دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

يوجد على خلافه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنية يسقط وجوب العمل به.

كيف؟ وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل به في قبال العمومات الكتابية ، والأخبار الدالة على أن الأخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها أو ضربها على الجدار ،

______________________________________________________

فالنتيجة هي : عدم صحة الاستدلال بتلك الأخبار على طرح الخبر المخالف للكتاب مخالفة العموم والخصوص المطلق ، وجواز تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد ، فالأخبار الآمرة بطرح الخبر المخالف لا تمنع عن تخصيص خبر الواحد المخالف بالعموم والخصوص لعموم الكتاب.

الرابع : أنه لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جاز نسخه به ، والتالي باطل إجماعا فالمقدم مثله ، والاستدلال بالقياس الاستثنائي إنما يتم عند ثبوت الملازمة بين المقدم والتالي.

وأما الملازمة ـ في محل الكلام ـ فلأن مرجع النسخ أيضا إلى التخصيص لأنهما من واد واحد ؛ إذ النسخ في الحقيقة تخصيص في الأزمان ، والفرق بين النسخ والتخصيص المصطلح : أن الأول : تخصيص في الأزمان ، والثاني : تخصيص في الأفراد.

وأما بطلان التالي : فلأن الإجماع قد قام على عدم جواز النسخ به ، فيدل على عدم جواز التخصيص به.

وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «ممنوعة» يعني : والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة ؛ بأن عدم جواز النسخ به لقيام الإجماع ، وهو لا يلازم الإجماع على عدم جواز التخصيص به وإن اشتركا في كونهما معا من التخصيص ؛ لوجود الفرق وهو توفّر الدواعي إلى نقل النسخ وضبطه دون التخصيص ، فلا يكتفي في النسخ بالظن دون التخصيص.

وكيف كان ؛ فالإجماع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد هو الفارق بين النسخ والتخصيص ، بمعنى : أنه قام الإجماع على عدم جواز النسخ دون التخصيص.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي».

وحاصل هذا الوجه : أن قياس النسخ بالتخصيص مع الفارق ، حيث أن الدواعي لضبط نواسخ القرآن كثيرة ؛ بحيث تصدى لضبطها جلّ الأصحاب ، فلذلك قلّ الخلاف في تعيين موارد النسخ ، فموارد النسخ ثابتة بالتواتر الموجب لعدم الخلاف أو قلّته فيها ؛ وبهذا التواتر يصير خبر الواحد موهونا في إثبات النسخ ؛ إذ لو كان لنقل بالتواتر ، بخلاف التخصيص ، فإن دواعي ضبطه لما لم تكن كثيرة ، فيحصل الوثوق بصدور الخبر

٤٠١

أو أنها زخرف ، أو إنها ممّا لم يقل بها الإمام «عليه‌السلام» ، وإن كانت كثيرة جدا ، وصريحة الدلالة على طرح المخالف ؛ إلا إنه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الأخبار غير مخالفة العموم ؛ إن لم نقل بأنها ليست من المخالفة عرفا ، كيف؟ وصدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم «عليهم‌السلام» كثيرة جدا ، مع قوة احتمال أن يكون المراد إنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله «تبارك وتعالى» واقعا ـ وإن كان (١) هو على خلافه ظاهرا ـ شرحا لمرامه تعالى وبيانا لمراده من كلامه ، فافهم (٢).

والملازمة (٣) بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة ـ وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما ـ لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع ، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه ، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده ، بخلاف التخصيص.

______________________________________________________

الذي يمكن تخصيص الكتاب به ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٤٦» مع تصرّف ما.

(١) أي : وإن كان قول المعصومين «عليهم‌السلام» على خلاف قول الله تعالى ظاهرا ؛ لكنه موافق له واقعا ، وشارح لقوله تعالى ، ومبيّن لمرامه من كلامه «تبارك وتعالى».

قوله : «شرحا» مفعول لأجله يعني : أن مخالفة قولهم «عليهم‌السلام» لظاهر كلامه تعالى إنما هو لأجل كونه شارحا لمراده الواقعي.

(٢) لعله إشارة إلى : عدم وجاهة قوله : «مع قوة احتمال أن يكون المراد ..» إلخ. إذ فيه ـ مضافا إلى بعده في نفسه لعدم انسباقه إلى الذهن وعدم قرينة عليه ـ أنه إحالة على المجهول الذي لا يمكن لنا معرفته إلا بدلالة المعصوم «عليه‌السلام» ، ضرورة : إنه لا سبيل إلى إحراز الواقع حتى تحرم مخالفته ، مع أن موافقة الكتاب جعلت معيارا لصدق الخبر بعد عرضه على الكتاب ، والمسلّم عرضه على ظاهر الكتاب ؛ إذ العرض على واقع الكتاب غير ممكن لنا بعد وضوح عدم السبيل إلى معرفته.

فالنتيجة : أن قوله : «فافهم» يمكن أن يكون إشارة إلى عدم استقامة هذا التوجيه ؛ لأن جملة من هذه الأخبار صدرت لبيان الضابط لمعرفة الخبر وعلاج المعارضة ، والرواة ليسوا عالمين بالواقعيات حتى يعلموا المخالف من الموافق ، فلا بد من أن يكون مراد الأئمة «عليهم‌السلام» مخالفة ظاهر الكتاب ؛ لا خلاف مقصود الله سبحانه.

(٣) هذا رابع الوجوه التي استدل بها المانعون ، وقد عرفت توضيح ذلك ، فلا حاجة إلى التكرار.

٤٠٢

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ أن محل النزاع هو خبر الواحد المجرّد عن القرينة القطعية ، فيما إذا كان اعتباره من باب الظن الخاص ؛ لا من باب الظن المطلق الثابت اعتباره بحكم العقل ، بعد انسداد باب العلم.

٢ ـ استدلال المصنف على جواز التخصيص بوجهين :

أحدهما : قيام السيرة من الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عموم الكتاب.

ثانيهما : لزوم إلغاء أخبار الآحاد بالمرة لو لم يخصّص بها عموم الكتاب ؛ إذ وجود الخبر الذي لم يكن على خلافه عموم الكتاب في غاية الندرة ، فالاقتصار عليه يكون كإلغاء دليل حجية أخبار الآحاد.

الوجوه التي استدل بها المانعون :

٣ ـ الأول : أن العام الكتابي قطعي الصدور ، وخبر الواحد ظني الصدور فلا يقاوم العام.

وقد ردّه المصنف :

أولا : بأن ذلك لا يمنع عن التصرف في دلالة العام الكتابي الظنية ، وإلا لامتنع تخصيصه بالخبر المتواتر ، مع أنه جائز بلا كلام.

وثانيا : أن المعارضة في الحقيقة إنما هي بين أصالة العموم ودليل حجية الخبر ، وبما أن الخبر بدلالته وسنده صالح للتصرف في أصالة العموم لحكومته أو وروده عليها ـ لأنه رافع لموضوعها تعبّدا ـ كان الخبر مقدما على العام. وأصالة العموم لا تصلح للتصرف في أصالة الحجية ؛ لأنها لا ترفع موضوعها.

٤ ـ الثاني : أن ما دل على حجية الخبر هو الإجماع ، والقدر المتيقّن منه ما لا يوجد على خلافه عموم الكتاب.

وقد ردّه المصنف : بأن الدليل لا ينحصر بالإجماع ؛ لما عرفت من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عموم الكتاب.

٥ ـ الثالث : ما دل من الأخبار على وجوب طرح المخالف للكتاب من الأخبار ، وضربه عرض الجدار ، وأنها زخرف ، ومما لم يقله الإمام «عليه‌السلام» ، وهي كثيرة جدا.

٤٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وردّه المصنف بوجوه :

١ ـ المراد بالمخالفة : هي غير المخالفة بنحو العموم والخصوص ؛ لأنها ليست مخالفة بنظر العرف.

٢ ـ لا بد من تخصيص المخالفة بغير المخالفة بالعموم والخصوص ، للعلم بصدور أخبار كثيرة مخالفة للكتاب بالعموم والخصوص ؛ إذ لو لم نقل بهذا التخصيص يلزم طرح كثير من الأخبار التي علم بصدورها عن المعصوم «عليه‌السلام».

٣ ـ قوة احتمال كون المراد بالمخالفة مخالفة الحكم الواقعي بأن الأئمة «عليهم‌السلام» لا يقولون بغير قول الله تعالى ، ومع هذا الاحتمال لا يحرز كون الخبر المخالف ظاهرا مخالفا للحكم الواقعي حتى تشمله أخبار الطرح.

«فافهم» لعله إشارة إلى عدم استقامة هذا التوجيه ؛ لأن الرواة غير عالمين بالواقعيات ، فكيف يأخذون بما هو موافق للكتاب واقعا مع عدم علمهم بذلك؟

٦ ـ الرابع : عدم جواز تخصيص عموم الكتاب ، لعدم جواز النسخ ـ لأنهما في الحقيقة تخصيص ـ لأن النسخ تخصيص في الأزمان.

وقد ردّه المصنف بعدم الملازمة تارة للفرق بينهما ، والفارق هو : الإجماع على عدم جواز النسخ دون التخصيص. وأخرى : توافر الدواعي إلى نقل النسخ وضبطه دون التخصيص ، ولذا لا يكتفي في النسخ بالظن ؛ دون التخصيص فيجوز الاكتفاء بالظن فيه.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» هو : جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

٤٠٤

فصل

لا يخفى : أن الخاص والعام المتخالفين (١) ، يختلف حالهما ناسخا ومخصصا ومنسوخا ، فيكون الخاص : مخصصا تارة ، وناسخا مرّة ، ومنسوخا أخرى ؛ وذلك لأن

______________________________________________________

في دوران الأمر بين النسخ والتخصيص

(١) نحو : «أكرم العلماء» ، و «لا تكرم فساقهم». وتوضيح ما في المتن يتوقف على بيان ما يتصور في المقام من صور واحتمالات.

فيقال : إنه إذا ورد عام وخاص متخالفان حكما ـ كالمثال المذكور ـ فإما أن يعلم تاريخهما أو لا. والأول : إما مقترنان أو لا. والثاني : إما أن يتقدم العام أو الخاص ثم المتأخر منهما إما أن يكون واردا قبل حضور وقت العمل بالآخر أو بعده.

فهذه ست صور :

١ ـ الاقتران : بأن يكون الخاص مقارنا للعام من حيث الصدور ، كما إذا وردا من الإمامين في زمان واحد ؛ بناء على حجية قول الإمام قبل زمان إمامته.

٢ ـ أن يكون الخاص واردا بعد العام قبل حضور وقت العمل به ، كما لو قال المولى في يوم الجمعة : «أكرم العلماء يوم الاثنين» ، ثم قال يوم السبت : «لا تكرم فساقهم».

٣ ـ أن يكون الخاص واردا بعد حضور وقت العمل بالعام بأن يقول المولى يوم الثلاثاء : «لا تكرم فساقهم» في المثال المذكور.

وهذه الصور تتصور على وجهين :

أحدهما : أن يكون العام واردا لبيان الحكم الظاهري ، وتأسيس ضابط للشك ليرجع إليه في موارد الشك.

وثانيهما : أن يكون واردا لبيان الحكم الواقعي.

٤ ـ أن يكون العام واردا بعد الخاص قبل حضور وقت العمل بالخاص ، كما قال المولى يوم الجمعة : «لا تكرم فساق العلماء يوم الاثنين» ، ثم قال يوم السبت : «أكرم العلماء».

٥ ـ أن يكون العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص ، بأن يقول المولى يوم الثلاثاء : «أكرم العلماء» في المثال السابق.

٤٠٥

الخاص إن كان مقارنا مع العام ، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له.

وإن كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا ؛ لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي ؛ وإلا (١) لكان الخاص أيضا

______________________________________________________

٦ ـ أن يجهل التاريخ.

هذه خلاصة الكلام في بيان ما يتصور من الصور.

أما أحكام هذه الصور : فقد يكون الخاص مخصصا للعام ، وقد يكون ناسخا له ، وقد يكون منسوخا. هذا مجمل الكلام في المقام.

وأما تفصيل ذلك : فهو بحسب ما ذكرناه من الترتيب بالأرقام.

وأما حكم الاقتران : فلا إشكال في كون الخاص مخصصا للعام بلا خلاف يعبأ به كما في معالم الدين ، ص ٣٠٧ ، ط. الجديدة ، حيث قال : «ويجب حينئذ بناء العام على الخاص بلا خلاف يعبأ به».

وكذلك يكون الخاص مخصصا للعام فيما إذا كان واردا بعد العام قبل حضور وقت العمل به ، وقد أشار إليهما بقوله : «إن كان الخاص مقارنا مع العام ، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ؛ فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له» ، فيكون الخاص مخصصا للعام في صورتي المقارنة ، وورود الخاص بعد العام قبل حضور وقت العمل به.

وأما حكم الصورة الثالثة ـ وهي ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ـ فهو أن يكون الخاص ناسخا لا مخصصا ؛ «لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي».

قوله : «لئلا يلزم» تعليل لعدم المخصصية ، كما أن قوله : «فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي» إشارة إلى ما هو شرط لناسخية الخاص.

وحاصل الكلام في المقام : أن ناسخية الخاص المتأخر عن وقت العمل بالعام مشروطة بكون العام واردا لبيان الحكم الواقعي ـ إذ لو كان واردا لبيان الحكم الظاهري كان الخاص مخصصا له ـ كصورة ورود الخاص بعد العام قبل وقت العمل به ، وكصورة مقارنته للعام كما عرفت.

(١) أي : وإن لم يكن العام لبيان الحكم الواقعي ـ بأن كان لبيان الحكم الظاهري ـ «لكان الخاص أيضا مخصصا له» يعني : كصورة ورود الخاص قبل حضور زمان العمل بالعام ، وصورة مقارنته للعام.

٤٠٦

مخصصا له ، كما هو (١) الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات.

وإن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام ، يحتمل أن يكون العام ناسخا له ، وإن كان الأظهر أن يكون الخاص مخصصا ، لكثرة (٢) التخصيص ، حتى اشتهر : (ما من عام إلا وقد خص) ، مع قلّة النسخ في الأحكام جدّا ، وبذلك (٣) يصير ظهور الخاص في الدوام ـ ولو كان

______________________________________________________

(١) أي : ورود العام لبيان الحكم الظاهري ، وكون الخاص مخصصا له حال غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات المأثورة عن الأئمة «عليهم‌السلام».

وأما حكم الصورة الرابعة ـ وهي ورود العام بعد الخاص قبل حضور وقت العمل به ـ فهو تعيين الخاص للتخصيص ؛ ولكن هذا الحكم مبني على اشتراط النسخ بحضور زمان العمل بالحكم المنسوخ ، فلا يجوز النسخ قبل حضور وقت العمل بالحكم المنسوخ ، وإلا فلا يتعين الخاص للتخصيص ، يعني : وإن لم يكن النسخ مشروطا بحضور وقت العمل بالمنسوخ فلا يتعيّن الخاص للتخصيص ؛ بل يدور أمره بين المخصصية والناسخية فيما إذا ورد العام قبل حضور العمل بالخاص ، أو كان الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام ؛ لكن المشهور هو اشتراط النسخ بحضور وقت العمل ، فكان الخاص مخصصا للعام على كلا التقديرين ؛ لا ناسخا له. هذا ما أشار إليه بقوله : «أو ورد العام قبل حضور العمل به».

وأما حكم الصورة الخامسة ـ وهي ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ـ ففيه احتمالان ؛ الأول : أن يكون الخاص مخصصا للعام : الثاني : أن يكون العام ناسخا للخاص.

أما جواز التخصيص : فلعدم استلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأما جواز النسخ : فلكونه بعد حضور وقت العمل بالخاص ، غير إن التخصيص هو أظهر من النسخ لما أشير إليه من شيوع التخصيص ، وندرة النسخ ، فيوجب ذلك قهرا أقوائية ظهور الخاص في الدوام والاستمرار وإن كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة من ظهور العام في العموم. وإن كان بالوضع لا بالإطلاق فيتعين التخصيص دون النسخ.

(٢) علّة لترجيح مخصصية الخاص على ناسخية العام له.

وحاصل التعليل : أظهرية التخصيص ـ لكثرة شيوعه ـ من النسخ لقلته.

(٣) أي : بكثرة التخصيص وقلة النسخ ، مع ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص يصير ظهور الخاص في الدوام ـ ولو كان هذا الظهور إطلاقيا يعني : ناشئا عن

٤٠٧

بالإطلاق ـ أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع ، كما لا يخفى هذا فيما علم تاريخهما (١).

وأما لو جهل ، وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره : فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية.

وكثرة التخصيص ، وندرة النسخ ـ هاهنا ـ وإن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضا (٢) ،

______________________________________________________

مقدمات الحكمة ـ أقوى من ظهور العام في عمومه الأفرادي ، ولو كان هذا الظهور وضعيا ، فيقدم الخاص على العام من باب التخصيص ، فالعلماء في قوله : «أكرم العلماء» مثلا ظاهر بحسب الوضع في كل فرد من أفراد العلماء ، سواء كان عادلا أم فاسقا ، وقوله : «ولا تكرم فساق العلماء» ظاهر ـ بالإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة ـ في الدوام والاستمرار ، فلو قدّم العام على الخاص كان مقتضى تقديمه عليه عدم استمرار حرمة فساقهم ، ولو انعكس وقدم الخاص على العام فمقتضاه : انحفاظ ظهور الخاص في الاستمرار ، وعدم بقاء العام على عمومه ، وخروج بعض أفراده عن حيّزه ، فيدور الأمر بين أحد هذين الأمرين ، وحيث إن ظهور الخاص في الاستمرار ـ وإن كان بالإطلاق ـ معتضد بشيوع التخصيص ، فيصير أقوى من ظهور العام في عمومه الأفرادي ولو كان بالوضع فيقدم على ظهور العام ؛ لوضوح تقدم الأقوى ظهورا على الأضعف ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٥٢».

(١) أي : تاريخ الخاص والعام ، ولا يعلم أن الخاص وارد قبل حضور وقت العمل بالعام كي يكون مخصصا له ، أو بعده كي يكون ناسخا له ، أو يكون العام واردا بعد وقت العمل بالخاص حتى يكون ناسخا ، أو مقارنا معه كي يكون الخاص مخصصا له. فحينئذ يحكم بإجمالهما ، ويرجع إلى الأصول العملية لا إلى التخصيص ، ولا إلى النسخ كما هو الشأن في جميع موارد إجمال الدليل.

هذا ما أشار إليه بقوله : «فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية» ، فيرجع في مثال : «أكرم الشعراء ولا تكرم فساقهم» إلى أصل البراءة عن حرمة إكرام الشاعر الفاسق.

(٢) أي : كصورة تأخر العام عن العمل بالخاص.

وحاصل الكلام في المقام : أن قوله : «وكثرة التخصيص» دفع لما يتوهم من : أن كثرة التخصيص موجبة لترجيح احتمال التخصيص على النسخ كالصورة الخامسة المتقدمة ـ وهي تأخر العام عن العمل بالخاص ـ التي حكم المصنف فيها بالتخصيص ؛ لشيوعه وندرة النسخ ؛ لأن الشيوع موجود هنا أيضا ، فيكون مرجحا للتخصيص على النسخ والأصول العملية ، فلا فرق في الحكم بالتخصيص وبين الجهل بالتاريخ وبين العلم بتأخر

٤٠٨

وأنه واجد لشرطه (١) إلحاقا له (٢) بالغالب ، إلا إنه لا دليل على اعتباره (٣) ، وإنما يوجبان الحمل عليه (٤) فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، لصيرورة (٥) الخاص بذلك في الدوام أظهر من العام ، كما أشير إليه فتدبر جيدا.

______________________________________________________

العام على العمل بالخاص. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح التوهم.

وحاصل الدفع : هو الفرق بين الصورة السابقة وبين هذه الصورة.

وحاصل الفرق : أن كثرة التخصيص ؛ وإن كانت موجبة للظن بالتخصيص مع ندرة السنخ إلّا إنه لا دليل على اعتبار هذا الظن ، هذا بخلاف الصورة السابقة ، فإن شهرة التخصيص فيها تستلزم أقوائية ظهور الخاص في الدوام ، والاستمرار على ظهور العام في العموم وليس الأمر كذلك في صورة الجهل بالتاريخ ؛ لعدم الدوران بين الظهورين ، ومجرد الظن بالتخصيص ما لم يوجب الأظهرية لا عبرة به أصلا. فقياس الخاص المجهول التاريخ بالخاص المعلوم تقدمه صدورا وعملا على العام في غير محله ؛ لكونه قياسا مع الفارق ـ إذ في الثاني ينعقد الظهور للخاص في الدوام والاستمرار ، ويتقوى هذا الظهور بالظن الحاصل من شيوع التخصيص وندرة النسخ ، بخلاف الخاص في المجهول التاريخ فلا ينعقد له ظهور حتى يتقوى بالظن المزبور.

(١) أي : شرط التخصيص ، وهو ورود الخاص بعد العام قبل حضور وقت العمل بالعام ، أو وروده قبل العام ، سواء كان قبل حضور وقت العمل به أو بعده.

(٢) أي : إلحاقا للخاص مع الجهل بالتاريخ بالغالب وهو التخصيص.

«إلا إنه لا دليل على اعتباره» يعني : غلبة التخصيص وإن كانت موجبة للظن بالتخصيص ـ حتى في الخاص المجهول التاريخ ـ لكنه لا دليل على اعتباره في ترجيح التخصيص على النسخ ما لم يوجب الأظهرية ؛ كصورة تأخر العام عن العمل بالخاص ، حيث إنه قد انعقد للخاص ظهور في استمرار الحكم ولو بالإطلاق ، وهذه الغلبة توجب أقوائية هذا الظهور ، ومن المعلوم : أن الأقوى ظهورا يتقدم على غيره ، وهذا بخلاف الجهل بالتاريخ ، فلم يتحقق فيه ظهور للخاص في الاستمرار ، ومن هنا يعلم : أن مجرّد الظن الحاصل من الغلبة غير مجد في إثبات التخصيص.

(٣) أي : اعتبار الظن الحاصل من كثرة التخصيص ، وندرة النسخ فلا يترجح به التخصيص على النسخ.

(٤) أي : على التخصيص في صورة ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص.

(٥) تعليل لقوله : «يوجبان الحمل عليه» أعني : لصيرورة الخاص بالظن الحاصل من كثرة التخصيص «في الدوام أظهر من العام» ، وقد أشار إليه بقوله : «وإن كان الأظهر أن

٤٠٩

ثم إن تعيّن الخاص (١) للتخصيص إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به إنما يكون مبنيا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلا فلا يتعين له بل يدور بين كونه مخصصا وناسخا في الأول (٢) ، ومخصصا ومنسوخا في الثاني (٣) ، إلا أن الأظهر كونه (٤) مخصصا ، وإن كان ظهور

______________________________________________________

يكون الخاص مخصصا».

قوله : «إنما يوجبان الحمل عليه» أي : إنما يوجب كثرة التخصيص وندرة النسخ الحمل على التخصيص في خصوص الصورة الخامسة وهي : ما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص من جهة كونهما موجبين لأقوائية ظهور الخاص في العام ، والاستمرار من ظهور الدوام في العموم الأفرادي ، هذا بخلاف الجهل بالتاريخ إذا أوجبا الظن بالتخصيص ؛ لأن الظن حينئذ مما لا عبرة به كما عرفت غير مرة ، فيرجع إلى الأصل العملي.

(١) أي : تعيّن الخاص للتخصيص ـ في الفرضين المذكورين في المتن ـ مبني على اشتراط النسخ بحضور زمان العمل بالحكم المنسوخ ؛ إذ لو لم يشترط به لم يتعين الخاص في الصورتين المذكورتين للتخصيص ؛ بل يدور أمره بينه وبين النسخ ، كما أشار إليه بقوله : «وإلا فلا يتعين ؛ بل يدور ..» إلخ. يعني : وإن لم يكن النسخ مشروطا بحضور وقت العمل بالمنسوخ ، فلا يتعيّن الخاص للتخصيص ؛ بل يدور أمره بين المخصصية والناسخية فيما إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، فالخاص حينئذ إمّا مخصّص للعام ، وإما ناسخ له ، لكن المشهور اشتراط النسخ بحضور وقت العمل.

(٢) أي : ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام.

(٣) أي : ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص ، فإن الخاص حينئذ إما مخصص للعام ، وإما منسوخ به لورود العام بعده وإن كان قبل العمل بالخاص.

(٤) أي : كون الخاص مخصصا في كلتا الصورتين ، وهما وروده قبل حضور وقت العمل بالعام ، وورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص ؛ وذلك لما تقدم من شيوع التخصيص وندرة النسخ ، وهذا الشيوع يوجب أقوائية ظهور الخاص في الدوام من ظهور العام في العموم ، فيبني على المخصصية لا الناسخية. وتظهر الثمرة بين التخصيص والنسخ ـ على ما قيل ـ في موارد :

منها : ما إذا ورد مخصصان مستوعبان للعام ، فعلى التخصيص يقع التعارض بينهما ؛ لاستهجان استيعاب التخصيص ، بخلاف النسخ.

ومنها : أنه بناء على استهجان تخصيص الأكثر إذا ورد خاص مشتمل على حكم

٤١٠

العام في عموم الأفراد أقوى من ظهور الخاص في الدوام ؛ لما أشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه ، وندرة النسخ جدّا في الأحكام. ولا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ (١).

______________________________________________________

أكثر الأفراد ، فإنه على النسخ لا ضير فيه ، بخلاف التخصيص.

ومنها : ما يمكن أن يكون من موارد ظهور الثمرة ، وهو ما إذا كان الخاص ظنيا والعام قطعيا ، وقلنا بعدم جواز نسخ القطعي بالظني ، فإنه يحمل على التخصيص.

في النسخ

(١) ولمّا انجر الكلام إلى النسخ فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو منتخب القول في النسخ ، فاعلم : أن النسخ في اللغة وإن كان الإزالة ، ومنه «نسخت الشمس الظل» أي : أزالته إلّا إنه في الاصطلاح : بمعنى رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه ، من دون فرق بين أن يكون ذلك الأمر الثابت حكما تكليفيا ، أو وضعيا ، فارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ، وارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان المبارك ليس من النسخ بشيء ، فالنسخ وإن كان رفع الحكم الثابت بالدليل الأول «إثباتا» أي : بحسب ظاهر دلالة الدليل الثاني ، «إلا إنه في الحقيقة» ليس رفعا ؛ بل «دفع الحكم ثبوتا» أي : بحسب الواقع ؛ لأن الدليل الناسخ كاشف عن عدم المقتضي لدوام الحكم ثبوتا ، وأن أمده ينقضي ، وإن كان ظاهر الدليل الأول يقتضي دوامه واستمراره ؛ ولكن اقتضت الحكمة إخفاء أمد الحكم في بداية الأمر ، مع إنه بحسب الواقع له أمد وغاية إذا كان النسخ بعد حضور وقت العمل ، أو اقتضت الحكمة أصل إنشاء الحكم وإقراره ، مع إنه في الواقع ليس للحكم قرار وثبات إذا كان النسخ قبل حضور وقت العمل.

وكيف كان ؛ فالنسخ دفع ثبوتا وإن كان رفعا إثباتا ، وذلك فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الصادع أي : القاضي للشرع ربّما يلهم من قبل الله تعالى أو يوحى إليه أن يظهر الحكم ، وأن يظهر استمراره للناس ، مع علمه على حقيقة الحال ، وأنه سينسخ في الاستقبال ، أو مع عدم علمه على نسخ الحكم في الاستقبال لعدم إحاطة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتمام ما جرى في علم الله تعالى ، فقد أمر الله تعالى إبراهيم الخليل بذبح ولده إسماعيل ، مع عدم كون المأمور به مرادا جديا للمولى في الواقع ، ومع عدم علم الخليل بالنسخ.

فالمتحصل : أن النسخ بحسب الحقيقة والواقع يكون دفعا وإن كان بحسب الظاهر

٤١١

فاعلم : أن النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا ، إلا إنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا ، وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره ، أو أصل إنشائه وإقراره ، مع إنه بحسب الواقع ليس له قرار أو ليس له دوام واستمرار وذلك (١) لأن النبي

______________________________________________________

رفعا ، فلا محذور فيه سواء كان قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ أم كان بعد وقت العمل به.

ومن هنا يعلم : أن الغرض الداعي إلى تعرّض المصنف لمعنى النسخ هو : التنبيه على خطأ ما اشتهر بينهم من اشتراط النسخ بحضور وقت العمل بالحكم المنسوخ.

وتوضيح ما أفاده المصنف : أن النسخ وإن كان رفعا للاستمرار الذي اقتضاه إطلاق دليل الحكم في مقام الإثبات ؛ لكنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا ؛ لعدم المقتضي لاستمراره ؛ إذ مع وجود المقتضي له لم يكن وجه لرفعه ، فالناسخ كاشف عن عدم المقتضي لبقاء الحكم ودوامه. فقوله : «إثباتا» قيد للرفع ، يعني : أن النسخ وإن كان رفع الحكم الواقعي الأولي أو الثانوي في مقام الإثبات ؛ لكنه في الحقيقة دفع له ؛ لكشفه عن عدم المقتضي لثبوته.

قوله : «وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره» إشارة إلى : دفع توهم ، فلا بد أولا من توضيح التوهم ؛ كي يتضح ما أفاده المصنف في مقام الدفع عنه.

وأما توضيح التوهم : فهو أنه مع عدم المقتضي لتعلق الإرادة الجدّية باستمرار الحكم أو بأصل إنشائه لا فائدة لأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو الولي «عليه‌السلام» بإظهار الدوام لو كان النسخ بعد حضور وقت العمل ، أو إظهار أصل إنشائه لو كان النسخ قبل حضور وقت العمل.

وحاصل ما أفاده المصنف في مقام الدفع : أن المقتضي لإظهار إنشاء الحكم أو دوامه موجود ، فيكون أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو الولي «عليه‌السلام» بإظهار أصل إنشاء الحكم أو دوامه مع الحكمة والفائدة المقتضية له ، فليس أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإظهار الدوام أو أصل إنشاء الحكم بلا فائدة.

(١) هذا تقريب كون النسخ دفعا ثبوتا ورفعا إثباتا ، وأن دليل النسخ شارح لدليل تشريع الحكم الظاهر في كون مدلوله مرادا بالإرادة الجدية ، ومبيّن له ، بأنه مراد بالإرادة الاستعمالية لمصلحة اقتضت ذلك ، فربما يلهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو يوحي إليه أن يظهر أصل تشريع الحكم أو استمراره ، مع اطلاعه على أنه ينسخ في المستقبل ، أو عدم اطلاعه على ذلك ؛ لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علم الله تعالى ؛ لكونه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ممكن الوجود المستحيل أن يحيط بواجب الوجود ، ومن المعلوم : أن علمه

٤١٢

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» الصادع للشرع ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره ، مع اطلاعه على حقيقة الحال ، وأنه ينسخ في الاستقبال ، أو مع عدم اطلاعه على ذلك ؛ لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه «تبارك وتعالى» ، ومن هذا القبيل (١) لعله (٢) يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.

وحيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا (٣) ، وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العمل ؛ لعدم (٤) لزوم البداء المحال

______________________________________________________

تعالى عين ذاته ، فيمتنع إحاطته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعلمه تعالى أيضا ، فبرهان امتناع إحاطته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذات الباري تعالى برهان على امتناع إحاطته بعلمه أيضا ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٦٠».

(١) أي : من قبيل إنشاء أصل الحكم مع عدم كونه مرادا جديا وإن كان بحسب ظاهر الدليل مرادا كذلك.

(٢) هذا إشارة إلى أنه يمكن أن يكون من هذا القبيل الذي لم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلم بحقيقة الحال ـ أمر إبراهيم بذبح اسماعيل ـ إذ لو علم النسخ لم يكن له كثير ثواب ومدح ؛ إذ الرجل العادي منّا لو علم بنسخ تكليف شاق لم يكن ممدوحا لأجل تهيئة المقدمات.

(٣) أي : بيانا لعدم الحكم من أول الأمر إلا صوريا ؛ «وإن كان بحسب الظاهر رفعا» للحكم الثابت.

قوله : «ولو كان قبل حضور وقت العمل» بيان للإطلاق في قوله : «مطلقا» ـ فلا يعتبر ما ذكره المشهور من الفرق بين النسخ والتخصيص من اشتراط حضور وقت العمل في النسخ.

(٤) تعليل لقوله : «فلا بأس» ، ولزوم البداء إشارة إلى أحد الوجوه التي استدل بها على عدم جواز النسخ ، وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ٦٦١» ـ أنه يلزم منه البداء المحال في حقه «تبارك وتعالى».

توضيحه : أنه يستحيل تعلق الإرادة الجدّية بفعل أولا ، وتعلقها بتركه ثانيا ، مع عدم تغيّر الفعل أصلا لا ذاتا ، ولا جهة أي : الجهة التي لها دخل في المصلحة كالسفر والحضر والفقر والغنى وحضور الإمام وغيبته. مثلا : إذا كانت صلاة الجمعة في عصر الحضور واجبة مطلقا ؛ بحيث لا يكون لحضوره «عليه‌السلام» دخل في المصلحة الداعية إلى إيجابها وتعلق الإرادة بها ، فلا يمكن تعلق النهي بها حينئذ ؛ لاستلزامه تغيّر الإرادة مع عدم تغيّر في الفعل بما يوجب تغيّرها ، ولذا أنكر بعض النسخ في الشرعيات.

٤١٣

في حقّه «تبارك وتعالى» بالمعنى المستلزم لتغيّر إرادته مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة ، ولا لزوم (١) امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ، فإن الفعل إن كان مشتملا على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه ، وإلا (٢) امتنع الأمر به ، ...

______________________________________________________

وبالجملة : فالبداء المحال هو تعلق الإرادة الجدّية بفعل ما فيه مصلحة ملزمة لتعلق الوجوب به ، ثم تعلق الإرادة الجدية أيضا بتركه مع وحدة الفعل ذاتا وجهة ، وعدم تغيّر فيه بما يوجب الإرادة.

وكيف كان ؛ فلا يلزم البداء المحال وهو البداء بالمعنى المتبادر منه أي : ظهور الأمر الخفي المستلزم لتغيّر إرادته تعالى ؛ إذ لزوم البداء المحال إنما يلزم إذا لم يكن النسخ بمعنى الدفع ، بخلاف ما إذا كان في الحقيقة دفعا.

وأما لزوم البداء المستلزم للجهل المستحيل في حقه «سبحانه وتعالى» إذا كان النسخ بمعنى الرفع ؛ فلأن الله تعالى لو أمر بصلاة خمسين ركعة في اليوم والليل حسب المصلحة الموجودة في الفعل بلا مفسدة أصلا ، ثم نسخ ذلك قبل العمل ، وجعلها عشر ركعات لكان أحد الأمرين خطأ لا محالة ؛ إما الجعل الأول وإما الجعل الثاني وهو رفع الجعل الأول لكونه مستلزما للجهل.

ثم هذا الكلام بعينه آت فيما لو كان النسخ بعد حضور وقت العمل رفعا لا دفعا ؛ إذ جعل الاستمرار حقيقة ، ثم رفعه يستلزم أحد الخطأين.

وأما النسخ بمعنى الدفع : فلا يلزم منه محذور أصلا ، من دون فرق بين كون النسخ حينئذ قبل حضور وقت العمل أو بعده ، فتحصل إمكان النسخ قبل حضور وقت العمل ، وجواز التخصيص بعد حضور العمل ؛ وذلك لعدم لزوم تأخير البيان القبيح في التخصيص ، ولا لزوم البداء المحال في النسخ ؛ لأن في الإظهار بعد الإخفاء مصلحة ، وذلك لا يستلزم تغيّر إرادته سبحانه ، مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة.

(١) هذا إشارة إلى وجه آخر من الوجوه التي احتج بها على امتناع النسخ.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الحكم تابع للملاك ، إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يلزم على تقدير كون النسخ بمعنى الرفع امتناع النسخ إن كان للحكم ملاك ـ وهو المصلحة ـ لامتناع النهي المشتمل على مصلحة موجبة للأمر ، أو امتناع الحكم المنسوخ إن لم يكن في الفعل مصلحة مقتضية للأمر به.

(٢) أي : وإن لم يكن الفعل مشتملا على مصلحة موجبة للأمر به امتنع الأمر به ؛ لعدم المصلحة الداعية إلى الأمر ، وقد عرفت امتناع الحكم بلا ملاك على ما مذهب العدلية.

٤١٤

.. وذلك (١) لأن الفعل أو دوامه لم يكن متعلقا لإرادته ، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته ، ولم يكن الأمر بالفعل من جهة كونه مشتملا على مصلحة ، وإنما كان إنشاء الأمر به ، أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة.

وأما البداء في التكوينيات ـ بغير ذلك المعنى (٢) ـ فهو (٣) مما دل عليه الروايات المتواترات (٤) ، كما لا يخفى.

ومجمله (٥) ، أن الله «تبارك وتعالى» إذا تعلّقت مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما

______________________________________________________

فالمتحصل : هو عدم جواز النسخ بمعنى الرفع لأجل الوجهين المذكورين ، وهما : لزوم البداء المحال ، ولزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ.

وحاصل جواب المصنف : أن النسخ يكون بمعنى الدفع ، فلا يلزم شيء من المحذورين المذكورين.

(١) تعليل لعدم لزوم البداء المستحيل ، وعدم لزوم امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ. وحاصله : أنه مع عدم تعلق الإرادة الجدية لا يلزم شيء من المحاذير.

فالنتيجة هي : أن النسخ ـ في التشريعيات ـ عبارة عن دفع الحكم ثبوتا ورفعه إثباتا ، وعدم توقفه على حضور وقت العمل ، وعدم لزوم تغيّر إرادة ولا امتناع نسخ ولا منسوخ منه.

البداء في التكوينيات

(٢) أي : المعنى المستحيل في حقه «تبارك وتعالى» ، الذي تقدمت استحالته لكونه مستلزما لتغيّر إرادته واقعا ؛ كأن يخبر بعذاب قوم يونس ، ثم لا يعذبهم ، أو يخبر بموت العروس ليلة الزفاف ثم لا تموت ، إلى غير ذلك.

(٣) أي : البداء في التكوينيات بغير ذلك المعنى المحال ، المستلزم للجهل ، فقد رواه في الوافي في باب البداء عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «إن الله لم يبد له من جهل» وفي نفس الباب عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له».

(٤) أي : التي ذكرت في الوافي في باب البداء. تركنا ذكرها رعاية للاختصار.

(٥) أي : ومجمل معنى البداء في التكوينيات هو : إظهار ثبوت شيء لمصلحة مع عدم ثبوته واقعا ، وعدم تعلق إرادة جدّية بثبوته ، والنبي أو الولي المأمور بإظهاره قد يكون عالما بحقيقة الحال ، وأنه لا ثبوت له واقعا ، وقد لا يكون عالما بها ؛ لعدم اتصاله إلا بلوح المحو والإثبات.

٤١٥

يمحوه ، لحكمة (١) داعية إلى إظهاره ، ألهم (٢) أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به ، مع علمه (٣) بأنه يمحوه ، أو مع عدم علمه (٤) به ، لما أشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه ، وإنما يخبر به لأنه (٥) حال الوحي أو الإلهام لارتقاء نفسه الزكية ، واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات اطلع على ثبوته ، ولم يطلع على كونه معلقا على أمر غير واقع ، أو عدم الموانع ، قال الله «تبارك وتعالى» : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (٦) الآية.

نعم (٧) ؛ من شملته العناية الإلهية ، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ

______________________________________________________

(١) قيد لقوله : «بإظهار».

(٢) جواب «إذا» في قوله : «إذا تعلقت». والضمير في قوله «به» و «إظهاره» راجعان إلى «ثبوت ما يمحوه».

(٣) أي : مع علم النبي أو الولي بأنه تعالى يمحو ما أخبر بثبوته. وضمير «بأنه» راجع إليه تعالى. وضمير «يمحوه» راجع إلى «ما أخبر بثبوته».

(٤) أي : مع عدم علم النبي أو الولي بمحوه ، والغرض : أنه لا يعتبر في المخبر من النبي أو الوصي علمه بالمحو ؛ إذ اللازم في الوحي والإلهام : الاتصال بلوح المحو والإثبات ، وقد يكون ما فيه مطابقا لما في اللوح المحفوظ ، وقد يكون مخالفا له والأول قابل للتغيير دون الثاني ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٦٥».

(٥) أي : لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حال الوحي يعلم بثبوت أمر ؛ ولكن لا يعلم بأنه معلق على أمر غير واقع ، والحاصل : أن قوله : «لأنه» تعليل لقوله : «وإنما يخبر به» ، يعني : أن إخباره بثبوته إنما هو لأجل اطلاعه على ثبوته ؛ لاتصال نفسه المقدسة بلوح المحو والإثبات ، وعدم اطلاعه على كون ثبوته معلقا على أمر غير واقع ؛ أو معلقا على عدم الموانع ؛ كإخبار النبي أو الولي بموت زيد بعد مدة معينة ، أو موت شخص في وقت خاص ؛ كموت العروس بالعقرب إن لم يتصدق عنها ، وإلا فلا يقع الموت ، فإن الإخبار بثبوت مثل هذه الأمور التكوينية المعلقة على أمر غير واقع ، أو على عدم الموانع كعدم الصدقة مما لا ضير فيه ؛ لعدم لزوم محذور منه ؛ إذ ليس فيه إرادة جدّية حتى تغيّر الإرادة أو غيره من المحاذير.

(٦) الرعد : ٣٩.

(٧) استدراك على ما ذكره من عدم اطلاع النبي أو الولي على كون ثبوت ما أخبر به معلقا على أمر غير واقع ، وحاصله : أن بعض خالصي عباده بسبب اتصاله باللوح المحفوظ المعبّر عنه بأم الكتاب ؛ ينكشف عنده الواقعيات بجملتها على ما هي عليها ، فيطلع على

٤١٦

الذي هو من أعظم العوالم الربوبية ، وهو أم الكتاب ، يكشف عنده الواقعيات على ما هي عليها ، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء ، ولبعض (١) الأوصياء ، كان عارفا بالكائنات كما كانت (٢) وتكون.

نعم (٣) ؛ مع ذلك ربما يوحى إليه حكم من الأحكام ، تارة : بما يكون ظاهرا في الاستمرار والدوام ، مع أنه في الواقع له غاية وأمد يعيّنها بخطاب آخر ، وأخرى (٤):

بما يكون ظاهرا في الجد ، مع إنه لا يكون واقعا بجد ؛ بل لمجرد الابتلاء والاختبار ، كما أنه يؤمر وحيا أو إلهاما بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره ممّا لا يقع ، لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإظهار ، فبدا له تعالى بمعنى : أنه يظهر ما أمر نبيّه أو وليّه بعدم إظهاره أوّلا ، ويبدي ما خفي ثانيا (٥) وإنما نسب إليه تعالى البداء ، مع أنه في

______________________________________________________

المشروط وشرطه ، والمقيد وقيده ، ويكون عارفا بالكائنات من ماضيها وحالها ومستقبلها.

(١) المراد به : الأئمة الاثني عشر عليهم صلوات الله الملك الأكبر.

(٢) أي : كما كانت الكائنات الماضية ، وتكون الكائنات في المستقبل والحال. يعني : يعلم بعض الأوصياء الكائنات لاتصاله باللوح المحفوظ.

(٣) يعني : نعم ؛ مع علمه بالواقعيات ـ على ما هي عليه ـ لا مانع من أن يوحى إليه حكم يكون ظاهرا في الاستمرار ، مع كونه موقتا واقعا يعيّن أمده بخطاب آخر ، فالغرض من قوله : «نعم مع ذلك» : أنه مع العلم بالواقعيات يمكن أن تكون مصلحة من وحي حكم يكون بحسب الدليل ظاهرا في الاستمرار ، مع كونه موقتا بوقت يعيّنه بعد ذلك بخطاب آخر ، كما أنه قد تكون المصلحة في أن يوحى إليه بحكم يكون ظاهرا في الجد ، مع عدم كونه كذلك ؛ بل لمجرد الابتلاء والاختبار.

كما أنّه قد تكون المصلحة في الأمر وحيا أو إلهاما بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره من الأمور التكوينية ، مع عدم وقوعه في الخارج ، ثم يظهر ما أمر نبيّه أو وليه بعدم إظهاره أولا ، ويبدي ما خفي ثانيا ، ويسمى إظهار ما خفي بداء ، ولا ضير فيه أصلا من غير فرق في ذلك بين تعلق إظهار ما خفي بالتشريع والتكوين ، فالبداء مطلقا سواء كان في التشريعيات أم التكوينيات هو إظهار ما خفي ، والبداء بهذا المعنى لا يستلزم محذورا عقليا ، كما في «منتهى الدراية ج ٣ ، ص ٦٦٧».

(٤) يعني : وأخرى يوحي بحكم يكون ظاهرا في الجد ، مع عدم كونه واقعا كذلك.

(٥) أي : ما خفي أولا من عدم استمرار الحكم ، أو عدم الإرادة الجدية في التشريعيات ، أو عدم وقوع ما أخبر بثبوته أولا.

٤١٧

الحقيقة الإبداء ، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك (١) بالبداء في غيره ، وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهم (٢) في باب النسخ ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الألباب.

ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ (٣) ، ضرورة : أنه على التخصيص

______________________________________________________

وقوله : «ثانيا» قيد لقوله : «ويبدي».

(١) أي : إظهار ما أخفاه أولا لمصلحة اقتضت إخفاءه ، وإبراز خلافه وأما وجه شباهة بدائه تعالى ببداء غيره فهو : كون البداء إظهارا بخلاف الإظهار الأول في غيره تعالى ، حيث إن الجاهل المركب يظهر شيئا يعتقد بكونه ذا مصلحة ، وبعد ذلك حينما ينكشف له خلافه وعدم المصلحة فيه يظهر خلافه ، فكما تكون المصلحة مخفية عليه ، وتظهر له بعد ذلك ، فكذلك المصلحة التي أخفاها الله تعالى على العبد ثم أظهرها له ؛ لكن الإخفاء منه تعالى يكون للمصلحة ، ومن غيره تعالى للجهل.

فالحاصل : أن البداء المنسوب إليه تعالى ليس بمعناه الحقيقي أعني : ظهور الشيء الخفي ، فإنه لا يخفى عليه تعالى شيء ، فالمعقول في حقه تعالى هو الإبداء أي : إظهار الشيء الخفي ، والمعقول في حق غيره هو الظهور بعد الخفاء ، فنسب البداء إليه تعالى لشباهة الإبداء منه تعالى للبداء من غيره تعالى.

(٢) وهو : عدم كون النسخ مشروطا بحضور وقت العمل بالحكم المنسوخ. ولا يخفى : إن البداء ليس له دخل في علم الأصول ، ولذا تركنا تطويل الكلام في هذا المقام.

في بيان الثمرة بين التخصيص والنسخ

(٣) أي : فيما إذا دار الخاص بين الناسخية والمخصصية.

ومنها : ما أشير إليه سابقا من : أن الخاص الوارد بعد العام إن كان مخصصا خرج عن حكم العام من الأول ، وإن كان ناسخا خرج عن حكمه من حين النسخ ، والوارد قبل العام إن كان مخصصا لا يدخل في حكم العام أبدا ، وإن كان منسوخا دخل فيه بعد النسخ.

ومنها : أن تخصيص الكتاب بالخبر جائز ، ونسخه به ممنوع.

ومنها : أن نسخ حكم العام عموما جائز ، وتخصيص العام بالأكثر فضلا عن الكل ممنوع.

ومنها : أنه لو أمر مثلا بالصلاة بلا تعيين مكان ، فصلى في ملك الغير فنهي عنه ، فعلى النسخ أجزأت ، وعلى التخصيص يحتمل القضاء.

٤١٨

يبني على خروج الخاص عن حكم العام رأسا (١) ، وعلى النسخ (٢) على ارتفاع حكمه عنه من حينه ، فيما دار الأمر بينهما في المخصص ، وأما إذا دار بينهما في الخاص والعام ؛ فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلا ، وعلى النسخ كان

______________________________________________________

(١) فيقال في مثل : «أكرم العلماء ولا تكرم العلماء البصريين» إن العلماء البصريين محكومون بحكم الخاص ، وهو حرمة الإكرام من زمان ورود العام قبل ورود الخاص ، وإنهم لم يكونوا محكومين بحكم العام ـ وهو وجوب الإكرام ـ في زمان أصلا.

(٢) أي : ناسخية الخاص كالخاص المزبور للعام أعني : قوله : «أكرم العلماء» فيقال : إن أفراد الخاص كالعلماء البصريين في المثال كانوا محكومين بحكم العام وهو وجوب الإكرام ، ثم تغيّر الحكم وصاروا من زمان صدور الخاص محكومين بحرمة الإكرام ، بخلاف التخصيص ؛ لأنه يقتضي أن يكون حكمهم من أول الأمر حرمة الإكرام ، فتظهر الثمرة بين زمان صدور العام المتقدم بالفرض على الخاص ، وبين زمان صدور الخاص ، فعلى مخصصية الخاص : يكون أفراد الخاص دائما محكومين بحرمة الإكرام. وعلى ناسخيته : يكون أفراد الخاص قبل وروده محكومين بحكم العام ، وبعد وروده محكومين بضدّه وهو الحرمة.

قوله : «على ارتفاع حكمه عنه» أي : يبني على ارتفاع حكم الخاص عن حكم العام من حين ورود الخاص ، «فيما دار الأمر بينهما في المخصص» أي : فيما دار الأمر بين النسخ والتخصيص في المخصص فقط ، كما إذا ورد الخاص بعد العمل بالعام. «وأما إذا دار بينهما» أي : بين النسخ والتخصيص في الخاص والعام كما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فإن الأمر حينئذ يدور بين مخصّصية الخاص للعام ، وبين ناسخية العام له.

فعلى التخصيص لا يكون الخاص محكوما بحكم العام أصلا ، فالعلماء البصريون ـ في المثال المزبور ـ ليسوا محكومين بحكم العام وهو وجوب الإكرام أصلا.

وعلى النسخ يحرم إكرامهم إلى زمان صدور العام ، وبعد صدوره تنقلب الحرمة إلى الوجوب ؛ لكون العام ناسخا له ، «وعلى النسخ كان محكوما به» أي : بحكم العام «من حين صدور دليله» : أي دليل العام ، فإن كل حكم منسوخ يستمر إلى زمان ورود الناسخ ، وبعد وروده ينقلب الحكم ، فالخاص يستمر حكمه إلى زمان ورود العام ، وبعد وروده ينقلب حكمه إلى حكم العام. ففرق واضح بين مخصّصية الخاص للعام وبين ناسخية العام له ، فعلى الأول : لا يكون الخاص محكوما بحكم العام أصلا ، وعلى الثاني : يصير محكوما بحكمه بعد ورود العام ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٧٥».

٤١٩

محكوما به من حين صدور دليله ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الصور المتصورة في دوران الأمر بين النسخ والتخصيص ست :

الأول : الاقتران. الثاني : أن يكون الخاص واردا بعد العام قبل حضور وقت العمل به.

الثالث : أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام.

الرابع : أن يكون العام واردا بعد الخاص قبل حضور وقت العمل به.

الخامس : أن يكون العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص.

السادس : أن يجهل التاريخ.

أما أحكام هذه الصور فتختلف.

فقد يكون الخاص مخصصا للعام ، وقد يكون ناسخا له ، وقد يكون منسوخا.

ففي صورة الاقتران : يكون الخاص مخصصا بلا شك ، وكذا إذا ورد بعد العام قبل حضور وقت العمل به.

ويكون ناسخا للعام إذا ورد بعد حضور وقت العمل بالعام لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، غاية الأمر : ناسخية الخاص المتأخر مشروطة بكون العام واردا لبيان الحكم الواقعي ؛ إذ لو كان لبيان الحكم الظاهري كان الخاص مخصصا له.

وأما لو كان العام بعد حضور وقت العمل بالخاص : كان الأمر يدور بين كون الخاص مخصصا للعام أو العام ناسخا له ، والأظهر : كون الخاص مخصصا لكثرة التخصيص وشيوعه.

وأما عند الجهل : فيحكم بإجمالهما ويرجع إلى الأصول العملية ، كما هو شأن جميع موارد إجمال الدليل.

٢ ـ النسخ في اللغة بمعنى الإزالة ، ومنه «نسخت الشمس الظل» ، وفي الاصطلاح : بمعنى رفع أمر ثابت في الشريعة بارتفاع أمده وزمانه ، من غير فرق بين أن يكون ذلك الأمر الثابت حكما تكليفيا أو وضعيا. وأما ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج الوقت : فليس من النسخ بشيء.

ثم النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت بالدليل الأول إثباتا إلا إنه في الحقيقة ليس رفعا ؛ بل دفع ، فلا محذور فيه سواء كان قبل حضور وقت المنسوخ أم بعده.

٣ ـ بعض الوجوه التي استدل بها على عدم جواز النسخ :

الأول : النسخ مستلزم للبداء المحال في حقه تعالى ؛ إذ يستحيل تعلق الإرادة الجدية

٤٢٠