءين على القاعدة ، وعدم كونه تعبّدا محضا وبيان ذلك : أنّ الوضوء بهما يوجب نجاسة البدن واقعا وبقائها ظاهرا بحكم الاستصحاب ، وإنّما قال : «ظاهرا» ؛ لأن الماء الأول لو كان نجسا واقعا لم يكن في الواقع بدنه نجسا ، وإنما يكون نجسا ظاهرا بحكم الاستصحاب ؛ وذلك للقطع بحصول النجاسة حين ملاقاة المتوضئ من الإناء الثاني ؛ لأنّه يعلم حينئذ بنجاسة أعضائه إمّا بملاقاتها للماء الأول ، وإمّا بملاقاتها للماء الثاني ، وبعد ما يعتبر في التطهير من انفصال الغسالة والتعدد يشك في بقاء النجاسة ، ومقتضى الاستصحاب : بقاؤها ، ومن المعلوم : مانعيّة النجاسة المستصحبة للصلاة مثلا كالمعلومة ، فلعلّ الأمر بالتيمّم في النّص يكون لأجل الابتلاء بهذه النجاسة الخبثية ، فالأمر بالتيمّم يكون على طبق القاعدة ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٢٦» مع توضيح منّا.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ، ج ٢ و٤. ومثله موثق سماعة. نفس المصدر.

٧٠

الاستصحاب ؛ للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الإناء الثانية إمّا بملاقاتها أو بملاقاة الأولى ، وعدم (١) استعمال مطهر بعده ؛ ولو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى.

نعم (٢) ؛ لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرّد ملاقاتها بلا حاجة إلى التعدد أو انفصال الغسالة (٣) لا يعلم تفصيلا بنجاستها (٤) وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأولى أو الثانية إجمالا (٥) فلا مجال لاستصحابها (٦) ، بل كانت قاعدة الطهارة محكمة.

______________________________________________________

(١) الأولى أن يقول المصنف : وعدم العلم باستعمال مطهر لا نفي استعماله واقعا لاحتماله مع كون ماء الآنية نجسا واقعا. فمعنى العبارة حينئذ : مع عدم العلم باستعمال مطهر بعده حتى لو طهّر بالثانية مواضع الملاقاة بالآنية الأولى ؛ إذ لو كان ماء الآنية الثانية متنجسا فتنجس المواضع بها لا أنّها تطهر بها.

كلمة «لو» في قوله : «ولو طهر بالثانية» وصلية.

وقيل : أنّ الظاهر هو وزان الإناءين المشتبهين وزان الثوبين المشتبهين في إمكان الاحتياط ؛ لوضوح : إمكان العلم بالصلاة مع الوضوء الصحيح الواقعي ؛ بأن يصلي عقيب كل وضوء كالإتيان بها في كل من الثوبين المشتبهين ، فإنّه يحصل العلم حينئذ بوجود صلاة صحيحة واقعا كالعلم بحصولها في الثوبين المشتبهين.

(٢) استدراك على قوله : «أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا».

وحاصله : منع جريان استصحاب النجاسة فيما إذا كان الماء الثاني كرّا فإنّه ـ على تقدير طهارته ـ تطهر الأعضاء ، ولا يحصل العلم بنجاستها حين ملاقاتها له ؛ بل على تقدير نجاستها تطهر لمجرّد ملاقاتها له ؛ لعدم احتياج طهارتها بالماء الكرّ إلى التعدد وانفصال الغسالة ، فالعلم التفصيلي حينئذ بنجاسة الأعضاء حين ملاقاتها للماء الثاني مفقود ، فلا يجري استصحاب نجاستها.

(٣) كالماء الجاري ، وعدم الحاجة إلى التعدد كالكرّ.

(٤) أي : نجاسة مواضع الملاقاة ، وعدم العلم التفصيلي بنجاستها إنّما هو لأجل اعتصام الماء الثاني المانع عن انفعاله بمجرّد ملاقاة النجس ، فلو تنجست الأعضاء قبل ملاقاة الماء الثاني طهرت بملاقاتها له ، فلا يحصل العلم التفصيلي بنجاستها بملاقاة الماء الثاني ، كما كان ذلك حاصلا حين ملاقاتها له على تقدير كونه ماء قليلا.

(٥) قيد لقوله : «وإن علم» أي : وإن علم إجمالا بنجاسة الأعضاء إمّا بملاقاة الأولى أو الثانية على تقدير كون الماء النجس هو الماء البالغ كرّا.

(٦) أي : فلا مجال لاستصحاب نجاسة مواضع الملاقاة ، فيكون قوله : «فلا

٧١

الأمر الثالث (١):

الظاهر لحوق تعدد الإضافات ، بتعدد العنوانات والجهات ، في أنّه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا في جواز الاجتماع ، كان تعدد

______________________________________________________

مجال» متفرعا على عدم العلم التفصيلي بنجاسة مواضع الملاقاة ، وحاصله : ـ كما في «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ٢٢٩» ـ إنّه لا يعلم تفصيلا بنجاسة الأعضاء حين ملاقاتها للماء الثاني حتى تستصحب ؛ بل يعلم بورود الماء الطاهر والمتنجس على الأعضاء ، فيكون المقام من تعاقب الحالتين ، فلا يجري الاستصحاب لعدم إحراز شروطه التي منها اتصال زمان المشكوك بزمان المتيقن ؛ إذ لعلّ الماء المتنجس كان هو الماء الأوّل الموجب لتيقن تنجّس الأعضاء ، وحينئذ : فالماء الثاني قاطع لزمان الشكّ في التنجس عن زمان التيقن به ، ولا أقل من احتمال القطع ، فلا يعلم باجتماع شروطه فلا يجري الاستصحاب ، غاية الأمر : يشك في الزمان الثالث في الطهارة والنجاسة ، فيحكم بالطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب النجاسة. إلّا إن يقال : بعدم جريان قاعدة الطهارة في أطراف العلم الإجمالي بتحقق النجاسة ، فتختص قاعدة الطهارة بغير مورد العلم الإجمالي.

إلحاق تعدد الإضافات بتعدد الجهات والعنوانات

(١) وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان الفرق بين الإضافات والعنوانات والجهات ؛ كي يتضح إلحاق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات والجهات أو عدم إلحاقها بها.

وحاصل الفرق بينهما : أن المقصود من العنوانات هو متعلق الأمر والنهي ؛ كالصلاة والغصب مثلا في قول الشارع : «صلّ ولا تغصب» ، وأمّا المقصود من الإضافات : فهو إضافة متعلّقي الأمر والنهي إلى متعلّقيهما أي : موضوعات الأحكام ؛ كإضافة الإكرام إلى العلماء في «أكرم العلماء» ، وإضافة الإكرام إلى الفساق في «لا تكرم الفساق».

إذا عرفت هذا الفرق فاعلم : أنّه يكون المعنى لدى الحقيقة هكذا : هل يلحق تعدد متعلّقي المتعلّقين كالعلماء والفساق مثلا بتعدد المتعلّقين كالصلاة والغصب مثلا ، فكما أنّ الثاني يكون من باب الاجتماع ـ لكون النسبة بين متعلّقي الأمر والنهي عموما من وجه ـ فكذلك الأوّل يكون من باب الاجتماع لكون النسبة بين متعلّقي المتعلقين عموما من وجه أم لا يلحق؟

فيقول المصنف : «الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات».

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وغرض المصنف من عقد هذا الأمر هو : الإشارة إلى وجه معاملة المشهور مع مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» ، مما يكون متعلقي الأمر والنهي واحدا ذاتا ومتعددا بسبب الإضافة ـ كإكرام العالم وإكرام الفاسق ـ معاملة تعارض العامين من وجه ، وحيث إنهم يرجعون فيه إلى مرجحات باب التعارض ، مع إنّه ينبغي أن يعاملوا معه معاملة باب التزاحم ؛ لأنّه من باب اجتماع الحكمين بعنوانين مثل : «صلّ ولا تغصب» ، وأنّه إن كان لكليهما ملاك : فعلى الامتناع : يرجعون إلى مرجحات باب التزاحم ، وعلى الجواز : يرجح جانب الأمر أو النهي ؛ بل لا تعارض ولا تزاحم على الجواز ؛ لأنّ تعدد الإضافة كتعدد العنوان موجب لتعدد المتعلق.

نعم ؛ لو لم يكن لأحدهما ملاك لكان من باب التعارض فيرجع إلى مرجّحات التعارض.

وحاصل ما أفاده المصنف في وجه ما يتراءى من المشهور من معاملتهم ـ مع مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ـ معاملة تعارض العامين من وجه في مادة الاجتماع : أنّ معاملتهم معاملة تعارض العامين من وجه إمّا مبنيّة على الامتناع ، وإمّا على إحراز المقتضى لأحد الحكمين في المجمع.

قوله : «ضرورة : أنّه» تعليل للحوق تعدد الإضافات ـ كالإكرام المضاف إلى العالم والفاسق في المثال ـ بتعدد العنوانات المتغايرة ذاتا ؛ كالصلاة والغصب.

وحاصل التعليل : أنّ الإضافات تؤثر في المصلحة والمفسدة ؛ بداهة : إن الإكرام المضاف إلى العالم ليس كالإكرام المضاف إلى الفاسق ؛ لحسن الأول وكونه ذا مصلحة ، وقبح الثاني وكونه ذا مفسدة ؛ كتأثير العناوين كالصلاة والغصب في الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة.

قوله : فيكون مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» مثال لتعدد الإضافات ، يعني : فيكون متعلق الأمر والنهي واحدا ذاتا ومتعددا بسبب الإضافة ؛ كالإكرام المتحد ذاتا المتعدد بحسب إضافته تارة إلى العالم وأخرى إلى الفاسق ، فيكون هذا المثال من باب الاجتماع الذي هو من صغريات باب التزاحم «كصلّ ولا تغصب» ؛ لا من باب التعارض كما ذهب إليه المشهور ، حيث أجروا عليهما أحكام تعارض العامين من وجه ، «إلّا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض» يعني : لا يعامل مع مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» معاملة التعارض إلّا إذا لم يكن لأحد الحكمين

٧٣

الإضافات مجديا ، ضرورة : أنّه يوجب أيضا اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة ، والحسن والقبح عقلا ، وبحسب الوجوب والحرمة شرعا ، فيكون مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» من باب الاجتماع ك «صلّ ولا تغصب» لا من باب التعارض ؛ إلّا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتض ، كما هو الحال أيضا في تعدد العنوانين ، فما يتراءى (١) منهم من المعاملة مع مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» معاملة تعارض العموم من وجه إنّما يكون بناء على الامتناع ، أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

______________________________________________________

في مورد الاجتماع مقتض ، فحينئذ يخرجان عن باب اجتماع الأمر والنهي ، كما هو الحال في نفس تعدد العنوانين إذا لم يكن في أحدهما مقتض ، فإنّه يعامل معهما أيضا معاملة التعارض ، وقد أشار إليه بقوله :

«كما هو الحال أيضا في تعدد العنوانين» يعني : كما يجري التعارض في تعدد العنوانين إذا لم يكن في أحدهما ملاك الحكم في مورد الاجتماع حتى على القول بجواز الاجتماع.

(١) هذا شروع في توجيه كلام المشهور حيث أجروا أحكام تعارض العامين من وجه على مثال تعدد الإضافة في مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» ، وقد عرفت وجه كلام المشهور فلا حاجة إلى التكرار والإعادة.

فالمتحصل من كلام المصنف : هو لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات ، فكما أنّ تعدّد العنوان ـ بناء على الجواز ـ مما يجدي في تعدّد المتعلق ، فكذلك تعدد الإضافة بناء عليه مما يجدي في تعدده أيضا ، فيكون مثل : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من باب الاجتماع كصلّ ولا تغصب عينا ، فعلى الجواز لا تعارض ولا تزاحم في المجمع ، وعلى الامتناع : يكون المجمع من باب التزاحم.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ إنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي ليست من باب التعارض حتى يرجع فيها إلى المرجحات السندية أو الدلالية أو الجهتية ؛ بل هي من صغريات كبرى التزاحم ، فيرجع فيها إلى مرجحات باب التزاحم من تقديم ما هو الأهم على غيره ، فيقدم ما هو الغالب والأقوى ملاكا من غيره ، وإن لم يحرز الغالب منهما كان الخطابان متعارضين للعلم الإجمالي بكذب أحدهما في دلالته على فعلية مؤدّاه ، فيقدم ما هو الأقوى دلالة أو سندا ؛ نعم : هناك صور لا يخلو الواقع عنها :

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

١ ـ أن يكون كلا الدليلين لبيان الحكم الفعلي.

٢ ـ أن يكون كلاهما لبيان الحكم الاقتضائي.

٣ ـ أن يكون أحدهما متكفلا للحكم الفعلي ، والآخر للحكم الاقتضائي.

وعلى الأوّل : يتعين الأخذ بالأهم إن علم ما هو الأهم منهما.

وإلّا يرجع إلى المرجحات السندية أو الدلالية إن كان هناك مرجح ، وإلّا يحكم بالتخيير بينهما.

وعلى الثاني : يرجع إلى الأصول العملية.

وعلى الثالث : يؤخذ بالحكم الفعلي ، ويطرح الحكم الاقتضائي.

٢ ـ إنّ ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في مسألة الاجتماع لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا ـ كما زعمه الشيخ في التقريرات ـ حيث أورد على الحكم بصحة الصلاة في المغصوب مع الجهل العذري وسائر الأعذار في فرض ترجيح النهي على الأمر.

وملخص ما في التقريرات من الإشكال : من أن ترجيح النهي على الأمر يقتضي عدم صحة الصلاة في موارد العذر لخلو الصلاة بعد تقييدها بالنهي عن المصلحة فضلا عن الوجوب ؛ نظير تقييد الرقبة مثلا بالإيمان ، حيث لخلو عتق الرقبة الكافرة عن المصلحة ؛ وعدم إجزاء عتقها حتى حال الجهل والنسيان.

وتوضيح الإشكال : أنّ دلالة الأمر في خطاب «صل» بالإطلاق. وإن كان على مطلوبيّة محلّ الاجتماع إلا إنّ دلالة النهي بالعموم على المبغوضية شاملة لجميع الأفراد ، وبعد ملاحظة ترجيح النهي على الأمر لا بد من المصير إلى أن مورد الاجتماع خارج عن المطلوب بجميع أحواله وأطواره ، ولازم ذلك : فساد المجمع بواسطة ارتفاع المطلوبيّة والأمر ولو حال الجهل والنسيان والغفلة عن الحرمة ، وهذا ينافي ما تقدم من صحة الصلاة في المغصوب على القول بالامتناع ، وتقديم النهي أو التساوي من ذوي الأعذار كالمحبوس ظلما في الغصب ، والناسي للغصب ؛ أو الحرمة ، أو الغافل عنها ، والجاهل بها قصورا.

هذا تمام الكلام في توضيح الإشكال على صحة الصلاة في المغصوب. وموارد العذر الشرعي.

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل الجواب : يتضح بعد الفرق بين تخصيص أحد الدليلين في مسألة باب التزاحم ، وبين تخصيصه في باب التعارض.

وحاصل الفرق : أنّ مناط التعارض هو وجود ملاك أحد الحكمين ، ومناط التزاحم هو وجود ملاك كلا الحكمين.

إذا عرفت هذا الفرق فاعلم : أنّ لازمه أنّ تخصيص أحد الدليلين أو تقييده في باب التعارض يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الدليل الآخر رأسا ؛ كما في «أكرم العلماء ولا تكرم النحاة» ، فإنّ العالم النحوي ـ بعد تخصيص العلماء بالنحاة ـ يخرج عن حيّز «أكرم العلماء» ملاكا ووجوبا ؛ فلا مصلحة ولا وجوب له.

هذا بخلاف باب التزاحم كما في إنقاذ زيد وعمرو مع عجز المكلف عن إنقاذهما معا ، فإذا رجّح إنقاذ زيد لقوّة ملاكه يبقى إنقاذ عمرو على وجوبه الاقتضائي.

ثم مسألة اجتماع الأمر والنهي لمّا كانت من باب التزاحم ؛ فترجيح النهي على الأمر لا يوجب خروج المجمع عن الدليل الآخر رأسا ؛ بل يوجب خروج المجمع عن الحكم الآخر الفعلي فقط مع بقاء ملاكه ، فالصلاة في المغصوب خرجت عن حيّز الحكم الفعلي دون ملاكه ، وحينئذ يؤثر الملاك بعد ارتفاع فعلية النهي والحرمة بسبب عذر من الأعذار الشرعية ، ونتيجة ذلك : صحّة الصلاة في موارد العذر الشرعي ، إذ لا مانع من تأثير ملاك الأمر.

٣ ـ وجوه ترجيح النهي على الأمر :

أنّ النهي أقوى دلالة من الأمر ، لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد دون الأمر.

وقد أورد عليه بما حاصله : أنّ دلالة كل من الأمر والنهي على العموم البدلي والشمولي تكون بمقدمات الحكمة من جهة إطلاق متعلقهما الثابت بمقدمات الحكمة ، فهما متساويان ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

الإشكال على هذا الإيراد : بأن دلالة النهي على العموم الشمولي ليست بمقدمات الحكمة ، بل بذاته ونفسه ، غاية الأمر : يدل النهي على العموم الشمولي بالدلالة الالتزامية ؛ مدفوع : بأن دلالة النهي على العموم الشمولي منوطة بكل من العقل ومقدمات الحكمة ، بمعنى : أن أداة العموم لا تدل على استيعاب جميع أفراد الطبيعة المطلقة إلّا إذا أريد بها الإطلاق ، فلا بد في إثباته من التشبث بمقدمات الحكمة ، فلا فرق حينئذ بين الأمر والنهي ؛ حيث إن العموم البدلي في الأمر ، والعموم الشمولي في النهي

٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مستفادان من مقدمات الحكمة ، فالإشكال على ترجيح النهي على الأمر في محله ؛ إذ ليست دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر بعد كونهما بمقدمات الحكمة.

٤ ـ اللهم إلّا إن يقال : إنّنا لا نحتاج في إثبات إطلاق المتعلق إلى مقدمات الحكمة ؛ بل نفس النهي والنفي يكفي في إثبات إطلاق المتعلق ، وحينئذ : يكون النهي أقوى دلالة من الأمر.

توضيح ذلك : أنّ النهي في دلالته على العموم الشمولي مثل : لفظة «كل» في «كل رجل» ؛ حيث تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله بمقدمات الحكمة ، فيكون النهي أقوى دلالة من الأمر فيقدم عليه.

«فتدبر» لعلّه إشارة إلى عدم تسليم ما ذكره بقوله : «اللهم إلّا أن يقال ...» الخ ، أو إشارة إلى الإشكال في إلحاق النهي والنفي بلفظ «كل» ، بأن يقال : إن قياس النهي والنفي بلفظ «كل» قياس مع الفارق فيكون باطلا.

٥ ـ الوجه الثاني من وجوه ترجيح النهي على الأمر هو : أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، وعليه : فترك الصلاة في المغصوب دفعا لمفسدة الغصب أولى من جلب المصلحة بفعلها ، ولازمه بطلان الصلاة ؛ لأنّ النهي في العبادات يقتضي فسادها.

أما اعتراض المحقق القمّي على هذا الترجيح ـ بعدم كلّية هذا الترجيح إذا كان الواجب معيّنا لا بدل له : فلا بد من ملاحظة الأهم من المفسدتين ؛ مفسدة ترك الواجب ومفسدة فعل الحرام ـ فمدفوع بما حاصله : من أنّ مقتضى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ليس إلّا ترتب المفسدة على فعل الحرام ، والمصلحة على فعل الواجب ، وعليه : فلا يدور الأمر في الواجب والحرام بين المفسدتين ؛ بل يدور الأمر بين المفسدة والمصلحة ، فيصح الترجيح بأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

٦ ـ إيراد المصنف على هذا الوجه الثاني من الترجيح بوجوه :

١ ـ ما أشار إليه بقوله : «ولكن يرد عليه : أن الأولوية مطلقا ممنوعة» ، وخلاصة هذا الإشكال : أن الأولويّة في جميع موارد دوران الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة ممنوعة ؛ إذ ربّ واجب تكون مصلحته في غاية القوّة ، وحرام تكون مفسدته في غاية الضعف ، فلا شبهة حينئذ في تقديم الواجب على الحرام عند دوران الأمر بينهما.

٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

٢ ـ ما أشار إليه بقوله : «فلو سلم فهو أجنبيّ عن المقام» يعني : لو سلّمنا كليّة قاعدة أولويّة دفع المفسدة على جلب المنفعة نمنع صغروية المقام لها ؛ لأنّ موردها هو التخيير بعد عدم الأخذ بالترجيح ؛ مثل : ما لو دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته كتردد صلاة الجمعة بين الوجوب والحرمة ، حيث إنّ الحكم فيها بعد عدم ترجيح أحد الحكمين على الآخر هو التخيير ، فيقع التزاحم في مقام الامتثال بين المفسدة والمصلحة ، فيقال : إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، هذا بخلاف المقام حيث قام الدليلان على الوجوب والحرمة ، وحكم العقل بالامتناع ولم يعلم ترجيح أحدهما على الآخر من الخارج ، فلا تجري قاعدة الأولوية.

هذا مضافا إلى عدم الدليل على اعتبار هذه القاعدة.

٣ ـ ما أشار إليه بقوله : «ولو سلم فإنّما يجدي فيما لو حصل القطع».

وحاصل هذا الوجه الثالث من الإشكال : أنّ هذه القاعدة ـ بعد تسليمها ـ إنّما تجدي فيما إذا حصل القطع بالأولوية ، ولا يجدي الظّن بها لعدم الدليل على اعتبار الظنّ والأصل عدم اعتباره.

٤ ـ ما أشار إليه بقوله : «ولو سلم أنّه يجدي ولو لم يحصل ...» إلخ يعني : أنّه لو سلّم أنّ الظن بالأولويّة يجدي في مقام الترجيح فذلك يختصّ بما إذا لم تجر فيه أصالة البراءة أو الاشتغال ؛ كدوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين ، هذا بخلاف المقام لإمكان جريان البراءة في مورد الاجتماع أي : تجري أصل البراءة في حرمة المجمع ، لعدم العلم بخصوص الحرمة ، فيحكم بصحته ببركة الأصل حتى على القول بالاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط ، فلا تكون الحرمة مانعة عن صحة الصلاة بعد ارتفاع فعليتها ؛ إذ مع ارتفاع فعلية الحرمة بالأصل تصح الصلاة واقعا.

هذا بخلاف مشكوك الجزئية أو الشرطية حيث لا تصح الصلاة واقعا مع ثبوت الجزء أو الشرط واقعا ، ولذا قيل بالاشتغال للشك في براءة الذّمة بالفاقد.

٧ ـ «نعم ؛ لو قيل بأنّ المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية» : هذا استدراك على قوله : «لا فيما تجري كما في محل الاجتماع ...» إلخ.

وخلاصة الاستدراك : أنّ المصنف قد أثبت صحة المجمع بسبب البراءة عن حرمته الفعلية ، ثم استدرك عليه وقال : نعم ؛ لو قلنا بأن مفسدة الغصب واقعية لا علمية ، وغالبة في الواقع على مصلحة الصلاة في الغصب فهي مؤثرة في فعلية

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المبغوضية المانعة عن إمكان التقرّب بالمجمع ، فلا تجري البراءة مع العلم بالمفسدة ؛ لاحتمال غلبتها على المصلحة الواقعية ، فتكون مؤثرة في المبغوضية ، وعليه : فأصالة الاشتغال محكمة للشك في براءة الذّمة عند الإتيان بالمجمع ؛ إذ لا يحصل قصد القربة مع الشك في المبغوضية.

٨ ـ ٣ ـ الوجه الثالث من وجوه ترجيح النهي على الأمر : هو الاستقراء ، وقد اكتفى المصنف بذكر موردين من موارد تقديم الشارع جانب الحرمة على الوجوب :

١ ـ قد حكم بحرمة الصلاة أيّام الاستظهار مع تردّدها بين الحرمة ، لاحتمال الحيضية وبين الوجوب ؛ لاحتمال الاستحاضة.

٢ ـ قد حكم الشارع بعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين ، مع تردّده بين الحرمة والوجوب.

وقد أورد المصنف على الاستقراء بوجوه :

١ ـ لا دليل على حجيّة الاستقراء تعبّدا ما لم يفد القطع.

٢ ـ أنّ الاستقراء لا يثبت بالموردين المذكورين ؛ على فرض اعتبار الظّن من الاستقراء.

٣ ـ بعد تسليم حصول الاستقراء وحجيّة الظن الحاصل منه لا يكون الموردان المذكوران من موارد ترجيح الحرمة على الوجوب ؛ لأنّ حرمة الصلاة في أيّام الاستظهار ليست لأجل تقديم الحرمة على الوجوب ؛ بل لقاعدة الإمكان والاستصحاب.

مضافا إلى أنّ محل الكلام هي الحرمة الذاتية والحرمة في الموردين تشريعية ، فيخرج كلا الموردين عن محل الكلام.

٩ ـ إلحاق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات :

والفرق بينهما : أنّ المقصود من العنوانات هو : متعلق الأمر والنهي ؛ كالصلاة والغصب.

والمقصود من الإضافات : هو إضافة متعلقي الأمر والنهي إلى متعلقيهما ، أي : موضوعات الأحكام ؛ كإضافة الإكرام إلى العلماء في : «أكرم العلماء» ، وإضافته إلى الفساق في : «لا تكرم الفساق».

إذا عرفت الفرق بينهما فيقال هكذا : هل يلحق تعدد متعلقي المتعلقين كالعلماء والفساق بتعدد المتعلقين ؛ كالصلاة والغصب ، فكما أنّ الثاني من باب الاجتماع لكون النسبة بين متعلقي الأمر والنهي عموما من وجه فكذلك الأول أم لا يلحق؟

٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فيقول المصنف «قدس‌سره» : الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات ، فكما أن الثاني من باب الاجتماع ، فكذلك الأول ، فكما أن تعدد العنوان بناء على القول بالجواز مما يجدي في تعدّد المتعلق فكذلك تعدد الإضافة ـ بناء عليه ـ مما يجدي أيضا في تعدّده.

١٠ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ أن مسألة اجتماع الأمر والنهي من صغريات كبرى التزاحم.

٢ ـ يستشم من كلام المصنف : تقديم جانب النهي على الأمر.

٣ ـ لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات.

٨٠