دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

أما على الأول : فإنه حينئذ لا دلالة لها إلا على إثبات إمكان وجوده «تبارك وتعالى» ، لا وجوده.

وأما على الثاني : فلأنها وإن دلت على وجوده تعالى ؛ إلا إنه لا دلالة لها (١) على عدم إمكان إله آخر ـ مندفع (٢) ؛ بأن المراد من الإله هو : واجب الوجود ، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج ، وإثبات فرد منه فيه ـ وهو الله ـ يدل بالملازمة البيّنة على امتناع تحققه في ضمن غيره «تبارك وتعالى» ، ضرورة : إنه لو لم يكن ممتنعا لوجد لكونه من أفراد الواجب.

______________________________________________________

وأما على الثاني : فكلمة الإخلاص وإن كانت تدل على وجوده تعالى ؛ لأن معناها حينئذ : لا إله بموجود إلا الله تعالى إلا إنها لا تدل على ما هو المقصود منها وهو نفي إمكان غيره تعالى ، وإثبات امتناع غير الله تعالى لا نفي وجوده فقط.

لأن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان ، لأن الوجود أخص من الإمكان العام ، ومن المعلوم : أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام ، مع إن المعتبر في التوحيد هو نفي إمكان إله آخر.

وهذا الإشكال نشأ من جعل لفظ «لا» لنفي الجنس ليحتاج إلى الخبر ، لأنه من النواسخ الداخلة على المبتدأ والخبر.

(١) أي : لا دلالة لكلمة الإخلاص على عدم إمكان إله آخر.

ووجه عدم الدلالة : أن العقد السلبي ـ وهو المستثنى منه ـ يدل على عدم وجود طبيعة الإله ومنها الواجب الوجود «تبارك وتعالى» ، والعقد الإيجابي ـ وهو المستثنى ـ يدل على وجود فرد منها وهو الله تعالى ، وشيء من العقدين لا يدل على امتناع غيره سبحانه ، مع إن امتناع غيره هو المعتبر في التوحيد.

(٢) هذا دفع للإشكال : أي : يندفع الإشكال : بأن المراد من الإله واجب الوجود لذاته ، والخبر المقدّر هو «موجود» ، فتدل كلمة الإخلاص حينئذ على انحصاره في فرد منه وهو الله «تبارك وتعالى» ، فمعنى كلمة الإخلاص : لا واجب وجود بموجود إلا الله ، ومن المعلوم : أن نفي طبيعة واجب الوجود وإثبات فرد منها ـ وهو الله تعالى ـ يدل على عدم إمكان واجب غيره ؛ إذ لو كان ممكنا لوجد قطعا ، ضرورة : أن فرض إمكانه مساوق لوجوده ؛ لكون وجوده واجبا حسب الفرض ، والمفروض : انتفاء وجوبه إلا في فرد واحد ، ولازم ذلك : امتناع غيره ؛ إذ لو لم يكن ممتنعا لوجد حتما في الخارج لكونه من أفراد الواجب الوجود الذي يقتضي ذاته الوجود ، ويستحيل عليه العدم.

٢٤١

ثم إن الظاهر (١) : أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمفهوم ، وأنه لازم خصوصية الحكم (٢) في جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة الاستثنائية

______________________________________________________

هذا معنى التوحيد المقصود من كلمة الإخلاص.

وفي المقام بحث طويل تركناه تجنبا عن التطويل الممل.

(١) مقصود المصنف من هذا الكلام : بيان الخلاف في أن انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى هل هو بالدلالة المنطوقية أم المفهومية؟ والثاني : هو مختار المصنف تبعا للمشهور ، بتقريب : أن أداة الاستثناء توجب تضييق دائرة موضوع سنخ الحكم المتعلق بالمستثنى منه ، ولازم هذا التضييق هو : انتفاء سنخ الحكم عن المستثنى ، وهذا هو المفهوم ، فليس مفاد أداة الاستثناء نفي حكم المستثنى منه عن المستثنى حتى تكون الدلالة بالمنطوق ؛ بل الجملة الاستثنائية تدل على خصوصية مستتبعة للمفهوم كما أشار إليه بقوله «وأنه لازم خصوصية الحكم ..» إلخ.

(٢) وقد أراد بهذا قياس المقام بباب الشرط والوصف ، فكما أن المفهوم فيهما ـ على القول به ـ كان من لوازم خصوصية المعنى في المنطوق وهي علية الشرط أو الوصف بنحو الانحصار ؛ فكذلك في المقام ثبوت نقيض الحكم في المستثنى يكون من لوازم خصوصية الحكم في المستثنى منه. والمراد بها : ما يستتبع انتفاء سنخ حكم المستثنى منه عن المستثنى.

وكيف كان ؛ فلا خلاف في أن الدلالة على حكم المستثنى منه هو بالمنطوق ، وإنما الخلاف في أن الدلالة على حكم المستثنى هل هي بالمنطوق أيضا أو بالمفهوم؟ قال المصنف بالثاني.

واستدل من قال بالمنطوق : بأن العامل في المستثنى ليس هو العامل في المستثنى منه ، وذلك مثل : «جاءني» في نحو : «جاءني القوم إلا زيدا» ؛ بل العامل فيه هو الأداة وهي كلمة «إلا» في المثال ؛ لقيامها مقام الفعل وهو استثني ، كقيام حرف النداء مقام «أدعو» و «أطلب» في نحو «يا زيد» أي : أدعوه ، فهي تدل مطابقة على خروج المستثنى عن حكم المستثنى منه حقيقة إذا كان متصلا ، أو حكما إذا كان منقطعا ، فيكون الحكم في طرفه بالمنطوق.

هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «نعم لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق». فقوله : «نعم» استدراك على قوله : «ثم إن الظاهر» ، وحاصله : أنه يمكن أن تكون دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى بالمنطوق لا بالمفهوم ؛ بأن يكون الدال عليه نفس أداة الاستثناء كما عرفت لا الجملة المشتملة عليها.

٢٤٢

نعم ؛ لو كانت الدلالة في طرفه بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق ، كما هو (١) ليس ببعيد ، وإن كان تعيين ذلك (٢) لا يكاد يفيد.

ومما يدل على الحصر والاختصاص : إنما (٣) ، وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك ، وتبادره منها قطعا عند أهل العرف والمحاورة.

ودعوى ـ أن الإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى ذلك (٤) ، فإن (٥) موارد استعمال هذه

______________________________________________________

(١) أي : كون الدلالة على الحكم في المستثنى بالمنطوق غير بعيد ، بل في غاية القرب ، ولذا قيل بتعيّنه ؛ إلا إن تعيين ذلك لا يجدي ولا يثمر في مقام التعارض ؛ لأن الدلالة على كلا التقديرين قوية من دون رجحان أحدهما على آخر.

(٢) أي : تعيين أنه بالمنطوق أو المفهوم «لا يكاد يفيد» ؛ وذلك لعدم أثر شرعي يترتب على عنوان المنطوق أو المفهوم حتى نحتاج إلى تعيين موضوعه ثم يثمر هذا النزاع في باب التعارض كما لو قال : «أكرم العلماء إلا زيدا» ، ثم ورد «أكرم زيدا» بناء على أضعفية الدلالة المفهومية من المنطوقية ، فإنه يقدم المنطوق حينئذ على المفهوم للأقوائية ، ويخرجان عن التعارض موضوعا ؛ للزوم حمل الظاهر على الأظهر عرفا ، بخلاف ما إذا لم يكن بينهما أظهرية ، وكانت الدلالتان متساويتين في الظهور ؛ إذ لا بد حينئذ من معاملة التعارض بينهما.

ولمّا كانت أظهرية الدلالة المنطوقية من المفهومية عند المصنف غير ثابتة : حكم بعدم فائدة في كون دلالته على انتفاء الحكم بالمنطوق أو المفهوم.

في سائر الأدوات الدالة على الحصر

(٣) قد نصّ أهل الأدب أنها من أداة الحصر ، وتدل عليه ، هذا مضافا إلى أنه المتبادر منها أيضا ، «ولذا قال المصنف : «وذلك لتصريح أهل اللغة بذلك» ، وقد استدل المصنف على إفادة كلمة «إنما» للحصر بوجهين :

الوجه الأول : هو تصريح أهل اللغة بإفادتها للحصر ، وهو حجة لنا ، ويعدّ من علائم الحقيقة ، كما أن عدم التصريح والتنصيص من علائم المجاز.

الوجه الثاني : هو تبادر الحصر من كلمة «إنّما» قطعا عند أبناء المحاورة ، مثلا : إذا قيل : «إنما زيد شاعر» فيتبادر منه حصر وصف زيد في الشاعرية أي : ليس له وصف آخر غير وصف الشاعرية ، وإذا قيل : «إنما شاعر زيد» فيتبادر حصر الشاعرية لزيد أي : ليس وصف الشاعرية لعمر وبكر مثلا.

(٤) أي : التبادر.

(٥) تعليل لعدم السبيل إلى دعوى تبادر الحصر. وقوله : «ولا يعلم بما هو مرادف لها

٢٤٣

اللفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا ، حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها ـ غير مسموعة (١) ، فإن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا ، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل.

وربما يعد مما دل على الحصر : كلمة بل الإضرابية ، والتحقيق أن الإضراب على أنحاء (٢):

______________________________________________________

في عرفنا» بيان لإثبات دعوى عدم السبيل إلى التبادر المزبور من كلمة «إنما».

والدعوى المذكورة من صاحب التقريرات وحاصلها : منع التبادر المزبور.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الألفاظ في اللغة العربية على قسمين :

أحدهما : ما له مرادف في اللغة الفارسية كلفظة «إن» من أداة الشرط ، حيث إن ما يرادفها في لغة الفرس هو : لفظة «اگر» وثانيهما : ما ليس له مرادف في اللغة الفارسية كلفظ «إنما» ، فهي من الألفاظ التي لا يعلم لها مرادف في لغة الفرس.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الألفاظ التي نعلم بما يرادفها في اللغة الفارسية كلفظة «إن» صحّ فيها دعوى التبادر.

وأما الألفاظ التي لا نعلم بما يرادفها ك «إنّما» فلا يصح لنا دعوى التبادر فيها ، ببيان : أن استعمالها في العرف السابق مختلف ، لاستعمالها في الحصر وغيره ، ولم يعلم بما يراد فيها حتى يراجع إليه في تشخيص معناها.

فالنتيجة : أنه لا سبيل إلى دعوى التبادر أصلا «حتى يستكشف منها» أي : من الكلمة المرادفة لها في لغة الفرس «ما هو المتبادر منها» أي : من كلمة «إنّما» في لغة العرب. وتفسير بعضهم لها ـ اينست وجز اين نيست ـ غير معلوم المطابقة.

(١) خبر دعوى ودفع لها. وحاصل الدفع : أن السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا أي : العرف الخاص ، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف العام أيضا سبيل واضح إلى التبادر ؛ كالانسباق إلى أذهاننا بلا فرق بينهما من هذه الناحية ، فعدم الانسباق إلى أذهاننا لا يقدح في دعوى التبادر ، فالحق : أنه لا قصور في دعوى التبادر.

(٢) وحاصل الكلام في الإضراب : أنه على أقسام :

١ ـ أن يكون لإصلاح ما أتى به غفلة واشتباها ؛ كما في «خرج زيد ، بل عمرو» ، أو سبق لسانه به كما في «اشتريت دارا ، بل دكانا» ، فلا يفيد الحصر ؛ لأن المضرب عنه حينئذ كالعدم ، وكأنّه لم يؤت به أصلا ، ولم يخبر من أول الأمر إلا بما أخبر به بعد

٢٤٤

منها : ما كان لأجل أن المضرب عنه ، إنما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه ، فيضرب بها (١) عنه إلى ما قصد بيانه ، فلا دلالة له (٢) على الحصر أصلا ، فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداء ، كما لا يخفى.

ومنها : ما كان لأجل التأكيد ، فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه ، فلا دلالة له عليه أيضا.

ومنها : ما كان في مقام الردع ، وإبطال ما أثبت أولا ، فيدل عليه وهو واضح.

ومما يفيد الحصر ـ على ما قيل ـ تعريف المسند إليه (٣) باللام ، والتحقيق : أنه لا يفيده

______________________________________________________

كلمة «بل» ، ففي المثالين كأنه قال : «خرج عمرو» و «اشتريت دكانا» ، ومن المعلوم : أنهما من اللقب الذي لا مفهوم له.

٢ ـ أن يكون لأجل التأكيد نحو قول الفقهاء : «طهارة ماء الغسالة مشهور ، بل قام عليها الإجماع» ، والمراد بالتأكيد المبالغة ، فيكون ذكر المضرب عنه توطئة وتمهيدا لبيان المضرب إليه ، من دون دلالتها على الحصر أصلا.

٣ ـ أن يكون للردع وإبطال ما أثبت أولا ؛ كأن يقال : «تقليد الأعلم أحوط ، بل واجب» ، وكقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(١). وهذا القسم يدل على الحصر لدلالته على نفي الحكم عن المضرب عنه ، وإثبات حكم آخر له مع الانحصار ؛ كإثبات العبودية فقط في الآية المباركة لمن اتخذه الرحمن بزعمهم ولدا له ، «سبحانه وتعالى».

فالقسم الثالث وإن كان مما يدل على الحصر ؛ إلّا أن تعيين هذا القسم من الأقسام محتاج إلى القرينة ؛ إذ المفروض : تعدد أنحاء الاستعمال.

(١) أي : بل الإضرابية عن المضرب عنه إلى الشيء الذي قصد بيانه وهو المضرب إليه ، وضمير «به» في الموردين يرجع إلى المضرب عنه.

(٢) أي : لكلمة «بل» الإضرابية ، والأولى تأنيث الضمير.

(٣) قبل الخوض في البحث ينبغي تقديم أمور :

١ ـ أن المراد بالمسند إليه في المقام هو : خصوص المبتدأ مثل : «الأمير زيد» مثلا فيدل على انحصار الإمارة في زيد ، وعلى نفيها عن غيره من عمرو وبكر.

٢ ـ أن المسند إليه إما أن يكون مساويا للمسند أو أخص منه أو أعم منه مطلقا أو من وجه ، ولا إشكال في خروج القسمين الأولين عن محل النزاع للعلم بالحصر حينئذ ، إذ

__________________

(١) البقرة : ١١٦.

٢٤٥

إلا فيما اقتضاه المقام ، لأن الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس ، كما أن الأصل في الحمل في القضايا المتعارفة هو : الحمل المتعارف الذي ملاكه مجرد الاتحاد في الوجود ، فإنه (١) الشائع فيها ؛ لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد بحسب المفهوم

______________________________________________________

لو لم ينحصر المساوي في المساوي لم يتحقق التساوي بينهما هذا خلف ، وهكذا لا ينفك العام عن الخاص في فرض كون المسند إليه أخص من المسند ، وهكذا لا يصح حصر العام في الخاص في الفرض الثالث ؛ وإلا يلزم أن لا يكون العام عاما وهو خلف. هذا كله مع العلم بالنسبة ، فمحل الكلام : فيما إذا كان المسند إليه أعم مطلقا أو من وجه ، مع عدم العلم بالأعمية مصداقا. فيقع الكلام في أنه هل يستكشف منه أنه لا فرد له غير المسند أم لا؟

٣ ـ أن ظاهر الحمل هو الشائع لا الحمل الذاتي ؛ إلّا إن تقوم قرينة عليه.

إذا عرفت هذه الأمور فالتحقيق : أن مجرد تعريف المسند إليه باللام لا يفيد الاختصاص والحصر ، لعدم ثبوت وضع له ، ولا القرينة العامة عليه ، فلا بد من دلالته على الحصر من قيام قرينة خاصة عليه من مقام أو حال ، كما أشار إليه بقوله : «إلا فيما اقتضاه المقام» يعني : قرينة المقام ؛ كحصر الحمد بالله تعالى في نحو : «الحمد لله» ، فإن القرينة المقامية ـ وهي كون الحمد واردا في مقام الشكر على نعمه وآلائه ـ تقتضي انحصار جنس الحمد بالله «سبحانه وتعالى».

وحاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في التحقيق من عدم إفادة تعريف المسند إليه باللام للحصر هو : أن هذه الإفادة إمّا من ناحية اللام وإمّا من ناحية الحمل ، وشيء منهما لا يفيد الحصر.

أما الأول : فلأن الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس ، ومن المعلوم : إن الجنس بنفسه لا يفيد الحصر إلّا إن يقوم دليل على كونه بنحو الإطلاق حتى يكون الجنس المطلق منحصرا في فرد ؛ كانحصار جنس العالم المطلق في زيد في مثال : «العالم زيد».

وأما الثاني : فلأن الأصل في القضايا : كون الحمل فيها شائعا ، ومن المعلوم : أن ملاكه هو التغاير المفهومي والاتحاد الوجودي ، وذلك لا يقتضي الحصر أصلا ، فقولنا : «الإنسان زيد» حمل متعارف ؛ لتغاير مفهوميهما واتحادهما وجودا ، ولا يفيد الحصر قطعا ؛ إذ لا يمنع هذا الاتحاد عن اتحاد الإنسان مع غير زيد من سائر أفراده أيضا.

(١) أي : فإنّ الحمل المتعارف هو الشائع في القضايا المتعارفة.

٢٤٦

كما لا يخفى. وحمل شيء على جنس وماهية كذلك (١) لا يقتضي اختصاص تلك الماهية به ، وحصرها عليه.

نعم (٢) ؛ لو قامت قرينة على أن اللام للاستغراق ، أو أن مدخوله أخذ بنحو الإرسال والإطلاق ، أو على أن الحمل عليه كان ذاتيا لأفيد حصر مدخوله على محموله ، واختصاصه به.

______________________________________________________

(١) أي : حملا متعارفا ، كقولك : «الإنسان زيد» لا يقتضي انحصار تلك الماهية في ذلك الشيء ؛ فإن مجرد حمل شيء على ماهية لا يوجب انحصار تلك الماهية في ذلك الشيء ؛ بعد ما عرفت من كون الأصل في الحمل هو : الشائع الذي لا يفيد الحصر ، لا الحمل الذاتي الذي ملاكه الاتحاد المفهومي المفيد للحصر.

والحاصل : إنه لا سبيل إلى استفادة الحصر لا من نفس اللام ؛ لما مرّ آنفا من : أن الأصل فيه الجنس ، وهو لا يفيد الحصر إلا مع القرينة.

ولا من الحمل ؛ لما مر أيضا من : أن الأصل فيه هو : الشائع الذي لا يفيد الحصر ، كما في «منتهى الدراية ج ٣ ، ص ٤٤١ ـ ٤٤٢» مع تصرّف ما.

(٢) استدراك على قوله : «والتحقيق إنه لا يفيده».

وحاصل الاستدراك : أن تعريف المسند إليه باللام إنّما يفيد الحصر في موارد.

١ ـ أن تقوم قرينة على كون اللام للاستغراق ، فيكون مفاد قولنا : «الإنسان زيد» بمنزلة أن يقال : كل فرد من أفراد الإنسان زيد ، فليس للإنسان فرد غير زيد.

٢ ـ أن تقوم قرينة على كون مدخول اللام هي الطبيعة المرسلة لا المهملة ، فلا يكون للإنسان ـ في المثال المذكور ـ وجود غير وجود زيد.

٣ ـ أن تقوم قرينة على كون الحمل ذاتيا ، فيدل المسند إليه المعرف بلام التعريف على الحصر.

وكيف كان ؛ فالمسند إليه المعرف باللام لا يدل بنفسه على الحصر ، ومع القرينة ، وإن كان يدل على الحصر إلّا إنه خارج عن محل النزاع.

فالمتحصّل : أن مجرد تعريف المسند إليه باللام لا يفيد حصر أفراده في المسند ؛ بل يتوقف ذلك على القرينة ؛ بأن تقوم القرينة على أن اللام للاستغراق كما في «الحمد لله» ، أو اقتضت قرينة الحكمة كون الطبيعة مأخوذة بنحو الإرسال ، أو قامت القرينة على أن الحمل ذاتي نحو : «الإنسان حيوان ناطق».

٢٤٧

وقد انقدح بذلك (١) : الخلل في كثير من كلمات الأعلام في المقام ، وما وقع منهم من النقض والإبرام ولا نطيل بذكرها. فإنه بلا طائل كما يظهر للمتأمل. فتأمّل جيدا.

______________________________________________________

(١) أي : وقد ظهر ـ بما ذكر من عدم دلالة اللام ، ولا الحمل على الحصر لكون الأصل في الأول : أن يكون لتعريف الجنس ، وفي الثاني : أن يكون شائعا ـ «الخلل في كثير من كلمات الأعلام» ، حيث أنهم أطالوا الكلام في ذلك بالنقض والإبرام. ومن يريد الوقوف على ذلك فعليه الرجوع إلى التقريرات ، والفصول ، والقوانين ، وغيرها من المطولات.

٢٤٨

فصل

لا دلالة للقب (١) ولا للعدد على المفهوم ، وانتفاء سنخ الحكم عن غير موردهما

______________________________________________________

في مفهوم اللقب والعدد

(١) وقبل الخوض في البحث لا بد من تحرير محل النزاع ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين اللقب المصطلح أي : العلم المتضمن للمدح كالجواد ، أو الذم كعبد البطن. وبين اللقب في باب المفهوم.

وحاصل الفرق بينهما : أن المراد باللقب المصطلح هو : العلم المشعر بالمدح أو الذم ، في مقابل الكنية وهي العلم المصدّر بأب أو أم كأبي الحسن وأمّ كلثوم ، أو في مقابل العلم المحض كأحمد ومحمود ، وأما المراد باللقب في باب المفهوم فهو : مطلق ما يقابل الوصف أي : ما لا يكون وصفا ، سواء كان فاعلا أو مفعولا أو حالا ، وسواء كان اسم جنس : كالرجل والمرأة ، أو كان علما لشخص : كمحمد وعلي ، أو كنية : كأبي ذر وابن عمير ، أو كان لقبا مصطلحا : كالفاضل والجواد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو اللقب في مقابل الوصف ، وهو الأعم من اللقب المصطلح.

وحاصل الكلام في المقام : أنه لا مفهوم للقب ، فقولنا : «أكرم زيدا» لا يدل على انتفاء سنخ وجوب الإكرام من غيره ؛ لأن الحكم الثابت له شخصي ، وانتفاؤه بانتفاء اللقب عقلي ، وقد عرفت : أن المناط في المفهوم : أن يكون المنفي في جانب المفهوم سنخ الحكم لا شخصه.

وكذا العدد ليس له مفهوم ، فإذا أمر المولى بصوم ثلاثين يوما فقضية التحديد والتقييد بالعدد المعيّن منطوقا هو : عدم جواز الاقتصار في مقام الامتثال على ما دونه كالعشرين في المثال المذكور ؛ لأن العشرة الباقية مأمور بها ، فلا يجوز تركها ، لكنه بالدلالة المنطوقية لا بالدلالة المفهومية ، فلو اقتصر المكلف على ما دون العدد المذكور لما امتثل الأمر ؛ إذ ما دونه ليس بذلك العدد الخاص. هذا بالنسبة إلى النقيصة.

وأما الزيادة : فكالنقيصة إذا كان التحديد والتقييد بالعدد الخاص بالإضافة إلى كلا

٢٤٩

أصلا ، وقد عرفت : أن انتفاء شخصه ليس بمفهوم ، كما إن قضية التقييد بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه ؛ لأنه ليس بذاك الخاص والمقيّد ، وأما الزيادة : فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد بالإضافة إلى كلا طرفيه.

نعم (١) ؛ لو كان لمجرّد التحديد بالنظر إلى طرفه الأقل لما كان في الزيادة ضير أصلا ، بل ربما كان فيها (٢) فضيلة وزيادة ، كما لا يخفى ، وكيف كان (٣) ؛ فليس عدم

______________________________________________________

الطرفين نحو قول الطبيب للمريض : «اشرب من هذا الدواء ست حبات في كل يوم» يكون للتحديد من كلا الطرفين ، بحيث لا ينفع الأقل منه ويضر الأكثر.

وكيف كان ؛ فإذا كان العدد في مقام التحديد بالنسبة إلى كلا طرفي الزيادة والنقيصة كانت الزيادة كالنقيصة قادحة ؛ لعدم كونها مأمورا بها.

والاحتمالات في التحديد والتقييد بالعدد المعيّن هي ثلاثة :

١ ـ أن يكون ناظرا إلى طرفي الزيادة والنقيصة معا ، كتسبيح الزهراء «عليها‌السلام» ، وقد عرفت قدح كل من الزيادة والنقيصة فيه.

٢ ـ أن يكون التحديد والتقييد بالعدد المعيّن ملحوظا بالنسبة إلى الأقل فقط ؛ كالعشرة بالنسبة إلى الإقامة للمسافر ، والثلاثة في الحيض ، وغيرهما من التحديدات الناظرة إلى الطرف الأقل ، مع عدم لحاظها بشرط لا بالإضافة إلى الزيادة ؛ فلا تقدح الزيادة في هذا القسم على العدد المقرر ؛ لأنه تحديد في جانب الأقل دون الأكثر.

٣ ـ أن يكون ناظرا إلى طرف الأكثر فقط ، بحيث يكون العدد بالنسبة إلى الزيادة بشرط لا ؛ كتحديد الحيض في طرف الكثرة بالعشرة ، فلا مانع من كونه أقل منها ، كأن يكون تسعة أو ثمانية إلى أن ينتهي إلى ثلاثة أيام.

إذا عرفت هذه الاحتمالات والموارد فاعلم : أن المتبع في كل مورد من هذه الأقسام الثلاثة هو ظاهر الدليل.

(١) يعني : قدح الزيادة يختص بما إذا كان التحديد بلحاظ الزيادة أيضا كالقسم الأول ، وأما إذا كان بالنسبة إلى الطرف الأقل فقط ـ كالقسم الثاني ـ فلا ضير في الزيادة.

(٢) أي : في الزيادة فضيلة وزيادة ؛ كما إذا كانت من المستحبات النفسية كذكر الركوع والسجود.

(٣) يعني : والتحديد بالعدد الذي تضمنه الدليل ـ من أي قسم من الأقسام المذكورة كان هذا العدد ـ لا يكون عدم الاجتزاء بغيره من باب دلالة المفهوم عليه ؛ بل من جهة عدم الموافقة لما أخذ في المنطوق متعلقا للحكم. فالنتيجة هي : عدم دلالة العدد على المفهوم.

٢٥٠

الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم ، بل إنما يكون لأجل عدم الموافقة مع ما أخذ في المنطوق ، كما هو معلوم.

______________________________________________________

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان محل النزاع في الحصر بكلمة «إلا» ما إذا استعملت بمعنى الاستثناء ، لا ما إذا استعملت صفة بمعنى الغير.

ثم محل الكلام ما إذا كان مفاد الاستثناء نفي سنخ الحكم ونوعه عن المستثنى ، وكذا محل النزاع في الحكم المفهومي هو طرف المستثنى لا المستثنى منه.

وخلاصة الكلام : أنه لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه ، وعدم عمومه للمستثنى سواء كان الحكم إيجابيا نحو : «أكرم العلماء إلا فساقهم» ، أو سلبيا نحو : «لا تكرم الأمراء إلا عدولهم» ، فيدل الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه ، وثبوت نقيضه في المستثنى.

الدليل على ذلك : هو التبادر.

٢ ـ إنكار أبي حنيفة دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه ، محتجا بمثل قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا صلاة إلا بطهور» ، حيث إن منطوقه هو : انتفاء الصلاة بانتفاء الطهور ، فمفهومه ـ على القول به ـ هو : وجود الصلاة بوجود الطهور فقط ـ ولو مع فقدان جميع الأجزاء والشرائط عدا الطهور ، وهو مما لم يقل به أحد ، فيكون باطلا بالضرورة.

وقد أجاب المصنف عن استدلال أبي حنيفة بوجهين :

الأول : أن المراد من الصلاة : هي الصلاة الواجدة للأجزاء ، والشرائط ، فمعنى الحديث حينئذ : لا صلاة واجدة للأجزاء والشرائط إلا بالطهور ، فالطهور مقوّم لصدق الصلاة على الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ؛ لا أن الصلاة هي الطهور فقط حتى يقال إنه ممّا لم يقل به أحد ، فهذا الحديث لا يدل على المدّعى.

الثاني : ولو سلّم عدم دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه لكان ذلك بالقرينة ، والاستعمال مع القرينة لا يدل على المدّعى وهو الدلالة على الاختصاص بالوضع.

٣ ـ دفع الإشكال عن الاستدلال بكلمة الإخلاص على دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه.

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

أما تقريب الاستدلال بها على الاختصاص فيقال : إنه كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقبل إسلام من يقول : «لا إله إلا الله» ، ولم يكن ذلك إلا لأجل دلالة الاستثناء على الاختصاص وهو حصر الألوهية بالله تعالى ونفيها عن غيره ، ولذلك تدل كلمة الإخلاص على التوحيد.

أما تقريب الإشكال : فهي لا تدل على التوحيد سواء كان الخبر المقدر لكلمة «لا» النافية للجنس لفظ ممكن أو موجود ؛ إذ معنى التوحيد هو : امتناع إله غير الله تعالى ، فعلى الأول معناها : «لا إله بممكن إلا الله» ، ومن المعلوم : أن الإمكان لا يستلزم الوجود فعلا فضلا عن التوحيد ، وأما على الثاني : فمفادها نفي وجود غير الله تعالى ؛ ولا تدل على نفي إمكان غيره تعالى ؛ لأن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان ؛ لعدم دلالة نفي الخاص على نفي العام ، مع إن المقصود هو نفي الإمكان ، وإثبات امتناع غيره تعالى.

هذا تمام الكلام في الإشكال.

وأجاب المصنف عنه بما حاصله : بأن المراد من الإله هو : واجب الوجود ـ أي : ليس واجب الوجود إلا الله ـ وحينئذ فتقدير موجود نافع لإفادة التوحيد ؛ لأن نفي واجب الوجود مطلقا وإثباته لله تعالى يدل بالملازمة البيّنة على امتناع وجود غيره تعالى وهو معنى التوحيد ، فكلمة الإخلاص تدل على التوحيد.

٤ ـ انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى بالدلالة المفهومية لا بالمنطوق ، فقد ذهب المصنف ـ تبعا للمشهور ـ إلى أن انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى بالدلالة المفهومية بتقريب : أن أداة الاستثناء توجب تضييق دائرة موضوع سنخ الحكم المتعلّق بالمستثنى منه ، ولازم هذا التضييق هو : انتفاء سنخ الحكم عن المستثنى وهو معنى المفهوم.

نعم ؛ يمكن أن تكون دلالة الاستثناء على انتفاء الحكم في طرف المستثنى بالمنطوق ، لا بالمفهوم فيما إذا كان الدال عليه نفس أداة الاستثناء لا الجملة المشتملة عليها ، وهذا ليس ببعيد ، بل إنه متعين على ما قيل.

٥ ـ من أدوات الحصر : كلمة «إنّما» ، لتصريح أهل اللغة ، وتبادر الحصر منها ، ومن المعلوم : أن التنصيص والتبادر من علائم الحقيقة.

ودعوى : أن الإنصاف أنه لا سبيل لنا إلى تبادر الحصر من كلمة «إنّما» ؛ لعدم مرادف لها في لغة الفرس ، حتى يستكشف من كونها للحصر غير مسموعة ؛ بل مدفوعة بأن

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا : أي العرف الخاص ؛ بل هناك طريق واضح وهو الانسباق إلى أذهان أهل العرف العام ، فالحق : أنه لا قصور في دعوى التبادر.

٦ ـ من أدوات الحصر : كلمة «بل» الإضرابية إذا كان الإضراب للردع ، وإبطال ما أثبت أوّلا ؛ كأن يقال : «تقليد الأعلم أحوط ؛ بل واجب» ، وهذا القسم من الإضراب يدل على الحصر ؛ لدلالته على نفي الحكم عن المضرب عنه وإثبات حكم آخر له مع الانحصار ، وأما الإضراب لأجل إصلاح ما أتى به غفلة ، أو لأجل التأكيد فلا يدل على الحصر.

٧ ـ وممّا يدل على الحصر : تعريف المسند إليه بلام التعريف مثل : «الأمير زيد» ، فيدل على انحصار الإمارة في زيد ، وعلى نفيها عن غيره.

والتحقيق عند المصنف : أن مجرّد تعريف المسند إليه باللام لا يفيد الاختصاص والحصر ، لعدم ثبوت وضع له ، فلا بد من دلالته على الحصر من قيام قرينة خاصة عليه.

وخلاصة الكلام : أن الحصر إمّا من ناحية اللام ، وإمّا من ناحية الحمل وشيء منهما لا يفيد الحصر ؛ لأن الأصل في اللام أن يكون لتعريف الجنس ، والجنس بنفسه لا يفيد الحصر إلّا إن يقوم دليل على كونه بنحو الإطلاق.

وأما الحمل : فالأصل فيه : أن يكون شائعا لا ذاتيا ، فلا يقتضي الحصر ، والمقتضي له هو الحمل الذاتي.

نعم ؛ المسند إليه المعرف يفيد الحصر مع القرينة ؛ بأن تقوم القرينة على كون اللام للاستغراق ، أو على أن مدخول اللام هي الطبيعة المرسلة لا المهملة ، أو على كون الحمل ذاتيا ، إلّا إن مورد القرينة خارج عن محل النزاع.

٨ ـ لا مفهوم للّقب ولا للعدد :

المراد باللقب : ما يقابل الوصف : أي ما ليس بوصف سواء كان اسم جنس أو علما أو لقبا مصطلحا ، فزيد في : «أكرم زيدا» لقب لا يدل على المفهوم وهو انتفاء سنخ وجوب الإكرام عن غيره ، بل انتفاء الحكم عند انتفاء زيد عقلي من قبيل انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه.

وكذلك لا مفهوم للعدد ، مثلا : إذا أمر المولى بصوم ستين يوما ، واكتفى المكلف بصوم عشرين يوما لم يحصل الامتثال ـ لعدم الاتيان بالمأمور به ـ لأن الأقل ليس بذاك

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

العدد الخاص ، وعدم جواز الاجتزاء بالأقل إنما هو بالمنطوق لا بالمفهوم هذا في النقيصة ، وأما الزيادة : فكالنقيصة إذا كان التحديد بالعدد الخاص بالنسبة إلى كلا الطرفين.

نعم ؛ لو كان التحديد بالعدد الخاص بالنسبة إلى الأقل فقط فلا ضير في الزيادة. بل فيها فضيلة إذا كانت من المستحبات كزيادة الذكر في الركوع والسجود.

٩ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» حسب ما يلي :

١ ـ دلالة الاستثناء على المفهوم.

٢ ـ محل الحكم المفهومي هو المستثنى.

٣ ـ دلالة «إنّما» على المفهوم بالحصر.

٤ ـ دلالة «بل» الإضرابية على المفهوم إذا كان الإضراب للردع.

٥ ـ عدم دلالة المسند إليه المعرّف باللام على المفهوم بالحصر.

٦ ـ عدم دلالة اللقب على المفهوم.

٧ ـ عدم دلالة العدد على المفهوم.

٢٥٤

المقصد الرابع

في العام والخاص

٢٥٥
٢٥٦

فصل (١)

قد عرّف العام بتعاريف ، وقد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام ، فإنها تعاريف لفظية ، تقع في جواب السؤال عنه ب (ما) الشارحية ، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب (ما) الحقيقية.

______________________________________________________

(١) وعمدة البحث في هذا الفصل هو بيان أمور :

الأول : بيان ما هو المسمى لهذين الاسمين أعني : العام والخاص.

الثاني : بيان أن التعاريف الواقعة للعام في كلمات القوم هل هي حقيقية أو لفظية؟

الثالث : بيان تقسيم العام إلى الاستغراقي ، والمجموعي والبدلي ، والفرق بين تلك الأقسام.

وخلاصة الكلام في الأمر الأول : أن الظاهر : كون العام والخاص ـ في اصطلاحهم ـ اسمين للّفظ دون المعنى وإن كان أصل التسمية باعتبار عموم المعنى وخصوصه ، كما تشهد بذلك تعريفاتهم لهما.

فنذكر بعض التعريفات التي هي ظاهرة في كونهما اسمين للفظ دون المعنى منها : ما عن الغزالي ـ في تعريف العام ـ من : «أنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا» (١).

ومنها : ما عن أبي الحسن البصري من : «أنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له».

ومنها : ما عن المحقق في المعارج من «أنه اللفظ الدال على اثنين فصاعدا من غير حصر (٢)».

ومنها : ما عن العلامة في النهاية من : «أنه اللفظ الواحد المتبادل بالفعل لما هو صالح له بالقوة ، مع تعدد موارده» (٣).

ومنها : ما عن الشيخ البهائي من : «أنه اللفظ الموضوع لاستغراق أجزاء معناه ، أو

__________________

(١) المستصفى من علم الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٧ ، ٢٣٧.

(٢) معارج الأصول ، ص ٣٠٩.

(٣) زبدة الأصول ، ص ٣٠٩ ، عن نهاية الوصول.

٢٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لاستغراق جزئيات معناه» ، والأول : نحو : «قرأت القرآن كله لا نصفه ولا ثلثه» ، والثاني :

نحو «جاء القوم كلهم» أي : جاء جميع أفرادهم.

وكيف كان ؛ فالظاهر من هذه التعاريف : أن المراد بالعام هو اللفظ الموضوع لاستغراق أجزاء معناه ، أو لاستغراق جزئياته (١).

وأما الأمر الثاني : فتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : بيان الفرق بين التعاريف الحقيقية والتعاريف اللفظية ، والفرق بينهما من جهات :

الأولى : أن التعاريف اللفظية هي : عبارة عن تبديل لفظ بلفظ أعرف عند السؤال عن الشيء ب «ما» الشارحية ، مثلا : إذا سمعنا لفظ «السعدانة» نسأل عن معناه ب «ما» الشارحية ، فيجاب : هي نبت.

وأما التعاريف الحقيقية فهي عبارة عن بيان حقيقة المعرّف ـ بالفتح ـ عند السؤال عنها ب «ما» الحقيقية ، كقول السائل : «ما هو الإنسان» فيجاب «حيوان ناطق».

الثانية : يعتبر في التعاريف الحقيقية : أن يكون المعرّف ـ بالكسر ـ مساويا للمعرّف ـ بالفتح ـ من حيث النسبة ، وأجلى منه من حيث الظهور والخفاء ، فلا يصح التعريف بما هو الأعم أو أخفى من المعرف ـ بالفتح ـ كما في علم الميزان. ولا يعتبر ذلك في التعاريف اللفظية.

الثالثة : يعتبر في التعاريف الحقيقية أن يكون التعريف جامعا ومانعا ، وقد يعبّر عن الجامع بالانعكاس ، وعن المانع بالاطراد.

توضيح ذلك : أنه إذا كان الحد مساويا للمحدود نحو : «الإنسان حيوان ناطق» ، فينحل قولنا : «حيوان ناطق» إلى قضيتين موجبتين كليتين تسمى إحداهما أصلا والأخرى عكسا بالمعنى اللغوي كقولنا : «كل إنسان حيوان ناطق ، وكل حيوان ناطق إنسان» ، فيكون التعريف جامعا لشموله جميع أفراد المعرّف ـ بالفتح ـ ومانعا لمنعه عن غير أفراد المعرف كالفرس والبقر وغيرهما من أنواع الحيوان.

وأما إذا لم تصدق القضية الأولى ـ وهي الأصل ـ فلا يكون التعريف جامعا ، كقولنا : «الإنسان كاتب بالفعل» ، فلا يصدق «كل إنسان كاتب بالفعل» ، إذ ليس كل إنسان كاتبا بالفعل ، فليس التعريف جامعا لعدم شموله جميع أفراد المعرّف وهو الإنسان.

وأما إذا لم تصدق القضية الثانية ـ وهي العكس ـ فلا يكون التعريف مانعا ، كقولنا :

__________________

(١) زبدة الأصول ، ص ٣٠٩.

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

«الإنسان حيوان» ، فلا يصدق كل حيوان إنسان ؛ إذ ليس كل حيوان إنسانا ، فليس التعريف مانعا ؛ لعدم منعه عن دخول غير الإنسان في تعريف الإنسان كالفرس والبقر وغيرهما.

ومن هنا ظهر : وجه تسمية عدم مانعية الأغيار بعدم الاطراد ، وتسمية عدم جامعية الأفراد بعدم الانعكاس.

إذا عرفت الفرق بين التعاريف الحقيقية والتعاريف اللفظية فنقول : إنه قد وقع من الأعلام في التعاريف المذكورة النقض بعدم الاطراد أعني : عدم مانعية الأغيار تارة ، وبعدم الانعكاس أعني : عدم جامعية الأفراد أخرى ، ولازم هذا النقض : كون هذه التعاريف حقيقية ، لما عرفت : من عدم اعتبار الاطراد والانعكاس في التعاريف اللفظية.

وأما النقض بعدم الاطراد : فلدخول أسماء العدد والمثنى والجمع في تعريف العام «بأنه اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له» ، لأن أسماء العدد كلفظ العشرة قد وضع لمفهوم يصلح لاستغراق جزئياته نحو : «أكرم عشرة رجال» ، ودخول المثنى والجمع نحو : «أطعم مؤمنين» بصيغة التثنية ، أو «أطعم مؤمنين» بصيغة الجمع ؛ لأن لفظ المثنى والجمع قد وضعا لمفهوم يصح انطباقه على جميع ما يصلح له فيقال : هذان من المؤمنين ، وهؤلاء من المؤمنين.

ولدخول المشترك في التعريف المذكور كلفظ العين ؛ لأنه يشمل جميع ما يصلح له أعني : جميع أفراد واحد من معانيه.

هذا تمام الكلام في النقض بعدم الاطراد.

وأما النقض بعدم الانعكاس : فلخروج الجمع المعرّف باللام نحو : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)(١) عن تعريف العام ؛ لأنه لا يشمل جميع ما يصلح له ؛ إذ لفظ الرجال جمع ، والجمع لا يصلح للمفرد ، فلا يشمل رجلا رجلا ، بل يشمل رجالا رجالا. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «وقد عرّف العام بتعاريف ، وقد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة ، والانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام».

وجه عدم لياقته بالمقام : أن العام من موضوعات مسائل علم الأصول لا نفس مسائله ، فتعريفه يكون من المبادئ التصورية لعلم الأصول ، وحيث كان تعريف العام من المبادئ التصورية : فالنقض والإبرام لا يناسب الأصولي.

__________________

(١) النساء : ٣٤.

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فالنقض بعدم الاطراد والانعكاس كاشف عن كون هذه التعاريف حقيقية لا لفظية ؛ إذا لا يرد النقض المذكور على فرض كونها لفظية ، ولذا أجاب المصنف عن الإشكال بقوله : «فإنها تعاريف لفظية».

وحاصل ما أفاده المصنف في المقام : أن النقض بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى إنما يتم فيما إذا كانت التعاريف المذكورة حقيقية ، لكنها لفظية لا يراد بها إلا تعريف الشيء في الجملة ؛ كتعريف «سعدانة» ب «أنها نبت» ، وعليه : فلا مجال للإشكال على تلك التعاريف بعدم الاطراد والانعكاس أصلا ؛ لعدم كونها تعاريف حقيقية. هذا تمام الكلام في الأمر الثاني. بقي الكلام في الأمر الثالث وهو أقسام العام.

وينقسم العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي.

وحاصل ما أفاده المصنف في المقام هو : أن انقسام العام إلى الأقسام الثلاثة إنما هو بلحاظ تعلق الحكم لا بلحاظ نفس العام ، فيكون نظير الوصف باعتبار المتعلق ، فالعموم في جميعها بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح لأن ينطبق عليه ، ومن المعلوم : أن هذا المعنى موجود في جميع الأقسام بوزان واحد ، من دون تفاوت في نفسه ، نعم يتفاوت باعتبار الحكم المتعلق به بمعنى : أنه قد يلحظ كل فرد فرد موضوعا مستقلا للحكم ، وقد يلحظ مجموع الأفراد من حيث المجموع موضوعا للحكم ، وقد يلحظ فرد من الأفراد على سبيل البدل موضوعا للحكم.

فالأول : هو العام الاستغراقي ، والثاني : هو المجموعي ، والثالث : هو البدلي ، فهناك لحاظ واحد تشترك فيه جميع الأقسام وهو لحاظ شمول المفهوم لجميع ما يصلح له. ولحاظ آخر تختلف فيه الأقسام وهو لحاظ كيفية تعلق الحكم ، ولازم القسم الأول هو : حصول الإطاعة والمعصية لو أتى ببعض الأفراد دون بعضها الآخر ، ولازم القسم الثاني : هو حصول الإطاعة بفعل الجميع ، والمعصية بترك فرد واحد. ولازم القسم الثالث : هو حصول الإطاعة بفعل واحد ، والمعصية بترك الجميع.

وهناك احتمال آخر وهو : أن يكون منشأ الأقسام الثلاثة للعام لحاظ نفس المفهوم ، فإن طبيعة الرجل مثلا يمكن أن يلاحظ في ضمن فرد أيّ فرد كان ، فيسمّى بالعام البدلي ، وقد وضع له لفظ «أيّ ومن وما» ، ويمكن أن يلاحظ في ضمن جميع أفرادها من دون اعتبار الوحدة فيها ، فيسمّى العام بالعام الاستغراقي ، وقد وضع له مثل : لفظ كل ، ويمكن

٢٦٠