دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بفعل أولا وتعلقها بتركه ثانيا ، مع عدم تغيّر الفعل أصلا لا ذاتا ولا جهة.

الثاني : لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ؛ لأن الحكم تابع للملاك والمصلحة ، فيلزم امتناع النسخ إن كان مشتملا على الملاك ، أو امتناع الحكم المنسوخ وإن لم يكن في الفعل مصلحة مقتضية للأمر به.

والجواب عن كلا الوجهين : أن النسخ يكون بمعنى الدفع ، فلا يلزم شيء من المحذورين.

٤ ـ البداء في التكوينيات : هو : بمعنى إظهار ما خفي بمكان من الإمكان ، والمستحيل في حقه تعالى هو : البداء بمعنى ظهور ما خفي ، لكونه مستلزما للجهل.

فالحاصل : أن البداء في التكوينيات هو إظهار ثبوت شيء لمصلحة ، مع عدم ثبوته واقعا ، وعدم تعلق إرادة جدّية بثبوته ، والنبي والولي المأمور بإظهاره قد يكون عالما بحقيقة الحال وأنه لا ثبوت له واقعا. وقد لا يكون عالما بها.

٥ ـ الثمرة بين التخصيص والنسخ فيما إذا دار الأمر بينهما من وجوه : منها : أن الخاص الوارد بعد العام إن كان مخصصا خرج عن حكم العام من الأول ، وإن كان ناسخا خرج عن حكمه من حين النسخ.

وأما الخاص الوارد قبل العام : فيتردد بين كونه مخصصا وناسخا ، وإن كان مخصصا لا يدخل في حكم العام أبدا ، وإن كان منسوخا دخل فيه بعد النسخ.

ومنها : أن نسخ العام عموما جائز ، وتخصيص العام أكثريا فضلا عن الكل ممنوع.

ومنها : أن تخصيص الكتاب بالخبر جائز ، ونسخه ممنوع.

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» على ما يلي :

١ ـ كون الخاص مخصصا إن كان مقارنا مع العام ، أو كان واردا بعده قبل حضور وقت العمل.

٢ ـ كون الخاص ناسخا إن كان واردا بعد حضور وقت العمل بالعام.

٣ ـ كون الخاص مرددا بين الناسخية والمخصصية إن كان العام واردا بعد وقت العمل بالخاص.

٤ ـ الرجوع إلى الأصول العملية عند الجهل بتاريخهما.

٥ ـ النسخ هو : الرفع إثباتا ، والدفع ثبوتا.

٦ ـ البداء في التكوينيات هو : بمعنى إظهار ما خفي.

انتهى مبحث العام والخاص ، ويتلوه مبحث المطلق والمقيد.

٤٢١
٤٢٢

المقصد الخامس

في المطلق والمقيد والمجمل والمبيّن

٤٢٣
٤٢٤

فصل

عرّف المطلق بأنه : ما دلّ على شائع في جنسه.

______________________________________________________

المطلق والمقيد

قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو المراد بالمطلق والمقيد في المقام. فيقال : إن الظاهر أنه ليس للقوم اصطلاح خاص في هذين اللفظين ، بل مرادهم بهما هو المعنى اللغوي أعني : «المرسل» وخلافه ، ويتصف بكل منهما كل من اللفظ والمعنى ، فيقال : لفظ مطلق ومعنى مطلق ، أو لفظ مقيد ومعنى كذلك.

وعلى هذا فلا وجه لتعريف المطلق والمقيد بما هو المذكور في كتب القوم ، ثم الإشكال عليه بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى.

وكيف كان ؛ فيقع الكلام تارة : في تعريف المطلق ، وأخرى : في كيفية تقسيم اللفظ إلى المطلق والمقيد.

وثالثة : فيما ذكروا للمطلق من أمثلة.

وأما الكلام في تعريف المطلق : فقد عرّفوا المطلق بأنه «ما دل على شائع في جنسه» ، والمراد من الجنس ليس الجنس المنطقي ولا اسم الجنس النحوي ؛ بل المراد معناه العرفي الشامل للحقائق الخارجية والأمور الانتزاعية والاعتبارية ، فيكون المراد بالجنس كل كلّي له مصاديق وإن كان في اصطلاح أهل الميزان يسمى بالنوع أو غيره ، ولذا قيل في تفسير التعريف المذكور : «إنه حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك ، فالمراد بالشائع ـ على هذا التفسير ـ هو الكلّي المضاف إلى قيد ، كالنكرة ، فإنّها تدل على طبيعة مقيدة بالوحدة المفهومية قابلة للانطباق على جميع الحصص المندرجة تحت هذه الطبيعة ، ضرورة : أن الحصة هي الطبيعة مع قيد الإضافة إلى شيء من القيود كالوحدة ، فيصدق هذا التعريف على النكرة الواقعة في حيّز الأوامر مثل : «أكرم عالما» ، بداهة : أنّه يصدق على كل فرد من أفراد طبيعة العالم ، غاية الأمر : أنّ صدقه على جميع الأفراد يكون على نحو البدلية لا العرضية ؛ لمنافاة تقيّد الطبيعة بالوحدة لصدقها على الأفراد عرضا.

٤٢٥

وقد أشكل عليه بعض الأعلام بعدم الاطراد (١) أو الانعكاس (٢).

وأطال (٣) الكلام في النقض والإبرام ، وقد نبهنا في غير مقام على أنّ مثله شرح الاسم وهو مما يجوز أن لا يكون بمطرد ولا بمنعكس ، فالأولى الإعراض عن ذلك

______________________________________________________

وهذا بخلاف النكرة الواقعة في تلو الأخبار ، مثل قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(١) فإنه لتعيّنه الواقعي لا يصلح للانطباق على حصص كثيرة حتى بنحو البدلية ، إذ المعتبر هو الانطباق الواقعي ، لا بنظر المتكلم والمخاطب.

وكيف كان ؛ فأحسن ما يقال في تعريف المطلق بوجه واضح : «إن المطلق هو الدال على فرد غير معين من الطبيعة قابل للانطباق على أفراد كثيرة منها ، مندرجة تحت جنس ذلك الفرد الشامل ذلك الجنس لهذا الفرد وغيره من الأفراد» ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٧٧».

وقد يرد على التعريف المذكور بما قيل : من إنّ التعريف المذكور لا يشمل جميع أنواع المطلق ؛ بل ينطبق على خصوص النكرة ، لأنها هي التي تدل على شائع في جنسه ، ولا ينطبق على المطلق الشمولي كالعقود في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، ولا على المطلق المراد في الأعلام الشخصية كوجوب إكرام زيد الذي له إطلاق أحوالي ، وكوجوب الطواف بالبيت ، والوقوف بمنى والمشعر ، وغير ذلك من الأعلام الشخصية ، فإن الإطلاق كما يكون في الطبائع الكلية ؛ كذلك يكون في الأعلام الشخصية ، فالأولى في تعريف المطلق أن يقال : «إنه عبارة عن المعنى الذي جعل موضوعا للحكم الشرعي بلا قيد ، سواء كان ذلك المعنى كليا أم جزئيا» حيث أن الإطلاق ليس إلا عدم التقييد ، وهو المراد بالإرسال الذي يكون معنى الإطلاق لغة.

(١) لشمول التعريف المزبور ل «من وما وأي» الاستفهامية ؛ لدلالتها على العموم البدلي وضعا ، مع إنها ليست من أفراد المطلق.

(٢) لعدم شموله للألفاظ الدالة على نفس الماهية كأسماء الأجناس ، مع إنّهم يطلقون عليها لفظ «المطلق» ، فإنّ لفظ «رجل» بدون التنوين اسم جنس وضع للدلالة على نفس الماهية من دون تقيّدها بقيد كالوحدة ، فلا يصدق التعريف المذكور للمطلق عليه ، مع إنّهم عدّوا أسامي الأجناس من المطلق.

(٣) أي : أطال ذلك البعض «الكلام في النقض والإبرام وقد نبهنا في غير مقام» أي : في مقامات عديدة : على أن مثل التعريف المذكور شرح الاسم ، فلا يعتبر فيه أن يكون

__________________

(١) القصص : ٢٠.

٤٢٦

ببيان ما وضع له بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق أو من غيرها (١) مما يناسب المقام.

فمنها (٢) : اسم الجنس ، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض (٣) إلى غير

______________________________________________________

مطردا أو منعكسا ، لا التعريف الحقيقي حتى يكون مجالا للنقض والإبرام ، إلّا إن يقال : إن نفس الإشكالات الطردية والعكسية تشهد بعدم كون التعريف عندهم لفظيا.

(١) أي : غير الألفاظ التي يطلق عليها المطلق ؛ كعلم الجنس والمعرّف باللام ، فإنّهما لا يطلق عليهما المطلق ، لكنهما يناسبانه ، كما سيأتي. هذا تمام الكلام في تعريف المطلق.

وأما كيفية تقسيم اللفظ إلى المطلق والمقيد : فالظاهر من تعريف المطلق والمقيد وإن كان كل من الإطلاق والتقييد وصفين لنفس اللفظ بلحاظ المدلول ، فإن كان مدلول اللفظ شائعا يسمّى اللفظ مطلقا ، وإن لم يكن كذلك سمّي اللفظ مقيدا ، ولكن التحقيق : أن التقسيم إليهما والاتصاف بهما إنما هو بلحاظ الحكم ؛ بمعنى : أن اللفظ الذي يكون لمدلوله شياع وانتشار ذاتا إذا صار موضوعا لحكم من الأحكام ـ سواء كان حكما وضعيا أم تكليفيا ـ فإن كان تمام الموضوع للحكم يسمى مطلقا ، وإن لم يكن تمام الموضوع له ـ بل يكون في مقام الموضوعية مقيدا بقيود ـ سمّى مقيدا.

فالرقبة مع كونها لفظا واحدا إن جعلت تمام الموضوع للحكم اتصفت بالإطلاق ، وإن جعلت مقيدة بقيد موضوعا له اتصفت بالتقييد ، فالرقبة في قولنا : «أعتق رقبة» مطلقة ، وفي قولنا : «أعتق رقبة مؤمنة» مقيدة.

فالمتحصل : أن الاتصاف بهما يكون بلحاظ الموضوعية للحكم.

وقد ظهر مما ذكرنا : أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل تقابل العدم والملكة ، فلا يتحقق الإطلاق إلا فيما من شأنه أن يكون قابلا للتقييد ، فالإطلاق عبارة عن عدم تقييد ما له شأنية التقييد وقابليته.

هذا تمام الكلام في كيفية تقسيم اللفظ إلى المطلق والمقيد ، وبقي الكلام في أمثلة المطلق.

الألفاظ التي يطلق عليها المطلق

(٢) أي : فمن الألفاظ التي يطلق عليها المطلق «اسم الجنس».

(٣) كل هذه الألفاظ أسماء أجناس ، إذا كانت بلا تنوين التنكير ؛ إذ معه تخرج عن كونها أسماء أجناس.

ثم لا فرق في اسم الجنس بين كونه نوعا كإنسان وفرس ، أو جنسا كحيوان أو

٤٢٧

ذلك من أسماء الكليات ؛ من الجواهر والأعراض ؛ بل العرضيات (١).

ولا ريب (٢) أنها موضوعة لمفاهيمها بما هي مبهمة مهملة بلا شرط أصلا ملحوظا معها ، حتى لحاظ أنها كذلك.

______________________________________________________

غيرهما ، وسواء كان جوهرا كالإنسان والفرس ، أو عرضا كالسواد والبياض ، «بل العرضيات» وهي الأمور الاعتبارية التي لا حظّ لها من الوجود العيني والذهني ؛ بل موطنها وعاء الاعتبار كالملكية والزوجية والحرية.

والإضراب بقوله : «بل» إنما هو لدفع توهم اعتبار الوجود الخارجي في صدق المطلق ، وإثبات صدقه على الاعتباريات التي لا تنالها يد الوجود العيني كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٨١».

(١) الفرق بين العرض والعرضي في اصطلاح المصنف : أن الأول هو المتأصل من الأعراض التي بحذائها شيء في الخارج ؛ كالسواد والبياض. والثاني هو من الأمور الاعتبارية ؛ كالملكية والزوجية ونحوهما ، فيكون اصطلاح المصنف على خلاف اصطلاح أهل المعقول ، فإن العرض عندهم مبدأ الاشتقاق ، والعرضي هو المشتق كما في المنظومة حيث قال السبزواري :

وعرضي الشيء غير العرض

ذا كالبياض ذاك مثل الأبيض.

(٢) المقصود من هذا الكلام هو : بيان معاني الألفاظ التي يطلق عليها المطلق. وهي أسماء الأجناس المذكورة في كلام المصنف.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان اعتبارات الماهية ، فنقول : إن للماهية اعتبارات ، وذلك لأن الماهية تارة تلاحظ بما هي هي بمعنى : أن النظر مقصور إلى ذاتها وذاتياتها ، ولم يلاحظ معها شيء زائد على ذاتها وذاتياتها ، وتسمى هذه الماهية بالماهية المهملة نظرا إلى عدم ملاحظة شيء من الخصوصيات المتعينة معها ، فتكون مهملة بالإضافة إلى جميع تلك الخصوصيات حتى خصوصية كونها مقسما للأقسام الآتية ، إذ الملحوظ حينئذ هو ذات الماهية ، من دون أن يلاحظ معها شيء خارج عن ذاتها.

وعليه فلا يصح حمل شيء عليها إلا الذات مثل : «الإنسان حيوان ناطق» أو الذاتي مثل : «الإنسان حيوان أو ناطق» ، وهذا يسمى باللابشرط المقسمي.

وأخرى : تلاحظ بما هي هي مبهمة مهملة ؛ لكن مع لحاظ أنّها لا بشرط ، وهذا يسمى باللاشرط القسمي ، والفرق بين المقسمي والقسمي ـ بعد كون كل منهما لا بشرط ـ أنّ لحاظ اللابشرطية مأخوذ في الثاني دون الأوّل ؛ بمعنى : أن الأول قد لوحظت الماهية بما هي هي مبهمة مهملة من دون أن يلاحظ معها شيء حتى لحاظ أنها لا بشرط ، هذا

٤٢٨

وبالجملة : الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى ، وصرف المفهوم الغير الملحوظ معه شيء أصلا ، الذي هو المعنى بشرط شيء ، ولو كان ذاك الشيء هو الإرسال والعموم البدلي ، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه الذي هو الماهية اللابشرط

______________________________________________________

بخلاف الثاني فإنّ الماهية فيه قد لوحظ معها شيء خارج عن مقام ذاتها وذاتياتها ، وذلك الشيء عبارة عن عنوان مقسميتها للأقسام التالية : وهي الماهية بشرط شيء ، وبشرط لا ، ولا بشرط ، هذا مجمل الأقسام.

وأما تفصيلها فهي :

أن الأول : أن تلاحظ الماهية بالإضافة إلى ما هو خارج عن ذاتها مقترنة بوجوده ؛ كلحاظ ماهية الرقبة مقترنة بالإيمان.

الثاني : أن تلاحظ الماهية بالإضافة إليه مقترنة بعدمه ؛ كلحاظ ماهية الرقبة مقترنة بعدم الكفر.

الثالث : أن تلاحظ غير مقترنة بوجوده أو عدمه ؛ كلحاظ الإيمان مع الرقبة ؛ بأن لم تقيد الرقبة بوجوده ولا بعدمه ، وهذا الأخير يسمّى باللابشرط القسمي ، والمقسم لهذه الأقسام الثلاثة يسمى باللابشرط المقسمي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد وقع النزاع فيما وضعت له أسماء الأجناس ، وهناك أقوال ثلاثة :

«أحدها» : ما هو ظاهر كلام المصنف من أنّ معانيها ذوات المهيات العارية في حد ذاتها عن لحاظ الشياع ولحاظ التقييد ولحاظ التجرّد ؛ بل عن لحاظ أنّها لا بشرط ، فالموضوع له لأسماء الأجناس هي الماهية اللابشرط المقسمي.

«ثانيها» : ما نسب إلى المشهور من : أنّ معانيها هي المهيات المأخوذة بحدّ الإطلاق والشياع والسريان ، بحيث كان الشياع والسريان جزء المدلول ، فيكون الموضوع له ماهية بشرط شيء ، ولكن سيأتي في ذيل النكرة تصريح المصنف بأن الكلام في صدق النسبة ، وأنّه لم يعلم ذلك منهم.

«ثالثها» : أن يكون اسم الجنس موضوعا للفرد المنتشر بحيث لا يبقى فرق بينه وما سيأتي من النكرة بالمعنى الثاني ؛ وهي الطبيعة المقيدة بالوحدة. هذا ملخص الكلام في الأقوال في اسم الجنس ، وقد عرفت : أن الحق عند المصنف هو الأول.

وقد استدل على الدعوى المذكورة ـ وهي قوله : «ولا ريب أنها موضوعة لمفاهيمها» ـ بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «لوضوح صدقها» ، وحاصله : صدق أسماء الأجناس

٤٢٩

القسمي ، وذلك لوضوح صدقها بما لها من المعنى ، بلا (١) عناية التجريد عما (٢) هو قضية الاشتراط والتقييد فيها كما لا يخفى ، مع بداهة : عدم صدق المفهوم بشرط العموم (٣) على فرد من الأفراد وإن كان (٤) يعم كل واحد منها بدلا أو استيعابا.

______________________________________________________

كالإنسان والفرس والماء والحنطة ونحوها على أفرادها من دون تصرف في معانيها ، وهو كاشف عن وضعها للمفاهيم المبهمة بما هي هي مجرّدة عن كل لحاظ حتى عن لحاظ كونها مهملة ، ومن المعلوم : أنها لو كانت موضوعة لغير المفاهيم المبهمة بأن كانت موضوعة للمفاهيم المشروطة بالشيوع ، أو الحصة المقيدة بالوحدة لزم تجريدها حتى يصح حملها على أفرادها ، لأنها بدون التجريد لا تصدق على أفرادها ، ضرورة : أن المقيد بالشياع مثلا لا يصدق على الأفراد ، لعدم كون كل فرد شائعا حتى يكون مصداقا للمعنى الشائع ، مع إن المعلوم صدق الماهيات على أفرادها بدون التجريد المزبور كما أشار إليه بقوله : «لوضوح صدقها» أي : صدق أسماء الأجناس ـ بما لها من المعنى ـ على أفرادها.

(١) متعلق بقوله : «صدقها».

(٢) متعلق بقوله : «التجريد» ، والمراد بقضية الاشتراط هو : قيد الماهية من الاستيعاب والبدلية وغيرهما من القيود ، وضمير «فيها» راجع إلى أسماء الأجناس.

والوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد» يعني : هذا هو الوجه الثاني لإثبات وضع أسماء الأجناس لنفس الماهيات المبهمة المهملة وحاصله : على ما ـ في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٨٧» ـ : أنه لو كانت أسماء الأجناس موضوعة للمفاهيم المشروطة بالعموم كان عدم صدقها على فرد من الأفراد من البديهيات ، حيث إن الماهية المشروطة بالشياع ، وكذا الماهية اللابشرطية لا تتحدان مع الأفراد خارجا حتى يصح حملها عليها. أما الشياع فلوضوح : أنّ كل فرد واحد لا شيوع فيه حتى يتحد معه الماهية المقيدة بالشياع. وأما اللابشرطية : فلأنها قيد ذهني ، ومن المعلوم : مباينة الموجود الذهني للعيني الموجبة لامتناع اتحادهما ، وصدق كل منهما على الآخر خارجا.

فالنتيجة : عدم كون اسم الجنس موضوعا للماهية اللابشرط القسمي ، ولا المشروطة بشرط شيء كالشياع ؛ بل المعنى الموضوع له اسم الجنس هو نفس الماهية المبهمة المعبّر عنها باللاشرط المقسمي.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٣) إشارة إلى الماهية المشروطة بشرط الشياع.

(٤) يعني : وإن كان يعمّ المفهوم المقيّد بشرط العموم كل واحد من الأفراد بنحو

٤٣٠

وكذا (١) المفهوم اللابشرط القسمي ، فإنه (٢) كلي عقلي لا موطن له إلا الذهن لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها بداهة (٣) : أنّ مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجا ، فكيف يمكن أن يتحد معها (٤) ما لا وجود له إلا ذهنا؟

ومنها (٥) : علم الجنس كأسامة ، والمشهور بين أهل العربية : أنه موضوع للطبيعة لا

______________________________________________________

البدلية أو الاستيعاب ، لكنّه لا يصدق مع شرط العموم على فرد واحد من الأفراد.

(١) معطوف على «عدم صدق» يعني : ومع بداهة عدم صدق المفهوم اللابشرط القسمي على فرد من الأفراد.

(٢) قوله : «فإنه» تعليل لعدم صدق المفهوم اللابشرط على الفرد ؛ لأن المقيد بالقيد الذهني ـ مثل المفهوم اللابشرط ـ يمتنع انطباقه على الموجود الخارجي ؛ لمباينة الوجودين المانعة عن الاتحاد الوجودي الذي هو مناط صحة الحمل. والضمير في قوله : «عليها» راجع إلى الأفراد.

(٣) تعليل لعدم صدق المفهوم القسمي على الأفراد.

(٤) أي : مع الأفراد ، و «ما» الموصولة فاعل «يتحد» ، والحاصل : أنّ اللابشرط القسمي موجود ذهني فقط ؛ لأنه مقيد بلحاظ التجرد ، وحيث إن لحاظ التجرّد ذهني فالمقيد به أيضا ذهني ، والأمر الذهني لا يتعلق به التكليف ، فإنّ التكليف يتعلق بما يمكن أن يكون خارجيا ، وما يكون مقيّدا بالذهن لا يمكن أن يصير خارجيا.

فالمتحصل : أن صدق الرجل ونحوه على الفرد بلا عناية يدل على شيئين :

الأول : أن الرجل ليس موضوعا للماهيّة بشرط الإرسال ـ أي بشرط شيء ـ وإلا لزم التجريد حين الحمل على الفرد.

الثاني : أنه ليس موضوعا للماهية المقيدة بلحاظ عدم شيء معه ـ أي : اللابشرط القسمي ـ وإلا لزم عدم صدق الرجل على الفرد أصلا ؛ لأن اللابشرط القسمي ذهني ، فلا يصدق على الخارجي ، فيكون موضوعا للابشرط المقسمي وهو المطلوب عند المصنف «قدس‌سره».

(٥) أي : ومن الألفاظ التي يطلق عليها المطلق علم الجنس «كأسامة» فإنه علم لجنس الأسد. والمشهور : أنه موضوع للطبيعة بقيد تعيّنها في الذهن ؛ لا الطبيعة المبهمة من حيث هي كما في اسم الجنس ، فالفرق بين علم الجنس واسمه واضح ؛ حيث أن علم الجنس وضع للطبيعة مقيدة بالتعين الذهني كالمعرف بلام الجنس ، بخلاف اسم الجنس فإنّه وضع لنفس الطبيعة المبهمة بلا قيد التعين ، ونظرا إلى هذا التعين الذهني في علم الجنس يعامل معه معاملة المعرفة في جعله مبتدأ ، نحو : «أسامة أقوى الحيوانات» ، ووقوعه

٤٣١

بما هي هي ، بل بما هي متعينة بالتعين الذهني ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.

لكن التحقيق أنه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلا كاسم الجنس ،

______________________________________________________

ذا الحال نحو : «رأيت أسامة مقبلا». هذا ما أشار إليه بقوله : «ولذا يعامل معه معاملة المعرفة» يعني : ولأجل التعين الذهني في علم الجنس يعامل معه معاملة المعرفة بدون أدوات التعريف.

فترتيب آثار المعرفة على علم الجنس مع عدم ما يوجب تعريفه من أدوات التعريف دليل إنّي على تعيّنه الذهني ، الموجب لترتيب أحكام المعرفة عليه.

كما أن عدم ترتيبها على اسم الجنس دليل إنّي أيضا على عدم تعيّنه.

هذا تمام الكلام فيما هو المشهور بين أهل العربية في علم الجنس ، ولكن المصنف قد خالفهم في ذلك حيث ذهب إلى وضع علم الجنس لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلا ، وأنّ التعريف فيه لفظي لا يؤثر في تعين المعنى كالتأنيث اللفظي ، فلا فرق بينه وبين اسم الجنس في الموضوع له ، وقد أشار إليه بقوله : «لكن التحقيق أنه موضوع لصرف المعنى».

وحاصل التحقيق : أنه لا فرق بين اسم الجنس وعلمه في المعنى ؛ لأنه في كليهما واحد وهو نفس الماهية المبهمة بدون لحاظ شيء معها ، والفرق بينهما إنما هو في اللفظ ، حيث إنه تجري أحكام المعرفة على علم الجنس من وقوعه مبتدأ ، وتوصيفه بالمعرفة نحو : «ائت أسامة الأقوى» ، ووقوعه نعتا للمعرفة دون اسم الجنس ؛ لعدم جريان أحكام المعرفة عليه.

نعم ؛ لمّا كان تعريف علم الجنس لفظيا لا يؤثر في المعنى كالتأنيث اللفظي كما أشار إليه بقوله : «والتعريف فيه لفظي» يعني : والتعريف في علم الجنس لفظي ؛ فلا يدل إجراء أحكام المعرفة عليه على وضعه للطبيعة المتعيّنة بالتعين الذهني ، فالتعريف اللفظي كالتأنيث اللفظي في عدم تأثيره في المعنى.

وكيف كان ؛ فقد نفى المصنف ما ذكره المشهور بوجهين :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «وإلا لما صح حمله على الأفراد ..» إلخ. أي : وإن لم يكن علم الجنس كاسمه موضوعا لصرف المعنى بدون تعيّنه ذهنا لما صحّ حمل علم الجنس على الأفراد بلا تأويل وتصرف ، وحاصل هذا الوجه : أنه لو لم يكن علم الجنس موضوعا لنفس المعنى ؛ بل كان موضوعا له بقيد التعين الذهني ـ كما هو المنسوب إلى المشهور ـ لزم عدم صحّة حمله على الأفراد إلا بالتصرف والتأويل بإلغاء التعين ، ضرورة :

٤٣٢

والتعريف فيه لفظي ، كما هو الحال في التأنيث اللفظي ، وإلا لما صح حمله على الأفراد بلا تصرف وتأويل ؛ لأنه على المشهور كلي عقلي ، وقد عرفت : إنّه لا يكاد صدقه عليها مع صحة حمله عليها بدون ذلك ، كما لا  يخفى.

ضرورة (١) : أن التصرف في المحمول بإرادة نفس المعنى (٢) بدون قيده تعسف ، لا يكاد يكون بناء القضايا المتعارفة عليه (٣) ، مع (٤) أن وضعه لخصوص معنى يحتاج إلى

______________________________________________________

أن المقيّد بالتعين الذهني موجود ذهني ، ومن المعلوم : امتناع حمله على الموجود الخارجي لتغايرهما وتباينهما ، فصحة حمله على الأفراد الخارجية تتوقف على التجريد عن القيد الذهني ؛ ليتحقق الاتحاد المصحح للحمل ، مع أنّ المسلّم صحّة الحمل بدون التجريد المزبور ، وهذا يدل على عدم كون الموضوع له في علم الجنس هو المعنى مقيّدا بالتعين الذهني والمراد بالتأويل في قوله : «بلا تصرف وتأويل» هو التجريد المزبور. قوله : «لأنه على المشهور» تعليل لعدم جواز الحمل بدون التصرف.

(١) تعليل لصحة الحمل بدون التأويل ، وحاصله : أن التصرف في المحمول ـ وهو علم الجنس ـ بإرادة نفس المعنى بدون قيده ـ أعني تعيّنه الذهني ـ تعسف ؛ لاستلزامه التصرف في المعنى الموضوع له بلا وجه يوجبه ، وليس بناء العرف في القضايا المتعارفة على هذا التصرف حتى يكون هذا البناء قرينة نوعية على التصرف المزبور ، فلا دليل على هذا التصرف أصلا.

(٢) بأن يقال للأسد الخارجي : «هذا أسامة».

(٣) أي : على التصرف في المحمول بإرادة جزء معناه ، وهو نفس الطبيعة ، وإلغاء جزئه الآخر أعني تعيّنه الذهني.

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي استدل به المصنف على كون علم الجنس موضوعا لنفس المعنى مجرّدا عن قيد التعين الذهني ، وحاصله : أنه يلزم لغوية الوضع ، إذ حكمة الوضع هي تفهيم المعنى الموضوع له باللفظ ، وجعل اللفظ حاكيا عنه في مقام الاستعمال ، وحينئذ فإن وضع اللفظ لمعنى لا يستعمل فيه أصلا ؛ بل يستعمل في جزئه مجازا كان هذا الوضع لغوا منافيا لحكمة الوضع ، ومن المعلوم : قبح صدوره عن الجاهل فضلا عن الواضع الحكيم. فلزوم اللغوية دليل أيضا على كون معنى علم الجنس ـ كاسمه ـ نفس الطبيعة من دون لحاظ شيء من التعين الذهني وغيره معها ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٩٤».

والضمير في «وضعه» راجع إلى علم الجنس يعني : أنّ وضع علم الجنس لخصوص معنى ـ أي : معنى ـ مقيد بخصوصية يحتاج عند الاستعمال دائما إلى تجريده عن

٤٣٣

تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال لا يكاد يصدر عن جاهل ، فضلا عن الواضع الحكيم.

ومنها (١) : المفرد المعرف باللام ، والمشهور : أنه (٢) على أقسام : المعرف بلام الجنس ، أو الاستغراق ، أو العهد بأقسامه على نحو الاشتراك بينها لفظا أو معنى ، والظاهر : أن الخصوصية في كل واحد من الأقسام من قبل خصوص اللام ، أو من قبل قرائن المقام ،

______________________________________________________

خصوصيته لا يكاد يصدر عن جاهل ، وهذا إشارة إلى لغوية الوضع.

وكيف كان ؛ فالنتيجة : أن المعنى في اسم الجنس وعلمه واحد ، والفرق بينهما إنما هو في اللفظ إذ يعامل مع اسم الجنس معاملة النكرة ، ومع علم الجنس معاملة المعرفة ، فيجيء منه الحال نحو : «هذا أسامة مقبلا» ، ويمتنع دخول الألف واللام عليه ، فلا يجوز «الأسامة» ، كما لا يجوز «الزيد» ، ويمتنع توصيفه بالنكرة ، فلا يجوز نحو : «مررت بأسامة مقبل» ، كما لا يجوز «مررت بزيد عالم» ، ويبتدأ به نحو : «أسامة أقوى من ثعالة».

المفرد المعرف باللام

(١) يعني : ومن الألفاظ التي يطلق عليها المطلق : المعرف باللام ، مثل : الرجل خير من المرأة مثلا.

(٢) أي : المفرد المعرف باللام على أقسام.

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن المفرد المعرف باللام على أقسام :

الأول : أن يكون المفرد معرّفا بلام الجنس مثل : «الرجل خير من المرأة».

الثاني : أن يكون معرّفا بلام الاستغراق كقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(١) فإنه بمنزلة قوله : كل إنسان لفي خسر.

الثالث : أن يكون معرّفا بلام العهد. وهو على أقسام :

١ ـ العهد الذهني : وهو المشار به إلى فرد ما مقيدا بحضوره في الذهن ، نحو قول المولى لعبده : «ادخل السوق» بأن يكون اللام إشارة إلى السوق المعهود الحاضر في ذهن العبد.

٢ ـ العهد الخارجي : وهو المشار به إلى فرد متعين حاضر عند المخاطب خارجا نحو : «افتح الباب».

٣ ـ العهد الذكري : وهو المشار به إلى فرد مذكور سابقا كقوله تعالى : (... كَما

__________________

(١) العصر : ١ ـ ٢.

٤٣٤

أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(١).

ثم اللام إما مشترك لفظا أو معنى بين هذه الأقسام الخمسة.

أما الأول : فبأن تكون اللام في المفرد تارة : وضعت لتعريف الجنس ، وأخرى : للاستغراق ، وثالثة : للعهد الذهني ، ورابعة : للعهد الخارجي ، وخامسة : للعهد الذكري.

وأما الثاني : فبأن يقال : إن اللام قد وضعت للتعريف الجامع بين الأقسام بأن يكون التعريف يستفاد من اللام ، والخصوصيات مستفادة من القرائن الخارجية.

وبعبارة أخرى : أن تكون اللام لمطلق الإشارة إلى المدخول الأعم من نفسه ومن أفراده المعهودة خارجا أو ذهنا أو جميع الأفراد ، فيكون استعمالها في كل واحد استعمالا لها في مصداق من مصاديق معناها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ محل الكلام هو المفرد المعرف بلام الجنس لا المعرف بلام الاستغراق ولا بلام العهد ؛ إذ لام الاستغراق يكون للعموم قطعا ، فالمعرف به من مصاديق العام لا المطلق ، وكذلك ليس المعرّف بلام العهد من مصاديق المطلق ؛ وذلك لتعين مدخول لام العهد بجميع أقسامه.

فحينئذ يرد عليه ما أورده المصنف.

وتوضيح ما أورده المصنف على المشهور يتوقف على مقدمة وهي : أنه ينبغي البحث في مقامين :

الأول : في مدخول اللام بما هو مدخول. والثاني : في اللام الداخلة عليه. وأما البحث في المقام الأول فهو وإن كان يختلف ويتفاوت عن المجرّد عنها بالتعين وعدمه ، ولكن التحقيق عند المصنف هو عدم التفاوت في المدخول ، فلا فرق بين المعرّف باللام والمجرّد عنها وذلك فإن الظاهر أن ما يستعمل فيه المدخول هو ما يستعمل فيه غير المدخول. أعني : ما يطلق عليه اسم الجنس بالحمل الشائع نحو : لفظ «رجل» مثلا ؛ بل يكون المستعمل فيه في كليهما واحدا وهو نفس الماهية ، وأما الخصوصيات أعني : الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه فهي إنما تستفاد من القرائن المقامية أو المقالية أو غيرهما بنحو تعدد الدال والمدلول.

وأما البحث في المقام الثاني فهو : أن المفرد المعرف باللام على ما هو المعروف والمشهور وإن كان على أقسام على ما عرفت ، واللام إنما تكون موضوعة للتعريف

__________________

(١) المزمل : ١٥ ـ ١٦.

٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني من تلك الأقسام ، لأنها إذا أشير بها إلى الأفراد بنحو الاستغراق أو إلى الفرد المذكور أو الحاضر أو المعهود ، فقد أفادت التعيين وهو معنى كونها موضوعة للتعريف في غير العهد الذهني ، وأما فيه فيراد من المعرف باللام فرد ما لا على التعيين ، ولكن التحقيق عند المصنف : أن اللام إنما تكون للتزيين لا للتعريف ، فعلى هذا : اللام لا يكون تحتها معنى وإنما هي لصرف التزيين كما في الحسن والحسين ؛ لأنك قد عرفت : أنه لا تعين في تعريف الجنس في الخارج لأن لام الجنس ـ كالعهد الذهني ـ هو ما يشار به إلى فرد ما بقيد حضوره في الذهن ولا تعين لفرد ما ـ فاللام لا تفيد التعيين مع أن التعريف فرع التعيين ، فلا بد أن تكون اللام للتزيين لا للتعريف ؛ لما عرفت من أن مدخول اللام هو اسم الجنس لا يختلف ولا يتفاوت ، والخصوصية مستفادة من القرينة الخارجية لا من اللام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المصنف قد أورد على ما هو المشهور من كون اللام للتعريف بوجوه :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «ولازمه أن لا يصح حمل المعرف باللام» ، وحاصل هذا الوجه : أنّ الموجود الذهني يمتنع انطباقه على الموجود الخارجي ، لاختلاف صقعي الوجودين المانع عن الاتحاد المسوّغ للحمل ، وحينئذ فلا يصحّ الحمل إلا بعد التجريد عن قيد التعين الذهني ، ومع التجريد لا فائدة في هذا التقييد أي : لا فائدة في تقييد الواضع المعنى بالخصوصية الذهنية ، فلا يقيده لفرض كونه حكيما والحكيم لا يذكر قيدا لا فائدة فيه.

وكيف كان ؛ فمن الواضح : أن الموجود الذهني غير قابل للحمل على الموجود الخارجي إلا بالتجريد ، فلازم ذلك هو : التصرّف والتأويل في القضايا المتعارفة المتداولة بين أهل العرف ، حيث إنّ الحمل فيها على هذا غير صحيح بدون ذلك ، مع إن التأويل والتصرف فيها لا يخلوان عن التعسف لصحة الحمل فيها بدونهما ، فيلزم وضع اللام لذلك أن يكون لغوا محضا وذلك لا يصدر من الواضع الحكيم ، فاللام تدل على التزيين فقط من دون أن تكون موضوعة للدلالة على التعريف والتعيين.

وأما استفادة الخصوصيات من الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه فهي إنما تكون بالقرائن التي لا بد منها لتعيين الخصوصيات على كل حال أي : سواء قلنا بكونها للتزيين أو للإشارة إلى المعاني المذكورة.

وعلى الثاني : سواء قلنا باشتراكها معنويا أو لفظيا بين المعاني المذكورة ، ومع استفادة

٤٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الخصوصيات من القرائن الخارجية لا حاجة إلى الالتزام بوضع اللام للإشارة إلى المعيّن من تلك المعاني حتى يقال : إن اللام موضوعة للتعريف.

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «مع إن التأويل والتصرف ..» إلخ وحاصل هذا الوجه : أن التصرف بإلغاء قيد التعين الذهني في مقام الحمل على الأفراد لو لم يكن فيه تعسف لم يكن به بأس ، لكنه لا يخلو من التعسف ؛ لعدم التفات أبناء المحاورة إلى هذا التصرف ، بل بناؤهم على حمل المعرف بلام الجنس ـ كنفس اسم الجنس ـ على الأفراد ـ الخارجية ، من دون تجريد وعناية ، وقيل : إن هذا الإيراد ليس إيرادا مستقلا ؛ بل هو من متممات الإيراد الأول : وهو قوله : «ولازمه أن لا يصح حمل المعرف باللام».

الوجه الثالث : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى أن الوضع ..» إلخ ، وحاصله : أن الوضع لمعنى لا يستعمل اللفظ فيه لعدم كونه من المعاني المحتاجة إلى تفهيمها ينافي حكمة الوضع التي هي تفهيم المعنى باستعمال اللفظ فيه ، فهذا الوضع لغو ، ولا يصدر عن العاقل فضلا عن الحكيم.

الكلام في توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» : قوله : «من باب تعدد الدال والمدلول» بمعنى : دلالة المدخول على نفس المعنى ، ودلالة اللام أو القرينة على الخصوصية.

«لا باستعمال المدخول ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك» يعني : لا أن الخصوصيات تستفاد باستعمال مدخول اللام بأن يستعمل «رجل» تارة : في الجنس ، وأخرى : في الاستغراق ، وثالثة : في العهد حتى يلزم «المجاز» ؛ بأن يكون حقيقة في الإشارة إلى الجنس ومجازا في غيره «أو الاشتراك فيه» ؛ بأن تكون اللام لمطلق الإشارة إلى المدخول الأعم من نفسه ومن أفراده المعهودة خارجا أو ذهنا ، أو جميع الأفراد ، فيكون استعمالها في كل واحد استعمالا لها في مصداق من مصاديق معناها.

فمعنى المدخول في كلتا صورتي دخول اللام عليه وعدمه واحد ، فرجل مثلا يستعمل في معناه المبهم مطلقا حتى بعد دخول اللام عليه ، والخصوصيات الزائدة على معناه تستفاد من الدوال الخارجية ، فلا يلزم في مدخول اللام مجاز ولا اشتراك ، إذ «الرجل» حال كونه محلى باللام ، وحال كونه خاليا عنها استعمل في معناه الذي وضع له ؛ وهو كل ذات ثبت له الذكورية.

٤٣٧

من باب تعدد الدال والمدلول ؛ لا باستعمال المدخول ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك ، فكان المدخول على كل حال مستعملا فيما يستعمل فيه الغير المدخول (١).

والمعروف : أن اللام تكون موضوعة للتعريف ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني ، وأنت خبير (٢) بأنه لا تعين في تعريف الجنس إلا الإشارة إلى المعنى المتميّز بنفسه من بين المعاني ذهنا ، ولازمه : أن لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد ؛ لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن إلا (٣) بالتجريد ، ومعه (٤) لا فائدة في التقييد ، مع (٥) إن التأويل والتصرّف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف.

هذا مضافا (٦) إلى أن الوضع لمّا لا حاجة إليه ، بل لا بد من التجريد عنه وإلغائه في

______________________________________________________

(١) يعني : غير مدخول اللام كرجل ، فمعناه قبل وقوعه تلو اللام وبعده واحد وهو الماهية المهملة المبهمة.

(٢) يعني : غرضه : ردّ ما هو المعروف بينهم من وضع اللام للتعريف ، وعدم المساعدة عليه ، لأن التعريف فرع التعين ، ولا تعيّن في تعريف الجنس ؛ إذ لا يتصور فيه تعين إلا تميّزه بما له من الحدود المميّزة له عن المعاني المتصورة الذهنية ، ولا يصح أن تكون اللام لتمييز المعنى كذلك للوجوه السابقة التي عرفت توضيحها.

قوله : «لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن» تعليل لعدم صحة الحمل ، وقد عرفت توضيح ذلك.

قوله : «مع» متعلق بقوله : «الاتحاد» يعني : أنه يمتنع الاتحاد مع ما لا موطن له إلا الذهن وهو قيد التعين الذي هو من القيود الذهنية.

(٣) استثناء من امتناع الاتحاد ، يعني : أنّ هذا الامتناع يرتفع بالتجريد.

(٤) أي : مع لزوم التجريد في الانطباق لا فائدة في التقييد بالتعين الذهني للزوم إلغائه في مقام الاستعمال والحمل فيكون لغوا.

(٥) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه السابقة ، وقد عرفت توضيح ذلك سابقا ، لأن تجريد المعنى عن جزئه في القضايا المتداولة في العرف بأن يقال : إنّهم يجرّدون معنى اللفظ عن القيد الذهني ، ثم يحملونه على الفرد الخارجي غير خال عن التعسف ؛ لأنّا إذا راجعنا وجداننا لم نجد هذا التصرف عند الاستعمال ، فيكون هذا التصرف بعيدا عن مذاق العرف بحيث لا ينتقل أذهانهم إلى التصرف المزبور.

(٦) هذا إشارة إلى ثالث الوجوه المذكورة ، وقد سبق توضيح ذلك فراجع.

٤٣٨

الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرّف (١) باللام أو الحمل عليه كان لغوا كما أشرنا إليه (٢) ، فالظاهر (٣) : أن اللام مطلقا (٤) تكون للتزيين كما في الحسن والحسين «عليهما‌السلام» ، واستفادة الخصوصيات (٥) إنّما تكون بالقرائن التي لا بد منها لتعيينها (٦) على كل حال ، ولو (٧) قيل بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى ، ومع الدلالة عليه (٨) بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة (٩) ، لو لم تكن (١٠) مخلة ، وقد عرفت إخلالها ، فتأمل جيّدا.

______________________________________________________

(١) أي : بأن يجعل المعرف باللام محمولا مثلا نحو : «زيد الرجل» ، أو موضوعا مثل : «الرجل زيد».

(٢) حيث قال في علم الجنس : «مع أن وضعه لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال».

(٣) هذا إشارة إلى حاصل ما أفاده من عدم إفادة اللام للتعيين ، إذ بعد إنكار كون اللام للتعريف الذهني لا بد أن تكون اللام للتزيين ، كاللام الداخلة على الأعلام كالحسن والحسين ، ونظائرهما من الأعلام الشخصية.

(٤) أي : اللام بجميع أقسامها حتى العهد الذهني ، وفي جميع الموارد يكون للتزيين.

(٥) أي : من العهد الخارجي والحضوري والذكري ، وتعريف الجنس ، والاستغراق ، والعهد الذهني ، فإن هذه الخصوصيات إنما تستفاد من القرائن.

(٦) أي : تعيين الخصوصيات على كل حال حتى على القول بوضع اللام للإشارة.

(٧) لو وصلية ، يعني : للاحتياج إلى القرائن لاستفادة الخصوصيات من العهد وغيره مما ذكر على جميع الأقوال ؛ حتى على القول بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى ، غاية الأمر :

أنّه على القول باشتراك اللام لفظيا أو معنويا تكون القرينة معيّنة ، ومع الحاجة إلى القرينة في استفادة الخصوصيات لا حاجة إلى وضع اللام للإشارة إلى المعنى ؛ بل قد عرفت : أن وضعه للإشارة مخلّ بالحمل لاحتياج الحمل إلى التجريد.

(٨) أي : على المعنى مقرونا بتلك الخصوصيات.

(٩) أي : وضع اللام للإشارة إلى المعنى.

(١٠) أي : لو لم تكن الإشارة مخلّة ، وقد عرفت إخلال الإشارة بالحمل ، لتوقف صحة الحمل على التجريد.

فالمتحصل : أن تعيين الخصوصيات إنما تكون بالقرائن ولو قلنا بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى ؛ لأن اللام على هذا القول تكون مشتركة بين تلك الخصوصيات من الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه ، ومع الاشتراك لا بد من قرائن تتعين بها تلك الخصوصيات ،

٤٣٩

وأمّا (١) دلالة الجمع المعرف باللام على العموم ، مع عدم دلالة المدخول عليه : فلا دلالة فيها على أنها تكون لأجل دلالة اللام على التعيين حيث لا التعين إلا للمرتبة المستغرقة بجميع الأفراد ، وذلك لتعين المرتبة الأخرى وهي أقل مراتب الجمع كما لا يخفى.

______________________________________________________

ومن المعلوم : أنه مع وجود تلك القرائن لا حاجة إلى الالتزام بكون اللام للإشارة ؛ بل الالتزام بكونها للإشارة إلى المعنى مخلّ كما عرفت.

قوله : «فتأمل جيّدا» لعلّه إشارة إلى : أن الالتزام بوضع اللام للإشارة إلى المعنى مما يلزم منه محذوران :

أحدهما : أن لا يصح حمل المعرف باللام على الفرد الخارجي ؛ لأن المقيّد بالتميّز في الذهن لا موطن له إلا الذهن ، ولا يمكن اتحاده مع الخارجيات ولا يحمل عليها إلا بالتجريد.

وثانيهما : أنّ الوضع لمعنى مقيّد يحتاج عند الحمل إلى التجريد عن قيد الخصوصية الذهنية لغو ، لا يكاد يصدر عن جاهل فضلا عن الواضع الحكيم.

الجمع المحلى باللام

(١) هذا : إشارة إلى دفع ما يتوهم في المقام ، من التنافي بين ما ذكره المصنف من كون اللام للتزيين ، وبين ما عن أئمة الأدب من إفادة الجمع المحلى باللام للعموم ، فلا بد أولا : من تقريب التوهم ، وثانيا : من توضيح الدفع.

أمّا تقريب التوهم : فلأنه لا سبب للعموم إلا اللام ؛ إذ المفروض : عدم دلالة نفس المدخول على العموم ؛ لعدم وضعه لذلك ، فلا بد أن تكون هذه الدلالة مستندة إلى نفس اللام ، حيث إن مراتب الجمع عديدة واللام تدل على التعيين ، ولا تعين لشيء من تلك المراتب إلا الاستغراق فيتعين ببركة اللام.

فالنتيجة : أنّ دلالة اللام في الجمع المحلى بها على المعين ـ وهو الاستغراق ـ تنافي ما تقدم من المصنف ؛ من جعل اللام للتزيين فقط.

وأما الدفع : فقد أجاب المصنف عن هذا التوهم بجوابين :

الجواب الأول : ما أشار إليه بقوله : «فلا دلالة فيها ...» إلخ ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن دلالة اللام على الاستغراق والعموم ـ حسب التوهم المزبور ـ مبنية على أن اللام تدل على التعيين ، ولا تعين إلا للمرتبة المستغرقة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن المصنف يمنع تعين المرتبة المستغرقة لجميع الأفراد.

٤٤٠