دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

فصل

لا شبهة (١) في أن العام المخصّص بالمتصل أو المنفصل حجة فيما بقي ، فيما علم

______________________________________________________

في حجية العام المخصص بالمتصل أو المنفصل في الباقي

وقبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن العام قد يخصّص بدليل متصل كأن يقول : «أكرم العلماء إلا الفساق منهم».

وقد يخصّص بدليل منفصل كأن يقول : «أكرم العلماء» ، ثم يقول : بعد مدة «لا تكرم الفساق من العلماء» ، وعلى كلا التقديرين : أفراد العام المخصص على أقسام :

١ ـ الفرد المعلوم دخوله في المخصص ؛ كالعالم الفاسق.

٢ ـ الفرد المعلوم بقاؤه في العام ، كالعالم العادل.

٣ ـ الفرد المحتمل دخوله في المخصص ؛ بأن يكون مفهوم الفسق مرددا بين ارتكاب مطلق المعاصي ، وبين ارتكاب المعاصي الكبيرة فقط ، فمرتكب الكبيرة فاسق يقينا ، وأما مرتكب الصغيرة فهو مردد بين الدخول في المخصص ، وبين البقاء في العام ؛ إذ لو كان المراد من الفاسق من ارتكب مطلق المعاصي فهو داخل في المخصص ؛ وإلا فهو باق في العام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو حجية العام في الباقي فيما علم بقاؤه فيه مطلقا أي : سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا ، وفيما احتمل دخوله في المخصص فيما إذا كان المخصص منفصلا كالمثال الثاني ، فيما إذا كان الفاسق مرددا بين مرتكب مطلق المعاصي ، وبين مرتكب الكبيرة فقط. هذا هو ظاهر المصنف.

وهناك احتمالات كثيرة تركنا ذكرها لكونها أجنبية عما هو ظاهر كلامه.

(١) المقصود من عقد هذا البحث هو : تحقيق حال العام المخصص بمخصص متصل أو منفصل من حيث كونه حجة في الباقي وعدمها ، بمعنى : أن العام إذا خصص بشيء فهل يوجب تخصيصه به سقوطه عن الحجية بالنسبة إلى الباقي ، أم لا يوجب ذلك : فيه

٢٨١

عدم دخوله في المخصص مطلقا ولو كان متصلا ، وما احتمل دخوله فيه أيضا إذا كان منفصلا ، كما هو المشهور بين الأصحاب ، بل لا ينسب الخلاف إلا إلى بعض أهل الخلاف (١).

وربما فصّل بين المخصص المتصل (٢) ، فقيل بحجيّته فيه ، وبين المنفصل فقيل بعدم حجيته.

______________________________________________________

أقوال ؛ «قول» بالسقوط عن الحجية بمجرد التخصيص ، و «قول» بعدم السقوط ـ وهو المشهور بين الأصحاب ـ و «قول» بالتفصيل بين المخصص المتصل فيكون العام حجة في الباقي ، وبين المنفصل فلا يكون حجة فيه.

(١) أي : بعض العامة ؛ كأبي ثور على ما في التقريرات.

(٢) وقبل بيان أحكام أقسام العام المخصص ينبغي بيان ما هو الضابط في الاتصال والانفصال ، فيقال : الضابط فيهما وحدة الجملة وتعددها ، فقول القائل : لا تكرم الفساق من العلماء من مثل : «أكرم العلماء لا تكرم الفساق من العلماء» منفصل لتعدد الجملتين وإن اتصلت الثانية بالأولى حسّا ، كما أن وصف العدول ونحوه مما يكون من الملابسات كالحال والبدل والشرط من قولنا : «أكرم العلماء العدول» أو «عادلين» ، أو «الفقهاء» أو «إن كانوا عدولا» متصل وإن انفصل عن الجزء الأول حسا ، والأول : مثال للوصف ، والثاني : للحال ، والثالث : للبدل ، والرابع : للشرط.

وكيف كان ؛ فضابط الاتصال والانفصال هو استقلال الجزء وعدم استقلاله ، فإن لم يستقل بأن كان الكلام جملة واحدة ، وكان أحد أجزائها قيدا أو شرطا لها فهو متصل وإن كان منفصلا حسّا ، وإن استقل بأن كان بنفسه جملة على حدة مثل : لا تكرم الفساق من العلماء في المثال المذكور فهو منفصل وإن كان متصلا حسا ، ولازم الضابط المذكور في الاتصال والانفصال هو : انعقاد الظهور في العموم فيما إذا كان منفصلا دون ما إذا كان متصلا.

وأما بيان أحكام أقسام العام المخصص على رأي المصنف تبعا للمشهور :

١ ـ حجيّة العام في الباقي ، مع العلم بعدم دخوله في المخصص إذا كان متصلا.

٢ ـ حجيّة العام في الباقي مع العلم بعدم دخوله في المخصص إذا كان منفصلا ، فيجوز التمسك بالعام في هاتين الصورتين.

وأما في المخصص المتصل : فلعدم ظهور الكلام في غير الباقي ، فإن العام كان ظاهرا في الجميع ، فبعد خروج بعض الأفراد لا ينثلم ظهوره في الباقي ، فيكون حجة فيه.

٢٨٢

واحتج النافي (١) بالإجمال ؛ لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات ، وتعيين الباقي من بينها بلا معيّن ترجيح بلا مرجّح.

______________________________________________________

وأما في المنفصل : فلعدم مانع عن حجيّته في الباقي ، ضرورة : أن ظهور العام في العموم قد انعقد وصار حجة فيه ، فلا ترفع اليد عن حجيّته فيه إلا بحجة أقوى ، وهي ظهور المخصص المنفصل بمقدار يزاحمه فيه وهو ما علم دخوله في المخصص.

وهناك صورة ثالثة ، وهي : ما احتمل دخوله في المخصص فيما إذا كان منفصلا وصورة رابعة وهي : ما احتمل دخوله في المخصص فيما إذا كان متصلا ، وقد حكم المصنف بحجيّة العام في الباقي في الصورة الثالثة دون الصورة الرابعة ؛ وذلك لانعقاد ظهور العام في العموم في الصورة الثالثة ، وعدم انعقاد ظهوره في العموم في الصورة الرابعة.

فالمتحصل : أن المخصص إما متصل وإما منفصل ، وعلى التقديرين : إما معلوم عدم دخوله في المخصص ، وإما محتمل دخوله فيه ، فالحاصل من ضرب الاثنين في الاثنين هو أربعة ، فقد حكم المصنف بحجيّة العام في الباقي في ثلاثة منها.

(١) يعني : احتج النافي للحجيّة مطلقا : بأنّ العام حقيقة في العموم ، وبعد تخصيصه لم يكن العام ـ وهو المعنى الحقيقي ـ مرادا ، فيصير مجازا ، وحيث إن المجازات متعددة ـ حسب مراتب الخاص ـ يصير اللفظ مجملا ، فلا يحمل على شيء منها ؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح ، فيبقى اللفظ مترددا بين جميع مراتب الخاص ، وبعضها فيسقط عن الحجية أي : فلا يكون حجة في شيء منها ، من غير فرق في ذلك بين كون المخصص متصلا أو منفصلا.

قوله : «لتعدد المجازات» تعليل للإجمال ؛ إذ بعد تعدد المجازات وعدم مرجّح لبعضهما على الآخر يصير العام مجملا ، إذ لم يعلم ما أريد منه بعد التخصيص ، فيسقط عن الحجية.

لا يقال : إنه إذا تعذرت الحقيقة وتعددت المجازات فأقرب المجازات إلى الحقيقة أولى بالإرادة من غيره ، وعليه : يكون تمام الباقي أولى بالإرادة ؛ إذ هو أقرب إلى الحقيقة ، فيكون حجة في تمام الباقي.

فإنه يقال : إن تعيين تمام الباقي من بين مراتب الخاص بلا معيّن وترجيح بلا مرجّح ؛ إذ لا فرق بينه وبين غيره من مراتب الخاص من حيث المجازية. هذا مضافا إلى : أن أولوية

٢٨٣

والتحقيق في الجواب (١) أن يقال : إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازا ، أمّا في التخصيص بالمتصل : فلما عرفت من : إنه لا تخصيص أصلا ، وأنّ أدوات العموم قد استعملت فيه ، وإن كان دائرته ـ سعة وضيقا ـ تختلف باختلاف ذوي (٢) الأدوات ، فلفظة كل في مثل : كل رجل (٣) وكل رجل عالم قد استعملت في العموم ، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر ؛ بل في نفسها في غاية القلّة.

______________________________________________________

الأقرب لا يفيد إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ، لأن الأصل حرمة العمل به إلا ما خرج بالدليل كالظن الحاصل من ظاهر الكتاب مثلا.

(١) والتحقيق في الجواب عن استدلال النافي : أن يقال ببقاء الظهور العرفي في الباقي لهذا الفرد من المجاز من المجازات المحتملة ، فلا يلزم التعيين بلا معيّن ، ولا الترجيح بلا مرجّح.

هذا على القول بالمجازية ، وإلا فنقول : إنه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازا بمعنى : إن التخصيص لا يستلزم المجازية في العام أصلا ، من دون فرق في ذلك بين كون المخصص متصلا أو منفصلا.

أما في المتصل : فلما مرّ في بحث «كل» والنكرة الواقعة في سياق النفي ـ من إنه لا تخصيص حقيقة ، وأن إطلاق التخصيص عليه مسامحة ؛ لأن أدوات العموم لا تستعمل إلا في العموم ، غاية الأمر : دائرته ضيّقة في بعض الموارد حيث إن قولنا : «أكرم كل رجل عالم» ليس مثل قولنا : «أكرم كل رجل» في سعة الدائرة وكثرة الأفراد ، ومن المعلوم : عدم التفاوت في مثل : لفظ كل من حيث استعماله في العموم بين كثرة أفراد مدخوله وبين قلّتها.

(٢) أي : المدخولات لأدوات العموم. وهي الموضوعات التي تقع بعد الأدوات المقتضية لعمومها.

(٣) أي : الموسع ، «وكل رجل عالم» المضيّق «قد استعملت في العموم» الذي هو معناه الحقيقي.

وحاصل الكلام : أن لفظ «كل» ـ وأمثاله من أدوات العموم ـ لم يستعمل في غير معناه الموضوع له حتى يلزم تعدده ، فلا فرق في استعماله في العموم بين «كل رجل» وبين «كل رجل عالم» ، وإنما الفرق بين المثالين هو في كثرة أفراد الأول ، وقلّة أفراد الثاني ، وهذا الفرق نشأ من إطلاق الرجل في المثال الأول ، وتقييده بالعالم في المثال الثاني ، وهذا لا يقدح في دلالة لفظ «كل» على العموم في مدخوله.

٢٨٤

وأما في المنفصل (١) : فلأن إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم استعماله (٢) فيه ، وكون الخاص قرينة عليه ، بل من الممكن قطعا استعماله (٣) معه في العموم قاعدة ،

______________________________________________________

(١) يعني : وأما عدم لزوم المجاز في التخصيص بالمخصص المنفصل فتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : أن ذكر العام وإرادة الخاص يتصور على قسمين :

١ ـ أن يستعمل العام في الخاص ابتداء على نحو المجاز ؛ بأن يستعمل «العلماء» في «أكرم العلماء» في العدول منهم ، ثم ينصب قرينة على هذا الاستعمال المجازي.

٢ ـ أن يستعمل العام في العموم ـ أعني : معناه الحقيقي ، ولكن أراد المولى الخاص بالإرادة الجديّة ؛ إذ قد يكون للمولى حين الاستعمال إرادة جدية وإرادة استعمالية ، فيريد بالإرادة الاستعمالية : المعنى الحقيقي ـ وهو تمام الموضوع له ـ وبالإرادة الجدية : المعنى المجازي ـ وهو بعض الموضوع له كالخاص.

ثم العبرة في الحقيقة والمجاز إنما هي بالإرادة الاستعمالية التي هي إفناء اللفظ في المعنى ؛ دون الإرادة الجدّية الباعثة على تشريع الأحكام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن العام المراد به الخاص يكون مجازا على التصوير الأول وهو استعماله في الخاص مجازا بالإرادة الاستعمالية.

وأما على التصوير الثاني وهو استعمال العام في العموم بالإرادة الاستعمالية : فلا يكون مجازا ؛ لما عرفت في المقدمة من : أن العبرة في الحقيقة والمجاز إنما هي بالإرادة الاستعمالية ، والمفروض : هو استعمال العام في العموم بالإرادة الاستعمالية ، فيكون على نحو الحقيقة لا على نحو المجاز. هذا خلاصة الكلام في عدم لزوم المجاز فيما إذا كان المخصص منفصلا.

(٢) أي : استعمال العام في الخصوص ، «وكون الخاص قرينة عليه» أي : على استعمال العام في الخاص. يعني : أن إرادة الخصوص واقعا لا تستلزم الإرادة الاستعمالية ، أي : استعمال العام فيما أريد به واقعا ـ وهو المخصص المنفصل ـ لا تستلزم كون الخاص قرينة على الاستعمال المزبور حتى يكون الاستعمال مجازا فيلزم المجاز.

(٣) أي : استعمال العام مع المخصص المنفصل «في العموم قاعدة» ليتمسك بها في مقام الشك ، فلا يراد من استعمال العام في العموم إلا تأسيس قاعدة يرجع إليها في ظرف الشك ؛ لا أن العموم مراد جدي للمتكلم.

وكيف كان ؛ فلا مانع من استعمال العموم في معناه الموضوع له ، من دون إرادته الجدية ، بل لجعل العموم ضابطا كليا ليرجع إليه في مقام الشك في خروج بعض أفراده بالمخصص.

٢٨٥

وكون الخاص مانعا عن حجيّة ظهوره (١) تحكيما (٢) للنص أو الأظهر على الظاهر ، لا مصادما لأصل ظهوره ، ومعه لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازا كي يلزم الإجمال.

لا يقال : هذا (٣) مجرد احتمال ، ولا يرتفع به الإجمال لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه.

فإنه يقال : مجرد احتمال استعماله (٤) فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره

______________________________________________________

(١) يعني : كون الخاص مانعا عن حجية ظهور العام لا مانعا عن أصل ظهوره ؛ لوضوح : أن الخاص المنفصل لا يمنع عن ظهور العام في العموم ؛ بل عن حجيته.

(٢) هذا إشارة إلى وجه كون الخاص المنفصل مانعا عن حجية ظهور العام لا أصل الظهور ، فيسقط العام عن الحجية بالنسبة إلى مورد الخاص لتقديم الخاص عليه ؛ لأن المقرر في محله هو : تقديم النص ، أو الأظهر على الظاهر ، وعدّه من الجمع العرفي بين الدليلين ، وعدم معاملة التعارض بينهما.

قوله : «لا مصادما لأصل ظهوره» إشارة إلى أن الخاص لا يوجب انقلاب ظهور العام في العموم إلى ظهوره في الخصوص ، المردد بين مراتبه حتى يصير مجملا ؛ كما يقول به النافي للحجية مطلقا ، ومع هذا الاحتمال ـ الذي أشار إليه بقوله : «بل من الممكن قطعا» .. إلخ ـ «لا مجال للمصير إلى أنه قد استعمل فيه مجازا».

(٣) أي : ما ذكر من تقديم الخاص على العام تحكيما للنص ، أو الأظهر على الظاهر ، وكون المراد الاستعمالي هو العموم وإن كان ممكنا في مقام الثبوت إلا إنه مما لا دليل عليه في مقام الإثبات ؛ بل هو مجرد احتمال لا يرتفع به الإجمال ؛ إذ من المعلوم : أن مجرد الاحتمال ثبوتا لا يكفي في رفع الإجمال مع احتمال استعمال العام في مرتبة خاصة ، وكون الخاص قرينة عليه.

فحاصل الإشكال : أنه وإن احتمل كون المراد الاستعمالي هو العموم إلّا إن الإجمال لا يرتفع بهذا الاحتمال ؛ إذ يحتمل أيضا كون المراد الاستعمالي هو الخصوص أعني : مرتبة من المراتب الباقية ، فإذا استعمل العام في الخاص فقد صار المعنى مجملا ؛ لتردده حينئذ بين مراتب الخصوصيات ، وعدم تعيّن الباقي من بينها.

(٤) أي : مجرّد استعمال العام في الخاص لا يوجب إجمال العام بعد استقرار ظهور العام في العموم بحسب الإرادة الاستعمالية ، وعليه : فالخاص المنفصل يصادم ويزاحم حجية الظاهر ؛ لا أصل الظهور فيقدم على ظهور العام في مورد الخاص بالأقوائية ، ويكون العام حجة في غير مورد الخاص ؛ لعدم مانع عن حجيته فيه.

٢٨٦

في العموم ، والثابت من مزاحمته بالخاص إنما هو بحسب الحجيّة تحكيما لما هو الأقوى ، كما أشرنا إليه أنفا.

وبالجملة : الفرق بين المتصل والمنفصل (١) ، وإن كان بعدم انعقاد الظهور في الأول إلا في الخصوص ، وفي الثاني إلا في العموم ؛ إلا إنه لا وجه لتوهم استعماله مجازا في واحد منهما أصلا ، وإنما اللازم الالتزام بحجيّة الظهور في الخصوص في الأول ، وعدم حجيّة ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجة فيه في الثاني ، فتفطن.

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فإن العام قد استقر له الظهور في العموم قبل ورود الخاص ، ثم الخاص لا يوجب انقلاب هذا الظهور ؛ بل يوجب انقلاب حجيّته أي حجيّة العام على المراد الجدي ، بمعنى : أن العام مستعمل في معناه الحقيقي ـ وهو العموم ـ لكنه ليس مرادا بالإرادة الجدية.

وحاصل الجواب : أن العام لانفصاله عن المخصص ينعقد له الظهور في العموم ، غاية الأمر عدم حجية هذا الظهور لمزاحمته بالخاص الأقوى دلالة عنه.

(١) يعني : المخصص المتصل يفترق عن المخصص المنفصل في شيء ، ويشترك معه في شيء آخر.

وأما الأول : فلأن العام في المخصص المتصل لا ينعقد له ظهور في العموم ، ولذا لا يكون حجة إلا في الأفراد التي علم بعدم دخولها في الخاص ، ولا يكون حجة في الأفراد المشكوكة ؛ إذ المفروض : عدم ظهور العام في جميع الأفراد حتى يكون حجة في تمامها إلا ما علم بخروجه كما في المخصص المنفصل.

هذا بخلاف المخصص المنفصل ؛ فإن العام فيه ينعقد له ظهور في جميع الأفراد حتى الخاص ؛ لكن نرفع اليد عن حجية هذا الظهور بالنسبة إلى ما علم كونه من أفراد الخاص لأقوائية ظهوره من ظهور العام ، وأما فيما عدا ذلك : فحجية ظهور العام سليمة عن المانع ، فيكون حجة حتى فيما احتمل خروجه ودخوله في الخاص.

وأما الثاني : وهو اشتراك المخصص المتصل مع المخصص المنفصل في شيء ، فلأن العام في كليهما استعمل في المعنى الحقيقي ، فلا يلزم المجاز أصلا.

فالفارق بينهما هو : انعقاد الظهور للعام في العموم في المنفصل دون المتصل ، والجامع بينهما هو : عدم لزوم المجاز بالتخصيص. هذا ما أشار إليه بقوله : «لا وجه لتوهم استعماله مجازا» ، كما أشار إلى الفرق بينهما بقوله : «وإنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الأول».

٢٨٧

وقد أجيب عن الاحتجاج (١) : بأن الباقي أقرب المجازات.

وفيه (٢) : إنه لا اعتبار في الأقربية بحسب المقدار ، وإنما المدار على الأقربية بحسب زيادة الأنس الناشئة من كثرة الاستعمال ، وفي تقريرات بحث شيخنا الأستاذ «قدس‌سره» في مقام الجواب عن الاحتجاج (٣) ما هذا لفظه :

والأولى (٤) أن يجاب بعد تسليم مجازية الباقي : بأن دلالة العام على كل فرد من

______________________________________________________

(١) هذا جواب عن الاحتجاج المذكور ـ أعني : تعدد مراتب المجاز ولزوم الإجمال ـ بعد تسليم مجازية العام بالتخصيص.

وحاصل هذا الجواب : أنه لو سلمنا مجازية العام المخصص ، وتعدّد المجاز ولكن لا يلزم الإجمال ؛ لأن الإجمال يلزم فيما إذا لم يتعين أحد المجازات ، وأما إذا كان هناك معيّن لأحدها فلا يلزم الإجمال أصلا.

والمفروض في المقام : وجود ما يعيّن وهو تمام الباقي ؛ لأنه أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي بعد تعذر حمل اللفظ عليه ، فإذا فرضنا عدد العلماء ـ في مثل : «أكرم العلماء» ـ مائة ، وخصص بالنحويين الذين كان عددهم عشرة ، فالباقي ـ وهو تسعون ـ أقرب إلى المعنى الحقيقي من خصوص الفقهاء الذين عددهم أيضا عشرة مثلا.

وهذه الأقربية توجب تعيّن الباقي ، فلا إجمال في البين حتى يكون مانعا عن التمسك بالعام.

(٢) أي : ما في هذا الجواب من الإشكال : أن الأقربية الكمية لا تجدي في ظهور العام في تمام الباقي ، وإنما الموجب للظهور هي الأقربية الأنسية الناشئة من كثرة الاستعمال ، فالأقربية المرجحة لبعض المجازات هي الأقربية الأنسية الناشئة في أذهان المخاطبين من كثرة استعمال لفظ العام في ذلك البعض ، فلا عبرة بالأقربية الكمية الناشئة من كثرة الأفراد بدون استعمال اللفظ فيها ، فإن هذه الأقربية لا توجب تعيّن تمام الباقي ، بحيث يصير العام ظاهرا فيه.

فالمتحصل : أن ما هو المعلوم من الأقربية الكمية لا يجدي في ظهور العام في تمام الباقي ، وما هو المجدي في تعيين بعض المجازات من الأقربية الأنسية غير معلوم ، فتصل النوبة إلى أصالة عدم كثرة الاستعمال عند الشك في كثرة الاستعمال في الباقي وعدمها ، فتبقى حجة النافي بحالها.

(٣) أي : عن احتجاج النافي للحجية بالإجمال الناشئ عن تعدد المجازات.

(٤) يعني : أجاب صاحب التقريرات (١) بعد أن ردّ بما ذكره بقوله : «وأجيب» ـ بما

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ج ٢ ، ص ١٣٢.

٢٨٨

أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ولو كانت دلالة مجازية ؛ إذ (١) هي بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة ، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود ، والمانع مفقود ؛ لأن المانع في مثل المقام إنما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره ، فلو شك فالأصل عدمه (٢). انتهى موضع الحاجة (*).

قلت (٣) : لا يخفى : أن دلالته على كل فرد إنما كانت لأجل دلالته على العموم

______________________________________________________

حاصله : أنّا نسلم أن الباقي مجاز كسائر مراتب الخصوصيات ولكنه متعيّن من بينها لا من جهة كونه أقرب المجازات ، بل من جهة وجود المقتضي للحمل عليه وفقد المانع عنه ، وأما وجود المقتضي فهو دلالة على فرد آخر ، لأن المناط في دلالته على كل واحد من أفراده هو : انطباق معناه عليه ، وهو موجود في دلالة العام عليه ؛ لأنّ دلالة العام على كل فرد من أفراده ، فإذا لم يدل على فرد لخروجه عنه بدليل خاص لم يستلزم ذلك عدم دلالته على بقية الأفراد ، فلو كان للعام مائة فرد وخرج عنه عشرون فردا لم يقدح ذلك في دلالته على الباقي ، وإن كانت الدلالة على الباقي مجازية. كما هو مدعى النافي فإنه يدعي كون استعمال العام في الباقي مجازا.

وجه عدم القدح : أن المجازية لم توجب إلا قصور دلالة العام على أفراد الخاص ، فلا يشمل الأفراد الخارجة عنه بالتخصيص ، وأما دلالته على غير ما خرج عنه من الأفراد فهي باقية على حالها ؛ إذ ليس المعنى الحقيقي ـ وهو العموم ـ مباينا للمعنى المجازي حتى تتفاوت الدلالة فيهما.

فالمتحصل : أن المقتضي لدلالة العام على كل فرد من أفراده بالاستقلال ـ وهو الانطباق ـ موجود ، والمانع مفقود ، ومع الشك في وجوده يرجع إلى الأصل. هذا ما أشار إليه بقوله : «فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود».

(١) تعليل لقوله : «ولو كانت» ، وضمير «هي» راجع إلى المجازية ، ومعنى العبارة : أن المجازية إنما تنشأ من ناحية خروج أفراد المخصص عن العام ؛ ولا تنشأ من دخول غير أفراد المخصص في مدلول العام حتى يكون المعنى المجازي مباينا للمعنى الحقيقي ، وتكون مباينتهما موجبة لتفاوت دلالة العام قبل التخصيص وبعده.

(٢) يعني : عدم ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله.

(٣) وحاصل جواب المصنف عن التقريرات : هو أن دلالة العام على أفراده إنما كان

__________________

(*) مطارح الأنظار ، ج ٢ ، ص ١٣٢.

٢٨٩

والشمول ، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في الخصوص ـ كما هو المفروض ـ مجازا ، وكان إرادة كل واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز انتهاء التخصيص إليه ، واستعمال العام فيه مجازا ممكنا ، كان (١) تعيّن بعضها بلا معيّن ترجيحا بلا مرجح ، ولا مقتضي (٢) لظهوره فيه ، ضرورة (٣) : أن الظهور إمّا بالوضع ، وإمّا بالقرينة ، والمفروض : إنه ليس بموضوع له ، ولم يكن هناك قرينة ، وليس له موجب آخر (٤).

ودلالته (٥) على كل فرد على حدة ـ حيث كانت في ضمن دلالته على العموم ـ

______________________________________________________

في ضمن دلالة العام على المعنى ، وفي ضمن استعماله في المعنى الحقيقي ، فالمناط في دلالته على فرد من أفراده هو استعماله في معناه الحقيقي ـ وهو العموم والشمول ـ فإذا لم يستعمل في المعنى الحقيقي كما هو المفروض في المقام لأنه قد استعمل في الخصوص مجازا ، والمفروض أيضا : أن المعاني المجازية كثيرة ، فلا بد من تعيين أحدها بمرجح ؛ لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح ، والمفروض : عدمه ؛ إذ لا قرينة على تعيين تمام الباقي بالخصوص ، فلا محالة يصير العام المخصص حينئذ مجملا ؛ إذ لا مقتضي لظهوره في الباقي ؛ لأن منشأ الظهور ومقتضيه إما الوضع ، وإما القرينة ، وكلاهما مفقود.

أما الأول : فواضح ، لأن المفروض : عدم كون الباقي معنى حقيقيا للعام.

وأما الثاني : فلعدم قرينة في البين إلا الخاص وهو قرينة صارفة ، لا معيّنة ، فالموجب لظهور العام في الباقي مفقود.

وكيف كان ؛ فالمانع عن حمل العام على الباقي وإن كان مفقودا إلّا إن المقتضي لحمله عليه لم يكن موجودا.

(١) جواب «إذا» في قوله : فإذا لم يستعمل.

(٢) هذا ناظر إلى ردّ ما في التقريرات (١) من قوله : «فالمقتضي للحمل على الباقي موجود».

(٣) تعليل لعدم المقتضي لظهور العام في العموم.

(٤) أي : ليس لظهور العام في الباقي موجب آخر غير الوضع والقرينة.

(٥) هذا ناظر إلى ما في التقريرات (٢) : «من : أن دلالة العام على كل فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر».

وحاصل ردّ المصنف ـ على ما في التقريرات ـ أن دلالة العام على كل فرد من أفراده منوط باستعماله في معناه الحقيقي وهو العموم ، فدلالته على كل فرد من أفراده قبل

__________________

(١ و٢) مطارح الأنظار ، ج ٢ ، ص ١٣٢.

٢٩٠

لا يوجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم ، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه ، فالمانع عنه (١) وإن كان مدفوعا بالأصل ، إلا إنه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع. نعم (٢) ؛ إنّما يجدي إذا لم يكن مستعملا إلا في العموم ، كما فيما حققناه في الجواب (٣) ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

التخصيص لا تقتضي دلالته على الباقي بعده ؛ وذلك لأن الدلالة على كل واحد من الأفراد قبل التخصيص كانت مستندة إلى استعمال العام في معناه الحقيقي ، فالدلالة على كل واحد منها ضمنية لا استقلالية ، ومع فرض عدم استعمال العام في العموم لا مقتضي لظهوره في تمام الباقي ؛ لانتفاء الدلالة الضمنية بانتفاء الدلالة المطابقية.

فالمتحصل : أن دلالة العام قبل التخصيص لا توجب ظهوره في الباقي بعد التخصيص إذا لم تكن هناك قرينة على تعيين الباقي.

(١) أي : فالمانع عن الظهور في الباقي وإن كان منتفيا بأصالة عدم المانع ؛ لكنها تجري بعد إحراز المقتضي والشك في وجود المانع ، وقد عرفت : عدم وجود المقتضي هنا للظهور في الباقي ، فلا مجال لأصالة عدم المانع على فرض عدم المقتضي كما هو المفروض ؛ لأن المقتضي للظهور هو الوضع ، والمفروض : رفع اليد عنه. لعدم استعمال العام في العموم بعد التخصيص.

(٢) يعني : أن أصل عدم المانع إنما يجدي فيما إذا استعمل العام في العموم ، وشك في تخصيصه ، ضرورة : أن هذا الأصل يجدي حينئذ لوجود المقتضي وهو الاستعمال في العموم ، وكون الشك في وجود المانع ، فيجري الأصل ، ويترتب عليه حجية العام في تمام مدلوله.

(٣) المراد من الجواب ما تقدم في قوله : «والتحقيق في الجواب أن يقال ..» إلخ ، وحاصل ما أفاده : أن العام لم يستعمل في الخاص مجازا أصلا ؛ بل استعمل في معناه الموضوع له وهو العموم ، غاية الأمر : دائرته تختلف سعة وضيقا باختلاف الموارد.

وكيف كان ؛ فمختار المصنف هو : حجية العام في الباقي لا من باب المجازية ، بل من باب الحقيقة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ محل النزاع : هو حجية العام في الباقي فيما علم عدم دخوله في المخصص مطلقا ، وما احتمل دخوله فيما إذا كان المخصص منفصلا ، وقد اختلفوا على أقوال ؛ قول :

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

بحجية العام في الباقي مطلقا أي : سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا.

وقول : بسقوط الحجية مطلقا. وقول : بالتفصيل بين المتصل والمنفصل ، فيكون العام حجة في الباقي في الأول دون الثاني.

ثم الضابط في الاتصال والانفصال هو : وحدة الجملة وتعددها ، بمعنى : أنه إذا كان العام والمخصص كلاما واحدا كان المخصص متصلا كقولنا : «أكرم العلماء العدول» ، أو «إن كانوا عدولا» ، وإذا كانا كلامين كان منفصلا كقولنا : «أكرم العلماء» ، «ولا تكرم الفساق من العلماء».

٢ ـ حجة القول بحجية العام في الباقي مطلقا :

أما في المتصل : فلعدم ظهور الكلام في غير الباقي ؛ لأن العام كان ظاهرا في الجميع ، فبعد خروج بعض الأفراد لا ينثلم ظهوره في الباقي ، فيكون حجة فيه.

وأما في المنفصل : فلعدم مانع عن حجيته في الباقي ضرورة : أن ظهور العام في العموم قد انعقد وصار حجة فيه ، فلا ترفع اليد عن حجيته فيه إلا بحجة أقوى وهي ظهور المخصص بمقدار ما يزاحمه فيه ، وهو ما علم دخوله في المخصص.

٣ ـ احتجاج النافي للحجيّة مطلقا : أن العام حقيقة في العموم ، وبعد التخصيص يصير مجازا في الباقي وحيث إن المجازات متعددة ، فيصير العام مجملا فيسقط عن الحجية ، بلا فرق بين كون المخصص متصلا أو منفصلا ، وتعيين إرادة تمام الباقي كتعيين إرادة سائر المراتب يحتاج إلى قرينة خاصة.

وقد أجاب المصنف عن احتجاج النافي بما حاصله : من أن التخصيص لا يستلزم المجازية في العام أصلا.

أما عدم المجازية في المتصل : فلما عرفت : من أن أدوات العموم لا تستعمل إلا في العموم.

وأما عدم المجازية في المنفصل : فلأن المجازية تابعة للإرادة الاستعمالية ، والمفروض : أن العام قد استعمل في العموم بالإرادة الاستعمالية ، فيكون حقيقة ، ولم يستعمل في الخاص بالإرادة الاستعمالية حتى يكون مجازا ، فيصير العام مجملا لأجل تعدد المجازات ، نعم ؛ كان المراد بالإرادة الجدية الخاص.

واستعمال العام في العموم مع المخصص المنفصل يكون من باب تأسيس قاعدة كلية ؛ ليتمسك بها عند الشك في خروج بعض أفراده عنه.

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا مانع حينئذ من استعمال العام في العموم من دون الإرادة الجدّية ، بل لجعل العموم قاعدة يرجع إليها عند الشك ، فيكون الخاص مانعا عن حجية ظهور العام في الخصوص ، لا عن أصل ظهوره في العموم.

٤ ـ الإشكال بأن المراد الاستعمالي هو العموم حتى لا يلزم المجاز مجرد احتمال لا يرتفع به الإجمال ؛ لاحتمال كون المراد الاستعمالي هو الخصوص ، فيصير العام مجملا لتعدد المجاز كما سبق في دليل النافي للحجية.

مدفوع : بأن مجرد احتمال استعمال العام في الخاص لا يوجب إجمال العام ؛ لأن العام ـ لانفصاله عن المخصص ـ قد انعقد له الظهور في العموم ؛ إلا إن هذا الظهور لا يكون حجة لمزاحمته بالخاص الأقوى دلالة منه.

فالمتحصل : أنه لا فرق بين المتصل والمنفصل في عدم لزوم المجاز ، وإنما الفرق بينهما في انعقاد الظهور للعام في العموم في المنفصل دون المتصل.

٥ ـ الجواب عن الاحتجاج المذكور : ـ أعني : تعدد المجاز المستلزم للإجمال ـ بأن تمام الباقي أقرب المجازات ، فلا يلزم من حمل العام عليه الترجيح بلا مرجح ، لأن الأقربية مرجّح ومعيّن لتمام الباقي مدفوع : بأن الأقربية الكمية لا تجدي في ظهور العام في تمام الباقي ، وإنما الموجب للظهور هو الأقربية الأنسية الناشئة في الأذهان من كثرة الاستعمال في تمام الباقي ، وهي غير معلومة ، ومقتضى الأصل : عدم كثرة الاستعمال في تمام الباقي ، فتبقى حجة النافي بحالها.

٦ ـ قد أجاب صاحب التقريرات عن الأقربية بجواب آخر وهو : أن تمام الباقي متعين من بين المجازات ؛ لكن لا لأجل كونه أقرب المجازات ، بل لأجل وجود المقتضي للحمل عليه ، وعدم المانع عنه.

وأما وجود المقتضي : فهو دلالة العام على العموم ، فإن دلالة العام على كل فرد من أفراده ليس منوطا بدلالته على فرد آخر ، فإذا لم يستعمل في العموم ولم يدل على فرد لخروجه عنه بدليل خاص لم يستلزم ذلك عدم دلالته على بقية الأفراد ، فخروج بعض الأفراد عن العام لا يقدح في دلالته على الباقي ، وإن كانت الدلالة على الباقي مجازية.

وجه عدم القدح : أن المجازية لم توجب إلا قصور دلالة العام على أفراد الخاص.

وأما دلالته على الباقي : فهي باقية على حالها ، فيكون العام حجة في تمام الباقي لوجود المقتضي وعدم المانع.

٢٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل الجواب : أن دلالة العام على أفراده إنما هي كانت في ضمن دلالته على المعنى الحقيقي واستعماله فيه ، فإذا لم يستعمل في معناه الحقيقي ـ كما هو المفروض في المقام ـ ينتفي ظهوره في تمام الباقي ، وذلك لعدم المقتضي الذي هو استعماله في العموم ، فعدم حمل العام على تمام الباقي إنما هو لأجل عدم المقتضي ، فما ذكره صاحب التقريرات من وجود المقتضي غير صحيح.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ حجيّة العام المخصص في الباقي فيما علم عدم دخوله في المخصص مطلقا.

٢ ـ حجيته في الباقي فيما احتمل دخوله فيه إذا كان المخصص منفصلا.

٢٩٤

فصل (١)

إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا ، بأن كان دائرا بين الأقل والأكثر وكان

______________________________________________________

كون الخاص مجملا مع دورانه بين الأقل والأكثر

(١) لمّا فرغ المصنف من بيان حكم المخصص المبيّن مفهوما ومصداقا ـ في الفصل السابق ـ شرع في بيان حكم المخصص المجمل مفهوما أو مصداقا في هذا الفصل ، فالغرض من عقد هذا الفصل هو : بيان حكم العام المخصص بالمخصص المجمل مفهوما أو مصداقا ، وهذا من أهم مباحث العام والخاص ، وقبل الخوض في البحث لا بد من بيان ما هو محل النزاع ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي :

أن الخاص إما أن يكون مجملا بحسب المفهوم ، أو يكون مجملا بحسب المصداق ، وعلى التقديرين : إما أن يكون متصلا أو منفصلا ، وعلى التقادير الأربعة : إما أن يكون المخصص دائرا بين الأقل والأكثر ، أو يكون دائرا بين المتباينين ، فصور الاحتمالات هي ثمانية ، فنصنع جدولا مشتملا على تلك الصور الثمانية ، مع ذكر أمثلة لها وبيان أحكامها تسهيلا للمحصلين : (انظر الجدول في الصفحة التالية) :

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع : هو الصورة الثالثة والرابعة من صور المجمل المصداقي على ما هو ظاهر كلام المصنف «قدس‌سره» ثم ان الشبهة في موارد الإجمال المفهومي تسمى بالشبهة المفهومية ، وفي موارد الإجمال المصداقي تسمى بالشبهة المصداقية ..

والفرق بينهما : أن الشبهة المفهومية ما كان الشك فيها في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئا من الاشتباه في مفهوم الخاص أي : دورانه بين السعة والضيق ، كما إذا ورد : «أكرم كل عالم» ، ثم ورد «لا تكرم الفساق منهم» ، وفرضنا أن مفهوم الفاسق مجمل يدور أمره بين السعة ـ أعني : مرتكب مطلق المعاصي ـ وبين الضيق ـ أعني : مرتكب الكبائر فقط ـ والشك إنما هو في شمول حكم العام لمرتكب الصغائر ومنشؤه إنما هو إجمال مفهوم الخاص ، ولا إجمال في مفهوم العام.

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وبيان أحكامها تسهيلا للمحصلين :

صور المجمل المفهومي

الأمثلة

الأحكام

الصورة الأولى

ما إذا كان المخصص متصلا مترددا بين الأقل والأكثر : نحو «أكرم العلماء إلا الفساق منهم» ، حيث يتردد الفاسق بين مرتكب الكبيرة ومرتكب مطلق المعصية كبيرة كانت أو صغيرة.

وحكم هذه الصورة هو : سراية إجمال المخصص إلى العام حقيقة بمعنى : أنه يمنع عن انعقاد ظهور العام في العموم ، فلا يصح التمسك به ، كما لا يصح التمسك بالخاص ، لإجمالها.

الصورة الثانية

ما إذا كان المخصص متصلا مردّدا بين المتباينين نحو : «أكرم العلماء إلا زيدا» وتردد «زيد» بين شخصين لكون لفظ «زيد» مشتركا بينهما.

الحكم في هذه الصورة هو نفس الحكم في الصورة الأولى.

الصورة الثالثة

ما إذا كان المخصص منفصلا ، مردّدا بين الأقل والأكثر نحو : «أكرم العلماء» ، ثم ورد ، «لا تكرم الفساق من العلماء».

وحكم هذه الصورة هو : عدم سراية إجمال المخصص لا حقيقة ولا حكما ، فيصح التمسك به في مورد الشك لانعقاد ظهوره في العموم ، ومقتضاه حجيته في جميع أفراده إلا ما علم دخوله في المخصص.

الصورة الرابعة

ما إذا كان المخصص منفصلا مردّدا بين المتباينين نحو : «لا تكرم النحويين» ، ثم ورد «أكرم العدول من النحويين» ويتردد مفهوم العدالة بين ترك المعصية عن ملكة وبين حسن الظاهر فقط.

وحكم هذه الصورة هو : سراية إجمال المخصص إلى العام حكما لا حقيقة بمعنى : أن العام ينعقد له ظهور في العموم إلا أن الخاص لقوة دلالته يزاحم حجيته ، ولما كان مرددا بينا لمتباينين وليس هناك منهما عن الحجية ، ويرجع إلى الأصل.

٢٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

صور المجمل المفهومي

الأمثلة

الأحكام

الصورة الأولى

ما إذا كان المخصص متصلا مرددا بين الأقل والأكثر نحو : «لا تصل خلف أحد إلى العدول» ، وكان معنى العدالة واضحا مبينا ، ثم نعلم بعدالة زيد وعمرو وبكر ونشك في عدالة غيرهم لا لأجل الشك في مفهوم العدالة ؛ بل لأجل عدم الاطلاع على حالهم.

حكم هذه الصورة هو عدم جواز التمسك بالعام ؛ لعدم انعقاده ظهوره إلا في الخصوص المعلوم بقاؤه تحت العام.

الصورة الثانية

ما إذا كان المخصص متصلا مرددا بين المتباينين نحو : «صل خلف كل من زيد وعمرو إن كانا عادلين» ، ثم لا نعلم أن زيدا عادل أو عمرو ، مع العلم بعدالة أحدهما فقط.

وحكم هذه الصورة هو : عدم جواز التمسك بالعام ؛ لأن الفرد المشكوك المردد بين المتباينين وإن كان مصداقا للعام بما هو عام إلا إنه ليس مصداقا له بما هو حجة.

الصورة الثالثة

ما إذا كان المخصص منفصلا مرددا بين الأقل والأكثر نحو : «لا تصل خلف أحد» ، ثم ورد : «صل خلف العدول» ، ونعلم بعدالة زيد وعمرو وبكر دون غيرهم لعدم العلم بحالهم.

وفي حكم هذه الصورة خلاف ، قيل : بجواز التمسك بالعام ، ولكن الحق عند المصنف : عدم الجواز ؛ إذ لا يعلم كون الفرد المشكوك مصداقا للعام بما هو حجة.

الصورة الرابعة

ما إذا كان المخصص متصلا مرددا بين المتباينين نحو : «صل خلف كل من زيد وعمرو» ، ثم ورد : لا تصل خلف فاسق من زيد أو عمرو مع العلم بفسق أحدهما.

وحكم هذه الصورة هو حكم الصورة الثالثة : طابق النعل بالنعل

٢٩٧

منفصلا فلا يسري إجماله (١) إلى العام ، لا حقيقة ولا حكما ، بل كان العام متبعا فيما لا يتبع فيه الخاص لوضوح (٢) أنّه حجة فيه بلا مزاحم أصلا ، ضرورة (٣) : أنّ الخاص إنما يزاحمه فيما هو حجة على خلافه تحكيما للنص ، أو الأظهر على الظاهر ؛ لا فيما لا يكون كذلك (٤) كما لا يخفى.

______________________________________________________

وأما الشبهة المصداقية فهي : ما كان الشك فيها في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئا من الاشتباه في الأمور الخارجية ؛ كما إذا دل دليل على إكرام العلماء ، ودلّ دليل آخر على حرمة إكرام الفساق منهم ، وشككنا في أن زيدا العالم هل هو فاسق أم لا؟

(١) أي : فلا يسري إجمال الخاص إلى العام «لا حقيقة» بأن يرتفع ظهوره ، «ولا حكما» بأن ترتفع حجيّته فالعام باق على ظهوره ، وحجيته جميعا في القدر الزائد على الأقل ، فهو غير مجمل بالنسبة إليه لا حقيقة ولا حكما ، وهذا إشارة إلى الصورة الثالثة من صور الإجمال المفهومي ، فلا يصير العام ـ في هذه الصورة ـ مجملا بإجمال الخاص لا حقيقة ـ بمعنى : ارتفاع ظهوره ـ ولا حكما ـ بمعنى : ارتفاع حجية ظهوره ـ.

(٢) تعليل لبقاء العام على حجيته في الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص.

وحاصل التعليل : أن العام قد انعقد له ظهور في العموم ؛ إذ المفروض : انفصال الخاص عنه الذي لا يمنع عن ظهور العام في العموم ؛ بل يزاحمه في الحجية فقط ، ومن المعلوم : أن الخاص حجة في خصوص الفرد المعلوم دخوله تحته كمرتكب الكبيرة في المثال المذكور في الجدول ، وليس حجة فيما يحتمل كونه فردا له ـ كمرتكب الكبيرة ـ للشك في فرديته للخاص ـ أعني : الفاسق ـ ومن المعلوم : صحة التمسك بدليل في مورد مع الشك في موضوعيته لذلك الدليل. ففي المقام لما كانت فردية مرتكب الصغيرة للخاص مشكوكة ، فلا يصح التمسك بدليل الخاص لإثبات حرمته ، فلا مزاحم حينئذ لحجية العام في هذا الفرد المحتمل دخوله تحت الخاص ، وعليه : فمزاحمة الخاص لحجية العام مختصة بما علم فرديته للخاص ـ كمرتكب الكبيرة ـ فيقدم الخاص عليه تقديما للنص أو الأظهر على الظاهر ، كما هو المتداول عند أبناء المحاورة. وأما الفرد المحتمل : فمزاحمة الخاص للعام فيه من مزاحمة اللاحجة بالحجة ، كما في «منتهى الدراية» ، ج ٣ ، ص ٤٩٨».

(٣) تعليل لحجية العام في الفرد المحتمل دخوله تحت الخاص. يعني : أن الخاص إنما يزاحم العام في الفرد المعلوم دخوله تحت الخاص ، فيكون حجة على خلاف العام ، ويقدّم عليه تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر.

(٤) أي : لا يزاحم الخاص العام فيما لا يكون حجة فيه من الفرد المحتمل دخوله تحته ، كما في المقام.

٢٩٨

وإن لم يكن كذلك (١) بأن كان دائرا بين المتباينين مطلقا ، أو بين الأقل والأكثر فيما كان متصلا ، فيسري إجماله (٢) إليه حكما في المنفصل المردّد بين المتباينين ، وحقيقة في غيره (٣) : أمّا الأول (٤) : فلأن العام (٥) ـ على ما حققناه ـ كان ظاهرا في عمومه ؛ إلا أنه لا يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما.

______________________________________________________

(١) أي : بأن لم يكن الخاص مردّدا بين الأقل والأكثر ، مع انفصاله عن العام «بأن كام دائرا بين المتباينين مطلقا» أي : سواء كان المخصص متصلا أو منفصلا ، أو كان مردّدا بين الأقل والأكثر مع اتصال المخصص.

(٢) يعني : فيسري إجمال الخاص إلى العام حكما ، ولكن فيما إذا كان المخصص المردد بين المتباينين منفصلا ، فترتفع حجية العام بمعنى : أن العام وإن انعقد له ظهور في العموم إلّا إن هذا الظهور ليس بحجة ؛ لعدم كونه مرادا بعد العلم الإجمالي بالتخصيص بأحد المتباينين. هذا إشارة إلى الصورة الرابعة من صور المجمل المفهومي.

(٣) يعني : ويسري إجمال الخاص إلى العام حقيقة في غير المخصص المنفصل يعني : في المخصص المتصل ، سواء كان مرددا بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر.

فلا ينعقد ظهور العام في العموم. وهذا إشارة إلى الصورة الأولى والثانية من صور المجمل المفهومي.

(٤) يعني : قوله : «فيسري إجماله إليه حكما في المنفصل المردد بين المتباينين».

(٥) تعليل لسراية إجمال الخاص إلى العام ، فلا يجوز التمسك بالعام.

وحاصل التعليل : أن وجه عدم جواز التمسك بالعام ـ مع انعقاد ظهوره في العموم ـ هو العلم الإجمالي بتخصيص العام بأحد المتباينين ، مع عدم تيقّن تخصيصه بأحدهما بالخصوص ، وعدم مرجّح لأحدهما ، فلا محالة يسقط العام عن الحجية ، لعدم جريان أصالة الحقيقة حينئذ في العام مع هذا العلم الإجمالي وإن كان نفس الظهور باقيا ، فإجمال الخاص لا يسري إلى نفس الظهور حتى يرفعه ، بل يسري إلى حجيته فيرفعها. هذا معنى السراية حكما.

وبعبارة أخرى : أنه لا إشكال في عدم حجية العام في كلا المتباينين إذا كان المخصص المنفصل مرددا بين المتباينين ؛ وذلك لوجهين :

أحدهما : أن حجية العام إنما تكون ببناء العقلاء المعبّر عنها بأصالة العموم ، وهي لا تجري بالنسبة إلى كلا الفردين لتعارض الأصلين فيهما للعلم الإجمالي بخروج أحدهما عن عموم العام. وعليه : فلا دليل على ثبوت حكم العام في أحد الفردين.

وثانيهما : أن التخصيص يكشف عن تضييق دائرة حجية العام واختصاصها بغير

٢٩٩

وأما الثاني (١) : فلعدم انعقاد ظهور من رأس للعام ، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكل واحد من الأقل والأكثر ، أو لكل واحد من المتباينين ؛ لكنه حجة في الأقل ، لأنه المتيقن في البين :

فانقدح بذلك (٢) : الفرق بين المتصل والمنفصل ، وكذا في المجمل بين المتباينين

______________________________________________________

«زيد» المردد بين شخصين ، فالعام حجة في غير «زيد» ، وعليه : فكل من المتباينين يشك في انطباق العام بما هو حجة عليه.

(١) أعني : قوله : «وحقيقة في غيره» ، يعني : سراية إجمال الخاص إلى العام حقيقة في غير المنفصل المردد بين المتباينين وهو الخاص المتصل المردد بين المتباينين ، والمتصل المردد بين الأقل والأكثر ، والوجه في سراية إجمال الخاص إلى العام حقيقة هو : ما أشار إليه بقوله : «لاحتفاف» يعني : احتفاف العام بالخاص المجمل يوجب إجمال العام ، وعدم انعقاد ظهور له في العموم ، فيرجع في المردد بين الأقل والأكثر إلى المتيقن ـ وهو الاجتناب عن جميع المعاصي ـ في نحو : «أكرم العلماء إلا الفساق منهم» ؛ لأنه المتيقن من مفهوم الفسق ، وقوله : «لاحتفاف» تعليل لعدم انعقاد الظهور للعام.

وأما الخاص المردد بين المتباينين : فليس فيه متيقن حتى يكون العام حجة فيه ، كزيد المشترك بين شخصين في نحو : «أكرم العلماء إلا زيدا» ، فيرجع فيه إلى ما تقتضيه الأصول العملية ، فيترك إكرامهما احتياطا لعدم جريان البراءة في مورد العلم الإجمالي.

(٢) أي : انقدح وظهر ـ بما ذكر من بيان أحكام الصور الأربع في الشبهة المفهومية ـ الفرق بين المخصص المتصل وبين المخصص المنفصل.

وحاصل الفرق بينهما : هو سراية الإجمال إلى العام ، المانع عن انعقاد ظهور له في العموم في المتصل ، وارتفاع الحجية عن ظهوره في العموم ، مع تحقق أصله في المنفصل ، وكذلك انقدح بما ذكرنا ـ من حكم الصور الأربع ـ الفرق بين المخصص المردد بين المتباينين والمخصص المردد بين الأقل والأكثر.

وحاصل الفرق : أنه لا يجوز التمسك بالعام في المجمل المردد بين المتباينين مطلقا وإن كان منفصلا ؛ لما عرفت : من سراية الإجمال إلى العام حقيقة في المتصل ، وحكما في المنفصل.

بخلاف المجمل المردد بين الأقل والأكثر ، حيث يجوز التمسك بالعام فيما إذا كان المخصص منفصلا ، لانعقاد الظهور له في العموم ، وعدم مانع عن حجيته في الأفراد التي يشك في انطباق الخاص عليها.

٣٠٠