دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

له ، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها من العلم الاجمالي به أو حصول الظن بما هو التكليف ، أو غير ذلك رعايتها (١) ، فيختلف مقداره بحسبها كما لا يخفى.

ثم إن الظاهر (٢) : عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل ، باحتمال أنه كان ولم يصل بل حاله (٣) حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ولو قبل الفحص عنها كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) أي : رعاية الوجوه. فيختلف مقدار الفحص بحسب الوجوه المذكورة ، وقد تقدم اختلاف مقدار الفحص باختلاف تلك الوجوه.

والمتحصل : أن العمل بالعام الذي لا يكون في معرض التخصيص جائز بلا فحص ، وأما العام الذي يكون في معرض التخصيص : فلا يجوز العمل به قبل الفحص ، لعدم إحراز بناء العقلاء على جريان أصالة العموم حينئذ كما عرفت غير مرّة.

(٢) يعني : إذا احتمل إرادة خلاف الظاهر بقرينة متصلة لم تصل إلينا لا يجب الفحص عنها حسب بناء العقلاء ، من دون فرق بين التخصيص وسائر قرائن المجازات ، فمورد وجوب الفحص الذي وقع فيه الخلاف هو المخصص المنفصل. وأما المخصص المتصل المحتمل احتفاف العام به ؛ كما إذا احتمل اكتناف العلماء في نحو : «أكرم العلماء» بالعدول مثلا ، واختفاؤه عنّا فلا يجب الفحص عنه ؛ بل يجوز العمل بلا فحص ، والوجه في ذلك : أن احتمال المخصص المتصل كاحتمال قرينة المجاز يدفع بالأصل ؛ بل يكون احتمال وجود الخاص المتصل عين احتمال قرينة المجاز ؛ بناء على كون استعمال العام في الخاص مجازا ، ويدفع ذلك بأصالة الحقيقة.

(٣) أي : حال احتمال المخصص المتصل حال احتمال قرينة المجاز ؛ بل عينه ، فيشمله اتفاق كلماتهم على عدم الاعتناء باحتمال القرينة ولو قبل الفحص عنها.

٣٤١

إيقاظ (١)

لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا وبينه في الأصول العملية ، حيث إنه هاهنا عما يزاحم الحجة ، بخلافه هناك ، فإنه بدونه لا حجة ، ضرورة : أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان ، والمؤاخذة

______________________________________________________

(١) الغرض من هذا الإيقاظ هو : التنبيه على الفرق بين الفحص هنا وبين الفحص في الأصول العملية ، وحاصل الفرق : أن الفحص في المقام إنما هو عن المانع المزاحم لحجية الدليل ، مع ثبوت المقتضي لها وهو : ظهور العام في العموم وهو حجة فعلية ، فالفحص إنما لرفع احتمال وجود المانع عن الحجية ، وهذا بخلاف الفحص في الشبهات البدوية في موارد التمسك بالأصول العملية فإنه لتتميم المقتضي.

أما بالإضافة إلى أصالة البراءة العقلية فواضح ؛ لأن الفحص في الأصول العقلية محقق لموضوعها وهو عدم البيان المأخوذ موضوعا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ضرورة : أن إحراز عدم البيان موقوف على الفحص ، لأن الفحص في الأصل العقلي محقّق لموضوعه وهو عدم البيان ، وكذا يجب الفحص في موارد الأصول العملية الشرعية ؛ كأصالة البراءة ، وذلك لأن اطلاق أدلة البراءة الشرعية مثل : «رفع ما لا يعلمون» قيّد إجماعا بالفحص ، بحيث يكون الفحص قيدا لجواز الرجوع إلى الأصل.

وكيف كان ؛ فمحصل الفرق : أن الفحص في الأصول اللفظية ليس دخيلا في المقتضي للحجية ، حيث إن مقتضيها محرز ، والفحص إنما يكون عن مانع الحجية ؛ بخلاف الفحص في الأصول العملية ، فإنه دخيل في المقتضي للحجية.

أما في الأصل العقلي : فلما عرفت من : أن الفحص محقق لموضوعه ، وأما في الأصل الشرعي : فلأن الفحص دخيل في قيد موضوعه ؛ إذ ليس عدم العلم بنحو الإطلاق موضوعا للبراءة الشرعية ، وإنما موضوعها عدم العلم بعد الفحص ؛ بل الفحص في كل من الأصل العقلي والشرعي محقق للموضوع وهو : عدم الحجة في الأصل الشرعي ، وعدم البيان على الحكم الشرعي في الأصل العقلي.

٣٤٢

عليها (١) من غير برهان ، والنقل (٢) وإن دلّ على البراءة ، أو الاستصحاب في موردهما مطلقا ، إلا أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به ، فافهم (٣).

______________________________________________________

(١) أي : فلا يكون المؤاخذة على المخالفة من غير برهان ؛ بل مع البرهان وهو الإجماع على وجوب الفحص.

(٢) دفع لإشكال بأن يقال : إن إطلاق دليل الأصول الشرعية من البراءة والاستصحاب ينفي وجوب الفحص فيها وذلك فإنّ مثل «رفع ما لا يعلمون» مطلق ولم يقيد بالفحص ، فحينئذ لو شك في دخله في التمسك بهما أمكن نفيه بالإطلاق المذكور.

وأما الدفع فحاصله : أن الإجماع بكلا قسميه من محصله ومنقوله قد قام على تقييد إطلاق دليل الأصل الشرعي بالفحص.

(٣) لعله إشارة إلى : أن مرجع تقييد إطلاق دليل الأصول النقلية بالإجماع إلى مانعية الدليل الاجتهادي عن حجية إطلاق أدلة الأصول ، فيكون الفحص عن الدليل الاجتهادي في موارد الأصول الشرعية فحصا عما يزاحم الحجة ويمنعها ؛ لا محققا لموضوعها لوجود الموضوع وهو الشك قبل الفحص.

فلا فرق بين الفحص في المقام ، وبين الفحص في الأصول العملية ؛ لأن الفحص في كلا الموردين فحص عما يزاحم الحجة إلا في خصوص البراءة العقلية فإنها بدون الفحص لا حجية لها أصلا ؛ لعدم تحقق موضوعها وهو عدم البيان بدون الفحص.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ محل النزاع هو : وجوب الفحص عن المخصص ، أو عدم وجوبه إنما هو بعد الفراغ عن اعتبار أصالة العموم من باب الظن النوعي لا الشخصي ، وبعد الفراغ عن حجيتها في حق المشافهين وغيرهم ، وبعد أن لا يكون العام من أطراف العلم الإجمالي بالتخصيص.

فالاستدلال على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص بعدم حصول الظن الفعلي قبله ، أو عدم إحراز حكم غير المشافه قبله ، أو لأجل العلم الإجمالي بالتخصيص ليس كما ينبغي ؛ لما عرفت من : أن محل النزاع هو : وجوب الفحص بعد الفراغ عن هذه الأمور الثلاثة.

٢ ـ الاختلاف إنما هو في مبنى وجوب الفحص لا في أصل وجوبه ، فاختلفوا على أقوال :

٣٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فذهب بعض : إلى عدم حجية العام قبل الفحص ؛ من جهة أن حجية أصالة العموم من باب الظن الفعلي ، ولا يحصل الظن الفعلي بالمراد إلا بعد الفحص. وذهب الشيخ الأنصاري إلى أنه من جهة أن الأصل المذكور حجة فيما إذا لم يعلم بتخصيص العام ولو إجمالا ، وقد علم ذلك إجمالا ، فلا يكون حجة قبل الفحص.

وذهب المصنف إلى : أنه من جهة حصر حجيّة العام بما إذا لم يكن في معرض التخصيص.

٣ ـ التفصيل بين عمومات الكتاب والسنّة وبين غيرها ؛ بلزوم الفحص في الأول لبناء العقلاء عليه ، بخلاف العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات ، فيجوز العمل بها بعد الاطلاع عليها ، من دون وجوب فحص عن مخصّصها.

الدليل على التفصيل هو : بناء العقلاء.

٤ ـ اختلاف مقدار الفحص باختلاف الوجوه والمباني ؛ لأن المقدار اللازم من الفحص تابع لدليل وجوبه ، فإن كان دليله العلم الإجمالي : فالمقدار اللازم ما ينحل به العلم الإجمالي ، وإن كان دليل الوجوب عدم حصول الظن بالمراد قبل الفحص : فالمقدار الواجب منه : ما يوجب الظن بكون العام هو المراد.

وإن كان الدليل على وجوبه عدم الدليل على حجية الخطابات على غير المشافهين لها : فاللازم حينئذ الفحص حتى يقوم الدليل على الحجية.

وإن كان الدليل على وجوبه كون العام في معرض التخصيص : فالفحص الواجب ما يخرج به العام عن معرض التخصيص.

ثم مورد وجوب الفحص هو المخصص المنفصل ، ولا يجب الفحص عن المخصص المتصل ؛ لأن احتماله يدفع بالأصل ، كما يدفع احتمال قرينة المجاز بأصالة الحقيقة.

٥ ـ الفرق بين الفحص في المقام وبين الفحص في الأصول العملية هو : أن الفحص في المقام إنما هو عن وجود المانع ، بعد ثبوت المقتضي وهو ظهور العام في العموم.

والفحص في الأصول العملية محقق لموضوعها وهو عدم البيان في البراءة العقلية ، وعدم الحجة في البراءة الشرعية.

«فافهم» : لعله إشارة إلى عدم الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية الشرعية ؛ إذ الفحص في الأصول الشرعية أيضا عن المانع وهو الدليل الاجتهادي.

٣٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص إذا كان في معرض التخصيص.

٢ ـ مقدار الفحص اللازم : ما يخرج به العام عن معرض التخصيص.

٣ ـ الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية من حيث الفحص : أن الفحص في الأول : إنما هو عن المانع ، والفحص في الثاني : محقق لموضوعها ؛ إذ لو لا الفحص لم يتحقق عدم البيان وهو موضوع البراءة العقلية ، ولا عدم العلم بالحجة وهو موضوع البراءة الشرعية.

٣٤٥
٣٤٦

فصل

هل الخطابات الشفاهية (١) مثل : (يا أيّها المؤمنون) تختص بالحاضر مجلس التخاطب ، أو تعمّ غيره من الغائبين ؛ بل المعدومين؟

______________________________________________________

الخطابات الشفاهية

(١) المراد بالخطابات الشفاهية ظاهرا هو : الكلام المقرون بأداة الخطاب ؛ كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*) ، و (يا أَيُّهَا النَّاسُ*) ونحوهما ، فما في كلام المصنف «قدس‌سره» من مثل : «يا أيها المؤمنون» مجرّد التمثيل ، فلا تشمل مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) مما لا يكون مقرونا بأداة الخطاب ، فالكلام في الخطابات الشفاهية غير المختصة بمخاطب خاص.

وكيف كان ؛ فقد ذكر المصنف أن الكلام يمكن أن يقع في جهات ثلاثة :

الأولى : في صحة تعلق التكليف ـ الذي يشتمل عليه الخطاب ـ بالمعدومين بأن يقال : إن التكليف ـ الذي يتضمنه الخطاب ـ هل يصح تعلقه بالمعدومين أم لا؟ فالنزاع حقيقة في صحّة تكليف المعدوم.

الثانية : في صحة مخاطبة غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين بأن يقال : إن الخطاب بما هو خطاب أعني به : توجيه الكلام نحو الغير بالأداة ـ نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ*) ـ هل يصح أن يتوجّه إلى المعدومين أم لا؟

الثالثة : في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب لغير الحاضرين من الغائبين ، بل المعدومين ، وعدم عمومها لهم بقرينة الأداة ، بأن يقال : إن الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب تشمل بعمومها المعدومين ، أو تصير الأدوات قرينة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس التخاطب.

ثم ذكر المصنف وقال : «إن النزاع على الوجهين الأوليين يكون عقليا ، وعلى الوجه الأخير لغويا» ، فإن الوجه الأخير ـ وهو شمول الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب

__________________

(١) آل عمران : ١٩٧.

٣٤٧

فيه خلاف (١) ، ولا بد قبل الخوض في تحقيق المقام ، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والإبرام بين الأعلام.

فاعلم : أنّه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح

______________________________________________________

للغائبين والمعدومين ـ يرجع إلى المعنى الموضوع له ، والمرجع في تشخيصه هو اللغة ، ولذا يكون النزاع فيه لغويا.

وحاصل ما أفاده المصنف في مقام تحقيق الجهات الثلاث : أن الجهة الأولى تتصور على وجوه ثلاثة :

الأول : عدم صحة تعلق التكليف الفعلي بالمعدوم عقلا ، بمعنى : بعثه أو زجره فعلا حين كونه معدوما ، وهذا محال بلا إشكال ، لعدم قابلية المعدوم للانبعاث أو الانزجار فعلا.

الثاني : صحة التكليف الإنشائي غير المشتمل على البعث والزجر ، ولا استحالة في هذا الوجه ؛ لأن الإنشاء خفيف المئونة ، فلا مانع من تعلقه بالمعدوم ، فإنّ المولى الحكيم ينشئ التكليف على وفق المصلحة بعنوان جعل قانون كلي للموجود والمعدوم ، فيصير فعليا بعد تحقق الشرائط وفقدان الموانع ؛ نظير إنشاء الملكية في باب الوقف للبطون اللاحقة ، لتصير فعلية حين وجودها بنفس الإنشاء السابق.

الثالث : أن يتعلق به التكليف الفعلي بقيد الوجود بمعنى : أن يتعلق التكليف الفعلي بالموجود الاستقبالي بهذا القيد ، حيث يكون إنشاء الطلب مقيّدا بوجود المكلف ووجدانه للشرائط ، وإمكان هذا القسم أيضا بمكان من الإمكان. كما أشار إليه المصنف بقوله : «وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجدانه الشرائط ، فإمكانه بمكان من الإمكان».

(١) أي : اختلفوا على أقوال :

الأول : ما عن الوافية من الشمول ، من دون تصريح بكون على وجه الحقيقة أو المجاز.

الثاني : الشمول حقيقة لغة ، وهو المحكي عن بعضهم.

الثالث : الشمول حقيقة شرعا ، ونفى عنه البعد الفاضل النراقي.

الرابع : الشمول مجازا ، وهو المحكي عن التفتازاني ، وظاهره : دعوى شمول الخطابات القرآنية للغائبين أو المعدومين على وجه المجاز فعلا.

الخامس : إمكان الشمول على وجه المجاز بنحو من التنزيل والادعاء إذا كان فيه فائدة يتعلق بها أغراض أرباب المحاورة. ومن أراد بسط الكلام في المقام فعليه الرجوع إلى الكتب المبسوطة.

٣٤٨

تعلقه بالمعدومين ، كما صح تعلقه بالموجودين ، أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم ؛ بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام إليهم ، وعدم صحتها (١) ، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين ، بل المعدومين ، وعدم عمومها لهما بقرينة تلك الأداة.

ولا يخفى : أن النزاع على الوجهين الأولين يكون عقليا ، وعلى الوجه الأخير لغويا.

إذا عرفت هذا (٢) ، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا (٣) ، بمعنى : بعثه ، أو زجره فعلا ، ضرورة : أنه (٤) بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلا من الموجود ضرورة ، نعم ؛ هو (٥) بمعنى مجرد إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر لا استحالة فيه أصلا ، فإنّ (٦) الإنشاء خفيف المئونة ، فالحكيم «تبارك

______________________________________________________

(١) أي : عدم صحة المخاطبة.

(٢) أي : ما ذكر من الوجوه الثلاثة المتصورة في محل النزاع.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الأول من الوجوه الثلاثة ، وحاصل كلامه فيه :

أنه لا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا إن أريد بالتكليف البعث أو الزجر الفعليين ؛ لأن كلا من البعث والزجر إنما يكونان لإحداث الداعي إلى الفعل في البعث ، وإلى الترك في الزجر ، ومن المعلوم : عدم إمكان حصول هذا الداعي للمعدوم ، فيكون تكليف المعدوم ممتنعا.

(٤) أي : التكليف بهذا المعنى وهو البعث أو الزجر فعلا يستلزم الطلب الحقيقي من المعدوم ، وهو ممتنع.

والمتحصل : أنه لا يصح تعلق التكليف الفعلي بالمعدوم ؛ لأن التكليف الفعلي ـ بمعنى : بعثه أو زجره حين كونه معدوما ـ محال ، وذلك لعدم قابلية المعدوم للانبعاث والانزجار فعلا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٥) أي : التكليف.

وحاصل هذا الاستدراك : أنه إن أريد بالتكليف مجرد إنشاء الطلب من غير فعلية بعث أو زجر ، فلا استحالة في تعلقه بالمعدومين ؛ لكونه صوريا كالتكاليف الامتحانية التي ليس فيها طلب حقيقي يوجب إحداث الداعي للمكلف إلى الفعل أو الترك.

(٦) تعليل لعدم الاستحالة ، توضيحه : أن الإنشاء المجرد عن الطلب الحقيقي لا يستلزم الطلب الفعلي حتى لا يصح تعلّقه بالمعدوم ؛ بل تتوقف صحة الإنشاء على غرض

٣٤٩

وتعالى» ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة (١) ، طلب شيء قانونا (٢) من الموجود والمعدوم حين (٣) الخطاب ، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع ، بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، فتدبر.

______________________________________________________

عقلائي يخرجه عن اللغوية ، ولو كان ذلك الغرض تقليل الإنشاءات ، أو قلّة فرصة المولى لإنشاء الحكم لكل واحد من المكلفين ، فينشئ الحكم بإنشاء واحد على الجميع بنحو القضية الحقيقية ؛ لأن شأن القضية الحقيقية : فرض وجود الموضوع ، وجعل الحكم له ، من غير فرق في ذلك بين وجود الموضوع وعدمه. هذا ما أشار إليه بقوله : «فإن الإنشاء خفيف المئونة ؛ لعدم توقفه على وجود المكلف أو قدرته ؛ بل يكفي فيه مجرّد غرض عقلائي لئلا يلزم لغويته».

(١) وهي الملاك الموجود في المطلوب الداعي إلى التشريع.

(٢) أي : بنحو القضية الحقيقية التي تشمل المعدومين ، فإن الطلب الإنشائي يشملهم من دون محذور ؛ كما هو شأن القوانين الكلية العرفية.

(٣) قيد للمعدوم ، يعني : ينشئ الحكيم طلب شيء قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب.

نعم ؛ هناك وجود محاذير ثلاثة في مجموع الوجوه الثلاثة ، قد نبه عليها المصنف «قدس‌سره» ، وقد ذكرت هذه المحاذير في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٥٨٤». حيث قال ما هذا لفظه :

المحذور الأول : امتناع تعلّق البعث ، أو الزجر الفعلي بالمعدومين ؛ لاستلزامه الطلب منهم حقيقة ، والطلب الحقيقي من المعدوم غير معقول. وهذا المحذور مشترك الورود بين الوجه الأوّل والثالث ، أما في الأول : فواضح. وأما في الثالث : فلأنه لو فرض عموم الألفاظ الواقعة بعد الأدوات للمعدومين ، فمعنى ذلك : توجّه التكليف إليهم ، ومن الواضح : امتناع بعث المعدوم إلى الصلاة والصوم ونحوهما ، أو زجره عن شرب الخمر مثلا.

المحذور الثاني : عدم صحة توجيه الكلام إلى الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا ، وملتفتا إلى توجّه الكلام إليه ، وهذا المحذور مشترك بين الوجهين الأولين. أما الأول : فلأن التكليف توجيه الكلام إلى الغير بالبعث أو الزجر ، وهو ممتنع بالنسبة إلى المعدومين بالضرورة كما تقدم.

وأما الثاني : فلأن الخطاب معناه : توجيه الكلام إلى الغير ، وهو أيضا ممتنع في حق المعدومين بالبداهة.

٣٥٠

ونظيره (١) من غير الطلب : إنشاء التمليك في الوقف على البطون (٢) ، فإنّ المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة بعد وجوده بإنشائه ، ويتلقى لها من الواقف بعقده ، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية ، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا (٣) ؛ إلا استعدادها لأن تصير ملكا له بعد وجوده ، هذا (٤) إذا أنشئ الطلب مطلقا.

______________________________________________________

المحذور الثالث : لزوم عدم استعمال الخطابات القرآنية في معانيها الحقيقية ؛ لأن حقيقة الخطاب : توجيه الكلام نحو الغير الذي يكون قابلا للفهم ، ومن المعلوم : أن أدوات الخطاب وضعت لإنشاء حقيقة الخطاب ، فمع إرادة عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب للمعدومين يلزم التجوّز في تلك الأدوات ، بمعنى : عدم استعمالها في معانيها الحقيقية.

وهذا المحذور يجري في الوجوه الثلاثة ، أما في الأول : فلأنه لو قلنا بصحّة تعلق التكليف بالمعدومين : لزم استعمال أدوات الخطاب المتكفل للتكليف في غير معانيها الحقيقية ، وقد عرفت وجهه.

وأما في الثاني : فلأن لازم صحة خطاب المعدومين : استعمال أدوات الخطاب في غير معانيها ، كما مرّ أيضا. وأما في الثالث : فلأن عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب مستلزم أيضا لاستعمال الأدوات في غير معانيها الحقيقية ، وهو واضح.

وقد أشار إلى المحذور الأول بقوله : «فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا» ، وإلى دفعه بقوله : «فإن الإنشاء خفيف المئونة».

وحاصل هذا الدفع : الالتزام بمرتبة إنشاء الحكم التي يشترك فيها العالم والجاهل ، والقادر والعاجز ، والموجود والمعدوم ، وهذا الإنشاء بعد وجود الشرائط وفقد الموانع ـ يصير فعليا.

(١) أي : ونظير الإنشاء من غير الطلب : إنشاء التمليك في الوقف على البطون المعدومين حين الوقف ، فكما يجوز إنشاء الملكية لهم مع عدمهم ، فكذلك يجوز إنشاء الطلب للمعدومين ، وصيرورته فعليا عند وجودهم.

(٢) أي : الأعم من الموجودين والمعدومين ، فإنشاء التمليك فعليّ بالنسبة إلى الموجودين ، وإنشائي بالنسبة إلى المعدومين ، ويصير فعليا بوجودهم ، ولذا يتلقّون الملك من الواقف بعقد الوقف ؛ لا من البطن السابق.

(٣) قوله : «فعلا» قيد للمعدوم ، فمعنى العبارة : أنه لا يؤثر إنشاء التمليك في حق المعدوم حين الإنشاء إلا استعداد الملكية لأن تصير العين الموقوفة ملكا للمعدوم بعد وجوده. والضمير في «استعدادها» يرجع إلى الملكية ، وضمير «له ، ووجوده» راجعان إلى المعدوم.

(٤) أي : شمول الإنشاء للمعدومين بنحو الشأنية إنما يكون فيما إذا أنشئ الطلب غير

٣٥١

وأما إذا أنشئ مقيّدا بوجود المكلف ووجدانه للشرائط ؛ فإمكانه (١) بمكان من الإمكان.

وكذلك (٢) لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم ؛ بل الغائب حقيقة (٣) وعدم إمكانه ، ضرورة (٤) : عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا ، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ، ويلتفت إليه.

ومنه (٥) قد انقدح : أن ما وضع للخطاب ـ مثل : أدوات النداء ـ لو كان موضوعا

______________________________________________________

مقيد بوجود المكلف. وأما إذا أنشئ مقيدا به ، وبكونه جامعا للشرائط ، فلا إشكال في إمكانه ، كما إذا قيل : «إذا وجد مستطيع وجب عليه الحج» فإنه لا إشكال ولا ريب في صحة هذا الإنشاء.

(١) أي : فإمكان إنشاء الطلب المنوط بوجود المكلف بمكان من الإمكان.

(٢) هذا إشارة إلى المحذور الثاني من المحاذير الثلاثة ، وحاصله : أنه كما لا ريب في عدم صحة تكليف المعدومين عقلا إلا إذا كان التكليف بمعنى مجرد إنشاء الطلب كما تقدم. توضيح ذلك : كذلك لا ريب في عدم صحة الوجه الثاني ، وهو مخاطبة المعدوم ؛ بل الغائب ، لأخذ تفهيم المخاطب في مفهوم الخطاب كما عن المجمع وغيره ، قال في المجمع :

«الخطاب هو توجيه الكلام نحو الغير للإفهام» ، فصحة الخطاب الحقيقي منوطة بوجود المخاطب ، وقابليته لتوجه الخطاب إليه ، فالمعدوم بل الغائب لا يكون قابلا لتوجيه الكلام إليه.

(٣) يعني : لا يصح خطاب المعدوم ؛ بل الغائب حقيقة ، بل لا يمكن الخطاب كذلك.

(٤) تعليل لعدم صحة خطاب المعدوم ؛ إذ لا يتحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة «إلا إذا كان موجودا ، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ويلتفت إليه» إلى : الكلام. فالمتحصل : أن الوجه الثاني ـ وهو مخاطبة المعدومين ـ غير صحيح ؛ لعدم خلوّه عن المحذور كعدم خلوّ الوجه الأول وهو تكليف المعدوم عنه.

(٥) أي : ومن عدم صحة خطاب المعدوم. وهذا إشارة إلى الوجه الثالث الذي أشار إليه بقوله : «أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين ؛ بل المعدومين ، وعدم عمومها لهما» يعني : مما ذكرناه من عدم صحة خطاب المعدوم قد ظهر : أن أدوات النداء وغيرها مما وضع للخطاب لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي وفرض استعمالها في الخطاب الحقيقي لكان العموم الواقع في تلو تلك الأدوات مختصا بالحاضرين ، ولا يشمل المعدومين ؛ لما ذكر من عدم صحة خطاب المعدوم ، والمراد من

٣٥٢

للخطاب الحقيقي لأوجب استعماله فيه (١) تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين ، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره (٢).

______________________________________________________

«مثل أدوات النداء» هو ضمير الخطاب.

(١) يعني : في الخطاب الحقيقي يعني : أوجب استعمال ما وضع للخطاب في الخطاب الحقيقي تخصيص متلوه أعني : العام بالحاضرين. فالنتيجة : أن أدوات الخطاب ـ بناء على وضعها للخطاب الحقيقي ـ لا تشمل المعدومين ؛ إذ لا بد من تخصيص العموم بالحاضرين حتى لا يلزم استعمال الأداة في غير الموضوع له أعني به : الخطاب الحقيقي المختص بالحاضرين.

فقوله : «بالحاضرين» متعلق بقوله : «تخصيص» ؛ لأن الحاضرين هم الذين يصح خطابهم حقيقة.

(٢) أي : في غير الخطاب الحقيقي وضمير «استعماله» راجع إلى «ما وضع للخطاب». وضمير «منه» إلى «ما» في قوله : «ما يقع في تلوه». وضمير «لغيرهم» إلى الحاضرين ، يعني : كما أن قضية إرادة العموم من متلو أدوات الخطاب لغير الحاضرين استعمال تلك الأدوات في غير الخطاب الحقيقي ، إذ لو استعملت في الخطاب الحقيقي لزم أن يكون إرادة غير الحاضرين منها بنحو المجاز أيضا.

وبالجملة : فمع لحاظ وضع الأدوات في الخطاب الحقيقي المختص بالحاضرين ، وعموم الألفاظ الواقعة عقيبها لغير الحاضرين ، لا بد من ارتكاب أحد التّجوزين ؛ إما باستعمال الأدوات في غير المخاطب الحقيقي لتطابق معنى الألفاظ العامة الواقعة بعدها ، وإما باستعمال الألفاظ الواقعة بعدها في غير العموم أي : في خصوص الحاضرين ، لتطابق معنى الأدوات أعني : الخطاب الحقيقي ، وكلا التجوّزين خلاف الأصل. فقوله : «لأوجب استعماله فيه تخصيص ..» إلخ إشارة إلى التجوّز الأول ، وقوله : «كما أن قضية إرادة العموم ..» الخ إشارة إلى التجوّز الثاني.

وكيف كان ؛ فالوجه الثالث من وجوه مورد النزاع أيضا غير خال عن المحذور كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٥٨٩».

وقد أشار إلى تصحيح الوجه الثالث : بدفع التجوّزين المذكورين ـ أعني : تخصيص عموم الألفاظ الواقعة عقيب الأدوات بالحاضرين ، أو تعميم الأدوات لغير الحاضرين ـ بقوله : «لكن الظاهر ..» إلخ ، وحاصل الدفع : أن هذين المحذورين مبنيان على وضع الأداة للخطاب الحقيقي القائم بالطرفين كالطلب القائم بهما. وأما بناء على وضعها للخطاب الإنشائي : فلا يلزم من إرادة غير الحاضرين منها ، ومن الألفاظ العامة الواقعة بعدها شيء

٣٥٣

لكن الظاهر : أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك ؛ بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي ، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسّرا وتأسفا وحزنا مثل : يا كوكبا ما كان أقصر عمره ، أو شوقا ، ونحو ذلك ، كما يوقعه (١) مخاطبا لمن يناديه حقيقة ، فلا (٢) يوجب استعماله في معناه الحقيقي ـ حينئذ ـ التخصيص بمن يصح مخاطبته.

نعم (٣) ؛ لا يبعد دعوى الظهور انصرافا في الخطاب الحقيقي كما هو (٤) الحال في

______________________________________________________

من التجوّزين أصلا ، أما من ناحية الأدوات ؛ فلاستعمالها في معناها الحقيقي حينئذ. وأما من ناحية الألفاظ الواقعة بعدها : فلشمولها لغير الحاضرين كشمولها لهم ، وهو واضح.

وبالجملة ؛ فبناء على وضع الأدوات للخطاب الإنشائي يمكن استعمالها في الحاضرين والغائبين والمعدومين على نسق واحد ، بلا لزوم مجاز أصلا ، غاية الأمر : أن الاختلاف بين موارد استعمالها يكون في دواعي الإنشاء ، فقد يكون الإنشاء بداعي النداء ، كقوله : للحاضر عنده : «يا زيد احفظ كذا» ، وقد يكون بداعي التأسف ؛ كقوله : «يا كوكبا ما كان أقصر عمره» ، وقد يكون بداعي الشوق ، كقوله :

يا آل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

(١) أي : يوقع الخطاب يعني : يوقع المتكلم الخطاب مخاطبا لمن يناديه حقيقة ، نحو «أيا من لست أنساه» بلا تحسّر أو تأسّف أو غيرهما من دواعي إنشاء الخطاب ، فأدوات الخطاب على هذا تستعمل دائما في معناها الحقيقي وهو إنشاء الخطاب بلا لزوم مجاز أصلا ؛ لاختلاف الدواعي لا المعاني.

(٢) متفرع على قوله : «لكن الظاهر ..» الخ. يعني : بعد البناء على وضع أدوات الخطاب للخطاب الإنشائي سواء كان بداعي الحقيقة أو بسائر الدواعي ؛ كاظهار الشوق ، أو الحزن ، أو الحسرة ، أو الندبة ، أو السخرية ، أو غير ذلك ، فلا يوجب استعمال مثل أدوات النداء في معناه الحقيقي حينئذ أي : حين لم تكن أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الحقيقي أي : لا يوجب «التخصيص بمن يصح مخاطبته» من الحاضرين فقط ؛ بل يشمل المعدومين والغائبين ؛ لأنه لا مانع من تعلّق الخطاب الإنشائي بهما.

(٣) استدراك على كون الأدوات موضوعة للخطاب الإنشائي الذي لا يلزم مجاز من استعمالها فيه ، وإرادة المعدومين. وحاصله : أن الأدوات وإن وضعت للخطاب الإنشائي ؛ لكن لا تبعد دعوى ظهورها انصرافا في الخطاب الحقيقي ؛ لكون الغالب نشوء الخطاب الإنشائي عن داعي الخطاب الحقيقي ، وعليه : فيكون الظاهر الناشئ عن الانصراف المزبور : أن الخطاب حقيقي ، فيختص بالحاضرين.

(٤) أي : الظهور الانصرافي حال غير أدوات الخطاب من حروف الاستفهام والترجّي

٣٥٤

حروف الاستفهام والترجّي والتمنّي وغيرها (١) على ما حققناه في بعض المباحث السابقة (٢) من كونها موضوعة للإيقاعي منها بدواع مختلفة ، مع ظهورها في الواقعي منها انصرافا (٣) إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه ، كما يمكن دعوى وجوده (٤) غالبا في كلام الشارع ، ضرورة (٥) : وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل : يا أيّها النّاس اتّقوا ، ويا أيّها المؤمنون بمن حضر مجلس الخطاب بلا شبهة ولا ارتياب.

ويشهد (٦) لما ذكرنا : صحة النداء بالأدوات ، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية ، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية.

______________________________________________________

والتمنّي وغيرها ، حيث أنها وضعت أيضا لإنشاء الاستفهام والترجي وغيرهما ، غاية الأمر : أن دواعي الاستفهام مختلفة ، فقد يكون طلب الفهم حقيقة كما إذا كان جاهلا واراد الفهم ، وقد يكون التقرير ، وقد يكون الإنكار ، إلى غير ذلك من الدواعي.

(١) أي : كالعرض مثل «ألا تنزل بنا».

(٢) وهو الجهة الرابعة من مباحث الأوامر ، وضمير «كونها» راجع إلى الاستفهام وما بعده ، كما أن الضمير «منها» في موردين راجع إلى الاستفهام وما بعده ، وضمير «ظهورها» راجع إلى «حروف الاستفهام والترجي والتمنّي وغيرها».

(٣) قيد لقوله «ظهورها» يعني : هذا الظهور الانصرافي ناشئ عن قرينة تمنع عن الانصراف المزبور ؛ كما إذا وقعت أدوات الاستفهام والترجّي وغيرهما في كلامه «سبحانه وتعالى» ، كقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، و (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*) ونحو ذلك ، فإنه لا يمكن حملها على الحقيقي منها.

(٤) أي : وجود المانع عن الانصراف إلى المعاني الحقيقية.

(٥) تعليل لدعوى وجود المانع عن الانصراف المذكور ، وحاصله : أن وضوح عدم اختصاص الأحكام الشرعية ببعض دون بعض ، وكونها قانونية مانع عن الانصراف الموجب لظهور اختصاص الخطابات بالحاضرين في مجلس الخطاب.

(٦) أي : ويشهد لما ذكرنا من عدم اختصاص الوضع بالخطاب الحقيقي ، ـ بل للخطاب الإيقاعي الإنشائي ـ صحة النداء بالأدوات ، مع إرادة العموم من الواقع تلوها للغائبين والمعدومين جميعا ، مع عدم رعاية تنزيل الغائب والمعدوم منزلة الحاضر والموجود ، فهذا أقوى شاهد على كون أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإنشائي لا الحقيقي ، وإلا لما صحت إرادة العموم إلا بالتنزيل والعناية ورعاية قرينة المجاز ، فلو كانت موضوعة للحاضرين لم يجز استعمالها في العموم بلا ملاحظة علاقة المجاز بين المعنى الحقيقي والمجازي.

٣٥٥

وتوهّم كونه (١) ارتكازيا ، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه ، والتفتيش عن حاله مع حصوله (٢) بذلك لو كان مرتكزا ، وإلا (٣) فمن أين يعلم بثبوته كذلك؟ كما هو واضح.

______________________________________________________

(١) أي : توهم كون التنزيل الذي هو سبب صحة الاستعمال في العموم ارتكازيا.

وغرض هذا المتوهّم : هو إنكار وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي الإنشائي الذي ادّعاه الخصم ، وبنى صحة إرادة العموم منها لغير المشافهين على وضعها للخطاب الإنشائي.

توضيح التوهم : إن إرادة العموم من تالي الأدوات ليست لأجل وضعها للخطاب الإيقاعي ـ كما ادعاه الخصم ـ بل لأجل التنزيل الارتكازي المصحح لإرادة العموم من تاليها ، مع وضعها للخطاب الحقيقي.

وعلى هذا : فلا تشهد صحة النداء بالأدوات ـ مع إرادة العموم من تاليها لغير المشافهين ـ بوضعها للخطاب الإنشائي.

قوله : «يدفعه» خبر «توهم» ودفع له.

وحاصل الدفع : أنه لو كان تنزيل غير الصالح للإفهام منزلة الصالح له ارتكازيا لزم حصول العلم به بعد التأمل والتفتيش عنه ، مع إنه ليس كذلك ، والحاصل : أنه لو كان هناك تنزيل لالتفتنا إليه عند التفتيش ، فعدم وجدان التنزيل حين التفتيش دليل على عدم التنزيل ؛ إذ لا نرى في المقام تنزيلا حتى بعد التدبر ؛ بل نرى استعمال النداء في المقام على حد استعماله في خصوص الحاضرين في عدم التنزيل ورعاية العلاقة.

وكيف كان ؛ فعدم العلم بالتنزيل الارتكازي ـ حتى بعد التأمل والتفتيش ـ كاشف عن عدمه ، وعدم توقف صحة إرادة العموم من الواقع تلو أدوات النداء على التنزيل ، ولحاظ العلاقة كاشف عن وضع أدوات النداء للخطاب الإيقاعي الإنشائي. والضمير في «حاله» راجع إلى التنزيل.

(٢) أي : مع حصول العلم بالتنزيل «بذلك» أي : بسبب الالتفات والتفتيش لو كان التنزيل ارتكازيا.

(٣) أي : وإن لم يحصل العلم بالتنزيل بالالتفات والتفتيش فمن أين يعلم بثبوت التنزيل ارتكازا؟ فضمير «بثبوته» راجع إلى التنزيل ، وقوله : «كذلك» يعني : ارتكازيا.

والحاصل : أنه لو لم يكن التفتيش سببا لظهور التنزيل والعلم به فمن أين نعلم بالتنزيل الارتكازي؟

٣٥٦

وإن أبيت (١) إلا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي ، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأداة الخطاب ، أو بنفس (٢) توجيه الكلام بدون الأداة كغيرها بالمشافهين (٣) ، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم (٤).

وتوهّم (٥) : صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين ، فضلا عن

______________________________________________________

(١) يعني : إنك إن أبيت عما تقدم منّا من وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي الإنشائي ، والتزمت بوضعها للخطاب الحقيقي فلا مناص حينئذ عن الالتزام باختصاص ما يقع في تلوها بالحاضرين في مجلس الخطاب فقط ، وأن الخطابات الإلهية كغيرها من الخطابات تختص بالمشافهين خاصة فيما لم تكن هناك قرينة على التعميم.

وكيف كان ؛ فغرضه : إنه لو لم يلتزم الخصم بما قلناه ـ من وضع أدوات الخطاب للخطاب الإنشائي حتى يصح إرادة العموم من تاليها للغائبين والمعدومين ، من دون عناية وعلاقة ، والتزم بوضع الأدوات للخطاب الحقيقي ـ فلا محيص حينئذ عن اختصاص الخطابات بالمشافهين ، وعدم صحة شمولها للمعدومين إلا بوجود قرينة على التعميم موجبة للمجازية.

(٢) عطف على أدوات الخطاب يعني : أن الخطابات الإلهية سواء كانت بأدوات الخطاب كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*) ، أم بنفس توجيه الكلام كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بناء على وضع الأدوات للخطاب الحقيقي تختص بالمشافهين ، ولا تشمل الغائبين عن مجلس الخطاب ـ فضلا عن المعدومين ـ إلا بقرينة تدل على التعميم.

(٣) أي : «اختصاص الخطابات ..» إلخ بالمشافهين.

(٤) وأما لو كانت قرينة على التعميم نحو غالب الخطابات التي علم عدم اختصاصها ؛ فلا بد وأن نقول : بشمولها للجميع ؛ ولو بنحو المجاز والعناية بتنزيلها منزلة الحاضرين.

(٥) والغرض من هذا التوهم هو : تصحيح توجه خطاباته تعالى لغير الحاضرين ، وذلك بالفرق بين خطابات الملوك ، فلا بد من اختصاصها بالحاضرين ، وبين خطاباته تعالى فلا تختص بالحاضرين.

توضيح ذلك : أن عدم صحة توجيه الخطاب الحقيقي إلى الغائبين والمعدومين يختص : بما إذا كان المتكلم غير الله تعالى ، وأما إذا كان هو الباري «عزوجل» فلا بأس به ، ويصح منه خطاب المعدوم حقيقة ، حيث إنه «جلّ وعلا» محيط بالموجودات في الحال ، والموجودات في الاستقبال ؛ لتساوي نسبة الممكنات إليه تعالى.

٣٥٧

الغائبين ؛ لإحاطته بالموجود في الحال ، والموجود في الاستقبال فاسد (١).

ضرورة : أن إحاطته تعالى لا توجب صلاحية المعدوم ؛ بل الغائب للخطاب ، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى (٢) ، كما لا يخفى. كما أن (٣) خطابه اللفظي لكونه تدريجيا ومتصرم الوجود كان قاصرا (٤) عن أن يكون موجها نحو غير من كان بمسمع منه ، ضرورة. هذا (٥) لو قلنا بأن

______________________________________________________

ويؤيد ذلك : قوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(١) ، فالكل في عرض واحد مشهود لديه «جلّ شأنه» ، فيصح خطابه للمعدوم ، كما يصح للموجود.

(١) خبر لقوله : «وتوهّم» ودفع له. وحاصل فساد التوهم المذكور : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٥٩٧» ـ أن محل الكلام خطاب المكلّفين بوجودهم الزماني الجسماني ، لا بوجودهم المثالي أو العقلي ، حيث إن التكليف المشروط بالاختيار القابل للإطاعة والعصيان لا يتوجه إلا إلى الموجود المختار القابل للإطاعة والمعصية ، فالمعدوم قاصر وغير قابل لتوجيه الخطاب الحقيقي إليه ، فالقصور في ناحيته ؛ لا في ناحية المخاطب ـ بالكسر ـ حتى يقال : إنه تعالى محيط بالموجود والمعدوم على نهج واحد ، ويصح له خطاب المعدوم ، فإن إحاطته تعالى بهما لا توجب قابلية المعدوم للخطاب ، ولا ترفع قصوره. كما أن قصوره لا يوجب نقصا في ناحيته «تبارك وتعالى» ، نظير امتناع اجتماع الضدين ، فإن امتناعه لا يوجب نقصا في قدرته «عزّ اسمه» ، كما أن قدرته الكاملة وإحاطته التامة لا توجب قابلية الضدين للاجتماع.

(٢) إذ عدم قابلية الظرف مثلا لأخذ ماء البحر ليس من جهة نقص في ماء البحر ؛ بل من جهة نقص الظرف. وقد ورد في بعض من الروايات حين سئل الإمام عن تعلق قدرة الله تعالى بالمستحيل فأجاب «عليه‌السلام» : بأن «ربّنا لا يوصف بالعجز ولكن الطرف غير قابل».

(٣) يعني : كما أن إحاطته تعالى بالمعدوم لا توجب صلاحيته للخطاب الحقيقي لقصوره ؛ كذلك لا يكون نفس الخطاب اللفظي المتصرم وجوده قابلا لتوجهه إلى المعدوم ؛ لأن المراد بالخطاب ـ وهو القرآن ـ وجوده اللفظي التدريجي المتصرم ؛ لا وجوده في اللوح المحفوظ ، ومن المعلوم : انعدام الخطاب قبل وجود المعدومين.

(٤) وجه قصوره تدريجية الكلام ، وتصرّمه ، وعدم وجود المخاطب حين الخطاب ، فلو كان الخطاب أبديا كان توجهه إلى المعدوم بعد وجوده ممكنا.

(٥) أي : اختصاص الخطابات بالمشافهين ، وعدم شمولها للغائبين والمعدومين مبني

__________________

(١) الأعراف : ١٧٢.

٣٥٨

الخطاب بمثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) (*) في الكتاب حقيقة إلى غير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بلسانه (١) ، وأما إذا قيل : بأنه المخاطب والموجّه إليه الكلام حقيقة وحيا أو إلهاما (٢) ، فلا محيص (٣) إلا عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي ولو مجازا (٤).

______________________________________________________

على كونها متوجهة حقيقة إليهم ، ضرورة : امتناع توجه الخطاب الحقيقي إلى الغائب والمعدوم ؛ لا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مبلّغ لتلك الخطابات عن الله «عزوجل» إليهم. وأما بناء على كون المخاطب نفسه المقدسة «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حقيقة بالوحي أو الإلهام فلما لم يصح انطباق العنوان الواقع تلو أدوات الخطاب ؛ كالناس والمؤمنين ونحوهما من ألفاظ العموم عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ لعدم انطباق الجمع المفرد ، فلا بد من الالتزام بإرادة الخطاب الإيقاعي من أدواته حقيقة أو مجازا ، كما يلتزم به القائل بوضع الأدوات للخطاب الحقيقي ، وحينئذ فيشمل الخطاب الإنشائي الحاضر مجلس الخطاب والغائب عنه والمعدومين بوزان واحد ، فلا مانع حين استعمال الأدوات في الخطاب الإيقاعي من شمول العمومات الواقعة تلوها للكل حتى المعدومين ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٥٩٨» مع تصرف ما.

(١) أي : بلسان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ بأن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مبلّغا لتلك الخطابات إليهم.

(٢) أي : أن الكلام يكون موجّها إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالوحي أو الإلهام.

(٣) قوله : «فلا محيص» جواب «أمّا» ، الظاهر زيادة كلمة «إلا» في قوله : «إلا عن كون الأداة» ؛ لأن الغرض من هذه العبارة : أنه لا بد من الالتزام في هذا الفرض بالخطاب الإنشائي ، والكلام الدال على هذا المعنى أن يقال : فلا محيص عن كون الأداة في مثله للخطاب الإيقاعي ، وإلا فمقتضى كون الاستثناء من النفي إثباتا وجود المحيص عن الالتزام بالخطاب الإنشائي ، وهو خلاف المقصود ؛ إذ مرجعه إلى إمكان عدم الأخذ والالتزام بالخطاب الإنشائي ، والأخذ بالخطاب الحقيقي ، مع إن الخطابات بصورة الجمع والمخاطب واحد.

(٤) أي : على القول بوضع أدوات الخطاب للخطاب الحقيقي.

قوله : «وعليه» أي : وعلى ما ذكر من إنه لا محيص عن الالتزام بكون الأداة للخطاب الإيقاعي «لا مجال لتوهم اختصاص ..» الخ ؛ إذ الجميع غير موجّه إليهم الخطاب حسب

__________________

(*) الحج : ١.

٣٥٩

وعليه : لا مجال لتوهّم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين ، بل يعمّ المعدومين فضلا عن الغائبين.

______________________________________________________

الفرض ، فالقول بشموله البعض فقط دون غيره تحكم.

لا يقال : إنه يمكن أن يقال بعدم شمول الجميع ، لأن الخطاب حقيقة موجه إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا وجه للقول بالمجازية ، وأن الخطاب إيقاعي.

فإنه يقال : لا يمكن ذلك ؛ لأنه يلزم عدم شمول الخطابات الشفاهية للحاضرين ، ولم يقل به أحد.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ المراد بالخطابات الشفاهية ـ مثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ*) ـ ظاهرا : هو الكلام المقرون بأداة الخطاب.

ومحل النزاع يمكن أن يكون في صحة تعلق التكليف الذي يشتمل عليه الخطاب بالمعدومين ، كما يصح تعلقه بالموجودين.

ويمكن أن يكون في صحة مخاطبة غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين ، ويمكن أن يكون في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أدوات الخطاب لغير الحاضرين من الغائبين ؛ بل المعدومين ، وعدم عمومها لهم بقرينة الخطاب.

ثم النزاع على الوجهين الأولين يكون عقليا ، وعلى الوجه الأخير يكون لفظيا.

إذا عرفت هذه الوجوه فاعلم : أنه لا يصح تعلق التكليف بالمعدوم عقلا ، بمعنى : بعثه أو زجره فعلا ؛ لعدم قابلية المعدوم للانبعاث والانزجار فعلا.

نعم ؛ يصح تعلق التكليف به بنحوين :

الأول هو : تعلق التكليف الإنشائي غير المشتمل على البعث والزجر ، فإنه خفيف المئونة ، فيصير فعليا حين وجود المعدوم ، وتحقق شرائطه.

نظير إنشاء الملكية في باب الوقف للبطون اللاحقة ؛ لتصير فعليه حين وجودها بنفس الإنشاء السابق.

الثاني : التكليف الفعلي بقيد وجود المكلف بمعنى : أن يتعلق التكليف الفعلي بالموجود الاستقبالي ، وقد أشار إليه المصنف «قدس‌سره» بقوله : «فإمكانه بمكان من الإمكان» أي : فإمكان الطلب المنوط بوجود المكلف بمكان من الإمكان.

٢ ـ أن أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإيقاعي الإنشائي ؛ إذ لو كانت موضوعة

٣٦٠