دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

فصل

قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف (١) ، مع الاتفاق على الجواز

______________________________________________________

تخصيص العام بالمفهوم المخالف

(١) وقبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين المفهوم المخالف والمفهوم الموافق ، وحاصل الفرق : أن المفهوم الغير المطابق للمنطوق في الإيجاب والسلب يسمى بالمفهوم المخالف ، ويعبر عنه بدليل الخطاب ، والمفهوم المطابق للمنطوق في الإيجاب والسلب يسمى بالمفهوم الموافق ، ويعبر عنه بلحن الخطاب ، أو فحوى الخطاب.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا خلاف في جواز تخصيص العام بالمفهوم الموافق ؛ كحرمة تزويج ذات البعل التي هي المفهوم الموافق بالأولوية لقوله «عليه الصلاة والسلام» : «والذي يتزوّج المرأة في عدتها وهو يعلم لا تحل له أبدا» (١) ؛ إذ لا إشكال في أولوية حرمة تزويج ذات البعل من نكاح المعتدة ، وهذا المفهوم يخصّص عموم قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(٢) ، بعد ذكر حرمة نكاح عدة من النساء كالأمّ والبنت والأخت وغيرهن ، فكأنه قيل : وأحل لكم ما وراء المذكورات إلا ذات البعل. هذا مما لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في المفهوم المخالف كما لو قال : «أكرم العلماء» ، ثم قال : «أكرم العلماء إن جاءوك» ، فالمفهوم المخالف منه : عدم وجوب إكرامهم في صورة عدم المجيء.

والوجه في اتفاق تخصيص العام بالمفهوم الموافق هو : رجوع التعارض في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعام ، حيث لا يمكن رفع اليد عن مفهوم الموافقة ، مع البناء على المنطوق ؛ للقطع بثبوت المفهوم على تقدير ثبوت المنطوق ، وإلا لم يكن مفهوم الموافقة ،

__________________

(١) في التهذيب ، ج ٧ ، ح ١٦٦ : عن حمدان قال : سألت أبا جعفر «عليه‌السلام» عن امرأة تزوجت في عدتها بجهالة منها بذلك ، فقال : «لا أرى عليها شيئا ، ويفرق بينها وبين الذي تزوج بها ، ولا تحل له أبدا ...».

(٢) النساء : ٢٤.

٣٨١

بالمفهوم الموافق على قولين ، وقد استدل لكلّ منهما بما لا يخلو عن قصور (١).

وتحقيق المقام (٢) : أنّه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام واحد أو كلامين ؛ ولكن

______________________________________________________

فيكون التعارض بينهما من قبيل التعارض بين الخاص المنطوق والعام ، ولا ريب في وجوب تقديم الخاص على العام ، أما مفهوم المخالفة : فيمكن رفع اليد عنه فقط مع الحكم بثبوت المنطوق ، فيدور الأمر بين رفع اليد عنه ورفع اليد عن العموم ، كما في «حقائق الأصول ، ج ١ ، ص ٥٣٠» مع تصرف منا.

(١) فلا بد أولا : من ذكر كل من دليل الجواز والمنع. وثانيا : من بيان ما فيهما من الإشكال بالقصور.

وأما دليل الجواز : فلأنّ كل من العام والمفهوم المخالف الخاص دليل شرعي عارض مثله. وفي العمل بالخاص جمع بين الدليلين فيتعيّن ؛ لكونه أولى من الطرح.

وأما دليل عدم الجواز : فبأن الخاص إنما يقدّم على العام لأقوائية دلالته ، والمفهوم الخاص ليس بأقوى دلالة من المنطوق العام ، فلا يصلح لمعارضته ؛ إذ المفهوم أضعف دلالة ، فلا يجب حمل العام عليه.

وأما الإشكال والقصور في دليل الجواز : فلأن مجرد الجمع بين الدليلين مما لا دليل على وجوبه ، ما لم يكن أحدهما أقوى دلالة وأشدّ ظهورا ، بحيث يوفّق بينهما عرفا بحمل الظاهر على الأظهر ، أو على النص.

وأما الإشكال والقصور في دليل المنع : فلأن المفهوم وإن كان بمقتضى طبعه أضعف من المنطوق ؛ ولكن ما لم تعرضه جهة تجعله أقوى دلالة وأشدّ ظهورا ، وهي أخصيّة المدلول ؛ وإلا فهو أقوى وأدل وأظهر دلالة ، ولهذا قال المصنف : «وقد استدل لكل منهما بما لا يخلو عن قصور».

(٢) تحقيق المقام : أنه إذا ورد عام وما له مفهوم يصلح لتخصيص العام : فتارة : يكون العام وما له المفهوم في كلام واحد ، أو في كلامين يكونان بمنزلة كلام واحد ؛ لاتصال كل منهما بالآخر.

وأخرى : يكون العام وما له المفهوم في كلامين منفصلين ، بحيث يكون بينهما فصل طويل.

فيقع الكلام في مقامين : المقام الأول : ما إذا كان العام وما له المفهوم في كلام واحد أو في كلامين بمنزلة كلام واحد.

المقام الثاني : ما إذا كان العام وما له المفهوم في كلامين منفصلين.

٣٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح ما هو التحقيق في المقام الأول يتوقف على مقدمة :

وهي : أن دلالة كل واحد منهما على مدلوله إما بالوضع ، أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة. أو أحدهما بالوضع والآخر بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فالصور هي ثلاث :

لا مفهوم ولا عموم في الصورة الأولى والثانية وهما : أن تكون دلالتهما بالوضع ، أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

وأما الصورة الأولى : فلأن كل واحد منهما يصلح أن يكون قرينة على الآخر ، فيقع التزاحم بين الظهورين ، ويحكم بعدم اعتبار كليهما سواء كانا في كلام واحد أو في كلامين بمنزلة كلام واحد.

والأول : كقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)(١) فإن مفهومه : عدم وجوب التبين في خبر العادل ، وتلقّيه بالقبول. ومقتضى عموم التعليل أي : إصابة القوم بجهالة هو كون إصابتهم كذلك أمرا مرغوبا عنه ؛ ولو من ناحية خبر العادل.

والثاني : مثلا كقول المولى لعبده : «أكرم العلماء» ، ثم قال بلا فصل : «أكرم العلماء إن كانوا عادلين» ، فيدور الأمر بين تخصيص العام بالمفهوم المخالف ، وبين بقاء العام على عمومه ، فيكون المرجع هو الأصول العملية ؛ إلا إذا كان أحدهما أظهر من الآخر ، فلا بد حينئذ من تقديم الأظهر على الظاهر.

وأما الصورة الثانية : فلأن انعقاد الظهور في كل واحد منهما في مدلوله يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة ، والمفروض : عدم تماميّتها في شيء منهما ـ لتوقف تماميّتها في كل واحد منهما على عدم الآخر ـ إذ كل منهما مانع عن ظهور الآخر في الإطلاق ، فلا يبقى منشأ للظهور.

وأما الصورة الثالثة : ـ وهي ما إذا كان ظهور أحدهما بالوضع ، وظهور الآخر بالإطلاق ومقدمات الحكمة ـ فلا إشكال في تقدم ما كان ظهوره بالوضع على ما ظهوره بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، سواء كان ما ظهوره بالوضع هو العام أو المفهوم المخالف.

والوجه في ذلك : أن الظهور إذا كان بالوضع كان صالحا لأن يكون بيانا مانعا عن

__________________

(١) الحجرات : ٦.

٣٨٣

على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر ، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على كل منهما إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة (١) ، أو بالوضع (٢) ، فلا يكون هناك عموم ، ولا مفهوم ؛ لعدم (٣) تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك (٤) ، فلا بد من العمل بالأصول العملية فيما دار

______________________________________________________

الظهور بالإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة ، التي منها عدم البيان فيقدم عليه ؛ إذ لا تجري مقدمات الحكمة ، فإن ظهور ما ظهوره بالوضع مانع عن جريانها.

هذا تمام الكلام في المقام الأول. ومن هنا يظهر حكم ما في المقام الثاني من الصور والاحتمالات.

ففي صورة دلالة كل منهما بالوضع أو بالإطلاق ومقدمات الحكم لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر ـ لاستلزامه ما هو الترجيح بلا مرجح ـ إلّا إن يكون أحدهما أقوى ظهورا من الآخر ، فحينئذ يتقدم عليه من باب تقديم الأظهر على الظاهر ، وكان الجمع عرفيا.

وأما في صورة دلالة أحدهما بالوضع ، والآخر بالإطلاق ومقدمات الحكمة : فلا بد من تقديم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت دلالته بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، هذا ما أشار إليه بقوله :

«ومنه قد انقدح الحال : فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم» ، هذا الكلام إشارة إلى المقام الثاني.

وكيف كان ؛ فنذكر توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) أي : كالنكرة في سياق النهي والنفي ؛ بناء على كون دلالتها على الإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة ، وكمفهوم الشرط بناء على كونه كذلك ، فدلالة كل من النكرة والمفهوم تكون بالإطلاق.

(٢) كلفظة «كل» ونحوها من الألفاظ الموضوعة للعموم ، وأداة الحصر ونحوها مما هي موضوعة للمفهوم.

(٣) تعليل لعدم المفهوم والعموم فيما إذا كانت الدلالة فيهما بمقدمات الحكمة ؛ وذلك لأجل المزاحمة بين الظهورين ، لتوقف تمامية مقدمات الحكمة في كل واحد منهما على عدم الآخر ، فلا ينعقد ظهور شيء منهما لأجل المزاحمة ، والعلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما.

(٤) أي : كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك ، أي : وضعا ،

٣٨٤

فيه بين العموم والمفهوم ، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلا (١) كان مانعا عن انعقاد الظهور ، أو استقراره في الآخر.

ومنه (٢) قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم ، وما له المفهوم ذاك الارتباط (٣) والاتصال ، وأنه لا بد أن يعامل مع كل منهما (٤) معاملة المجمل ، لو لم

______________________________________________________

أعني : مزاحمة ظهور العموم والمفهوم في الظهور الوضعي ، فكما إنه لا يحصل الظهور للعموم والمفهوم فيما إذا كان منشأ الظهور مقدمات الحكمة ، فكذلك لا يحصل لهما ظهور إذا كان منشأ الظهور فيهما الوضع.

وكيف كان ؛ فإن كانا متحدين وضعا أو إطلاقا ، وكانا في كلام واحد فلا إشكال في تساقطهما ؛ لصيرورتهما مجملين حقيقة.

وإن كانا متحدين كذلك ، وكانا في كلامين يعامل معهما معاملة المجمل ـ إذ لا يكون شيء منهما حجة للمزاحمة ، والعلم الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما ، وعدم مرجح لأحدهما ـ فيسقطان عن الحجية إلا إذا كان أحدهما أظهر فيقدم على الآخر.

وأما إذا لم يكن أحدهما أظهر : فلا بد من الرجوع إلى الأصول العملية وهي في المقام أصالة البراءة عن الحكم الإلزامي في مورد اجتماع العام والمفهوم.

(١) أي : الرجوع إلى الأصول العملية مشروط بعدم كون العام أو المفهوم أظهر من الآخر ، وإن كان أحدهما أظهر كان مانعا عن انعقاد الظهور في الآخر فيما إذا كان الظهور مستندا إلى مقدمات الحكمة ، أو مانعا عن استقراره بعد انعقاده فيما إذا كان الظهور مستندا إلى الوضع ؛ لأن الوضع يوجب ظهور كل من العام والمفهوم بدوا ، وأظهرية أحدهما تمنع عن استقرار ظهور الآخر كما أشار إليه بقوله : «أو استقراره» أي : استقرار الظهور. هذا في الظهور الوضعي.

قوله : «انعقاد الظهور» في الظهور الإطلاقي المستند إلى مقدمات الحكمة.

(٢) يعني : ومن تزاحم الظهورين الوضعيين في الحجية بعد انعقادهما : ظهر الحال فيما إذا لم يكن بين ما يدل على العموم ، وبين ما له المفهوم ذلك الارتباط الموجب لصلاحية كل منهما للقرينية على الآخر ، فإن الظهور الوضعي في كل منهما وإن انعقد بدوا ، إلا إنهما يسقطان عن الاعتبار لأجل التعارض. فيجري عليهما حكم المجمل ، وهو الرجوع إلى الأصول العملية وإن لم يكونا من المجمل موضوعا لفرض وجود الظهور في كليهما.

(٣) أي : الارتباط الموجب لقرينية أحدهما على الآخر.

(٤) أي : ما دل على العموم ، وما دل على المفهوم لو لم يكن في البين أظهر.

٣٨٥

يكن في البين أظهر ، وإلا (١) فهو المعول ، والقرينة على التصرف في الآخر بما (٢) لا يخالفه بحسب العمل.

______________________________________________________

(١) أي : وإن كان في البين أظهر ، فهو المعوّل ؛ لما تقرر في محلّه من تقدّم الأظهر على الظاهر لكونه جمعا عرفيا ، فيكون الأظهر قرينة على التصرف في الآخر.

(٢) أي : بتصرف لا يخالف الأظهر بحسب العمل ، كالحمل على الكراهة في مثل قولهم : «يجوز إكرام الشعراء» ، و «أكرم الشعراء العدول» ، فإن مفهومه وهو : «لا تكرم الشعراء الفساق» يحمل على الكراهة حتى لا ينافي العام وهو «يجوز إكرام الشعراء» بحسب العمل. هذا تمام الكلام في تخصيص العام بالمفهوم المخالف.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ محل الخلاف هو المفهوم المخالف للمنطوق في الإيجاب والسلب.

ولا خلاف في تخصيص العام بالمفهوم الموافق ، فإذا قال : «لا تقل أفّ للأبوين ولو كانا فاسقين» كان مفهومه الموافق : حرمة إهانتهما ، فيخصّص به عموم : «أهن الفاسق» بلا خلاف أصلا ، وإنما الخلاف في تخصيص العام بالمفهوم المخالف مثل : ما إذا قال : «أكرم العلماء» ، ثم قال : «أكرم زيدا العالم إن كان عادلا» ، ومفهومه المخالف : أنّه «لا يجب إكرامه إن لم يكن عادلا» ، فقيل : يخصّص به عموم «أكرم العلماء» ؛ لأنهما دليلان شرعيان يجب العمل بهما بحمل العام على الخاص من باب الجمع بين الدليلين.

وفيه : أن الجمع بين الدليلين بحمل العام على الخاص إنما يتم فيما إذا كان الخاص أقوى دلالة من العام ، والخصوصية لا تستلزم القوة دائما ؛ بل العام المنطوقي أقوى من الخاص المفهومي ، هذا هو الإشكال في دليل الجواز.

وأما الإشكال في دليل المنع : فلأن المفهوم وإن كان بمقتضى طبعه أضعف من المنطوق ، ولكن قد تعرضه جهة تجعله أقوى دلالة من المنطوق وهي أخصيّة المفهوم مدلولا ، هذا ما أشار إليه بقوله : «وقد استدل لكل منهما ..» إلخ.

٢ ـ تحقيق المقام : أن ما له العموم وما له المفهوم إن كانا بحيث يصلح كل منهما قرينة صارفة عن الآخر لوقوعهما في كلام واحد ، أو في كلامين بمنزلة كلام واحد ، وكانت دلالتهما بالوضع نحو : «أكرم العلماء وزيدا العالم إن كان عادلا» ، أو «أكرم العلماء وأكرم زيدا العالم إن كان عادلا».

أو كانت دلالة كل منهما بمقدمات الحكمة ، نحو : «أكرم العالم وزيدا العالم إن كان

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

عادلا» ، أو «أكرم زيدا العالم وأكرم زيدا العالم إن كان عادلا» بناء على دلالة المفرد المعرف باللام على العموم بمقدمات الحكمة ؛ فإن كانا متساويين في الدلالة : يقع التزاحم بين الظهورين الوضعيين في الأول.

ولا تتم مقدمات الحكمة في الثاني ، فلا عموم ولا مفهوم ، فالأصل : البراءة عن وجوب إكرام زيد على تقدير كونه فاسقا.

وأما إذا كان في كلامين منفصلين : فيعامل معهما معاملة المجمل لتكافئهما في الظهور إن لم يكن أحدهما أظهر ؛ وإلا فيؤخذ به لكونه قرينة على التصرف في الآخر ، بحيث لا يخالف الأظهر بحسب العمل ؛ كالحمل على الكراهة في مثل قولهم : «يجوز إكرام الشعراء» ، و «أكرم الشعراء العدول» فإن مفهومه : «لا تكرم الشعراء الفساق» يحمل على الكراهة حتى لا ينافي العام بحسب العمل.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو الأخذ بما هو أقوى وأظهر من العام أو المفهوم إن كان الأقوى في البين ؛ وإلا فالمرجع هو الأصول العملية.

٣٨٧
٣٨٨

فصل

الاستثناء المتعقب لجمل متعددة (١) ، هل الظاهر هو رجوعه إلى الكل أو خصوص الأخيرة ، أو لا ظهور له في واحد منهما ، بل لا بد في التعيين من قرينة؟ أقوال والظاهر : إنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال ، ضرورة :

______________________________________________________

الاستثناء المتعقب بجمل متعددة

(١) الأولى : ما في «معالم الدين» من التعبير بقوله : «الاستثناء المتعقب للجمل المتعاطفة» (١) ؛ وذلك لدلالة «الجمل» على التعدد ، فلا حاجة إلى التصريح بالتعدد ؛ بخلاف التعاطف ، فإن لفظ «الجمل» لا يدل عليه.

وكيف كان ؛ فلا بد من تحرير محل النزاع قبل الخوض في أصل البحث. فنقول : إن هناك أربعة احتمالات :

١ ـ الرجوع إلى الأول فقط. ٢ ـ ثم الرجوع إلى الأخير فقط. ٣ ـ الرجوع إلى الكل. ٤ ـ أن لا يرجع إلى واحد.

ولا خلاف في بطلان الاحتمال الأول والرابع ، ولا خلاف في الاحتمال الثاني أيضا ؛ إذ العام الأخير مخصّص قطعا ، سواء رجع الاستثناء إلى خصوص الأخير ، أو إلى الكل.

وإنما الخلاف في الاحتمال الثالث ؛ بمعنى : هل يرجع الاستثناء إلى الكل أو إلى خصوص الأخير؟

إذا عرفت ما هو محل النزاع فاعلم : أن هناك أقوالا :

الأول : رجوعه إلى الكل ، وهو المنسوب إلى الشيخ والشافعية.

الثاني : رجوعه إلى خصوص الأخيرة ، وهو المنسوب إلى أبي حنيفة وأتباعه.

الثالث : أنه مشترك بينهما ، فلا بد في التعيين من نصب قرينة معيّنة ، وهو المنسوب إلى السيد مرتضى «قدس‌سره».

__________________

(١) معالم الدين ، ص ١٧٣.

٣٨٩

أن رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة ، وكذا في صحة رجوعه

______________________________________________________

الرابع : التوقف.

وقبل الإشارة إلى ما هو الصحيح أو الفاسد على ما هو مختار المصنف «قدس‌سره» ينبغي بيان أمور :

الأول : أنه لا فرق في هذا الحكم بين الاستثناء وبين غيره من أنواع المخصّصات ؛ كالوصف ، والشرط ، والحال والغاية.

الثاني : أن يصح عوده إلى الجميع عقلا وعرفا.

الثالث : أن تكون الجمل متعاطفة ، بلا فرق بين أن يكون متعددا نحو : «أكرم العلماء وجالس الأمراء وأعط الفقراء إلا الفساق منهم» ، أم كان واحدا نحو : «أكرم العلماء وأكرم الفقراء وأكرم رجال الأعمال إلا الفساق منهم».

وتعدد الحكم في المثال الأول إنما هو باعتبار تعدد متعلقه وهو الإكرام والمجالسة والإعطاء. هذا بخلاف ما إذا لم تكن الجمل متعاطفة ؛ إذ حينئذ يرجع إلى الجميع لعدم الفصل بينها بعاطف وكأنها في حكم الجملة الواحدة.

وإذا تحققت هذه الأمور ، فالظاهر من المصنف «قدس‌سره» : أنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة ، سواء رجع إلى الكل أم رجع إلى الأخيرة فقط ، كما أشار إليه بقوله : «ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أي حال» ؛ لأن رجوعه إلى غير الأخيرة بدون القرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة ، فلا بد من نصب قرينة معيّنة ـ على فرض رجوعه إلى غير الأخيرة ـ إن قلنا بالاشتراك اللفظي بين رجوعه إلى الكل وبين رجوعه إلى الأخيرة.

وكذا لا إشكال في رجوعه إلى الكل فيما إذا كانت كل جملة من تلك الجمل مشتملة على المستثنى ، كما إذا ورد : «أكرم العلماء وجالس الأمراء وأعط الفقراء إلا الفساق» ، وفرض وجود الفساق في كل من العلماء والأمراء والفقراء ، فاعتبار اشتمال كل واحد من هذه العمومات على المستثنى واضح ، إذ مع عدم اشتمال بعضها عليه لا يصح رجوع الاستثناء إلى الجميع.

وكيف كان ؛ فلا إشكال في صحة رجوع الاستثناء إلى الكل ؛ «وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم ، حيث مهد مقدمة لصحة رجوعه إليه أنه محل الإشكال والتأمل» أي : الرجوع إلى الكل عند صاحب المعالم محل إشكال (١) ؛ إذ لو لم تكن

__________________

(١) معالم الدين ، ص ١٧٤.

٣٩٠

إلى الكل ، وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم «رحمه‌الله» ، حيث مهد مقدمة (١) لصحة رجوعه إليه : أنه محل الإشكال والتأمل.

وذلك (٢) ضرورة : إن تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتا أصلا في

______________________________________________________

صحة الرجوع إلى الكل عنده محل إشكال وتأمّل لم يمهد لها مقدمة طويلة خارجة عن وضع الكتاب.

(١) قيل في بعض الحواشي : «الظاهر أنّ غرض صاحب المعالم «قدس‌سره» من تمهيد المقدمة : إثبات كيفية الرجوع إلى الكل لا إثبات أصل صحته ؛ إذ من الأقوال صحة الرجوع إلى الكل للاشتراك اللفظي ، فتصدى لبيان أن الرجوع إلى الكل ليس مبنيا على الاشتراك اللفظي ؛ بل يمكن ذلك وإن لم نقل بالاشتراك اللفظي» فغرض صاحب المعالم «قدس‌سره» : هو إثبات ما اختاره من الاشتراك المعنوي ؛ إذ أداة الاستثناء عنده وضعت للإخراج الكلي ، فالإخراج عن الجميع أحد مصاديقه ، فإذا استعمل فيه فقد استعمل في أحد مصاديقه وهو جائز كاستعمال الانسان في زيد مثلا.

فليس غرضه : إثبات صحة الرجوع إلى الكل حتى يكون منافيا لما ذكره المصنف من نفي الإشكال عن صحة رجوع الاستثناء إلى الكل.

(٢) تعليل لقوله : «وكذا في صحة رجوعه إلى الكل» ، وظاهر كلام المصنف هو : أن مختاره عين ما اختاره صاحب المعالم من الاشتراك المعنوي بين الإخراج عن الجميع والإخراج عن الأخيرة خاصة ، غير إنه يثبته بطريق آخر ـ غير طريق صاحب المعالم ـ وهو : إن تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى مما لا يوجب تفاوتا في ناحية الأداة ، سواء قلنا : بكون كل من الوضع والموضوع له عاما كما تقدم في بحث المعاني الحرفية وهو مختار المصنف ، أو قلنا : بكون الوضع عاما والموضوع له خاصا كما أفاده صاحب المعالم ؛ وفاقا لغير واحد من أهل اللغة العربية. هذا مما يظهر من المصنف.

كما يظهر منه : أن الاستثناء المتعقب لجمل متعددة لا يكون ظاهرا في الرجوع إلى الجميع ، ولا في الرجوع إلى الأخيرة بعد صلوحه لكل منهما ، وإن كان الرجوع إلى خصوص الأخيرة متيقنا ، فإذا لم يكن ظاهرا في شيء منهما لم يكن ما سوى الأخيرة ظاهرا في العموم ؛ لاكتنافه بما يصلح للرجوع إليه ، فلا بد عند الشك من الرجوع إلى الأصل العملي.

وبعبارة أخرى : أن تعدد المستثنى والمستثنى منه ووحدتهما لا يوجبان اختلافا في ناحية أدوات الاستثناء بحسب المعنى وهو الإخراج ، سواء كان الموضوع له في الحروف عاما كالوضع ، أم خاصا ؛ لأن أداة الاستثناء تستعمل دائما في معناها ـ أعني : الإخراج ـ

٣٩١

ناحية الأداة بحسب المعنى ، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا ، وكان (١) المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا ، كما هو الحال في المستثنى (٢) بلا ريب ولا إشكال. وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوما وبذلك (٣) يظهر : إنه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة ؛ وإن كان الرجوع إليها متيقنا على كل تقدير (٤).

______________________________________________________

ولا يتفاوت هذا المعنى بين تعدد المخرج والمخرج عنه ووحدتهما ، فلو كان الموضوع له في الأدوات خاصا لما كان تعدد المستثنى والمستثنى منه مضرّا بالإخراج الشخصي ، حيث إن نسبة الإخراج وإن كانت شخصية ، لكنها باعتبار تعدد أطرافها تنحل إلى نسب ضمنية ، إذ جزئية النسبة لا تنافي انحلالها. وعليه : فلا مانع من صحة رجوع الاستثناء إلى الكل ولو قيل بوضع الأدوات لجزئيات النسبة الإخراجية.

(١) الظاهر : أنه عطف على قوله : «أن تعدد» ، فيؤوّل بالمصدر ، فكأنه قيل : ضرورة : أن تعدد المستثنى منه .. إلخ ، وضرورة : كون المستعمل فيه الأداة في صورة تعدد المستثنى منه هو المستعمل فيه في صورة وحدة المستثنى منه.

(٢) أي : كما لا فرق بين وحدة المستثنى وتعدده.

وحاصل الكلام في المقام : أن أداة الاستثناء تستعمل في نسبة الإخراج ، سواء كانت هذه النسبة بين متحدين مثل : «أكرم العلماء إلا زيدا» ، حيث إن كلا من المستثنى والمستثنى منه واحد ، أم بين متعددين مثل : «أكرم العلماء والصلحاء إلا الفساق والشعراء» ، أم بين مختلفين مثل : «أكرم العلماء إلا النحويين والصرفيين والفلاسفة».

وكيف كان ؛ فتعدد المخرج والمخرج عنه يعني : المستثنى والمستثنى منه خارجا ـ كالأمثلة المذكورة ـ لا يوجب تعدد النسبة الإخراجية التي تستعمل فيها أداة الاستثناء بحسب المفهوم ، ولا يصادم جزئيتها كما عرفت ؛ بل مفهوم الأداة ـ وهي النسبة الإخراجية ـ واحد ، سواء اتحد المستثنى والمستثنى منه ، أم تعددا ، أم اختلفا. وقد عرفت أمثلة ذلك.

(٣) أي : وبعدم تفاوت في ناحية الأداة بين تعدد المستثنى والمستثنى منه ووحدتهما يظهر : إنه لا ظهور لأداة الاستثناء في الرجوع إلى الجميع ، أو خصوص الأخيرة ؛ إذ بعد وضوح صحة الرجوع إلى الجميع وإلى خصوص الأخيرة لا بد من إثبات ظهور الأداة في الرجوع إلى أحدهما من قرينة ؛ لأن مجرد صلاحية الرجوع كذلك لا يثبت الظهور.

(٤) أي : سواء قلنا بظهور أداة الاستثناء في الرجوع إلى الجميع أم لا. أما وجه تيقّن

٣٩٢

نعم (١) غير الأخيرة أيضا (٢) من الجمل لا يكون ظاهرا في العموم ؛ لاكتنافه (٣) بما لا يكون معه ظاهرا فيه (٤) ، فلا بد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الأصول ؛ اللهم إلا أن يقال : بحجيّة أصالة الحقيقة تعبدا (٥) ؛ لا من باب الظهور ، فيكون المرجع

______________________________________________________

الرجوع إلى الأخيرة : فلأجل اتصالها بالأداة ، بحيث لو لم يكن غيرها من الجمل لم يكن ريب في الرجوع إلى الأخيرة ، فلو كان الجميع مرادا كانت الأخيرة داخلة فيه. وإن كان المراد غير الجميع كانت الأخيرة مرادة أيضا. هذا معنى كون الأخيرة مرادة على كل تقدير.

(١) أي : لا يكون تيقّن الأخيرة موجبا لظهور غيرها في العموم ؛ بل هو كالأخيرة في عدم الظهور ، فأصالة العموم في غير الأخيرة أيضا لا تجري لاحتفافه بما يصلح للقرينية ، ومعه لا ينعقد ظهور لغير الأخيرة أيضا في العموم ، فلو كان المستثنى زيدا مثلا ، وكان في كل من العمومات من يسمى بزيد ، فكون زيد في الجملة الأخيرة متيقن الخروج عن الحكم لا يوجب سلامة أصالة العموم فيما عدا الأخيرة من العمومات ، حتى يصح التمسك بها للحكم بعدم خروج زيد عنها ؛ إذ المفروض : احتفافها بما يصلح للقرينة ، وهذا مانع عن جريان أصالة العموم.

والحاصل : أنه لا يحكم بظهور ما عدا الأخيرة من الجمل في العموم ، كما لا يحكم بظهور الأخيرة فيه وإن كان المتيقن تخصيص الأخيرة.

(٢) يعني : كما لا ظهور للجملة الأخيرة في العموم وإن كان رجوع الاستثناء إليها متيقّنا ، كذلك لا ظهور لغير الجملة الأخيرة في العموم ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦٣٣».

(٣) تعليل لعدم ظهور ما عدا الجملة الأخيرة في العموم.

(٤) أي : في غير الأخيرة ، فيرجع في حكم زيد في المثال المذكور إلى الأصول العملية.

(٥) أي : وإن لم يحصل الظن النوعي بإرادة العموم ؛ لاكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ـ كالاستثناء فيما نحن فيه.

وكيف كان ؛ فغرضه : إمكان إجراء أصالة العموم في غير الأخيرة بالبناء على أن هذا الأصل حجة تعبّدا ، فحينئذ لا مانع من جريان أصالة العموم والحقيقة في غير الجملة الأخيرة.

فما عدا الأخيرة محكوم بحكم العمومات ، ولا يجري فيه الأصول العملية.

٣٩٣

عليه (١) أصالة العموم إذا كان وضعيا (٢) ؛ لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، فإنه لا يكاد تتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع فتأمل (٣).

______________________________________________________

(١) أي : بناء على القول بحجيّة أصالة الحقيقة والعموم تعبّدا ؛ لا من باب الظهور حتى يقال : بعدم انعقاد الظهور في العموم مع الاحتفاف بما يصلح للمخصصية.

(٢) أي : إذا كان العموم وضعيا ، والمقصود أن أصالة العموم إنما تجري إذا كان العموم وضعيا لا ما إذا كان إطلاقيا ناشئا عن مقدمات الحكمة ، إذ لا تجري حينئذ أصالة العموم ، ضرورة : أن من مقدمات الحكمة عدم القرينة ، وكذا عدم ما يصلح لها ، ومع وجودهما لا تتم تلك المقدمات. ومن المعلوم : أن الاستثناء صالح للرجوع وتخصيص الكل به.

فالمتحصل : أن العموم المترتب على مقدمات الحكمة لا يتحقق مع صلاحية الاستثناء للرجوع إلى جميع الجمل ؛ إذ صلاحية الاستثناء للقرينية موجبة لانتفاء إحدى مقدمات الإطلاق كما عرفت.

(٣) لعلّه إشارة إلى أنه يكفي في منع جريان المقدمات صلوح الاستثناء لذلك ؛ لاحتمال اعتماد المطلق حينئذ في التقييد عليه ، لاعتقاد أنّه كاف فيه. اللهم إلّا إن يقال : إنّ مجرد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع ، فأصالة الإطلاق مع عدم القرينة محكمة ، لتمامية مقدمات الحكمة فافهم. من المصنف في الهامش ص ٢٣٥. كفاية الأصول ، طبعة مؤسسة آل البيت «عليهم‌السلام».

أو إشارة إلى أن من جملة مقدمات الحكمة أن لا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب ؛ ولكن الاستثناء يوجب كون الخاص متيقنا في مقام التخاطب ، وعليه : فلا تتم مقدمات الحكمة ، فالنتيجة هي : عدم تحقق العموم المترتب على مقدمات الحكمة. ثم لا يخفى : أن حكم غير الاستثناء كالشرط والوصف وغيرهما حكم الاستثناء إلا في بعض الخصوصيات.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ محل النزاع هو : رجوع الاستثناء إلى الكل ، بعد فرض وجود المستثنى في جميع العمومات المذكورة في الجمل المتعاطفة.

وهناك أقوال :

الأول : رجوعه إلى الكل.

٣٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : رجوعه إلى خصوص الأخيرة.

الثالث : أنه مشترك بينهما.

الرابع : التوقف.

والظاهر من المصنف : أنه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على كل تقدير ، فيما إذا كانت كل جملة من تلك الجمل مشتملة على المستثنى مثل : ما إذا ورد : «أكرم العلماء وجالس الأمراء وأعط الفقراء إلا الفساق» ، وقد فرض وجود الفساق في الجميع.

فاعتبار اشتمال كل واحد من هذه العمومات على المستثنى واضح ؛ وإن كان المتراءى من صاحب المعالم حيث مهد مقدمة طويلة لصحة رجوعه إلى الكل أنه محل الإشكال والتأمل ؛ إذ لو لم تكن صحة ذلك محل إشكال لم يمهد لها مقدمة طويلة.

٢ ـ أن تعدد المستثنى والمستثنى منه ووحدتهما لا يوجبان تفاوتا واختلافا في ناحية أداة الاستثناء بحسب المعنى ـ وهو الإخراج ـ سواء قلنا : بكون كل من الوضع والموضوع له عاما ، كما تقدم في أول الكتاب وهو مختار المصنف ، أو قلنا : بكون الوضع عاما والموضوع له خاصا على ما قيل ؛ لأن أداة الاستثناء تستعمل دائما في معناها ـ أعني الإخراج ـ ولا يتفاوت هذا المعنى بين تعدد المخرج والمخرج عنه ووحدتهما ، وعليه : فلا مانع من صحة رجوع الاستثناء إلى الكل ؛ ولو قيل : بوضع الأدوات لجزئيات النسبة الإخراجية.

٣ ـ ويظهر ـ من عدم التفاوت في ناحية الأداة بعد تعدد المستثنى والمستثنى منه ـ أنه لا ظهور لأداة الاستثناء في الرجوع إلى الجميع ولا إلى خصوص الأخيرة ، فلا بد لإثبات ظهور الأداة في الرجوع إلى أحدهما من قرينة وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقّنا ، ولكن تيقن الرجوع إلى الأخيرة لا يكون موجبا لظهور غيرها في العموم ؛ بل هو كالأخيرة في عدم الظهور ، فلا تجري أصالة العموم في غير الأخيرة أيضا ؛ لاحتفافه بما يصلح للقرينية ، فلا بد من الرجوع إلى الأصول العملية.

٤ ـ اللهم إلّا أن يقال : بحجية أصالة الحقيقة تعبدا أي : وإن لم يحصل الظن النوعي بإرادة العموم ؛ لاكتناف الكلام بما يصلح للقرينية ، فحينئذ لا مانع من جريان أصالة الحقيقة والعموم في غير الجملة الأخيرة ، فيكون المرجع أصالة الحقيقة إذا كان العموم وضعيا ؛ لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة ؛ إذ لا تجري حينئذ أصالة العموم ؛

٣٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّ من مقدمات الحكمة : عدم القرينة ، أو عدم ما يصلح للقرينية ، والاستثناء صالح لأن يكون قرينة على الرجوع إلى الجميع ، فتنتفي إحدى مقدمات الحكمة.

«فتأمل» لعلّه إشارة إلى أن من جملة مقدمات الحكمة : أن لا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب ، ولكن الاستثناء يوجب كون الخاص متيقنا في مقام التخاطب ، وعليه : فلا تتم مقدمات الحكمة ، فلا يحصل العموم المترتب على مقدمات الحكمة.

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ أنه لا ظهور لأداة الاستثناء في الرجوع إلى الجميع ، ولا إلى خصوص الأخيرة.

٢ ـ لو قلنا : بحجية أصالة الحقيقة والعموم تعبّدا لكان المرجع هي أصالة العموم لو كان وضعيا ، لا ما إذا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

٣٩٦

فصل

الحق : جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص (١) كما جاز بالكتاب ، أو بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد بلا (٢) ارتياب ؛

______________________________________________________

جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد

وقبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الخبر على أقسام :

١ ـ الخبر المتواتر. ٢ ـ خبر الواحد المقرون بالقرينة القطعية. ٣ ـ خبر الواحد المجرّد عن القرينة.

ثم الدليل على حجية القسم الثالث إما هو دليل الانسداد ، أو الدليل الخاص ؛ كآية النبأ مثلا على تقدير دلالتها على اعتبار خبر الواحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو القسم الثالث من أقسام الخبر ، فيما إذا كان اعتباره بالدليل الخاص لا بدليل الانسداد ، بناء على كون نتيجة مقدمات الانسداد حجية مطلق الظن من باب الحكومة.

(١) أي : قال المصنف بجوازه.

واستدل على مدعاه بوجهين :

أحدهما : قيام سيرة لأصحاب على العمل بأخبار الآحاد من زمن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى زماننا هذا ، مع إنك لا تجد خبرا إلا ويوجد على خلافه عام كتابي ، ولم يرد عن صاحب الشرع ولا عن أئمة أهل البيت «عليهم‌السلام» ردع عن هذه السيرة ، فاتصال هذه السيرة بزمان الأئمة ؛ بل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الكواشف القطعية عن رضاهم «سلام الله عليهم» بعمل الأصحاب.

وثانيهما : لزوم إلغاء الخبر أو ما بحكم الإلغاء بمعنى : أنه لو لا العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب لزم إلغاء الخبر عن الاعتبار بالمرة ، أو ما بحكم الإلغاء ضرورة : أن خبر الواحد الذي لا يكون مخالفا لعموم الكتاب إما معدوم وإما نادر ، وهو كالمعدوم.

(٢) متعلق بقوله : «جاز». وقوله : «لما هو الواضح» تعليل لقوله : «الحق جواز ..» إلخ.

٣٩٧

لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة «عليهم‌السلام». واحتمال (١) أن يكون ذلك بواسطة القرينة واضح البطلان.

مع أنه (٢) لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة ، أو ما بحكمه ، ضرورة (٣) : ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب ، لو سلم (٤) وجود ما لم يكن كذلك.

______________________________________________________

(١) دفع لما يتوهم من الإشكال على الاستدلال بسيرة الأصحاب ، وحاصل الإشكال : أنه يحتمل أن يكون عمل الأصحاب بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب لأجل القرائن القطعية المحفوفة بتلك الأخبار ، الموجبة للقطع بصدورها لا لأجل السيرة. ومن المعلوم : أن التخصيص بالخبر المحفوف بالقرينة القطعية مما لا نزاع فيه أصلا ، وتلك القرائن كانت عند الأصحاب وإن خفيت علينا.

وحاصل الدفع : أن احتمال أن يكون عملهم بواسطة القرينة واضح البطلان ؛ إذ لو كان عملهم بأخبار الآحاد لأجل القرينة لعلم ذلك لكثرة موارد العمل بها في قبال عمومات الكتاب مع عدم علم ، بل وعدم ظهور قرينة واحدة في مورد واحد. فالنتيجة : إن عملهم بتلك الأخبار ليس لأجل القرينة ؛ بل لحجية خبر الواحد.

(٢) إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين اللذين استدل بهما على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد. وقد عرفت توضيح ذلك.

(٣) تعليل لكونه بحكم الإلغاء.

والمتحصل : أن المصنف استدل لإثبات جواز تخصيص عمومات الكتاب بالأخبار التي ليست مقرونة بالقرائن القطعية بوجهين :

الأول : السيرة المستمرة إلى زمن الأئمة «عليهم‌السلام» ، فهذه السيرة حجة لاجتماع الشرائط فيها ، وهي كونها من المتدينين ، وكونها متصلة بزمان المعصوم «عليه‌السلام» ، وعدم ردع المعصوم «عليه‌السلام» عنها.

الثاني : لزوم إلغاء أخبار الآحاد بالمرة لو لم يخصص بها عموم الكتاب.

(٤) أي : لو سلم وجود خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب كان ذلك في غاية الندرة ، والاقتصار على خصوص ما لا يخالفه عموم الكتاب يكون كإلغاء دليل حجية أخبار الآحاد.

وقد استدل المانعون على عدم جواز التخصيص بوجوه :

الأول : أن العام الكتابي قطعي الصدور ، وخبر الواحد ظنّي الصدور والدلالة ، فلا

٣٩٨

وكون العام الكتابي قطعيا صدورا ، وخبر الواحد ظنيا سندا لا يمنع عن التصرف في دلالته الغير القطعية قطعا ، وإلا لما جاز تخصيص المتواتر به أيضا ، مع أنه جائز جزما.

______________________________________________________

يصلح لتخصيص القطعي. هذا ما أشار إليه بقوله : «وكون العام الكتابي قطعيا صدورا».

وقد أجاب عنه المصنف بجوابين ؛ أحدهما : نقضيّ ، والآخر حلّي.

وأما الجواب النقضي فحاصله : أنه لو كانت قطعية صدور العام الكتابي مانعة عن تصرف الخبر الظني الصدور في دلالة العام الكتابي ـ التي هي ظنية ـ لزم عدم جواز تخصيص الخبر المتواتر الذي هو كالعام الكتابي في قطعية الصدور ، بخبر الواحد الذي هو ظنّي الصدور أيضا ، مع أن جوازه مجمع عليه ومسلم عند من ينكر تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد.

وهذا يدل على : أن قطعية الصدور لا تصلح لمنع التخصيص بظنّي الصدور.

وأما الجواب الحلّي فحاصله : أن الدوران والتعارض يقع في الحقيقة بين أصالة العموم في العام الكتابي ، وبين دليل حجية خبر الواحد لا دلالته ؛ لأن الخاص أقوى دلالة من العام ، فلا شبهة في تقديمه عليه دلالة ، فالكلام في حجية الخاص ـ إذ بدونها لا وجه لتقديمه على العام ولو كان نصّا ـ إذ لا بد أولا من إثبات صدوره حتى تكون دلالته معتبرة ، حيث إن ظاهر كلام المعصوم حجة لا كلام غيره.

والمتحصل : أن طرفي المعارضة ـ هما ـ أصالة العموم في العام الكتابي ، ودليل حجية خبر الواحد وبما أن الخبر بدلالته وسنده صالح للتصرف في أصالة العموم لحكومته ، أو وروده عليها ؛ لأنه رافع لموضوعها تعبّدا ، ولذا لو تيقن بمضمون الخبر يرتفع موضوع أصالة العموم تكوينا كان الخبر مقدّما على العام ، وأصالة العموم لا تصلح للتصرف في أصالة الحجية ـ في جانب الخبر ـ لأنها لا ترفع موضوعها كما لا يخفى.

فالنتيجة : أنه لا مانع عن جواز تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد ، بعد إثبات حجيته بأدلتها من الكتاب والسنّة وبناء العقلاء ؛ لأن جريان أصالة العموم منوط بعدم الدليل على خلافها. وأدلة حجية خبر الواحد تكون على خلافها فتقدم عليها. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الجواب الحلّي ، الذي أشار إليه بقوله : «والسر أن الدوران في الحقيقة».

الثاني : أن ما يدل على حجية خبر الواحد هو الإجماع ، وبما أنه دليل لبّي لا لسان له فلا بد من الأخذ بالمتيقن منه ، ومن المعلوم : أن المتيقن منه ما لا يوجد على خلافه دلالة ولو كان من عموم الكتاب ، وإلا فلا يقين بتحقيق الإجماع على اعتباره في هذه الحال ،

٣٩٩

والسّر : أن الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر ، مع أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينية على التصرف فيها بخلافها ، فإنها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره ، ولا ينحصر الدليل على الخبر بالإجماع كي يقال : بأنه فيما لا

______________________________________________________

ومعه كيف يجوز رفع اليد عنه؟ وهذا ما أشار إليه بقوله : «ولا ينحصر الدليل على الخبر بالإجماع» ، وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه : بأن الدليل لا ينحصر بالإجماع ، كيف؟ وقد عرفت : قيام السيرة على العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب.

الثالث : ما دل من الأخبار على وجوب طرح الخبر المخالف للكتاب من الأخبار ، وضربه عرض الجدار ، وأنها زخرف ، ومما لم يقله الإمام «عليه‌السلام» ، وهي كثيرة جدا ، وهذه الأخبار تشمل الأخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته أيضا ، وعليه : فكيف يمكن تخصيصها أو تقييدها بها؟ وهذا ما أشار إليه بقوله : «والأخبار الدالة» ، وقد أجاب عن هذا الوجه بوجوه :

١ ـ أن المراد بالمخالفة هي غير المخالفة بنحو العموم والخصوص ؛ لأنها ليست مخالفة بنظر العرف. ولا يرى العرف تناف بين الدليلين إذا كانا كذلك.

٢ ـ أنه لو سلّم صدق المخالفة ـ التي هي موضوع الأخبار الدالة على طرح ما خالف الكتاب ـ على المخالفة بالعموم والخصوص ، ولم نقل باختصاصها بالمخالفة على نحو التباين فلا بد من تخصيص المخالفة بغير المخالفة بالعموم والخصوص ؛ وذلك للعلم بصدور أخبار كثيرة مخالفة للكتاب بالعموم والخصوص ، وجريان السيرة على العمل بها في مقابل عمومات الكتاب ، ولا يكون ذلك إلا لتخصيص المخالفة بالمخالفة على نحو التباين وإخراج المخالفة بالعموم والخصوص المطلق عن المخالفة ؛ إذ لو لم نقل بهذا التخصيص يلزم طرح كثير من الأخبار التي علم بصدورها عن المعصومين «عليهم‌السلام» ، فالنتيجة هي : أن الخبر المخالف للكتاب بغير المخالفة على نحو التباين ليس مشمولا للأخبار الدالة على طرح الخبر المخالف.

٣ ـ «قوة احتمال أن يكون المراد أنهم لا يقولون بغير ما هو قول الله «تبارك وتعالى» يعني : أنه يحتمل أن يراد بالمخالفة في تلك الأخبار : المخالفة للحكم الواقعي الذي كتبه الله تعالى على عباده ؛ بأن يكون الواجب طرحه هو الخبر المخالف للحكم الواقعي ، لا المخالف لظاهر الكتاب ، فخبر الواحد المخالف لظاهر الكتاب يحتمل أن يكون موافقا للحكم الواقعي ، ومع هذا الاحتمال لا يحرز كونه مخالفا للحكم الواقعي حتى تشمله الأخبار الآمرة بطرح ما خالف الكتاب ، فلا يصح التمسك بها لطرحه ؛ لكونه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية ، وهو غير جائز عند المحققين.

٤٠٠