دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

والأقل والأكثر ، فلا تغفل (١).

______________________________________________________

نعم ؛ لا يجوز التمسك بالعام فيما إذا كان المخصص متصلا لكونه مانعا عن انعقاد ظهور له من الأول.

(١) الظاهر : أنه إشارة إلى دفع ما يتوهم من عدم الفرق بين المتصل والمنفصل تارة ، وبين المتباينين والأقل والأكثر أخرى.

أما عدم الفرق بين المتصل والمنفصل : فلأن المخصص المنفصل في نحو : «لا تكرم فساق العلماء» وإن لم يكن رافعا لظهور العام ـ أعني : «أكرم العلماء» ـ إلّا إنه يقيد المراد الواقعي بغير الفاسق ، بحيث يصير موضوع وجوب الإكرام : العالم غير الفاسق ، فإذا كان مفهوم الفاسق مرددا بين الأقل والأكثر ـ كما هو المفروض ـ فلا محالة يصير من يجب إكرامه من العلماء بحسب المراد الواقعي مرددا بين الأقل والأكثر أيضا ، فلا يجوز التمسك بأكرم العلماء لوجوب إكرام الأفراد التي لا يعلم فسقها وعدالتها ، فلا فرق في عدم جواز التمسك بالعام بين الخاص المتصل والمنفصل ، إذ المدار في جواز التمسك بكل دليل على إحراز موضوعه وبدونه لا يجوز ذلك قطعا.

وأما عدم الفرق بين الخاص المردد بين المتباينين ، وبين الخاص المردد بين الأقل والأكثر : فلأن الأصول اللفظية لمّا كان اعتبارها لكشفها عن المرادات الواقعية ، ومع دوران الخاص بين الأقل والأكثر ، لا تكون أصالة العموم التي هي من تلك الأصول كاشفة عن كون الأكثر محكوما بحكم العام ، فلا محالة يكون الأكثر موردا للأصول العملية. وعليه : فوزان الأقل والأكثر وزان المتباينين في عدم جواز الرجوع إلى العام في إحراز الحكم ، بل المرجع فيه الأصول العملية.

لكنك خبير باندفاع كلا التوهمين :

أما الأول : فبأن دليل العام يشمل كل فرد من أفراد الموضوع ، وإطلاقه الأحوالي يعم كل زمان وزماني يمكن أن يكون قيدا له. فمثل : «أكرم العلماء» يشمل كل فرد من أفراد العلماء ، ويدفع احتمال كل ما يصلح لأن يكون قيدا له ، ولا نرفع اليد عن هذا الإطلاق الأحوالي إلا بالمقدار الذي علم بشمول دليل الخاص له ؛ إذ ليس دليل المخصص بمفهومه مقيدا لدليل العام حتى يسري إجماله إليه ، ويصير المراد من العام مجملا : بل المقيد بمفهومه الحاكي عن الحقيقة يقيّد الإطلاق.

فالنتيجة : أن الإطلاق محكم في غير ما علم تقييد المراد الواقعي بالنسبة إليه ، ففي مثل : «لا تكرم فساق العلماء» إذا أجمل مفهوم الفاسق لا نرفع اليد عن العلماء إلا بالنسبة إلى مرتكب الكبيرة ، فمرتكب الصغيرة داخل في العام فيجب إكرامه. ولا يقدح

٣٠١

وأما (١) إذا كان مجملا بحسب المصداق ، بأن اشتبه فرد وتردّد بين أن يكون فردا له (٢) أو باقيا تحت العام ؛ فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لو كان متصلا به ، ضرورة (٣) : عدم انعقاد ظهور للكلام إلا في الخصوص ، كما عرفت.

______________________________________________________

إجمال مفهوم الفاسق في الأخذ بإطلاق العام لحالاته وطواريه التي يصح تقييده بها. هذا تمام الكلام في اندفاع التوهم الأول.

وأما الثاني : فلوضوح الفرق بين المتباينين والأقل والأكثر ، حيث إن الشك في التخصيص بالأكثر شك في التخصيص الزائد على ما علم تخصيصه به ، ولا إشكال حينئذ في الرجوع إلى أصالة العموم ، ومعه لا تصل النوبة إلى الأصول العملية.

وهذا بخلاف المخصص المردد مفهومه بين المتباينين ، فإن العلم الإجمالي بتخصيص العام بأحدهما مانع عن الرجوع إلى أصالة العموم ، وهذا المانع مفقود في الأقل والأكثر ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٥٠٣» مع تصرّف وتوضيح منا. هذا تمام الكلام في أحكام صور الشبهة المفهومية.

الكلام في الشبهة المصداقية

(١) هذا عطف على قوله في أول الفصل : إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا ، فالأولى إسقاط «أما» بأن يقول : وإذا كان الخاص مجملا بحسب المصداق.

(٢) يعني : أن يكون ما يتردد فردا للخاص ، كما إذا اشتبه لأجل الأمور الخارجية فرد الخاص بغيره كتردد زيد العالم بين زيد العادل والفاسق لظلمة أو غيرها من الأمور الخارجية.

وحاصل ما أفاده المصنف : إنه لمّا فرغ عن بيان الشبهة المفهومية شرع في بيان أحكام الشبهة المصداقية ، ولها أربع صور كما عرفت ، وتوضيح ذلك : أنه إن كان الخاص متصلا بالعام فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لإثبات حكم هذا الفرد المشتبه ؛ لعدم انعقاد ظهور له في العموم ، بل لا ظهور للكلام إلا في الخصوص ، فإذا قال : «أكرم العلماء إلا فساقهم» فكأنه قال : «لا تكرم فساق العلماء» ، فإذا كان الفرد الخارجي كزيد العالم مشتبها بين كونه عادلا أو فاسقا لا يجوز التمسك بالعام لإثبات حكمه لهذا الفرد المردد ، إذ لا عموم للعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه المشكوك عدالة وفسقا ، والمانع عن التمسك به هو عدم إحراز فردية ما يحتمل انطباق الخاص عليه للعام.

(٣) تعليل لعدم جواز التمسك بالعام في المصداق المشتبه.

وحاصل التعليل : أنه لا ظهور للعام في العموم حتى يصح التمسك به في الفرد

٣٠٢

وأما إذا كان (١) منفصلا عنه ، ففي جواز التمسك به خلاف.

______________________________________________________

المشتبه ؛ بل لا ظهور له إلا في الخصوص أعني : العالم غير الفاسق ولم يحرز كون الفرد المشتبه فردا للعام بما هو حجة ولا يخفى : أنه كما لا يكون العام في الفرد المشتبه حجة كذلك لا يكون الخاص حجة فيه ؛ لأن فردية المشتبه للخاص أيضا مشكوكة ، وحينئذ فالمرجع فيه الأصول العملية.

(١) أي : إذا كان المخصص المجمل مصداقا ـ سواء كان دائرا بين المتباينين أو الأقل والأكثر ـ منفصلا عن العام ؛ ففي جواز التمسك بالعام خلاف بين الأعلام ، والمشهور هو جواز التمسك به بعد انعقاد ظهوره في العموم مع انفصال الخاص عنه ، ولا مانع عن حجيته إلا بالنسبة إلى ما يكون الخاص حجة فعلية فيه ؛ وهو الأفراد التي يعلم انطباق الخاص عليها ـ كمرتكب الكبيرة ـ فيما إذا كان الخاص دالا على حرمة إكرام فساق العلماء ، ففي الأفراد التي لا يعلم انطباق مفهوم الخاص عليها ـ كمرتكب الصغيرة ـ لا يكون الخاص حجة فيها حتى يزاحم حجية العام فيها ؛ لعدم إحراز موضوعه ، وجواز التمسك بدليل منوط بإحراز موضوعه ، وعليه : فيجوز التمسك بالعام في مرتكب الصغيرة ، فلا يكون الخاص حجة فيما اشتبه أنه من أفراده كالفرد المشكوك دخوله تحت الخاص ، فخطاب «لا تكرم فساق العلماء» لا يكون دليلا على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء ، فلا يزاحم نحو : «لا تكرم فساق العلماء» مثل : «أكرم العلماء» في الفرد المشكوك ولا يعارضه فيه ، فإن الخاص لو زاحمه فيه أو عارضه فيه على الفرض فهو من قبيل مزاحمة غير الحجة بالحجة ، ومعارضة الدليل والحجة بغير الدليل والحجة في غاية البطلان والفساد.

هذا غاية ما يمكن أن يستدل به على جواز التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه ؛ إلّا إن الحق عند المصنف هو : عدم جواز التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه حيث قال : «والتحقيق عدم جوازه».

وقد أجاب المصنف عن استدلال جواز التمسك بالعام بقوله : «وهو في غاية الفساد» بتقريب : أن الخاص المنفصل وإن لم يكن حجة فعلا في الفرد المشتبه ـ لعدم إحراز موضوعه ـ إلّا إنه يوجب سقوط العام عن الحجية ، واختصاص الحجية بغير عنوان الخاص من الأفراد ؛ لأن الخاص يوجب تعنون العام ـ كالعلماء ـ بغير عنوان الخاص ـ كالفاسق في المثال السابق ـ فيكون موضوع وجوب الإكرام في نحو : «أكرم العلماء» هو العالم غير الفاسق فقط ، فكأنّه قيل من أول الأمر : «أكرم العلماء غير الفسّاق» ، فالفاسق الواقعي قد خرج عن تحت العام يقينا ، والمصداق المشتبه كزيد العالم وإن كان مصداقا للعام بما

٣٠٣

والتحقيق : عدم جوازه ؛ إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه : أن الخاص إنما يزاحم العام فيما كان فعلا حجة ، ولا يكون حجة فيما اشتبه أنه من أفراده ، فخطاب : لا تكرم فساق العلماء لا يكون دليلا على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء ، فلا يزاحم مثل : «أكرم العلماء» ولا يعارضه ، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة ، وهو في غاية الفساد ، فإنّ الخاص وإن لم يكن دليلا في الفرد المشتبه فعلا ، إلى أنه يوجب اختصاص حجيّة العام في غير عنوانه من الأفراد ، فيكون أكرم العلماء دليلا وحجة في العالم الغير الفاسق.

فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقا للعام بلا كلام إلا إنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو حجة ، لاختصاص (١) حجيته بغير الفاسق.

وبالجملة : العام المخصّص بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم ـ كما إذا لم يكن

______________________________________________________

هو عام إلا إنه لم يعلم كونه من مصاديق العام بما هو حجة ؛ لاختصاص حجيته بغير الفاسق ، فلا يكون العام حجة فيه لاحتمال كونه فاسقا حينئذ ، كما يلتزم الخصم بعدم جواز التمسك بالعام المخصص بالمخصص المتصل في الأفراد المشتبهة التي لم يعلم انطباق الخاص عليها ، فكذلك لا بد من أن يلتزم بعدم جوازه في المخصص المنفصل الموجب لتعنون العام به ، فالعالم الذي يحتمل فسقه لا يندرج تحت العام ولا الخاص ؛ للشك في موضوعيته لكل منهما ، ومع الشك في الموضوع لا مجال للتمسك بالدليل ، فلا يكون العام فيه حجة ولا الخاص ، فالنتيجة هي : عدم الفرق في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بين المخصص المتصل والمنفصل.

(١) تعليل لعدم العلم بمصداقية الفرد المشتبه للعام بما هو حجة وحاصله : اختصاص حجية العام بغير الفاسق ، ففي الفرد المردد بينه وبين العادل حيث إنه لم يحرز فرديته لغير الفاسق لا يشمله العام بما هو حجة ؛ وإن شمله بذاته لكونه من العلماء.

وكيف كان ؛ فإن العام المخصص بالمنفصل وإن كان ظاهرا في العموم كالعام الذي لم يخصص أصلا ، بخلاف المخصص بالمتصل ، حيث إنه كما مر لا ينعقد له ظهور في العموم ، إلّا إنه كالمتصل في الحكم ، وهو عدم الحجية كالعام المخصص بالمتصل ، فلا يكون حجة إلا في غير عنوان الخاص ، كما أشار إليه بقوله : «إلّا إنه في عدم الحجية إلا في غير عنوان الخاص مثله» أي : مثل العام المخصص بالمتصل.

فالعام المخصص بالمنفصل كالعام الذي لم يخصص أصلا من حيث انعقاد الظهور له في العموم ؛ لكنه في عدم الحجية كالعام المخصص بالمتصل إلا في غير عنوان الخاص.

٣٠٤

مخصصا ـ بخلاف المخصّص بالمتصل كما عرفت إلا أنه في عدم الحجيّة إلا في غير عنوان الخاص مثله ، فحينئذ (١) يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين ، فلا بد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين.

هذا (٢) إذا كان المخصص لفظيا.

وأما إذا كان لبيا (٣) ، فإن كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم ـ إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب ـ فهو كالمتصل ، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلا في

______________________________________________________

(١) أي : حين كون المخصص بالمنفصل كالمخصص بالمتصل في عدم الحجية إلا في غير عنوان الخاص ـ كغير الفاسق في المثال السابق ـ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتين وهما العام والخاص ، فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي المنوط جريانه بفقدان الدليل الاجتهادي ، كما في المقام.

هذا ملخص الكلام في المقام. وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار المطلوب في هذا الشرح.

(٢) أي : ما ذكر من التفصيل بين أقسام الشبهات المفهومية والمصداقية ؛ من جواز التمسك بالعام في بعض الأقسام ، وعدم جواز التمسك به في بعضها الآخر حسب ما عرفت تفصيل ذلك إنما هو فيما إذا كان المخصص لفظيا.

الفرق بين المخصص اللفظي واللبّي

(٣) لمّا فرغ المصنف من بيان حكم المخصص اللفظي المجمل مفهوما أو مصداقا ، شرع في بيان حكم المخصص إذا كان لبيّا كالإجماع والسيرة وغيرهما مما ليس بلفظ ، بحيث لا يكون في الكلام إلا العام ؛ لكن علم من الخارج أن المتكلم لا يريد بعض أفراد العام ، فالمنسوب إلى جماعة ـ منهم الشيخ الأنصاري في التقريرات (١) ـ جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ؛ لكن المصنف فصل في ذلك ، واختار الجواز في صورة وعدمه في أخرى ، ومن هنا يظهر الفرق بين المخصص اللفظي في الشبهة المصداقية ، وبين المخصص اللبّي فيها ، وهو عدم جواز التمسك بالعام في الأول مطلقا ، وجوازه في الثاني في الجملة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الخاص اللّبي على قسمين :

القسم الأول : ما أشار إليه بقوله «فإن كان مما يصح أن يتكل عليه المتكلم».

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ج ٢ ، ص ١٣٦.

٣٠٥

الخصوص ، وإن لم يكن كذلك : فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيّته كظهوره فيه.

______________________________________________________

وحاصله : أن المخصص اللبّي إن كان واضحا بحيث يصح عرفا اعتماد المتكلم عليه إذا كان بصدد بيان غرضه في مقام التخاطب ؛ بأن يكون حكما عقليا ضروريا ، بحيث يعد عرفا من القرائن المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور للعام في العموم فهو كالخاص المتصل اللفظي في عدم انعقاد ظهور للعام ابتداء إلا في الخاص.

القسم الثاني : كما أشار إليه بقوله : «وإن لم يكن كذلك» أي : وإن لم يكن المخصص اللبّي كالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور للعام في العموم ؛ بأن لم يكن حكما عقليا ضروريا ؛ بل كان نظريا متوقفا على أمور يتوقف حصوله منها على نظر وتأمل.

وكيف كان ؛ فالمخصص اللبّي إمّا ضروري أي : يحكم العقل بالتخصيص مستقلا ، من دون توقف على مقدمات نظرية ، وإما نظري يتوقف العلم بالخاص على مقدمات نظرية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : إنه لا يجوز التمسك بالعام في القسم الأول لإحراز حكم الفرد المشتبه ، مثلا : إذا قال المولى لعبده : «اقتل كل من دخل داري» يحكم العقل حكما ضروريا بتخصيص أبناء المولى ، فصار الكلام في قوة أن يقال : «اقتل كل من دخل داري إلا أبنائي» ، فإذا اشتبه الفرد أنّه من أعدائه حتى يجب قتله أو أنّه من أبنائه كي يحرم قتله فلا يجوز التمسك بالعام فيه حتى يجري حكم العام عليه ، فليس العام حجة فيه ، فكذا ليس الخاص اللبي حجة فيه ، للشك في انطباق الخاص عليه ، فيرجع فيه إلى الأصل العملي على حسب ما يقتضيه المقام ، فالكلام فيه هو كالكلام في المخصص المتصل اللفظي في عدم جواز التمسك بالعام لإثبات حكم الفرد المشكوك.

هذا بخلاف القسم الثاني من اللبي ، حيث لم يكن المخصص اللبي فيه موجبا لصرف الكلام عن العموم إلى الخصوص ؛ بل يكون الكلام قد انعقد له ظهور في العموم ، فيجوز التمسك بالعام فيه ، لأن ظاهر الكلام الصادر عن المتكلم في مقام البيان حجة ما لم يعلم بخلافه ، فإذا قال المولى لعبده : «أكرم جيراني» ، وعلم من الخارج أنه لا يريد إكرام عدوّه منهم. وشك في عداوة واحد منهم بنحو الشبهة المصداقية جاز التمسك بالعام لإثبات وجوب إكرام هذا الفرد المشكوك في عداوته ، وذلك لما مر غير مرة من : أن العام ظاهر في كل فرد من أفراده ، وهذا الظاهر حجة ما لم تقم قرينة على إرادة خلافه ، فإذا علم بعداوة بعضهم كان ذلك العلم مانعا عن حجية العام فيه للقطع بعدم إرادته منه. وأما

٣٠٦

والسّر في ذلك (١) : أنّ الكلام الملقى من السيّد حجة ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم ، فلا بد من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه ، مثلا : إذا قال المولى : أكرم جيراني ، وقطع بأنه لا يريد إكرام من كان عدوّا له منهم ، كان أصالة العموم باقية على الحجيّة بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه (٢) عن عموم الكلام : للعلم بعداوته ؛ لعدم حجة أخرى بدون ذلك على خلافه.

بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا ، فإن (٣) قضية تقديمه عليه هو كون الملقى إليه

______________________________________________________

احتمال العداوة فلا يمنع عن حجية العام. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف في المخصص اللبي.

(١) أي : الفرق المذكور بين المخصص اللبّي واللفظي المنفصل في الشبهة المصداقية ، بجواز التمسك بالعام في اللبّي دون اللفظي المنفصل ، مع انعقاد ظهور العام في العموم في كلا الموردين أعني : السر والوجه في هذا الفرق هو : أن الملقى من السيد إلى العبد في المخصص اللبّي ليس إلا كلاما واحدا وحجة كذلك نحو : «أكرم جيراني» ، فيجب اتباع ظهوره إلى أن يعلم بخلافه فيصح التمسك به في غير معلوم الخروج ؛ لأن ظهوره وحجيته باقيان على حالهما بالنسبة إلى غير معلوم الخروج عنه.

هذا بخلاف العام المخصص بالمخصص اللفظي المنفصل نحو : «أكرم جيراني» ، وقال السيد في موضع آخر : «لا تكرم جاري العدو» ؛ فإن الملقى من السيد إلى العبد كلامان وحجتان ، فإذا قدّم الخاص على العام صار موضوع العام مقيدا بقيد وجودي ـ وهو الجوارية ـ وعدمي وهو عدم العداوة مثلا ، فالفرد المشتبه لا يندرج تحت العام ولا الخاص ، فلا يجوز التمسك لا بالعام ولا بالخاص ، لأن جواز التمسك مشروط بإحراز موضوع الدليل ، والمفروض : عدم إحراز اندراج الفرد المشتبه في العام ولا في الخاص.

(٢) الضمير راجع إلى «من» الموصول. ومعنى العبارة : أن العام حجة في جميع افراده إلا ما علم بخروجه عنه ، فيكون جميع الجيران واجبي الإكرام إلا من علم بعداوته منهم ، فالمانع عن حجية العام في مشكوك العداوة مفقود ؛ إذ المانع عنها هو العلم بالعداوة ، وذلك مفقود في محتمل العداوة.

قوله : «لعدم حجة أخرى» متعلق بقوله : «باقية» وتعليل له يعني : أن أصالة العموم باقية على الحجية في الفرد المحتمل خروجه عن العام ؛ لعدم حجة أخرى غير العلم بالخروج ، فالعام حجة إلا مع العلم بخروج بعض الأفراد عنه ، ومن المعلوم : أن الفرد المشكوك غير معلوم الخروج عنه ، فيرجع فيه إلى العام.

(٣) تعليل لبيان الفرق بين المخصص اللّبي واللفظي.

٣٠٧

كأنّه (١) كان من رأس لا يعمّ الخاص ؛ كما كان كذلك (٢) حقيقة فيما كان الخاص

______________________________________________________

وحاصل التعليل : أنه في المخصص اللفظي قد ألقى السيد إلى عبده حجتين ، وهما العام والخاص ، ونسبة الفرد المشتبه إليهما متساوية ، ولا مرجّح لاحتمال فرديته لأحدهما بالخصوص ، فلا يصح التمسك بأحدهما لاندراجه تحته ، وهذا بخلاف المخصص اللبي ، فإن الحجة الملقاة من المولى واحدة وهي العام ، والقطع بعدم إرادة بعض أفراده ـ وهو العدوّ ـ حجة عقلية أجنبية عن الحجة الملقاة من السيد ، فالمخصص بحكم العقل هو العلم بالعداوة ، فمشكوك العداوة لا يندرج في الخاص ، بل هو داخل في العام ومحكوم بحكمه.

وكيف كان ؛ فظهور العام في العموم ، وكذا حجيته في المخصص اللبي لم ينثلما ؛ بل هما باقيان على حالهما ، بخلاف المخصص اللفظي ، فإن الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت العام أو الخاص ، ولذا لا يمكن إحرازه بشيء منهما.

(١) أي : كأن الملقى إلى العبد ـ وهو العام ـ لا يعم الخاص من رأس ؛ لسقوط حجية ظهوره في أفراد الخاص وإن كان نفس الظهور باقيا.

(٢) أي : لا يعم الخاص من رأس ، والضمير المستتر في «كان» راجع إلى العام ، يعني : لا يعم العام الخاص حقيقة لعدم انعقاد ظهور للعام في العموم في المخصص المتصل ، فالعام من أوّل الأمر لا يشير إلى الخاص المتصل ، وهذه التوضيحات مذكورة في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٥٢٧» مع تصرّف ما.

قوله : «والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيته» إشارة إلى توهم ودفعه ، فأما التوهم ـ وهو عدم حجية العام في الفرد المشتبه بلا فرق بين كون العام المخصص بالمخصص اللبّي واللفظي ـ فيقال في تقريبه : العام مخصص بالقطع ، فيسقط عن الحجية في الفرد المشتبه ، كسقوطه عنها فيه عند تخصيصه بالمخصص اللفظي ، لأنّنا نعلم بعدم إرادة العدوّ في كلا الموردين ، فلا يجوز العمل بالعام فيهما.

وحاصل الدفع : أن المخصص اللبي وهو القطع لا يمنع عن حجية ظهور العام إلا في الأفراد التي علم انطباق الخاص عليها ، فهو في الأفراد المشتبه حجة بلا مانع ، إذ الخاص هو العلم ، والشاهد على كون العام حجة في الفرد الذي يحتمل انطباق الخاص اللبّي عليه هو : صحة مؤاخذة المولى على مخالفة العبد له في عدم إكرام بعض جيرانه باحتمال كونه عدوا للمولى ، وعدم صحة اعتذار العبد عن هذه المخالفة بمجرد احتمال العداوة ، فصحة مؤاخذة المولى وعدم صحة اعتذار العبد يشهدان بحجية العام في الفرد المشتبه ؛ إذ مخالفة غير الحجة لا توجب حسن المؤاخذة.

٣٠٨

متصلا ، والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيّته ؛ إلا فيما قطع أنه عدوّه ، لا فيما شكّ فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحدا من جيرانه ، لاحتمال عداوته له ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة ، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة ، والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجيّة أصالة الظهور.

وبالجملة : كان بناء العلماء على حجيّتها (١) بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك (٢) ، ولعلّه (٣) لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما ، بإلقاء حجّتين هناك ، تكون قضيتهما (٤) بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام ، كأنّه لم يعمّه حكما من رأس ، وكأنّه لم يكن بعام ، بخلافه هاهنا فإن الحجة الملقاة ليست إلا واحدة ، والقطع بعدم إرادة إكرام العدوّ في «أكرم جيراني» مثلا لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلا فيما قطع بخروجه من تحته ، فإنّه (٥) على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلا بد من اتّباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه (٦).

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فإن السيرة المألوفة بين العقلاء قد استقرت على حجية أصالة الظهور ، مع احتمال إرادة خلاف الظاهر ، وعدم رفع اليد عنها بمجرد احتمال إرادة خلافه ، وعليه : فتكون أصالة العموم في المقام في مشكوك العداوة في المثال هي المرجع.

(١) أي : حجية أصالة الظهور بالنسبة إلى الفرد المشتبه كمحتمل العداوة.

(٢) أي : بخلاف الخاص اللفظي الذي اشتبه مصداقه ، والمراد بقوله : «هاهنا» المخصص اللبّي.

(٣) أي : لعل بناء العقلاء على حجية أصالة الظهور بالنسبة إلى المشتبه هنا دون هناك ، «لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما» أي : المخصص اللفظي واللبي.

(٤) أي : تكون قضية حجتين في المخصص اللفظي ، بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام ؛ كأن العام لم يعم الخاص الخارج حكما من رأس ، وكأنّه لم يكن بعام ، بخلاف العام في المخصص اللبّي ، «فإن الحجة الملقاة ليست إلا واحدة».

(٥) بيان لحجية العام في الفرد المشتبه في المخصص اللبّي بتقريب : أن غرض الحكيم إن كان حجية ظاهر كلامه إلا مع العلم بخلافه ، فله إلقاء كلامه على وفق هذا الغرض ، وحينئذ لا بد من اتباع ظاهره إلا إذا قامت حجة على خلافه ، ومن المعلوم : عدم قيام حجة على خلاف ظاهر العام في الفرد المشتبه ، فلا بد من اتباع ظاهره في الفرد المشتبه.

(٦) على خلاف كلام المتكلم الحكيم.

٣٠٩

بل (١) يمكن أن يقال : إن قضية عمومه للمشكوك أنه ليس فردا لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه ، فيقال : في مثل «لعن الله بني أميّة قاطبة» أن فلانا وإن شكّ في إيمانه يجوز لعنه لمكان العموم (٢) ، وكلّ من جاز لعنه لا يكون مؤمنا ، فينتج إنه ليس بمؤمن ، فتأمل جيدا (٣).

______________________________________________________

(١) غرضه هو : الترقي من إخراج المشتبه عن حكم الخاص بسبب التمسك بالعام إلى إخراجه عن موضوعه ومصداقيته له بأن يقال : إن العام في مثل : «لعن الله بني أمية قاطبة» يدل على جواز لعن من شك في إيمانه منهم ، ومن المعلوم : عدم جواز لعن المؤمن ، فلا بد أن يكون جائز اللعن غير مؤمن ، فالعام كاشف عن عدم كون الفرد المشتبه من أفراد الخاص وهو المؤمن ، فيصح تأليف قياس ينتج عدم كون المشتبه مصداقا للخاص ، بأن يقال : إن فلانا جاز لعنه ، وكل من جاز لعنه ليس بمؤمن ، ففلان ـ مشكوك الإيمان ـ ليس بمؤمن ، ويترتب عليه أحكام عدم فرديته للخاص.

والمتحصل : أنه قد استدل المصنف «قدس‌سره» على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصص لبيّا بوجوه :

١ ـ صحة مؤاخذة المولى عبده إذا لم يكرم واحد من جيرانه ، لاحتمال عداوته للمولى.

٢ ـ حسن عقوبته على مخالفته.

٣ ـ عدم صحة الاعتذار من العبد بمجرد احتمال العداوة.

(٢) أي : «لعن الله بني أمية قاطبة» فيقال : إن فلانا ـ كعمر بن عبد العزيز ـ وإن شك في إيمانه يجوز لعنه لمكان عموم جملة «لعن الله بني أمية قاطبة» أي جميعا ، ومن جاز لعنه فليس بمؤمن ، فينتج أن فلانا ليس بمؤمن وإلا لما جاز لعنه كما عرفت.

(٣) لعله إشارة إلى أنه لو علمنا وجود المؤمن فيهم لما جاز لعنه قطعا ، فلا يجوز التمسك بالعام في الفرد المشكوك إيمانه ؛ إذ بعد العلم بوجود مؤمن فيهم تنحصر حجية العام بما سوى المؤمن منهم ، فلا يستكشف حينئذ به أن الفرد المشكوك غير المؤمن حتى يجوز لعنه ، فلا فرق حينئذ بين المخصص اللفظي واللبّي في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ؛ إلّا إن يقال : إن مجرد احتمال كون الفرد المشكوك من مصاديق الخاص غير كاف بعد جريان أصالة العموم ببناء العلماء في مشكوك الخروج.

٣١٠

إيقاظ

لا يخفى (١) : أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من

______________________________________________________

استصحاب العدم الأزلي

(١) المقصود من هذا الكلام هو : إثبات حكم العام للفرد المشكوك بواسطة نفي عنوان الخاص عنه بالأصل إذا كان مسبوقا بالعدم ، فالغرض هو : فتح باب لإجراء حكم العام في الفرد المشتبه في الخاص اللفظي المجمل مصداقا ، الذي اختار المصنف فيه : عدم جواز التمسك بالعام لإحراز حكم المشتبه بالشبهة المصداقية ، دون الخاص اللبي الذي اختار فيه جواز الرجوع إلى العام في الفرد المشتبه.

وكان الأنسب ذكر هذا الإيقاظ عقيب المخصص اللفظي المجمل مصداقا الذي لا يكون العام حجة فيه.

وقبل الدخول في أصل ما هو المطلوب لا بد من تقديم أمور :

الأول : أن التفصيل بين المخصص اللفظي ـ واللّبي الذي تقدم تفصيله ـ إنما يكون في الموارد التي لا يحرز فيها عنوان العام أو عنوان الخاص بالنسبة إلى الفرد المشتبه بأصل موضوعي وإلا فيحكم بحكم ما يحرز بالأصل.

الثاني : أن المراد بالأصل الموضوعي الذي يحرز فيه دخول الفرد المشكوك في العام ـ فيحكم عليه بحكم العام ـ هو : استصحاب العدم الأزلي ؛ لا مطلق أصل موضوعي كاستصحاب فسق الفرد المشتبه أو عدالته ، حتى يندرج به تحت الخاص أو العام ويحكم عليه بحكم أحدهما.

الثالث : أن لا يكون تخصيص العام موجبا لتعنون العام بعنوان خاص وجوديّ أو عدميّ زائد على عنوان العام.

توضيح ذلك : أن المخصص المتصل على قسمين : أحدهما : ما يوجب تعنون العام بعنوان خاص ؛ كالتخصيص بالوصف في مثل «أكرم العلماء الزاهدين في الدنيا» ، أو «أكرم العلماء الذين لا يقبلون على الدنيا» ؛ إذ لا شك حينئذ في تعنون العام بعنوان وجودي موافق لعنوان الخاص كما في المثال الأول ، أو بعنوان عدمي موافق له ، كما في

٣١١

المتصل ، لمّا كان غير معنون بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد ـ إلّا ما شذّ ـ ممكنا ،

______________________________________________________

المثال الثاني ؛ لأن موضوع حكم العام في المثال الأول هو العالم الزاهد ، وفي المثال الثاني هو العالم اللامقبل على الدنيا. وحينئذ إذا شك في مورد في تحقيق عنوان العام ؛ كالعلم ، أو الزهد ، أو عدم الإقبال على الدنيا ؛ فإن أمكن إحراز المشكوك فيه بأصل موضوعي وجودي كاستصحاب زهد الفرد المشتبه في المثال الأول ، واستصحاب عدم إقباله على الدنيا في المثال الثاني ، فيحكم عليه بحكم العام أو استصحاب عدم زهد الفرد المشكوك ، فينفي عنه حكم العام ، وإن لم يمكن إحراز المشكوك فيه بأصل موضوعي ـ لعدم حالة سابقة له ـ فالمرجع فيه الأصول العملية من البراءة ، والاحتياط ، والتخيير على حسب الموارد.

وكيف كان ؛ فهذا القسم من المخصص المتصل خارج عن محل الكلام ؛ بل محل الكلام هو القسم الثاني ؛ الذي أشار إليه بقوله : «كالاستثناء من المتصل» ، مما يكون التخصيص فيه بلسان الإخراج عن العام كالغاية أو الشرط.

فالاستثناء مثل : «أكرم العلماء إلّا إن يقبلوا على الدنيا» ، والغاية مثل : «أكرم العلماء إلى أن يقبلوا على الدنيا» ، والشرط مثل : «أكرم العلماء إن لم يقبلوا على الدنيا» ، وتخصيص العام به كتخصيصه بالمنفصل لا يوجب تعنون العام بعنوان خاص ، كما أشار إليه بقوله : «إن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل» ، فالتخصيص لا يوجب تعنون العام بعنوان خاص ، بل هو بعد التخصيص معنون بكل عنوان كان معنونا به قبل التخصيص كالهاشمية والعربية والعجمية وغيرها مما كان ثابتا للعام قبل التخصيص ، من غير دخل لها في الموضوع وهو العالم ، فلم يصر الباقي تحت العام معنونا بعنوان خاص.

الرابع : الفرق بين العدم المحمولي والعدم النعتي.

الفرق بينهما يمكن بأحد وجوه :

١ ـ الوجود والعدم إن لوحظت إضافتهما إلى الماهية بمعنى : أنها إما موجودة أو معدومة كان الوجود والعدم حينئذ محموليين ، فيسمى الوجود والعدم بالمحموليين تارة ، وبمفادي كان التامّة وليس التامة أخرى.

وأمّا إذا كان لحاظ الوجود من قبيل لحاظ وجود العرض بالإضافة إلى وجود معروضه أو عدمه بالإضافة إليه كان الوجود والعدم حينئذ نعتيين ، ويعبّر عنهما بالوجود والعدم

٣١٢

فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به بلا كلام ، ضرورة : أنّه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنه مما بقي تحته ، مثلا : إذا شكّ أن امرأة

______________________________________________________

النعتيين تارة ، وبمفادي كان الناقصة وليس الناقصة أخرى.

٢ ـ الوجود والعدم النعتيين يحتاجان في تحققهما إلى وجود موضوع محقق في الخارج ، ويستحيل تحققهما بدونه ؛ وذلك لأن ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. هذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين فإنهما لا يحتاجان إلى وجود موضوع محقق في الخارج قبل تحققهما ، غاية الأمر : يحتاج الوجود المحمولي إلى وجود العلة وعدمه إلى عدمها.

٣ ـ إنه يمكن ارتفاع الوجود والعدم النعتيين بارتفاع موضوعهما ؛ من دون لزوم ارتفاع النقيضين المستحيل ذاتا ، هذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين حيث لا يمكن ارتفاعهما معا ، فإنه من ارتفاع النقيضين. والوجه في إمكان ارتفاع الوجود والعدم النعتيين بارتفاع موضوعهما : أن الشيء قبل وجوده لا يكون متصفا بوجود الصفة ولا بعدمها ؛ لأن الاتصاف فرع وجود المتصف. هذا معنى ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما. هذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين حيث يكون ارتفاعهما مستلزما لارتفاع النقيضين المستحيل ذاتا.

إذا عرفت هذه الأمور : فاعلم : أن استصحاب العدم الأزلي إنما يتم بناء على أخذ عدم الخاص في موضوع الحكم بنحو العدم المحمولي الراجع إلى فرض موضوع الحكم مركبا من جزءين أحدهما عنوان العام والآخر عدم عنوان الخاص ؛ بأن يؤخذ عدم الخاص بما هو مفاد ليس التامة جزءا للموضوع فيقال : إن أحد الجزءين وهو الجزء الوجودي أعني : عنوان العام محرز بالوجدان ، والجزء الآخر وهو الجزء العدمي أعني : عدم الخاص محرز بالأصل ، فيحرز بهذا الأصل دخول الفرد المشكوك في العام ، ويحكم عليه بحكم العام.

وأما بناء على أخذ عدم الخاص في موضوع الحكم بنحو العدم النعتي الراجع إلى فرض الموضوع ، وهو العام المتصف بعدم الخاص ؛ بأن يكون عدم الخاص مأخوذا بما هو مفاد ليس الناقصة : فلا يتم إثبات العدم النعتي باستصحاب العدم الأزلي ؛ وذلك لعدم حالة سابقة له ، وذلك لعدم اتصاف الذات بعدم الخاص ؛ لأنها حين توجد توجد إمّا متصفة به أو بعدمه. ولذا قال المصنف : «فلا أصل يحرز أنها قرشية» ، يعني : لا يجري الأصل في العدم النعتي لعدم الحالة السابقة له. إذ لم يكن زمان وجدت فيه المرأة لا قرشية ولا غير قرشية حتى يستصحب.

٣١٣

تكون قرشية ، فهي وإن كانت وجدت إمّا قرشية أو غيرها ، فلا أصل يحرز أنها قرشية أو غيرها إلا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح

______________________________________________________

ولهذا نفى المصنف هذا الأصل وأبدله بأصالة عدم الانتساب الراجع إلى الأصل في العدم المحمولي ؛ لدوران أمر الانتساب فيها حين وجودها بين الوجود والعدم ، فعدم الانتساب عدم محمولي ، ومفاد كان التامة لأجل لحاظه بالإضافة إلى الماهية أعني : ماهية الانتساب.

ثم قد عرفت في المقدمة : أن ما أفاده من جريان الأصل في العدم المحمولي مبني على عدم تعنون العام بعنوان وجودي أو عدمي كالمثال المذكور ، فإن المرأة التي ترى الدم إلى خمسين لم تقيد بقيد عدميّ وهو عدم قرشيتها ، والخاص إنما أخرج المرأة القرشية عن العام ، فالباقي تحت العام بعد التخصيص المرأة المعلوم عدم قرشيتها ، والتي لم يثبت انتسابها إلى قريش. فأصالة عدم الانتساب إليه تثبت فرديّة هذه المرأة للعام ، فتصير محكوما بحكمه ، فعلى هذا المبنى لا يقيد العام بقيد عدميّ إذا كان الخاص أمرا وجوديا كقوله : «كل امرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلّا إن تكون امرأة من قريش» ، وكذا لا يقيّد بقيد وجودي إذا كان الخاص أمرا عدميا كقوله : «أكرم العلماء غير الفساق».

وكيف كان ؛ فالتخصيص لا يوجب تعنون العام بعنوان خاص ، فلو صح هذا المبنى لصح استصحاب العدم الأزلي لإحراز دخول الفرد المشكوك في العام ، فيقال في مثال المتن : إن هذه المرأة لم يكن بينها وبين قريش انتساب ، وبعد وجودها يشك في انتقاض عدم الانتساب ، فيستصحب ، ويكفي في إثبات حكم العام ـ أعني : تحيض المرأة إلى خمسين عاما ـ استصحاب عدم الانتساب بينها وبين قريش ؛ إذ المفروض كما عرفت :

أن المرأة المحكومة بالتحيّض إلى خمسين لم تقيد بقيد ، فالمرأة غير القرشية والمرأة التي لم يتحقق انتساب بينها وبين قريش مندرجتان تحت العام ، وعدم الانتساب المزبور يكون بمفاد ليس التامة ، واستصحابه كاف في إدراج المرأة المشكوكة القرشية فيمن تتحيّض إلى خمسين ؛ لما عرفت غير مرّة : من عدم تعنون العام بعنوان خاص.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح استصحاب العدم الأزلي في المقام ، وتركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار. فنكتفي بتوضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية :

قوله : «كان إحراز المشتبه» جواب لمّا في قوله : «لمّا كان غير معنون» المراد بالأصل الموضوعي هو الأصل المنقّح لموضوع العام لإجراء حكمه عليه ، وبهذا الأصل يخرج المقام عن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ؛ لأن هذا الأصل الموضوعي كالعلم بفردية شيء

٣١٤

إنّها ممّن لا تحيض إلا إلى خمسين ، لأن المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضا (١) باقية تحت ما دلّ على أن المرأة إنّما ترى الحمرة إلى خمسين ، والخارج عن تحته هي القرشية ، فتأمل تعرف (٢).

______________________________________________________

للعام في لزوم ترتيب حكمه عليه.

قوله : «إلا ما شذ» كموارد تعاقب الحالتين ، كما إذا طرأ كل من الفسق والعدالة مثلا على شخص ، ولم يعلم المتقدم منهما فإن الأصل لا يجري في شيء منهما ، ولا يحكم فيه بحكم العام ؛ لكن موارد تعاقب الحالتين في غاية الندرة ، ففي غالب الموارد يمكن إحراز المصداق المشتبه بالأصل الموضوعي.

قوله : «فبذلك يحكم عليه بحكم العام» يعني : فبالأصل الموضوعي يحكم على الفرد المشتبه بحكم العام.

قوله : «وإن لم يجز التمسك به بلا كلام» يعني : وإن لم يجز التمسك بالعام بلا كلام ، لكونه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ، وقد عرفت : أنه مما لا يجوز ؛ وإن جوّزه المصنف في خصوص ما إذا كان المخصص لبيّا.

وكيف كان ؛ فالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية مع الغض عن الأصل الموضوعي غير جائز ، لكنه بعد إحراز فردية المشتبه للعام بالأصل الموضوعي لا مانع من التمسك بالعام ؛ لخروجه حينئذ عن التمسك به في الشبهة المصداقية كما تقدم.

قوله : «فلا أصل يحرز أنها قرشية» يعني : الأصل الجاري في العدم النعتي ، ووجه عدم جريان هذا الأصل واضح ؛ لعدم الحالة السابقة له ، ولذا نفي المصنف هذا الأصل وأبدله بأصالة عدم الانتساب الذي هو عدم محمولي.

(١) يعني : كالمرأة غير القرشية ، فكل امرأة تحيض إلى خمسين ، والخارج هي المرأة القرشية.

(٢) يعني : فتأمل تعرف ، حتى لا تتوهم التعارض بين أصالة عدم الانتساب إلى قريش ، وبين عدم الانتساب إلى غير قريش ، ويسقط الأصل المزبور عن الاعتبار ؛ وذلك لأن التعارض فرع ترتب الأثر على كل من المتعارضين ، وليس المقام كذلك ؛ إذ لا أثر لأصالة عدم الانتساب إلى غير قريش ، بعد وضوح : كون موضوع الحكم بالتحيّض نفس المرأة ؛ لا بقيد كونها من غير قريش حتى تصح دعوى جريان أصالة عدم الانتساب بينها وبين غير قريش.

فالمتحصل : أن موضوع الحكم بالتحيّض إلى خمسين سنة نفس المرأة ، والمانع عن ذلك انتسابها إلى قريش ، فإذا زال هذا المانع بالأصل حكم بتحيّضها إلى خمسين.

٣١٥

وهم (١) وإزاحة

ربما يظهر عن بعضهم : التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فالأصل ينفي عنوان الخاص في الفرد المشتبه ، وحينئذ فيشمله العام ويترتب عليه حكمه ، وليس المراد من نفي الأصل ترتيب آثار العام حتى يقال : إنه مثبت والمصنف لا يقول بحجيّة الأصل المثبت.

وهم وإزاحة

(١) وقبل توضيح هذا الوهم لا بد من بيان مورد هذا الوهم فنقول : إن التمسك بالعام في المورد المشكوك على نحوين :

الأول : أن يكون الشك من جهة احتمال التخصيص ؛ كأن يشك في شمول : «وأوفوا بالنذور» مثلا للنذر ، مع نهي الوالد ، ومن المعلوم : أن حال هذا القسم من الشك حال ما تقدم طابق النعل بالنعل.

الثاني : أن يكون الشك لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى. هذا القسم الثاني هو مورد هذا الوهم.

وتوضيح هذا الوهم يتوقف على مقدمة وهي : أن دليل الحكم تارة : يكون متعرّضا لحكم عنوان من العناوين الأوّلية ، نظير الأمر بالوضوء مثلا ، وأخرى : يكون متعرضا لحكم عنوان من العناوين الثانوية ؛ كدليل النذر ، أو وجوب إطاعة الوالدين أو السيد أو الزوج وغيرها من الموارد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه إذا كان الوضوء موردا للنذر ، وكان الأمر المتعلق به بعنوانه الأولي مجملا ، فلا يعلم بأن الوضوء الواجب هل هو الوضوء بمطلق الماء ولو كان مضافا ، أو بالماء المطلق فيشك في صحة الوضوء إذا كان بالماء المضاف ، فيمكن رفع هذا الشك والحكم بصحة الوضوء بعموم دليل مثبت لحكم لعنوان ثانوي ، كدليل النذر ، فيتمسك بعموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر لصحة هذا الوضوء ، وحكم ببراءة ذمة الناذر عن النذر ، فإن مقتضى عموم أدلة وجوب الوفاء هو : وجوب هذا الوضوء وفاء بالنذر ، فيجب إتيانه ، ومن المعلوم : أن كل ما يجب إتيانه فهو صحيح ؛ للقطع بأن الباطل لا

٣١٦

احتمال التخصيص ، بل من جهة أخرى ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل : «أوفوا بالنذور» فيما إذا وقع متعلقا للنذر ؛ بأن يقال (١) : وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم ، وكلّ ما يحبب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا ؛ للقطع (٢) بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به.

وربّما يؤيد ذلك (٣) بما ورد من صحة الإحرام والصيام قبل الميقات ، وفي السفر إذا تعلق بهما النذر كذلك.

______________________________________________________

يجب إتيانه ، ولهذا تمسك بعضهم بعموم أدلة وجوب الوفاء بالنذر لصحة الوضوء أو الغسل إذا تعلق به النذر ، وقد عرفت وجه الصحة.

(١) إشارة إلى ما ذكرناه من تقريب التمسك بعموم أدلة النذر على صحة الوضوء بالماء المضاف.

(٢) تعليل لقوله : «وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا» ، وهذا يكون أمرا واضحا وضروريا ، إذ لا معنى لوجوب الوفاء بالنسبة إلى العمل الفاسد الذي لا يتعلق به أمر حتى يجب امتثاله ، ويمكن جعل الدليل بصورة القياس الاقتراني من الشكل الأول فيقال : الإتيان بهذا الوضوء واجب ، وكلما كان الإتيان به واجبا كان صحيحا ، فينتج الإتيان بهذا الوضوء كان صحيحا.

أما الصغرى : فلعموم وجوب الوفاء بالنذر ، وأما الكبرى : فللتلازم بين وجوب الوفاء والصحة.

(٣) أي : التمسك بالعام في حكم الفرد المشكوك من غير ناحية الشك في التخصيص.

تقريب التأييد : أنه إذا صح الإحرام قبل الميقات ، والصوم في السفر بالنذر ، مع القطع ببطلانهما بدون النذر ، فصحة الوضوء بمائع مضاف بالنذر مع الشك في بطلانه بدون النذر تكون بطريق أولى.

وأما وجه تعبيره بالتأييد دون الدليل ـ أي : لم يقل : وربما يدل على ذلك ـ لاحتمال أن تكون صحة الإحرام قبل الميقات ، وصحة الصوم في السفر بالنذر من جهة الأدلة الخاصة كالروايات الواردة في باب نذر الإحرام قبل الميقات ونذر الصوم في السفر ، ومع هذا الاحتمال لا يصح التعبير بالدليل ؛ إذ ليس في الدليل احتمال آخر.

ومن هنا ظهر الفرق بين الدليل والتأييد ، وهو وجود احتمال الخلاف في التأييد دون الدليل.

وكيف كان ؛ فينبغي لنا أن نتكلم في هذه المسألة في مقامين :

٣١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : في صحة هذا النذر وفساده.

الثاني : في صحة الإحرام قبل الميقات ، والصوم في السفر بالنذر.

أما المقام الأول : فلا شبهة في أن صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحا ، فلا يصح فيما إذا تعلق بأمر مباح فضلا عن المرجوح ؛ لأن ما كان لله تعالى لا بد من أن يكون راجحا حتى يصلح للتقرّب به إليه تعالى ، فإن المباح لا يصلح أن يكون مقربا ، فإذن : لا بد أن يكون متعلقه عملا صالحا لذلك.

وعلى ضوء ذلك : فإذا شك في رجحان عمله وعدمه لم يمكن التمسك بعموم «أوفوا بالنذور» لفرض : أن الشبهة هنا مصداقية ، وقد عرفت فيما سبق : أنه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، بل هو من أظهر أفراد التمسك به فيها ، ولعل من يقول به لم يقل بجوازه في المقام يعني : فيما إذا كان المأخوذ في موضوع حكم العام عنوانا وجوديا ، كما هو المفروض هنا ، فإن موضوع وجوب الوفاء بالنذر قد قيّد بعنوان وجوديّ وهو عنوان الراجح.

وعليه : فلا يمكن الحكم بصحة الوضوء بمائع مضاف من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ؛ لفرض : أن الشك في رجحان هذا الوضوء ، ومعه كيف يمكن التمسك به؟ فالنتيجة : أنه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بمائع مضاف من ناحية عموم وجوب الوفاء بالنذر.

وأما المقام الثاني : فلأن الالتزام بصحة الإحرام قبل الميقات ، وصحة الصوم في السفر من جهة النذر ليس من ناحية التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ، بل هو من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتها كذلك بالنذر ، وعلى ذلك : فإما أن نجعل هذه الأدلة مخصصة لما دل على اشتراط صحة النذر برجحان متعلقه ، وإما أن نقول بكفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر في صحته كما التزم بذلك السيد الطباطبائي «قدس‌سره» في العروة ؛ كما في «محاضرات في أصول الفقه ، ج ٥ ، ص ٢٣٤» مع تصرّف ما.

بقي الكلام في بيان الروايات فنقول : إن الروايات في الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر متعارضة ؛ إذ هناك روايات تدل على صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر ، وروايات تدل على عدم جواز الإحرام قبل الميقات ، وكذلك روايات الصوم في السفر.

ومما يدل على صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر ؛ ما رواه الشيخ في الاستبصار باسناده عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله «عليه‌السلام» عن رجل جعل لله عليه شكرا

٣١٨

والتحقيق (١) أن يقال : إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعموميات المتكفلة لأحكام

______________________________________________________

أن يحرم من الكوفة. قال : «فليحرم من الكوفة وليف لله بما قال» (١). وبهذا المضمون روايات أخرى تركناها رعاية للاختصار.

ومما يدل على صحة الصوم في السفر بالنذر : رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن الرضا «عليه‌السلام» قال : سألته عن الرجل يجعل لله عليه صوم يوم مسمى قال : «يصوم أبدا في السفر والحضر» (٢).

ومن الروايات الدالة على عدم جواز الإحرام قبل الميقات : ما رواه الصدوق بإسناده عن عبيد الله بن علي الحلبي ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال «عليه‌السلام» : «الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا ينبغي لحاجّ ولا معتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها» (٣).

وفي معناه روايات أخرى. ومما يدل على حرمة الصوم في السفر : ما رواه محمد بن الحسن بإسناده عن عمار الساباطي قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يقول : لله عليّ أن أصوم شهرا أو أكثر من ذلك أو أقل ، فعرض له أمر لا بد له من أن يسافر أيصوم وهو مسافر ، قال «عليه‌السلام» : «إذا سافر فليفطر لأنه لا يحل له الصوم في السفر فريضة كان أو غيرها والصوم في السفر معصية». (٤)

(١) هذا دفع الوهم المزبور وإزاحة له ، توضيحه يتوقف على مقدمة وهي : أن الحكم الشرعي الثابت لموضوعه لا يخلو عن قسمين ينقسم الثاني إلى قسمين :

الأول : أن يكون ثابتا للشيء بعنوانه الأولي يعني : بالنظر إلى ذاته كالإباحة الثابتة لعنوان الماء والتمر والحنطة ، ونحوها من العناوين الأولية الذاتية.

الثاني : أن يكون ثابتا للشيء بعنوانه الثانوي يعني : بالنظر إلى ما هو خارج عن ذاته ، كعنوان العسر والحرج ، والنذر ، والشرط ، والضرر ، وإطاعة الوالدين وغيرها.

مثلا : إذا كان الوضوء ضرريا : فالحرمة العارضة عليه إنما هو بالنظر إلى عنوانه الثانوي وهو كونه ضرريا ، وإلا فهو في ذاته مستحب ، وكذا عدم الوجوب عارض على الصوم إذا صار حرجيّا وإلا فهو في ذاته واجب في شهر رمضان.

__________________

(١) التهذيب ، ج ٥ ، ص ٥٣ ، ح ٨ ، الاستبصار ، ج ٢ ، ص ١٦٣ ، ح ٨.

(٢) الاستبصار ، ج ٢ ، ص ١٠١ ، ح ٦.

(٣) الكافي ، ج ٤ ، ص ٣١٩ ، ح ٢ / التهذيب ، ج ٥ ، ص ٥٥ ، ح ١٣ / الفقيه ، ج ٢ ، ص ٣٠٢ ، ح ٢٢.

(٤) التهذيب ، ح ٤ ، ص ٣٢٨ ، ح ٩٠.

٣١٩

العناوين الثانوية ـ فيما شك من غير جهة تخصيصها ـ إذا أخذ في موضوعاتها أحد

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فالحكم الثابت للشيء بعنوانه الثانوي على قسمين :

أحدهما : أن يكون ثابتا له مطلقا أي : بدون أن يكون ثبوت الحكم الشرعي بالعنوان الثانوي ، مشروطا بثبوت حكم خاص لذلك الشيء نظرا إلى ذاته وبعنوانه الأوّلي.

وثانيهما : بأن يكون ثبوت الحكم بالعنوان الثانوي للشيء مشروطا بأن يكون ذلك الشيء نظرا إلى ذاته وبعنوانه الأولي محكوما بحكم خاص.

والأول : كالحرمة الثابتة للغنم بعنوان ثانوي وهو عنوان كونها موطوءة ، فإن ثبوتها لها بهذا العنوان غير مشروط بثبوت الإباحة مثلا لها بعنوانها الذاتي الأولي ، يعني : لم تؤخذ الإباحة للغنم بعنوانها الأولي شرطا في ترتب الحرمة عليها بعنوانها الثانوي ـ وهو كونها موطوءة ـ بل الحرمة تترتب عليها إذا صارت موطوءة ، وإن فرض عدم ثبوت أي حكم شرعي لها بعنوانها الأولي أي : قبل صيرورتها موطوءة.

والثاني : كصحة الصوم ، ووجوب صلاة الليل ، والتصدق على الفقراء بالنذر ، وكذا وجوب إطاعة الوالد فإن الحكم الشرعي الثابت للشيء بعنوانه الثانوي في هذه الموارد مشروط بأن يكون ذلك الشيء محكوما بحكم خاص نظرا إلى ذاته ، وبعنوانه الأولي كالرجحان والاستحباب في مثال صحة الصوم ، ووجوب صلاة الليل والتصدق على الفقراء ، والإباحة في وجوب إطاعة الوالدين.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا مجال للتمسك بالعمومات المتكفلة لأحكام العناوين الثانوية إذا كانت الأحكام الثابتة بها للأشياء من القسم الثاني ، وهو أن يكون الحكم الثابت للشيء بعنوانه الثانوي مشروطا ؛ بأن يكون ذلك الشيء محكوما بحكم خاص نظر إلى ذاته وبعنوانه الأولي كمثال صحة الصوم بالنذور ، ووجوب صلاة الليل ، والتصدق على الفقراء به ، وكذا وجوب إطاعة الوالد ، وحينئذ فإذا تعلق النذر بفعل مشكوك الرجحان كالوضوء بالمائع المضاف كان أصل انعقاد النذر مشكوكا ، ومعه لا مجال للتمسك بعموم الوفاء بالنذر لإثبات صحة الوضوء ، وكذا إذا أمر الوالد بفعل محتمل الحرمة كشرب التتن كان تحقق موضوع وجوب الإطاعة ـ وهو كون الفعل مباحا ـ مشكوكا ، ومعه لا معنى للتمسك بعموم الطاعة ؛ لأن التمسك بعموم الوفاء بالنذر في المثال الأول موقوف على إحراز الرجحان. وبعموم الطاعة في المثال الثاني موقوف على إحراز الجواز قبل العموم ؛ إذ لا يمكن إثبات الرجحان والجواز بنفس العموم ؛ لكونه مستلزما للدور الباطل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أفاده المصنف في إزاحة الوهم تحت عنوان

٣٢٠