دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للخطاب الحقيقي ، وفرض استعمالها في الخطاب الحقيقي لكان العموم الواقع في تلو تلك الأدوات مختصا بالحاضرين ، ولا يشمل المعدومين ؛ إذ لا يصح خطاب المعدوم بالخطاب الحقيقي إلا من باب المجاز بعد التأويل والتنزيل.

وكيف كان ؛ فالظاهر ـ عند المصنف ـ عدم وضع أداة الخطاب للخطاب الحقيقي ؛ بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي ، فيستعمل فيما وضع له أعني : الخطاب الإيقاعي بدواع مختلفة ـ كما في كلام المصنف ـ فلا يقتضي وضعا اختصاص المدخول بالحاضر.

نعم ؛ لا يبعد اقتضاؤه إياه انصرافا لو لم يكن هناك مانع عن الانصراف ، كما في خطابات الشرع ، فإنه في مقام جعل القانون بنحو القضية الحقيقية.

ويشهد لما ذكره المصنف من عدم اختصاص الوضع بالخطاب الحقيقي ـ بل للخطاب الإيقاعي ـ صحة النداء بالأدوات مع إرادة العموم من الواقع تلوها للغائبين والمعدومين جميعا ، مع عدم رعاية تنزيل الغائب والمعدوم منزلة الحاضر والموجود ، إذ على فرض الوضع للخطاب الحقيقي لما صحّت إرادة العموم إلا بالتنزيل والعناية ، ورعاية قرينة المجاز.

٣ ـ توهّم كون التنزيل ـ الذي هو سبب صحة الاستعمال ـ في العموم ارتكازيا ، لأنّ إرادة العموم من تالي الأدوات ليست لأجل وضعها للخطاب الحقيقي ، وعلى هذا فلا تشهد صحة النداء بالأدوات ـ مع إرادة العموم من تاليها لغير المشافهين ـ بوضعها للخطاب الإنشائي ، ولازم هذا : إنكار وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي الإنشائي الذي ادعاه المصنف مدفوع ، بأنّه لو كان تنزيل غير الصالح للإفهام منزلة الصالح له ارتكازيا للزم حصول العلم به بعد التأمل والتفتيش عنه ، مع إنّه ليس كذلك ، فعدم حصول العلم بالتنزيل ، وعدم وجدانه بالتفتيش دليل على عدم التنزيل ؛ إذ لا نرى في المقام تنزيلا حتى بعد التأمل والتفتيش ؛ بل نرى استعمال النداء في المعدوم والغائب على حدّ استعماله في خصوص الحاضرين في عدم التنزيل ورعاية العلاقة ، وهذا كاشف عن وضع أدوات النداء ، للخطاب الإيقاعي الإنشائي.

نعم ؛ من يقول : بمنع وضعها للخطاب الإنشائي ، بل بوضعها للخطاب الحقيقي فلا مناص له حينئذ عن الالتزام باختصاص ما يقع في تلوها بالحاضرين في مجلس الخطاب فقط.

٤ ـ وتوهم : صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين ، فضلا عن الغائبين بلحاظ : إحاطته بكل من الموجود والمعدوم ، فالكل بالنسبة إلى ساحته تعالى من

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

قبيل المشافه مدفوع ؛ بأنه تعالى وإن كان محيطا للكل إلا إنّه لا يصح أن يكون الكل مخاطبا شفاهيا له تعالى ، وذلك ليس لقصور في إحاطته تعالى ؛ بل لقصور فيهم وقصور الألفاظ ؛ لأن المعدوم قاصر وغير قابل لتوجيه الخطاب الحقيقي إليه ، فإن إحاطته به لا توجب قابلية المعدوم للخطاب الحقيقي ، كما أن قصوره لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى.

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ وضع أدوات الخطابات الشفاهية للخطاب الإيقاعي الإنشائي.

٢ ـ عدم اختصاص الخطابات الشفاهية بالمشافهين ؛ بل يشمل الغائبين والمعدومين حسب ما هو مبنى المصنف ؛ من وضعها للخطاب الإنشائي دون الحقيقي.

٣٦٢

فصل

ربما قيل : إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان.

الأولى (١):

حجيّة ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

وفيه (٢) : أنه مبني على اختصاص حجيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام ، وقد حقق

______________________________________________________

ثمرة القول بعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين

(١) الثمرة الأولى : للمحقق القمّي «قدس‌سره» ، فإنه ذكر في بحث الخطابات الشفاهية : أن ثمرة عموم الخطابات القرآنية للمعدومين وعدمه هي حجّية ظواهرها لهم وعدمها بمعنى : أنه على القول بعموم الخطابات للغائبين ، بل المعدومين تكون ظواهرها حجة لهم كحجيّة ظواهرها للمشافهين ، فيجوز لهم التمسك بعمومها وإطلاقها.

وأما على القول بعدم عمومها : لا تكون ظواهرها حجة لهم ، فليس لهم التمسك بها لإثبات التكاليف في حقهم ؛ بل لا سبيل لإثباتها لهم إلا الإجماع ، وقاعدة اشتراك جميع المكلفين في التكاليف.

فالمتحصل : أن الخطابات إن كانت متوجهة إلى المعدومين ـ كالموجودين ـ فهم بأنفسهم مخاطبون كالموجودين ، فظواهر الخطابات حجة لهم كحجيتها للمشافهين ، وإن لم تكن متوجهة إلى المعدومين فلا تكون ظواهرها حجة لهم. وضمير «لهم» راجع إلى المعدومين.

(٢) توضيح الإشكال على هذه الثمرة يتوقف على مقدمة وهي : أن ترتب هذه الثمرة أعني : حجية ظواهر الخطابات للمعدومين مبني على مقدمتين :

الأولى : اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، حيث إنهم بناء على شمول الخطابات لهم مقصودون بالإفهام ، فالظواهر حجة لهم ، وأما بناء على حجية الظواهر مطلقا حتى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه : فلا تكون هذه الثمرة صحيحة ، لشمول الخطابات للمعدومين ؛ إذ المفروض : حجية الظواهر لهم وإن لم يكونوا مقصودين

٣٦٣

عدم الاختصاص بهم. ولو سلّم ، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع ؛ بل الظاهر : أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك وإن لم يعمهم الخطاب ، كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار.

______________________________________________________

بالإفهام ، ولم تشملهم الخطابات.

الثانية : أن غير المشافهين للخطابات القرآنية لم يكونوا مقصودين بالإفهام ؛ بأن لا يكون الكتاب العزيز من قبيل تصنيف المصنفين وتأليف المؤلفين ؛ إذ بناء على كونه من قبيل تأليف المؤلفين لا تكون هذه الثمرة صحيحة ، لكون المعدومين حينئذ كالموجودين مقصودين بالإفهام.

وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إذا تمت هاتان المقدمتان اختص قهرا حجية ظواهر الكتاب بالمشافهين فقط ، فتتم حينئذ الثمرة الأولى في المقام ؛ إذ يقال : إنه على القول بعموم الخطابات القرآنية وشمولها لغير المشافهين تكون هي حجة لنا وإلا فلا.

إلّا إن المصنف ردّ على كلتا المقدمتين ، وقد اشار إلى ردّ المقدمة الأولى بقوله : «وقد حقق عدم الاختصاص بهم» أي : بالمقصودين بالإفهام ، فإن المحقق في محله : عدم اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه ؛ وإن ذهب البعض إلى الاختصاص.

وقد أشار إلى ردّ المقدمة الثانية بقوله : «ولو سلم : فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع» ، وهذا الإشكال راجع إلى منع الصغرى بعد تسليم الكبرى وهي : التفصيل في حجية الظواهر بين المقصود بالإفهام وغيره ، فيقال بحجيّتها في الأول دون الثاني ، بتقريب : أنه كيف يكون المقصود بالإفهام خصوص المشافهين ، مع كون المعدومين مكلّفين بتكاليف المشافهين كالموجودين؟ فنفس الخطاب الحقيقي وإن كان لم يشمل المعدومين لكنهم مقصودون بالإفهام ، كما أشار إليه بقوله : «بل الظاهر : أن الناس كلهم إلى يوم القيام يكون كذلك» أي : مقصودين بالإفهام ، والصواب «يكونون» بدل «يكون» ؛ لرجوع ضميره إلى الناس وهو اسم جمع. «وإن لم يعمّهم الخطاب» بحيث يصح لهم التمسك به في إثبات تكاليفهم ؛ وذلك لما مر سابقا من : امتناع شمول الخطاب الحقيقي للمعدومين ، وهو لا يستلزم عدم كونهم مقصودين بالإفهام أيضا ؛ إذ لا ملازمة بين اختصاص الخطاب بشخص ، وبين اختصاص من قصد إفهامه به «كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار» ؛ أي : كما يومئ إلى كونه مقصودين بالإفهام «غير واحد من الأخبار» كحديث الثقلين ، فإن ظاهر الكتاب والسنة لو لم يكن حجة لما كان التمسك بهما مانعا عن الضلال ، فالخطابات الواردة في الكتاب والسنة وإن لم نقل بشمولها للمعدومين ؛ لكنهم مقصودون بالإفهام قطعا.

٣٦٤

الثانية (١):

صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين وإن لم يكن (٢) متحدا مع المشافهين في الصنف ، وعدم

______________________________________________________

وكالأخبار الآمرة بعرض الأخبار المتعارضة على الكتاب والسنّة ، والأخذ بما يوافقهما ، وطرح ما يخالفهما ، وغير ذلك من الأخبار الظاهرة في كون ظواهر الخطابات القرآنية والمعصومية حجة على المعدومين كحجيّتها على الموجودين ، وغير ذلك من الروايات الدالة على عدم اختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بالإفهام ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣. ص ٦٠٢» مع تصرف ما.

(١) هذه الثمرة الثانية المترتبة على النزاع في الخطابات الشفاهية مذكورة في القوانين وغيره وحاصلها : أنه ـ بناء على شمول الخطابات للمعدومين ـ يصح التمسك بإطلاقاتها لإثبات الأحكام للمعدومين بعد وجودهم وبلوغهم ، إذ المفروض : أن الخطاب المتكفل لثبوت الحكم للعنوان المنطبق على المعدومين مثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ*) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*) ونحو ذلك يدل بنفسه على ثبوت الحكم لهم ؛ وإن لم يكونوا متحدين مع المشافهين في الصنف ، فيمكن إثبات وجوب صلاة الجمعة مثلا للمعدومين بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ)(١) مع اختلافهم صنفا مع الموجودين ؛ لكونهم حينذاك متنعمين بشرف حضور المعصوم «عليه‌السلام» ؛ دون المعدومين الذين هم فاقدون لهذه النعمة ، لكن لمّا كان نفس الخطاب شاملا لهم ، فهم كالموجودين مكلّفون بصلاة الجمعة.

وأما بناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين : لا يجوز لهم التمسك بها لإثبات ما تضمنته من الأحكام ؛ إذ الدليل على ثبوت الأحكام حينئذ لهم هو الإجماع وهو دليل لبّي ، فلا بد من الأخذ بالمتيقّن منه وهو اتحادهم مع الموجودين في الصنف.

قوله : «بناء على التعميم» أي : تعميم الخطابات للمعدومين ، «ولثبوت» متعلق بقوله : «التمسك».

(٢) أي : وإن لم يكن من وجد وبلغ من المعدومين متحدا صنفا مع المشافهين ؛ إذ انطباق العنوان كاف لإثبات الحكم على هذا الفرض.

__________________

(١) الجمعة : ٩.

٣٦٥

صحته (١) على عدمه ؛ لعدم كونها (٢) حينئذ متكفلة لأحكام غير المشافهين.

فلا بد من إثبات اتحاده (٣) معهم في الصنف حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام ، وحيث (٤) لا دليل عليه حينئذ (٥) إلا الإجماع ، ولا إجماع عليه (٦) إلا فيما اتحد الصنف ، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك (٧) ؛ أنه يمكن إثبات الاتحاد وعدم دخل ما كان البالغ

______________________________________________________

(١) أي : عدم صحة التمسك بالإطلاق بناء على عدم التعميم.

(٢) أي : لعدم كون الإطلاقات «حينئذ» أي : حين لم تكن تشمل المعدومين.

فقوله : «لعدم» تعليل لعدم صحة التمسك.

(٣) أي : اتحاد غير المشافهين مع المشافهين «في الصنف» ، بأن يكون رجلا لو كان المشافهون من الرجال مثلا.

وجه اللابدية : أن اتحاد الصنف شرط موضوع دليل الاشتراك ، فلا يجري هذا الدليل إلا بعد إحراز شرطه المزبور ، كما هو شأن كل دليل بالنسبة إلى مورده.

(٤) تعليل لاعتبار الاتحاد في الصنف في الحكم باشتراك المعدومين مع المشافهين في الأحكام.

وحاصل التعليل : أن دليل الاشتراك ـ بناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين ـ هو الإجماع ، وحيث إنه لبّي فلا بد من الأخذ بالمتيقّن منه وهو اتحاد الصنف ؛ إذ الإجماع في غيره مشكوك فيه.

(٥) أي : حين عدم شمول الخطابات لغير المشافهين.

(٦) أي : ولا إجماع على الاشتراك إلا في مورد الاتحاد في الصنف.

(٧) أي : لا يخفى عليك : عدم صحة هذه الثمرة أيضا كالثمرة الأولى.

فالمقصود هو : ردّ هذه الثمرة الثانية ـ وهي : صحة التمسك بإطلاقات الخطاب بناء على شمولها للمعدومين ، وعدم صحة التمسك بها بناء على عدم شمولها لهم.

وحاصل الردّ : أنه لا مانع من التمسك بإطلاقات الخطابات لإثبات اتحاد المعدومين مع المشافهين في الأحكام ، وإن لم نقل بشمول الخطابات للمعدومين ؛ وذلك لأنه لو كان للوصف الثابت للموجودين ـ كحضور المعصوم «عليه‌السلام» ـ دخل في الحكم كوجوب صلاة الجمعة لزم تقييد الخطاب به ، والمفروض : عدمه ، فالإطلاق محكم ، ومقتضاه : عدم دخل ذلك الوصف في الحكم ، وعمومه لكل من المشافهين والمعدومين.

ولازم ذلك هو : صحة التمسك بالخطابات وإن لم تشمل المعدومين ، فالثمرة الثانية أيضا ساقطة.

٣٦٦

الآن (١) فاقدا له ، مما كان المشافهون واجدين له (٢) ، بإطلاق الخطاب إليهم (٣) من دون التقييد به ، وكونهم (٤) كذلك لا يوجب صحة الإطلاق مع إرادة المقيد معه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان ، وإن صحّ فيما لا يتطرق إليه ذلك ، وليس

______________________________________________________

(١) أي : بعد زمان الخطاب «فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له».

(٢) كفقد البالغ في زماننا للنبي والوصيّ ، ووجدان المشافهين لهما في مثال صلاة الجمعة.

(٣) أي : إلى المشافهين ، وقوله : «بإطلاق» متعلق بقوله : «إثبات» ، فمعنى العبارة حينئذ : أنه يمكن إثبات الاتحاد بإطلاق الخطاب إلى المشافهين ؛ إذ لو كان موضوع الخطاب في نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ*) مقيدا بالوصف الذي كان المشافهون واجدين له كان اللازم تقييده به ؛ كأن يقول : «يا أيّها الناس المشرّفون بشرف الحضور» ، فعدم التقييد دليل الإطلاق ، وعدم دخل وصف الحضور في وجوب صلاة الجمعة على المشافهين.

فالنتيجة : هي صحة التمسك بالإطلاقات وإن لم تعم المعدومين. الضمير في «به» راجع إلى «ما» المراد به الأوصاف أي : من دون التقييد بوصف كان المشافهون واجدين له.

(٤) أي : وكون المشافهين واجدين للوصف ـ كحضور المعصوم «عليه‌السلام» ـ المحتمل دخله في الحكم ، كوجوب صلاة الجمعة ، فهذا إشارة إلى توهم وهو : أنه لا وجه للتمسك بالإطلاق بعد البناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين ، وذلك لأن اتصاف المشافهين بالوصف الخاص يصلح لأن يكون قرينة على التقييد ، ودخل ذلك الوصف في الحكم ، ومن المعلوم : أن من مقدمات الإطلاق عدم وجود ما يصلح للقرينية ، واحتمال دخل الوصف الذي كان المشافهون واجدين له صالح للقرينية ، ومعه لا يتم الإطلاق حتى يصح التمسك به.

فالنتيجة : أنه لا يصح التمسك بالإطلاقات مع عدم شمول الخطابات للمعدومين ، وإنما يصح مع شمولها لهم ، فالثمرة الثانية غير ساقطة عن الاعتبار ؛ بل هي ثابتة ، وقد أجاب عن هذا التوهم بقوله : «لا يوجب».

وحاصل الجواب : صحة التمسك بالإطلاقات ، واتصاف المشافهين بصفة يطرأ عليها الفقدان لا يكون دليلا على تقييد الإطلاق حتى لا يصح التمسك بالإطلاق كما زعمه المتوهم ، فلو كان الوصف الموجود للمشافهين ـ كحضور المعصوم «عليه‌السلام» ـ معتبرا كان على المتكلم بيانه ، فترك تقييده دليل على عدم اعتباره.

وعلى هذا : فالإطلاق محكم ، ويصح التمسك به ، فتبطل الثمرة الثانية ، وهي : صحة

٣٦٧

المراد (١) بالاتحاد في الصنف إلا الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الأحكام ، لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه ، والتفاوت بسببه بين الأنام ، بل في شخص واحد

______________________________________________________

التمسك بإطلاقات الخطابات بناء على شمولها للمعدومين ، وعدم صحته بناء على عدم الشمول ؛ إذ يصح التمسك بالخطابات مطلقا سواء قلنا بشمولها للمعدومين أم لم نقل به.

نعم ؛ ما ذكره المتوهم من صحة الإطلاق ـ مع إرادة التقييد ـ إنما يتجه في الصفات التي لا يتطرف إليها الفقدان ؛ إذ يصح حينئذ أن يعتمد المتكلم في تقييد الإطلاقات على بقاء تلك الصفات. كما أشار إليه بقوله : «وإن صح فيما لا يتطرق إليه ذلك» أي الفقدان. المراد من «ما» في قوله : «فيما يمكن» هي : الأوصاف التي يمكن أن يتطرق إليها الفقدان كما هو الغالب ؛ كعنوان المسافر والحاضر ، ومدرك حضور المعصوم «عليه‌السلام» ، فإن هذه العناوين والأوصاف مما لا تبقى ؛ بل تنعدم غالبا ، فلا يصح الاعتماد على وجودها في تقييد إطلاق الدليل.

(١) إشارة إلى دفع توهم بتقريب : أنه ـ بناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين ـ كيف يجوز التمسك بها للمعدومين ، مع كثرة موجبات الاختلاف بين المشافهين والمعدومين؟ مثل : كون المشافهين في المدينة ، والمسجد ، ومصاحبي النبي والوصي «صلوات الله عليهما» ، وغير ذلك مما يوجب الاختلاف : الفاحش المانع عن إحراز وحدة الصنف بين المشافهين والمعدومين ، ومع هذا الاختلاف لا وجه للتمسك بالإطلاقات لوحدة الصنف.

وحاصل الدفع : أن المراد بالاتحاد ليس هو الاتحاد في جميع الأوصاف ، ضرورة : أنها في غاية الكثرة ؛ بل المراد الاتحاد في الأوصاف التي قيد بها الأحكام ، وهي ليست كثيرة جدا كما أشار إليه بقوله : «لا الاتحاد» ، يعني : ليس المراد بالاتحاد الاتحاد فيما يوجب كثرة الاختلاف بين المشافهين والمعدومين ، مثل : كون المشافهين في المدينة والمسجد وإدراك صحبة النبي والوصي «عليهما‌السلام» ؛ بل المراد الاتحاد فيما يعتبر قيدا للحكم ، ضرورة : أن موجبات الاختلاف كثيرة جدا ، بل ربما يختلف شخص واحد باختلافها ، فإن زيدا مثلا قد يكون غنيا ، وقد يكون فقيرا ، وقد يكون مسافرا ، وقد يكون حاضرا ، .. إلى غير ذلك من الأوصاف الكثيرة التي لا يحيط بها ضابط.

فالمتحصل : أن التمسك بالإطلاقات لإثبات وحدة الصنف في محله ، فلا يتوهم عدم صحة التمسك بها لإثبات وحدة الصنف على تقدير عدم شمولها للمعدومين ؛ لأجل كثرة ما بين المشافهين والمعدومين من موجبات الاختلاف ، كما في «منتهى

٣٦٨

بمرور الدهور والأيام ، وإلا (١) لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين ـ فضلا عن المعدومين ـ حكم من الأحكام.

ودليل الاشتراك (٢) إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين ،

______________________________________________________

الدراية ، ج ، ٣ ص ٦٠٧ ـ ٦٠٨» مع تصرف وتوضيح منا.

(١) أي : وإن لم يكن المراد الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الأحكام ؛ لما ثبت بقاعدة الاشتراك ـ كالإجماع ـ حكم للغائبين فضلا عن المعدومين ؛ لكثرة الاختلاف في الخصوصيات التي لا دخل لها في الأحكام أصلا ، وأجنبية عنها جزما.

(٢) يمكن أن يكون دفعا لما قد يتوهم من : أنه لا حاجة في المقام إلى التمسك بالإطلاق للمشافهين كي يرتفع به دخل ما شك في دخله ، ويثبت به اتحاد المعدومين معهم في الصنف ، فيلحقهم الحكم بدليل الاشتراك ؛ بل يكفي في تسرية الحكم من المشافهين إلى المعدومين نفس دليل الاشتراك فقط ، بمعنى : كفاية دليل الاشتراك في إثبات الأحكام للغائبين والمعدومين ، من دون حاجة إلى ضم الإطلاق لإثبات الاتحاد في الصنف إليه.

وحاصل الدفع : هو إثبات الحاجة إلى التمسك بالإطلاق ، وعدم كفاية دليل الاشتراك في إثبات الأحكام للغائبين والمعدومين ، وعدم تمامية الاستدلال بدليل الاشتراك إلا بضم الإطلاق إليه ؛ لأن دليل الاشتراك لا يقتضي إلا ثبوت الحكم للمعدومين في خصوص ما إذا علم عدم دخل الخصوصية الثابتة للموجودين في الحكم ؛ لأنه القدر المتيقن من دليل الاشتراك ، وأما إذا شك في دخل تلك الخصوصية في ثبوت الحكم للمشافهين : فلا بد أولا من نفي احتمال دخلها في ثبوت الحكم ، ثم إثباته للمعدومين ، ومن المعلوم : أن نفي الاحتمال المزبور منوط بالتمسك بالإطلاق ؛ ليثبت به اتحاد المعدومين مع الموجودين في الصنف ، كي يصح التمسك بدليل الاشتراك. فجعل ثمرة البحث التمسك بالإطلاق وعدمه : إنما يتجه فيما إذا كان دليل الاشتراك صالحا لأن يكون دليلا مستقلا على إثبات الحكم للمعدومين ، على فرض اختصاص الخطابات بالحاضرين ؛ إذ لا نحتاج حينئذ إلى إطلاق الخطاب.

وأما إذا كان دليل الاشتراك غير صالح لذلك ـ كما هو كذلك ـ فالتمسك بالإطلاق مما لا بد منه ، فالفرق بين عموم الخطاب للمعدومين وعدمه بعد اشتراكهما في الحاجة إلى التمسك بالإطلاق إنما هو في الحاجة إلى ضم دليل الاشتراك ، على تقدير اختصاص الخطابات بالمشافهين ، حيث أن التمسك بالإطلاق يكون في حقهم ، وتسرية الحكم إلى غيرهم إنما هي بالإجماع ، وعدم الحاجة إلى ضم دليل الاشتراك

٣٦٩

فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان ، لو لم يكونوا معنونين به (١) لشكّ في شمولها لهم أيضا ، فلو لا الإطلاق وإثبات عدم دخل ذلك العنوان (٢) في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك ، ومعه (٣) كان الحكم يعم غير المشافهين ولو قيل باختصاص

______________________________________________________

على تقدير عدم اختصاص الخطابات بالمشافهين ؛ لأن غير المشافهين يتمسكون بالإطلاق ابتداء.

(١) أي : لو لم يكن المشافهون معنونين بذلك العنوان لشك في شمول الخطابات لهم أيضا أي : كشمولها للمعدومين.

والمقصود من هذا الكلام : أن دليل الاشتراك يجدي في إثبات الحكم للمعدومين بالنسبة إلى العناوين التي يعلم بعدم دخلها في الحكم ؛ ككون المشافهين متهجدين ، أو لابسي الملابس العربية مثلا ، دون العناوين التي لو سلبت عن المشافهين لشك في ثبوت الحكم لهم أيضا ؛ ككونهم مدركين لحضور المعصوم «عليه‌السلام» ، فإن دليل الاشتراك حينئذ لا يجري ؛ إذ لو لم يكن المشافهون واجدين له لشك في وجوب الجمعة عليهم أيضا ، فلا بد من التمسك بالإطلاق لنفي الشك.

(٢) أي : العنوان الذي لو لم يكن المشافهون معنونين به لشك في شمول التكاليف لهم أيضا لما أفاد دليل الاشتراك شيئا ؛ لأن شأنه تعميم الحكم المستفاد من الخطابات المختصة بالمشافهين لغيرهم من المعدومين ، ومن المعلوم : أنه متفرع على إحراز حكم المشافهين بالقطع أو الظهور عند فقدان العنوان المختص بهم ، ليثبت ذلك الحكم للمعدومين الفاقدين لذلك العنوان أيضا ، فمع انسداد باب القطع ، واحتمال اختصاص المشافهين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين بذلك العنوان لشك في شمول الخطابات لهم ، وعدم ما يرفع هذا الشك لم يكن لدليل الاشتراك فائدة وهي التعميم ؛ إذ لم يحرز حكم المشافهين حينئذ حتى يعمه دليل الاشتراك ، فلو لا الإطلاق النافي لاحتمال دخل ذلك العنوان الخاص في حكم المشافهين لما أفاد دليل الاشتراك شيئا ، ومع الإطلاق لا حاجة إلى دليل الاشتراك ؛ لأن الإطلاق حجة لغير المشافهين ولو على القول باختصاص الخطابات بالمشافهين ؛ لكون المعدومين مقصودين بالإفهام ولو لم تعمهم الخطابات.

(٣) أي : مع إطلاق الخطاب يعم الحكم غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطاب بالمشافهين ؛ لما مر غير مرة من أنهم مقصودون بالإفهام حينئذ.

وكلمة «لو» وصلية ، وضمير «بهم» راجع إلى المشافهين ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦١٠ ـ ٦١١» مع تصرف منّا.

٣٧٠

الخطابات بهم فتأمل جيدا (١).

فتلخص : أنه لا يكاد تظهر الثمرة إلا على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد إفهامه (٢) ، مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالإفهام (٣). وقد حقق عدم الاختصاص به في غير المقام (٤).

وأشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته «تبارك وتعالى» في المقام (٥).

______________________________________________________

(١) أي : فتأمل جيدا حتى تعرف بطلان الثمرة الثانية ، وأنه يصح التمسك بالإطلاقات مطلقا ؛ وإن قلنا باختصاص الخطابات بالمشافهين ، حيث إن غير المشافهين مقصودون بالإفهام أيضا.

(٢) وهو مختار صاحب القوانين.

(٣) أي : أنه لا يترتب على مسألة المشافهة ما ذكر من الثمرتين إلا على القول باختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، مع عدم كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام ، «وقد حقق عدم الاختصاص به» أي : عدم اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، ونمنع كون المعدومين غير مقصودين بالإفهام ، كما اشار إليه بقوله : «وقد أشير إلى منع كونهم غير مقصودين به» يعني : قد أشار إلى كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام بقوله : ـ سابقا ـ «كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار».

(٤) أي : غير مبحث الخطابات المشافهة وهو مبحث حجية الظواهر.

وكيف كان ؛ فلا ثمرة لهذا النزاع أصلا.

(٥) حيث قال المصنف : ـ في ردّ الثمرة الأولى ـ «ولو سلم فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع ؛ بل الظاهر : أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك» أي : مقصودين بالإفهام.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

ثمرة عموم الخطابات الشفاهية للمعدومين :

١ ـ الثمرة الأولى : هي حجية ظواهر الخطابات الشفاهية للمعدومين وعدمها ، فعلى تقدير عمومها لهم : تكون ظواهرها حجة لهم ، فيجوز لهم التمسك بعموم الخطابات وإطلاقها.

وأما على تقدير عدم عمومها لهم : فلا تكون ظواهرها حجة لهم ، فلا يجوز لهم التمسك بعمومها لإثبات التكاليف في حقهم ؛ بل لا سبيل لهم لإثبات التكاليف في

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

حقهم إلا قاعدة الاشتراك في التكليف.

وهذه الثمرة مبنية على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، وعلى عدم كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام بالخطابات القرآنية ، وكلا الأمرين مردود.

أما ردّ الأمر الأول : فقد ثبت في محله : عدم اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه.

وأما ردّ الأمر الثاني : فلمنع عدم كون غير المشافهين مقصودين بالإفهام ، بالخطابات القرآنية ؛ إذ كيف يكون المقصود بالإفهام خصوص المشافهين ، مع إن المعدومين مكلفون بتكاليف المشافهين كالموجودين؟

٢ ـ الثمرة الثانية : أنه ـ بناء على شمول الخطابات للمعدومين ـ يصح التمسك بإطلاقها لإثبات الأحكام للمعدومين بعد وجودهم وبلوغهم ؛ إذ المفروض : أن الخطاب المتكفل لثبوت الحكم للعنوان المنطبق على المعدومين مثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يدل بنفسه على ثبوت الحكم لهم ، فيمكن إثبات وجوب صلاة الجمعة للمعدومين بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ).

وأما بناء على عدم شمول الخطابات للمعدومين : فلا يجوز لهم التمسك بها لإثبات ما تضمنته من الأحكام ؛ لعدم كون الإطلاقات حينئذ متكفلة لأحكام غير المشافهين ، فالدليل على ثبوت الأحكام لهم حينئذ هو : الإجماع ، والمتيقّن منه : ما إذا كان المعدومون متحدين مع الموجودين في الصنف.

وحاصل ما أفاده المصنف في ردّ هذه الثمرة الثانية : أنه لا مانع من التمسك بإطلاقات الخطابات لإثبات اتحاد المعدومين مع المشافهين في الأحكام ؛ وإن لم نقل بشمول الخطابات للمعدومين ؛ إذ مقتضى الإطلاق : عدم دخل الوصف الثابت للموجودين ـ كحضور المعصوم «عليه‌السلام» ـ في ثبوت الحكم لهم ؛ بل عمومه لكل من المشافهين والمعدومين.

٣ ـ قوله : «ودليل الاشتراك إنما يجدي» دفع لما قد يتوهم من : أنه لا حاجة في المقام إلى التمسك بالإطلاق للمشافهين كي يرتفع به دخل ما شك في دخله ، ويثبت به اتحاد المعدومين معهم في الصنف ، فيلحقهم الحكم بدليل الاشتراك ؛ بل يكفي في تسرية الحكم من المشافهين إلى المعدومين نفس دليل الاشتراك فقط.

وحاصل ما أفاده المصنف في دفع هذا التوهم : هو إثبات الحاجة إلى التمسك

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإطلاق ، وعدم كفاية دليل الاشتراك في إثبات الأحكام للغائبين والمعدومين ، وعدم تمامية الاستدلال بدليل الاشتراك إلا بضم الإطلاق إليه ؛ لأن دليل الاشتراك لا يقتضي إلا ثبوت الحكم للمعدومين في خصوص ما إذا علم عدم دخل الخصوصية الثابتة للموجودين في الحكم.

وأما إذا شك في دخل تلك الخصوصية في ثبوت الحكم للمشافهين : فلا بد من نفي دخلها في ثبوت الحكم لهم بالإطلاق ، ليثبت به اتحاد المعدومين مع الموجودين في الصنف حتى يصح التمسك بدليل الاشتراك ، فالتمسك بالإطلاق مما لا بد منه في تسرية الحكم من المشافهين إلى غيرهم بدليل الاشتراك.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو عدم الثمرة العملية للخطابات الشفاهية ؛ إذ قد ردّ المصنف على كلتا الثمرتين.

٣٧٣
٣٧٤

فصل

هل تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يوجب تخصيصه به أو لا؟

فيه خلاف بين الأعلام ، وليكن محل الخلاف ما إذا وقعا في كلامين ، أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام ، كما في قوله تبارك وتعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ، إلى قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) ، وأما ما إذا كان مثل : المطلقات أزواجهنّ أحق بردهنّ ، فلا شبهة في تخصيصه به.

______________________________________________________

في تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده

وقبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن العام تارة يكون مستقلا بالحكم ، ويكون مستغنيا عن الضمير في مقام موضوعيته للحكم ؛ بأن يكون العام في الكلام موضوعا لحكم ، ويكون تعقّبه بضمير يرجع إليه محكوما بحكم آخر ، ثم علم من الخارج اختصاص الحكم الثاني ببعض أفراد العام ، من دون فرق بين أن يكون العام والضمير في كلامين أو في كلام واحد.

فالأول : كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ)(١) ، وقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(٢) ، فالضمير في (وَبُعُولَتُهُنَ) يرجع إلى خصوص الرجعيات ، مع إن كلمة (الْمُطَلَّقاتُ) تعم الرجعيات والبائنات.

والثاني : كقول المولى لعبده : «أكرم العلماء وواحدا من أصدقائهم» ، مع فرض عود الضمير في «أصدقائهم» إلى خصوص العدول من العلماء ، فكأنّه قيل :

«أكرم العلماء وواحدا من أصدقاء العلماء العدول».

وأخرى : أن لا يكون العام مستقلا بالحكم ؛ بل كان حكمه حكم الضمير ، مثل : «المطلقات أزواجهن أحقّ بردّهن» ، حيث أن العام ـ مع الغض عن جملة «وأزواجهن» ـ لا يكون موضوعا للحكم وهو الأحقيّة بالرّد ، إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو القسم الأول ، وأما القسم الثاني : فلا نزاع في تخصيص العام بالضمير ، فيكون

__________________

(١ ـ ٢) جزء من آية ٢٢٨ من سورة البقرة.

٣٧٥

والتحقيق (١) أن يقال : إنه حيث دار الأمر بين التصرف في العام بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه ، أو التصرف في ناحية الضمير ؛ إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه ، أو إلى تمامه مع التوسّع في الإسناد بإسناد الحكم المسند إلى

______________________________________________________

المراد بالمطلقات غير البائنات أعني : الرجعيات.

(١) التحقيق في المقام : أنه يدور الأمر بين التصرّف في العام بالالتزام بتخصيصه بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه يعني : الرجعيات ، وبين التصرّف في ناحية الضمير إمّا بإرجاعه إلى بعض ما يراد من مرجعه ـ وهو العام ـ من باب الاستخدام فيكون من باب المجاز في الكلمة.

أو بإرجاعه إلى تمامه بنحو المجاز في الإسناد بمعنى : إسناد الحكم المسند حقيقة إلى البعض إلى الكل مجازا ، فيكون من باب المجاز في الإسناد. والفرق بين المجازين واضح.

فحينئذ يقع الكلام في أنّ المرجع في المقام هل هو أصالة العموم أم أصالة عدم الاستخدام أم لا هذا ولا ذاك وجوه وأقوال؟ اختار المصنف القول الأخير.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي أن التصرّف في العموم يكون بالتخصيص والتصرف ـ في الضمير الظاهر في تطابقه مع المرجع في العموم والخصوص والتذكير والتأنيث المعبّر عنه بأصالة عدم الاستخدام ـ إنما هو في ارتكاب خلاف هذا الظاهر إما بالاستخدام بإرجاع الضمير إلى بعض أفراد العام ـ أعني : الرجعيات ـ مع كون العام هو المراد في الحكم بالتربّص. وإما بارتكاب المجاز في الإسناد ؛ بأن يكون المراد بالعام حقيقة هو الخاص ، وإسناد الحكم إلى العام كان توسعا من باب المجاز في الإسناد.

هذا ثم إن أصالة الحقيقة وعدم الاستخدام إنما هي مختصة بما إذا كان الشك في المراد ، وأما مع العلم بالمراد والشك في كيفية الاستعمال بأنها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا تجري.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا يمكن الرجوع في المقام إلى أصالة العموم ، ولا إلى أصالة عدم الاستخدام وأصالة الحقيقة.

أما عدم صحة الرجوع إلى أصالة العموم : فلأن تعقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يصلح أن يمنع عن انعقاد ظهوره فيه ، حيث أنه داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف ، ومعه لا ظهور له حتى يتمسك به إلا على القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا ، وهو غير ثابت جزما.

وأما عدم صحة الرجوع إلى أصالة عدم الاستخدام : فلأن الأصل اللفظي إنما يكون متبعا ببناء العقلاء فيما إذا شك في مراد المتكلم من اللفظ ، واما إذا كان المراد

٣٧٦

البعض حقيقة إلى الكل توسعا وتجوّزا ، كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها في جانب الضمير (١) ، وذلك (٢) لأن المتيقّن من بناء العقلاء هو : اتّباع الظهور في تعيين المراد لا في تعيين كيفية الاستعمال ، وأنه على نحو الحقيقة أو المجاز في

______________________________________________________

معلوما ـ كما هو المفروض في المقام ـ وكان الشك في كيفية إرادته وأنها على نحو الحقيقة أو المجاز : فلا أصل هناك لتعيينها.

فالنتيجة هي : عدم جريان كلا الأصلين في المقام ؛ لكن كل بملاك ، فإن أصالة العموم بملاك اكتناف العام بما يصلح للقرينية ، وأصالة عدم الاستخدام بملاك أن الشك في المورد ليس في المراد وإنما هو في كيفية الاستعمال ، فحينئذ لا مناص من القول بالإجمال ، والرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) أصالة الظهور في جانب العام سالمة عن أصالة الظهور في جانب الضمير ، المعبّر عنها بأصالة عدم الاستخدام.

(٢) تعليل لجريان أصالة الظهور في العام ، وسلامتها عن معارضة أصالة عدم الاستخدام لها.

توضيحه : أن حجية الظواهر ـ وهو بناء العقلاء ـ لمّا كان لبيّا لزم الأخذ بالمتيقّن منه ـ وهو صورة عدم العلم بالمراد ـ دون ما إذا علم المراد وشك في أنه أريد على وجه الحقيقة أو المجاز ، مثلا : إذا لم يعلم المراد من لفظ الأسد ، وأنه معناه الحقيقي ـ وهو الحيوان المفترس ـ أو المجازي أعني : الرجل الشجاع ، فهنا استقر بناء العقلاء على جريان أصالة الحقيقة فيه ، وأن المراد منه معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس. وأما إذا علم المراد وأنه الرجل الشجاع ؛ لكن لم يعلم أنه معنى حقيقي أو مجازي ، فلا تجري أصالة الحقيقة هنا ؛ لإحراز : أن اللفظ مستعمل في معناه على وجه الحقيقة ، وأن الرجل الشجاع معناه الحقيقي.

نعم ؛ لو كان الأصل في الاستعمال الحقيقة أحرز به كون المراد هو المعنى : الحقيقي ، لكن ثبت في محله أن : الاستعمال أعم من الحقيقة فلا أصل لهذا الأصل.

وفي المقام لمّا كانت إرادة الرجعيات من ضمير (بُعُولَتُهُنَّ*) معلومة ، وكان الشك في كيفية إرادتها ، وأن إرادتها منه على نحو الحقيقة ؛ بأن أريد من مرجعه خصوص الرجعيات ، أو على نحو المجاز بأن أريد من مرجعه جميع المطلقات ـ والتجوّز حينئذ في ناحية الضمير ـ فلا تجري أصالة الظهور أي : عدم الاستخدام في الضمير ؛ بل تجري أصالة الظهور أي : العموم في العام ، فيحكم بوجوب التربّص على جميع المطلقات وعليه : فلا

٣٧٧

الكلمة أو الإسناد ، مع القطع بما يراد ، كما هو الحال في ناحية الضمير.

وبالجملة : أصالة الظهور إنما تكون حجة فيما إذا شك فيما أريد (١) ، لا فيما إذا شك في أنه كيف أريد (٢) فافهم (٣) ؛ لكنه إذا انعقد للكلام ظهور في العموم ؛ بأن لا

______________________________________________________

دوران بين الأصالتين حتى نحتاج إلى المرجّح ، أو نتوقف ؛ بل اللازم الحكم بتربّص جميع المطلقات إلا ما خرج بالدليل ، مع الحكم بأحقية بعولة الرجعيات فقط.

(١) أي : كالمطلقات في المقام ، فإنه يشك في أن المراد بهن جميع المطلقات كما هو قضية أصالة العموم ، أو خصوص الرجعيات كما هو مقتضى أصالة عدم الاستخدام في الضمير ؛ حتى يكون مطابقا لمرجعه.

(٢) كما في ضمير «وبعولتهن» ؛ للعلم بأن المراد به خصوص الرجعيات ، والشك إنما هو في كيفية الإرادة ، وأنها بنحو الحقيقة أو المجاز.

(٣) لعله إشارة إلى تقوية جريان أصالة الظهور في المقام دون الضمير ؛ على ما قيل من أن البناء على حجية أصالة الظهور حتى مع العلم بالمراد يستلزم أيضا تقديم أصالة الظهور في العام على أصالة الظهور في الضمير ، حيث إن التصرف في العام يوجب التصرف في الضمير أيضا ، والتصرف في الضمير لا يستلزم التصرف في العام. فالتصرف في الضمير معلوم على كل حال ، فلا يرجع فيه إلى أصالة الظهور ، بخلاف التصرف في العام فإنه مشكوك فيه ، فيرجع فيه إليه. أو إشارة إلى : أن أصالة الظهور في العام غير جارية أيضا أي : كما إنها غير جارية في الضمير ؛ لاحتفاف الكلام بما يصلح أن يكون قرينة.

هذا ما أشار إليه بقوله : «لكنه» أي : ما ذكرنا من بقاء العام على ظهوره «إنما يكون إذا عقد للكلام ظهور في العموم» إلخ يعني : لكن جريان أصالة الظهور في طرف العام وتقديمها على أصالة الظهور في الضمير إنما يكون فيما إذا عقد للكلام ظهور في العموم ، إذا اشتمل الكلام على حكمين مثل المقام ، فإن وجوب التربّص ثابت للمطلقات ، والحكم بأحقية الرد ثابت لبعولتهن ، ضرورة : أنه حينئذ ينعقد الظهور للعام أعني : المطلقات في العموم ؛ وأما إذا اشتمل على حكم واحد مثل : «المطلقات بعولتهن أحق بردّهن» فلا شك حينئذ في لزوم تخصيص العام بقرينة الضمير.

قوله : «بأن لا يعد ..» إلخ بيان لصورة انعقاد الظهور في العموم ، وتوضيحه : أن انعقاد الظهور للعام لتجري فيه أصالة العموم مبني على عدم احتفاف العام بما يمنع ظهوره في العموم ، كما إذا كان في الكلام ضمير راجع إلى العام ، صالح لأن يمنع انعقاد العموم له ، فإن أصالة العموم حينئذ لا تجري فيه.

٣٧٨

يعد ما اشتمل على الضمير ممّا يكتنف به عرفا ، وإلا (١) فيحكم عليه بالإجمال ، ويرجع إلى ما يقتضيه الأصول ؛ إلا أن يقال (٢) : باعتبار أصالة الحقيقة تعبدا ، حتى فيما إذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه في معناه الحقيقي كما عن بعض الفحول.

______________________________________________________

والحاصل : أنه إذا كان العام مكتنفا بضمير ، وكان احتفافه به مما يعد عرفا صالحا للقرينية على عدم إرادة العموم منه ، لم ينعقد له ظهور في العموم ، فأصالة العموم لا تجري فيه حينئذ.

(١) أي : وإن عدّ ما اشتمل على الضمير مما يكتنف به عرفا حكم عليه بالإجمال ؛ لاقترانه بما يصلح للقرينية المانع عن انعقاد الظهور له ، وعن جريان أصالة العموم في العام ، فلا بد من تشخيص الوظيفة الظاهرية من الرجوع إلى الأصول العملية ؛ لأنه بعد إجمال الكلام لا يكون دليل اجتهادي على الحكم.

(٢) استدراك على قوله : «لكنه إذا عقد للكلام ظهور» ، وحاصله : أنه يمكن إجراء أصالة الحقيقة حتى في صورة الاحتفاف بما يصلح للقرينية ـ بناء على كون حجية أصالة الحقيقة من باب التعبّد ، بمعنى : عدم إناطتها بالظهور حتى لا ينعقد بسبب الاحتفاف بمحتمل القرينية ـ فمع الشك في إرادة المعنى الحقيقي تجري أصالة الحقيقة أيضا. كما أشار إليه بقوله : «باعتبار أصالة الحقيقة تعبّدا» يعني : لا من جهة ظهور اللفظ حتى لا تجري في موارد الاحتفاف بما يصلح للقرينية إلا إنه غير ثابت ، والمراد من بعض الفحول هو صاحب الفصول أو الحاشية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخّص البحث في أمور :

١ ـ تحرير محل النزاع وهو : ما إذا كان العام مستقلا بالحكم مستغنيا عن الضمير ، من غير فرق بين أن يكون العام والضمير في كلامين ، أو في كلام واحد.

وأما إذا كان العام مما لا يكون مستقلا بالحكم ؛ بل كان حكمه حكم الضمير فلا شبهة في تخصيصه به.

٢ ـ الأمر في هذا المقام يدور بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه ، وبين التصرّف في ناحية الضمير إما بإرجاعه إلى بعض ما يراد من مرجعه ـ وهو العام ـ من باب الاستخدام ، فيكون من باب المجاز في الكلمة ، أو بإرجاعه إلى تمامه بنحو المجاز في الإسناد ، فيكون من باب المجاز في الإسناد.

٣٧٩

فحينئذ يقع الكلام في أن المرجع هل هي أصالة العموم ، أم أصالة عدم الاستخدام ، أم لا هذا ولا ذاك؟ أقوال والظاهر من المصنف ابتداء ؛ وإن كان هو الرجوع إلى أصالة الظهور في طرف العام إلّا إن المستفاد من آخر كلامه هو الحكم بالإجمال ، والرجوع إلى الأصول العملية.

«فافهم» لعله إشارة إلى : عدم جريان أصالة الظهور في طرف العام أيضا أي : كما لا تجري في جانب الضمير.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

أن تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده لا يوجب تخصيصه به.

٣٨٠