كيف (١)؟ وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح ممّا عرّف به مفهوما ومصداقا ، ولذا (٢) يجعل صدق ذلك المعنى على فرد وعدم صدقه المقياس في
______________________________________________________
أن يلاحظ في ضمن جميع أفرادها باعتبار كونها شيئا واحدا فيسمى بالعام المجموعي ، واللفظ الموضوع له مثل : لفظ المجموع.
فالمتحصل : أن تقسيم العام إلى الأقسام الثلاثة يمكن أن يكون بلحاظ كيفية تعلق الحكم ، ويمكن أن يكون بلحاظ مفهوم العام ، والحق عند المصنف : هو الأول. هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.
(١) استدل المصنف على إثبات ما ادّعاه ـ من كون التعاريف المذكورة في كتب القوم لفظية ـ بوجهين.
توضيح الوجه الأول يتوقف على مقدمة ـ وهي : أنه يعتبر في التعاريف الحقيقية أن يكون المعرّف ـ بالكسر ـ أوضح وأجلى من المعرّف ـ بالفتح ـ فلا يصح التعريف إذا كان الأمر بالعكس.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه كيف يمكن أن تكون تلك التعاريف حقيقية لا لفظية؟ والحال أن المعنى المذكور في أذهان أهل اللسان من لفظ العام ـ وهو الشمول لغة وعرفا ـ أوضح وأجلى مفهوما ومصداقا مما عرّف به من التعاريف المذكورة ، فلو كان تعريف العام بها حقيقيا للزم أن يكون المعرف أجلى من المعرّف وهو باطل ، فيكون تعريف العام بتلك التعريفات باطلا ، فلا محيص عن ذلك إلا بالالتزام بكون التعاريف المذكورة لفظية ؛ إذ لا يعتبر في التعريف اللفظي ما يعتبر في التعريف الحقيقي من الاجلائية ؛ بل يجوز مطلقا وإن كان المعرّف أخفى من المعرّف كما في التعاريف المذكورة ، فلا بد أن تكون لفظية.
الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «فالظاهر : أنّ الغرض من تعريفه» ، وحاصل هذا الوجه : أنه لا يترتب على فهم العام بكنهه ثمرة عملية ، فلا وجه لجعل التعاريف المذكورة حقيقية ، وتجشّم إصلاحها طردا وعكسا ، فلا بد أن يكون الغرض من تعريف العام : بيان مفهوم جامع بين ما هو من أفراد العام قطعا ، الذي كان شاملا لجميع الأفراد ليشار بذلك المفهوم إلى العام في مقام إثبات ما له من الأحكام.
(٢) يعني : ولأجل كون معنى العام المركوز في الأذهان أوضح من تعريفات القوم للعام ؛ جعلوا صدق ذلك المعنى المركوز في الأذهان وعدمه على شيء مقياسا للإشكال على تلك التعريفات بعدم الاطراد والانعكاس ؛ كالإشكال على بعض التعاريف المذكورة بخروج الجمع المعرّف باللام عنه ، ودخول أسماء العدد والمثنى والجمع فيه.
الإشكال عليها (١) بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ، ولا شبهة تعتريه من أحد. والتعريف (٢) لا بد أن يكون بالأجلى ، كما هو أوضح من أن يخفى. فالظاهر (٣) : أن الغرض من تعريفه إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الأحكام ، لا بيان ما هو حقيقته وماهيته ،
______________________________________________________
فصدق المعنى العام المركوز في الأذهان عليها مقياس للإشكال على هذا التعريف ، ومن المعلوم : عدم صحة هذا المقياس إلا بسبق العلم بمعنى العام على تعريفاته ، وإلا لزم الدور لتوقف العلم بمعنى العام على التعريف ، وتوقف التعريف على العلم به ؛ لما عرفت : من أن المقياس المزبور متوقف على العلم بمعنى العام قبل التعريف ؛ لئلا يلزم الدور.
وكيف كان ؛ فصحة هذا المقياس تشهد بسبق العلم بمعنى العام على تعريفه واستغنائه عنه ، فحينئذ لو عرّف العام بشيء كان التعريف لفظيا ؛ إذ لو كان حقيقيا كان أجلى ، وليس الأمر كذلك ، هذا بخلاف التعريف اللفظي إذ يجوز أن يكون المعرّف أخفى أو مساويا للمعرّف في الخفاء والظهور.
(١) أي : على التعاريف : توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».
(٢) الواو للحالية ، بعد أن أثبت وضوح معنى العام ، واستغناءه عن التعريف ؛ أو عن تلك التعريفات بعدم كونها حقيقية ، لو كانت حقيقية لكانت أجلى ، مع إنّ المعرّف ـ بالفتح ـ في المقام ، وهو المعنى المرتكز في الأذهان أوضح من تلك المعرفات المذكورة ، وإذن : فهي معرفات لفظية كما تقدم.
(٣) لمّا أنكر التعريف الحقيقي ـ لاستغناء معنى العام عنه ـ أمكن أن يتوهم إنه لا داعي حينئذ إلى التعرّض لتعريفه بالتعريفات المذكورة في كتب القوم ، فدفع المصنف هذا التوهم بقوله : «فالظاهر» ، وحاصله : أن الغرض الداعي لهم إلى تعريف العام هو : بيان مفهوم جامع بين ما هو من أفراد العام قطعا التي هي موضوعات لأحكام في مثل قولهم : «إذا خصص العام فهل يكون حجة في الباقي أم لا؟» أو «أن العام المخصص بالمجمل هل يصير مجملا أم لا؟» ، أو «أن العام هل يقدم على المطلق عند التعارض أم لا؟» ، ونحوها من الأحكام ، ليشار بذلك الجامع إلى ما يقع موضوعا لتلك الأحكام ؛ لا بيان ما هو حقيقته وماهيته ، لعدم ثمرة فقهية أو أصولية على تعريف مفهومه.
وكيف كان ؛ فالغرض من تعريف العام : بيان عنوان مشير إلى مصاديقه التي أخذت موضوعات لأحكام.
لعدم (١) تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محلّ الكلام بحسب الأحكام من أفراده ما ومصاديقه ، حيث لا يكون بمفهومه العام محلا لحكم من الأحكام.
ثم الظاهر (٢) : أن ما ذكر له من الأقسام ـ من الاستغراقي والمجموعي والبدلي ـ إنّما هو باختلاف كيفيّة تعلق الأحكام به ، وإلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.
غاية الأمر : أن تعلق الحكم به (٣) تارة : بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم ، وأخرى : بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا ، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في «أكرم كل فقيه» مثلا ، لما امتثل أصلا ، بخلاف الصورة الأولى ، فإنه أطاع وعصى ، وثالثة بنحو : يكون كل واحد موضوعا على البدل ، بحيث لو أكرم واحدا منهم ، لقد أطاع وامتثل ، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل.
وقد انقدح (٤) : أن مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من
______________________________________________________
(١) تعليل لقوله : «لا بيان ما هو حقيقته». وحاصل التعليل : إن الغرض لم يتعلق ببيان حقيقة العام ؛ لعدم ترتب أثر عليها حتى يعرّف بالتعريف الحقيقي ، كما أن قوله :
«حيث» تعليل لعدم تعلق غرض بما هو حقيقة العام يعني : حيث لا يكون العام بمفهومه العام محلا لحكم من الأحكام فإن الحكم مترتب على الأفراد ؛ لا على المفهوم.
أقسام العموم
(٢) قد تقدم تفصيل الكلام في أقسام العموم ، مع إشارة إلى الفرق بينها في مقام الثبوت والسقوط ، ومقصود المصنف من انقسام العام إلى ثلاثة أقسام : بيان منشأ تلك الأقسام ، وقد عرفت : أن منشأ هذه الأقسام إنما هو اختلاف كيفية تعلق الأحكام به ـ لا اختلاف مفهوم العام على ما قيل ـ لما عرفت من : أن مفهوم العام في جميع الأقسام واحد ، وهو شموله لجميع ما يصلح له.
(٣) أي : بالعام إشارة إلى العام الاستغراقي ، و «أخرى» : إشارة إلى العام المجموعي ، و «ثالثة» : إشارة إلى العام البدلي.
والفرق بينها في مقام الامتثال : أن العام الاستغراقي يطاع بفعل واحد ، ويعصى بترك آخر ، والعام المجموعي يطاع بفعل الجميع ويعصى بترك واحد ، والعام البدلي يطاع بفعل واحد من الأفراد ويعصى بترك الجميع ، فالعام المجموعي والبدلي متعاكسان في الإطاعة والمعصية.
(٤) أي : قد اتضح من قوله : «وإلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ..» إلخ أن أسماء
العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل واحد منها ، فافهم (١).
______________________________________________________
العدد مثل : عشرة ومائة ليسا من العموم ؛ إذ ليس لها معنى قابل للانطباق على فرد فرد من الأفراد ؛ لأن اسم العدد وضع لمعنى منطبق على جميع الآحاد.
وبعبارة أخرى : أن العام عبارة عما يكون بمفهومه صالحا للانطباق على كل واحد من الآحاد المندرجة تحته ، وهذا مفقود في أسماء العدد ، ضرورة : إن ـ العشرة بما لها من المفهوم ـ لا تنطبق على كل واحد من آحادها ، بل تنطبق على مجموعها ، فلا يصح أن يقال : الواحد عشرة ، بخلاف الإنسان مثلا ، فإنه بماله من المفهوم يصدق على زيد وعمرو وغيرهما ، فيصح أن يقال : زيد أو عمرو أو بكر إنسان ، ثم التعبير بالمثل ـ في قوله ـ «مثل شمول عشرة» إنّما هو للتنبيه على عدم اختصاص ما ذكره بهذا العدد الخاص ، بل هو جار في سائر الأعداد أيضا.
والضمائر في غيرها ، وآحادها ، وتحتها ، وصلاحيتها ، ومفهومها : راجعة إلى العشرة. وفي «منها» راجع إلى الآحاد.
(١) لعلّه إشارة إلى : أنّ المناط في خروج أسماء العدد عن العام إن كان عدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على الآحاد المندرجة تحتها ، لزم منه خروج الجمع المحلى باللام عن العام ؛ لعدم انطباقها بمفهومها على كل واحد من الآحاد المندرجة تحته ، فإنّ العلماء بمفهومه لا ينطبق على فرد من أفراد العلماء ؛ بل ينطبق على كل واحد من الجموع ، لأن الجمع لا يصدق على أقل من ثلاثة أو اثنين على اختلاف في أقل الجمع ، مع إن الجمع المحلّى باللام من صيغ العموم بالإجماع إذا كان اللام للاستغراق ، ويمكن أن يكون إشارة إلى : أن تعريف العام ينطبق على العشرة ؛ لأن لفظة العشرة بالنسبة إلى العشرات التي هي من مصاديقها كعشرة أثواب ، وعشرة أفراس ، وعشرة أغنام من قبيل العام ؛ لأن كل عشرة مصداق لها ، فلفظة العشرة بالنسبة إلى العشرات عام ، وبالنسبة إلى آحادها ليست بعام.
خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدسسره»
يتلخص البحث في أمور :
١ ـ أن الظاهر كون العام والخاص ـ في اصطلاحهم ـ اسمين للفظ دون المعنى ، كما يظهر من تعريف العام «بأنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له».
ثم إن التعاريف المذكورة في كتب القوم للعام لفظية لا حقيقية ، وذلك أن المعنى المرتكز من العام في الأذهان أوضح مفهوما ومصداقا ممّا عرّف به العام في كلماتهم ،
.................................................................................................
______________________________________________________
فوضوح معنى العام قبل التعريف وارتكازه في الأذهان كاشف عن عدم كون تلك التعريفات له حقيقية ـ بل يدل على كونها لفظية ـ إذ لا يعتبر في التعريف اللفظي ما يعتبر في التعريف الحقيقي ؛ من كون المعرّف أجلى من المعرّف ، فلو كانت تلك التعريفات حقيقية لكان المعرّف فيها أجلى وأوضح من المعرّف ، مع إن الأمر هنا بالعكس ، فلا بد أن تكون لفظية ، وحينئذ لا مجال للإشكال عليها بعدم الاطراد تارة ، وعدم الانعكاس أخرى ؛ إذ لا يعتبر الاطراد والانعكاس في التعاريف اللفظية.
٢ ـ الظاهر : أن الغرض من تعريف العام : «هو : بيان ما يكون لمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ليشار به إليه في إثبات ما له من الأحكام».
الغرض من هذا الكلام هو : دفع توهم لغوية التعاريف المذكورة للعام ، إذا كان معنى العام المرتكز في الأذهان واضحا قبل التعريف ؛ إذ حينئذ لا داعي إلى التعرض لتعريفه بتلك التعريفات المذكورة في كتب القوم.
فدفع المصنف هذا التوهم بما حاصله : من أن الغرض الداعي لهم إلى تعريف العام هو : بيان مفهوم جامع بين ما هو من أفراد العام قطعا التي هي موضوعات لأحكام مثل : حجيّة العام في الباقي ، وسراية إجمال المخصص إليه ، وتقديمه على المطلق عند التعارض ، ونحوها من الأحكام ، فعرّف العام بمفهوم جامع بين أفراده ليشار بذلك الجامع إلى ما يقع موضوعا لتلك الأحكام.
وليس الغرض من تعريف العام : بيان ما هو حقيقته وماهيته ؛ لعدم ترتب ثمرة فقهية ولا أصولية على تعريف مفهومه بالتعريف الحقيقي.
فالمتحصل : أن الغرض من تعريف العام : بيان عنوان مشير إلى مصاديقه التي أخذت موضوعات لأحكام ، فلا يكون التعريف لغوا وبلا فائدة أصلا.
٣ ـ بيان أقسام العام : ينقسم بلحاظ مقام تعلق الحكم به إلى : العام الاستغراقي ، والمجموعي ، والبدلي ، والعموم في جميعها بمعنى واحد ـ وهو الشمول ـ والاختلاف إنما هو في كيفية أخذه في موضوع الحكم.
توضيح ذلك : أن مفهوم العام يلاحظ بنحو الشمول واستيعاب جميع الأفراد ، ثم إنه بعد ذلك تارة : يلاحظ كل فرد فرد من أفراده موضوعا مستقلا للحكم. وأخرى : يلاحظ جميع الأفراد موضوعا للحكم. وثالثة : يلاحظ فرد من أفراده على سبيل البدل موضوعا للحكم.
.................................................................................................
______________________________________________________
فالأول : هو العام الاستغراقي ، والثاني : هو العام المجموعي ، والثالث : هو البدلي.
فهناك لحاظ تشترك فيه جميع الأقسام ؛ وهو لحاظ مفهوم العام بمعنى : الشمول لجميع ما يصلح له. ولحاظ آخر تختلف فيه الأقسام ؛ وهو لحاظ كيفية تعلق الحكم به.
والفرق بين الأقسام الثلاثة : أن العام الاستغراقي يطاع بفعل واحد ، ويعصى بترك آخر ، والعام المجموعي يطاع بفعل الجميع ويعصى بترك واحد ، والعام البدلي يطاع بفعل واحد ويعصى بترك الجميع.
وقد اتضح ـ بكون العام هو شموله لجميع ما ينطبق عليه من الأفراد ـ خروج أسماء العدد كالعشرة مثلا من العام ؛ لأن العشرة بما لها من المفهوم لا تنطبق على كل واحد من آحادها ، فلا يصح أن يقال : الواحد عشرة.
والعام بمفهومه يكون صالحا للانطباق على واحد من الآحاد المندرجة تحته.
«فافهم» لعله إشارة إلى تعريف العام ينطبق على أسماء العدد ، لأن لفظة العشرة عام بالنسبة إلى العشرات ؛ وإن لم تكن عاما بالنسبة إلى الآحاد.
٤ ـ رأي المصنف «قدسسره» :
١ ـ معنى العام عنده هو : شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.
٢ ـ التعاريف المذكورة للعام لفظية لا حقيقية.
٣ ـ انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة إنما هو باعتبار اختلاف كيفية تعلّق الحكم به ؛ لا باعتبار اختلاف مفهوم العام.
فصل
لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصّه ـ لغة وشرعا ـ كالخصوص (١) ، كما يكون (٢)
______________________________________________________
في ألفاظ العموم
وقبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع فيقال : إنه لا خلاف في وجود لفظ موضوع للخصوص ؛ كالأعلام الشخصية ، ولا خلاف أيضا في وجود لفظ مشترك بين الخصوص والعموم ؛ وذلك كالمعرف باللام ، فإنها لو كانت للاستغراق كانت للعموم نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(١) وإن كانت للعهد كانت للخصوص ، من دون فرق بين أن يكون العهد خارجيا نحو : «جاءني القاضي» ، أم ذهنيا نحو : (إِذْ هُما فِي الْغارِ)(٢) ، أم ذكريا نحو : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(٣) ، أم حضوريا نحو : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(٤) وإنما الخلاف في وجود ألفاظ موضوعة للعموم فقط.
إذا عرفت محل النزاع فاعلم : أنه قد اختلفوا في صيغة تخص العموم على أقوال :
قول : بأن للعموم صيغة تخصّه ، وقول : بأن الصيغ المدّعاة للعموم موضوعة لخصوص الخصوص ، وقول : بأنها مشتركة لفظا بين العموم والخصوص ، وقول : بالتوقف.
والحق عند المصنف هو القول الأول ، ولذا يقول : «لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصّه لغة وشرعا» ، أما لغة : فواضح. وأما شرعا : فبمعنى : إمضاء الشارع ، وعدم تصرفه في العمومات اللغوية في مقام تشريع الأحكام لها.
(١) أي : كما لا شبهة في أن للخصوص صيغة تخصّه ؛ كالأعلام الشخصية.
(٢) أي : كما يكون هناك لفظ مشترك بين العموم والخصوص ، فيكون استعماله في كل من العموم والخصوص على نحو الحقيقة ؛ وذلك كالمعرّف باللام ؛ لما عرفت : من أنه مع العهد للخصوص ، ومع الاستغراق للعموم.
__________________
(١) العصر : ٢.
(٢) التوبة : ٤٠.
(٣) المزمل : ١٦.
(٤) المائدة : ٣.
ما يشترك بينهما ويعمهما ، ضرورة (١) : أن مثل لفظ (كل) وما يرادفه في أيّ لغة كان يخصّه (٢) ، ولا يخصّ الخصوص ولا يعمّه ، ولا ينافي اختصاصه (٣) به استعماله في الخصوص عناية ؛ بادعاء أنه العموم ، أو بعلاقة العموم والخصوص.
ومعه (٤) لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقّنة ولو في ضمنه بخلافه ، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقّن أولى.
______________________________________________________
(١) تعليل لقوله : «لا شبهة».
وحاصل التعليل : أن اختصاص بعض الألفاظ بالعموم ـ كلفظة «كل وما يرادفه» ـ مثل : «هر» في الفارسية يكون أمرا بديهيا ، لا يقبل الانكار بحيث لو استعمل في الخصوص لكان مجازا.
(٢) أي : يختص بالعموم ، ولا يكون مختصا بالخصوص ، ولا مشتركا بينه وبين العموم ، كما أشار إلى عدم اشتراكه بينهما بقوله : «ولا يعمه».
وحاصل ما أفاده المصنف : أن لكل من العموم والخصوص ألفاظا تخصه ، كما أنّهما يشتركان في بعض الألفاظ بحيث يراد به العموم تارة والخصوص أخرى.
(٣) يعنى : ولا ينافي اختصاص لفظ «كل» بالعموم «استعماله في الخصوص عناية ، بادّعاء أنه العموم».
والغرض من هذا الكلام هو : دفع المنافاة بين اختصاص بعض الألفاظ كلفظ «كل» بالعموم ، وبين استعماله أحيانا في غيره ، فلا بد أولا من توضيح المنافاة حتى يتضح وجه عدم المنافاة.
أما توضيح المنافاة : فيمكن أن يقال : إن الاختصاص ينافي الاستعمال في الخصوص ، ومع الاستعمال في كل من الخصوص والعموم لا يصح القول باختصاص لفظ «كل» بالعموم.
أمّا وجه عدم المنافاة : أن التنافي ثابت لو أريد بالاختصاص استعماله في العموم دون غيره يعني : عدم استعماله في غير العموم ولو بالعناية والمجاز ، وأما إذا أريد به ظهور اللفظ في العموم ، وكونه حقيقة فيه ، بحيث لا تتوقف إرادة العموم منه على عناية فلا ينافي استعماله في الخصوص ؛ بادّعاء أنه العموم كما هو مذهب السكاكي في الاستعارة ، أو مجازا بعلاقة العموم والخصوص التي هي من العلائق المجازية ، ومرجع هذا الكلام إلى أعمّية الاستعمال من الحقيقة.
(٤) أي : ومع ما ذكر من قيام الضرورة ، على اختصاص بعض الألفاظ بالعموم لا وجه لدعوى اختصاص وضع ذلك البعض بالخصوص.
ولا إلى أن التخصيص قد اشتهر وشاع ، حتى قيل : ما من عام إلا وقد خصّ ، والظاهر : يقتضي كونه (١) حقيقة لما هو الغالب تقليلا للمجاز ، مع إن تيقّن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به ، مع كون العموم كثيرا ما يراد.
______________________________________________________
وحاصل الكلام : أن ـ مع ما تقدم من كون ألفاظ العموم للعموم بالضرورة ـ لا مجال للاستدلال على وضعها للخصوص بوجهين :
أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «أن إرادة الخصوص متيقّنة».
وخلاصة هذا الوجه : أن البعض ـ وهو الخصوص ـ متيقن الإرادة دائما وعلى كل حال ، إما استقلالا فيما إذا استعمل اللفظ في الخصوص ، وإما في ضمن العموم فيما إذا استعمل في العموم.
أما على الأول ـ وهو إرادة الخصوص ـ فظاهر ، وأما على الثاني ـ وهو إرادة العموم ـ فلأن الخصوص بعض العموم ، وإرادة الكل تقتضي إرادة البعض قطعا ، هذا بخلاف إرادة العموم فإنها احتمالية ، فتيقن إرادة الخصوص يكون مرجحا لوضع الصيغة له لا للعموم ؛ إذ كونها حقيقة في المتيقّن أولى.
وثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «ولا إلى أن التخصيص قد اشتهر ..» إلخ ، وحاصله : أن الغالب هو استعمال العام في الخاص ؛ وذلك لشيوع التخصيص في الاستعمالات حتى قيل : «ما من عام إلا وقد خصّ» ، فعلى القول بوضع الصيغة للخصوص : لا يلزم محذور كثرة المجازات ، بخلاف القول بوضعها للعموم فإنه مستلزم لكثرة المجازات ، ومن المعلوم : أن قلّة المجازات أولى من كثرتها ، فرجحان تقليل المجاز يرجّح وضع الصيغة للخصوص ؛ إذ مع الوضع للعموم يلزم المجاز في جميع موارد التخصيص.
(١) يعني : كون اللفظ حقيقة لما هو الغالب ـ وهو الخصوص ـ لئلا يلزم المجاز في الغالب.
وأجاب المصنف عن هذين الوجهين : بقوله : «لا يصغى ..» إلخ. يعني : لا يصغى إلى هذين الوجهين لأمرين ، أحدهما : مشترك بينهما ، والآخر : خاص بكل واحد منهما.
وأما الأول : فلما تقدم من قيام الضرورة على وضعها للعموم ، وعليه : فلا مجال للتمسك بالوجهين المذكورين لإثباته للخصوص ؛ لأنهما يصلحان لذلك في ظرف الشك في الموضوع له. والمفروض : هو العلم بالموضوع له وهو العموم ، فيكون هذان الوجهان من قبيل الشبهة في مقابل البديهة.
واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز ؛ لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازيّة ، كما يأتي توضيحه.
ولو سلّم ، فلا محذور فيه أصلا إذا كان بالقرينة كما لا يخفى.
______________________________________________________
وأما الثاني : فلعدم سلامة كل من الوجهين من الخلل والإشكال.
أما الخلل والإشكال في الوجه الأول : فقد أشار إليه بقوله : «مع إن تيقّن إرادته» أي الخصوص «لا يوجب اختصاص الوضع به» أي : بالخصوص.
وحاصل الإشكال : أنّ تيقّن إرادة الخصوص مجرد استحسان لا يصلح لإثبات اختصاص وضع الصيغة بالخصوص ؛ إذ لا اعتبار بالوجوه الاستحسانية التي لا تفيد إلا الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا. هذا مع إن إرادة العموم ليست نادرة حتى يلزم قلة الفائدة المترتبة على الوضع للعموم ، ويختص الوضع بالخصوص ، كما أشار إليه بقوله : «مع كون العموم كثيرا ما يراد» ، فلا ملازمة بين تيقّن إرادة الخصوص ، وبين وضع اللفظ له ، فالاستدلال بهذا التيقّن على الوضع للخصوص غير سديد.
وأما الإشكال المختص بالوجه الثاني : فقد أشار إليه بقوله : «واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز».
وحاصل الإشكال : أن الاستدلال بهذا الوجه على وضع الصيغة للخصوص مبني على ثبوت الملازمة بين التخصيص والمجازية حتى يكون شيوع التخصيص ملازما لكثرة المجازات ، لكن هذه الملازمة ممنوعة ، لابتنائها على استعمال العموم في الخصوص حتى يكون مجازا ، وهو ممنوع جدّا ، إذ إرادة الخصوص إنما تكون من باب تعدد الدال والمدلول ، لا من باب الاستعمال العام في الخاص.
قوله : «لعدم الملازمة ..» إلخ تعليل لقوله : «لا يوجب كثرة المجاز» ، هذا مضافا إلى إشكال آخر على الوجه الثاني وهو : ما أشار إليه بقوله : «ولو سلّم فلا محذور فيه أصلا».
وحاصل هذا الإشكال : أنه لو سلمنا الملازمة بين التخصيص والمجازية فلا بأس بكثرة المجاز إذا كان مع القرينة ، على كثرة الاستعمالات المجازية.
وكيف كان ؛ فتحصّل مما أفاده المصنف من الإشكال على الوجهين اللذين استدل بهما على اختصاص الوضع بالخصوص : أنه يرد عليهما إشكال مشترك بينهما ، هو : أنه لا يصح الاستدلال بهما إلا مع الشك في الوضع للخصوص أو العموم ، ومع العلم بالوضع للعموم ـ كما هو المفروض ـ لا وجه للتمسك بهما ، لاختصاص الوضع بالخصوص. ويرد على الوجه الأول ما يختص به من الإشكال ، وعلى الوجه الثاني كذلك.
خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدسسره»
يتلخص البحث في أمور :
١ ـ محل النزاع هو وجود صيغة للعموم ، ولا نزاع في وجود لفظ موضوع للخصوص ، ولا في وجود لفظ مشترك بينهما. وهناك أقوال :
الأول : وجود لفظ يخص العموم.
الثاني : كل لفظ يدعى وضعه للعموم موضوع للخصوص.
الثالث : كل لفظ يدعى أنه للعموم مشترك بينهما.
الرابع : التوقف. والحق عند المصنف هو الأول.
٢ ـ لا منافاة بين اختصاص بعض الألفاظ بالعموم ، وبين استعماله في الخصوص بالعناية والمجاز ؛ إما بادّعاء كون الخاص هو العام ؛ كما هو مذهب السكاكي ، وإما بعلاقة العموم والخصوص التي هي من العلائق المجازية.
٣ ـ قد استدل على وضع ألفاظ العموم للخصوص بوجهين :
الأول : أن الخصوص متيقن الإرادة على كل حال ؛ إما بإرادة الخصوص أو بإرادة الخصوص في ضمن العموم ، ومن المعلوم : أن كون الألفاظ حقيقة في المتيقّن أولى.
الثاني : أن الغالب هو استعمال العام في الخاص ، لشيوع التخصيص حتى قيل : «ما من عام إلا وقد خصّ» ، فيلزم من وضع الألفاظ للعموم كثرة المجازات ، ومن المعلوم : أن قلة المجاز أولى من كثرته ، ولازم ذلك وضع الصيغة للخصوص.
٤ ـ جواب المصنف عن الوجهين : أولا : بما هو مشترك بينهما ، وهو أنه لا يصح الاستدلال بهما إلا مع الشك في الوضع للخصوص أو العموم ، وأما مع العلم بالوضع للعموم بقيام الضرورة عليه : فلا وجه للتمسك بهما على اختصاص الوضع للخصوص.
أما الجواب المختص بالوجه الأول : فلأن مجرد تيقّن إرادة الخصوص لا يصلح لإثبات اختصاص وضع الصيغة بالعموم.
هذا مع إن إرادة العموم ليست نادرة حتى يلزم قلة الفائدة المترتبة على وضع الصيغة للعموم ، فحينئذ لا ملازمة بين تيقّن إرادة الخصوص ، وبين وضع اللفظ له.
أما الجواب المختص بالوجه الثاني : فلأن الاستدلال بهذا الوجه مبني على الملازمة بين التخصيص والمجازية حتى يكون شيوع التخصيص ملازما لكثرة المجازات ؛ لكن الملازمة ممنوعة.
.................................................................................................
______________________________________________________
هذا مضافا إلى : أنه لو سلمنا الملازمة المذكورة فلا بأس بكثرة المجازات إذا كان الاستعمال في المعاني المجازية مع القرينة.
٥ ـ رأي المصنف «قدسسره» :
أن للعموم صيغة تخصه لغة وشرعا.
فصل
ربما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم ؛ النكرة في سياق النفي أو النهي (١) ،
______________________________________________________
حول النكرة في سياق النفي أو النهي
(١) وقبل الدخول في أصل البحث ينبغي بيان أمرين :
أحدهما : بيان ما هو المقصود من عقد هذا الفصل ، بعد ما عرفت في الفصل السابق : أن للعموم صيغة تخصه ، ولا يعتد بخلاف من خالف.
وثانيهما : بيان ما هو محل النزاع في النكرة التي تفيد العموم.
وأما تفصيل الأمر الأول فيقال : إن المقصود من الكلام في الفصل السابق هو : إثبات الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي ، ويجعل المصنف في هذا الفصل النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي من موارد الإيجاب الجزئي المذكور في الفصل السابق ، فقد عدّ من صيغ العموم والأدوات الدالة عليه لفظة : كل ، وجميع ، وكافة وقاطبة. وقد عدّ أيضا ممّا يفيد العموم : النكرة في سياق النفي أو النهي ، كما في قولك : «ما ظلمت أحدا أو لا تظلم أحدا» هذا خلاصة الكلام في الأمر الأول.
وأما توضيح الأمر الثاني : ـ وهو بيان محل النزاع ـ فيتوقف على مقدمة وهي : أن النكرة تارة : يراد بها معناها المصطلح عند النحاة ، وهو اسم الجنس إذا دخل عليه التنوين وأفاد الوحدة نحو : «جاء رجل من أقصى المدينة» ، وأخرى : يراد بها مطلق اسم الجنس ، سواء كان مع التنوين نحو : «ما رأيت أحدا» ، أو بلا التنوين نحو : «لا رجل في الدار».
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المراد بالنكرة في محل الكلام هو مطلق اسم الجنس إذا اخذت في الكلام مرسلة أي : مطلقة لا مبهمة ومهملة : لأن المهملة ـ كما في علم الميزان ـ في قوّة الجزئية ، فسلبها لا يقتضي عموم النفي لجميع أفرادها ، وإنما يقتضي عموم ما أريد منها يقينا وهو البعض.
وكيف كان ؛ فيقع الكلام في النكرة الواقعة في سياق النفي من جهات :
الأولى : في أصل دلالة النكرة في سياق النفي على العموم : الظاهر عدم الإشكال فيها ، كما أشار إليه بقوله : «دلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر».
.................................................................................................
______________________________________________________
الثانية : في أنها هل هي بالوضع أو العقل؟ وجهان : ظاهر المصنف «قدسسره» هو الثاني ؛ بتقريب : أن كلمة «ما» النافية موضوعة للنفي ، واسم الجنس كلفظ «رجل» مثلا موضوع لنفس الطبيعة لا بشرط ـ على ما حققه سلطان العلماء «قدسسره» ـ ولا وضع لمجموع الكلمتين على حدة ؛ ولكن لمّا كان انتفاء الطبيعة حاصلا بانتفاء جميع وجوداتها ـ وإلا لم يصدق عليها أنها معدومة ـ يحكم بالعموم عقلا. هذا معنى دلالة النكرة في سياق النفي على العموم.
إلّا إن هذه الدلالة مشروطة بأن تكون الطبيعة مطلقة حتى يكون نفيها منوطا بانتفاء جميع أفرادها ؛ إذ لو كانت الطبيعة المنفية أو المنهي عنها مقيدة لم يقتض دخول النفي عليها عموم النفي لأفراد الطبيعة المطلقة ؛ بل يقتضي عموم نفي ذلك المقدار المقيّد فقط.
وكذا إذا كانت الطبيعة مهملة ، فإن نفيها كنفسها مهمل ، فيكون متردّدا بين السعة والضيق ، ولا يتعين نفي أحدهما ـ أعني : جميع أفراد المطلقة أو المقيدة ـ إلا بالقرينة. ثم إحراز إرسال الطبيعة وإطلاقها إنما هو بمقدمات الحكمة ، فلولاها كانت مهملة ، وهي في قوة الجزئية ، فلا تفيد إلا نفي الطبيعة في الجملة ؛ ولو في ضمن صنف منها.
هذا ما أشار إليه المصنف في هامش الكتاب حيث قال : «وإحراز الإرسال فيما أضيفت إليه إنما هو بمقدمات الحكمة ، فلولاها كانت مهملة ، وهي ليست إلا بحكم الجزئية ، فلا تفيد إلا نفي هذه الطبيعة في الجملة ولو في ضمن صنف منها». انتهى مورد الحاجة.
وقد أشار إلى أمرين ؛ أحدهما : تقييد الطبيعة بالإرسال ، والآخر : طريق إحراز الإرسال وهو مقدمات الحكمة ، حيث إنها تثبت إطلاق الطبيعة ، فحينئذ يكون نفيها عاما لجميع أفراد الطبيعة المطلقة.
فالمتحصل : أن الطبيعة الواقعة في سياق النفي على ثلاثة أقسام :
١ ـ الطبيعة المطلقة أي : التي تمت فيها مقدمات الإطلاق ، فلا شك في إفادة هذا القسم العموم.
٢ ـ الطبيعة المقيّدة : وهذا القسم يفيد العموم بالنسبة إلى مورد القيد.
ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلا ، لضرورة : أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة ، إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود ، وإلا كانت موجودة.
لكن لا يخفى : أنها تفيده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة قابلة للتقييد ، وإلا (١) فسلبها
______________________________________________________
٣ ـ الطبيعة المهملة : بأن لم يكن المقام مقام البيان ، فهذا القسم ـ وإن كان في مقام الثبوت يرجع إلى أحد الأولين لأن المتكلم إمّا يريد المطلق أو المقيّد ـ إلّا إنه في مقام الإثبات مجمل مردّد ، فلا يفيد العموم أصلا.
الثالثة : أن العموم المستفاد من الطبيعة في المقام تابع في السعة والضيق لما أريد من المدخول ـ أعني : مدخول النفي أو النهي ـ كما عرفت من الأقسام الثلاثة للطبيعة ، فإن أريد منه الشياع كان الشمول والسريان في جميع أفراده ، وإن أريد منه صنف خاص كان في جميع أفراد هذا الصنف من غير فرق في ناحية العموم.
ولكن هل يحتاج إحراز الشياع إلى جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، حتى يكون العموم وسيعا أو لا بل كلمة «ما» قرينة عند العرف على إرادة العموم؟
ظاهر المصنف هو : عدم الحاجة إلى مقدمات الحكمة في عموم ما أريد من المدخول ، فالنكرة في سياق النفي تفيد العموم بالنسبة إلى الأفراد المرادة إن مطلقا فمطلق ، وإن مقيدا فمقيد.
وأما بالنسبة إلى ما يصلح انطباق الطبيعة عليه من أفرادها : فالعموم فيها يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ليحرز به المطلق.
ومن هنا ظهر : أن استيعاب السلب لخصوص ما أريد من المدخول لا ينافي كون دلالة النكرة في حيّز النفي أو النهي على العموم عقلية ؛ لأن الدلالة العقلية على العموم إنّما هي بالنسبة إلى ما يراد من النكرة ، فإن أريد بها نفي الطبيعة المرسلة : كان المسلوب عموم أفراد الطبيعة المطلقة ، وإن أريد بها نفي الطبيعة المقيدة بقيد : كان المسلوب خصوص أفراد الطبيعة المقيدة ، لا جميع أفراد التي تصلح الطبيعة المطلقة للانطباق عليها.
فحينئذ يندفع توهم التنافي بين كون دلالة النكرة في سياق النفي على العموم عقلية ، وبين استيعاب السلب لخصوص ما يراد منها لا غيره من سائر الأفراد ؛ بتقريب : أن الدلالة العقلية تقتضي عموم السلب لجميع افراد الطبيعة لا خصوص ما أريد منها ، وقد عرفت عدم التنافي.
(١) أي : وإن لم تؤخذ الطبيعة مرسلة ومطلقة ، بل أخذت مبهمة ومهملة ، فسلبها لا
لا يقتضي إلا استيعاب السلب لما أريد منها يقينا ، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها ، وهذا (١) لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فإنها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها ؛ لا الأفراد التي يصلح لانطباقها عليه ، كما لا ينافي (٢) دلالة مثل : لفظ كل على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله.
ولذا (٣) لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.
______________________________________________________
يقتضي عموم النفي لجميع أفرادها ، وإنما يقتضي عمومه لما أريد منها يقينا وهو البعض ؛ لأن المهملة ـ كما في علم الميزان ـ في قوة الجزئية.
(١) يعني : استيعاب السلب لخصوص ما أريد منها يقينا لا ينافي كون دلالة النكرة في سياق النفي على العموم عقلية ، وقد عرفت عدم التنافي.
(٢) أي : كما لا ينافي دلالة مثل : لفظ «كل» على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله إن عاما فعام وإن خاصا فخاص نحو : «أكرم كل عالم ، وأكرم كل عالم عادل» ، لأن كلمة «كل» قد وضعت لإفادة عموم أفراد ما أريد من مدخوله.
فغرض المصنف من تنظير النكرة في حيّز النفي بلفظ «كل» هو : التنبيه على عدم الفرق بين كون الدلالة على العموم عقلية كالنكرة في سياق النفي ، أو وضعية كدلالة لفظ «كل» ، أي : لا فرق بينهما في الدلالة على عموم ما يراد من المدخول ، وإنما الفرق بينهما تارة : أن الدلالة في أحدهما عقلية ، وفي الآخر : وضعية كما عرفت ، وأخرى : بأن مدخول أداة النفي إذا كان مهملا من حيث العموم والخصوص لا يفيد العموم أصلا ، هذا بخلاف مدخول لفظ «كل» ، حيث إن كلمة «كل» رافعة لإهماله ، وموجبة لإطلاقه مع عدم اقترانه بما يقتضي تقييده أو إطلاقه.
(٣) أي : لأجل كون العموم بحسب ما أريد من مدخوله لا منافاة بين العموم المستفاد من العقل ؛ كما في النكرة المنفية أو المنهي عنها ، وبين تقييد المدخول بقيود كثيرة نحو : «لا تكرم رجلا فاسقا أمويا» ؛ فإن تقييد الرجل بهذين القيدين لا يقدح في العموم المستفاد من النكرة في سياق النفي أو النهي ، كما أن تقييد مدخول «كل» بقيود كثيرة ـ نحو : «أكرم كل رجل عالم فقيه عادل» ـ لا يقدح في العموم المستفاد من لفظ «كل».
فالمتحصل : أن إطلاق المدخول وتقييده لا يوجبان التفاوت في معنى العموم.
نعم (١) ؛ لا يبعد أن يكون (٢) ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها ،
______________________________________________________
(١) استدراك على ما ذكره من اشتراك أداة النفي ، ومثل لفظ «كل» في تبعية دلالتهما على العموم لإطلاق المدخول وتقييده ، وعرفت غير مرة : أن العموم إنما هو بالنسبة إلى ما أريد من المدخول سعة وضيقا.
وحاصل الاستدراك : أن لفظ «كل» يفترق عن أداة النفي بأنه مع إهمال مدخوله وعدم اقترانه بما يقتضي تقييده أو إطلاقه يرفع احتمال التقييد ، ويثبت إطلاقه من دون حاجة إلى جريان مقدمات الحكمة فيه ، فإذا قال : «أكرم كل عالم» ، واحتمل تقييده بالعدالة أو غيرها حكم بالإطلاق ، ووجوب إكرام كل فرد من أفراد طبيعة العالم ، فكلمة «كل» ترفع احتمال تقييد المدخول ، وهذا بخلاف الأداة فإنها لا ترفع إهمال مدخولها ، ولذا يكون النفي مهملا من حيث العموم والخصوص ، ولا يثبت إطلاق مدخولها إلا بمقدمات الحكمة ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٤٧٣».
(٢) يعني : أن يكون مثل لفظ «كل» ظاهرا عند إطلاق النكرة في استيعاب جميع أفراد النكرة.
إفادة المحلى باللام العموم
وقبل البحث عن المحلى باللام لا بد من تحرير محل الكلام ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن كلمة «ال» على أقسام :
١ ـ أن تكون زائدة كالداخلة على بعض الأعلام ؛ كالحسن والحسين ونحوهما.
٢ ـ أن تكون موصولة بمعنى الذي ؛ كالداخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين ونحوهما كقولك : جاء الظالم أو المظلوم ونحوهما.
٣ ـ أن تكون حرف تعريف ؛ كالداخلة على الجمع المنكر ، والمفرد المنكر وهي على نوعين : عهدية وجنسية.
أما العهدية : فهي على أقسام : العهد الذكري ، والخارجي ، والذهني ، والحضوري.
وأما الجنسية : فهي على قسمين :
الأول : أن تكون للإشارة إلى الأفراد والمصاديق الخارجية ، ويقال لها : لام الاستغراق.
الثاني : أن تكون للإشارة إلى الماهية والطبيعة كقولنا : «الرجل خير من المرأة» ، ويعرف الفرق بين الجنس والاستغراق بمناسبة الحكم والموضوع.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو «ال» الجنسية ، فإذا كانت للاستغراق فهي للعموم قطعا.
وهذا (١) هو الحال المحلى باللام جمعا كان أو مفردا ـ بناء على إفادته للعموم ـ ولذا (٢) لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره ، وإطلاق (٣) التخصيص على تقييده
______________________________________________________
وأما إذا كانت لمجرّد الإشارة إلى الماهية والطبيعة فهي للعموم أيضا ، لكن إذا اقتضته مقدمات الحكمة مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ، أي : أحلّ الله كل فرد من أفراد البيع إلا ما خرج بالدليل ، وحرّم كل فرد من أفراد الربا إلا ما خرج بالدليل.
(١) أي : ما ذكر في النكرة الواقعة في سياق النفي والنهي ، ولفظ «كل» ؛ من كون العموم والاستيعاب تابعا للمدخول جار بعينه في المحلّى باللام ، جمعا كان أو مفردا ـ بناء على إفادته العموم ـ فإذا قال : «أكرم العلماء» وجب إكرام كل فرد من أفراد العلماء ، وإذا قال : «أكرم العلماء العدول» وجب إكرام كل منهم إذا اتصف بالعدالة ؛ لا كل عالم وإن لم يتصف بها. وكذا المفرد المحلى باللام ، فإن كان مطلقا نحو : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) كان كل فرد من أفراد البيع حلالا.
(٢) يعني : ولأجل تبعية العموم لما أريد من المدخول لا ينافي العموم تقييد المدخول بالوصف ؛ كالعدول في المثال المزبور ، وغير الوصف كقوله : «أكرم العلماء إن كانوا عدولا» ، أو «إلا الفساق منهم» ، كما أشار إليه بقوله «وغيره».
(٣) قوله : «وإطلاق التخصيص على تقييده» دفع لما يتوهم من : أنه لو كان اللام لعموم المراد من أفراد المدخول لم يصدق في مثل : «أكرم العلماء العدول» أنه مخصّص ؛ لأن التخصيص عبارة عن تضييق دائرة العموم في فرض ثبوته ، فإنّ التخصيص فرع أن يكون هناك عموم وشمول أوسع من المخصص ، والحال إنه ليس الأمر كذلك ؛ إذ المفروض : أنه ليس هناك عموم أوسع من المقيد والمخصص حتى تتضيق دائرته بذكر التقييد بالوصف ، فكيف يطلق عليه التخصيص؟
وحاصل الدفع : إن إطلاق التخصيص على تقييده ليس إلا من قبيل «ضيّق فم الركية» أي : البئر ، فكما أن معنى «ضيّق» في المثال : إحداثه ضيّقا من الأول ـ لا تضييقه بعد ما كان موسعا ـ فكذلك في المقام ، فإن معنى تخصيص المحلى ـ إذا كان مقيدا بالوصف ـ حدوثه مخصصا من الأول ؛ لا أنه مما يطرأ عليه التخصيص بعد العموم ، فليس المراد من التخصيص المعنى المصطلح أعني : التضييق بعد ثبوت العموم والسعة ؛ بل معناه : أن المحلى باللام المقيّد بالوصف مضيّق من الأول ، فإطلاق التخصيص بهذا المعنى لا ينافي القول بأن المحلّى باللام لعموم المراد من المدخول ، فلا منافاة بين كون اللام لعموم المراد من أفراد المدخول ، وبين صدق أنه مخصص ومقيّد فيما إذا كان المحلى باللام مقيدا بالوصف ، كما في المثال المذكور.
ليس إلا من قبيل ضيّق فم الركية ، لكن (١) دلالته على العموم وضعا محلّ منع ، بل إنما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى ، وذلك (٢) لعدم اقتضائه (٣) وضع
______________________________________________________
(١) استدراك على قوله : «بناء على إفادته للعموم».
ومقصود المصنف من الاستدراك : أن المحلى باللام وإن اشتهر «دلالته على العموم وضعا» لكنه لا يفيد العموم إلا بالقرينة من مقدمات الحكمة أو غيرها من القرائن الخاصة ، وهذا من المصنف إنكار لدعوى وضع المحلى باللام للعموم.
وحاصل كلام المصنف في منع الوضع للعموم : أن ما وضع للعموم إما نفس اللام ، وإمّا مدخوله ، وإما مجموعهما ، ولم يثبت شيء من ذلك ، فلا بد أن تكون الدلالة على العموم بمعونة قرينة من مقدمات الحكمة ؛ كما لو كان المولى في مقام البيان وقال : «أكرم العلماء» ، أو (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، أو كانت هناك قرينة أخرى خاصة غير مقدمات الحكمة مثل : الاستثناء ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) ، فإن كلمة «إلا» الاستثنائية تدل على عمومية الإنسان ، وإلا لم يصح الاستثناء.
(٢) تعليل لعدم الدلالة الوضعية.
(٣) الأولى أن يقال : لعدم اقتضاء وضع اللام ولا مدخوله ولا المركب منهما للعموم. ثم إن «اقتضائه» مصدر أضيف إلى المفعول المراد به العموم.
قوله : «وضع» فاعله. يعني : لعدم اقتضاء وضع اللام للعموم».
خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدسسره»
يتلخص البحث في أمور :
١ ـ المقصود من عقد هذا الفصل : بيان بعض الصيغ والأدوات التي تدل على العموم ، وقد عدّ مما يفيد العموم : النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي ، ثم محل النزاع من النكرة هو : مطلق اسم الجنس ، سواء كان مع التنوين أو دونه لا النكرة المصطلحة عند النحاة ، وهو اسم الجنس إذا دخل عليه التنوين ، وأفاد الوحدة ، فالمراد من النكرة هي : مطلق اسم الجنس ولكن إذا أخذت مرسلة لا مبهمة ومهملة لأن المهملة في قوّة الجزئية ، فسلبها لا يقتضي عموم النفي لجميع أفرادها.
ثم دلالة النكرة الواقعة في سياق النفي على العموم عقلية ؛ لأن انتفاء الطبيعة ليس عقلا إلا بانتفاء جميع أفرادها. إلّا إن هذه الدلالة مشروطة بأن تكون الطبيعة مطلقة ؛ إذ لو كانت مقيدة لم يقتض دخول النفي عليها عموم النفي لأفراد الطبيعة المطلقة ؛ بل يقتضي عموم نفي ذلك المقدار المقيد.
اللام ولا مدخوله ، ولا وضع آخر للمركب منهما ، كما لا يخفى ، وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.
______________________________________________________
٢ ـ واستيعاب السلب لخصوص ما أريد من النكرة يقينا ـ عند عدم كونها مطلقة ـ لا ينافي كون دلالتها على العموم عقلية ، لأن الدلالة العقلية على العموم حينئذ إنما هي بالإضافة إلى ما يراد من النكرة إن مطلقا فمطلق ، وإن مقيدا فمقيد.
وكذا لفظ «كل» يفيد عموم ما يراد من مدخوله ، فلا فرق بين أداة النفي وبين لفظ «كل» في إفادة عموم ما أريد من مدخولهما.
وإنما الفرق بينهما بوجهين آخرين :
أحدهما : دلالة الأداة على العموم عقلية ، ودلالة لفظ «كل» علية وضعية.
وثانيهما : أن مدخول الأداة عند عدم القرينة على التقييد أو الإطلاق يكون مهملا ومجملا ، ومدخول «كل» يكون مطلقا ؛ لأن لفظ كل رافع لإهماله وموجب لإطلاقه فيفسّر مدخوله بإرادة الإطلاق منه.
٣ ـ المحلى باللام أيضا يفيد عموم ما أريد من مدخوله ، كالنكرة الواقعة في سياق النفي ، ولفظ «كل» ، فيختلف بين عموم نحو : «أكرم العلماء» ، و «أكرم العلماء العدول» ، إذ العموم في الأول أوسع منه في الثاني.
قوله : «وإطلاق التخصيص على تقييده» دفع لما يتوهم من : أنه لو كانت اللام ـ في المثال الثاني ـ لعموم المراد من المدخول لم يصدق أنه مخصص ؛ لأن التخصيص فرع ثبوت العموم بأن يكون المفهوم قبل التخصيص موسعا ثم بالتخصيص صار مضيّقا ؛ وليس الأمر كذلك في المثال المذكور ، فكيف يطلق عليه التخصيص؟
وحاصل الدفع : أن ما ذكر ـ من أن : التخصيص تضييق لما هو أوسع ـ إنما هو في التخصيص المصطلح ، والتخصيص في مثل : «أكرم العلماء العدول» ليس بمعناه الاصطلاحي ، بل بمعنى كون المحلى باللام المقيد بالوصف مضيّقا من الأول كما في قوله : «ضيّق فم الركية» ، فالمحلى باللام وإن كان مما يدل على العموم إلا إن دلالته عليه ليس بالوضع ؛ بل بقرينة مقدمات الحكمة ، أو قرينة أخرى خاصة.
٤ ـ رأي المصنف «قدسسره» :
١ ـ دلالة النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي على العموم ؛ لكن بشرط أن تكون مطلقة.
٢ ـ عدم دلالة المحلى باللام على العموم وضعا ؛ بل يفيده بمعونة القرينة.