دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

وإما برفع اليد عن المفهوم فيهما ، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شيء آخر في الجزاء ، بخلاف الوجه الأول فإن فيهما الدلالة على ذلك.

وإما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر ، فيكون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معا ، فإذا خفيا وجب القصر ، ولا يجب عند انتفاء خفائهما ولو خفي أحدها.

______________________________________________________

ثالث الوجوه الأربعة وحاصله : أن تكون العلة لوجوب القصر مجموع خفاء الأذان والجدران معا ، لا كل منهما بنحو الاستقلال.

توضيح ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي : أن الشرط له دخل في موضوع الحكم ، فتارة : يكون تمام الموضوع للحكم المذكور في الجزاء ، وأخرى : يكون جزء الموضوع ، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن إطلاق الشرط في كل منهما يدل على كون الشرط تمام الموضوع للحكم المذكور في الجزاء ، فخفاء الأذان موضوع تام لوجوب القصر ، وكذا خفاء الجدران ، ونرفع اليد عن هذا الإطلاق اللفظي ، ونقيّد إطلاق كل منهما بالآخر ، ونتيجة ذلك : صيرورة كل من الشرطين جزء الموضوع ، بمعنى : أن خفاء الأذان مع الجدران يوجب القصر ، ويكون مفادهما وجوب القصر بخفاء كليهما ، فكأنه قيل : «إذا خفي الأذان وتوارى عنه البيوت وجب عليه القصر» ، وعليه : يجب القصر عند تحققهما جميعا ، ولا يجب عند انتفاء أحدهما فضلا عن انتفاء كليهما ، لأن الحكم في الجزاء مترتب على كلا الشرطين ، ولا يترتب على أحدهما ، فمرجع هذا الوجه إلى رفع اليد عن ظهور كل من الشرطين في الاستقلال ، وجعل كل منهما جزء الموضوع والمجموع شرطا واحدا نافيا لدخل غيرهما في الجزاء ، ولازم ذلك : أن يكون القصر واجبا عند خفاء الأذان والجدران معا ، ولا يجوز القصر عند خفاء الأذان فقط ، أو خفاء الجدران فقط ، أو عند عدم خفاء كليهما ، فهذا الوجه عكس الوجهين الأولين في النتيجة ، حيث إن الشرط فيهما هو تمام الموضوع للحكم في الجزاء ، وفي هذا الوجه جزء الموضوع.

٤ ـ ما أشار إليه بقوله : «وإما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما» ، هذا هو رابع الوجوه الأربعة وحاصله : أن يكون الشرط هو الجامع بين الشرطين ، للقاعدة المشهورة بين الفلاسفة وهي : أن الواحد لا يصدر إلا من الواحد ، وهي مبنية على مقدمتين :

إحداهما : اعتبار الربط والسنخية بين العلة والمعلول ، كالسنخيّة بين النار والإحراق مثلا ، وإلا لصدر كل شيء من كل شيء وهو غير معقول.

وأخراهما : إن الشيء الواحد من حيث هو واحد لا يمكن أن يكون مرتبطا ومتسنخا

١٨١

وإما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما ، بأن يكون تعدد الشرط قرينة على إن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص ، بل بما هو مصداق لما يعمهما من العنوان.

______________________________________________________

بالأمور المتعددة من حيث هي متعددة ، مختلفة عنوانا وأوصافا ، وإلّا لزم اجتماع الأضداد فيه ، مثلا : الحرارة لو كانت مرتبطة بالنار والماء من حيث هما نار وماء للزم اجتماع الحر والبرد فيها ، وهو محال عقلا ، فتعدد الشرط في المقام قرينة عقلية واضحة على أن الشرط في كل من الجملتين ليس مؤثرا في الجزاء بعنوانه الخاص المعين وهو خفاء الأذان وخفاء الجدران ، وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد ـ وهو وجوب القصر ـ مرتبطا بالشيئين بما هما شيئان ، بل المؤثر فيه هو القدر الجامع بينهما ، وهو البعد الخاص عن محل السكنى ، وجعل الشارع المقدس خفاءهما علامة لذلك البعد الخاص تسهيلا على العباد ، فيكون كل منهما مصداقا لذلك.

ومرجع هذا الوجه إلى رفع اليد عن تأثير كل من الشرطين بعنوانه الخاص في الجزاء ، فيثبت الجزاء بأحدهما ، وينتفي بانتفائهما ، ويدلان على عدم دخل شيء في ثبوت الجزاء ، وهذا الوجه على عكس الوجه الأول حيث إن مرجع الوجه الأول إلى التصرف في الإطلاق العدلي ، ورفع اليد عنه مع انحفاظ خصوصية كل من الشرطين بعنوانه الخاص ، بخلاف هذا الوجه الرابع حيث يكون مرجعه إلى رفع اليد عن خصوصية كل من الشرطين ، وجعل الشرط ما يعمهما ويصدق عليهما ـ هذا تمام الكلام في الصور والاحتمالات بحسب مقام الثبوت ـ.

وأما بحسب مقام الإثبات : فقد أشار إلى استظهار ما هو مختاره فيه بقوله : «ولعل العرف يساعد على الوجه الثاني» أي : العرف يساعد الوجه الثاني وهو انتفاء المفهوم عند تعدد الشرط ، لأن الجملة الشرطية تكون ظاهرة في المفهوم لديهم إذا لم تكن هناك قرينة على الخلاف ، وذلك أن المفهوم ـ كما تقدم ـ تابع للخصوصية التي يدل عليها المنطوق ، وتلك الخصوصية لما كانت بالوضع أو بالإطلاق المتقوم بعدم البيان على خلافه.

ومن المعلوم : كون تعدد الشرط بيانا أو قرينة على المجاز ، فلا تدل القضية الشرطية مع تعدد الشرط ووحدة الجزاء على تلك الخصوصية حتى تدل على المفهوم ، فالنتيجة : أن العرف يساعد على رفع اليد عن المفهوم في كلتا القضيتين ، وعدم دلالتهما على المفهوم أصلا ، فانتفاء خفاء الأذان والجدران معا لا يدل على انتفاء سنخ الحكم ، لإمكان قيام شرط آخر لثبوت الجزاء.

وكيف كان ؛ فيساعد العرف على الوجه الثاني ، «كما أن العقل ربما يعيّن هذا الوجه» أي : الوجه الرابع وهو كون الشرط هو الجامع ، إذ الواحد كوجوب القصر لا يصدر إلا

١٨٢

ولعل العرف يساعد على الوجه الثاني ، كما أن العقل ربما يعيّن هذا الوجه ، بملاحظة : إن الأمور المتعددة بما هي مختلفة لا يمكن أن يكون كل منها مؤثرا في واحد ، فإنه لا بدّ من الربط الخاص بين العلة والمعلول ، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطا بالاثنين بما هما اثنان ، ولذلك (١) أيضا لا يصدر من الواحد إلّا الواحد ،

______________________________________________________

من الواحد وهو الجامع ، إذ لا بد من السنخية بين العلة والمعلول ، وإلا كان كل شيء علة لكل شيء ، والشيء الواحد ـ كوجوب القصر ـ لا يعقل أن يكون مسانخا لشيئين متباينين أعني : خفاء الأذان وخفاء الجدران ، بل يكون مسانخا لشيء واحد وهو الجامع ، فلا بد من رفع اليد عن خصوصية كل من الشرطين ، وجعل الشرط ما يعمهما وهو الجامع بينهما.

وقد أشار إلى تقريب حكم العقل بتعيّن هذا الوجه ، وحاصله : أن قاعدة عدم صدور الواحد إلا عن الواحد تقتضي عدم تأثير الشرطين المختلفين بما أنهما متعددان في واحد وهو الجزاء ، بل لا بد من إرجاع المتعدد إلى الواحد حتى يكون هو المؤثر ، فكل من الشرطين إنما يؤثر بلحاظ الجامع الذي هو الشرط حقيقة وينطبق عليه. والحاصل : أن هذه القاعدة تعيّن الوجه الرابع ، وتجعل الشرط المؤثر الجامع الوحداني المنطبق على كل واحد من الشرطين.

(١) أي : ولاعتبار الربط الخاص بين العلة والمعلول لا يصدر من الواحد أيضا إلا الواحد

يعني : لا يصدر من العلة الواحدة إلا معلول واحد.

فالمتحصل : أن السنخية المخصوصة بين العلة والمعلول والربط الخاص بينهما تقتضي صدور الواحد عن الواحد ، لا عن المتعدد بما هو متعدد لعدم السنخية بين الواحد والمتعدد ، كما تقتضي أن لا يصدر من الواحد إلا الواحد ، وعلى هذا فيمتنع تأثير الشرطين بما هما اثنان ، بل لا بد أن يستند الأثر الواحد إلى الواحد وهو الجامع بين الشرطين.

قوله : «فلا بد من المصير ..» إلخ متفرع على حكم العقل بعدم صدور الواحد إلا من الواحد ، وعلى قوله : «ولعل العرف يساعد على الوجه الثاني» وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣٦٤» ـ أنه ـ بعد بناء العرف على الوجه الثاني وهو رفع اليد عن المفهوم في كلتا الشرطيتين ، وجعلهما كالقضية اللقبية بالتقريب المتقدم سابقا ، وبعد بناء العقل على امتناع تأثير كل من الشرطين بعنوانه الخاص في الجزاء ـ لا بد من الجمع بين القول بعدم المفهوم للقضية الشرطية عند التعدد ، لبناء العرف على ذلك كما عرفت

١٨٣

فلا بد من المصير إلى أن الشرط في الحقيقة واحد وهو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم ، وبقاء إطلاق الشرط في كل منهما على حاله ، وإن كان بناء العرف والأذهان العامية على تعدد الشرط وتأثير كل شرط بعنوانه الخاص ، فافهم (١).

______________________________________________________

آنفا ، وبين القول بثبوت المفهوم لها ، لكون الشرط هو الجامع بين الشرطين للقاعدة العقلية وهي عدم صدور الواحد عن الاثنين ، برفع اليد عن المفهوم ، وبقاء إطلاق الشرط في كل من الشرطين على حاله ، فيقال في المثال المذكور : بوجوب القصر عند خفاء الأذان مطلقا وإن لم يخف الجدران ، وبالعكس ، فالمراد بإطلاق الشرط : كون كل من الشرطين تمام السبب لا جزؤه. انتهى هذا عين ما في «حقائق الأصول» ج ١ ، ص ٤٦١ «للسيد محسن الحكيم قدس‌سره».

ولكن ما في «حقائق الأصول» إنما يتم مع بقاء إطلاق الشرط بحيث يؤثر كل بسبب وجود الجامع في ضمنه ، حتى لا ينافي القاعدة العقلية ، ويستقيم كلام المصنف ، «فلا بد من المصير ..» إلخ ، لأن مقتضى القاعدة العقلية هو : أن الشرط في الحقيقة واحد وهو الجامع بين الشرطين ، وأن المؤثر في ترتب الجزاء هو هذا الجامع لا كل شرط بخصوصه وعنوانه الخاص.

(١) لعله إشارة إلى عدم تمامية القاعدة العقلية وهي «عدم صدور الواحد إلا من الواحد» كما ذكر في محله ، لأن تلك القاعدة العقلية لو تمت فهي مختصة بالعلل الطبيعية في التكوينيّات ، فلا تجري في الأحكام التي هي من الاعتباريات ، وعلى فرض عدم اختصاصها بالتكوينيات فهي لا تجري في المقام ، لأن المراد بالواحد في موردها ـ أصلا وعكسا ـ هو الواحد الشخصي ، والواحد في المقام هو الواحد النوعي ، إذ المفروض : كون سنخ الخفاء في المنطوق مرادا ، كما أن سنخ الوجوب مراد في ناحية الجزاء ، وعلى طبيعة الحال يصدر الواحد النوعي من المتعدد ، كما يصدر المتعدد من الواحد النوعي ، والأول : كضياء البيت فإنه يتولد من نور القمر والكهرباء والمصباح ، والثاني : كتولد نمو الإنسان والشاة والنبات من الحرارة ، سواء كانت من الشمس أو الرحم أو غيرهما ، فيصح في المقام أن يكون وجوب القصر مستندا إلى الشرطين.

والمتحصل من الجميع : أنه قد رجح المصنف الوجه الثاني بلحاظ النظر العرفي فقال : إن العرف يساعد على الوجه الثاني ، ورجح الوجه الرابع بحسب النظر الدقي العقلي ، فذهب إلى أن العقل يعيّنه لاستحالة تأثير المتعدد بما هو متعدد في واحد ، فوحدة الجزاء تكشف عن وحدة المؤثر ، وهو يقتضي أن يكون المؤثر هو الجامع بين الشرطين.

١٨٤

الأمر الثالث :

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء (١) فلا إشكال على الوجه الثالث ، وأما على سائر

______________________________________________________

في تداخل الأسباب أو المسببات وعدمه

(١) وقبل الخوض في أصل البحث ـ وتحقيق المصنف فيه ـ ينبغي تقديم أمور :

١ ـ بيان ما هو المقصود بالبحث في هذا الأمر الثالث فنقول : إن المقصود الأصلي بالبحث في هذا الأمر الثالث هو : التداخل وعدمه ، كما أن المقصود الأصلي بالبحث في الأمر الثاني هو دلالة القضية الشرطية على المفهوم ، فيقع التعارض بين منطوق كل منهما ومفهوم الأخرى ، وعدم دلالتها عليه فلا موضوع للتعارض ، فالنزاع هنا إنما هو في تداخل المنطوقين مع قطع النظر عن المفهوم.

ولو لا هذا التفاوت لكان كلا الأمرين من باب واحد وهو تعدد الشرط ووحدة الجزاء إلّا أن يقال : إن الأمر الثاني بمنزلة الصغرى ، والأمر الثالث بمنزلة الكبرى ، بمعنى : أن البحث في الأمر السابق عن أصل سببية كل من الشرطين في الجزاء ، وأن كلا منهما سبب مستقل أم لا؟ هذا بخلاف البحث في الأمر الثالث ، فإن البحث هنا في السببين المستقلين هل يتداخلان في المسبب بأن يستتبعا مسببا واحدا ـ كوضوء واحد عقيب النوم والبول ـ أم لا؟

٢ ـ إن التداخل على قسمين ، أحدهما : التداخل في الأسباب. وثانيهما : التداخل في المسببات. وأما الفرق بينهما : فلأن التداخل في الأسباب معناه عدم تأثير الشرط الثاني في الوجوب مثلا.

وتداخل المسببات بمعنى : أن الشرط الثاني قد أثر في الوجوب كالأول ، غير إنه يندك الوجوب الثاني في الوجوب الأول ، ويتأكد الأول بالثاني ، فيكون هناك وجوب مؤكد متعلق بالجزاء ، فيكتفي بإتيانه مرة واحدة ، ويمكن أن يقصد بتداخل الأسباب : أن مقتضى القاعدة في مورد تعدد الشرط هل هو تعدد الجزاء أم عدم تعدده؟ ويقصد بتداخل المسببات : أنه لو ثبت تعدد المسببات فهل مقتضى القاعدة تحقق امتثال الجميع بواحد أم لا؟ بل لا يتحقق إلا بالإتيان بالمتعلق بعدد أفراد الأسباب.

٣ ـ إن محل الكلام في التداخل أو عدمه إنما هو : فيما إذا لم يعلم من الخارج ذلك ، وإلا فهو خارج عن محل الكلام ، كما هو الحال في الوضوء والغسل حيث علم من الخارج أنه لا يجب على المكلف عند اجتماع أسبابه إلا وضوء واحد ، وكذا الحال في الغسل ، ومنشأ هذا العلم هو الروايات الدالة على ذلك في كلا البابين.

١٨٥

الوجوه فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعددا حسب تعدد الشروط ، أو يتداخل ويكتفي بإتيانه دفعة واحدة فيه أقوال ، والمشهور عدم التداخل ، وعن جماعة منهم

______________________________________________________

أما في باب الوضوء : فلأن الوارد في لسان عامة رواياته هو التعبير بالنقض مثل : «لا ينقض الوضوء إلا حدث» ، ومن الطبيعي أن صفة النقض لا تقبل التكرار والتكثر ، فالنتيجة هي : أن التداخل في باب الوضوء إنما هو في الأسباب دون المسببات.

وأما في باب الغسل : فلأن الوارد في لسان عدة من رواياته هو : إجزاء وكفاية غسل واحد من المتعدد ، كصحيحة زرارة : «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فإذا جمعت عليك حقوق الله أجزأها عنك غسل واحد». ثم قال : ولذلك «المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها».

وكيف كان ؛ فالنتيجة : أن المستفاد من هذه الروايات هو أن التداخل في باب الغسل إنما هو في المسببات لا في الأسباب.

هذا فيما إذا علم بالتداخل في الأسباب أو المسببات ، وأما إذا لم يعلم بذلك ، كما إذا أفطر الصائم في نهار شهر رمضان بالأكل أو الشرب أو الجماع مرات عديدة ، فالمرجع فيه ما تقتضيه القاعدة. وتفصيل البحث في محله.

٤ ـ يعتبر في موضوع بحث التداخل أمران :

أحدهما : قابلية الجزاء للتكرار ، فيخرج من محل النزاع ما إذا لم يكن الجزاء قابلا للتكرار كالقتل مثلا ، فإذا قال الشارع : «من زنى بمحصنة فاقتله ، ومن ارتد عن الدين فاقتله» ، إذ لا يمكن قتل من زنى بمحصنة وارتد عن الدين مرتين.

وثانيهما : سببية كل واحد من الشرطين لترتب الجزاء عليه حتى يصح البحث عن التداخل فيقال : إن تعدد السبب هل يوجب التداخل في المسبب حتى يجوز الاكتفاء ، بمسبب واحد أم لا يوجبه؟ فيجب عقيب كل سبب من مسبب.

٥ ـ الأقوال :

١ ـ عدم التداخل : وهو المشهور بين العلماء ، وعليه : فيتعدد الجزاء ويتكرر العمل.

٢ ـ التداخل : وهو المنسوب إلى جماعة منهم المحقق الخوانساري ، وعليه : فلا يتعدد الجزاء ، ويكفي الإتيان به مرة واحدة.

٣ ـ التفصيل بين اختلاف جنس الشرطين كالبول والنوم ، فيتعدد العمل واتحاد جنسهما كالبول مرتين فيتداخل. هذا هو المنسوب إلى الحلي «قدس‌سره».

٤ ـ هناك قول رابع لم يذكره المصنف وهو منسوب إلى نجل العلامة الحلي «قدس‌سره».

١٨٦

المحقق الخوانساري «رحمه‌الله» التداخل ، وعن الحلي التفصيل بين اتحاد جنس الشروط وتعدده.

والتحقيق : أنه لمّا كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه ، وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط ، كان الأخذ

______________________________________________________

أن التداخل وعدمه يتفرعان على كون العلل الشرعية من قبيل الأسباب أو من قبيل المعرفات ، فعلى الأول : لا يمكن التداخل ؛ لعدم إمكان اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد كما برهن عليه في علم الفلسفة.

وعلى الثاني : يمكن التداخل ، لأن جواز اجتماع معرفات عديدة على شيء واحد بمكان من الإمكان ، ولا يحتاج إلى إقامة البرهان.

إذا عرفت هذه الأمور فيقع الكلام فيما هو التحقيق عند المصنف حيث قال : «والتحقيق : أنه لمّا كان ظاهر الجملة الشرطية ، حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه ، أو بكشفه عن سببه» يعني : ظاهر الجملة الشرطية في كون الشرط علة وسببا للجزاء ، وهو حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسبب الشرط ، فيما إذا كان الشرط سببا حقيقيا للجزاء مثل قول الشارع : «إذا سافرت فقصر» ، أو بكشف الشرط عن سببه فيما إذا كان معرّفا ومشيرا إلى ما هو الشرط حقيقة ؛ كخفاء الأذان الذي يكون يكون أمارة على الشرط أعني به : البعد الخاص الذي هو حد الترخص.

ولا يخفى : أن الوجه الثالث من الوجوه المذكورة في الأمر الثاني خارج عن القول بالتداخل وعدمه كما أشار إليه بقوله : «فلا إشكال على الوجه الثالث» ؛ لأن الإشكال في تداخل المسبب وعدمه لا يتمشى على ثالث الوجوه ، إذ الوجه الثالث كان مبنيا على تقييد الإطلاق في كل من الشرطين ، بحيث يكون المجموع شرطا واحدا ، فلا مورد حينئذ لإشكال تداخل المسببات جوازا ومنعا ؛ لأن الشرط الواحد لا يقتضي إلا جزاء واحدا ، فنفي التداخل على هذا الوجه الثالث يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع ؛ إذ ليس في البين إلا مسبب واحد.

نعم ؛ إن الإشكال في التداخل وعدمه يتمشى على سائر الوجوه الثلاثة الأخرى ، المبنية على استقلال كل شرط في التأثير في الجزاء ، واستتباع كل شرط جزاء مستقلا ، ولازم ذلك : تعدد الجزاء بتعدد الشرط ، فيجري النزاع حينئذ في التداخل وعدمه ، أنه هل يكتفي بجزاء واحد أم لا بد من تعدده بتعدد الشرط؟ وكيف كان ؛ فيقع الكلام فيما أفاده المصنف تحت عنوان «والتحقيق».

وتوضيح ما أفاده يتوقف على مقدمة وهي : أن القضية الشرطية ظاهرة في حدوث

١٨٧

بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجودا محالا ، ضرورة : أن لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة ـ مثل الوضوء ـ بما هي واحدة في مثل : (إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ) ، أو فيما إذا بال مكررا ، أو نام كذلك ، محكوما بحكمين متماثلين ، وهو واضح الاستحالة كالمتضادين.

______________________________________________________

الجزاء عند حدوث الشرط ؛ إذ هو مقتضى علية الشرط للجزاء ، لأن أدوات الشرط وضعت لسببية الأول للثاني.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه لا بد من الالتزام بعدم التداخل ، حيث إن التداخل مستلزم لاجتماع المثلين ؛ لما عرفت في المقدمة : من علية الشرط للجزاء المستلزمة لحدوثه عند حدوث الشرط ، ومقتضى هذا الاستلزام : تعدد الجزاء بتعدد الشرط. والأخذ بهذا الظاهر محال ؛ للزوم اجتماع حكمين مثلين ـ كوجوبين ـ في موضوع واحد وهو الجزاء كالوضوء ـ في مثل : «إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ» ـ إذ المفروض : أن الوضوء حقيقة واحدة. ومن المعلوم : أن اجتماع المثلين كاجتماع الضدين محال ، ويلزم هذا المحذور على القول بالتداخل.

وأما على القول بعدم التداخل : فلا يلزم اجتماع المثلين ، ولا التصرف في ظاهر القضية الشرطية ؛ من حدوث الجزاء بحدوث الشرط بأن يقال : إن المسبب في كل واحد من الشرطين هو وجود من الطبيعة مغاير لوجودها في الشرط الآخر.

وأما على القول بالتداخل : فيلزم المحذور المذكور ، وحينئذ : فلا بد من التصرف في ظاهر القضية الشرطية ، إذ لا يمكن التفصي عن محذور اجتماع المثلين إلا بالتصرف بأحد وجوه ثلاثة :

١ ـ ما أشار إليه بقوله : «إما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث» ، ومرجع هذا الوجه إلى التصرف في ظهور الشرط في كونه علة لحدوث الجزاء برفع اليد عن ظهوره في ذلك ، وإرادة ثبوت الجزاء عند ثبوته ، والثبوت أعم من الحدوث والبقاء ، ففي صورة تقارن الشرطين زمانا يستند ثبوت الجزاء إلى الجامع بينهما ، وفي صورة ترتبهما وتقدم أحدهما على الآخر زمانا يستند ثبوت الجزاء إلى المتقدم منهما ، فقوله : «إذا نمت فتوضأ» يدل على ثبوت وجوب الوضوء عند ثبوت النوم ، فإن لم يسبقه البول مثلا استند حدوث الجزاء إلى النوم ، وإن سبقه استند إليه ، وإن قارنه استند إلى الجامع بينهما. فمعنى العبارة : إما بالالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطية في حال تعدد الشرط على كون وجود الجزاء ناشئا من قبل الشرط مستقلا.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول ـ أما الوجه الثاني من وجوه التصرف ـ فقد أشار إليه

١٨٨

فلا بد على القول بالتداخل من التصرف فيه : إما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند الحدوث ، بل على مجرد الثبوت ، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان واحدا صورة ، إلا أنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط متصادقة على واحد ، فالذمة وإن اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشروط ، إلا إن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعا لها ، كما في (أكرم هاشميا ، وأضف عالما) ، فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة ، ضرورة : أنه بضيافته بداعي الأمرين يصدق أنه امتثلهما ،

______________________________________________________

بقوله : «أو بالالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان واحدا صورة ...» إلخ ؛ لأن الجزاء في كلتا الجملتين هو قوله : «فتوضأ» «إلا إنه حقائق متعددة حسب تعدد الشروط» حقيقة ، كأن نام وبال ، أو وجودا ، كأن نام مرتين أو بال كذلك ، «متصادقة على» جزاء «واحد» ؛ بأن بال ونام مرارا ثم توضأ وضوء واحدا ، فهذا الوضوء وإن كان شيئا واحدا صورة إلا إنه حقائق متعددة حسب تعدد الشرط ، مثلا : إن وجد الشرط مرتين كان هذا الوضوء حقيقتين ، وإن وجد الشرط ثلاث مرات كان الوضوء حقائق متعددة ، وهكذا ، «فالذمة» حين تعدد الشرط «وإن اشتغلت بتكاليف متعددة حسب تعدد الشرط إلا إن الاجتزاء بواحد لكونه مجمعا لها» أي : للتكاليف المتعددة. فقوله : «لكونه» تعليل للاجتزاء بواحد ، يعني : لكون الواحد مجمعا للتكاليف المتعددة ، فالاكتفاء بوضوء واحد في المثال المذكور إنما هو لتصادق الوضوءات العديدة الواجبة بموجبات مختلفة عليه ، وصدق الامتثال بالنسبة إلى الجميع.

قوله : «ضرورة» تعليل للاجتزاء بالواحد الذي هو المجمع.

وحاصل التعليل : أن الإتيان بالمجمع بداعي الأمرين يوجب صدق امتثال الأمرين الموجب لسقوطهما.

وكيف كان ؛ فمرجع هذا الوجه الثاني ـ من وجوه التصرف ـ إلى إبقاء الشرط على ظاهره من كونه علة لحدوث الجزاء ، وإلغاء ظهور الجزاء في كونه بعنوانه موضوعا للحكم ، فيقال : إن الوضوء مثلا الذي وجب تارة : بالنوم ، وأخرى : بالبول وثالثة : بمس الميت مثلا ليس حقيقة واحدة ، بل هو حقائق متعددة حسب تعدد الشرط ، حيث إن ظاهر كل شرط عليته لحدوث تكليف غير التكليف المسبب عن شرط آخر ، فيكون الوضوء كالغسل من حيث وحدته صورة وتعدده حقيقة ، لكنه مع كونه حقائق متعددة يصدق على واحد ، كوجوب إكرام هاشمي ، وضيافة عالم ، فإن الذمة وإن اشتغلت بتكليفين ـ وهما وجوب إكرام الهاشمي ووجوب إضافة العالم ـ إلا إنه إذا أضاف عالما هاشميا ، فقد برئت ذمته من كليهما ؛ لأنه يصدق حينئذ امتثالهما معا.

١٨٩

ولا محالة يسقط الأمر بامتثاله وموافقته ، وإن كان له امتثال كل منهما على حدة ، كما إذا أكرم الهاشمي بغير الضيافة ، وأضاف العالم الغير الهاشمي.

إن قلت (١) : كيف يمكن ذلك ـ أي : الامتثال بما تصادق عليه العنوانان ـ مع استلزامه (٢) محذور اجتماع الحكمين المتماثلين فيه؟

قلت (٣) : انطباق عنوانين واجبين على واحد لا يستلزم اتصافه بوجوبين ، بل غايته أن انطباقهما عليه يكون منشأ لاتصافه بالوجوب وانتزاع صفته له ، مع إنه ـ على

______________________________________________________

(١) وحاصل الإشكال : أنه لا يندفع محذور اجتماع المثلين فيما إذا تصادق على المصداق الخارجي طبيعتان كصدق طبيعة الإكرام وطبيعة الضيافة على الإكرام بالضيافة ؛ إذ يلزم اجتماع وجوبين في الضيافة الخارجية التي هي مصداق للطبيعتين المزبورتين ، فيجتمع فيها وجوبان متماثلان ، فجعل الجزاء حقائق عديدة لا يجدي في دفع إشكال اجتماع المثلين في المصداق الخارجي. والضمير في قوله : «فيه» يعود إلى ما الموصولة أعني : ما في قوله : «بما تصادق عليه».

(٢) أي : مع استلزام الامتثال بما تصادق عليه العنوانان محذور اجتماع المثلين ، حيث يلزم أن يكون ضيافة العالم الهاشمي واجبا بوجوبين وهو مستحيل.

(٣) هذا دفع للإشكال المذكور وحاصله : أن انطباق عنوانين واجبين على شيء واحد لا يوجب اتصافه بوجوبين ؛ إذ العقل لا يجوّز اجتماع المثلين في محل واحد لاستحالته عقلا. فلا بد من كون هذا المصداق محكوما بوجوب واحد مؤكد ؛ لكون منشأ انتزاعه شيئين وهما وجوب الإكرام ووجوب الضيافة ، ولا يتصف بالوجوبين للمحذور العقلي وهو لزوم اجتماع المثلين في محل واحد ، هذا مضافا إلى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذي عنوانين ، فلا مانع من اتصاف ضيافة العالم الهاشمي بالوجوبين لتعدد العنوان فيها وهما العالمية والهاشمية.

وبعبارة أخرى : أنه لا محذور في اجتماع وجوبين في شيء واحد إذا كان فردا لعنوانين ؛ لأن تعدد العنوان يكفي في رفع محذور اجتماع المثلين ، فلا يلزم اجتماع المثلين في محل واحد على القول بجواز الاجتماع ، وهذا الجواب الثاني ، ما أشار إليه بقوله : «مع إنه على القول بجواز الاجتماع» .. إلخ.

وكيف كان ؛ فالجواب الأول ناظر إلى عدم لزوم اجتماع المثلين بمجرد انطباق عنوانين.

والثاني : ناظر إلى عدم لزوم محذور في الاجتماع إذا كان بعنوانين.

١٩٠

القول بجواز الاجتماع ـ لا محذور في اتصافه بهما ، بخلاف ما إذا كان بعنوان واحد (١) ، فافهم (٢).

أو الالتزام (٣) بحدوث الأثر عند وجود كل شرط ، إلا أنه وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأول وتأكد وجوبه عند الآخر.

ولا يخفى (٤) : أنه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها ، فإنه رفع اليد عن الظاهر بلا

______________________________________________________

(١) أي : كما هو ظاهر القضيتين في المثال المتقدم ؛ لوحدة الجزاء فيهما في نحو : «إذا نمت فتوضأ ، وإذا بلت فتوضأ».

(٢) لعلة إشارة إلى لزوم اجتماع المثلين حتى على القول بجواز الاجتماع ؛ إذ جواز الاجتماع إنما يصح في متعدد العنوان لا في متحد العنوان كالمثال المذكور ، حيث إن الوضوء الواقع عقيب شرطين ليس إلا عنوانا واحدا ، فيلزم اجتماع وجوبين في فرد واحد بعنوان واحد ، وهو مستحيل حتى عند القائل بالجواز ، فالجواب الثاني لا يخلو عن الضعف ، بل عن الإشكال.

(٣) هذا ثالث الوجوه من وجوه التصرف ، ومرجعه إلى رفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في كون الشرط سببا مستقلا لوجود الجزاء ، فيكون الشرط الأول مؤثرا في وجود الجزاء في الجملة ، والشرط الثاني مؤثرا في تأكّده الذي هو مرتبة شديدة من مراتب وجوده ، فكل مرتبة من مراتب وجود الجزاء مستندة إلى أحد الشرطين ، مع المحافظة على ظهورها في كون موضوع الجزاء بعنوانه موضوعا للحكم.

فالمتحصل : أن وجوب الوضوء ـ في المثال المذكور ـ ثابت عند حدوث الشرط الأول كالنوم مثلا ، ولكن يتأكد وجوبه عند حدوث الشرط الآخر ، كالبول مثلا ، ولا يتولد وجوب آخر مثل الوجوب الأول عند حدوثه حتى يلزم اجتماع حكمين متماثلين فيه.

هذا تمام الكلام في الوجوه الثلاثة التي يمكن بها التفصي عن محذور اجتماع المثلين على القول بالتداخل.

(٤) أي : لا يخفى ورود الإشكال في الوجوه الثلاثة المذكورة بأنه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها ؛ لأنها احتمالات في مقام الثبوت ، وهي لا تجدي في دفع إشكال اجتماع المثلين ما لم يقم دليل عليها في مقام الإثبات ؛ بل هي على خلاف الدليل إثباتا لكونها خلاف ظاهر الجملة الشرطية ، فلا يصار إلى واحد منها لكونه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه يوجبه كما أشار إليه بقوله : «فإنه رفع اليد عن الظاهر بلا وجه» يعني : فإن المصير إلى واحد منها رفع اليد عن الظاهر بلا وجه.

١٩١

وجه ، مع ما في الأخيرين (١) من الاحتياج إلى إثبات أن متعلق الجزاء متعدد متصادق على واحد ، وإن كان صورة واحدا سمي باسم واحد ، كالغسل ، وإلى (٢) إثبات أن الحادث بغير الشرط الأول تأكد ما حدث بالأول ، ومجرد الاحتمال (٣) لا يجدي ، ما لم يكن في البين ما يثبته.

إن قلت (٤) : وجه ذلك هو لزوم التصرف في ظهور الجملة الشرطية لعدم إمكان

______________________________________________________

(١) أي مع ما في الوجه الثاني والثالث من الإشكال ، مضافا إلى الإشكال المشترك بينهما وبين الوجه الأول ، وحاصل الإشكال المختص بالوجهين الأخيرين اللذين يكون أحدهما : التصرف في ظاهر الجزاء بجعله حقائق متعددة بتعدد الشرط متصادقة على واحد ، وثانيهما : الالتزام بكون الأثر الحادث في الشرط الأول نفس الوجوب ، وفي الشرط الثاني : تأكده.

وملخص الإشكال المختص بهما هو : أنه لا بد في التصرف الأول منهما من إثبات كون الوضوء في قوله : «إذا نمت فتوضأ وإذا بلت فتوضأ» متعددا حقيقة ، حتى يكون الوضوء الخارجي مصداقا لطبيعتين ، وإثبات ذلك مشكل جدا ، لعدم نهوض دليل عليه.

كما أنه لا بد في التصرف الثاني منهما من إثبات دلالة الشرط الأول على حدوث أصل الوجوب ، ودلالة الشرط الثاني على تأكد الوجوب ، وإثبات ذلك أيضا في غاية الإشكال.

ومن المعلوم : أن مجرد احتمال هذين التصرفين لا يجدي في دفع محذور اجتماع المثلين ، وحيث إنه لا دليل على شيء من التصرفات المذكورة فهي ساقطة عن الاعتبار ، ولا يندفع بها غائلة اجتماع المثلين.

قوله : «كالغسل» مثال لما يكون واحدا صورة ومتعددا حقيقة ، فإن الغسل واحد صورة متعدد حقيقة ، لتغاير آثاره الكاشف عن تعدد ماهيته.

(٢) عطف على قوله : «إلى إثبات» ، والمعطوف عليه راجع إلى التصرف في متعلق الجزاء بجعله حقائق متعددة ، والمعطوف راجع إلى التصرف في ظهور الجملة الشرطية في حدوث الأثر عند وجود كل شرط ، بجعل الأثر عقيب الشرط الأول نفس الوجوب ، وعقيب الشرط الثاني تأكده ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣٧٨».

(٣) أي : مجرد احتمال التصرفات المذكورة لا يجدي في دفع اجتماع المثلين ما لم يثبتها دليل.

(٤) هذا اعتراض على قول المصنف : «أنه لا وجه لأن يصار إلى واحد منها» ، فيقال في تقريبه : إن وجه المصير إلى أحد الوجوه المتقدمة ـ على القول بالتداخل مع كونها

١٩٢

الأخذ بظهورها ، حيث إن قضيته (١) : اجتماع الحكمين في الوضوء في المثال ، كما مرت الإشارة إليه (٢).

قلت : نعم (٣) إذا لم يكن المراد بالجملة ـ فيما إذا تعدد الشرط كما في المثال ـ هو وجوب الوضوء ، مثلا بكل شرط غير ما وجب بالآخر (٤) ، ولا ضير (٥) في كون فرد محكوما بحكم فرد آخر أصلا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

خلاف الظاهر ـ هو لزوم الخروج عما هو ظاهر الشرطية من لزوم اجتماع المثلين المستحيل عقلا ، فيجب التصرف في ظهور الجملة الشرطية لئلا يلزم محذور اجتماع الوجوبين في فعل واحد ، ومن المعلوم : أن الاستحالة العقلية قرينة جلية على ارتكاب خلاف الظاهر ، فليس المصير إليه بلا وجه.

(١) أي : قضية ظهور الجملة الشرطية في اجتماع الحكمين المتماثلين في الوضوء ، وهو مستحيل.

فتجنّبا عن المحذور المذكور لا بد من الالتزام بإحدى التصرفات الثلاثة المذكورة.

(٢) أي : مرت الإشارة إليه في أوائل البحث حيث قال : «ضرورة : أن لازمه أن يكون الحقيقة الواحدة ـ مثل الوضوء ـ بما هي واحدة ... محكوما بحكمين متماثلين وهو واضح الاستحالة كالمتضادين».

(٣) هذا جواب عن لزوم التصرف في ظهور الجملة الشرطية في اجتماع الحكمين المتماثلين.

وحاصل الجواب : أن التصرف وإن كان مسلّما إلا إنه لا يتعيّن أن يكون بأحد الوجوه المذكورة ؛ بل يمكن صرف الجمل الشرطية عن ظاهرها بوجه آخر ، وهو أن يكون متعلق الحكم في الجزاء في إحدى الجمل الشرطية فردا غير الفرد المتعلق له في الأخرى ، فالوضوء الواجب في قوله : «إذا نمت فتوضأ» غير الفرد الواجب منه في قوله : «إذا بلت فتوضأ» ، فالواجب في كل شرطية فرد لا نفس الطبيعة حتى يجتمع فيها الوجوبان ، فيقال بلزوم اجتماع المثلين المستحيل عقلا ، وعلى هذا الفرض ـ أعني : تعدد الوضوء في المثال المزبور ـ لا يلزم اجتماع المثلين أصلا ، وذلك لتباين الوضوء الواجب بشرط للوضوء الواجب بشرط آخر.

وبهذا التصرف يرتفع محذور اجتماع المثلين مع المحافظة على ظهور الشرطية في الحدوث عند الحدوث ، بلا حاجة إلى ارتكاب إحدى التصرفات المذكورة.

(٤) أي : غير الوضوء الذي وجب بالشرط الآخر ، فالآخر صفة للشرط المقدر.

(٥) أي : لا ضير في كون فردين من طبيعة محكومين بالوجوب ؛ لعدم استلزام ذلك

١٩٣

إن قلت : نعم (١) ، لو لم يكن تقدير تعدد الفرد على خلاف الإطلاق.

قلت : نعم (٢) ، لو لم يكن ظهور الجملة الشرطية ـ في كون الشرط سببا أو كاشفا عن السبب (٣) ـ مقتضيا لذلك أي : لتعدد الفرد ، وبيانا لما هو المراد من الإطلاق.

وبالجملة : لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء (٤) ، وظهور الإطلاق ،

______________________________________________________

اجتماع الحكمين المتماثلين في محل واحد لتعدد متعلق الوجوب وتباينه لتباين أفراد طبيعة. كما لا يخفى.

(١) يعني : نعم يجب الحمل على تعدد الجزاء بتعدد الفرد ، حتى لا يحتاج إلى التصرفات المذكورة ، لو لم يكن فرض تعدد الفرد على خلاف إطلاق مادة الجزاء ، أما لو كان على خلاف إطلاق مادة الجزاء : فاللازم هو التحفظ على الإطلاق ، والذهاب إلى إحدى التصرفات المذكورة ، فجعل متعلق الحكم في الجزاء الفرد دون الطبيعة ليكون الوضوء الواجب بالشرط الأول مغايرا للوضوء الواجب بالشرط الثاني ، وإن كان دافعا لمحذور اجتماع المثلين إلا إنه خلاف الظاهر أيضا ، حيث إن ظاهر إطلاق مادة الجزاء أعني : قوله : «إذا بلت فتوضأ» هو وجوب مطلق الوضوء لا وجوب وضوء آخر ، فإن تقييد الوضوء الواقع في الجزاء بقيد خلاف الإطلاق ، فهذا الاحتمال كالاحتمالات السابقة مما لا يصار إليه ، لكونه خلاف الظاهر.

(٢) وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب هو : منع الإطلاق المذكور المقتضي لتعلق الحكم بطبيعة الجزاء ؛ لأن الإطلاق يتوقف على مقدمات الحكمة منها : عدم البيان ، وعدم ما يصلح للبيانية ، ومن المعلوم : كون ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء عند وجود الشرط ـ المستلزم لتعدد أفراد الجزاء عند تعدد الشرط بيانا ـ يكون مانعا عن انعقاد الإطلاق الموجب لإرادة الطبيعة في الجزاء ، فلا بد من إرادة وجودات الطبيعة لا نفسها ، ولازم ذلك تعدد الجزاء بتعدد الفرد ؛ إذ كل فرد يحدث عقيب شرط مغاير لفرد يحدث عقيب شرط آخر ، فلا يتحد الجزاء حتى يلزم اجتماع مثلين.

(٣) أي : كما إذا كان الشرط معرّفا لما هو المؤثر كخفاء الجدران على فرض كونه أمارة ، على البعد الذي هو الشرط حقيقة لوجوب القصر.

(٤) أي : المقتضي للتعدد ، بمعنى : أن كل شرط يقتضي جزاء غير الجزاء الذي يقتضيه شرط آخر ، ولازم هذا الظهور هو : تعدد الجزاء بتعدد الشرط أي : لا دوران بين ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء المقتضي لتعدده بتعدد الشرط ، وبين ظهور إطلاق مادة الجزاء كالوضوء في نفس الطبيعة المقتضي لوحدة الجزاء ، الموجبة لاجتماع المثلين على واحد.

١٩٤

ضرورة : أن ظهور الإطلاق يكون معلقا على عدم البيان ، وظهورها في ذلك صالح لأن يكون بيانا ، فلا (١) ظهور له مع ظهورها ، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرف (٢) أصلا ، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى.

فتلخص بذلك ، أن قضية ظاهر الجملة الشرطية هو القول بعدم التداخل عند تعدد الشروط.

وقد انقدح مما ذكرناه (٣) : أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التي

______________________________________________________

وجه عدم الدوران بينهما : ما تقدم من عدم الإطلاق بعدم تمامية مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان ؛ لأن ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء عند وجود الشرط صالح لأن يكون بيانا لما هو المراد من الجزاء وهو الفرد لا الطبيعة ، فلا وجه مع هذا الظهور لإرادة الطبيعة حتى يلزم اجتماع الحكمين المتماثلين في واحد. وكيف كان ؛ فلا دوران أصلا بعد ما يصلح للبيانية وتوقف الإطلاق على عدم ما يصلح للبيانية.

(١) هذا متفرع على كون ظهور الشرط مقتضيا للتعدد ، وبيانا لما أريد من إطلاق متعلق الحكم في الجزاء ، فمع هذا الظهور لا ينعقد ظهور إطلاق الجزاء في إرادة نفس الطبيعة.

(٢) فلا يلزم تصرف في ظهور الجملة الشرطية بأحد الوجوه المتقدمة أصلا ، وذلك لتعدد الجزاء بتعدد الشرط الذي يقتضيه ظاهر الشرط من حدوث الجزاء عند كل شرط ، فالحادث عند كل شرط جزاء غير الجزاء الذي يقتضيه شرط آخر.

هذا بخلاف القول بالتداخل ، حيث لا بد من التصرف في ظاهر الشرطية بأحد الوجوه المتقدمة ، لئلا يلزم اجتماع المثلين في واحد.

فتلخص بما ذكر ؛ من عدم الدليل على شيء من التصرفات المذكورة : أن مقتضى ظاهر الجملة الشرطية هو حدوث الجزاء عند كل شرط ، بحيث يكون لكل شرط جزاء مستقل ، وهذا يقتضي عدم التداخل عند تعدد الشرط.

(٣) أي من ظهور القضية الشرطية في تعدد المسبب بتعدد السبب ، فلا بد من أحد وجوه التصرفات المتقدمة على القول بالتداخل. هذا هو المجدي للقول بالتداخل ، «لا مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا مؤثرات».

وهذا من المصنف إشارة إلى ردّ ما نسب إلى الفخر وغيره من ابتناء القول بالتداخل وعدمه على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات ، فعلى القول بأنها معرفات : يلتزم بالتداخل ، وعلى القول بأنها مؤثرات : يلتزم بعدم التداخل ، فيقع الكلام تارة : في توضيح ما نسب إلى الفخر من ابتناء القول بالتداخل على المعرفية وعدمه على المؤثرية.

١٩٥

ذكرناها ، لا مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا مؤثرات ، فلا وجه لما عن الفخر وغيره ، من ابتناء المسألة على أنها معرفات أو مؤثرات ، مع إن الأسباب

______________________________________________________

وأخرى : فيما أفاده المصنف في ردّ كلام الفخر «قدس‌سره».

وأما توضيح ما نسب إلى الفخر فيتوقف على مقدمة وهي : بيان الفرق بين كون الأسباب الشرعية معرفات ، وبين كونها مؤثرات.

وخلاصة الفرق : أنه يجوز أن يكون لشيء واحد معرفات عديدة وعلامات متعددة كالإنسان مثلا ، حيث إنه قد يعرف بالحيوان الناطق ، وقد يعرف بالحيوان الضاحك ، وقد يعرف بالناطق أو الضاحك وحده. ولا يجوز أن يكون لشيء واحد مؤثرات كثيرة ، وذلك لاستحالة توارد المؤثرين المستقلين على أثر واحد كما برهن عليه في محله.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه لا بد من الالتزام بالتداخل بناء على المعرفية ؛ لإمكان أمارية أمور متعددة على مؤثر واحد وحكايتها عنه بأن يقال : إن ما جعله الشارع سببا لشيء ليس في الحقيقة مؤثرا وإنما كاشف عن مؤثر حقيقي واقعي ، مثلا : خفاء كل من الأذان والجدران وإن كان في ظاهر الدليل سببا لوجوب القصر ، ولكن في الحقيقة إنما هما معرفان عن البعد الخاص عن محل السكنى ، وكذا جعل كل من النوم والبول سببا لوجوب الوضوء في مثل : «إذا نمت فتوضأ ، وإذا بلت فتوضأ» ليس على نحو الحقيقة ، بل هما كاشفان عن السبب الحقيقي. وهكذا غيرهما من سائر الأمثلة ، فالمؤثر في الواقع يكون واحدا ، وكان كل من النوم والبول من علامات ذلك المؤثر ، ومع احتمال وحدة المؤثر واقعا لا وجه للحكم بتعدد المسبب هذا هو معنى التداخل.

وأما بناء على المؤثرية : فلا بد من الالتزام بعدم التداخل ؛ لاقتضاء كل مؤثر أثرا مستقلا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما نسب إلى الفخر ؛ من ابتناء القول بالتداخل وعدمه على المعرفية والمؤثرية.

وأما ما أفاده المصنف في ردّ كلام الفخر فحاصله : أن كلام الفخر مخدوش بوجهين ، الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «وقد انقدح مما ذكرناه : أن المجدي للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التي ذكرناها». والوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «مع إن الأسباب الشرعية حالها حال غيرها».

وخلاصة الكلام في الوجه الأول : أن مجرد معرفية الأسباب الشرعية لا تقتضي المصير إلى التداخل ؛ لإمكان معرفية الأسباب الشرعية المتعددة لأسباب حقيقية متعددة ، ويكفي في إرادة احتمال تعدد السبب الحقيقي من الأسباب الشرعية المتعددة : ظهور

١٩٦

الشرعية حالها حال غيرها في كونها معرفات تارة ، ومؤثرات أخرى ، ضرورة (١) : أن

______________________________________________________

الشرطية في تعدد المسبب بتعدد السبب ، فإن هذا الظهور يدل على تعدد السبب الحقيقي.

فالنتيجة : أن مجرد كون الأسباب الشرعية معرفات لا يوجب القول بالتداخل ؛ إذ تعدد الكاشف مستلزم لتعدد المنكشف ، فإذا كشف النوم عن ظلمة باطنية ـ وهي موجبة للوضوء ـ كشف البول عن ظلمة باطنية أخرى وهي أيضا موجبة له ، فتعدد الظلمات يقتضي تعدد المسبب. أعني : وجوب الوضوء ، فلا مجال للتداخل. والمراد بقوله : «المسألة» هو مسألة التداخل. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني : فحاصله : أنه لا فرق بين السبب الشرعي والعرفي ، فإنهما قد يكونان كاشفين كما في قوله : «إن لبس الأمير أصفر فاحذره وإذا أذن المؤذن فصلّ» ، وقد يكونان مؤثرين كما في قوله : «إن غضب الأمير فاحذره ، وإن كثر الماء لا ينفعل بالملاقاة» ، وإن كان ظاهر التعليق في كليهما المؤثرية.

وكيف كان ؛ فمرجع هذا الوجه الثاني إلى ضعف المبنى وهو كون الأسباب الشرعية مطلقا معرفات لا غير.

وجه الضعف : أنه لا دليل على كون الأسباب الشرعية معرفات ، وأنه لا أصل لما اشتهر : من أن الأسباب الشرعية معرفات ، بل هي على نوعين كما عرفت كالأسباب الغير الشرعية ، فالسبب الشرعي المؤثر كالاستطاعة الموجبة للحج ، والمعرف كخفاء الأذان الذي هو معرّف لما هو المؤثر في وجوب القصر ، وهو البعد الخاص. والسبب الغير الشرعي المؤثر كطلوع الشمس المؤثر في ضوء العالم ، والمعرف كضوء العالم الذي هو المعرف لطلوع الشمس.

كما أشار إليه بقوله : «في كونها معرفات تارة ، ومؤثرات أخرى».

(١) تعليل لكون الأسباب الشرعية كغيرها في كونها معرفات تارة ، ومؤثرات أخرى وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣٨٤» ـ أنه قد يكون شرط الحكم الشرعي مؤثرا في ترتب الحكم عليه ؛ بحيث لولاه لما وجدت للحكم علة ، كقوله : «إذا شككت فابن على الأكثر» ، وقد يكون أمارة على ما هو المؤثر في الحكم ، كخفاء الجدران الذي هو أمارة على التجاوز عن حد الترخص الذي يترتب عليه وجوب القصر. كما أنه قد يكون شرط الحكم غير الشرعي مؤثرا ؛ كطلوع الشمس بالنسبة إلى وجود النهار ، وقد يكون أمارة على ما هو المؤثر ؛ كضوء العالم الذي هو أمارة طلوع الشمس ، الذي هو المؤثر في وجود النهار.

١٩٧

الشرط للحكم الشرعي في الجمل الشرطية ، ربما يكون مما له دخل في ترتب الحكم ، بحيث لولاه لما وجدت له علة ، كما أنه في الحكم الغير الشرعي قد يكون أمارة على حدوثه بسببه ، وإن كان ظاهر التعليق أن له الدخل فيهما ، كما لا يخفى.

نعم (١) ؛ لو كان المراد بالمعرفية في الأسباب الشرعية إنها ليست بدواعي الأحكام التي هي في الحقيقة علل لها (٢) ، وإن كان لها دخل في تحقق موضوعاتها ، بخلاف الأسباب الغير الشرعية ، فهو وإن كان له وجه إلا إنه مما لا يكاد يتوهم أنه يجدي فيما همّ وأراد.

______________________________________________________

والحاصل : أن الشرط الشرعي كغيره قد يكون مؤثرا ، وقد يكون أمارة ، فجعل الأسباب الشرعية معرفات دائما مما لا وجه له.

والضمائر في «لولاه» «أنه» «له» ترجع إلى الشرط ، وفي قوله : «فيهما» يرجع إلى الحكم الشرعي وغيره. كما أن الضمير في «حدوثه» يرجع إلى الحكم الغير الشرعي.

(١) استدراك على الإشكال الثاني الذي أفاده بقوله : «مع إن الأسباب الشرعية حالها حال غيرها».

وحاصل الاستدراك : أن المعرف في الأسباب الشرعية إن أريد به ما لا يكون ملاكا للحكم ـ أعني به : المصالح والمفاسد التي هي من الخواص الثابتة في الأشياء ـ فالمعرف حينئذ يكون نفس موضوع الحكم ، أو مما هو دخيل في قوامه كأجزائه وشرائطه ، لا خارجا عنه وأمارة عليه. فإن كان المراد بالمعرف هذا المعنى : فلا مانع من دعوى الإيجاب الكلي وهو كون الأسباب الشرعية طرّا معرفات بمعنى : عدم كونها مصالح ومفاسد.

(٢) أي : للأحكام. ووجه عدم كون الأسباب الشرعية دواعي الأحكام : أن الداعي هو الملاك الموجب لترجح وجود فعل المكلف على عدمه ، ويعبر عنه بالمصلحة ، أو ترجح عدم فعله على وجوده ، ويعبر عنه بالمفسدة ، والسبب الشرعي الواقع في حيّز أداة الشرط حاك عن الملاك الذي بوجوده العلمي دخيل في تشريع الحكم ، فلا يمكن أن يكون ملاك الحكم وكاشفا عنه ، ضرورة : أن الأسباب الشرعية الواقعة عقيب أدوات الشرط دائما إما بنفسها موضوعات الأحكام ، وإما دخيلة في موضوعاتها كأجزائها وشرائطها ، فهي حينئذ متأخرة رتبة عن ملاكات الأحكام ، فلا يعقل أن تكون هي ملاكات لها ، وكواشف عنها ؛ وإلا لزم كون ما هو متأخر رتبة متقدما ، فإذا قال : «إذا قرأت آية السجدة فاسجد ، وإذا سهوت في الصلاة فاسجد» فإن قضية الشرطية لزوم الإتيان

١٩٨

ثم إنه (١) لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس وعدمه ، واختيار عدم التداخل في الأول ، والتداخل في الثاني إلا توهم عدم صحة التعلق بعموم

______________________________________________________

بالسجدة مرتين ، ومن المعلوم : عدم كون القراءة والسهو في هاتين القضيتين سببا واقعيا أي : ملاكا لوجوب السجود ، ولا لازما للسبب الواقعي ؛ بل لهما دخل في الموضوع الذي تقوم به المصلحة الداعية إلى إيجاب السجود ، فالمصلحة مترتبة على الموضوع ، ومتأخرة عنه وجودا ، وليست في عرضه ، فيمتنع أن يكون الموضوع بقيوده لازما متأخرا وجودا عن العلة الغائية ، بعد وضوح كون العلة الغائية متأخرة وجودا عن الموضوع وقيوده ، فلا يكون الموضوع المتقدم عليها كاشفا عنها. نعم ؛ إيجاب الشارع كاشف عن العلة الغائية ، ككشف سائر المعلولات عن عللها.

وبالجملة : لو كان المراد بكون السبب الشرعي معرفا : إنه ليس علة غائية للحكم وإن كان علة مادية له ؛ بأن يكون موضوعا له ، أو مما له دخل في موضوعه كان له وجه ، لكنه لا يجدي فيما أفاده الفخر «قدس‌سره» كما سيأتي ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣٨٧».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية : والضمير في قوله : «لها دخل» يعود إلى الأسباب الشرعية ، فمعنى العبارة : وإن كان للأسباب الشرعية دخل في تحقق موضوعات الأحكام ، بخلاف الأسباب غير الشرعية التي هي علل لأحكامها.

«فهو وإن كان له وجه» أي : فكون المراد بالمعرفية عدم كون الأسباب الشرعية دواعي الأحكام وإن كان له وجه ، حيث إن الأسباب الشرعية حينئذ لا تكون مصالح ومفاسد حتى تستتبع آثارا متعددة بتعددها ، فلا يتحقق التداخل ، لكنه لا يجدي فيما أراده من ابتناء التداخل على المعرفية ، وذلك لأن المراد بالمعرف حينئذ هو موضوع الحكم الشرعي ، ومن المعلوم : أن كل موضوع يقتضي حكما ، وكل شرط يقتضي حدوث جزاء «إلّا إنه مما لا يكاد يتوهم أنه يجدي فيما همّ وأراد» أي : إلّا إن كون المراد بالمعرفية عدم كونها علل الأحكام ودواعيها لا يجدي فيما أراد من التداخل بناء على معرفية الأسباب الشرعية.

فالنتيجة : أنه بناء على معرفية الأسباب الشرعية لا يلزم القول بالتداخل.

(١) الضمير للشأن. هذا إشارة إلى ما اختاره ابن ادريس الحلي «قدس‌سره» من التفصيل بين اتحاد جنس الشروط : كالبول مرتين أو مرات ، وبين اختلاف جنس الشروط ، كالبول والنوم والجنابة ، فقال بالتداخل في الأول ، وبعدمه في الثاني. قال في السرائر في مسألة وطء الحائض ما لفظه : «فإذا كرر الوطء فالأظهر أن عليه تكرار

١٩٩

اللفظ في الثاني ، لأنه من أسماء الأجناس ، فمع تعدد أفراد شرط واحد لم يوجد إلا

______________________________________________________

الكفارة ، لأن عموم الأخبار يقتضي أن عليه بكل دفعة كفارة ، والأقوى عندي والأصح : أن لا تكرر في الكفارة ، لأن الأصل براءة الذمة وشغلها بواجب يحتاج إلى دلالة شرعية. فأما العموم فلا يصح التعلق به في مثل هذه المواضع ، لأن هذه أسماء الأجناس والمصادر ، ألا ترى أن من أكل في شهر رمضان متعمدا ، وكرر الأكل لا يجب عليه تكرار الكفارة بلا خلاف». وقال في بحث موجبات سجدتي السهو من كتاب السرائر : «فإن سها المصلي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرات كثيرة في صلاة واحدة ، أيجب عليه في كل مرة سجدتا السهو أو سجدتا السهو عن الجميع؟ قلنا : إن كانت المرات من جنس واحد فمرة واحدة بحسب سجدتا السهو ، مثلا : تكلم ساهيا في الركعة الأولى ، وكذلك في باقي الركعات ، فإنه لا يجب عليه تكرار السجدات ، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب ، لأنه لا دليل عليه». إلى أن قال : «فأما إذا اختلف الجنس ، فالأولى عندي ؛ بل الواجب الإتيان عن كل جنس بسجدتي السهو ، لأنه لا دليل على تداخل الأجناس ، بل الواجب إعطاء كل جنس ما تناوله اللفظ.» إلخ.

وأما وجه هذا التفصيل فهو : أن الشرط فيما إذا كان من أسماء الأجناس هي نفس الطبيعة ، ولا يتعدد بتعدد أفرادها ، فإذا كانت واحدة فالشرط واحد وكان المسبب والمشروط أيضا واحدا ، وهذا معنى التداخل.

وأما إذا كان جنس الشرط مختلفا : فمقتضى ظاهر الجملة الشرطية هو كون الشرط طبيعتين أو طبائع ، فإذا كان الشرط متعددا كان المسبب والمشروط متعددا قهرا ، وهذا معنى عدم التداخل.

والمتحصل : أنه لا وجه لهذا التفصيل إلا توهم عدم صحة التشبّث بعموم اللفظ في الثاني ـ كما أشار إليه بقوله : «إلا توهم ..» إلخ.

وتوضيح هذا التوهم : أن اسم الجنس قد وضع لنفس الطبيعة المهملة التي لا تدل على العموم ، فالنوم مثلا الذي هو مادة «نمت» في قوله : «إذا نمت فتوضأ» (١) لا يدل إلا على نفس الطبيعة ، فإذا علق عليها حكم ـ كوجوب الوضوء ـ لا يفهم منه إلا كون صرف الوجود من الطبيعة موضوعا لذلك الحكم ؛ لا كل وجود من وجوداتها ، فموضوعية كل وجود من وجوداتها للحكم منوطة بالدليل. وهذا بخلاف الشروط المختلفة جنسا ، فإن صرف الوجود من كل طبيعة من طبائع الشروط المتعددة شرط

__________________

(١) في التهذيب ، ج ١ ، ص ٧ ، ح ٧ : «.. إذا نام مضجعا فعليه الوضوء».

٢٠٠