دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

بسوء الاختيار أو معه ، ولكنها وقعت في حال الخروج على القول بكونه مأمورا به

______________________________________________________

فيما إذا توسطها المكلف بسوء الاختيار ، فيقع الكلام في حكم الخروج عن الدار المغصوبة بعد دخولها بالاختيار.

وفيه على القول بالامتناع أقوال :

١ ـ أنّه مأمور به فقط من دون جريان حكم المعصية عليه.

٢ ـ أنّه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه.

٣ ـ أنّه مأمور به لكنّه معصية بالنظر إلى النهي السابق.

٤ ـ أنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار وليس مأمورا به وهو مختار المصنف «قدس‌سره».

٢ ـ بيان ما هو الوجه لمختار المصنف :

أما وجه كون الخروج منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار ـ ولازمه ثبوت العقاب ـ فلأنّ مخالفة الحرام مع القدرة على تركه توجب عقلا استحقاق العقوبة ، لأنّ المكلف من الأوّل كان قادرا على ترك الغصب دخولا وبقاء وخروجا بواسطة ترك الدخول فعصى في الكل ، وليس الاضطرار بسوء الاختيار عذرا في ارتكاب المضطر إليه الحرام.

وأمّا عدم كون الخروج مأمورا به : فلأنّ الاضطرار طرأ بسوء الاختيار ، فلا يتصف الخروج بالوجوب مقدمة للتخلّص الواجب ، فلا يجدي في وجوب الخروج انحصار التخلّص عن الحرام به.

وتوهّم : أن الخروج مقدمة للواجب ، ومقدمة الواجب واجبة ، فالخروج واجب فكيف لا يجدي انحصار التخلّص عن الحرام بالخروج في اتصافه بالوجوب الغيري؟ مدفوع ؛ بأنّ الخروج وإن كان مقدمة للواجب ومقدمة الواجب واجبة إلّا إنّ مقدمة الواجب واجبة لو لم تكن محرمة.

وتوهم وجوب المقدمة المحرمة ـ بتقريب : أنّ وجوب المقدمة لا يختص بالمقدمة المباحة في صورة انحصار المقدمة في المحرمة : ففي صورة الانحصار تكون المقدمة المحرمة واجبة ، والمفروض : هو انحصار المقدمة في المحرمة ، فتكون واجبة ـ مدفوع : بأن ترشح الوجوب الغيري إلى المقدمة المحرمة في صورة الانحصار إنّما هو مشروط بشروط :

١ ـ انحصار المقدمة في المحرمة.

٢ ـ كون الواجب أهمّ.

٤١

بدون إجراء حكم المعصية عليه ، أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت ،

______________________________________________________

٣ ـ عدم كون الانحصار بسوء الاختيار ، والخروج في محل الكلام فاقد للشرط الثالث.

٣ ـ «إن قلت : إن التصرف في أرض الغير ...» إلخ. هذا من المصنف إشارة إلى ما في تقريرات الشيخ الأعظم ؛ من كون الخروج عن الغصب واجبا ومأمورا به فقط ، وإن كان الدخول بسوء الاختيار كما هو مفروض البحث.

وحاصل استدلال الشيخ على كون الخروج واجبا ومأمورا به من دون جريان حكم المعصية عليه :

إنّ التصرف بدون الإذن على ثلاثة أنحاء :

١ ـ الدخولي. ٢ ـ البقائي ، ٣ ـ الخروجي. فيقال : إنّ المحرم من هذه الأقسام هو الأوّل والثاني ، وأمّا الثالث : فلا يكون محرما لوجهين :

الأول : أنّ الغصب ليس كالظلم علّة تامّة للقبح بل مقتضى له ، فلا يقبح إذا ترتّب عليه عنوان حسن كترتّب التخلّص عن الحرام على الخروج.

الثاني : أن التصرف الخروجي لكونه مقدمة للواجب لا يتصف بالحرمة ، نظير شرب الخمر فإنّه حلال مع توقف النجاة عن الهلاك عليه ، فيكون الخروج مأمورا به من دون جريان حكم المعصية عليه.

«ومنه : ظهر المنع ...» إلخ أي : ومن منع حرمة التّصرف الخروجي ظهر المنع عن حرمة جميع التصرفات ، فلا بد أولا من تقريب حرمة جميع التصرفات حتى يتضح المنع عن حرمة جميع التصرّفات.

أما حرمة جميع التصرّفات أعني : التصرف الدخولي والبقائي والخروجي : فلأنّ المكلف يتمكّن من ترك الجميع حتى الخروج فيكون جميع التصرفات محكوما بالحرمة.

أمّا وجه ظهور منع حرمة الجميع : فلأنّ التكليف مشروط بالقدرة ، والمقدور هو التصرف الدخولي. وأما التصرف الخروجي فغير مقدور قبل الدخول ؛ إذ لا يصدق عرفا تارك الخروج على من لم يدخل بعد إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، وعليه : فلا يكون ترك الخروج حقيقة مقدورا كي يكون موضوعا للحكم بالحرمة.

والمتحصّل : أن التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء وإن كان حراما بلا إشكال ، إلّا إن التصرف بالخروج ليس بحرام بحال من الحالات ، لكونه مقدمة للواجب ، ومقدمة الواجب واجبة.

ومن هنا ظهر المنع عن حرمة جميع التصرفات حتى الخروج لما عرفت : من منع حرمة

٤٢

أمّا مع السعة : فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن

______________________________________________________

الخروج ؛ بل هو واجب من باب المقدمة ، نظير شرب الخمر للنجاة عن الهلاك ، ولعدم كونه مقدورا حتى يكون موضوعا للحكم بالحرمة.

وتوهم : كون الخروج قبل الدخول مقدورا بواسطة القدرة على ترك الدخول والمقدور بالواسطة مقدور ، فيكون الخروج محكوما بالحرمة لكونه مقدورا بالواسطة مدفوع : بأنّ المقدور الذي يصحّ تعلق التكليف به ما تكون القدرة على وجوده وعدمه على حدّ سواء ، ومن المعلوم : أن الخروج قبل الدخول غير مقدور ؛ إذ لا يتمكّن المكلف منه قبل الدخول ، فكذا ترك الخروج ، فلا يكون موضوعا للحرمة لكونه غير مقدور.

والمتحصّل : أن الخروج قبل الدخول غير مقدور ، فلا يكون موضوعا للحرمة.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلّص ـ كالخروج ـ مأمورا به كما في تقريرات الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

٤ ـ جواب المصنف عن استدلال الشيخ :

وقد أجاب المصنف بجوابين أحدهما : حلّي وهو ما أشار إليه بقوله : «إذا لم يتمكّن المكلف من التخلّص ..» إلخ ، والآخر : نقضيّ أشار إليه بقوله : «كما هو الحال في البقاء».

وأمّا ملخص الجواب الحلّي فهو : أن ترشح الوجوب الغيري على المقدمة المحرمة وانقلاب المحرم إلى الواجب مشروط بشرطين :

الأول : انحصار المقدمة في خصوص المحرمة.

الثاني : أن يكون الاضطرار إليها لا بسوء الاختيار ، والخروج فاقد للشرط الثاني. فلا يترشّح الوجوب الغيري إليه ولا ينقلب إلى الواجب وهو حرام.

أمّا الجواب النقضي : فهو نقض الخروج بالبقاء ؛ إذ كلّ منهما يتوقف على الدخول ، والحال أن الشيخ اعترف بحرمة البقاء بقوله : «إن قلت : إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال».

وحاصل النقض : أنّه لا فرق بين البقاء والخروج في الفرعية على الدخول وكونهما مقدورين بالواسطة ، فكل منهما محكوم بحكم واحد ، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، فكل ما أجاب به الشيخ عن إشكال البقاء نجعله جوابا عن إشكال الخروج. فإنّ النقض في الحقيقة تكثير للإشكال.

ومن هنا ظهر حال شرب الخمر حيث يقال : إنّ مطلوبية شرب الخمر تخلّصا عن المهلكة منوطة بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار ، ومعه لا يتصف بالمطلوبيّة.

٥ ـ قوله : «لو سلّم عدم الصدق إلّا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع» : جواب

٤٣

الضدّ واقتضائه ، فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت مصلحتها غالبة على ما

______________________________________________________

آخر عما في كلام الشيخ من عدم صدق تارك الخروج على من لم يدخل بعد إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وملخّص الجواب : أنّه لا ضير في ذلك بعد فرض تمكّن المكلف من ترك الخروج بسبب ترك الدخول وفعله بواسطة الدخول ، فهو قادر على الفعل والترك بالواسطة ، وهذا كاف في التكليف ؛ لأن العقل يجوّز التكليف بمطلق المقدور من دون فرق بين كون القضية سالبة بانتفاء الموضوع أو المحمول ، فلا يكون الخروج غير مقدور حتى لا يتعلّق به الحكم بالحرمة.

قوله : «إن قلت كيف يقع مثل الخروج ...» إلخ إشكال من الشيخ على المصنف القائل بحرمة الخروج والشرب ، فيكون دليلا على وجوب الخروج وكونه مأمورا به فقط.

وملخص الإشكال : أنّ الالتزام بالحرمة يوجب ارتفاع الوجوب عن ذي المقدمة وهو التخلّص عن الحرام وحفظ النفس ؛ لأنّ المقدمة ـ وهي الخروج والشرب على فرض الحرمة ـ ممنوعة شرعا ، والممنوع شرعا كالممتنع عقلا ، فالتكليف بذي المقدمة مع امتناع مقدمته الوجودية تكليف بغير مقدور ؛ إذ لا يمكن الجمع بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها. فلا بد إمّا من سقوط الوجوب عن ذي المقدمة ، وإمّا من سقوط حرمة المقدمة ، والالتزام بسقوط الوجوب ممّا لم يلتزم به أحد ، فلا محيص عن الالتزام بسقوط الحرمة عن المقدمة وهو المطلوب ، وعليه : فالخروج والشرب واجبان وإن كانا بسوء الاختيار.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجهين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : «قلت : أوّلا :» ، وحاصله : أنّ حرمة المقدمة إنّما ترفع وجوب ذيها فيما إذا لم يحكم العقل بلزوم فعل المقدمة ، وأما مع حكمه بلزومها : فلا بأس ببقاء وجوب ذيها بحاله إذ لا يكون التكليف به حينئذ من التكليف بالممتنع عقلا.

فلا منافاة بين وجوب ذي المقدمة وبين كون المقدمة ـ كالخروج ـ ممنوعة شرعا بالنهي الساقط مع حكم العقل بلزومها من باب الأخذ بأقلّ القبيحين.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «وثانيا : لو سلم ...» إلخ ، وحاصله : أنّه لو سلّمنا سقوط وجوب ذي المقدمة لكونه منافيا لحرمة مقدمته ـ حتى في صورة حكم العقل بلزوم المقدمة ـ كان الساقط هو فعلية البعث والإيجاب بحفظ النفس عن الهلاك والتخلّص عن الغضب ، وأمّا حكم العقل لتنجّز التكليف بهما قبل الاضطرار فهو باق ، ومعه لا حاجة إلى الخطاب الشرعي الفعلي ، وعليه : فحرمة المقدمة مانعة عن فعلية وجوب ذي المقدمة دون ملاكه لتماميّته وعدم قصور فيه. ولذا يحكم العقل بلزوم استيفائه. وعليه :

٤٤

فيها من المفسدة ، إلّا إنّه لا شبهة في أنّ الصلاة في غيرها تضادّها ، بناء على أنّه لا

______________________________________________________

فيجب التخلّص عن الغصب ، وحفظ النفس عن الهلاك بالخروج والشرب بحكم العقل وإن لم يكن هناك وجوب فعلي شرعا بالتخلّص عن الغصب وحفظ النفس.

٦ ـ «وقد ظهر مما حققناه : فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه». هذا من المصنف ردّ على صاحب الفصول القائل بكون الخروج مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه.

أمّا كونه مأمورا به : فلكونه مقدمة لواجب.

وأمّا إجراء حكم المعصية عليه : فللنهي السابق قبل الاضطرار.

أمّا وجه فساد هذا القول : فلما تقدم من أنّ الخروج باق على حرمته لكون الاضطرار بسوء الاختيار ، فليس مأمورا به إنّما العقل ملزم للإتيان به من باب الأخذ بأقل المحذورين ، هذا مع ما في قول الفصول من لزوم اجتماع الضدّين وهما ـ الوجوب والحرمة ـ في فعل واحد بعنوان واحد ، فيلزم أن يكون الخروج مع وحدة عنوانه حراما وواجبا.

وما تشبث به صاحب الفصول في دفع التضاد باختلاف زمان الحرمة والوجوب ـ بكون الحرمة سابقا والوجوب لاحقا ـ لا يجدي في دفع اجتماع الضدّين مع اتحاد زمان الفعل ؛ إذ التضاد يلزم مع وحدة زمان الفعل وهي متحققة.

٧ ـ وأمّا ما نسب إلى المحقق القمي من كون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه فمردود بوجوه : الأول : ما عرفت في بيان مختار المصنف من امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين ، فضلا عمّا إذا كان بعنوان واحد.

الثاني : أنّه لو سلّمنا جواز الاجتماع لكان ذلك في مورد تعدد العنوان لا في مورد وحدته كما في المقام ؛ حيث إن متعلق الأمر والنهي هو الخروج الشخصي بعنوانه الأوّلي أعني : التصرف في مال الغير بدون إذنه ، فالنتيجة : أن الخروج لوحدة عنوانه أجنبي من مسألة اجتماع الأمر والنهي.

الثالث : أنه لا يمكن الالتزام بالاجتماع في المقام ، لأن جوازه مشروط بوجود المندوحة كالصلاة في المكان المغصوب مع إمكان فعلها في مكان مباح. وهذا الشرط مفقود في المقام لانحصار طريق التخلّص عن الحرام بالخروج.

قوله : «وما قيل : إن الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار» دفع لتوهم بتقريب : إنّ الوجوب والامتناع إن كانا بسوء الاختيار لا يمنعان عن التكليف لما قيل من إنّ الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فصح تعلق التكليف به لكونه بالاختيار.

وحاصل الدفع : أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار أجنبيّة عن المقام وهو

٤٥

يبقى مجال مع إحداهما للأخرى ، مع كونها أهمّ منها ؛ لخلوّها من المنقصة الناشئة من

______________________________________________________

تعلق التكليف الذي صار واجبا أو ممتنعا بسوء الاختيار ؛ بل موردها اختيارية الأفعال الصادرة عن العباد في مقابل الأشاعرة القائلين بالجبر استنادا إلى أن الفعل مع الإرادة واجب ، ومع عدمها ممتنع ، ولازم ذلك : هو الجبر وانتفاء الاختيار.

وقد أجاب العدلية عن ذلك : بأنّ الفعل بعد وجود علته التامّة ومنها الإرادة وإن كان واجبا ، ومع انتفائها كان ممتنعا إلّا إن الإيجاب بالاختيار والامتناع كذلك لا ينافي الاختيار ، فالفعل مع جميع مباديه ومنها الإرادة وإن كان واجبا إلّا إنّه ليس غير اختياري حتى يلزم الجبر ، وكذلك مع انتفاء الإرادة ، وإن كان ممتنعا إلّا إنّه ليس بجبر ، لأنّ وجود الفعل في الأول وعدمه في الثاني مستند إلى الاختيار. فهذه القاعدة أجنبيّة عن المقام.

٨ ـ «فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول» يعني : فظهر بما ذكرنا ـ ردّا لما يقول به المحقق القميّ من كون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه من عدم صحّة تعلق الطلب الحقيقي بالواجب ، والممتنع وإن كان كل منهما بالاختيار ـ فساد استدلال المحقق القمي على وجوب الخروج وحرمته بأنّ الأمر بالتخلّص عن الغصب والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما بلا تقييد أصلا ، ولازمه هو : الحكم بوجوب الخروج وحرمته معا عملا بإطلاق كلا الدليلين.

أمّا وجه فساد الاستدلال : فلما عرفت سابقا من استحالة اجتماع الضدّين سواء تعدد عنوان المجمع أم اتحد ، فلا بدّ من تقييد أحد الدليلين بما هو الأهمّ منهما ، فالقول بكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه لا يرجع إلى محصل صحيح.

٩ ـ ثمرة الأقوال : وهي صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بالجواز مطلقا.

وأمّا على القول بالامتناع : فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار ، أو مع سوء الاختيار إذا وقعت الصلاة في حال الخروج.

أما وجه الصحة في الفرض الأول : هو عدم النهي لسقوطه بالاضطرار.

وأمّا وجه الصحة في الفرض الثاني : فلكون الخروج واجبا إمّا لكونه مصداقا للتخلّص الواجب أو مقدمة له.

وكذا تصح الصلاة مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت.

وأمّا مع سعته فصحة الصلاة مبنية على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ.

١٠ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» في مسألة اجتماع الأمر والنهي :

هو الامتناع. وأمّا في الخروج فلكونه منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار ، ولا يكون مأمورا به.

٤٦

قبل اتّحادها مع الغصب ؛ لكنّه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه ، فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة ، وإن لم تكن مأمورا بها.

الأمر الثاني :

قد مرّ (١) في بعض المقدمات : أنّه لا تعارض بين مثل خطاب «صل» وخطاب «لا تغصب» على الامتناع تعارض (٢) الدليلين بما هما دليلان حاكيان (٣) ، كي يقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا ؛ بل إنّما هو من باب تزاحم المؤثرين والمقتضيين ، فيقدم الغالب منهما (٤) ، وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه.

______________________________________________________

الكلام في صغروية مسألة الاجتماع لكبرى التزاحم أو التعارض

(١) يعني : قد مرّ في المقدمة الثامنة والتاسعة ما مفاده : من أنّ مسألة الاجتماع من صغريات كبرى التزاحم.

وكيف كان ؛ فالغرض من عقد هذا الأمر الثاني : إنه ليس مسألة الاجتماع من باب التعارض حتى يرجع فيها إلى المرجحات السندية او الدلالية أو الجهتية ؛ بل من باب التزاحم الذي يكون مرجحه أهمية أحد الملاكين على الآخر ، فيقدم ما هو الأهم ملاكا على الأضعف ملاكا. فلا تعارض بين خطاب «صل» وخطاب «لا تغصب» مطلقا ، يعني : لا على القول بالجواز ، ولا على القول بالامتناع.

أما على القول بالجواز : فعدم التعارض لتعدد الجهة الموجب لتعدد المتعلق ، وأما على القول بالامتناع : فيكون مثل : «صلّ ولا تغصب» من باب التزاحم ، فيقدم ما هو الأهم منهما على الآخر لوجود المقتضى لتشريع الحكم في كل منهما.

(٢) مفعول مطلق نوعي لقوله : «لا تعارض ...» إلخ.

(٣) قوله : «بما هما دليلان حاكيان» إشارة إلى : أنّ التعارض على مذهب المصنف يكون في ناحية الكشف والحكاية ؛ لا في ناحية المدلول.

(٤) أي : الغالب من المؤثرين ، فالتزاحم عند المصنف عبارة عن تزاحم الملاكين الداعيين إلى تشريع الحكمين ، وليس عبارة عن تزاحم الحكمين الفعليين في مقام الامتثال.

وحاصل الكلام في المقام : أن الغالب من المؤثرين يقدم على الآخر ، وإن كان الآخر بحسب الدليل أقوى منه ، فيكون قوله : «وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه» إشارة إلى لزوم إعمال مرجح باب التزاحم ـ وهو تقديم ما هو الأهم ملاكا ـ وعدم إعمال مرجحات باب التعارض ـ وهو تقديم ما هو أقوى دلالة أو سندا أو جهة ـ.

٤٧

هذا (١) فيما إذا أحرز الغالب منهما ، وإلّا (٢) كان بين الخطابين تعارض ، فيقدّم الأقوى منهما دلالة أو سندا ، وبطريق الإنّ يحرز به : أنّ مدلوله أقوى مقتضيا.

______________________________________________________

(١) أي : تقديم الغالب من الملاكين على الآخر إنّما يكون فيما إذا أحرز الغالب منهما.

(٢) أي : وإن لم يحرز الغالب منهما كان الخطابان متعارضين ؛ للعلم الإجمالي بكذب أحدهما في دلالته على فعلية مؤداه ، فيقدم ما هو الأقوى منهما دلالة أو سندا.

هذا مجمل الكلام في المقام ، وأمّا تفصيل ذلك : فإنّ الواقع لا يخلو عن ثلاثة أوجه ، وبعبارة أخرى : إن صور عدم إحراز أقوى المقتضيين ثلاثة :

الأوّل : أن يكون كلاهما لبيان الحكم الفعلي ، وقد أشار إليه بقوله : «فيقدم الأقوى منهما».

الثاني : أن يكون كلاهما لبيان الحكم الاقتضائي.

الثالث : أن يكون أحدهما متكفّلا للحكم الفعلي ، والآخر للحكم الاقتضائي.

وعلى الأوّل : يتعيّن الأخذ بالأهمّ إذا كان معلوما ، وإلّا يرجع إلى المرجحات السندية أو الدلالية إن كان المرجح موجودا ، وإلّا يحكم بالتخيير بينهما كما في باب تعارض الدليلين.

وعلى الثاني : يرجع إلى الأصول العملية كما أشار إليه بقوله : «وإلّا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية».

وعلى الثالث : يؤخذ بالحكم الفعلي ، ويطرح الحكم الاقتضائي كما أشار إليه بقوله : «وإلّا فلا بدّ من الأخذ بالمتكفل لذلك منهما».

قوله : «وبطريق الإنّ» إشارة إلى أنّ المراد بالطريق الإنّي هنا ليس ما هو المصطلح من العلم بالعلة من طريق العلم بالمعلول ؛ إذ ليست قوّة الدلالة معلولة لقوّة المدلول ، وهما معلولتان لعلة ثالثة حتى يندرج في الطريق الإنّي المصطلح ؛ لعدم اللزوم بينهما ، إذ قد يكون الأقوى دلالة أضعف مدلولا من الدليل الذي يكون أضعف دلالة ، وأقوى مدلولا ؛ بل المراد بالطريق الإنّي هنا : أنّ الأقوى لما دل مطابقة على فعلية مؤداه ، فقد دل التزاما على أقوائية ملاكه. كما أنّ الدليل الأضعف كذلك ، فإذا دلّ دليل الترجيح على حجيّة أقوى الدليلين المتعارضين ؛ وعدم حجية الآخر فقد دلّ على ثبوت مدلولي الدليل الأقوى المطابقي والالتزامي معا ، ونتيجة ذلك : ثبوت أقوائية ملاكه ظاهرا ، مثلا : إذا دل دليل بالدلالة المطابقية على وجوب الصلاة ، وبالالتزام على أقوائية ملاكه ـ وقدم هذا الدليل لأقوائية دلالته على دليل حرمة الغصب ـ فببركة أدلة ترجيح الدلالة تصير دلالة دليل

٤٨

هذا (١) لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي ، وإلّا (٢) فلا بد من الأخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان ، وإلّا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية.

ثم لا يخفى (٣) : أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة ، لا

______________________________________________________

وجوب الصلاة على ملاكه أقوى من دلالة دليل حرمة الغصب على ملاكه ؛ الذي هو لازم مدلوله المطابقي ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٩٦» مع تصرّف ما.

(١) أي : أنّ التعارض بين الدليلين الموجب للأخذ بالأرجح منهما سندا أو دلالة يكون في الصورة الاولى ، وهي كون كلا الدليلين لبيان الحكم الفعلي.

(٢) أي : وإن لم يكن كلّ منهما متكفلا للحكم الفعلي ، فإن كان أحدهما فعليا والآخر اقتضائيا ، فلا بد من الأخذ بما هو متكفل للحكم الفعلي ؛ إذ لا منافاة بين الحكم الفعلي والاقتضائي ، وإن كان كل منهما اقتضائيا ؛ فالمرجع حينئذ الأصول العملية كما عرفت.

وقد أشار إليه بقوله : «وإلّا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية» يعني : وإن لم يكن أحدهما متكفلا للحكم الفعلي بأن كان مدلول كل منهما حكما اقتضائيا ، فلا محيص عن الرجوع إلى الأصول العملية كما عرفت.

(٣) هذا هو المقصود الأصلي من عقد هذا الأمر الثاني ، والغرض منه : دفع الإشكال الّذي أورده الشيخ في التقريرات على الحكم بصحة الصلاة في المغصوب مع الجهل العذري وسائر الأعذار ، وترجيح النهي على الأمر.

فلا بد أوّلا : من تقريب الإشكال ، وثانيا : من توضيح دفع ذلك.

وأما تقريب الإشكال : فإنّ ترجيح النهي على الأمر يقتضي عدم صحة الصلاة في موارد العذر لخلو الصلاة بعد تقييدها بالنهي عن المصلحة ـ فضلا عن الوجوب ـ كما هو شأن التقييد في سائر الموارد ، فإنّ تقييد الرقبة مثلا بالإيمان يقتضي خلو عتق الكافرة عن المصلحة ، وعدم إجزاء عتقها حتى حال الجهل والنسيان لخلوها عن الملاك والوجوب الناشئ منه.

فيقال : في المقام إن دلالة الأمر ـ في خطاب «صلّ» ـ بالإطلاق وإن كان على مطلوبيّة محل الاجتماع ، إلّا إنّ دلالة النهي بالعموم على مبغوضيته شاملة لجميع الأفراد وبعد ملاحظة الترجيح في جانب النهي ـ كما هو المفروض ـ لا بدّ من المصير إلى أنّ مورد الاجتماع خارج عن المطلوب بجميع أحواله وأطواره ، ولازم ذلك : فساد المجمع بواسطة ارتفاع المطلوبية والأمر ولو حال الجهل والنسيان والغفلة عن الحرمة. وهذا ينافي

٤٩

يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا ، كما هو قضيّة التقييد والتخصيص في غيرها ممّا لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين ؛ بل قضيّته ليس إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا ؛ وذلك لثبوت المقتضي في كل

______________________________________________________

ما تقدم من صحة الصلاة في المغصوب ـ بناء على الامتناع وتقديم النهي أو التساوي ـ من ذوي الأعذار كالمحبوس ظلما في الغصب ، والناسي للغصب ، أو الحرمة ، والغافل عنها ، والجاهل بها قصورا. هذا تمام الكلام في تقريب الإشكال.

وأما دفعه : فيتوقف توضيحه على مقدمة وهي : الفرق بين تخصيص أحد الدليلين في مسألة باب التزاحم ، وبين تخصيصه في باب التعارض.

وحاصله : أنّ مناط التعارض هو وجود ملاك أحد الحكمين ، ومناط التزاحم هو وجود ملاك كلا الحكمين ، ولازم هذا الفرق : أن تخصيص أحد الدليلين أو تقييده في باب التعارض يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الدليل الآخر رأسا ، كما في مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم النحاة» ، فإنّ العالم النحوي ـ بعد تخصيص العلماء بالنحاة ـ يخرج عن حيّز «أكرم العلماء» ملاكا ووجوبا ، فلا مصلحة ولا وجوب له.

هذا بخلاف باب التزاحم ، كما في إنقاذ زيد وعمرو مع عجز المكلّف عن إنقاذهما معا ، فإذا رجّح إنقاذ زيد لقوّة ملاكه يبقى إنقاذ عمرو على وجوبه الاقتضائي.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن مسألة اجتماع الأمر والنهي إنّما هي من باب التزاحم.

فحاصل دفع الإشكال :

إنّ ترجيح النهي على الأمر في مسألة الاجتماع ليس من باب التخصيص المصطلح الّذي يوجب اختصاص الملاك والحكم بغير مورد التخصيص ـ كما عرفت ـ فيوجب خروج الخاص عن العام رأسا ، هذا بخلاف مسألة الاجتماع ، فإنّ ترجيح أحد الدليلين على الآخر يوجب خروج الآخر عن الحكم الفعلي فقط مع بقاء ملاكه ، فالصلاة في المغصوب خرجت عن حيّز الوجوب الفعلي دون ملاكه ، فمصلحتها باقية على حالها ، وحينئذ يؤثر الملاك بارتفاع فعلية النهي عن الغصب بسبب عذر من الأعذار الرافعة له ، ونتيجة ذلك : صحة الصلاة في موارد العذر ؛ إذ لا مانع من تأثير ملاك الأمر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» :

قوله : «لا يوجب» جواب عن إشكال التقريرات ، وقد تقدم توضيح ذلك فلا حاجة إلى التكرار.

٥٠

واحد من الحكمين فيها ، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثّرا لها ؛ لاضطرار أو جهل أو نسيان ، كان المقتضى لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى ، أو لم يكن واحد من الدليلين دالّا على الفعلية أصلا.

______________________________________________________

قوله : «رأسا» يعني : فعلية واقتضاء ، والمراد بالاقتضاء : هو الملاك ، والخروج عن الفعلية والاقتضاء معا شأن التخصيص المصطلح ، وأمّا التخصيص في مسألة الاجتماع : فهو الخروج عن الفعلية فقط كما عرفت.

«كما هو قضية التقييد والتخصيص في غيرها» أي : الخروج رأسا قضية التقييد والتخصيص في غير مسألة اجتماع الأمر والنهي من الموارد الّتي لا يحرز فيها وجود المقتضي لكلا الحكمين ، اللّذين هما مدلولا الدليلين ، وضمير «غيرها» راجع إلى المسألة.

«بل قضيته» أي : قضية ترجيح أحد الدليلين على الآخر في مسألة الاجتماع ليس إلّا خروج مورد الاجتماع عن فعلية حكم أحد الدليلين فيما إذا كان مؤدى الدليل الآخر ـ كحرمة الغصب ـ فعليا ، فيكون الخروج عن الفعلية مع بقاء الملاك ، وضمير «خروجه» راجع إلى مورد الاجتماع ، وحق العبارة : أن تكون هكذا : «بل قضيته ليست إلّا خروج مورد الاجتماع عن الفعلية فيما كان الحكم الذي هو مفاد الدليل الآخر فعليا».

قوله : «وذلك لثبوت المقتضى» تعليل لعدم كون ترجيح أحد الدليلين على الآخر في مسألة الاجتماع مخرجا لمورد الاجتماع عن حيّز الدليل الآخر رأسا ، بل عن الحكم الفعلي.

وحاصل التعليل : أنّ مسألة الاجتماع من باب التزاحم المنوط بثبوت المناط في كل واحد من الحكمين حتى في ظرف الاجتماع ؛ لا من باب التعارض الذي يكون الملاك في أحدهما فقط. وضمير «فيها» راجع إلى مسألة الاجتماع.

قوله : «فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها» إشارة إلى ثمرة الخروج عن الحكم الفعلي فقط. وملخصها : أنه إذا لم يؤثر مفسدة النهي في الحرمة لاضطرار أو جهل أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا وموجبا لصحتها ؛ إذ المفروض : ارتفاع مزاحمها ـ أعني : الحرمة الفعلية ـ بالاضطرار ونحوه. وضمير «فيها» راجع إلى الصحة ، والأولى : لها بدل فيها.

قوله : «كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى» تمثيل للمؤثر الفعلي ، يعني : أنّ ملاك الصحة يؤثر في الصحة الفعلية فيما إذا منع ملاك الحرمة عن التأثير فيها ؛ كتأثيره في الصحة الفعلية فيما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى ، أو لم يكن الدليلان دالّين على الفعلية ؛ بأن كانا دالّين على الحكم الاقتضائي أو الإنشائي.

٥١

فانقدح (١) بذلك : فساد الإشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان ونحوهما (٢) ؛ فيما إذا قدم خطاب «لا تغصب» (٣) ، كما هو الحال (٤) فيما إذا كان الخطابان من أوّل الأمر (٥) متعارضين ، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلا ؛ وذلك (٦) لثبوت المقتضي في هذا الباب (٧) ، كما إذا لم يقع بينهما تعارض ، ولم يكونا (٨)

______________________________________________________

(١) أي : ظهر ـ بوجود المقتضي للصحة في مورد الاجتماع المستلزم لصحة الصلاة في موارد العذر ، لوجود ملاك الأمر بلا مزاحم ـ فساد الإشكال الذي مرّ توضيحه ، وحاصل الإشكال : أنّه مع تقديم النهي على الأمر كيف تصحّ الصلاة في موارد العذر كالجهل والنسيان ونحوهما؟ إذ مع تغليب النهي على الأمر وإخراج المجمع عن حيّز دليل وجوب الصلاة لا يبقى فيه ما يقتضي صحته ؛ كما هو شأن التعارض في سائر الموارد.

(٢) يعني : كالاضطرار والغفلة.

(٣) يعني : فيما إذا بنى على الامتناع وترجيح النهي.

(٤) يعني : كما أنّ هذا الإشكال ثابت فيما إذا كان الخطابان متعارضين لا متزاحمين ؛ لعدم الملاك المقتضي للصحة حينئذ حتى يحكم بالصحة في موارد العذر.

(٥) يعني : من أوّل زمان التشريع ، كما إذا قال : «صلّ ولا تصلّ في المغصوب» ، فإنّ الصلاة في المغصوب لا مصلحة لها حتى يمكن تصحيحها بالملاك. وهذا بخلاف ما بعد زمان التشريع ؛ كما إذا بلغنا مثل : «صل ولا تصل في المغصوب» ، فإنّه لا تنافي بينهما من زمان التشريع ؛ بل الملاك في كل منهما موجود ، وإنّما التنافي يكون في فعلية الحكمين في مورد الاجتماع.

قوله : «ولم يكونا من باب الاجتماع أصلا» بيان للتعارض كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٠٠».

(٦) بيان لفساد الإشكال المذكور. وحاصله : أن المستشكل والمتوهم خلط بين التعارض والتزاحم ، وما ذكره من الإشكال في صحة الصلاة في موارد العذر إنّما يتمّ ويتّجه في فرض التعارض ؛ لا في فرض التزاحم الذي يكون منوطا بوجود الملاك في كلّ واحد من المتزاحمين ، ومسألة الاجتماع تكون من باب التزاحم ، فغلبة النهي على الأمر لا توجب خلو الأمر عن الملاك ، كما توجب خلوه عنه ـ بناء على التعارض ـ لخلو المورد فيه عن كلّ من الحكم الفعلي وملاكه ، فلا مصحّح له أصلا.

(٧) أي : في باب اجتماع الأمر والنهي.

(٨) بيان لعدم التعارض ، بمعنى : أنه لو كانا متكفلين للحكم الفعلي وقع بينهما

٥٢

متكفلين للحكم الفعلي ، فيكون (١) وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين ، وتأثيره فعلا المختص (٢) بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع (٣) المقتضي لصحة مورد الاجتماع مع الأمر (٤) ، أو بدونه (٥) فيما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له (٦) أو عن فعليته (٧) كما مرّ تفصيله.

______________________________________________________

التعارض ؛ للعلم الإجمالي بكذب أحدهما في حكايته. وأمّا إذا لم يكونا متكفلين للحكم الفعلي فلم يكونا متعارضين.

(١) أي : هذا متفرع على وجود المقتضي في كلا الدليلين ، الذي هو مقوم باب التزاحم ، فإنّ تقديم أحد المقتضيين على الآخر لا يرفع ملاكه ، ولذا يحكم بصحة الواجب المهم العبادي مع ترك الواجب الأهم ، فلو كان المهم خاليا عن الملاك لم يكن صحيحا عند ترك الأهم.

(٢) صفة ل «تقديم» ، فمعنى العبارة : أن هذا التقديم العقلي يختص بما إذا لم يمنع ـ عن تأثير المقتضي الذي يقدم بحكم العقل ـ مانع ، وإلّا فلا يحكم العقل بتقديمه على صاحبه. ففيما نحن فيه يكون حكم العقل بتقديم ملاك النهي وتأثيره في الحرمة الفعلية منوطا بعدم مانع عن تأثيره ، وإلّا فلا يحكم بذلك ؛ بل يؤثر ملاك الأمر حينئذ ، فتصح العبادة في المغصوب مع عذر مانع عن تأثير ملاك النهي في فعلية الحرمة.

(٣) هذا إشارة إلى وجه المماثلة بين التخصيص العقلي والتخصيص في مورد الاجتماع ، فلا يؤثر إذا منعه مانع.

«المقتضي» صفة ل «تقديم» أيضا يعني : كما أنّ «المختص» صفة له.

(٤) يعني : كما إذا كان العذر الاضطرار الرافع للنهي ، فإذا لم يكن هناك نهي أصلا ، فملاك الأمر يؤثر في فعلية الوجوب بلا مزاحم.

(٥) أي : بدون الأمر ، كما في موارد الجهل والنسيان ، لكونهما رافعين لفعلية النهي لا أصله ، فلا يثبت حينئذ أمر بالصلاة ؛ وإلّا يلزم اجتماع الحكمين.

(٦) أي : للنهي. أي : إذا كان هناك مانع للنهي كالاضطرار حيث إنّه مانع عن تأثير المفسدة المقتضية للنهي في أصل النهي ، وبعد ارتفاع النهي يؤثر المصلحة المقتضية للأمر في الأمر ، فيكون المجمع موردا للأمر الفعلي ، ويقع صحيحا مع وجود الأمر. إذ لا نهي أصلا والأولى تبديل «له» ب «فيه» لتعلق «له» ب «تأثير».

(٧) أي : كان هناك مانع عن فعلية النهي كالجهل والنسيان المانعين عن فعلية النهي ، لا عن مجرّد إنشائه ، «كما مر تفصيله» في عاشر الأمور المتكفل لبيان ثمرة النزاع ، حيث قال فيه : «وقد انقدح بذلك الفرق بين : ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب

٥٣

وكيف كان (١) ؛ فلا بدّ في ترجيح أحد الحكمين من مرجّح. وقد ذكروا لترجيح النهي وجوها :

منها : أنّه أقوى دلالة ؛ لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد ، بخلاف الأمر.

وقد أورد عليه (٢) : بأنّ ذلك فيه من جهة إطلاق متعلّقه بقرينة الحكمة ؛ كدلالة الأمر على الاجتزاء بأيّ فرد كان.

______________________________________________________

متعارضين ...» ؛ إلى أن قال : «وقد ظهر بما ذكرناه : وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة ..» إلخ كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٠٢».

في مرجحات النهي على الأمر

(١) أي : سواء كان الخطابان في مسألة الاجتماع من باب التزاحم أم التعارض لا بد في ترجيح النهي أو الأمر من مرجح يختلف في التزاحم والتعارض.

الأول من مرجحات النهي على الأمر : هو كونه أقوى دلالة منه ـ لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد ـ لأن النهي عن طبيعة يقتضي مبغوضيتها ، فيكون كل فرد من أفرادها مبغوضا ؛ لأنه بمعنى وجود الطبيعة الموصوفة بالمبغوضية ، هذا بخلاف الأمر ؛ حيث إن مفاده هو طلب إيجاد الطبيعة ، ويكفي في إيجادها إيجادها في فرد أيّ فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها كان.

والمتحصل : أنّ دلالة الأمر على الإطلاق البدلي ، والاجتزاء بأيّ فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها تكون بمقدمات الحكمة ، ودلالة النهي على الإطلاق الشمولي ـ لكونها لفظية ـ أقوى من دلالة الأمر على الإطلاق البدلي ، لكونها بمقدمات الحكمة ، فيقدم النهي عليه في المجمع ، ويحكم بفساد الصلاة في المغصوب.

(٢) قد أورد على هذا الوجه الأوّل بما حاصله : من أن دلالة كل من الأمر والنهي على العموم البدلي والشمولي تكون بمقدمات الحكمة ، فهما متساويان في الدلالة على العموم بمقدمات الحكمة ؛ وذلك لأنّ العموم المستفاد من النهي إنّما يكون من جهة إطلاق متعلقه الثابت بمقدمات الحكمة ؛ إذ لو كان المتعلق مقيدا بقيد من زمان أو زماني كان على المتكلم بيانه ، فلما كانت دلالة كل من الأمر والنهي على العموم بمعونة مقدمات الحكمة بلا فرق بينهما إلّا من جهة شمولية العموم في النهي وبدليّته في الأمر ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب أقوائيّة النهي من الأمر ، فلا وجه لتقديم النهي عليه ، والمشار إليه في قوله : «بأنّ ذلك» هو انتفاء جميع الأفراد في النهي بقرينة الحكمة من جهة إطلاق متعلقه ، كما أنّ دلالة الأمر على الاجتزاء بأيّ فرد كان بقرينة الحكمة ، فلا

٥٤

وقد أورد عليه (١) : بأنّه لو كان العموم المستفاد من النهي بالإطلاق بمقدمات الحكمة ، وغير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام (٢) لكان استعمال مثل : «لا تغصب» في بعض أفراد الغصب حقيقة ، وهذا واضح الفساد ، فتكون (٣) دلالته على العموم من جهة أنّ وقوع الطبيعة في حيّز النفي أو النهي يقتضي عقلا سريان الحكم إلى جميع الأفراد ، ضرورة (٤) : عدم الانتهاء عنها أو انتفائها إلّا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه (٥).

______________________________________________________

تكون دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر حتى يقدّم النهي عليه.

(١) قد أورد على الإيراد المذكور بما حاصله : أن دلالة النهي على العموم إنّما تكون من ذات النهي لا بمقدمات الحكمة ؛ إذ لو كان العموم مستفادا من مقدمات الحكمة لزم أن يكون استعمال «لا تغصب» في خصوص فرد من أفراده على نحو الحقيقة ، لما تقرر في محلّه : من أنّ إطلاق المطلق وإرادة فرد من أفراده يكون على نحو الحقيقة ، مع إنّ إطلاق «لا تغصب» على فرد خاص من أفراده يكون مجازا ، فلا يكون العموم في النهي مستفادا من مقدمات الحكمة ؛ بل العموم مستفاد من ذات النهي.

(٢) يعني : دلالة النهي على العموم تكون بالدلالة الالتزامية ؛ لأن النهي يدل على ترك الطبيعة بالدلالة المطابقية ، وعلى انتفاء جميع الأفراد بالدلالة الالتزامية ؛ لأن الطبيعة متحققة في جميع الأفراد ، فلا تنتفي إلّا بانتفاء جميعها ، فيدل على العموم أعني : انتفاء جميع الأفراد بالالتزام.

قوله : «وهذا واضح الفساد» أي : كون استعمال «لا تغصب» في بعض الأفراد حقيقة واضح الفساد ؛ لأن المتبادر من اللفظ عرفا : هو الإطلاق وعدم الخصوصية ، فلا بدّ أن يكون الاستعمال في الخصوصيّة مجازا.

(٣) هذا متفرع على إبطال كون العموم مستندا إلى مقدمات الحكمة.

وحاصل التفريع : أن دلالة النهي على العموم ليست بمقدمات الحكمة ؛ بل بذاته يدل على العموم التزاما ؛ بمعنى : أن لازم وقوع الطبيعة في حيّز النفي أو النهي الدّال على مبغوضية وجودها هو سريان الحكم إلى جميع أفراد الطبيعة ؛ لتوقف ترك الطبيعة على ترك جميع أفرادها ، فالنهي بالالتزام العقلي يدلّ على العموم والاستيعاب. وعلى هذا : فأقوائية دلالة النهي على العموم الاستغراقي من دلالة الأمر على العموم البدلي في محلّها ، فلا إشكال في تقديم النهي على الأمر.

(٤) تعليل لسريان الحكم إلى جميع الأفراد.

(٥) أي : انتفاء الجميع.

٥٥

قلت : دلالتهما (١) على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر ؛ لكنّه من الواضح :

______________________________________________________

والمتحصّل : أنّه قد ظهر بما ذكر الفرق بين الأمر والنهي ، ويتبين كون النهي أقوى دلالة ، فيقدم على الأمر عند التعارض ، فتكون الصلاة في الدار المغصوبة باطلة.

(١) أي : دلالة النفي والنهي ، أو دلالة الطبيعة الواقعة في حيّز النفي والنهي على ما في بعض النسخ من إفراد ضمير الدلالة «دلالتها».

وكيف كان ؛ فالغرض من هذا الكلام هو : تأييد الإيراد الأوّل وهو : كون النهي كالأمر في كون العموم فيهما مستندا إلى مقدمات الحكمة.

وحاصل ما أفاده المصنف : أن النفي والنهي وإن كانا دالين على العموم بلا كلام ، إلّا إنّ استفادة العموم منوطة بكل من العقل ومقدمات الحكمة ، بمعنى : أن أداة العموم لا تدل على استيعاب جميع أفراد الطبيعة المطلقة إلّا إذا أريد بها الإطلاق ، ولمّا لم يكن نفس متلوّ أداة العموم دالا على هذا الإطلاق ، فلا بدّ في إثباته من التشبث بمقدمات الحكمة ، مثلا : إذا ورد «لا تغصب» لا يمكن الحكم بحرمة جميع أفراد طبيعة الغصب إلّا بعد إثبات الإطلاق لهذه الطبيعة ، ومن المعلوم : أن المتكفل له هو مقدمات الحكمة ، فبها يحكم بأن المراد بالغصب هي الطبيعة المطلقة ؛ إذ لو كان المراد به الطبيعة المقيدة بقيد كان على المتكلم بيانه.

والمتحصّل : أن الحكم بحرمة جميع أفراد الغصب منوط بإطلاق متلوّ أداة العموم ، وقد علمت : توقفه على مقدمات الحكمة ، وبعد جريانها فيه يكون المنفي أو المنهي عنه الطبيعة غير المقيدة ، ومن المعلوم : أن العقل يحكم حينئذ بلزوم استيعاب جميع أفراد طبيعة في كل زمان وحال ، فاستفادة العموم لجميع الأفراد منوطة أوّلا : بإطلاق متلو أداة العموم ، وثانيا : بحكم العقل المتقدم ، فلو لم تكن الطبيعة مطلقة ـ بأن كانت مهملة أو مقيدة ـ لا يدل النفي والنهي على استيعاب جميع أفرادها ؛ بل بعضها الذي أريد منها ؛ كما لا يخفى

والضمير في قوله : «لكنّه» للشأن ، وغرضه من هذه العبارة : دفع المنافاة بين وضع النفي والنهي للعموم ، وبين احتياج استيعاب جميع الأفراد إلى إطلاق متعلقهما المنوط بمقدمات الحكمة.

وجه عدم التنافي : أنّ الموضوع له في النفي والنهي هو نفس العموم في الجملة ، وأما سعة دائرته وضيقها فتابعتان للمتعلق من حيث الإطلاق والتقييد والإهمال ، فالعموم يحتاج إلى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة فلا منافاة بين وضع كل من النفي والنهي للعموم ، وبين حاجة استيعاب جميع الأفراد إلى إطلاق متعلقهما الثابت بمقدمات

٥٦

أن العموم المستفاد منهما كذلك إنّما هو بحسب ما يراد من متعلّقهما ، فيختلف (١) سعة وضيقا ، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الأفراد إلّا إذا أريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد ، ولا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته عليه بالخصوص إلّا بالإطلاق وقرينة الحكمة ؛ بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة (٢) ، وذلك (٣) لا ينافي دلالتهما على استيعاب

______________________________________________________

الحكمة ؛ المشار إليه في قوله : «كذلك» هو العموم الاستيعابي. وضمير «منهما» يعود إلى النفي والنهي.

(١) أي : فيختلف العموم سعة وضيقا ، فلا يدل على استيعاب جميع الأفراد «إلّا إذا أريد منه» أي : المتعلق «الطبيعة مطلقة وبلا قيد ، ولا يكاد يستظهر ذلك» أي : إطلاق الطبيعة الّتي تعلق بها النفي والنهي «مع» فرض «عدم دلالته عليه» أي : عدم دلالة المتعلق على الإطلاق إلّا بقرينة الحكمة ، «بحيث لو لم يكن هناك قرينتها» أي : قرينة الحكمة.

قوله : «بأن يكون الإطلاق» بيان لمورد عدم قرينة الحكمة ؛ إذ من شرائط جريان قرينة الحكمة : كون المتكلم في مقام البيان.

(٢) أي : لم يكد يستفاد من اللفظ استيعاب أفراد الطبيعة المطلقة وبلا قيد ؛ لأنّ استيعاب أفرادها موقوف على إطلاقها المنوط بجريان مقدمات الحكمة.

وتوضيح المقام ـ على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٤٣» ـ أن العموم المستفاد من النهي إنّما هو بأمرين : الإطلاق والعقل ؛ إذ لو لم يكن المتعلق مطلقا ـ بأن كان مهملا أو مقيدا ـ لم يحكم العقل إلّا بانتفاء أفراد ذاك المهمل أو المقيد لا العموم.

مثلا : «لا تغصب في يوم الجمعة» لا يدل عقلا إلّا على استيعاب أفراد الطبيعة المقيدة بيوم الجمعة ، وبهذا تبيّن : أنّ دلالة العقل وحدها غير كافية في الحكم بعموم المتعلق ، وإنما يحتاج العموم إلى الإطلاق علاوة على العقل ، فكون النهي عن المطلق يفهم من المقدمات ، وكون المطلق يستلزم الاستيعاب يفهم من دلالة العقل بالسراية.

(٣) يعني : وعدم استظهار إطلاق الطبيعة إلّا من مقدمات الحكمة لا ينافي دلالة النفي والنهي على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق.

وخلاصة الكلام : أنّه لا منافاة بين احتياج استظهار استيعاب الجميع إلى مقدمات الحكمة ، وبين كون النفي والنهي للعموم والاستيعاب.

وجه عدم المنافاة : أنهما وضعا لاستيعاب ما أريد من متعلّقهما سواء كان مطلقا أم

٥٧

أفراد ما يراد من المتعلق ؛ إذ الفرض : عدم الدلالة على أنه (١) المقيد أو المطلق.

اللهم إلّا أن يقال (٢) : إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أنّ المراد

______________________________________________________

مقيدا أم مهملا ، فإطلاق المتعلق كتقييده وإهماله أجنبيّ عن وضع النفي والنهي للاستيعاب الذي هو من الأمور الإضافية المختلفة سعة وضيقا باختلاف المتعلق.

فالمتحصل : أنّ النفي والنهي يدلان على الاستيعاب في الجملة أي : بلا تعيين أنّه بنحو الإطلاق أو التقييد. أمّا دلالتهما على العموم الشمولي فهي بمقدمات الحكمة ، كما أنّ دلالة الأمر على العموم البدلي ليست إلّا بمقدمات الحكمة ، فلا تكون دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر حتى يقدم عليه.

(١) أي : إذ المفروض : عدم دلالة النفي والنهي على أنّ ما يراد من المتعلق هو المقيد أو المطلق.

(٢) اللهم إلّا أن يقال : إنّنا لا نحتاج في إثبات إطلاق المتعلق إلى مقدمات الحكمة ؛ بل نقول : بكفاية نفس النفي والنهي في إثبات إطلاق المتعلق ، بمعنى : أنهما يدلان على كلا الأمرين ـ وهما : ـ الاستيعاب وإطلاق المتعلق.

أمّا الأوّل : فلكون النفي والنهي موضوعين للعموم والاستيعاب.

وأمّا الثاني : فلأنّ أسماء الأجناس موضوعة للطبائع المهملة وبلا شرط ، فإذا ورد عليها ما يدل على العموم فلا محالة يراد بسببه جميع أفرادها.

«كما ربما يدّعى ذلك» أي : كفاية الدلالة على الاستيعاب في إرادة الإطلاق من المتعلق في مثل : «كل» الدال على العموم ، فإذا دخل على اسم جنس كرجل تكون دلالة لفظ كل على العموم قرينة على إرادة جميع أفراد طبيعة رجل.

لا يقال : إنّ الطبيعة الّتي هي مدخول كل لا تخلو عن ثلاثة أحوال :

الأوّل : الإطلاق. الثاني : التقييد. الثالث : الإهمال. فإذا أريد منها قبل دخول كل الإطلاق تمت مقدمات الحكمة ، ولا مجال للقول بإفادة كل له ، وإن أريد التقييد فلا إطلاق حتى يقع الكلام فيما يفيده ، وإن أريد الإهمال فليس هناك إطلاق أصلا.

وعلى جميع التقادير والأحوال : فليس هناك إطلاق مستفاد من لفظ «كل» فإنّه يقال : إنّ المراد من المتعلق هو الطبيعة المهملة ، وببركة دخول كل ينعقد لها الإطلاق ، هذا ما أشار إليه بقوله : «بل يكفي إرادة ما هو معناه» أي : معنى مدخول كل «من الطبيعة المهملة» ، فالطبيعة قبل دخول كل مهملة وبعد دخوله ينعقد لها الإطلاق ، كما أنّ قبل تماميّة مقدمات الحكمة يكون اللفظ مهملا ولا بشرط ، وبعد تماميّتها ينعقد الإطلاق.

٥٨

من المتعلق هو المطلق ، كما ربما يدّعى ذلك في مثل : كل رجل ، وأنّ مثل : لفظة «كل» تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل ، من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة ؛ بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته (١) على الاستيعاب ، وإن كان لا يلزم مجاز (٢) أصلا لو أريد منه خاص بالقرينة ؛ لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول ، ولا فيه إذا كان بنحو تعدد الدال والمدلول ؛ لعدم استعماله إلّا فيما وضع له ، والخصوصية مستفادة من دال آخر ، فتدبر (٣).

______________________________________________________

(١) أي : في دلالة كل على الاستيعاب ، و «في» متعلقة بقوله : «يكفي» يعني : يكفي في دلالة (كل) على الاستيعاب إرادة معنى المدخول وهو الطبيعة المهملة كما عرفت.

(٢) قوله : «وإن كان لا يلزم مجاز» تعريض بما أورده المورد الثاني من : أنّ العموم لو استفيد من مقدمات الحكمة كان استعمال «لا تغصب» في بعض أفراده حقيقة ، وإن استفيد من نفس النهي كان مجازا.

وحاصل التعريض : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٢١٠» ـ أن المجاز لا يلزم ـ وإن استند العموم إلى نفس النهي ـ بشرط أن تكون إرادة الخاص بالقرينة كما في «أكرم العلماء العدول» ، فإن إرادة خصوص العالم العادل من العلماء بقرينة العدول لا تكون بنحو المجاز لتعدد الدال والمدلول ، حيث إن كلّا من العلماء والعدول قد استعمل في معناه الحقيقي ، فلا يلزم مجاز ، لا في أداة العموم حيث إنها مستعملة في عموم ما أريد من المتعلق ، ولا في متلوها لاستعماله في معناه الحقيقي ، وهو الطبيعة المهملة كما مرّ.

فقوله : «أصلا» إشارة إلى عدم لزوم المجاز أصلا لا في أداة العموم ولا في مدخولها.

قوله : «لا فيه لدلالته على استيعاب ...» إلخ إشارة إلى عدم لزوم المجاز في مثل «كل» ، لأنّ أداة العموم مستعملة فيما وضعت هي له من استيعاب ما يراد من المدخول.

وقوله : «ولا فيه» إشارة إلى عدم لزوم المجاز في المدخول.

قوله : «لعدم استعماله ...» إلخ تعليل لعدم لزوم المجاز في المدخول ، وضمير «استعماله» يعود إلى المدخول.

(٣) لعلّه إشارة إلى عدم تسليم ما ذكره بقوله : «اللهم إلّا أن يقال ..» إلخ فيبقى إشكال تقديم النهي على الأمر على حاله.

أو إشارة إلى الإشكال في إلحاق النفي والنهي وقياسهما بلفظ «كل» فيقال : إنّ قياس النفي والنهي بلفظ «كل» قياس مع الفارق ، فيكون باطلا.

٥٩

ومنها : أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وقد أورد عليه (١) في القوانين (*) : بأنه مطلقا ممنوع ، لأنّ في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين.

ولا يخفى ما فيه (٢) ؛ فإنّ الواجب ولو كان معيّنا ، ليس إلّا لأجل أنّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها ؛ من دون أن يكون في تركه مفسدة ، كما أنّ الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.

______________________________________________________

أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة

الوجه الثاني من وجوه ترجيح النهي على الأمر : أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة بمعنى : أنّ النهي عن الغصب يكشف عن المفسدة فيه ، والأمر بالصلاة يكشف عن المصلحة فيها ، وأولوية دفع المفسدة عن جلب المصلحة ترجح النهي على الأمر. وعليه : فترك الصلاة دفعا لمفسدة الغصب أولى من جلب المنفعة بفعلها ، فحينئذ لا بدّ من ترك الصلاة في المغصوب ؛ لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب مصلحة الصلاة ، فترك الحرام أولى من فعل الواجب ، فيسقط أمر الصلاة عن الفعلية في المكان المغصوب ، ويبقى النهي على الفعلية. ولازم ذلك : بطلان الصلاة ؛ لأنّ النهي في العبادات يقتضي فسادها.

(١) أي : اعترض صاحب القوانين على هذا المرجّح الثاني بما حاصله : من إنّه لا كليّة في ذلك ؛ إذ قد يكون في ترك الواجب أيضا مفسدة لو كان الواجب معينا لا بدل له ؛ بحيث انحصر في فرد واحد كالصلاة في ضيق الوقت فإنّ في ترك هذا الواجب أيضا مفسدة كفعل المحرمات ، فيدور الأمر حينئذ بين المفسدتين ؛ مفسدة الغصب المحرم ومفسدة ترك الصلاة ، فلا بد من ملاحظة الأهم منهما ، وبما أنّ مفسدة ترك الصلاة أهم فتقدم ، فلا بدّ من فعل الصلاة وهو معنى تقديم الأمر على النهي. نعم لا مفسدة في ترك الواجب المخير شرعا كخصال الكفارة إذا أتى ببعض الأبدال. فإنّه لا مفسدة في ترك الصوم إذا أطعم ستين مسكينا ، أو عقلا كأفراد الطبيعة المأمور بها ، فإذا أتى بالصلاة «في المسجد» فلا مفسدة في ترك الصلاة في الدار مثلا.

قوله : «لأنّ في ترك الواجب» تعليل للمنع.

والمتحصل : أنّ في ترك الواجب مفسدة إذا كان تعيينيا لا تخييريا ؛ إذ لا مفسدة في ترك الواجب التخييري سواء كان التخيير شرعيا أو عقليا.

(٢) أي : لا يخفى ما في كلام صاحب القوانين من الإشكال وحاصله : أن مقتضى

__________________

(*) قوانين الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٣ ، س ٨.

٦٠