دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

وإظهاره وإفهامه ، ولو لم يكن عن جد ، بل قاعدة وقانونا لتكون حجة فيما لم تكن حجة أقوى على خلافه ؛ لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا

______________________________________________________

موضوع له مع الدليل على التقييد ، كما لا موضوع لها مع الدليل الاجتهادي ، فلا يجوز التمسك بالمطلقات بعد الظفر بمقيّد منفصل ، لكشف المقيد عن عدم كون المتكلم بصدد بيان تمام مراده ، وأنه كان في مقام الإهمال أو الإجمال ، مع إن السيرة قد استقرت على التمسك بها بعد الظفر بالمقيد.

وأما الدفع فقد أشار إليه بقوله : «إن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده مجرّد بيان ذلك ..» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن مجرى مقدمات الحكمة هل هو المراد الجدي الواقعي أو المراد الاستعمالي ، بمعنى : أنها هل تجري في بيان وتنقيح ما هو المراد الجدي الواقعي بأن يكون المطلق هو المراد الجدي للمتكلم.

أو تجري في بيان وتنقيح المراد الاستعمالي بمعنى ما قصد المتكلم تفهيمه للمخاطب وإحضاره من المعنى في ذهن السامع ؛ بأن يكون المراد الاستعمالي هو المطلق ، لا ما أراده من نفس اللفظ جدّا؟

هذا هو الذي ذهب إليه المصنف خلافا للشيخ «رحمه‌الله» ، حيث ذهب إلى الأول.

فالمتحصل : أن البيان على وجهين :

أحدهما : بيان المراد الجدي الواقعي ، وهو المقصود في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ثانيهما : ما هو أعم من بيان المراد الواقعي ؛ بأن يظهر الواقع وإن لم يكن مرادا جديّا ، بل يظهره ويلقيه إلى المخاطب بصورة القانون ليكون حجة ومرجعا عند الشك في التقييد ، ما لم تقم حجة أقوى على خلافه وهي دليل التقييد ، ثم المراد بالبيان في المقام هو هذا المعنى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا يكون المقيد المنفصل كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ـ على ما هو مختار المصنف ـ حتى يقال : أنه لا يصح التمسك بالإطلاق لكشف المقيد عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، وحينئذ فما جرت عليه السيرة من التمسك بالإطلاقات بعد الظفر بمقيد منفصل في غاية الصحة والمتانة.

هذا بخلاف ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري ؛ من كون المتكلم في مقام بيان المراد

٤٦١

يكون الظفر بالمقيد ـ ولو كان مخالفا ـ كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحة التمسك به أصلا ، فتأمّل جيدا (١).

وقد انقدح بما ذكرنا (٢) : أن النكرة في دلالتها على الشياع والسريان أيضا (٣) تحتاج فيما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال إلى مقدمات الحكمة ، فلا تغفل.

______________________________________________________

الجدي الواقعي ، وهذا الكلام يلازم عدم إمكان التمسك بالمطلقات إذا قيدت واقعا بقيود منفصلة ؛ لأنه يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، فتنهدم المقدمة الأولى بورود المقيد المنفصل وهذا اللازم باطل إذ لا يلتزم به أحد ، فيكشف عن بطلان المبنى الذي يبتني عليه.

قوله : «فلا يكون الظفر بالمقيد ـ ولو كان ـ كاشفا ..» إلخ ، تعريض بما في التقريرات وردّ عليه ، وتفريع على كون المراد بالبيان إظهار تمام مراده ولو لم يكن عن جدّ ، كما هو مختار المصنف.

وكيف كان ؛ فقد اتضح مما تقدم ـ من أن المراد بالبيان مجرد إظهار تمام المراد حتى يكون حجة ظاهرا في الأفراد المشكوكة حتى تقوم حجة أقوى على خلافه ـ عدم كون دليل التقييد كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، ولذا لا ينثلم بالظفر بالمقيد إطلاق المطلق وصحة التمسك به ، فلو قال : «أعتق رقبة» ، ثم ورد : «لا تعتق رقبة كافرة» لا يكشف هذا التقييد عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، ولذا يصح التمسك بالإطلاق في غير مورد التقييد ، فلو شك في تقييده بغير الإيمان أيضا يتمسّك في نفيه بالإطلاق بلا إشكال.

(١) لعله إشارة إلى : إن المقيد إذا كان مخالفا للمطلق في النفي والإثبات نحو : «أعتق رقبة» و «لا تعتق رقبة كافرة» فلا ريب في كونه مقيدا له ، أو يحمل المقيد على الاستحباب والأفضلية ، فانتظر تفصيل ذلك فيما سيأتي عن قريب.

(٢) أي : من كون النكرة هي الطبيعة المقيدة بالوحدة المفهومية ، وخروج الشيوع عن مفهومها ظهر : أن دلالتها على الشيوع لا بد أن تستند إلى قرينة حالية أو مقالية أو حكمية إن تمت مقدمات الحكمة ، فإنّ النكرة وإن كانت دالة على الشيوع لكنه بدلي لا عرضي ، فلا دلالة لها على الشيوع العرضي إلا بالقرينة ولو كانت مقدمات الحكمة.

(٣) أي : مثل اسم الجنس الذي وضع للماهية المهملة ، فلا يدل على الشياع إلا

٤٦٢

بقي شيء (١) : وهو أنه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد ، هو كونه بصدد بيانه ، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات

______________________________________________________

بالقرينة. قوله : «إلى» متعلق بقوله : «تحتاج» أي : دلالة النكرة مثل اسم الجنس على الشياع تحتاج إلى مقدمات الحكمة.

الأصل كون المتكلم في مقام البيان

(١) الغرض منه هو : بيان ما هو الأصل عند الشك في كون المتكلم في مقام البيان ، وقبل الخوض في بحث الأصل ينبغي بيان مورد هذا الأصل ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي أن هناك صور واحتمالات :

الصورة الأولى : هو إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده.

الصورة الثانية : إحراز عدم كونه في مقام بيان تمام مراده ؛ بل كان في مقام الإجمال أو الإهمال.

الصورة الثالثة : إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مورد الأصل هو الصورة الثالثة ؛ إذ لا شك في التمسك بالإطلاق في الصورة الأولى ، كما لا ريب في عدم التمسك بالإطلاق في الصورة الثانية.

وإنما الكلام في التمسك بالإطلاق في الصورة الثالثة ، بمعنى : أنه لمّا كان من مقدمات الحكمة التي يتوقف عليها الإطلاق : كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده ، وكان إحرازه بالعلم في كثير من الموارد في غاية الصعوبة ، صار المصنف بصدد إثبات ذلك في موارد الشك بالأصل بمعنى : أن مقتضى الأصل هو : كون المتكلم في مقام البيان عند الشك في ذلك ، ويقول المصنف : لا يبعد أن يكون الأصل والقاعدة كون المتكلم في مقام البيان ، فيصح التمسك بالإطلاق. ووجه هذا الأصل ما أشار إليه بقوله : «وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالإطلاقات».

وحاصل ما أفاده في ذلك : أن مقتضى الأصل كون المتكلم في مقام البيان فيما إذا شك في ذلك ، وهذا أصل عقلائي جرت عليه سيرة أبناء المحاورة ، حيث إنهم يتمسّكون بالإطلاقات مع عدم علمهم بكون المتكلم في مقام البيان ، فهذه السيرة أقوى دليل على هذا الأصل العقلائي.

نعم ؛ المتيقن من السيرة وبناء العقلاء على كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده هو : ما إذا جرت عادة المتكلم على الركون إلى القرائن المتصلة ؛ بحيث يبيّن تمام

٤٦٣

من التمسك بالإطلاقات ، فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها (١) إلى جهة خاصة ، ولذا (٢) ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها مع عدم إحراز كون مطلقها (٣) بصدد البيان ، وبعد (٤) كونه ؛ لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع

______________________________________________________

مرامه في مجلس واحد ، ولا يعتمد في بيان مراده على القرائن المنفصلة ، فحينئذ إذا احتملنا عدم كون المطلق تمام الموضوع للحكم ـ كالرقبة ـ وأن الطبيعة جزء الموضوع ، فلا بأس بالتمسك بالأصل العقلائي المزبور ، والبناء على أن المطلق تمام مراده.

وأما إذا جرى دأب المتكلم على الاعتماد على القرائن المنفصلة لمصالح توجب ذلك ، فبناء العقلاء على جريان الأصل المذكور حينئذ غير ثابت ، والشك فيه يوجب التوقف عن إجرائه ؛ بل لا بد في الأخذ بالإطلاق من الوثوق ، والاطمئنان بكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده بهذا الكلام.

(١) يعني : صرف وجه الإطلاقات إلى جهة خاصة ، كانصراف إطلاق «ما لا يؤكل لحمه» إلى غير الإنسان من سائر الحيوانات التي لا يؤكل لحمها.

(٢) أي : لأجل هذه السيرة. وضمير «بها» يرجع إلى الإطلاقات.

(٣) بصيغة اسم الفاعل يعني : أنت ترى أن المشهور يتمسكون بالإطلاقات ، مع عدم إحراز كون مطلق المطلقات بصدد البيان ، وليس ذلك إلا لأجل الأصل المذكور.

(٤) بضم الباء وسكون العين وكسر الدال عطف على «عدم» في قوله : «مع عدم إحراز ..» إلخ يعني : مع بعد كون تمسّك المشهور بالإطلاقات لأجل ذهابهم إلى أنها موضوعة للشياع والسريان ، فيكون دفعا لما يتوهّم من أن يتمسك المشهور بالإطلاق ، مع عدم إحراز كون المتكلم في مقام البيان ، ليس من جهة كون الأصل عندهم عند الشك هو كون المتكلم في مقام البيان ؛ بل من جهة ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع والسريان ، بحيث يكون الشياع جزء الموضوع له ، فلا يحتاج انعقاد الإطلاق إلى مقدمات الحكمة ، ومنها كون المتكلم في مقام البيان لنحتاج في إحرازه إلى الأصل العقلائي المذكور.

وحاصل الدفع : أن ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع والسريان بعيد ؛ لما مر سابقا من وضع ألفاظ المطلق للماهية المبهمة المهملة ، التي لم يلاحظ شيء ولا قيد ، فالشيوع والسريان خارجان عما وضعت له ، ولعل وجه نسبة المطلق للمعنى المقرون بالشياع إلى المشهور : ملاحظة عدم الوجه في التمسك بالإطلاقات ، بدون إحراز كون المتكلم في

٤٦٤

والسريان ، وإن كان ربما نسب ذلك إليهم ، ولعل وجه النسبة ملاحظة أنه لا وجه للتمسك بها بدون الإحراز والغفلة (١) عن وجهه (٢) ، فتأمل جيّدا.

ثم إنّه قد انقدح بما عرفت ـ من توقف حمل المطلق على الإطلاق فيما لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على قرينة الحكمة المتوقفة على المقدمات المذكورة ـ أنه (٣)

______________________________________________________

مقام البيان ، وقد عرفت : أن الوجه في ذلك هو سيرة العقلاء.

(١) وغرضه : أن الداعي إلى نسبة وضع المطلق للماهية المقيدة بالشياع إلى المشهور أمران :

أحدهما : ملاحظة تمسكهم بالإطلاقات ، مع عدم إحراز كون المتكلم في مقام البيان ، مع لزوم إحرازه في التمسك بها.

ثانيهما : الغفلة عن وجه تمسكهم بها ، وهو الأصل العقلائي المذكور.

فهذان الأمران أوجبا التوجيه المزبور ـ أعني : نسبة وضع المطلق المشروط بالشياع إلى المشهور ـ لكنك قد عرفت وجه تمسكهم بالمطلقات وهو : إحراز كون المتكلم في مقام البيان بسيرة أهل المحاورات ، فالتوجيه المزبور غير سديد.

(٢) قوله : «عن وجهه» أي : وجه تمسك المشهور وهو سيرة أهل المحاورات.

«فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى ضعف التوجيه المزبور ، وأنه كيف يمكن نسبة المطلق المقيد بالشياع إلى المشهور ، وجعله وجها لتمسكهم بالإطلاقات ، مع إن فيهم من ينكر وضع المطلق له ، ويلتزم بكون الموضوع له نفس الماهية المهملة المعراة عن كل قيد من الشيوع وغيره كالسلطان ومن تبعه ، ومع ذلك يتمسك بالإطلاقات مع عدم العلم بكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٧٢٩».

لا إطلاق للمطلق فيما كان له الانصراف

(٣) فاعل «انقدح» ، والغرض من قوله : «انقدح» : بيان الانصراف الذي يكون قرينة مانعة عن الإطلاق ؛ إذ بعض أنواع الانصراف مما يوجب التعيين أو مما يوجب القدر المتيقن في مقام التخاطب ، فلا يجوز حينئذ التمسك بالإطلاق لعدم تمامية مقدمات الحكمة التي منها انتفاء ما يوجب التعيين ، ومنها انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.

وتوضيح ذلك : يتوقف على بيان أنواع الانصراف حتى نعلم أن أيّا منها يقيد المطلق فيكون مانعا عن  الإطلاق ، وأيّا منها لا يقيده فلا يكون مانعا عن :

الأول : الانصراف الخطوري ، الناشئ عن غلبة الوجود ، الموجبة لانصراف المطلق إليه ، كخطور ماء الفرات في ذهن أهل الكوفة ، وماء دجلة في ذهن أهل بغداد من لفظ ماء

٤٦٥

لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد ، أو الأصناف لظهوره

______________________________________________________

إذا قيل : «جئني بماء» ، وهذا الانصراف لا يقيد المطلق ولا يكون مانعا عن الإطلاق ؛ للقطع بعدم كون المنصرف إليه مرادا قبل التأمل وبعده ، ولا يزول بالتأمل.

الثاني : الانصراف البدوي ، الموجب للشك في إرادة المنصرف إليه ، الزائل بالتأمل ؛ مثل : انصراف لفظ «رجل» في نحو : «جئني برجل» إلى رجل ذي رأس واحد ، فهو لا يشمل رجلا ذا رأسين ، فيكون موجبا للشك في إرادة المنصرف إليه ، ثم يزول الشك بالتأمل.

ومنشأ هذا الانصراف البدوي : غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه ، الموجبة لأنس الذهن به ، وهذا الانصراف أيضا لا يقيد المطلق ، فلا يكون مانعا عن الإطلاق.

والفرق بينهما : أن هذا القسم يوجب الشك البدوي في إرادة المنصرف إليه من المطلق ويزول بالتأمل ، بخلاف سابقه فإنه لا يوجب الشك البدوي في إرادته منه ، ولا يزول بالتأمل ، فهما مشتركان في عدم تقييد المطلق ، ومفترقان في استقرار الأول وزوال الثاني.

الثالث : الانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهية في متفاهم العرف وهو على نحوين :

الأول : أن يكون التشكيك بمثابة يحكم العرف بخروج الفرد المنصرف عنه عن مصاديق المطلق ، كانصراف لفظ «ما لا يؤكل لحمه» عن الإنسان ، وعدم شموله له بنظرهم ، وصيرورة لفظ «ما يؤكل» ظاهرا في غير الإنسان ، ولذا جوّز الفقهاء الصلاة في شعره وظفره وبصاقه. ولا إشكال في كون هذا الانصراف مقيدا للإطلاق بغير المنصرف عنه ، لكون المطلق مع هذا التشكيك كاللفظ المحفوف بالقرينة اللفظية المتصلة في المنع عن انعقاد الظهور للمطلق في الإطلاق ، وموجب لظهوره في المنصرف إليه.

الثاني : أن يكون التشكيك بمثابة يشك العرف في خروج الفرد المنصرف عنه عن مصاديق المطلق ؛ كانصراف لفظ «الماء» عن ماء الزاج والنفط ، وهذا الانصراف وإن لم يكن موجبا لظهور اللفظ في المنصرف إليه ، ـ كما في الفرض السابق ـ إلّا إنه من قبيل اللفظ المحفوف بما يصلح للقرينية ، ومعه لا يكون اللفظ ظاهرا في الإطلاق ، لفقدان شرط الإطلاق وهو عدم احتفاف الكلام بالقرينة ، وبالصالح للقرينية ، فالانصراف في هذين الفرضين مانع عن التمسك بالإطلاق.

غاية الأمر : أن المطلق في الفرض الأول : ظاهر في المنصرف إليه ، وفي الثاني : مجمل ، فيؤخذ بالمنصرف إليه من باب القدر المتيقّن ؛ لا من باب الظهور اللفظي ، كما في سابقه.

٤٦٦

فيه ، أو كونه متيقنا منه ، ولو لم يكن ظاهرا فيه بخصوصه ، حسب اختلاف مراتب الانصراف كما إنه منها (١) ما لا يوجب ذا ولا ذاك ؛ بل يكون بدويا زائلا بالتأمل ، كما أنه منها (٢) ما يوجب الاشتراك أو النقل.

______________________________________________________

الرابع : الانصراف الناشئ عن بلوغ غلبة الاستعمال في فرد خاص أو صنف خاص حدّ المجاز المشهور عند تعارضه مع الحقيقة المرجوحة ، ولهذا إذا ذكر هذا اللفظ مطلقا وبلا قرينة وجب التوقف في المجاز ، ويحكم بالتقييد في المقام ؛ لما مر من فقدان شرط الإطلاق ، ومثال ذلك : كصيغة الأمر على القول بكونها حقيقة في الوجوب ، ولكن استعمالها في الندب مجازا مشهورا ؛ بحيث ساوى احتماله لاحتمال الحقيقة ، أو يرجح عليه على اختلاف بين الأعلام.

الخامس : الانصراف الناشئ عن بلوغ شيوع المطلق وغلبة استعماله في المنصرف إليه حد اشتراك لفظه بين المعنى الحقيقي الإطلاقي ، وبين المعنى المنصرف إليه ، قيل : بأنه لا يحمل على أحدهما إلا بالقرينة المعيّنة ، فهذا الانصراف يمنع أيضا عن الأخذ بالإطلاق ، كما إذا فرض : أن «الصعيد» وضع لمطلق وجه الأرض ، ثم استعمل كثيرا في خصوص التراب الخالص بحيث صار مشتركا بينهما ، فإذا قال المولى : «تيمم بالصعيد» لا يحمل على المطلق إلا بالقرينة ؛ لكن فيه أنه يحمل على المنصرف إليه ـ وهو التراب الخالص ـ لأن كثرة الاستعمال قرينة أو صالحة للقرينية على الحمل على المعنى المنصرف إليه ؛ كما تقدم من توقف الإطلاق على عدم ما يصلح للقرينية ؛ فلا يجوز التمسك بالإطلاق.

السادس : الانصراف الناشئ عن بلوغ كثرة الاستعمال حدّ النقل ومهجورية المعنى المطلق ، ومثال ذلك : لفظ الفعل فإنه وضع لغة للمعنى المصدري أعني : مطلق الحدث الصادر عن فاعل ، ثم نقل في عرف النحاة إلى نوع خاص من الكلمة التي تدل على معنى في نفسها ، مع اقتران معناها بأحد الأزمنة.

ويحمل اللفظ على المنصرف إليه ، فيكون مانعا عن الإطلاق.

فالمتحصل : أن الانصراف بجميع أقسامه مانع عن الإطلاق إلا القسمين الأولين ؛ لأن بعضها يقيّد المطلق ، وبعضها مما يوجب التعيين ، أو القدر المتيقن ، أو الإجمال ، فيسقط المطلق عن الإطلاق.

(١) أي : من مراتب الانصراف ما لا يوجب الظهور ، ولا كونه متيقّنا من المطلق ؛ كالقسم الأول والثاني.

(٢) أي : ومن مراتب الانصراف ما يوجب الاشتراك أو النقل كالقسم الخامس والسادس.

٤٦٧

لا يقال : كيف يكون ذلك (١) ، وقد تقدم : أن التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق أصلا؟

فإنّه يقال (٢): ـ مضافا إلى أنه إنما قيل لعدم استلزامه له لا عدم إمكانه ، فإن

______________________________________________________

(١) أي : كيف يكون الانصراف موجبا لحصول الاشتراك أو النقل؟ يعني : لا يكون الانصراف موجبا لحصولهما مع توقفهما على المجازية ، وقد عرفت سابقا : أن استعمال المطلق وإرادة المقيّد لا يستلزم التجوّز أصلا.

وحاصل الإشكال : أن بلوغ الانصراف حدّ الاشتراك أو النقل إنما يعقل على مسلك من يرى التقييد مجازا ، فيستعمل المطلق في المقيد مجازا ، ويكثر الاستعمال فيه شيئا فشيئا إلى أن يصل حدّ الوضع التعيّني ، فيحصل الاشتراك أو النقل بأن يصير مثل : لفظ الرقبة ـ لكثرة استعماله في الرقبة المؤمنة ـ مشتركا لفظيا بين مطلق الرقبة ، وبين الرقبة المؤمنة ؛ بل منقولا إلى الرقبة المؤمنة.

وأما على ما هو مختار المصنف ـ من عدم كون التقييد مجازا أصلا نظرا إلى وضع المطلق للماهية اللابشرط المقسمي وأنه مستعمل فيها دائما وأن الخصوصية تستفاد من القيد بنحو تعدد الدال والمدلول ـ فلا يكاد يعقل ذلك ؛ إذ لا معنى لأن يكثر استعمال المطلق في معناه الموضوع له ـ وهو الماهية اللابشرط المقسمي ـ ويصير حقيقة في المقيد الذي لم يستعمل فيه المطلق أصلا.

فالانصراف المؤدي إلى الاشتراك أو النقل مجرد فرض له ، لا تحقق له خارجا.

(٢) وقد أجاب عنه المصنف بجوابين :

الجواب الأول : ما أشار إليه بقوله : «مضافا» ، وحاصله : أن ما تقدم من المختار هو : إن التقييد لا يستلزم التجوّز لا أنه لا يمكن التقييد على نحو يوجب التجوز ؛ إذ من الممكن أن يستعمل المطلق في المقيد مجازا لا بنحو تعدد الدال والمدلول ، ويكثر ذلك شيئا فشيئا إلى أن يصل حدّ الاشتراك أو النقل.

فالمتحصل : أن ما تقدم من أن التقييد لا يوجب التجوّز يراد به نفي استلزام التجوّز لا نفي إمكانه. بمعنى : إن التقييد لا يوجب التجوّز في المطلق ، لا أن استعماله وإرادة المقيد منه يمتنع أن يكون على نحو التجوّز ؛ بل يمكن فيه كل من الاستعمال الحقيقي والمجازي الأول في فرض تعدد الدال والمدلول ، والثاني في استعمال المطلق في المقيد مجازا ، فلا وجه للإشكال المزبور لأنه مبنيّ على إمكان المجاز ، وقد عرفت إمكانه.

الجواب الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أن كثرة إرادة المقيد ..» إلخ. وحاصله : منع توقف الاشتراك والنقل على المجازية ؛ لأن كثرة إرادة المقيد من المطلق ـ ولو من باب تعدد

٤٦٨

استعمال المطلق في المقيد بمكان من الإمكان ـ إن كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق ولو بدال آخر ربّما تبلغ بمثابة توجب له (١) مزية أنس ؛ كما في المجاز المشهور ، أو تعيّنا (٢) واختصاصا به ؛ كما في المنقول بالغلبة ، فافهم.

______________________________________________________

الدال والمدلول مثل «أعتق رقبة مؤمنة» ـ ربما توجب مزية أنس للمقيد مع عدم استعمال اللفظ فيه مجازا ، ويشتد هذا الأنس بالاستعمالات تدريجا إلى أن يصل إلى حد الحقيقة في المعنى الثاني ، فيصير لفظ المطلق مشتركا بين معناه الأصلي ، وبين معناه الثانوي الحاصل بالاستعمالات التدريجية ، فإن هجر معناه الأول وبقي الثاني صار منقولا.

فالنتيجة هي : أن يصل لفظ المطلق بواسطة كثرة الاستعمالات الواقعة بنحو تعدد الدال والمدلول إلى مرتبة الاشتراك أو النقل.

(١) أي : للمقيد ، يعني : أن كثرة إرادة المقيد من المطلق بتعدد الدال توجب للمقيد مزية أنس ، كما يحصل الأنس بسبب القرينة في المجاز المشهور ، كما إذا استعمل لفظ الصلاة كثيرا مع القرينة في الأركان المخصوصة ، وصارت كثرة الاستعمال مع القرينة الموجبة للأنس ، بحيث صار لفظ الصلاة مجازا مشهورا في الأركان ، وكلفظ الدابة الموضوع لمطلق ما يدب على الأرض ، ثم استعمل كثيرا في الفرس مع القرينة المعيّنة حتى صار منقولا.

(٢) عطف على «مزية» يعني : أن كثرة إرادة المقيد توجب مزية أنس بالمقيد ، كما في المجاز المشهور ، «أو تعيّنا واختصاصا به» أي : بالمقيد ، كما في المنقول بالغلبة.

وكيف كان ؛ فالظاهر من المصنف هو : كون الانصراف البالغ حدّ المجاز المشهور والاشتراك والنقل مقيّدا للإطلاق ، ومانعا عن التمسك به.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى الإشكال في حصول الاشتراك والنقل من كثرة استعمال لفظ المطلق في المقيد ، بنحو تعدد الدال والمدلول ؛ إذ لا وجه لاستعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، وصيرورته بذلك حقيقة في أمر آخر لم يستعمل فيه اللفظ أصلا ، حتى يتحقق الاشتراك أو النقل.

أو إشارة إلى الفرق بين المجاز المشهور والمنقول بالغلبة ، وهو : أن مزية الأنس بين اللفظ والمعنى الثاني لم تصل إلى حدّ الوضع والحقيقة في المجاز المشهور ، ولكن مزية الأنس بين اللفظ والمعنى المنقول إليه وصلت إلى حد الوضع والحقيقة ، ولذا يتوقف في المجاز المشهور ، ولا يحمل اللفظ على معناه الحقيقي من باب أصالة الحقيقة ، ولا يتوقف في المنقول فيحمل اللفظ على المعنى الثاني المنقول إليه بلا توقف أصلا.

٤٦٩

تنبيه (١):

وهو أنه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة ، كان واردا في مقام البيان من جهة منها ، وفي مقام الإهمال أو الإجمال من أخرى ، فلا بد في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة ، ولا يكفي كونه بصدده من

______________________________________________________

إذا كان للمطلق جهات عديدة

(١) توضيح ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في هذا التنبيه : أن القيد الذي يحتمل اعتباره في موضوع الحكم تارة : يكون واحدا ، وأخرى : متعددا ، فموضوع الحكم في الأول : يكون ذا جهة واحدة ، وفي الثاني : ذا جهات متعددة بمقدار تعدد القيود ، ومحل الكلام هو الاحتمال الثاني ، فحينئذ إذا كان المتكلم في مقام البيان ـ بالنسبة إلى جميع الجهات والقيود ، ولم تكن قرينة على أحدها كان الكلام مطلقا من جميع الجهات ـ فلا بد من التمسك بالإطلاق في جميعها إلا إن كون المتكلم في مقام البيان من جميع الجهات لم يتفق في شيء من إطلاقات الكتاب والسنّة.

وكيف كان ؛ فإذا كان المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى فلا مانع من التمسك بإطلاق كلامه من الجهة التي كان في مقام البيان من تلك الجهة دون الجهة الأخرى ، فلا يجوز التمسك بإطلاق قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ)(١) لطهارة موضع عضّ الكلب المعلم ؛ وذلك لأنه ليس في مقام بيان الطهارة والنجاسة حتى يصح التمسك بالإطلاق لطهارة موضع العض ، وإنما هو لبيان الحلية فقط ، فإنه إذا شك في اعتبار الإمساك من الحلقوم في التذكية والحلية وعدم اعتباره ، فلا مانع من التمسك بإطلاق الآية الكريمة من هذه الناحية ، والحكم بعدم اعتبار الإمساك من الحلقوم ، فالنتيجة هي : نجاسة موضع العضّ والحكم بالحلية وإن لم يكن الإمساك من الحلقوم ، ولهذا أوردوا (٢) على شيخ الطائفة «قدس‌سره» حيث استدل على طهارة موضع عضّ الكلب بإطلاق قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) مع وروده في مقام بيان الحلية ، ولا يرتبط بجهة الطهارة والنجاسة.

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) وممن أورد عليه : الشهيد في المسالك ، ج ١١ ، ص ٤٤٣ ، والشيخ محمد حسن في الجواهر ، ج ٣٦ ، ص ٦٧ ، والنراقي في المستند ، ج ١٥ ، ص ٣٦٠.

٤٧٠

جهة أخرى (١) ، إلا إذا كان بينهما (٢) ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) يعني : أن كون المتكلم بصدد البيان من جهة ـ كالحلية في المثال المزبور ـ لا يكفي في الحمل على الإطلاق من الجهة الأخرى التي لم يكن المتكلم بصدد بيانها ؛ كالطهارة في المثال المذكور.

(٢) أي : إلا إذا كان بين الجهتين ملازمة ؛ بحيث يكون البيان من إحداهما ملازما لثبوت الحكم من الجهة الأخرى التي هي غير مقصودة بالبيان ، فيكون الكلام حجة في كلتا الجهتين ؛ لأن الحجة على أحد المتلازمين حجة على الآخر ، سواء كانت الملازمة عقلية أو شرعية أو عادية.

ومثال الأول : ما ورد في صحة الصلاة في ثوب فيه عذرة ما لا يؤكل لحمه من حيث النجاسة عند الجهل بها أو نسيانها ؛ كقوله «عليه‌السلام» : «لا بأس بالصلاة في عذرة غير المأكول ناسيا» (١) ، فإنّ نفي مانعيتها من حيث النجاسة ملازم لنفيها من حيث الجزئية لغير المأكول ؛ بناء على جزئية العذرة للحيوان ، فإنه يدل عقلا على صحة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه عند النسيان أو الجهل ، إذ ـ بناء على جزئية العذرة ـ لا فرق في نظر العقل في الحكم بصحة الصلاة بين الأجزاء من العذرة وغيرها ، وإن كان الكلام مسوقا لبيان حكم العذرة.

ومثال الثاني : كما إذا كان دليل على وجوب قصر الصلاة على المسافر في مورد ، فإنه يدل على وجوب الإفطار عليه في ذلك المورد أيضا ؛ للملازمة الشرعية بينهما الثابتة بمثل قول أبي عبد الله «عليه‌السلام» : «إذا قصرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصرت» (٢) ، فالدليل على أحدهما دليل على الآخر.

ومثال الثالث : مثل ما إذا ورد «أنه لا بأس بالصلاة في جلد الميتة» (٣) ، ومن المعلوم أن وقوع الصلاة في جلد الميتة ملازم غالبا وعادة لوقوعها في النجاسة إلا في جلد السمك ، فالحكم بصحة الصلاة من حيث وقوعها في جلد الميتة ملازم للحكم بصحتها في النجاسة أيضا.

ومثل : ما ورد في طهارة سؤر الهرة ، مع إن الغالب عدم خلو موضع السؤر عن

__________________

(١) في الكافي ، ج ٣ ، ص ٤٠٤ ، ح ٢ / التهذيب ، ج ٢ ، ص ١٣٥٩ ، ح ١٩ : «... إن كان لم يعلم فلا يعيد».

(٢) التهذيب ، ج ٣ ، ص ٢٢٠ ، ح ٦٠ / الفقيه ، ج ١ ، ص ٤٣٧ ، ح ١٢٦٩.

(٣) هناك روايات ترخص في الجلد المملوح : التهذيب ، ج ٩ ، ص ٧٨ ، ح ٦٧ ، وروايات تمنع من ذلك : الفقيه ، ج ١ ، ص ٢٤٧ ، ح ٧٤٩.

٤٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

النجاسة ، فإن إطلاق ما دل على طهارة سؤر الهرة وإن كان ناظرا إلى حكم الهرة من حيث ذاتها ـ كما يظهر من النصوص ـ إلّا إن النجاسة العرضية الحاصلة بملاقاة الميتة ـ لمّا كانت مقارنة لموضع السؤر غالبا ـ كان إطلاق دليل الطهارة مقتضيا لطهارة السؤر مطلقا ولو كان موضع السؤر قبل الملاقاة ملاقيا للنجاسة ؛ وإلا لوجب التنبيه على نجاسته.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ في مقدمات الحكمة : ومورد الحاجة إليها إنما هو بناء على تفسير المطلق بالماهية المبهمة ؛ إذ لا مجال عليه للتمسك بأصالة الحقيقة في إحراز الإطلاق ، لأن المقيد لا يكون مخالفا لما تقتضيه أصالة الحقيقة ، فلا بد في إحراز الإطلاق في مقام الشك أن يتمسك بمقدمات الحكمة وهي مركبة من ثلاثة مقدمات :

إحداهما : كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده ، فإذا قال : «أعتق رقبة» وكان المتكلم في مقام بيان تمام مراده من وجوب مطلق الرقبة يؤخذ بإطلاق كلامه ويكون إطلاق كلامه حجة.

والمقصود من كون المتكلم في مقام البيان هو : إفهام تمام ما أراد بيانه ، سواء كان مرادا جديا أم مرادا استعماليا لضرب قاعدة يرجع إليها عند الشك وعدم حجة أقوى على خلافه.

وثانيتها : انتفاء ما يوجب التعيين ؛ يعني : عدم القرينة المعيّنة للمراد ؛ إذ معها يكون المراد متعينا ، فلا حاجة إلى الإطلاق في إثبات ما هو المراد.

وثالثتها : انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب ؛ إذ معه يصح أن يعتمد المتكلم عليه في مقام التخاطب إذا كان ذلك القدر المتيقن متبادرا من اللفظ إلى ذهن المخاطب ، نعم ؛ إذا كان القدر المتيقن مستندا إلى ما هو خارج عن مقام التخاطب : فوجوده غير مضر بالإطلاق ، فلا يكون عدمه شرطا للإطلاق.

٢ ـ إذا تمت مقدمات الحكمة ، ولم يرد المتكلم الإطلاق فقد أخلّ بغرضه ، وحيث إن الإخلال بالغرض قبيح فلا محيص عن إرادة الإطلاق ، وأما مع انتفاء إحدى المقدمات :

فلا يلزم الإخلال بالغرض لو لم يكن الإطلاق مرادا للمتكلم.

قوله : «فافهم» لعلّه إشارة إلى دفع توهم بتقريب : إنه لا موضوع للإطلاق مع الدليل

٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

على التقييد ، فلا يجوز التمسك بالإطلاق بعد الظفر بمقيد منفصل ؛ لكشف القيد عن عدم كون المتكلم بصدد تمام مراده ، وأنه كان في مقام الإهمال أو الإجمال ، مع إن السيرة استقرت على التمسك بالإطلاقات بعد الظفر بالمقيد أيضا.

وحاصل الدفع : أن مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الاستعمالي لا المراد الجدّي ، والمطلق مراد بالإرادة الجدية ، فلا يكون المقيد المنفصل كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان حتى يقال : لا يصح التمسك بالإطلاق لكشف المقيد المنفصل عن عدم كون المتكلم في مقام البيان.

٣ ـ أن الأصل هو : كون المتكلم في مقام البيان عند الشك في كونه في مقام البيان. هذا أصل عقلائي جرت عليه سيرة أبناء المحاورة ، حيث إنهم يتمسكون بالإطلاقات مع عدم علمهم بكون المتكلم في مقام البيان.

قوله : «وبعد كونه لأجل ذهابهم ..» إلخ دفع لما يتوهم من : إن تمسك المشهور بالإطلاقات مع عدم إحراز كون المتكلم في مقام البيان ليس من جهة كون الأصل عندهم هو كون المتكلم في مقام البيان ؛ بل من جهة ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع والسريان ، بحيث يكون الشيوع جزء الموضوع له للمطلق ، فلا حاجة حينئذ إلى مقدمات الحكمة ـ ومنها كون المتكلم في مقام البيان ـ كي نحتاج في إحرازه إلى الأصل العقلائي.

وحاصل الدفع : أن ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع والسريان بعيد ؛ لما مر سابقا من وضع المطلق للماهية المهملة التي لم يلاحظ معها شيء ، ولعل وجه نسبة وضع المطلق للمعنى المقرون بالشياع إلى المشهور ملاحظة عدم الوجه في التمسك بالإطلاقات ، بدون إحراز كون المتكلم في مقام البيان ، وقد عرفت : أن الوجه في ذلك هو : سيرة العقلاء على كون المتكلم في مقام البيان عند الشك في كونه كذلك.

٤ ـ لا إطلاق للمطلق فيما كان له الانصراف إلى بعض الأفراد ، ثم الانصراف وإن كان على أقسام إلّا إن المانع من الإطلاق هو بعض أقسامه ؛ بأن يكون الانصراف موجبا لظهور المطلق في بعض أفراده ، أو موجبا لتعيين بعض الأفراد ، أو الموجب للاشتراك والنقل ؛ إذ من مقدمات الحكمة : انتفاء ما يوجب التعيين ، فإذا كان الانصراف مما يوجب تعيين بعض الأفراد كان مانعا عن التمسك بالإطلاق ؛ لعدم تحقق الإطلاق مع انتفاء المقدمة الثانية من مقدمات الحكمة.

٤٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

٥ ـ الإشكال على بلوغ الانصراف حد الاشتراك أو النقل.

وحاصل الإشكال : أن بلوغ الانصراف حدّ الاشتراك أو النقل إنما يعقل على مسلك من يرى التقييد مجازا ؛ لأن الاشتراك أو النقل فرع للمجاز بأن يستعمل المطلق في المقيد مجازا ، ويكثر الاستعمال فيه شيئا فشيئا إلى أن يصل حدّ الوضع ، فيحصل الاشتراك أو النقل بأن يصير لفظ الرقبة لكثرة استعماله في الرقبة المؤمنة مشتركا لفظيا بين مطلق الرقبة وبين الرقبة المؤمنة ؛ بل منقولا إلى الرقبة المؤمنة.

وأما على ما هو مختار المصنف من عدم كون التقييد مجازا أصلا : فلا يكاد يحصل ذلك ؛ إذ لا معنى لأن يكثر استعمال المطلق في معناه الموضوع له ، ثم يصير حقيقة في المقيد الذي لم يستعمل فيه المطلق أصلا.

فالانصراف المؤدي إلى الاشتراك أو النقل مجرد فرض لا تحقق له خارجا.

وقد أجاب المصنف عنه بوجهين :

الأول : أن ما تقدم من المختار هو : أن التقييد لا يستلزم التجوّز ، لا أنه لا يمكن التقييد على نحو يوجب التجوّز ، فمن الممكن أن يستعمل المطلق في المقيد مجازا ويكثر ذلك إلى أن يصل حدّ الوضع ، فيحصل الاشتراك أو النقل.

الثاني : منع توقف الاشتراك والنقل على المجازية ؛ لأن كثرة إرادة المقيد من المطلق ـ ولو بنحو تعدد الدال والمدلول ـ ربما توجب مزية أنس للمقيد ، ويشتد هذا الأنس بالاستعمالات إلى أن يصل حدّ الحقيقة في المعنى الثاني ، فيصير مشتركا بين المعنى الأول والثاني ، أو منقولا من المعنى الأول إلى المعنى الثاني.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى الإشكال في حصول الاشتراك والنقل من كثرة استعمال لفظ المطلق في المقيد بنحو تعدد الدال والمدلول ؛ إذ لا وجه لاستعمال اللفظ في معناه الموضوع له وصيرورته بذلك حقيقة في أمر آخر لم يستعمل فيه اللفظ أصلا حتى يحصل الاشتراك أو النقل.

٦ ـ إذا كان للمطلق جهات عديدة ، وكان المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات دون الجميع فلا مانع من التمسك بالإطلاق من الجهة التي كان في مقام بيانها ، دون الجهة الأخرى التي لم تكن مقصودة بالبيان ، فلا يجوز التمسك بإطلاق قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) لطهارة موضع عضّ الكلب ؛ وذلك لأنه ليس في مقام بيان الطهارة والنجاسة حتى يصح التمسك بالإطلاق لطهارة موضع العض ، وإنما هو لبيان الحليّة فقط.

٤٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فإذا كان المتكلم بصدد البيان من جهة دون أخرى لا يصح التمسك بالإطلاق من الجهة الأخرى ؛ إلا إذا كان بين الجهتين ملازمة بحيث يكون البيان من إحداهما ملازما لثبوت الحكم من الجهة الأخرى ؛ لأن الحجة على أحد المتلازمين حجة على الآخر سواء كانت الملازمة عقلية أو شرعية أو عادية.

وأما مثال الملازمة العقلية : فكقوله «عليه‌السلام» : «لا بأس بالصلاة في عذرة غير المأكول ناسيا» ، فإن نفي مانعيّتها من حيث النجاسة ملازم لنفيها من حيث الجزئية بناء على جزئية العذرة للحيوان ؛ إذ لا فرق في نظر العقل في الحكم بصحة الصلاة بين الأجزاء من العذرة وغيرها ، وإن كان الكلام مسوقا لبيان حكم العذرة.

وأما الملازمة الشرعية الثابتة بمثل قول الإمام الصادق «عليه‌السلام» : «إذا قصرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصرت» : فالدليل على أحدهما دليل على الآخر.

وأما الملازمة العادية : فمثل ما إذا ورد : «أنه لا بأس بالصلاة في جلد الميتة» ، ومن المعلوم : أن وقوع الصلاة في جلد الميتة ملازم عادة لوقوعها في النجاسة إلا في جلد السمك ، فالحكم بصحة الصلاة من حيث وقوعها في جلد الميتة ملازم للحكم بصحتها في النجاسة.

٧ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ مقدمات الحكمة ثلاث.

٢ ـ المراد بالبيان هو بيان القاعدة التي يرجع إليها عند الشك وعدم حجة اقوى على خلافه ؛ لا بيان الواقع بالإرادة الجدّية.

٣ ـ الأصل عند الشك في كون المتكلم في مقام البيان هو كونه في مقام البيان.

٤ ـ لا يجوز التمسك بالإطلاق من جميع الجهات عند تعددها ؛ بل يجوز التمسك به من الجهة التي كان المقصود بيانها.

٤٧٥
٤٧٦

فصل

إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيين (١) ، فإما يكونان مختلفين في الإثبات والنفي ، وإما

______________________________________________________

في حمل المطلق على المقيّد

(١) إشارة إلى محل الكلام ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن المطلق والمقيد تارة لا يكونان متنافيين مثل : ما إذا تعدد الحكم ولو بتعدد السبب نحو : «إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة» ومثل : ما إذا أمر المولى بإتيان الماء على نحو الإطلاق ، وكان غرضه منه غسل الثوب مثلا ، فقال : «جئني بالماء» ، ثم أمر بإتيان الماء البارد لأجل الشرب ، فلا ريب في عدم التنافي بينهما في المثالين.

وأخرى : يكونان متنافيين ، والضابط في التنافي بينهما : أن لا يمكن الجمع بينهما مع حفظ أصالة الظهور فيهما ، والتنافي بهذا المعنى إنما هو فيما إذا كان الحكم واحدا مثل : «إن ظاهرت فاعتق رقبة ، وإن ظاهرت فلا تعتق رقبة كافرة» ؛ لأن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب ، وصيغة النهي ظاهرة في الحرمة ، فالأولى : تدل على وجوب عتق مطلق الرقبة مؤمنة كانت أم كافرة ، والثانية : تدل على حرمة عتق الرقبة الكافرة ، فلا يمكن الحمل بين وجوب عتق الكافرة وحرمة عتقها للتنافي بينهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو القسم الثاني ، ثم الصور والاحتمالات في المقام وإن كانت كثيرة إلا إننا نكتفي بما ذكره المصنف من كونهما مختلفين في الإثبات والنفي ، أو متوافقين فيهما.

فيقع الكلام تارة : في المقيد الذي يكون مخالفا للمطلق في الحكم كالمثال الأول المذكور في المتن.

وأخرى : في المقيد الذي يكون موافقا فيه كالمثال الثاني.

وأما الأول : فقد تسالم الأصحاب فيه على حمل المطلق على المقيد فيقيد الرقبة في المثال الأول بغير الكافرة

وأما الثاني : فالمشهور فيه هو حمل المطلق على المقيد ، وهناك قول بحمل المقيد على أفضل الأفراد ، هذا ما أشار إليه بقوله : «وقد أورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر ..» إلخ.

٤٧٧

يكونان متوافقين ، فإن كانا مختلفين : مثل : أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة ، فلا إشكال في التقييد.

وإن كانا متوافقين : فالمشهور فيهما الحمل والتقييد (١). وقد استدلّ بأنه (٢) جمع بين الدليلين وهو أولى.

وقد أورد عليه (٣) بإمكان الجمع على وجه آخر (٤) مثل : حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

وأورد عليه (٥) : بأن التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ ، وإنما هو تصرّف في

______________________________________________________

(١) يعني : يحمل المطلق على المقيد ، ويقال : إن المراد الجدّي هو المقيد ، فالمطلق هو عتق الرقبة المؤمنة ؛ لا كل رقبة.

(٢) أي : أن الحمل والتقييد جمع بين الدليلين ، وقد قيل : «إن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح» ، وأمّا كون التقييد جمعا بين المطلق والمقيّد ؛ فلأنه يؤخذ بكل منهما ، حيث أن المطلق يصير جزء الموضوع ، ففي «أعتق رقبة» الظاهر في كون الرقبة تمام الموضوع لوجوب العتق يجعل الرقبة جزء الموضوع ، وفي «أعتق رقبة مؤمنة» يجعل المؤمنة جزءا آخر لموضوع وجوب العتق ، فنتيجة الجمع بينهما : كون الموضوع مركبا من الرقبة والإيمان. «وهو أولى» أي : الجمع بين الدليلين أولى من الطرح ، والمقام من صغريات تلك القاعدة.

(٣) أي : أورد على الجمع المذكور بإمكان الجمع على وجه آخر ؛ كحمل الأمر فيهما على التخيير ، أو حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

توضيح الإيراد ـ على ما في «منتهى الدراية» ـ أن الكبرى ـ وهي أولوية الجمع من الطرح ـ وإن كانت مسلّمة ، إلّا إن صغراه لا تنحصر في الجمع المزبور ؛ بل يمكن الجمع بين المطلق والمقيد بوجه آخر ، وهو حمل الأمر في المقيد كقوله : «أعتق رقبة مؤمنة» على الاستحباب لمزية فيها أوجبت ذلك ؛ وإبقاء المطلق على إطلاقه ، فيجزي حينئذ عتق الرقبة مطلقا وإن كانت كافرة ؛ لكن عتق المؤمنة أفضل ، وهذا جمع حكمي ، كما أن سابقه جمع موضوعي.

(٤) يعني : غير الجمع الأول الذي هو جمع موضوعي كما عرفت.

(٥) أي : أورد على هذا الإيراد المذكور بما حاصله. من أن الجمع الأول ـ وهو حمل المطلق على المقيد ـ أولى من الجمع الثاني وهو حمل الأمر في المقيد على الاستحباب ؛ وذلك لأن حمل المطلق على المقيد ليس تصرفا في معنى لفظ المطلق ؛ لما عرفت من أن

٤٧٨

وجه (١) من وجوه المعنى (٢) اقتضاه (٣) تجرده عن القيد ، مع تخيّل وروده في مقام بيان تمام المراد ، وبعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإجمال ، فلا إطلاق فيه (٤) حتى يستلزم تصرّفا ، فلا يعارض ذلك (٥) بالتصرف في المقيد بحمل أمره على الاستحباب.

______________________________________________________

إرادة المقيد إنما هو بتعدد الدال والمدلول ؛ لا باستعمال المطلق في المقيد حتى يكون مجازا ، فلا يلزم من حمل المطلق على المقيد تصرّف في معنى المطلق ؛ بل يلزم منه تصرّف في وجه من وجوه المعنى ، حيث إن تجرد لفظ المطلق الموضوع لنفس الطبيعة يقتضي سعة دائرة انطباقه على الأفراد ، والتقييد تصرّف في هذا الوجه ، ومن المعلوم : عدم كونه تصرّفا في نفس المعنى الذي وضع له اللفظ وهو نفس الطبيعة ؛ بل في وجهه الذي اقتضاه تجرّد اللفظ عن القرينة ، حيث إن لفظ المطلق المجرد عن كل قيد يقتضي سعة الانطباق المعبر عنها بالسريان والشيوع.

وهذا بخلاف حمل الأمر في المقيد على الاستحباب ؛ لأنه تصرف في نفس معنى الأمر الذي هو حقيقة في الوجوب ، فلا ينبغي الإشكال في تعيين حمل المطلق على المقيد عند الدوران بينه وبين حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

(١) أي : الإطلاق المقتضي للشيوع والسريان المسبّب عن تجرّد اللفظ عن القرينة.

(٢) أي : معنى المطلق وهو نفس الطبيعة.

(٣) أي : اقتضى ذلك الوجه تجرّد اللفظ عن القرينة.

(٤) أي : فلا إطلاق في لفظ المطلق حتى يستلزم التقييد تصرفا فيه ؛ بل كان الإطلاق أمرا خياليا ، حيث تخيّل المخاطب ورود اللفظ المطلق في مقام بيان تمام المراد بزعم تمامية مقدمات الحكمة ، مع إن المتكلم ليس في مقام بيان تمام المراد ، وحينئذ فلا إطلاق أصلا ، فلا يتعارض تقييد المطلق مع حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.

وجه عدم المعارضة : انتفاء موضوعها ؛ إذ موضوعها : دوران الأمر بين التصرفين وارتكاب خلاف أحد الظاهرين ، وقد عرفت : إن حمل المطلق على المقيد ليس تصرّفا في المطلق ، وليس التقييد مخالفا للظاهر. هذا بخلاف حمل الأمر في المقيد على الاستحباب ، حيث إنه تصرف في نفس معنى اللفظ ، حيث إن الأمر ظاهر في الوجوب ، فيكون مخالفا للظاهر ، فالجمع الأول لا يستلزم خلاف الظاهر ، بخلاف الجمع الثاني فإنه مستلزم لارتكاب خلاف الظاهر ، فمع إمكان الجمع الأول لا تصل النوبة إلى الجمع الثاني.

(٥) أي : تقييد المطلق بالمقيد ، وقد عرفت وجه عدم المعارضة.

٤٧٩

وأنت (١) خبير بأن التقييد أيضا يكون تصرفا في المطلق. لما عرفت من إن الظفر

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فقد أورد المصنف على من أورد على الإيراد الوارد على جمع المشهور بوجهين ؛ وهما ما أشار إليه بقوله : «وأنت خبير» ، وما أشار إليه بقوله : «مع إن حمل الأمر في المقيد على الاستحباب».

(١) ردّ المصنف جواب من أجاب عن الإشكال الوارد على قول المشهور بوجهين :

أحدهما : أن ما ذكره في دفع الإشكال على المشهور من أن التصرف بحمل أمر المقيد على الاستحباب تصرف في نفس المعنى ، بخلاف التقييد حيث ليس التصرف فيه في نفس المعنى ؛ بل في وجه من وجوه المعنى ، فليس التقييد على خلاف الظاهر «مخدوش» ؛ بأن التقييد أيضا خلاف الظاهر لأن الظاهر كون المطلق في مقام بيان الحكم الظاهري قاعدة وقانونا ، نظير كلام المجري لقانون الدولة مثل أن يقال : «على كل من بلغ عمره عشرين عاما أن يحضر خدمة النظام» ، فهذا البيان للحكم الظاهري قاعدة وضربا للقانون ، فالمطلق ظاهر في الإطلاق ، والتقييد على خلاف الظاهر أيضا. أي : كما أن حمل أمر المقيد على الاستحباب على خلاف الظاهر. فالجواب عن الإيراد على المشهور ليس بتام.

وثانيهما : وهذا الوجه ناظر إلى ما أفاده المورد من : أن حمل أمر المقيد تصرّف في معنى الأمر ، فيلزم المجاز.

وحاصل هذا الوجه : إنكار مجازية حمل أمر المقيد على الاستحباب ؛ وذلك ، لأن ملاك الوجوب في المقيد كالرقبة المؤمنة التي هي من أفراد المطلق ـ أعني الرقبة ـ يمنع عن اتصافه بالاستحباب ؛ لاندكاك ملاكه في ملاك الوجوب. فالمراد بالاستحباب حينئذ : أفضلية المقيد من سائر أفراد الواجب ، دون الاستحباب المصطلح ، كما هو الحال في استحباب الجماعة في الصلوات الواجبة ، فإن صلاة الجماعة واجبة واستحبابها بمعنى أفضليتها من الفرادى.

وعليه : فلا مجال لترجيح التقييد على حمل الأمر في المقيد على الاستحباب ، بدعوى : استلزام الثاني للمجاز دون الأول ، فلا مرجّح للتقييد على صاحبه ؛ لدوران الأمر بين هذين التصرفين من دون استلزام شيء منهما للمجاز.

وكيف كان ؛ فحمل الأمر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوّزا فيه أي : في الأمر ، فإن الأمر مستعمل في الوجوب ، والمقيد لا يكون مستحبا اصطلاحيا في مقابل الوجوب ؛ بل بمعنى أفضل أفراد الواجب ، فلا يلزم اجتماع الضدين في محل واحد ؛ بل يلزم اجتماع الوجوب والأفضلية في المقيد ، نظير أفضلية صلاة الجماعة ، فيكون المقيد من أفراد المطلق.

٤٨٠