دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

هلاك النفس أو شرب الخمر لئلا يقع في أشدّ المحذورين منهما ، فيصدق أنّه تركهما ولو بتركه ما لو فعله لأدى لا محالة إلى أحدهما ، كسائر الأفعال التوليديّة حيث يكون العمد إليها (١) بالعمد إلى أسبابها واختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب. وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج وإن كان لازما عقلا للفرار عمّا هو أكثر عقوبة.

ولو سلم (٢) عدم الصدق إلّا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فهو غير ضائر

______________________________________________________

الوقوع في المهلكة. هذا تمام الكلام في جواب المصنف «قدس‌سره» عما ذكره الشيخ الأعظم «قدس‌سره» بقوله : «فمن لم يشرب الخمر ...» إلخ.

ثم أشار المصنف إلى الجواب الثاني عنه بقول : «كسائر الأفعال التوليديّة» ، وحاصله : النقض بالأفعال التوليدية التي تتولد من الأفعال المباشرية كالإحراق مثلا ، حيث إنّه ليس فعلا مباشريا للمكلّف بل يتولد من الإلقاء في النار ، فإن الخروج وشرب الخمر «كسائر الأفعال التوليدية ، حيث يكون العمد إليها» أي : إلى تلك الأفعال «بالعمد إلى أسبابها ، واختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب» ، فكما يحرم الإحراق قبل الإلقاء في النار يحرم الخروج قبل الدخول ، وكما لا يصح أن يقال : الإحراق قبل الإلقاء ليس مقدورا للعبد فلا يحرم ، كذلك لا يصح أن يقال : الخروج قبل الدخول ليس مقدورا للعبد فلا يحرم وهكذا حال شرب الخمر قبل الوقوع في المهلكة.

(١) «وهذا» أي : كون الأفعال التوليدية مقدورة بواسطة القدرة على أسبابها يكفي في توجه التكليف إلى تلك الأفعال ، واستحقاق العقاب عليها. وعليه : فيستحق العقاب على شرب الخمر من أوقع نفسه في المرض المؤدّي إلى الهلاك لو لم يشرب الخمر. والموجب لاستحقاقه هو قدرته على الشرب المزبور ولو بواسطة قدرته على إيجاد سببه وهو المرض. وهذا الشرب بعد ما أوقع نفسه في المهلكة «وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو أكثر عقوبة» أعني : الموت ، فالإلزام العقلي لا ينافي التحريم الشرعي ، فقوله : «وإن كان لازما عقلا ...» إلخ إشارة إلى دفع التنافي بين حكم العقل بلزوم الشرب للعلاج ، وبين استحقاق العقوبة عليه. فيقال في تقريب التنافي : إنّه مع لزوم الارتكاب كيف يعاقب عليه؟

وحاصل الدفع : إنّ الحكم بلزوم الارتكاب ليس لأجل مصلحة في نفسه موجبة للزوم الفعل ؛ بل لأجل كون الشرب موجبا للفرار من العقوبة الزائدة في ترك الشرب.

(٢) هذا جواب آخر عمّا في كلام الشيخ الأعظم «قدس‌سره» من عدم صدق تارك الخروج على من لم يدخل بعد إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

٢١

بعد تمكّنه من الترك ولو على نحو هذه السالبة ، ومن الفعل بواسطة تمكّنه ممّا هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة ، فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة ، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ، ويتخلّص بالخروج ، أو يختار (١) ترك الدخول والوقوع فيهما (٢) لئلّا يحتاج إلى التخلّص والعلاج.

إن قلت (٣) : كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا

______________________________________________________

وحاصل الجواب : إنّه لو سلمنا عدم صدق تارك الخروج على من لم يدخل بعد إلّا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فنقول : إنّه لا ضير في ذلك بعد فرض تمكّن المكلف من ترك الخروج بسبب ترك الدخول ، ومن فعله بالقدرة على الدخول فهو قادر من الفعل والترك ، وهذا المقدار من القدرة كاف في التكليف ، فإنّ العقل يجوّز التكليف بمطلق المقدور من دون فرق بين أن تكون القضية السالبة سالبة بانتفاء الموضوع أو المحمول : وبهذا تبين : أنّ كلّا من شرب الخمر والخروج تحت القدرة فعلا وتركا.

قوله : «فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة ، أو يدخل الدار» ـ بيان لكيفية تمكّن المكلّف من الفعل والترك.

أمّا الأوّل : فباختيار دخول الدار المغصوبة الموجب للتخلّص عنها بالخروج ، أو باختيار المهلكة الملجئة إلى شرب الخمر.

وأمّا الثاني : فباختيار ترك الدخول في المكان المغصوب ، وترك الوقوع في المهلكة المتوقف علاجها على شرب الخمر.

والمراد من قوله : «من قبيل الموضوع» هو الدخول ، حيث إنّه من قبيل الموضوع للخروج ، وليس نفس الموضوع له ، ضرورة : عدم ترتّب الخروج قهرا على الدخول حتى يكون الدخول موضوعا له ؛ لوضوح كون ترتّب الخروج على الدخول بالإرادة والاختيار ، لا قهرا.

(١) عطف على «يوقع» ، فيكون بيانا للقدرة على الترك.

(٢) أي : في المهلكة والدار ، يعني : يختار ترك الدخول في الدار وترك الوقوع في المهلكة ، لئلّا يحتاج إلى التخلّص عن الغصب بالخروج ، وعن المهلكة بالعلاج.

(٣) هذا إشكال من جانب الشيخ الأعظم ومن يقول بمقالته ، من كون الخروج مأمورا به على المصنف وغيره ممن يقول بحرمة الخروج والشرب ، فيكون دليلا آخر على وجوب الخروج وكونه مأمورا به فقط كما يقول به الشيخ الأعظم «قدس‌سره».

وحاصل الإشكال : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٧٠» ـ أنّ الالتزام

٢٢

مع بقاء ما (١) يتوقف عليه على وجوبه (٢) ، ووضوح (٣) سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة ولو كان بسوء الاختيار ، والعقل قد استقل بأنّ الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا؟

قلت (٤) : أولا : إنّما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل...........................

______________________________________________________

بالحرمة يوجب ارتفاع الوجوب عن ذي المقدمة وهو التخلّص عن الغصب وحفظ النفس ، حيث إنّ المقدمة ـ وهي الخروج والشرب ـ ممنوعة شرعا ، وموجبة لاستحقاق العقوبة عقلا ، ومن المقرر : كون الممنوع شرعا كالممتنع عقلا ، فالتكليف بذي المقدمة ـ مع امتناع مقدمته الوجودية ـ تكليف بغير مقدور ؛ إذ لا يمكن الجمع بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها ، فلا بد إمّا من سقوط الوجوب عن ذي المقدمة وهو التخلّص وحفظ النفس ؛ لكونه مع حرمة المقدمة تكليفا بغير مقدور.

وإمّا من سقوط حرمة المقدمة ، فلا يكون الخروج والشرب محرمين.

والالتزام بسقوط الوجوب كما ترى ؛ إذ لم يلتزم أحد بسقوط وجوب حفظ النفس ووجوب التخلّص عن الغصب ، فلا محيص عن الالتزام بسقوط الحرمة عن المقدمة وهي الخروج والشرب وهو المطلوب ، فيكون هذا دليلا على وجوب الخروج والشرب ، وعليه : فالخروج والشرب واجبان وإن كانا بسوء الاختيار.

(١) المراد بالموصول : ذو المقدمة ؛ كالتخلّص عن الغصب وحفظ النفس عن الهلاك.

(٢) أي : مع بقاء ذي المقدمة على وجوبه ، يعني : كيف تكون المقدمة كالخروج والشرب حراما شرعا مع بقاء ذي المقدمة على الوجوب كما يقول به المصنف ، في مقابل الشيخ القائل بوجوب الخروج والشرب؟

(٣) مفاده : عدم إمكان اجتماع حرمة المقدمة كما يقول بها المصنف مع وجوب ذي المقدمة ؛ بتقريب : أنّ الامتناع الشرعي كالعقلي ، فالمقدمة الممنوعة شرعا كالممتنعة عقلا في عدم القدرة على الإتيان بها ، وبامتناعها يمتنع بقاء ذي المقدمة على الوجوب المشروط بالقدرة على إيجاد متعلقه.

(٤) قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال ـ أو الدليل على وجوب الخروج والشرب ـ بجوابين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «أوّلا» وحاصل هذا الجواب الأوّل : أنّ حرمة المقدمة إنما ترفع وجوب ذيها فيما إذا لم يحكم العقل بلزوم فعل المقدمة ، وأمّا مع حكمه بلزومه ، فلا بأس ببقاء وجوب ذي المقدمة بحاله ، إذ لا يكون التكليف به حينئذ من التكليف بالممتنع وغير المقدور ، بعد وضوح حكم العقل بلزوم المقدمة ، لكون مخالفة حرمتها

٢٣

... بلزومه (١) إرشادا إلى ما هو أقلّ المحذورين ؛ وقد عرفت : لزومه (٢) بحكمه ، فإنه مع لزوم الإتيان بالمقدمة عقلا لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه ، فإنّه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع ، كما (٣) إذا كانت المقدمة ممتنعة.

وثانيا (٤) : لو سلّم ، فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والإيجاب لا لزوم إتيانه

______________________________________________________

أخفّ المحذورين ، وأقلّ القبيحين ، فلا منافاة بين وجوب ذي المقدمة ؛ كالتخلّص عن الغصب ، وبين كون الخروج الذي هو مقدمته ممنوعا عنه شرعا بالنهي الساقط بالامتناع بسوء الاختيار ، ومستحقا عليه العقاب.

(١) أي : بلزوم الممنوع شرعا كالخروج عن المكان المغصوب ، فإنّ الخروج وإن كان مصداقا للغصب المحرم لكنّه أقلّ محذورا من البقاء ، لحصول التخلّص عن الحرام به.

(٢) أي : قد عرفت لزوم الخروج بحكم العقل سابقا حيث قال : «وإن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين» ، وقال أيضا «وإن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهمّ وأولى بالرعاية من تركه».

(٣) يعني : ليس بقاء ذي المقدمة على وجوبه من التكليف بالممتنع كصورة امتناع المقدمة عقلا. فيكون قوله : «كما إذا كانت» قيدا للمنفي.

(٤) هذا هو الجواب الثاني عن الإشكال ، وحاصله : أنّه لو سلّمنا سقوط وجوب ذي المقدمة ـ لكونه منافيا لحرمة مقدمته حتى في صورة حكم العقل بلزومها ـ فيقال في الجواب : أنّ الساقط هو فعلية البعث والإيجاب بحفظ النفس عن الهلاك ، والتخلّص عن الغصب. وأمّا حكم العقل بلزومها لتنجز التكليف بهما قبل الاضطرار فهو باق على حاله ، ومع هذا الحكم العقلي لا حاجة إلى الخطاب الفعلي الشرعي ، وعليه : فحرمة المقدمة مانعة عن فعلية وجوب ذي المقدمة دون ملاكه ؛ لتماميّته وعدم قصور فيه ، ولذا يحكم العقل بلزوم استيفائه ، فيجب التخلّص عن الغصب وحفظ النفس عن الهلاك بالخروج وشرب الخمر بحكم العقل ، وإن لم يكن وجوب فعلي شرعا بحفظ النفس والتخلّص عن الغصب لكفاية حكم العقل في ذلك كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٧٢» مع تصرّف منّا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» : قوله : «لا لزوم إتيانه عقلا» يعني : أنّ الساقط هو الخطاب الفعلي ؛ لا لزوم الإتيان بالمقدمة عقلا.

قوله : «خروجا» تعليل للزوم الإتيان عقلا.

قوله : «سابقا» يعني : قبل الاضطرار. فمعنى العبارة : أنّه يجب بحكم العقل الإتيان بالحرام المضطر إليه بسوء الاختيار لأجل الخروج عن عهدة التكليف الذي تنجّز عليه قبل الاضطرار.

٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

قوله : «ضرورة» تعليل لعدم سقوط الوجوب العقلي ؛ بمعنى : أنّه لو لم يأت بالحرام المضطر إليه كالخروج عن الغصب وشرب الخمر للتخلّص عن الغصب وحفظ النفس عن الهلاك لوقع في المحذور الأشدّ وهو تلف النفس والبقاء في الغصب.

قوله : «حيث إنّه الآن» تعليل للوقوع في المحذور الأشدّ وضمير «إنّه» راجع إلى ذي المقدمة.

قوله : «الآن» يعني : بعد الاضطرار وحاصله : أنّ حفظ النفس عن الحرام ـ كالهلكة والبقاء في المغصوب ـ باق على ما كان عليه قبل الاضطرار من الملاك والمحبوبية ، ولم يحدث فيه بسبب الاضطرار قصور أصلا. نعم سقط خطابه لأجل المانع وهو حرمة مقدمته كالخروج وشرب الخمر ، فالمقدّمة باقية على حرمته التي كانت ثابتة قبل الاضطرار ، فيعاقب عليها لذلك وإن ألزمه العقل بإتيانها لكونها أخفّ القبيحين.

وبالجملة : فالمقدمة باقية على حرمتها ، وذو المقدمة باق على محبوبيّته الثابتة له قبل حدوث الاضطرار ، ولم يسقط عنه إلّا فعلية الإيجاب.

«لأجل المانع» وهو حرمة المقدمة المنافية لوجوب ذيها.

«وإلزام العقل به لذلك» مبتدأ وخبره «كاف» ومعنى العبارة : وإلزام العقل بالإتيان بالمقدمة المحرمة كالخروج وشرب الخمر للخروج عن عهدة ما تنجّز عليه سابقا من باب الإرشاد كاف في لزوم الإتيان ، ولا حاجة مع هذا الحكم العقلي إلى بقاء الخطاب الفعلي البعثي ، فقوله : «لذلك» إشارة إلى الخروج عن العهدة.

قوله : «فعلا» قيد للبعث والإيجاب ، وضمير «معه» راجع إلى إلزام العقل وضميرا «إليه ، له» راجعان إلى ذي المقدمة كالتخلّص عن الهلاك والغصب.

والمتحصّل من جميع ما أفاده المصنف : أنّ المقدمة المحرّمة المنحصرة ، المضطر إليها بسوء الاختيار ـ كالخروج عن المكان المغصوب وشرب الخمر لحفظ النفس عن الهلاك ـ باقية على حرمتها ، ولا ترفع حرمتها وجوب ذيها أوّلا ، وعلى فرض تسليم ارتفاع وجوبه يكفي حكم العقل بلزوم التخلّص عن الغصب والهلاك ، ولا حاجة معه إلى الإيجاب الفعلي الشرعي ثانيا. فالنتيجة : أنّ الساقط هو الوجوب المولوي الشرعي بالنسبة إلى ذي المقدمة ـ وهو التخلّص ـ وأمّا الوجوب العقلي الإرشادي بالنسبة إليه فهو باق على حاله لبقاء ملاكه بعد الاضطرار بسوء الاختيار إلى إتيان المقدمة المحرمة ـ وهي الخروج وشرب الخمر ـ وإلزام العقل بالتخلّص بعد الاضطرار المذكور كاف في استحقاق العقاب على

٢٥

عقلا ، خروجا عن عهدة ما تنجّز عليه سابقا ضرورة : أنّه لو لم يأت به لوقع في المحذور الأشدّ ، ونقض الغرض الأهمّ حيث إنّه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبيّة ، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا ، وإنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع ، وإلزام العقل به لذلك إرشادا كاف ؛ لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلا ، فتدبّر جيدا.

وقد ظهر مما حققناه (١) : فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه

______________________________________________________

تركه ، فلا حاجة حينئذ إلى البعث الشرعي المولوي إلى التخلّص ، وكذا الكلام في الشرب ووجوب حفظ النفس. قوله : «فتدبّر جيّدا» تدقيقيّ فقط.

(١) يعني : «قد ظهر مما حققناه» ـ في جواب الشيخ القائل بكون الخروج مأمورا به فقط ، وقلنا : ببقاء الخروج المضطر إليه بسوء الاختيار على حكمه من الحرمة ـ أي : ظهر «فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه».

هذا الكلام من المصنف شروع في الرّد على صاحب الفصول القائل بكون الخروج مأمورا به ، مع إجراء حكم المعصية عليه. أما كونه مأمورا به : فنظرا إلى كونه مقدمة لواجب.

وأمّا إجراء حكم المعصية عليه : فنظرا إلى النهي السابق قبل الاضطرار.

أما وجه ظهور فساد قول الفصول ما تقدم من المصنف ؛ من أن الخروج باق على حرمته وليس مأمورا به لكون الاضطرار بسوء الاختيار ، وإنّما العقل ملزم للإتيان به هذا «مع ما فيه» أي : في هذا القول «من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة».

وحاصل الكلام في المقام : أنّ المصنف لمّا فرغ عن جواب الشيخ القائل بأنّ الخروج مأمور به فقط شرع في ردّ الفصول القائل بكونه مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه من العقاب وغيره وقد أورد المصنف على الفصول بوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فحاصله : أنّه قد ظهر ممّا بينّاه في القول المختار من بقاء النهي المتعلق بالمقدمة ـ كالخروج ـ على حاله ، وعدم صيرورتها مأمورا بها بالاضطرار فساد القول بكون الخروج مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه للنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار.

وجه الظهور : ما تقدم من أنّ الخروج باق على حرمته وليس بمأمور به لكون الاضطرار بسوء الاختيار ، فالخروج حرام حتى بعد حدوث الاضطرار ؛ وذلك لكونه بسوء الاختيار ، غاية الأمر : أنّ العقل إرشادا إلى أقلّ المحذورين يحكم بلزوم الخروج.

٢٦

نظرا إلى النهي السابق ، مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة. ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب قبل الدخول وبعده كما في الفصول (*) مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما ، وإنّما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما.

______________________________________________________

أمّا الوجه الثاني : فحاصله : أنّ لازم هذا القول اجتماع الضدّين ـ وهما الوجوب والحرمة ـ في فعل واحد بعنوان واحد ، حيث إن الخروج حرام لكونه تصرّفا في مال الغير بدون إذنه ، وواجب لكونه كذلك مقدمة للتخلّص الواجب ، فيلزم أن يكون الخروج مع وحدة عنوانه حراما وواجبا.

وما تشبث به الفصول في دفع التضاد باختلاف زمان الحرمة والوجوب وأنّ الحرمة كانت في السابق والأمر به يكون في اللاحق مما لا يجدي مع اتحاد زمان الفعل وموطنه ؛ إذ التضاد يلزم مع وحدة زمان الفعل ، نظير قولك في يوم الأربعاء : أكرم زيدا يوم الجمعة ، وقولك في يوم الخميس : لا تكرم زيدا يوم الجمعة ، فهما متناقضان من حيث وحدة زمان الفعل.

وإن كان زمان الإيجاب والتحريم متعددا : فالمجدي لدفع التناقض والتضاد هو تعدد زمان الفعل لا تعدد زمان الإيجاب والتحريم مع وحدة زمان الفعل.

وكيف كان ؛ فقوله : «ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب» : إشارة إلى ما تفطنه صاحب الفصول من اجتماع الضدين ، ولكن دفعه باختلاف زمان التحريم ـ وهو ما قبل الدخول في المغصوب ـ وزمان الإيجاب وهو ما بعد الدخول ، فلا يلزم اجتماع الضدين المحال ؛ لأنّ المستحيل هو اجتماعهما في زمان واحد وهو مفقود هنا.

وقد أفاد المصنف في ردّه بما حاصله : من إنّ اختلاف زماني الإيجاب والتحريم لا يجدي في ارتفاع غائلة اجتماعهما ما لم يختلف زمان الفعل المتعلق لهما ، كما إذا قال في زمان واحد : أكرم زيدا يوم الجمعة ولا تكرم زيدا يوم السبت ، فإنّه ممّا لا إشكال فيه مع وحدة زمان إنشاء الإيجاب والتحريم ، وأمّا إذا قال يوم الأربعاء : أكرم زيدا يوم الجمعة ، وقال في يوم الخميس : لا تكرم زيدا يوم الجمعة فلا إشكال في عدم الصحة ؛ للزوم اجتماع الحكمين مع اختلاف زمان إنشائهما ، فالمدار في ارتفاع غائلة الاجتماع إنما هو على اختلاف زمان المتعلق للحكمين لا اختلاف زمان إنشائهما.

قوله : «كيف؟» يعني : كيف يرتفع غائلة الاجتماع باختلاف زماني الإيجاب

__________________

(*) الفصول الغروية ، ص ١٣ ، س ٢٦.

٢٧

هذا أوضح من أن يخفى ، كيف؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصيانا للنهي السابق وإطاعة للأمر اللاحق فعلا (١) ، ومبغوضا ومحبوبا كذلك (٢) بعنوان واحد (٣) ، وهذا مما لا يرضى به القائل بالجواز فضلا عن القائل بالامتناع.

كما لا يجدي (٤) في رفع هذه الغائلة : كون النهي مطلقا وعلى كل حال ، وكون الأمر مشروطا بالدخول ، ضرورة (٥) : منافاة حرمة شيء كذلك (٦) مع وجوبه في بعض الأحوال (٧).

______________________________________________________

والتحريم ، والحال أنّ لازمه وقوع الخروج بعنوانه إطاعة وعصيانا ، ومحبوبا ومبغوضا أمّا الإطاعة والمحبوبيّة الفعليتان : فللأمر اللاحق المتعلق بالخروج بعد الدخول. وأمّا العصيان والمبغوضية : فللنهي السابق الساقط بالاضطرار.

(١) قيد «للأمر اللاحق» ؛ إذ المفروض : كون الخروج بعد الدخول مأمورا به فعلا.

(٢) يعني : محبوبا فعلا كفعلية الأمر به.

(٣) وهو التصرّف الخروجي ، فإنّه بهذا العنوان حرام لكونه بدون إذن المالك ، وواجب لتوقف ترك الغصب عليه ، وقد تقدم سابقا : أنّ المقدميّة جهة تعليلية ، فمعروض الوجوب المقدمي هو ذات المقدمة أعني : الخروج ، فهو المتصف بالوجوب والحرمة.

«وهذا مما لا يرضى به القائل بالجواز ... إلخ» يعني : اتصاف الخروج بالوجوب والحرمة والمحبوبية والمبغوضية مما لا يرضى به القائل بجواز اجتماع الأمر والنهي ، لأنّه يرى إجداء تعدد العنوان فيه فضلا عن القائل بالامتناع.

(٤) إشارة إلى دفع توهم آخر لدفع غائلة اجتماع الوجوب والحرمة في الخروج.

وحاصل التوهم قبل الدفع : أن النهي تعلق بالغصب على نحو الإطلاق ، فيشمل الدخول والبقاء والخروج ؛ إذ مفاد : لا تغصب حرمة الدخول والبقاء والخروج ، والأمر بالخروج مشروط بالدخول ؛ إذ لا يصح الأمر به قبل الدخول فيتعدد متعلق الأمر والنهي بسبب الإطلاق والتقييد ، فيرتفع التنافي بينهما.

وحاصل الدفع : هو عدم إجداء الإطلاق والتقييد في ارتفاع الغائلة.

وملخّص وجه عدم الإجداء : إنّ النهي لمّا لم يكن مقيدا بزمان فلا محالة يكون في زمان القيد موجودا ، فالخروج منهي عنه ومأمور به بشرط الدخول ، فيلزم اجتماع الوجوب والحرمة فيه ، ولم ترتفع غائلة الاجتماع.

(٥) تعليل لعدم إجداء الإطلاق والتقييد في ارتفاع الغائلة ، وقد تقدم توضيحه.

(٦) أي : على نحو الإطلاق وعلى كل حال.

(٧) يعني : مع وجوب الخروج في بعض الأحوال أي : بعد الدخول.

٢٨

وأمّا القول بكونه مأمورا به ومنهيا عنه (١):

ففيه ـ مضافا (٢) إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين ، فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام ، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلّص ، وكان (٣) بغير إذن المالك ، وليس التخلّص (٤) إلّا منتزعا عن ترك الحرام المسبّب عن

______________________________________________________

(١) إشارة إلى ما هو مختار المحقق القمي «قدس‌سره» والمنسوب إلى المشهور من كون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه.

(٢) وقد أجاب عنه المصنف بوجوه :

الوجه الأوّل ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى ما عرفت» ، وملخصه : أنّه قد تقدم في بيان مختاره امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوانين.

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام» وخلاصة هذا الوجه : أنّه بعد تسليم جواز الاجتماع يقال : إنّ مورده هو تعدد العنوان ، وذلك مفقود في المقام ضرورة : أنّ متعلق الأمر والنهي ـ وهو الخروج الشخصي ـ واحد ، وهو بعنوانه الأوّلي ـ أعني : التصرف في مال الغير بدون إذنه ـ قد تعلق به الحكمان المتضادان لجهتين تعليليتين إحداهما عدم اقترانه بإذن المالك الموجب لتعلق النهي به ، والأخرى : توقف التخلّص عن الحرام عليه الموجب لتعلق الأمر به ، ومن المعلوم : أن الجهات التعليلية وسائط ثبوتية لترتّب الأحكام على موضوعاتها ، وخارجة عن الموضوعات وغير مرتبطة بها. كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٨٠» مع تصرف ما.

(٣) يعني : كان الخروج بعنوانه الأولي بدون إذن المالك ، فالخروج بعنوانه الأولي الواحد متعلقا للوجوب والحرمة.

(٤) إشارة إلى توهم ودفعه. وحاصل التوهم : أن العنوان هنا متعدد ؛ بمعنى : أنّ للخروج عنوانين أحدهما : التصرف في مال الغير بلا إذن منه ، والآخر : التخلّص عن الحرام ، فيندرج بهما في مسألة اجتماع الأمر والنهي لتعدد متعلق الأمر والنهي.

وحاصل الدفع : إنّ التخلّص ليس عنوانا للخروج ؛ بل وصف منتزع من ترك الحرام المسبب عن الخروج بمعنى : أنّه لمّا كان الخروج سببا لترك البقاء المحرم انتزع عن هذا الترك عنوان التخلّص. وإن شئت فقل : الخروج سبب لترك البقاء ، والتخلّص منتزع عن المسبب ولا ربط له بالسبب.

وكيف كان ؛ فلا يكون عنوان التخلّص واجبا نفسيا مطبقا على الخروج ، ثم لو سلّم كون التخلّص واجبا نفسيا ؛ لكنّه لا ينطبق على الخروج ، ولا يكون عنوانا له ، لأنّ

٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الخروج مقدمة لترك الحرام الذي هو سبب للتخلّص ، وقد مرّ غير مرّة : أنّ المقدميّة جهة تعليلية للمقدمة ، وليست جهة تقييدية لها.

والموجب لصغروية شيء لمسألة اجتماع الأمر والنهي هو تعدد الجهة التقييدية فيه. فالعنوانان تعليليان لا تقييديان ؛ بمعنى : إنّه ليس متعلق الأمر والنهي عنواني التصرف والتخلّص ؛ بل هو الخروج علّة للتخلّص.

فالنتيجة : أنّ الخروج ـ لوحدة عنوانه ـ أجنبيّ عن مسألة اجتماع الأمر والنهي.

الوجه الثالث : ما أشار إليه بقوله : «إنّ الاجتماع هاهنا لو سلّم أنّه» أي : الاجتماع لا يكون بمحال لتعدد العنوان من التخلّص الواجب والغصب الحرام.

وحاصل هذا الوجه : أنّه ـ بعد تسليم تعدد العنوان هنا الموجب لجواز الاجتماع ، والغضّ عن الوجهين المتقدمين في الجواب ـ لا يمكن الالتزام بالاجتماع هنا أيضا ، لأنّ جوازه عند القائلين به مشروط بوجود المندوحة ، كالصلاة في المكان المغصوب مع إمكان فعلها في مكان مباح ، وأمّا بدون المندوحة فلا يجوز كالمقام ، لانحصار طريق التخلّص عن الحرام بالخروج.

وعليه ، فوجوب الخروج وحرمته تكليف بالمحال ، وهو قبيح عقلا فلا يصدر عن الحكيم ، فلا بد للقائل بجواز الاجتماع إمّا من الالتزام بعدم الحرمة ، وإمّا من الالتزام بسقوط الوجوب.

والمتحصّل : أنّه لو سلم عدم استحالة اجتماع الأمر والنهي لأجل تعدد العنوان المجدي في دفع الاستحالة كان الاجتماع محالا من جهة أخرى وهي طلب المحال فيما لا مندوحة فيه ، لأنّه مع الانحصار ـ كالخروج الذي ينحصر التخلّص عن الحرام به ـ يلزم من اجتماع الوجوب والحرمة فيه طلب المحال لعدم القدرة على فعل الخروج وتركه في آن واحد.

قوله : «وذلك لضرورة ...» إلخ تعليل لمحالية الاجتماع في مورد عدم المندوحة وحاصله : أنّ الغرض من التكليف ـ وهو إحداث الداعي إلى الفعل أو الترك ـ لا يترتب إلّا في ممكن الوجود ، فإن وجب الفعل لوجود علّة وجوده ، أو امتنع لعدم علّة وجوده فلا يتعلق به البعث ، لقصوره عن إحداث الداعي وتحريك العبد نحو الفعل أو الترك ، فإنّ الوجوب أو الامتناع العرضيين وإن لم يكن منافيا للإمكان الذاتي ، ولكنه مناف للتكليف بعثا أو زجرا ، وفي المقام لمّا صار الخروج بسوء الاختيار مضطرا إليه ، لانحصار التخلّص

٣٠

الخروج ، لا عنوانا له ـ أنّ الاجتماع هاهنا لو سلم إنّه لا يكون بمحال لتعدد العنوان ، وكونه مجديا في رفع غائلة التضاد ، كان محالا لأجل كونه طلب المحال ، حيث لا مندوحة هنا ، وذلك لضرورة : عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع ، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار.

وما قيل (١) : إنّ الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار إنّما هو في قبال

______________________________________________________

عن الحرام به ، فيصير واجب الوجود بالعرض ، فلا يتعلق به بعث ولا زجر ، وعليه : فلا يكون مأمورا به ولا منهيا عنه فعلا كما هو مختار المصنف ؛ لأنّ الغرض من التكليف هو البعث أو الزجر ، ولا يمكن الأمر حقيقة بفعل واجب الصدور ، لأنّه تحصيل للحاصل ، أو ممتنع كالجمع بين الخروج وتركه لأنّه لغو.

(١) إشارة إلى توهم وحاصله : إنّ الوجوب والامتناع إن كانا بسوء الاختيار فلا يمنعان عن التكليف لما قيل : من أنّ الممتنع بالاختيار اختياري صحّ التكليف به ، وعليه : فلا مانع من تعلق البعث والزجر بالخروج المضطر إليه بسوء الاختيار. وقد أشار إلى دفع هذا التوهم بقوله : «إنّما هو في قبال».

وحاصل الدفع : أنّ قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» أجنبية عن المقام ، وهو : تعلق التكليف بالممكن الذي صار واجبا أو ممتنعا بالعرض ، وغير مرتبطة به ، حيث إنّ موردها اختياريّة الأفعال الصادرة من العباد في مقابل الأشاعرة القائلين بالجبر ، استنادا إلى أنّ الفعل مع الإرادة واجب ، وبدونها ممتنع ، فيلزم الجبر وانتفاء الاختيار.

وكيف كان ؛ فقاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» التي أجاب بها العدلية عن استدلال الأشاعرة على الجبر أجنبيّة عن المقام.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان الفرق بين المقام وبين ما أجاب به العدلية عن استدلال الأشاعرة على غير اختياريّة الأفعال «بقضية : أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد».

وتوضيح الفرق يحتاج إلى بيان أمرين :

الأول : نقل كلام الأشاعرة واستدلالهم على الجبر.

الثاني : جواب العدلية عنهم.

«أما الأول» : فقد ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الأفعال كلها غير اختيارية ؛ بل العباد مجبورون في الأفعال ، واستدلوا لذلك بقاعدة مسلّمة عند الحكماء ، وهي : «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، ومعنى العبارة : إنّ كل ممكن ما لم تتم علّته التامّة لم يوجد في

٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

الخارج ، فإن وجدت العلّة التامّة وجد الممكن ؛ وإلّا فلا يوجد ، ووجه استدلالهم بهذه القاعدة : أن كل فعل يصدر من فاعل لا بدّ وأن توجد علّته التامّة ، وإذا وجدت كان ذلك الفعل واجب الوجود بالعرض ، وإذا وجب الفعل لم يكن العبد مختارا فيه ، وبهذه المقدمات تمسكوا بكون العباد محبورين في جميع الأفعال.

«وأمّا الثاني» : فيقال : إنّه قد أجاب الأصحاب عن هذا الاستدلال بأنّا نسلّم أنّ الفعل بعد وجود علّته التامّة واجب ، ولكنّا نقول : إنّ العبد إنّما يوجد علّة الفعل بالإرادة والاختيار ، فإن أراد الفعل وسائر مقدماته وجب ، وإن لم يرد لم يجب ، فإيجاب الفعل وعدمه تحت اختيار المكلف ، ومن البديهي : «أن الإيجاب والامتناع بالاختيار لا ينافي» أي : إيجاب بإرادة مقدماته ، وامتناعه بعدم إرادة مقدماته لا ينافيان الاختيار.

وبهذا تبيّن : أن العباد ليسوا مجبورين في أفعالهم. واتّضح أيضا : أن قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار في قبال استدلال الأشاعرة بالجبر.

إذا عرفت هذين الأمرين فنقول : إنّ الفرق بين المقام وبين ما أجاب به العدلية من القاعدة يمكن بوجوه يستدلّ بها على عدم كون المقام داخلا في كبرى عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار :

الوجه الأول : أنّ الفعل في مورد القاعدة مستند إلى الإرادة والاختيار ؛ لأنّ وجوبه وامتناعه إنّما يكون من قبل العلّة وإرادة الفاعل واختياره علّة للفعل أو تركه ، فالوجوب والامتناع ناشئان من اختياره.

ومن المعلوم : أن الوجوب والامتناع الناشئين عن الاختيار مؤكّدان له لا منافيان ، هذا بخلاف المقام الذي يسلب فيه الاختيار عن الفعل بواسطة اختيار شيء آخر ـ وهو الدخول ـ فليس الفعل ـ وهو الخروج ـ قابلا للصدور بالإرادة والاختيار ؛ بل المكلف مضطر إليه بسوء اختياره ، فلا يقدر على تركه تشريعا وإن كان قادرا عليه تكوينا.

الوجه الثاني : أنّ ما يكون داخلا في كبرى هذه القاعدة لا بدّ أن يكون ممّا عرضه الامتناع باختيار المكلف وإرادته ؛ كالحجّ يوم عرفة لمن ترك مقدمته باختياره وقدرته ، وكحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق ، ونحوهما من الأفعال الاختيارية الّتي يعرض عليها الامتناع بالاختيار.

ومن الواضح : إنّ الخروج من الدار المغصوبة ليس كذلك ، فإنّه باق على ما هو عليه

٣٢

استدلال الأشاعرة ؛ للقول بأنّ الأفعال غير اختيارية ، بقضية أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

فانقدح بذلك (١) : فساد الاستدلال لهذا القول ، بأنّ الأمر بالتخلّص والنهي عن

______________________________________________________

من كونه مقدورا للمكلف فعلا وتركا بعد دخوله فيها ولم يعرض عليه الامتناع بمعنى عدم القدرة عقلا عليه.

الوجه الثالث : أنّ محل الكلام في هذه القاعدة إنّما هو فيما إذا كان ملاك الوجوب تاما في ظرفه ومطلقا أي : من دون فرق في ذلك بين أن تكون مقدمته الإعدادية موجودة في الخارج أو غير موجودة ، وأن يكون وجوبه مشروطا بمجيء زمان متعلقه أو لا ، وذلك كوجوب الحج فإنه وإن كان مشروطا بمجيء يوم عرفة إلّا إنّ ملاكه يتمّ بتحقق الاستطاعة ، ولا يتوقف على مجيء زمان متعلقه وهو يوم عرفة ، وعليه : فمن ترك المسير إلى الحج بعد وجود الاستطاعة يستحق العقاب على تركه وإن امتنع عليه الفعل في وقته ؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

هذا هو الملاك في جريان هذه القاعدة ، ومن المعلوم : أن هذا الملاك غير موجود في المقام ، بل هو في طرف النقيض مع مورد القاعدة ، وذلك ، لأنّ الخروج قبل الدخول في الدار المغصوبة لم يكن مشتملا على الملاك ، فالدخول فيها من المقدمات الّتي لها دخل في تحقق القدرة على الخروج وتحقق ملاك الحكم فيه ، ضرورة : أنّ الداخل فيها هو الّذي يمكن توجيه الخطاب إليه بفعل الخروج أو بتركه دون غيره ، فإذن : لا يمكن أن يكون الخروج داخلا في موضوع القاعدة.

إذا عرفت هذه المقدمة الطويلة يتّضح لك كون القاعدة أجنبيّة عن المقام ، لأنّ نتيجة الوجوه المذكورة هي : أنّ الخروج عن الدار المغصوبة غير داخل في كبرى تلك القاعدة ، فلا يصح الاستدلال بها على كون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه بحجّة أنّ كون الخروج مأمورا ومنهيا عنه ، وإن كان مستلزما للتكليف بما لا يطاق وبما هو الممتنع إلّا إنّ ذلك نشأ من سوء الاختيار ، فيقال : إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. وقد عرفت أجنبيّة القاعدة عن المقام.

(١) أي : فانقدح بما ذكرنا ردّا ـ لما يقول به المحقق القمي من كون الخروج مأمورا ومنهيا عنه من عدم صحّة تعلّق الطلب الحقيقي بالواجب والممتنع وإن كان الوجوب والامتناع بالاختيار ـ «فساد الاستدلال لهذا القول» يعني : فانقدح بعدم صحة الطلب الحقيقي بالواجب والممتنع فساد استدلال صاحب القوانين على وجوب الخروج وحرمته ، فلا بد أولا من تقريب هذا الاستدلال ، وثانيا : من بيان وجه فساده.

٣٣

وأما تقريب استدلال القوانين على وجوب الخروج وحرمته. فحاصله : أنّ الأمر بالتخلّص من الحرام والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ولا موجب لتقييد الأمر بأن يقال بوجوب المقدمة الغير التخلّصي ، أو تقييد النهي بأن يقال بحرمة الغصب الغير الخروجي ؛ لأنّ منشأ التقييد هو الاستحالة الناشئة من أحد أمرين : وهما اجتماع الضدين ـ أعني : الوجوب والحرمة ـ في فعل واحد كالخروج والتكليف بما لا يطاق لعدم قدرة المكلف على امتثال كليهما ، ولا يلزم شيء من هذين الأمرين :

أمّا الأوّل : فلتعدد الجهة ، فإنّ الخروج من حيث إنه غصب فهو حرام ، ومن حيث إنّه مقدمة للتخلّص عن الحرام فهو واجب.

وأمّا الثاني : فلكونه بسوء الاختيار ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

والحاصل : أنّ الموجب للتقييد لزوم الاستحالة ، ولا يلزم حتى يحبب عقلا تقييد أحد الدليلين بأن يقال : الغصب حرام إلّا إذا كان تصرّفا خروجيّا ، أو مقدمة الواجب واجبة إلّا إن تكون مقدمة للتخلّص عن الحرام.

قوله : «لعدم استحالة ...» إلخ تعليل لقوله : «ولا موجب للتقييد».

وقوله : «إذ منشأ الاستحالة ...» إلخ تعليل للاستحالة يعني : أنّ منشأ الاستحالة الموجبة للتقييد عقلا أحد أمرين : اجتماع الضدين ، والتكليف بما لا يطاق. والأول غير لازم نظرا إلى تعدد الجهة ، والثاني : ليس بمحال لكونه بسوء الاختيار. وقد عرفت غير مرة : «إن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار». فلا مانع من القول بكون الخروج واجبا نظرا إلى الأمر ، وحراما نظرا إلى النهي عملا بكلا الدليلين.

هذا تمام الكلام في تقريب الاستدلال.

وأمّا الجواب عن هذا الاستدلال وبيان فساده : فقد أشار إليه بقوله : «وذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلا ...» إلخ ، وحاصل الجواب : أنّه لا بدّ من تقييد أحد الدليلين لئلّا يلزم اجتماع الضدين.

أما وجه فساد الاستدلال : فلما عرفت سابقا من استحالة اجتماع الضدين ، سواء تعدد عنوان المجمع أم اتحد ، فلا بد من تقييد أحدهما بالأهم منهما ، فإن كان الأهم هو الخروج : يقيّد دليل حرمة الغصب بغير الخروج ، وإن كان الأهم هو البقاء : يقيّد دليل وجوب المقدمة بغير الغصب. هذا مجرّد فرض وإلّا فالأهمّ هو التخلّص من البقاء المحرم بالخروج.

٣٤

الغصب دليلان يجب إعمالهما ، ولا موجب للتقييد عقلا ، لعدم استحالة كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين ، إذ منشأ الاستحالة : إمّا لزوم اجتماع الضدين وهو غير لازم مع تعدد الجهة ، وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسبّبا عن سوء الاختيار ؛ وذلك لما عرفت : من ثبوت الموجب للتقييد عقلا ولو كان بعنوانين ، وأنّ اجتماع الضدين لازم ولو مع تعدد الجهة ، مع عدم تعددها هاهنا ، والتكليف بما لا يطاق محال على كل حال.

نعم ؛ لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الإيجاب.

ثم لا يخفى : أنّه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا (١) في الدار المغصوبة على

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فعلى الفرض الأوّل : يكون الخروج واجبا فقط ، وعلى الفرض الثاني : يكون حراما فقط. هذا أوّلا. وثانيا : أن التكليف بما لا يطاق قبيح عقلا سواء كان مسبّبا عن سوء الاختيار أم لم يكن. نعم ؛ لو كان مسبّبا عن سوء الاختيار سقط التكليف ولا يسقط العقاب ؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا خطابا بمعنى : إن المضطرّ إلى الحرام بالاختيار غير مخاطب فعلا ، ولكن هو معاقب. فيصحّ عقابه عليه عقلا ، ولا يصحّ خطابه به فعلا للاضطرار المسقط للتكليف ، فالقول بكون الخروج مأمورا ، به ومنهيا عنه لا يرجع إلى محصل صحيح.

قوله : «نعم لو كان بسوء الاختيار ...» إلخ استدراك على عدم الفرق في استحالة التكليف بما لا يطاق بين كونه بسوء الاختيار وعدمه وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٨٧» ـ أنّ الفارق بينهما هو استحقاق العقوبة إذا كان بسوء الاختيار ، وعدم استحقاقها إذا لم يكن كذلك. وأمّا سقوط الخطاب : فهو

مشترك بين الصورتين ، ولذا اختار المصنف كون الخروج منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ، وعدم كونه مأمورا به.

في ثمرة الأقوال

(١) أي : في حالتي الاضطرار والاختيار.

بعد ما فرغ المصنف من ذكر الأقوال وما فيها من الردّ والإشكال ، شرع في بيان ثمرة تلك الأقوال فقال : «إنّه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة» ، من غير فرق بين كون الصلاة مع الاضطرار إلى الغصب بأن حبسه الظالم فيها ، أو بدون الاضطرار إليه بأن دخل فيها بسوء الاختيار ، وبين كونها في حال الخروج أو في حال

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

البقاء فيها ، ففي جميع هذه الصور تصحّ الصلاة فيها على القول بجواز الاجتماع ؛ لعدم سراية كل واحد من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر ، فيتعدد المتعلق كما هو رأي المجوّزين. هذا مجمل الكلام.

وأمّا تفصيل ذلك فيتبين من خلال الجواب عن الإشكال الذي أورده بعضهم على ما أفتى به المشهور من صحّة الصلاة في ضيق الوقت وبطلانها في السعة.

وحاصل الإشكال : أنّهم إن كانوا من المجوّزين للاجتماع : لكان لازم ذلك صحة الصلاة مطلقا حتى في سعة الوقت.

وإن كانوا من المانعين : فإن قدّموا الأمر على النهي : فاللازم أيضا صحة الصلاة مطلقا. وإن قدّموا النهي على الأمر ، أو رأوا تساوي الأمر والنهي : فاللازم بطلان الصلاة حتى في ضيق الوقت. وعلى جميع التقادير : لا وجه للقول بالتفصيل أعني : بطلان الصلاة في السعة وصحّتها في الضيق ؛ بل يدور أمر الصلاة بين الصحة مطلقا حتى في سعة الوقت ، وبين بطلانها كذلك.

وأمّا الجواب الّذي تعلم منه ثمرة الأقوال : فتوضيح ذلك يتوقف على بيان حكم ما هنا من صور واحتمالات على القول بالامتناع.

وأمّا على القول بالجواز : ففي جميع الصور يحكم بالصحة من غير فرق بين ضيق الوقت وسعته ، ولا بين كون الاضطرار بسوء الاختيار وعدمه ولا بين كون وقوع الصلاة في حال الخروج أو الدخول أو البقاء ، لأن البناء على جواز اجتماع الأمر والنهي يستلزم الصحة في جميع الصور.

وأما على القول بالامتناع : فهناك صور يكون موردها ضيق الوقت. أما السعة : فسيأتي حكمها في كلام المصنف : «أمّا مع السعة فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضّد واقتضائه» فانتظر. أمّا الصور الّتي يكون موردها ضيق الوقت فهي ثلاث صور :

الصورة الأولى : تغليب الأمر على النهي مطلقا ؛ سوءا كان الاضطرار بسوء الاختيار أو لا ، وسواء وقعت الصلاة في حال الخروج أو في غير حال الخروج ، ولا إشكال في صحة الصلاة في جميع الفروض والصور المزبورة ؛ لأن حال الصلاة على الامتناع وترجيح الأمر مطلقا حالها على القول بالجواز ، فكما لا إشكال في صحة الصلاة في جميع الصور ـ على القول بالجواز ـ فكذلك على القول بالامتناع وترجيح الأمر مطلقا.

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الصورة الثانية : تغليب الأمر في الجملة ، كما إذا كان الاضطرار لا بسوء الاختيار أو بسوئه ؛ لكن وقعت الصلاة في حال الخروج ، فإنّ الصلاة حينئذ صحيحة أيضا بناء على القول بكون الخروج مأمورا به بدون جريان حكم المعصية عليه إذ معه يكون مبغوضا ، ولا يصلح للمقربيّة ، فلا تصح الصلاة. «أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت».

وما في «منتهى الدراية» حيث قال : «وهذا» أي : مع غلبة ملاك الأمر على النهي «إشارة إلى الصورة الثالثة : المتقدمة آنفا» واضح الفساد لأنّ الصورة الثالثة التي ذكرها في منتهى الدراية «هي تغليب النهي على الأمر مطلقا» لا غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت ، بل هذا من مصاديق الصورة ، الثانية : وهي تغليب الأمر على النهي «في الجملة» ، يعني : في بعض الموارد. ومن تلك الموارد : ما أشار إليه بقوله : «مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار». ووجه الصحة : عدم النهي لسقوطه بالاضطرار لا بسوء الاختيار.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : «أو معه» أي : مع الاضطرار بسوء الاختيار ، ولكن وقعت الصلاة في حال الخروج بناء على كونه مأمورا به ؛ إمّا لكونه مصداقا للتخلّص الواجب ، أو لكونه مقدمة له.

فعلى الأوّل : يكون الخروج واجبا نفسيا ، وعلى الثاني : يكون واجبا غيريا ولكن مع عدم جريان حكم المعصية عليه ، كما هو أحد الأقوال فيه.

«أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت» يعني : أنّ ضيق الوقت ـ كالاضطرار ـ رافع للحرمة ، والمستفاد من هذه العبارة : صحّة الصلاة في المكان المغصوب بشرطين : الأوّل : غلبة مصلحة الأمر على مفسدة النهي ، إذ مع غلبة مفسدته على مصلحة الأمر لا وجه لصحة الصلاة في المكان المغصوب عمدا.

الثاني : أن تكون الصلاة في ضيق الوقت.

الصورة الثالثة : هي تغليب النهي على الأمر ، ولا إشكال في بطلان الصلاة مطلقا في صورة العمد والعلم ؛ ولكن تصح الصلاة في صور تقديم النهي أو التساوي من ذوي الأعذار كالمحبوس ظلما في الغصب ؛ أو الناسي للغصب أو الحرمة ، أو الغافل عن الحرمة ، أو الجاهل بها قصورا لا تقصيرا.

والمتحصّل : أن حكم الصلاة مع ضيق الوقت هي الصحة في جميع الصور إلّا في صورة تقديم النهي على الأمر مع العمد والعلم ، فما أورده البعض على فتوى المشهور بصحّة الصلاة في حال الضيق غير وارد. هذا تمام الكلام مع ضيق الوقت.

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا مع سعة الوقت : «فالصّحة وعدمها مبنيّان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضّد واقتضائه».

وحاصل الكلام في المقام : أن في حكم الصلاة ـ مع غلبة ملاك الأمر على النهي في حال سعة الوقت ـ تفصيلا :

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة مشتملة على أمور : منها : كون الصلاة في المغصوب ضدا للصلاة في المباح بمعنى : أن كلّا منهما واف بالغرض الداعي إلى إيجاب الصلاة ، فلا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال ، لسقوط الأمر بإتيان إحداهما وعدم بقاء المجال لإتيان الأخرى.

ومنها : أن الصلاة في حال سعة الوقت فاقدة لمقدار من المصلحة المقابلة للمفسدة بسبب الكسر والانكسار مثلا : إذا كانت مصلحة الصلاة في المباح عشر درجات ، وفي المكان المغصوب خمس درجات : فلو صلّى في غير هذا المكان لحصلت العشر ، ولو صلّى فيه حصلت الخمس ، فحينئذ مع وقوع التضاد بينهما ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى مجال لاستيفاء الخمسة مع استيفاء الخمس الأولى بإتيانها في الغصب ، ونظرا إلى عدم جواز تفويت المصلحة يتوجه الأمر إلى خصوص الصلوات الواقعة في غير الغصب ، وتبقى الصلاة الواقعة فيه بلا أمر ؛ لعدم جواز التخيير بين ما تفوت به المصلحة المهمة ، وبين ما يفي بتمامها لكونه تفويتا للمصلحة.

ومنها : اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد وعدم اقتضائه ، مثلا : إن لم يكن الأمر بالفرد المباح مقتضيا للنهي عن الصلاة في الغصب صحت الصلاة لعدم مبغوضيّتها ، وإن كان مقتضيا له بطلت.

إذا عرفت هذه المقدمة فاتضح لك أمران :

الأول : التفصيل : وهو صحة الصلاة على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، وبطلانها على القول بالاقتضاء.

الثاني : صحة ما نسب إلى المشهور من التفصيل بين الضيق والسعة.

والصحة في الأول والبطلان في الثاني ، إذ يمكن أن يقال : إن المشهور قائلون بالامتناع مع تقديم الأمر والتضاد واقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ.

فيصح حينئذ ما نسب إليهم من الحكم بصحة الصلاة مع ضيق الوقت ، والبطلان مع سعة الوقت.

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والمتحصل : أنه على الامتناع وتقديم الأمر تصحّ الصلاة في حال ضيق الوقت مطلقا ، من غير فرق بين الاضطرار وغيره ، وبين الخروج والبقاء.

وأمّا مع السعة : فيبتني القول بالبطلان وعدمه على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد وعدمه. ومن الممكن أن يكون المشهور قائلين بالامتناع وتقديم الأمر على النهي واقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، فيصح التفصيل المنسوب إليهم.

وقبل بيان ثمرة الأقوال نذكر توضيح بعض عبارات المصنف طبقا لما في «منتهى الدراية» :

قوله : «فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة» إشارة إلى وجه بطلان الصلاة في المغصوب مع غلبة مصلحتها على ما فيها من المفسدة ، وكون غلبة المصلحة مقتضية للصحة ومانعة عن تأثير المفسدة المغلوبة في البطلان. وأن وجه البطلان هو النهي الغيري الناشئ عن الأمر بالضدّ وهو الصلاة في المباح ، فالفساد ناشئ عن النهي الغيري ، لا عن عدم المصلحة ، ولذا بنى البطلان على مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الّتي هي مبنية على وجود الملاك والمصلحة في الضّد ، ولم يبنه على عدم المصلحة. وقد أشار بقوله : «وإن كانت مصلحتها غالبة» إلى اندراجها في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ.

قوله : «أنّ الصلاة في غيرها تضادّها» يعني : أنّ الصلاة في غير الدار المغصوبة تضاد الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة. وقد تقدم التضاد بينهما.

قوله : «بناء على أنّه ..» إلخ قيد للتضاد ، يعني : أنّ التضاد مبني على سقوط الغرض الداعي إلى الأمر بالإتيان بأحد الفردين وعدم بقائه حتى يكون الفرد الآخر وافيا به.

قوله : «مع كونها أهم منها» يعني : مع كون الصلاة الأخرى ـ وهي الصلاة في غير المغصوب ـ أهم من الصلاة في المغصوب. ووجه الأهميّة : خلوها عن المنقصة الناشئة من اتحادها مع الغصب.

قوله : «لخلوها» تعليل للأهمية. والضمير في «لكنه» للشأن.

قوله : «فالصلاة في الغصب» متفرع على ما اختاره من عدم الاقتضاء «في سعة الوقت صحيحة ، وإن لم تكن مأمورا بها» ؛ لما تقدم في مبحث الضدّ من : أن الأمر بالشيء وإن لم يقتض النهي عن ضدّه ؛ لكنه يقتضي عدم الأمر بالضدّ ، فالساقط هو الأمر الفعلي دون الملاك والمحبوبية ، فلا مانع من فعل الضّد العبادي بداعي الملاك من دون حاجة في تصحيحه إلى الأمر.

٣٩

القول بالاجتماع ، وأمّا على القول بالامتناع ، فكذلك ، مع الاضطرار إلى الغصب ، لا

______________________________________________________

بقي الكلام في ثمرة الأقوال

وهي : صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بجواز الاجتماع مطلقا.

وأمّا على الامتناع : فكذلك لا إشكال في صحة الصلاة مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار ، أو مع سوء الاختيار إذا وقعت الصلاة في حال الخروج على القول بكون الخروج مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية عليه.

أما وجه الصحة فيما إذا لم يكن الاضطرار بسوء الاختيار فهو : عدم النهي لسقوطه بالاضطرار.

أما وجه الصحة فيما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار ووقوع الصلاة حال الخروج : فلكون الخروج إمّا واجبا نفسيا ، لكونه مصداقا للتخلّص الواجب ، أو واجبا غيريا لكونه مقدمة للواجب ، «أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت». يعني : لا إشكال في صحة الصلاة مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت. وأمّا لو كان في السعة فلا تصحّ الصلاة إذ مع السعة يكون الأمر متوجها إلى غير هذه الصلاة أعني : الصلاة في غير الغصب.

والمتحصّل : أنّ صحة الصلاة في المكان المغصوب مشروط بشرطين :

الأول : غلبة مصلحة الأمر على مفسدة النهي.

الثاني : أن تكون الصلاة في ضيق الوقت.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الاضطرار إلى الحرام قد يكون قهريا أي : لا يكون بسوء الاختيار ، وقد يكون بسوء الاختيار ، فإن كان من القسم الأول استلزم رفع الحرمة والمبغوضية ، فلا يكون ملاك التحريم مؤثرا ، فيكون ملاك الأمر بلا مزاحم ، فيؤثر ويلزم صحة العمل العبادي الّذي به يتحقق الحرام لارتفاع المانع.

وإن كان من القسم الثاني : فالاضطرار وإن كان مستلزما لرفع الحرمة لامتناع التكليف بغير المقدور عقلا إلّا أن الفعل يبقى مبغوضا وذا مفسدة مؤثرة في مبعديّته ؛ فلا يكون المجمع صحيحا لوجود المانع عن المقربيّة. هذا ممّا لا إشكال فيه ولا كلام.

وإنّما محلّ الكلام الذي عقد له المصنف هذا التنبيه هو : ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار ، واتّفق كون الفعل المضطرّ إليه مقدمة لواجب كالخروج عن الدار المغصوبة ،

٤٠