دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

الأحكام المتعلقة بالأفعال بعناوينها الأولية كما هو الحال (١) في وجوب إطاعة الوالد ، والوفاء بالنذر وشبهه في الأمور المباحة أو الراجحة (٢) ضرورة (٣) : إنه معه لا يكاد يتوهم (٤) عاقل أنّه إذا شكّ في رجحان شيء أو حلّيته جواز التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حلّيته.

نعم (٥) ؛ لا بأس بالتمسك به في جوازه ، بعد إحراز التمكّن منه والقدرة عليه فيما

______________________________________________________

«والتحقيق» ، والضمير في قوله : «تخصيصها» يرجع إلى العمومات المتكلفة لأحكام العناوين الثانوية.

فالمتحصل : أنه لا مجال للتمسك بعموم الوفاء بالنذر لإثبات صحة الوضوء بالمائع المضاف ؛ لأن الشك في صحته بالمضاف يوجب الشك في انعقاد النذر ، فيكون الشك في انطباق العنوان العام عليه لا في حكمه بعد إحراز عنوانه ، فيمتنع التمسك به ؛ لأن العمومات من قبيل الكبريات الشرعية فيتوقف استنتاج الحكم الشرعي منها على إحراز الصغرى ، ومع الشك في الصغرى لا ينفع العلم بالكبرى في حصول العلم بالنتيجة.

(١) هذا إشارة إلى أمثلة لحكم العنوان الثانوي المشروط بثبوت حكم خاص للعنوان الأوّلي.

(٢) أي الأمور المباحة. إشارة إلى شرط وجوب إطاعة الوالد ، والراجحة إشارة إلى شرط وجوب الوفاء بالنذر ، وشبهه فإنه قد ثبت في محله : أن موضوع وجوب إطاعة الوالد هو المباح أو غير الحرام ، وموضوع وجوب الوفاء بالنذر هو الأمر الراجح في نفسه.

(٣) تعليل لقوله : «لا مجال لتوهم الاستدلال» ضرورة : أنه معه أي : مع أخذ أحد أحكام العناوين الأولية في موضوعات أحكام العناوين الثانوية ، وقد عرفت توضيح ذلك ، والضمير في «رجحانه» و «حليته» يرجع إلى الشيء.

(٤) وجه عدم التوهم ما مر سابقا من : أن إثبات رجحان المنذور بدليل وجوب الوفاء بالنذر ، وكذا إثبات حلية ما أمر به الوالد بدليل وجوب إطاعته تشبّث بالدليل المتكفل للكبرى لإحراز الصغرى ، نظير إحراز عالمية من شك في علمه بدليل وجوب إكرام العلماء ، وهو باطل قطعا.

(٥) استدراك على ما أفاده في التحقيق من عدم المجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات «فيما إذا كان الشك من غير جهة تخصيصها» ـ أي : تخصيص العمومات المتكفلة لأحكام العناوين الثانوية.

وحاصل الاستدراك : أنه لا مانع من التمسك بعموم الدليل في إثبات جواز الشيء

٣٢١

لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا ، فإذا شك في جوازه صح التمسك بعموم دليلها (١) في الحكم بجوازها (٢) ، وإذا كانت (٣) محكومة بعناوينها الأولية بغير

______________________________________________________

بعد إحراز القدرة عليه في القسم الأوّل من قسمي ثبوت الحكم للشيء بعنوانه الثانوي وهو : ثبوت الحكم له بعنوانه الثانوي مطلقا أي : من دون اشتراطه بثبوت حكم خاص له بعنوانه الأولي كحرمة الفعل الضرري ، حيث إنها ثابتة للضرر الذي هو عنوان ثانوي من دون اعتبار حكم خاص للفعل بعنوانه الأولي ، فإذا فرضنا عدم دليل على دخل الرجحان في المنذور في انعقاد النذر ، أو الإباحة في موضوع وجوب إطاعة الوالد ، وشككنا في اعتبارهما فيهما ، فلا مانع من التمسك بعموم دليلي وجوب الوفاء بالنذر ، وإطاعة الوالد لوجوبهما ؛ لكون الشك حينئذ شكا في التخصيص ، فلا مانع من التمسك بعمومهما لنفي اعتبار الرجحان والإباحة في موضوعيّ النذر والإطاعة.

والضمائر في «جوازه» و «منه» و «عليه» راجعة إلى شيء ، وفي «به» راجع إلى عموم.

قوله : «لم يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا» يعني : فيما لم يؤخذ في موضوعات الأحكام بعناوينها الثانوية حكم من الأحكام الخمسة أصلا. هذا إشارة إلى ثبوت الحكم للشيء بعنوانه الثانوي مطلقا ، بلا اشتراط كونه محكوما بحكم خاص بعنوانه الأوّلي ، بل الحكم الثانوي كان واردا على جميع الأحكام الأولية.

(١) يعني : بعموم دليل أحكام الموضوعات بعناوينها الثانوية «في الحكم بجوازها».

(٢) أي بجواز الشيء ـ وكان الأولى تذكير الضمير ـ فلو فرض أنه شك في جواز الوضوء بمائع مضاف ، وتعلق به النذر ، ولم يثبت جوازه بالعنوان الأوّلي ، فلا بأس حينئذ بالتمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر ، وإثبات جوازه به.

(٣) يعني : وإذا كانت موضوعات الأحكام محكومة بعناوينها الأولية بغير الأحكام الثابتة لها بالعناوين الثانوية ، والمقصود هو : بيان مطلب جديد غير ما تقدم ومضى.

وتوضيح ذلك : أن الحكم بعنوانه الأولي قد يكون لا اقتضائيا فلا يعارض الحكم بعنوانه الثانوي الاقتضائي ، مثلا : حلية الماء لا اقتضائي ، ولهذا لا تعارض حرمته الطارئة لنهي الوالد عن شربه ، أو وجوبه الطارئ لتوقف الحياة عليه ، وهذا مما لا إشكال فيه إذ لا تعارض في البين.

وقد يكون الشيء بالعنوان الأوّلي مشكوك الحكم ، فحينئذ يجوز ارتكابه بلحاظ الحكم الثابت له بالعنوان الثانوي بلا مزاحمة أصلا.

وقد يكون العنوان الأوّلي معلوم الحكم ـ كوجوب الوضوء ـ فإنه إذ طرأ عليه عنوان الضرر ، وصار الوضوء ضرريا ، فلا محالة يقع التزاحم بين مقتضي الوجوب ومقتضي

٣٢٢

حكمها بعناوينها الثانوية وقع المزاحمة بين المقتضيين ، ويؤثر الأقوى منهما لو كان في البين ؛ وإلا (١) لم يؤثّر أحدهما ، وإلّا (٢) لزم الترجيح بلا مرجح ، فليحكم عليه حينئذ (٣) بحكم آخر ؛ كالإباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب ، والآخر للحرمة مثلا.

وأما (٤) صحة الصوم في السفر بنذره فيه ـ بناء على عدم صحته فيه بدونه ـ وكذا

______________________________________________________

الحرمة يكون الحكم الفعلي تابعا لأقوى المقتضيين لو كان أحدهما أقوى من الآخر ، ولو كانا متساويين : تساقطا لقبح الترجيح بلا مرجح عقلا ، فيحكم عليه بحكم آخر غير ما يقتضيه الدليلان ـ كالإباحة ـ يعني : بها العقلية ـ وهي التخيير ـ فيما إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب ، والآخر مقتضيا للحرمة.

(١) يعني : وإن لم يكن أحدهما أقوى ، بل كانا متساويين «لم يؤثر أحدهما».

(٢) يعني : لو أثّر أحدهما مع عدم كونه أقوى «لزم الترجيح بلا مرجح» ، وهو باطل عقلا.

(٣) يعني : فليحكم على الشيء حين تساوي المقتضيين بحكم آخر كالإباحة فيما إذا كان أحد المقتضيين مقتضيا للوجوب ، والآخر للحرمة.

(٤) يعني : وأما الجواب عن التأييد الذي ذكره المستدل من «صحة الصوم في السفر ..» إلخ ، قوله : «وأما صحة الصوم في السفر ..» إلخ. شروع في بيان الجواب عن التأييد الذي ذكره المستدل بالعمومات لإحراز حكم الفرد المشتبه من غير جهة التخصيص.

وقد أجاب المصنف عن هذا التأييد بوجوه :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «فإنما هو لدليل خاص كاشف عن رجحانهما» ، وحاصل هذا الوجه : يرجع إلى إثبات الرجحان في الصوم في السفر ، والإحرام قبل الميقات ، والكاشف عن هذا الرجحان هو : النص الخاص الدال على صحة الصوم في السفر ، والإحرام قبل الميقات بسبب النذر ، بحيث لو لا هذا النص لكان كلاهما باطلا ؛ لما دلّ من النص والإجماع على بطلانهما.

والمتحصل : أن دليل صحة النذر فيهما يكشف عن رجحانهما ؛ لا أنّ عموم دليل وجوب الوفاء بالنذر يدل على صحة النذر فيهما حتى يقال بصحة التمسك بالعام ، وإن لم يكن الشك من جهة التخصيص.

الوجه الثاني من وجوه الجواب : هو ما أشار إليه بقوله : «وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما» ، وحاصله : صيرورة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات راجحين حين تعلق النذر بهما ؛ لانطباق عنوان راجح عليهما ملازم للنذر ، أو مقارن له ؛ إذ لو

٣٢٣

الإحرام قبل الميقات ، فإنّما هو لدليل خاص ، كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات ، وإنما (١) لم يؤمر بهما استحبابا أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر ، وإما

______________________________________________________

كان النذر علة لذلك العنوان لزم تأخر الرجحان عن النذر ، وكونه ناشئا منه وهو ينافي ما دلّ على اعتبار الرجحان في متعلق النذر ، فالجمع بينه وبين ما دل على صحة النذر في هذين الموردين يقتضي أن يكون الرجحان في المتعلق قبل النذر ، أو في رتبته ، فليسا خارجين عن عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر.

الوجه الثالث من وجوه الجواب : ما أشار إليه بقوله : «هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل» يعني : ما دل على صحة نذر الصوم والإحرام في السفر وقبل الميقات ؛ لأنه أخص من عموم دليل اعتبار الرجحان في المنذور قبل تعلق النذر به ، ومقتضى التخصيص به هو : الاكتفاء بالرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر.

وحاصل هذا الوجه الثالث : هو الالتزام بتخصيص أدلة اعتبار الرجحان في متعلق النذر ؛ بما دل على صحة الصوم في السفر ، والإحرام قبل الميقات بالنذر فيقال : إنه يعتبر في متعلق النذر الرجحان إلا في هذين الموردين ؛ فيجمع بين عموم ما دل على اعتبار الرجحان في المنذور ، وبين ما دل على صحة النذر في المثالين بعدم اعتبار الرجحان فيهما قبل النذر ، وكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر ، فلو كان المنذور مرجوحا في نفسه لم ينعقد النذر وإن صار بسبب النذر راجحا إلا في هذين الموردين. فإنه ينعقد النذر فيهما على أن يؤتى بهما على وجه العبادة والتقرّب بهما منه تعالى.

والمصنف فصّل بين هذا الوجه الثالث ، وبين الوجهين المتقدمين بالإشكال على الوجه الثاني ، وكان الأفضل بل اللازم تعرضه لهذا الوجه الثالث بعد الوجهين بلا فصل ، إلّا إن يقال : إن الإشكال لا يختص بالوجه الثالث ، بل يرد على الوجه الثاني أيضا ، فلذا أخره عنه. توضيح العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) إشارة إلى توهم وهو : أن الرجحان الذاتي إن كان ملزما اقتضى تشريع الوجوب ، وإن لم يكن ملزما اقتضى تشريع الندب ، مع إنه ليس كذلك ضرورة : حرمتهما لو لا النذر ، وعدم تشريع الوجوب إلا بعد النذر ، وهذا كاشف عن عدم الرجحان الذاتي لهما قبله أصلا.

وحاصل الدفع : «إنما لم يؤمر بهما استحبابا ، أو وجوبا لمانع يرتفع مع النذر» أي : يرتفع مقارنا لوجود النذر لا متأخرا عنه ؛ بأن يكون معلولا له ، وإلا يلزم حينئذ تعلق النذر بالمرجوح ، فيرجع الإشكال.

٣٢٤

لصيرورتهما (١) راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك (٢) ، كما ربما يدل عليه ما في الخبر ، من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت.

لا يقال (٣) : لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما ، ضرورة : كون

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فخلاصة الكلام في دفع التوهم المزبور هو : أن مجرد وجود المقتضي ـ على فرض وجوده ـ لا يكفي في تشريع الحكم ؛ بل لا بد من عدم المانع أيضا ، فاقتران رجحان الصوم ذاتا في السفر ، وكذا الإحرام قبل الميقات بوجود المانع يمنع عن تشريع الاستحباب قبل النذر بهما ، فبالنذر يرتفع المانع ويؤثر المقتضي في التشريع بلا مانع بعد ارتفاع هذا المانع مقارنا لوجود النذر ؛ لئلا يلزم تعلق النذر بالمرجوح ، مع إنه لا بد من تعلقه بالراجح ، ولذا قال المصنف : ـ على ما في أكثر النسخ ـ «مع النذر» ، ولم يقل «بالنذر».

(١) أي : صيرورة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات راجحين قبل تعلق النذر بهما ، وقد تقدم توضيح هذا الوجه الثاني من وجوه الجواب عن التأييد المذكور ، فلا حاجة إلى التكرار.

(٢) أي : راجحين ، كما يدل على هذا الوجه الثاني : «ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت» في عدم الرجحان ، فكما لا رجحان في الصلاة قبل الوقت ، فكذلك في الإحرام قبل الميقات ، فهذا الخبر يدل على عدم الرجحان في الإحرام قبل الميقات ؛ بل الرجحان يحدث للمتعلق حين تعلق النذر بهما ، وإنما عبّر المصنف بقوله : «كما ربما يدل» دون «كما يدل» ؛ لأجل احتمال وجود الرجحان في ذات الصلاة قبل الوقت ، غاية الأمر : أن هناك مانعا عن الجعل يرتفع ذلك المانع بدخول الوقت ، فيرجع إلى الوجه الأول وهو ما ذكره بقوله : «فإنما هو لدليل خاص».

ومن هنا يظهر الفرق بين الوجهين ، وحاصله : أن الرجحان على الوجه الأول : يكون باقتضاء الإحرام قبل الميقات ، والصوم في السفر ، وعدم الجعل فعلا على طبق الرجحان الذاتي إنما يكون لمانع يرتفع بالنذر. وعلى الوجه الثاني : لا يكون الرجحان في ذاتهما أصلا ؛ بل يحدث الرجحان بطروّ عنوان راجح ملازم لوجود النذر المتعلق بهما ، فيفترق الوجهان في كون الرجحان في ذاتيهما على الأول ، وفي الخارج عن ذاتيهما على الثاني ، كما أنهما يشتركان في تلازم الرجحان الفعلي مع النذر.

(٣) هذا إشكال على الوجه الثاني الذي تعرّض له بقوله : «وإما لصيرورتهما راجحين».

وحاصل الإشكال : أن الرجحان الناشئ من قبل النذر لا يجدي في عبادية الصوم والإحرام اللذين هما من العبادات قطعا ؛ إذ الأمر بالوفاء بالنذر توصلي لا تعبدي ، فلا يندفع إشكال عبادية الصوم في السفر ، والإحرام قبل الميقات بهذا الوجه الثاني ، لأن

٣٢٥

وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه إلا الإتيان بالمنذور بأيّ داع كان.

فإنه يقال (١) : عباديتهما إنما تكون لأجل كشف (٢) دليل صحّتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ، ملازم لتعلق النذر بهما.

هذا (٣) لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل (٤) ، وإلا (٥) أمكن أن يقال : بكفاية الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديتهما ، بعد تعلّق النذر بإتيانهما عباديا ، ومتقرّبا بهما منه تعالى ، فإنه (٦) وإن لم

______________________________________________________

الرجحان الآتي من قبل النذر غير كاف في العبادية ؛ إذ لا شبهة في لزوم الإتيان بهذا الصوم والإحرام بعد النذر بقصد القربة.

ومن المعلوم : أن قصد القربة يلازم العبادة ، ولا عبادية لهما ؛ إذ قبل تعلق النذر لم يكونا عبادة ، وبعد تعلق النذر لم يدل دليل على وجوب قصد القربة ؛ لأن الدليل منحصر في «أوفوا بالنذور» ، وهو لا يدل على لزوم قصد القربة ، «ضرورة : كون وجوب الوفاء توصليا لا يعتبر في سقوطه الإتيان بالمنذور» فقط «بأيّ داع كان». هذا بخلاف ما لو ثبت رجحانهما قبل تعلق النذر كما هو مقتضى الوجه الأول.

قوله : «ضرورة» تعليل لقوله : «لا يجدي» يعني : أن وجوب الوفاء الناشئ عن الرجحان الآتي من قبل النذر توصلي ، فلا يجدي في عبادية الصوم والإحرام المنذورين إذ لا منشأ لها كما عرفت.

(١) هذا دفع للإشكال عن الوجه الثاني ، وحاصل الدفع : أن العبادية لم تنشأ من الرجحان الآتي من قبل النذر ، بل نشأت من انطباق عنوان راجح على الصوم والإحرام ملازم لتعلق النذر ، بحيث لا يتحقق ذلك العنوان إلا حين النذر ، فعباديتهما ناشئة عن ذلك العنوان ، لا عن النذر حتى يرد عليه بعدم كفاية الرجحان الناشئ عن النذر.

(٢) هذا الكشف إنما يكون بدلالة الاقتضاء.

(٣) إشارة إلى الوجه الثالث من الوجوه التي أجاب بها المصنف عن التأييد المزبور ، وقد تقدم توضيح هذا الوجه فلا حاجة إلى التكرار رعاية للاختصار.

(٤) أي : الدليل الدال على صحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات بالنذر.

(٥) يعني : ولو قلنا بتخصيص عموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر ، قبل تعلق النذر به بالدليل الدّال على صحة نذرهما والاكتفاء برجحانهما الناشئ من قبل النذر.

(٦) أي : الناذر وهذا إشارة إلى إشكال بتقريب : أن القدرة على إيجاد المنذور شرط في صحة النذر قطعا وهذا الوجه الثالث ـ وهو الاكتفاء بالرجحان الناشئ من قبل النذر في صحة النذر ـ يستلزم عدم القدرة على المنذور ، وذلك لأنه قبل النذر لا رجحان ولا

٣٢٦

يتمكّن من إتيانهما كذلك (١) قبله إلا أنه (٢) يتمكن منه بعده ، ولا يعتبر في صحة النذر إلا التمكن من الوفاء ولو بسببه ، فتأمّل جيّدا.

بقي شيء (٣) وهو : أنه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص في إحراز عدم

______________________________________________________

عبادية للصوم والإحرام ، فلا يتمكن من الإتيان بهما على وجه العبادة ، فلا يتعلق به ، لأنه غير مقدور وعدم تعلقه به يكشف عن كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته.

(١) أي : على وجه العبادة.

(٢) إشارة إلى دفع الاشكال المزبور.

وحاصل الدفع : أن الإتيان بهما كذلك قبل النذر وإن كان غير مقدور ، ولكن المعتبر في النذر عقلا هو : القدرة على المنذور حين العمل في ظرف الوفاء بالنذر ؛ لا حين عقد النذر أو قبله ، ومن المعلوم : أنه حين العمل بالنذر يتمكن الناذر من الإتيان بهما متقربا إلى الله تعالى ؛ وذلك لوجوبهما بسبب النذر ، فعدم القدرة حين النذر أو قبله لم يقدح في تعلق النذر بهما لكفاية القدرة الحاصلة لهما بعد تعلق النذر بهما ، الموجبة لرجحانهما ، وعباديتهما بعده ، فيصح الإتيان بهما على وجه العبادة.

وقد أشار إليه بقوله : «ولو بسببه» أي : بسبب النذر ؛ إذ المعتبر من الرجحان المقرّب ما يكون حاصلا في ظرف الفعل ، إذ به يكون المنذور مقدورا في ظرف الوفاء بالنذر ، وهذا المقدار من القدرة كاف في صحة النذر.

ثم الفرق بين الوجوه الثلاثة ظاهر ؛ إذ الأول : ناظر إلى وجود الملاك قبل النذر ، والثاني : إلى وجوده حين النذر لا بسببه ؛ بل بانطباق عنوان راجح على المنذور ملازم لتعلق النذر لكشف دليل صحة النذر عن ذلك العنوان ، وهذان الوجهان مبنيان على الالتزام برجحان المنذور من غير ناحية النذر. والثالث : ناظر إلى عدم اعتبار رجحان المنذور بتخصيص عموم ما دل على اعتبار الرجحان قبل النذر ، والاكتفاء برجحانه وبعده ولو بسببه.

قوله : «فتأمل جيدا» تدقيقي بقرينة «جيدا» ، أو إشارة إلى : أن اعتبار القدرة على المنذور حين العمل مستلزم للدور ؛ لأن النذر يتوقف على القدرة بإتيان المنذور حين العمل ، والقدرة حين العمل تتوقف على النذر على حسب الفرض ، فيلزم الدور الباطل.

في دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص

(٣) توضيح ذلك : أنه إذا قال المولى : «أكرم العلماء» ، ثم علمنا من خطاب آخر أو

٣٢٧

كون ما شك في أنه من مصاديق العام ، مع العلم بعدم كونه محكوما بحكمه مصداقا (١) له ، مثل : ما إذا علم أنّ زيدا يحرم إكرامه ، وشكّ في أنه عالم ، فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص أكرم العلماء إنه ليس بعالم ، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأحكام (٢)؟ فيه إشكال ؛ لاحتمال (٣) اختصاص حجيتها بما إذا شكّ

______________________________________________________

إجماع ونحوه : حرمة إكرام زيد ؛ ولكن نشك في أن زيدا من العلماء ، وحرمة إكرامه تخصيص بالنسبة إلى العام أم ليس من العلماء فلا تخصيص ، فالشك في التخصيص بعد العلم بمراد المولى ، والكلام حينئذ في أن أصالة عدم التخصيص هل تجري في المقام أم لا؟ وفائدته أنها لو جرت كشفت عن عدم علم زيد ، فيجري على زيد أحكام الجهال ، بخلاف ما لم تجري أصالة عدم التخصيص ، فإن زيدا حينئذ محكوم بعدم الإكرام فقط ، فلا يجري عليه حكم العلماء ولا حكم الجهال.

وبعبارة أخرى : إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص وهو فيما علم بعدم كون زيد محكوما بحكم العام ، لكن شك في أن عدم كونه محكوما بحكم العام هل هو لعدم كونه فردا للعام فهو خارج عن العام موضوعا هذا معنى التخصص. أو أنه فرد له لكنه غير محكوم بحكمه فهو خارج عنه حكما فقط. وهذا معنى التخصيص.

فيقع الكلام في أنه هل يجوز التمسك بالعام وإجراء أصالة عدم التخصيص ليثبت إن المشكوك ليس من أفراد العام أم لا يجوز؟ وهذا خلاف التمسك بالعام في سائر الموارد ؛ لأن ذلك إنما هو لإحراز الحكم مع العلم بمصداقية الفرد المشكوك للعام ، وهنا يكون الأمر بالعكس تماما.

وكيف كان ؛ ففي إجراء أصالة عدم التخصيص في العام لإحراز عدم فردية المشتبه له إشكال ، أشار إليه بقوله : «فيه إشكال».

(١) خبر «كون» في قوله : «عدم كون ما شك» ، وضمير «كونه» راجع إلى «ما» الموصول ، وضمير «بحكمه وله» راجعان إلى العام.

(٢) كما إذا فرض أن للجاهل أحكاما ، فإذا جرت أصالة عدم التخصيص في المثال ثبت أن زيدا جاهل ، فتجري عليه أحكام الجاهل.

(٣) إشارة إلى منشأ الإشكال بتقريب : أن أصالة عدم التخصيص ـ وإن كانت من الأصول العقلائية ومثبتاتها حجة ـ لكن القدر المتيقن من ديدن العلماء إجراؤها حين الشك في المراد ؛ لا بعد العلم بالمراد والشك في شيء آخر كما هو مفروض في المقام.

وتفصيل الكلام في توضيح الإشكال : أنه لمّا كان دليل اعتبار أصالة عدم

٣٢٨

في كون فرد العام محكوما بحكمه ، كما هو قضية عمومه ، والمثبت (١) من الأصول اللفظية وإن كان حجة ، إلا أنه لا بد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ، ولا

______________________________________________________

التخصيص بناء العقلاء ، ولم يثبت بناؤهم عليها إلا في الشك في المراد ، ولذا عدت من الأصول المرادية ، فلا تجري إلا فيما إذا شك في المراد. وأما إذا علم المراد وشك في كيفية الإرادة ، وأنها بنحو التخصيص أو التخصص ، فلا تجري لإثبات كيفيتها ، ففي مثال المتن يكون المراد ـ وهو عدم وجوب إكرام زيد ـ معلوما ؛ لكن لا يعلم أن عدم وجوب إكرامه هل هو لعدم كون زيد فردا للعام ـ أي : ليس من العلماء ـ حتى يكون خروجه عن «أكرم العلماء» تخصصا ، أو لعدم كونه بحكم العام مع كونه فردا له ـ أي : أنه من العلماء لكن لا يجب إكرامه ـ حتى يكون خروجه عن «أكرم العلماء» تخصيصا ، فأصالة عدم التخصيص لا تجري هنا لإثبات كيفية إرادة المتكلم لعدم وجوب إكرام زيد ، وأن عدم وجوب إكرامه بنحو التخصص ـ أي : لعدم كونه عالما ـ حتى يترتب عليه آثار ضدّه كما إذا كان للجاهل أحكام ، فبأصالة عدم تخصيص العام لا يحرز إن زيدا ليس فردا للعام ليترتب عليه أحكام الجاهل.

والمتحصل : أنه لمّا كان دليل اعتبار أصالة عدم التخصيص بناء العقلاء كانت مختصة بما علم كونه فردا للعام ، وشك في خروجه عن حكمه ، ولا أقل من احتمال اختصاصها بذلك ، ومجرد الاحتمال كاف في عدم جريانها فيما شك في فرديته للعام.

والسر في ذلك واضح ، فإن بناء العقلاء دليل لبّي ، فلا بد من الاقتصار على المتيقن منه وهو إثبات حكم العام لما علم أنه من أفراده ، فيختص جريان أصالة عدم التخصيص بهذا المورد ، وأما ما عداه كمورد البحث فلا تجري فيه ؛ لعدم ثبوت بناء العقلاء على عدم التخصيص فيه.

(١) إشارة إلى دفع توهم بتقريب : إن جريان أصالة عدم التخصيص وإثبات عدم فردية المشتبه للعام ، وترتيب أحكام ضد العام عليه نظرا إلى حجية مثبتات الأصول اللفظية ـ التي منها أصالة عدم التخصيص ـ لا يختص بما علم من أنه من أفراد العام ؛ بل يجري في محل الكلام أيضا.

إلّا إن هذا التوهم مدفوع ؛ بأن أصالة عدم التخصيص ـ وهي أصالة العموم ـ وإن كانت من الأمارات التي تكون حجة في المداليل الالتزامية ؛ إلّا إن مقدار حجيتها تابع لدلالة اعتبارها ، ومن المعلوم : أن دليل الاعتبار في المقام ليس إطلاق اللفظ ؛ بل هو لبّي ، فلا بد من الأخذ بالمقدار المتيقّن ، وهو ما إذا كان الشك في المراد لا في كيفية الإرادة.

قوله : «ولا دليل هاهنا» يعني : في أصالة العموم ، أو أصالة عدم التخصيص.

٣٢٩

دليل هاهنا إلا السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك ، فلا تغفل.

______________________________________________________

قوله : «ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك» يعني : على إحراز أن ما شك في فرديته للعام ليس فردا له ؛ بل استقر بناؤهم فقط على إحراز حكم العام لما علم كونه فردا له ، وشك في خروجه عن حكمه بالتخصيص ، فيرجعون فيه إلى أصالة عدم التخصيص.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من عقد هذا الفصل هو : بيان حكم العام المخصص بالمخصص المجمل مفهوما أو مصداقا ، وهذا من أهم مباحث العام والخاص ، والاحتمالات في المخصص المجمل ثمانية ؛ أربع صور منها تسمى بالشبهات المفهومية ، وأربع صور تسمى بالشبهات المصداقية.

أما صور الشبهات المفهومية فهي كالتالي :

الأولى : أن يكون المخصص متصلا مردّدا بين الأقل والأكثر.

الثانية : أن يكون متصلا مرددا بين المتباينين.

الثالثة : أن يكون منفصلا مرددا بين الأقل والأكثر.

الرابعة : أن يكون منفصلا مرددا بين المتباينين.

وحكم الصورة الأولى والثانية : هو سراية إجمال المخصص إلى العام حقيقة ، بمعنى : أن المخصص يمنع عن انعقاد ظهور العام في العموم.

وأما حكم الصورة الثالثة : فهو عدم سراية إجمال المخصص إلى العام أصلا.

وحكم الصورة الرابعة : هو السراية حكما فقط ، بمعنى : أن الخاص يزاحم حجية العام فيسقط العام عن الحجية.

أما صور الشبهات المصداقية : فحكم الصورة الأولى والثانية : هو عدم جواز التمسك بعموم العام ، وفي جواز التمسك بالعام في الصورتين الأخيرتين خلاف ، الحق عند المصنف عدم الجواز. هذا فيما إذا كان المخصص المجمل لفظيا.

٢ ـ وأما إذا كان لبيا كإجماع أو سيرة أو حكم العقل : فلا يجوز التمسك بالعام إن كان المخصص في غاية الوضوح في اتكال المتكلم عليه ؛ كما لو اجتمع أعداء المولى في داره ليقتلوه ، وكان أبناؤه حاضرين عنده يدافع عنه بعضهم ، فقال المولى لعبده : «اقتل كل من في الدار» فإن العقل يخصص الابن عن هذا الحكم ، فهو كالمتصل لا ينعقد معه ظهور العام في العموم.

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن لم يكن المخصص اللبي كذلك : فيجوز التمسك بالعام لانعقاد ظهور له ، فهو كالمخصص المنفصل هذا على خلاف ما تقدم منه في المخصص اللفظي ، حيث لم يجوّز المصنف التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ولو كان المخصص منفصلا ، ولكن يجوّز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في المخصص اللبي إذا كان المخصص اللبي كالمنفصل ، فهناك سؤال يطرح نفسه : ما الفرق بين هذا القسم من اللبي واللفظي المنفصل أي : ما الفرق بين أن يقال : «أكرم جيراني» ، ويحكم العقل بخروج العدوّ ، وبين أن يقال : «أكرم جيراني» ويقال بعد ذلك : «لا تكرم جاري العدوّ» ، حيث يتمسكون بالعام عند الشك في الأول دون الثاني.

فنقول في الجواب عن سؤال الفرق : إنه فرق بينهما وحاصله : أن الملقى من السيد في اللبي حجة واحدة ، فلا بد من اتباعها فيما لا حجة على خلافها ، ولا حجة على خلافها إلا القطع بأنه لا يريد إكرام عدوّه ، فالخارج منه معلوم العداوة ، وأما المشكوك عداوته : فلا بد من العمل فيه بالعموم ؛ لعدم قيام حجة أخرى على خلاف العموم ، هذا بخلاف المخصص اللفظي المنفصل فإن الملقى من السيد حجتان ، ومقتضى تقديم الخاص على العام هو : أن العام لا يعم الخاص من الأول ، فلا يكون حجة إلا فيما سوى الخاص.

وقد استدل المصنف على جواز التمسك بالعام في المشتبه فيما إذا كان المخصص لبيّا بوجوه.

الأول : صحة مؤاخذة السيد للعبد إذا ترك إكرام واحد من الجيران ، لاحتمال العداوة.

الثاني : حسن عقوبته على مخالفته.

الثالث : عدم صحة اعتذار العبد بمجرّد احتمال العداوة.

٣ ـ إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي.

وملخّص الكلام في الأصل الموضوعي هو : أن المخصص المنفصل أو المتصل بالاستثناء أو الشرط أو الغاية ـ مثل : «أكرم العلماء إلا فساقهم» ، أو إن عدلوا ، أو إلى أن يفسقوا ـ لم يوجب تعنون العام بعنوان خاص ، فإذا شك في فرد أنه فاسق أو لا فباستصحاب عدم النسبة بينه وبين الفسق من الأزل يخرج الفرد المشتبه عن الخاص ، ويبقى مندرجا تحت العام ، ويترتب عليه حكمه.

٣٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

وهكذا الأمر في المثال الذي ذكره المصنف من المرأة القرشية فيقال : إن لنا دليلا عاما دلّ على أن كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين سنة ، ولنا دليل خاص دل على أن المرأة القرشية تحيض إلى ستين.

ونتيجة الجمع هي : «كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلّا إن تكون امرأة من قريش» ، فإذا شك في امرأة أنها قرشية أو غير قرشية ؛ فباستصحاب عدم النسبة بينها وبين قريش تخرج المرأة عن تحت عنوان القرشية ، وتبقى مندرجة تحت العام ، ويكون حيضها إلى خمسين ، فيمكن إحراز حكم المرأة المشكوكة قرشيتها بالأصل الموضوعي وهو الاستصحاب ، ثم استصحاب العدم الأزلي بنحو العدم المحمولي أي : مفاد ليس التامة لا إشكال فيه لليقين السابق ، ولكن بنحو العدم النعتي أي : ليس الناقصة مشكل ؛ لعدم الحالة السابقة ، لأن صفة القرشية غير مسبوقة بالعدم ، لاستحالة الصفة من دون الموصوف.

٤ ـ وهم وإزاحة :

تقريب الوهم : أن الوضوء بعنوانه الأوّلي محكوم بحكم خاص بالوجوب أو الاستحباب ، فإذا تعلق به النذر كان له حكم آخر بعنوانه الثانوي أعني : عنوان النذر ، فإذا فرض إجمال الدليل الدال على ثبوت الحكم للوضوء بعنوانه الأولي ، ولا يعلم أن المراد به هو الوضوء بمطلق الماء ولو كان مضافا أو بالماء المطلق ، فلا يصح الوضوء بالماء المضاف فالمتيقّن هو الوضوء بالماء المطلق ، وإذا شك في صحته بالماء المضاف قال بعضهم : يجوز التمسك بعموم «أوفوا بالنذور» لإثبات صحة الوضوء بالمائع المضاف بتقريب : أنه يجب الإتيان به وفاء بالنذر ، وكل ما يجب الإتيان به كان صحيحا لعدم وجوب إتيان الباطل. فالوضوء بالماء المضاف يكون صحيحا.

ويؤيده : ما ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر. فيقال : إنه إذا صح الإحرام قبل الميقات ، والصوم في السفر بالنذر مع القطع ببطلانهما بدون النذر ، فصحة الوضوء بالمائع المضاف بالنذر مع الشك في بطلانه بدون النذر بطريق أولى.

أما وجه التعبير بالتأييد دون الدليل : فلاحتمال أن تكون صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر من جهة الأدلة الخاصة كالروايات.

٥ ـ إزاحة الوهم ودفعه :

وحاصل الدفع : أنه لا يصح التمسك بالعمومات المتكفلة لأحكام العناوين الثانوية ،

٣٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فيما إذا شك في فرد من غير جهة احتمال التخصيص بل من جهة أخرى إذا كان موضوع الحكم الثانوي مقيدا بحكم من أحكام العناوين الأولية ؛ كصحة الصوم في السفر بالنذر مثلا حيث يكون صحة الصوم بعنوانه الثانوي أعني : النذر مشروطة بأن يكون الصوم بعنوانه الأولي راجحا ، فحينئذ لا مجال للتمسك بعموم الوفاء بالنذر ؛ لإثبات صحة الوضوء بالماء المضاف بالنذر ؛ لأن الشك في صحته بالماء المضاف يوجب الشك في أصل انعقاد النذر ؛ لعدم إحراز الرجحان الذي هو شرط لانعقاد النذر.

٦ ـ إذا كانت موضوعات الأحكام محكومة بعناوينها الأولية بغير الأحكام الثابتة لها بالعناوين الثانوية ، فتقع المزاحمة بين المقتضيين ، فيؤثّر أقوى منهما إن كان في البين ، مثلا : إذا فرض وجوب الوضوء بعنوانه الأولي ، وطرأ عليه عنوان الضرر فصار حراما بعنوانه الثانوي ، فيقع التزاحم بين مقتضي الوجوب ومقتضي الحرمة ، ويكون الحكم الفعلي تابعا لأقوى المقتضيين لو كان مقتضى في أحدهما أقوى منه في الآخر ؛ ولو لم يكن كذلك بأن كانا متساويين تساقطا لقبح العقل بالترجيح بلا مرجح ، فيحكم بحكم آخر كالإباحة يعني بها : الإباحة العقلية وهي التخيير في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

٧ ـ أما الجواب عن التأييد ـ يعني : صحة الصوم في السفر ، وصحة الإحرام قبل الميقات ـ فهو بوجوه :

الأول : أن يكون ما دل على صحتهما كاشفا عن رجحانهما ذاتا ، وإنما لم يؤمر بهما استحبابا أو وجوبا ؛ لاقتران رجحانهما بمانع لا يرتفع إلا بالنذر.

الثاني : أن يكون ما دلّ على صحتهما بالنذر كاشفا عن صيرورتهما راجحين بالنذر ، بعد ما لم يكونا راجحين ذاتا.

الثالث : أن يكون ما دل على صحتهما بالنذر مخصصا لما دل على اعتبار الرجحان في متعلق النذر ، فيعتبر في متعلق النذر الرجحان إلا في هذين الموردين.

٨ ـ الإشكال على الوجه الثاني والوجه الثالث من الجواب بما حاصله : أنه لا ريب في أن الوجوب الحادث بالنذر توصلي يسقط بمجرد الإتيان بالمنذور بأيّ داع كان ، كما لا ريب في أن كلا من الصوم والإحرام بعد ما تعلّق بهما النذر يكون عباديا لا يسقط الأمر ولا يحصل الغرض إلا بقصد القربة.

٣٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فيقال في تقريب الإشكال : من أين نشأت عباديتهما؟ بعد الالتزام بعدم رجحانهما ذاتا كما هو المفروض في الوجه الثاني والوجه الثالث.

وأما الجواب فحاصله : أن المقصود من صيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما هو : عروض عنوان راجح عبادي لهما بسبب النذر ، فالعبادية جاءت من هذه الجهة لا لمجرد صيرورتهما راجحين ، كي يقال : إن الوجوب بالنذر توصلي ، أو يقال : بأن قصد القربة فيهما ليس لصيرورتهما عباديين بالنذر ؛ بل لأجل تعلق النذر بإتيانهما متقربا بهما إلى الله تعالى.

ومن المعلوم : إنه إذا نذر إتيانهما على وجه خاص فلا محالة لا يحصل الوفاء به ، إلا إذا أتى بهما على ذلك الوجه.

٩ ـ دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص :

إذا قال المولى لعبده مثلا : «أكرم العلماء» ، وعلمنا : إن زيدا لا يجب إكرامه قطعا ؛ ولكن لا نعلم أنه هل هو عالم قد خرج عن العام بالتخصيص ، أو أنه جاهل خارج عنه تخصّصا؟ فبأصالة العموم هل يحكم بأنه خارج تخصّصا ، وأنه جاهل ليس بعالم على نحو يترتب عليه أحكام الجاهل أم لا.

يقول المصنف : إن بذلك الحكم إشكالا ، ويظهر منه ترجيح عدم جريان وأصالة العموم ؛ لاحتمال اختصاص حجيّتها فيما إذا شك في المراد لا في كيفية الإرادة ، وأنها بنحو التخصيص أو التخصّص ؛ لأن دليل اعتبارها هو بناء العقلاء المختص بما إذا شك في المراد ، والمراد في مثال المتن ـ وهو عدم وجوب بإكرام زيد ـ معلوم.

١٠ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ سراية إجمال المخصص المجمل إلى العام حقيقة في الصورة الأولى والثانية من صور الشبهات المفهومية.

٢ ـ وسرايته إليه حكما فقط في الصورة الرابعة.

٣ ـ وعدم السراية أصلا في الصورة الثالثة.

٤ ـ عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مطلقا.

٥ ـ إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي إذا كان التخصيص بالمنفصل ، أو كالاستثناء من المتصل.

٦ ـ عدم جواز التمسك بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثانوية لإثبات صحة

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الفرد المشكوك ، فيما إذا كان الشك من غير جهة احتمال التخصص.

٧ ـ جواز التمسك بالعام في المصداق المشتبه في المخصص اللبّي ، إذا لم يكن خروجه عن العام واضحا.

٨ ـ عدم جواز التمسك بأصالة العموم ؛ لإثبات خروج فرد عن العام تخصصا لا تخصيصا في دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.

٣٣٥
٣٣٦

فصل

هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص فيه خلاف؟ وربما نفي الخلاف عن عدم جوازه ؛ بل ادعي الإجماع عليه ، والذي ينبغي أن يكون محلّ الكلام في

______________________________________________________

في جواز العمل بالعام قبل الفحص

قبل الخوض في أصل البحث لا بد من تحرير محل النزاع. فيقال : إن محل النزاع هو : وجوب الفحص عن المخصص أو عدم وجوبه إنما هو بعد الفراغ عن أمور :

١ ـ اعتبار أصالة العموم من باب الظن النوعي لا الشخصي.

٢ ـ حجّيتها في حق المشافهين وغيرهم.

٣ ـ عدم كون العام من أطراف العلم الإجمالي بالتخصيص ، حتى يكون المانع عن اتباع العموم قبل الفحص منحصرا في احتمال وجود المخصص ، ليكون البحث شاملا لجميع المباني.

ومن هنا يظهر : إن الاستدلال على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص بعدم حصول الظن الشخصي قبله ، أو عدم إحراز حكم غير المشافه قبله ، أو لأجل العلم الإجمالي المانع من جريان أصالة العموم ليس كما ينبغي ، لأن البحث كما عرفت بعد الفراغ عن هذه الجهات الثلاثة. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «والذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام ..» إلخ.

وكيف كان ؛ فقد اختلفوا في مبنى وجوب الفحص عن المخصص وعدم الحجية قبله على أقوال ، فذهب بعض إلى عدم الحجية ، من جهة أن حجية مثل أصالة العموم إنما تكون من باب الظن الفعلي. ومن المعلوم : إنه لا يكاد يحصل الظن بإرادة العموم من العام قبل الفحص عن مخصصه.

وذهب الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» إلى أنه من جهة أن الأصل المذكور إنما يكون حجة ؛ فيما إذا لم يعلم بتخصيص العام ولو إجمالا ، ولا شبهة في حصول العلم بذلك إجمالا.

وذهب المصنف «قدس‌سره» : إلى أنه من جهة حصر حجية العام بما إذا لم يكن

٣٣٧

المقام : أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا (١) ، أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن اعتبارها (٢) بالخصوص في الجملة من باب الظن النوعي للمشافه وغيره ، ما لم يعلم بتخصيصه (٣) تفصيلا ، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا ، وعليه (٤) : فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص واليأس.

______________________________________________________

معرضا للتخصيص ، مثل العمومات الواقعة في لسان أهل المحاورات.

وأما إذا كان معرضا لذلك مثل : عمومات الكتاب والسنّة ، فلم تكن قبل الفحص بحجة أصلا ، وذلك لأن دليل اعتباره هو بناء العقلاء على العمل بالعام مقصورة على ما بعد الفحص ، وإن أبيت عن ذلك ولا أقلّ من الشك ، ومعه لا دليل على اعتباره أصلا.

هذا مجمل الكلام في المقام. وأمّا تفصيل الكلام في المقام ، فقد تأتي الإشارة إليه في كلام المصنف.

(١) أي : ولو قبل الفحص عن المخصّص.

(٢) أي : اعتبار أصالة العموم «بالخصوص في الجملة» يعني : بدليل خاص ، وهو بناء العقلاء ، لا بدليل عام وهو دليل الانسداد. «في الجملة» يعني : في قبال التفاصيل التي ذكرت في حجية الظهورات من اختصاص حجيتها بالمشافهين ، أو بمن قصد إفهامه.

(٣) أي : بتخصيص العام.

وحاصل الكلام في المقام : أن أصالة العموم حجة ما لم يعلم تفصيلا بأنه مخصص ، وإلا سقط عن الحجية ، وكان الخاص هو المتبع ، وما لم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا ، وإلا وجب الفحص عن المخصص قبل العمل به قطعا ؛ كما إذا علمنا إجمالا بتخصيص جملة من العمومات ، وكان هذا العام من أطراف المعلوم بالإجمال ، فإن أصالة العموم لا تجري فيه قبل الفحص عن المخصص.

(٤) أي : وعلى ما ذكر من أن محل الكلام في المقام هو حجية أصالة العموم مطلقا ، أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به ، «فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل قبل الفحص واليأس» ، فلا بد أولا من بيان ما استدل به على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص ، حتى يظهر وجه عدم المجال للاستدلال به فيقال : إنه قد استدل القائل بعدم جواز العمل قبل الفحص بأمور :

١ ـ عدم حصول الظن بالمراد إلا بعد الفحص عن المخصص.

٢ ـ عدم الدليل على حجية أصالة العموم بالنسبة إلى غير المشافه إلا بعد الفحص عن المخصص.

٣٣٨

فالتحقيق (١) : عدم جواز التمسّك به قبل الفحص فيما إذا كان في معرض التخصيص ، كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة ، وذلك لأجل أنه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقل من الشك.

______________________________________________________

٣ ـ العلم الإجمالي بورود مخصصات كثيرة على العمومات الشرعية مانع عن العمل بها قبل الفحص.

وأما وجه عدم المجال بالاستدلال بهذه الأمور فهو ما عرفت من : خروج هذه الموارد عن محل الكلام ؛ لأن محل الكلام هو وجوب الفحص عن المخصص ، أو عدم وجوبه بعد فرض حجية أصالة العموم من باب الظن النوعي مطلقا أي : بالنسبة إلى المشافهين وغيرهم إذا لم يكن العام من أطراف العلم الإجمالي بالتخصيص.

(١) يعني : فالتحقيق في المقام هو التفصيل بين ما يكون العام في معرض التخصيص ، فلا يجوز التمسك به قبل الفحص عن المخصص ، وبين ما لم يكن كذلك فيجوز التمسك به قبل الفحص ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن العمومات على قسمين :

١ ـ أن يكون في معرض التخصيص ؛ كمعرضيّة العمومات الواردة في الكتاب والسنة للتخصيص.

٢ ـ أن لا يكون العام في معرض التخصيص ؛ كالعمومات الصادرة من الموالي العرفية إلى عبيدهم ، حيث يكون الغرض منها : مجرّد العمل بها بعد الاطلاع عليها من دون تفحّص العبيد عن مخصّصاتها.

إذا عرفت هذه المقدمة فالتحقيق عند المصنف هو : التفصيل بين العمومات الواقعة في معرض التخصيص ؛ كعمومات الكتاب والسنة ، وبين العمومات الواردة في المحاورات العرفية بلزوم الفحص في الأول دون الثاني.

الوجه في عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص في الأول ، وجوازه قبله في الثاني هو : أن دليل حجية أصالة العموم هو : بناء العقلاء ، ولم يثبت بناؤهم على جريان أصالة العموم فيما إذا كان العام في معرض التخصيص ، ولا أقل من الشك في اعتبارها فيما إذا كان العام في معرض التخصيص ، وهو كاف في عدم حجيتها.

وأما إذا لم يكن العام في معرض التخصيص : فلا إشكال في جواز التمسك به قبل الفحص ؛ لاستقرار سيرة العقلاء عليه.

وقوله : «وذلك لأجل أنه لو لا القطع ..» إلخ تعليل لعدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص ، يعني : عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص هو : القطع

٣٣٩

كيف (١)؟ وقد ادعي الإجماع على عدم جوازه فضلا عن نفي الخلاف عنه ، وهو كاف في عدم الجواز كما لا يخفى.

وأما إذا لم يكن العام كذلك (٢) ، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات ، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص ، وقد ظهر لك بذلك : أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية

______________________________________________________

باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص.

(١) أي : كيف يجوز العمل بالعام الذي يكون في معرض التخصيص قبل الفحص عن المخصص ، مع دعوى الإجماع على عدم جواز العمل به فضلا عن نفي الخلاف عنه؟ وهذا الإجماع كاف في عدم الجواز.

(٢) أي : إذا لم يكن العام في معرض التخصيص فلا ينبغي الإشكال في جواز التمسك بالعام قبل الفحص ، فقوله : «وأما إذا لم يكن العام كذلك» إشارة إلى القسم الثاني وهو ما تقدم في المقدمة ؛ من عدم كون العام في معرض التخصيص كالعمومات الواقعة في ألسنة أبناء المحاورات ، ولا شبهة في استقرار السيرة على العمل بالعام من دون فحص عن المخصّص.

وكيف كان ؛ فيقع الكلام تارة : في أصل وجوب الفحص عن المخصص ، وأخرى : في مقدار الفحص ، وقد أشار المصنف إلى مقدار الفحص بقوله : «وقد ظهر لك بذلك : أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له» يعني : ظهر لك بسبب معرضية العام للتخصيص : أن مقدار الفحص اللازم هو : خروج العام عن معرضية التخصيص ، هذا على مذهب المصنف من أن سبب وجوب الفحص هو : كون العام في معرض التخصيص.

وحاصل الكلام في المقام : أن مقدار الفحص اللازم تابع لدليل وجوبه ، فإن كان دليله العلم الإجمالي : فالمقدار الواجب من الفحص ما ينحل به العلم الإجمالي وهو العلم بوجود مخصصات بمقدار المعلوم بالإجمال ، حتى يخرج العام من أطراف العلم الإجمالي المانع عن جريان أصالة العموم. وإن كان دليل وجوب الفحص عدم حصول الظن بالمراد قبل الفحص عن المخصص : فالمقدار اللازم منه ما يوجب الظن بعدم التخصيص حتى يحصل الظن بإرادة المتكلم للعام.

وإن كان الدليل على وجوبه عدم الدليل على حجية الخطابات لغير المشافهين : فاللازم حينئذ الفحص حتى يقوم الإجماع على الحجية ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٥٧٣» مع توضيح منّا.

٣٤٠