دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

ما له العدل إلى زيادة مئونة ، وهو ذكره بمثل : أو كذا ، واحتياج ما إذا كان الشرط متعددا إلى ذلك إنما يكون لبيان التعدد ، لا لبيان نحو الشرطية ، فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف ، كان هناك شرط آخر أم لا ، حيث (١) كان مسوقا لبيان شرطيته بلا

______________________________________________________

مقتضى الإطلاق هو عدم التقييد ، والعدل قيد للوجوب التخييري والإطلاق ينفيه ، فيثبت به كون الوجوب تعيينيا.

قوله : «واحتياج» إشارة إلى توهم وهو : أن حال العلة المنحصرة وغيرها حال الوجوب التعييني والتخييري في احتياج كليهما إلى البيان ، فإن كان الشرط منحصرا لم يحتج إلى العدل ، وكان مطلقا ، كقوله : «إن سافرت فقصّر الصلاة» ، كعدم احتياج الوجوب التعييني إلى البيان ، وكفاية الإطلاق في إثباته.

وإن لم يكن منحصرا : احتاج إلى بيان العدل ، كقوله : «إن سافرت أو خفت على نفسك فأفطر الصوم» ، كاحتياج الوجوب التخييري إلى بيان العدل ، فبيان العدل يكشف عن اختلاف الشرطية في الشرط المنحصر وغيره سنخا ، كاختلاف الوجوب التعييني والتخييري كذلك.

وقد أجاب المصنف عن هذا التوهم بقوله : «إنما يكون لبيان التعدد ، لا لبيان نحو الشرطية».

وحاصل هذا الجواب : أن بيان تعدد الشرط في مورده إنما يكون لبيان أن للجزاء شرطين يكون كل منهما بالاستقلال مؤثرا تاما مع كون الشرطية في كل منهما على نهج واحد ، من دون تفاوت بينهما في التأثير ، فكل منهما شرط مطلق من غير تقييد في شرطية كل منهما بالآخر. هذا بخلاف الوجوب التخييري ، حيث إنه مقيد إثباتا ببيان العدل ، كتقييده ثبوتا بسبب المصلحة كما تقدم ، فبيان العدل في الوجوب التخييري ينافي الإطلاق ، بخلاف ذكر العدل في الجملة الشرطية كالمثال : «إذا سافرت أو خفت على نفسك فأفطر الصوم». فإفطار الصوم لا ينافي إطلاق شرطية السفر للإفطار ، فإطلاق الشرطية يصدق على كل من الشرطين بوزان واحد ، بخلاف الوجوب ، فإن التخييري منه ينافي إطلاق الوجوب ، إذ لا يصدق عليه إلا الوجوب المقيد بالعدل ، فالنتيجة ـ كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣٣٣» ـ : أن بيان العدل في الجملة الشرطية لا ينافي الإطلاق أي إطلاق الشرطية والمؤثرية بخلاف بيان العدل في الوجوب التخييري ، فإنه ينافي الوجوب ثبوتا وإثباتا.

(١) تعليل لقوله : «لا تختلف» يعني : لمّا كان كل من الشرط المنحصر وغيره تاما في شرطيته كان الإطلاق بالنسبة إلى كل منهما على حد سواء ، ولذا لا يكون عدم ذكر

١٦١

إهمال ولا إجمال. بخلاف إطلاق الأمر ، فإنه لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني ، فلا محالة يكون في مقام الإهمال أو الإجمال ، تأمل تعرف.

هذا ، مع إنه لو سلم (١) لا يجدي القائل بالمفهوم ، لما عرفت : أنه لا يكاد ينكر فيما إذا كان مفاد الإطلاق من باب الاتفاق.

ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه :

______________________________________________________

الشرط الآخر ـ على تقدير وجوده واقعا ـ مخلا بالإطلاق ، ولا موجبا للإهمال ، بل يكون الشرط المذكور في الكلام مؤثرا تاما. بخلاف إطلاق الوجوب ، فإنه لو لم يكن في مقام الوجوب التعييني كان الكلام مهملا ، ولا يستفاد منه خصوص التعييني ولا التخييري.

والمتحصل : أنه إذا قال المولى : «إن سافرت فأفطر الصوم» ، ولم يذكر موجبا آخر للإفطار ـ أعني الخوف على النفس ـ كان هذا الإطلاق صحيحا ، إذ مقتضاه كون السفر علة للإفطار مطلقا ، بمعنى : إنه ليس هناك بعض أفراد السفر غير موجب للإفطار. وهذا الإطلاق لا ينافي إيجاب الخوف على النفس للإفطار أيضا ، إذ شرطية الشرط موجودة حتى في صورة التعدد ، ولا تتفاوت شرطية الشرط حين الوحدة مع شرطيته حين التعدد.

وهذا بخلاف الوجوب ، فإن المولى إذا كان في مقام البيان لا بد له أن يبين العدل ـ لو كان ـ فلو قال : «أطعم» مطلقا فيما كان الواجب أحد الأمرين ـ الصيام أو الإطعام ـ فلا بد وأن يكون في مقام الإهمال ، إذ وجود العدل ينافي وجود الإطلاق مطلقا.

وبالجملة : أن إطلاق الشرط لا ينافي وجود شرط آخر ، وإطلاق الواجب ينافي وجود العدل. فإطلاق الشرط لا يدل على عدم شرط آخر حتى يدل على المفهوم ، بخلاف الواجب فإن إطلاقه يدل على عدم واجب آخر الموجب لكون الواجب تعيينيا.

قوله : «فتأمل تعرف» إشارة إلى دقة النظر حتى يعرف حال قياس إطلاق الشرط بإطلاق صيغة الأمر بأنه قياس مع الفارق ، إذ لا يمكن إثبات كون الشرط علة منحصرة للجزاء بسبب الإطلاق ، كما يمكن إثبات كون الواجب تعيينيا من جهة إطلاق صيغة الأمر.

(١) أي : لو سلم كون الشرطية مختلفة بحسب السنخ كاختلاف الوجوب سنخا ، وقيل : بأن إطلاق الشرط يكون مثبتا للشرطية المنحصرة ، كإثبات الإطلاق للوجوب التعييني كان هذا المقدار غير مجد للقائل بالمفهوم ، لكون هذا الإطلاق نادرا ، واتفاقيا لعدم كونه بمقتضى الوضع أو القرينة العامة ، كما يدعيه القائل بالمفهوم ، وقد عرفت سابقا : أن إطلاق الشرط قد يكون لبيان كون الشرط علة منحصرة للجزاء.

١٦٢

أحدها (١):

ما عزي إلى السيد من أن تأثير الشرط إنما هو تعليق الحكم به ، وليس بممتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج عن كونه (٢) شرطا ، فإن قوله تعالى (٣): (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (٤) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينضم إليه شاهد آخر ، فانضمام الثاني إلى الأول شرط في القبول ، ثم علمنا أن

______________________________________________________

أدلة المنكرين للمفهوم

(١) أحد الوجوه التي استدل بها المنكرون للمفهوم : ما نسب إلى السيد المرتضى «قدس‌سره» (١) ، وحاصل هذا الوجه : أن فائدة الشرط هو تعليق الحكم به كتعليق وجوب الإكرام بالمجيء في نحو : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، فمعنى كون المجيء شرطا لوجوب الإكرام هو : توقف الحكم بوجوب الإكرام على وجود المجيء ولا يدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، إذ من الممكن أن يقوم شرط آخر مقام هذا الشرط ، فلا ينتفي المشروط عند انتفاء الشرط المذكور في القضية ، لأنه ليس بممتنع أن يكون للحكم في الجزاء شروط متعددة ينوب بعضها عن بعض ، ولا يخرج الشرط الأول عن كونه شرطا حين نابه شرط آخر ، فالنتيجة : إن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء ، إذ يمكن أن يخلفه شرط آخر ، والأمثلة لذلك كثيرة شرعا وعقلا وشرعا وعرفا.

(٢) أي : لا يخرج الشرط الأول عن كونه شرطا ، وعدم الخروج يكشف عن عدم كونه علة منحصرة حتى يدل على المفهوم.

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٨٢.

(٤) هو من أمثلة قيام شرط آخر مقام الشرط الأول شرعا ، لأن المستفاد من قوله تعالى هو : تعليق الحكم أعني : قبول قول الشاهد الواحد بانضمام شاهد آخر إليه ، فانضمام الشاهد الثاني إلى الشاهد الأول شرط في قبول الشاهد الأول. ثم علمنا من جملة أخرى في الآية ـ وهي قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ)(٢) ـ أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول شرط في القبول أيضا ، ثم علمنا من الرواية : أن ضم يمين المدعي يقوم مقام الثاني ، فقيام بعض الشروط مقام بعضها مما لا إشكال فيه ، فحينئذ

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة ، ق ١ ، ص ٤٠٦.

(٢) البقرة : ٢٨٢.

١٦٣

ضم امرأتين إلى الشاهد الأول شرط في القبول ، ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا ، فنيابة بعض الشرط عن بعض أكثر من أن تحصى ، مثل الحرارة ، فإن انتفاء الشمس لا يلزم منه انتفاء الحرارة لاحتمال قيام النار مقامها ، والأمثلة لذلك كثيرة شرعا وعقلا.

والجواب (١):

أنه «قدس‌سره» إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض في

______________________________________________________

لا ينتفي الجزاء عند انتفاء الشرط لقيام آخر مقامه ، وهذا دليل على عدم كون الشرط علة منحصرة حتى يدل على الانتفاء عند الانتفاء.

وكيف كان ، فنيابة بعض الشروط عن بعض كثيرة شرعا وعقلا وعرفا. أما شرعا :

فكنيابة غسل الجنابة والتيمم عن الوضوء وأما عقلا : فكنيابة شق البطن عن قطع الرأس ، إذ كلاهما شرط عقلي لزهوق الروح.

أما عادة فكنيابة الدرج عن السلم في الصعود إلى السطح. ثم إن المراد بالشرط في الآية المباركة هو جملة : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)(١) فمعنى الآية «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاستشهدوا شهيدين من رجالكم».

فالحاصل : إنه مع قيام بعض الشروط مقام بعض لا ينتفي المشروط عند انتفاء الشرط حتى يقال : بأن الشرط يدل على الانتفاء عند الانتفاء.

(١) توضيحه : يتوقف على مقدمة وهي : أن إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض تارة : يكون بحسب مقام الثبوت وفي الواقع. وأخرى : بحسب مقام الإثبات ودلالة القضية الشرطية عليه.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن مراد السيد المرتضى «قدس‌سره» بإمكان نيابة بعض الشروط عن بعض : إن كان إمكانها بحسب مقام الثبوت فهو غير قابل للإنكار ، ولا ينكره المدعي للمفهوم ، وإنما يدعي دلالة القضية الشرطية على عدم وقوع هذا الممكن الذاتي في مقام الإثبات. ومن البديهي : إن مجرد إمكان قيام بعض الشروط مقام بعض في القضية الشرطية لا ينفي المفهوم بعد دلالة القضية على عدم قيامه مقامه في مقام الإثبات.

وأما إن كان مراده : احتمال وقوع شرط مقام الشرط المذكور في القضية الشرطية في

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

١٦٤

مقام الثبوت ، وفي الواقع : فهو مما لا يكاد ينكر ضرورة : أن الخصم يدعي عدم وقوعه في مقام الإثبات ، ودلالة القضية الشرطية عليه وإن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه : فمجرد الاحتمال لا يضره ما لم يكن بحسب القواعد اللفظية راجحا أو مساويا (١) ، وليس فيما أفاده ما يثبت ذلك أصلا كما لا يخفى.

ثانيها (٢):

أنه لو دل لكان بإحدى الدلالات ، والملازمة ـ كبطلان التالي ـ ظاهرة.

______________________________________________________

مقام الإثبات ففيه : أن مجرّد هذا الاحتمال لا يضر بدعوى القائل بالمفهوم ، لأنه يدعي ظهور الجملة الشرطية في الانتفاء عند الانتفاء ، وعدم نيابة شرط مقام الشرط المذكور فيها ، ومن البديهي : أن الاحتمال لا يصادم الظهور وإلا لا يبقى اعتبار للظهور أصلا. وعليه : فلا مانع عن حجية الظهور في المفهوم والأخذ به ، وعدم الاعتناء بالاحتمال على خلاف الظهور في المفهوم في القضية الشرطية.

(١) أي : لو كان احتمال قيام شرط مقام الشرط المذكور في الجملة الشرطية راجحا أو مساويا للدلالة على المفهوم ، لمنع ذلك عن الأخذ بالمفهوم في القضية الشرطية ، ولكن ليس في كلام السيد ما يثبت رجحان الاحتمال أو مساواته للدلالة على المفهوم.

(٢) وهذا الوجه الثاني ـ من الوجوه التي استدل بها المنكرون ـ استدلال بالقياس الاستثنائي على نفي المفهوم للشرط.

والاستدلال بالقياس الاستثنائي إنما يتم بعد ثبوت أمرين : هما الملازمة وبطلان التالي.

فيقال في تقريب القياس الاستثنائي : أنه لو دل الشرط على المفهوم ـ الانتفاء عند الانتفاء ـ لكان بإحدى الدلالات الثلاث أي : المطابقة أو التضمن أو الالتزام ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

فأما الملازمة بين المقدم والتالي : فظاهرة لانحصار الدلالة اللفظية في الدلالات الثلاث.

وأما بطلان التالي : فلأن الانتفاء عند الانتفاء ليس مدلولا مطابقيا ولا تضمنيا ولا التزاميا للجملة الشرطية ، إذ ليس الانتفاء عند الانتفاء تمام الموضوع له ، ولا جزؤه لأن الجملة الشرطية موضوعة للثبوت عند الثبوت. ومن البديهي : أن بين الثبوت كذلك والانتفاء عند الانتفاء بون بعيد ، وليس أحدهما عين الآخر كي تكون الدلالة بالمطابقة ، وليس جزؤه حتى تكون تضمنية ، فبطلانهما ظاهر.

١٦٥

وقد أجيب عنه : بمنع بطلان التالي (١) ، وأن الالتزام ثابت ، وقد عرفت (٢) بما لا مزيد عليه : ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه ، فلا تغفل.

ثالثها (٣):

قوله تبارك وتعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (٤).

______________________________________________________

وأما الدلالة الالتزامية : فلأنها مشروطة باللزوم العقلي كما بين العمى والبصر ، أو باللزوم العرفي كما بين الحاتم والجود ، ولا ملازمة عقلا ولا عرفا بين الثبوت ، وبين الانتفاء عند الانتفاء فإذا فات الشرط فات المشروط ، فانتفت الدلالة الالتزامية. هذا معنى بطلان التالي. وبطلان التالي ـ أعني انتفاء الدلالات الثلاث ـ ينتج بطلان المقدم ، وهو دلالة الشرط على المفهوم بإحدى الدلالات الثلاث.

فالنتيجة هي : عدم دلالة الجملة الشرطية بشيء من الدلالات الثلاث على المفهوم.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه الثاني على نفي المفهوم.

(١) وحاصل الجواب عن هذا الوجه هو : أن الشرط وإن كان لم يدل على المفهوم بالمطابقة أو التضمن إلا إنه يدل عليه بالالتزام ، فالمفهوم مدلول التزامي للقضية الشرطية ، إذ لازم الثبوت عند الثبوت هو : الانتفاء عند الانتفاء ، وإلا فلا معنى لتعليق حكم الجزاء على الشرط.

(٢) أي : عرفت عند أدلة القائل بالمفهوم ما قيل في الدلالة على المفهوم ، أو يقال في منع الدلالة عليه أي : الجملة الشرطية لا تدل على الانتفاء عند الانتفاء لا وضعا ولا انصرافا ولا إطلاقا.

(٣) تقريب الاستدلال بهذا الوجه الثالث من وجوه المنكرين هو : أن الجملة الشرطية قد استعملت في هذه الآية الشريفة ، ولا مفهوم لها ، إذ لو كان لها مفهوم لكان المعنى جواز الإكراه على البغاء حين عدم إرادة التحصن ، ومن المعلوم : حرمة الإكراه على البغاء والزنا مطلقا أردن التحصن أم لا. فيثبت المدعي وهو عدم دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ؛ إذ آية القرآن أقوى شاهد على المدعى.

وبعبارة أخرى : أنه لو كان للشرط مفهوم لدل على جواز إكراههن على الزنا إن لم يردن التحصن ، مع إنه من الضروري : حرمة إكراههن على البغاء مطلقا من دون فرق بين إرادة التحصن وعدمها ، فلا محيص عن إنكار المفهوم والالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطية عليه.

(٤) سورة النور آية : ٣٣.

١٦٦

وفيه (١) : ما لا يخفى ، ضرورة : إن استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له ـ أحيانا وبالقرينة ـ لا يكاد ينكر كما في الآية وغيرها.

وإنما القائل به إنما يدعي ظهورها فيما له المفهوم وضعا أو بقرينة عامة كما عرفت (٢).

______________________________________________________

(١) وحاصل ما أجاب به المصنف عن هذا الوجه الثالث : إن عدم دلالة الشرط على المفهوم أحيانا وبالقرينة الخاصة الدالة على عدم المفهوم مما لا يكاد ينكر. والقائل بالمفهوم إنما يدعي دلالة الشرط عليه وضعا أو انصرافا أو إطلاقا بمقدمات الحكمة ، ومن المعلوم : أن تلك القرينة الخاصة على عدم المفهوم لا تنافي دلالة الشرط عليه بالوضع أو الانصراف أو الإطلاق. هذا ملخص الجواب عن الاستدلال بالآية المباركة.

وأما تفصيل ذلك فيتوقف على مقدمة وهي : أن الشرط على قسمين :

١ ـ ما يكون شرطا للحكم من دون دخل له في تحقق موضوع الحكم أيضا ؛ بحيث إذا انتفى الشرط فالموضوع باق على حاله كما في نحو : «إن جاءك زيد فأكرمه».

٢ ـ ما يكون شرطا للحكم مع دخله في تحقق موضوع الحكم أيضا ؛ بحيث إذا انتفى الشرط فلا حكم ولا موضوع للحكم أصلا كما في نحو : «إن رزقت ولدا فاختنه» ، و «إن ركب الأمير فخذ ركابه» ، ويعبر عن هذا القسم الثاني بالشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع بين الأعلام من حيث ثبوت المفهوم وعدمه إنما هو القسم الأول من الشرط ، وأما القسم الثاني الذي إذا انتفى الشرط ينتفي موضوع الحكم فهو خارج عن محل البحث والكلام ، لأنه إذا لم يرزق الولد أو لم يركب الأمير فلا ولد كي يجب ختانه أو لم يجب ، أو لا ركاب حتى يجب الأخذ به أو لم يجب ، والشرط في الآية من القسم الثاني دون الأول ؛ حيث إن الإكراه لا يتحقق إلا على ما لا يريده النفس ، ففي الآية المباركة : لا يتحقق الإكراه موضوعا في صورة إرادة البغاء ، فإن الفتيات إذا لم يردن التحصن فلا إكراه هناك كي يحرم أو لا يحرم ، فوزان الآية الشريفة وزان إن رزقت ولدا فاختنه ، فالجملة الشرطية فيها سيقت لبيان تحقق الموضوع ، فالآية الشريفة خارجة عن محل الكلام ، فلا وجه للتمسك بها لنفي المفهوم أصلا.

والمراد من غيرها في قوله : «وغيرها» هي : القضايا الشرطية المسوقة لبيان تحقق الموضوع كمثال : «إن رزقت ولدا فاختنه».

(٢) أي : كما عرفت عند نقل أدلة المثبتين للمفهوم.

١٦٧

بقي هاهنا أمور :

الأمر الأول (١):

أن المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه ، لا انتفاء شخصه ،

______________________________________________________

وحاصل الكلام في المقام : أن القائل بالمفهوم إنما يدعي ظهور الجملة الشرطية في المفهوم وضعا أو إطلاقا ناشئا عن مقدمات الحكمة التي هي قرينة عامة ، ومن المعلوم : أنه لا يدعي الدلالة الوضعية أو الإطلاقيّة على المفهوم حتى في موارد قيام القرينة الخاصة على عدمه ، فهو كمن يدعي وضع صيغة الأمر للوجوب ، مع اعترافه باستعمالها كثيرا في الندب بالقرائن.

(١) في قانون أخذ المفهوم ، والمقصود من عقد هذا الأمر الأول : بيان ما هو ضابط كلي لأخذ المفهوم : هل هو انتفاء شخص الحكم الحاصل بإنشائه في القضية المنطوقة أو انتفاء سنخ الحكم ونوعه.

وقد توهم بعض : أن المناط فيه هو انتفاء شخصه لا نوعه ، واستدل عليه بأن الشرط الواقع في القضية المنطوقة ـ في : مثل «إن جاءك زيد فأكرمه» ـ إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه في تلك القضية ، وقضيتها هو : انتفاء ذاك الحكم الشخصي بانتفاء شرطه لا سنخه ونوعه ، لأن الشرط في ظاهر القضية لم يقع شرطا لسنخ الحكم.

وقد أورد عليه المصنف بقوله : «لا انتفاء شخصه ، ضرورة : انتفائه عقلا ...» إلخ.

وحاصل إيراد المصنف : أن انتفاء شخص الحكم قطعي عقلا ، لأن الحكم الشخصي ينتفي بانتفاء الشرط بضرورة العقل ، وليس انتفاؤه من باب المفهوم ، بل من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، ولذا ينتفي شخص الحكم في اللقب أيضا مع إنه لا مفهوم له بالاتفاق ، مثلا : إذا قيل : «أكرم زيدا» ينتفي شخص هذا الحكم بانتفاء زيد بحكم العقل ، وليس ذلك من باب المفهوم ، ولذا لو قيل : «أكرم عمروا» لا ينافي ذلك قوله : «أكرم زيدا» ، لأن إثبات الشيء كوجوب إكرام زيد لا ينفي ما عداه كوجوب إكرام عمرو.

وكيف كان ؛ فالحق عند المصنف : أن المعيار في كون القضية الشرطية ذات مفهوم هو انتفاء طبيعة الحكم المعلقة في المنطوق على شرط.

والوجه في ذلك : أنه لو لم يكن المعلق طبيعة الحكم ، بل كان شخصه لما كان انتفاؤه من باب المفهوم ، بل كان انتفاؤه بانتفاء موضوعه عقليا ، كانتفاء العرض بانتفاء موضوعه ، نظير القضية المسوقة لبيان وجود الموضوع مثل : «إن رزقت ولدا فاختنه» ، فإن مثل هذه القضية لا مفهوم لها وليست موردا للنفي والإثبات عند القائلين للمفهوم

١٦٨

ضرورة : انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده ، فلا يتمشى الكلام (١) في أن

______________________________________________________

والمنكرين له ، فلا بد أن يكون مورد النزاع هو الحكم الذي يمكن وجوده مع انتفاء ما علق عليه من الشرط ، كوجوب الإكرام الذي يمكن وجوده حين انتفاء المجيء أيضا ، فلا محيص حينئذ عن كون الحكم المعلق في المنطوق على الشرط كليا ذا أفراد حتى يمكن بقاؤه بعد انتفاء ما علق عليه ، ويصح البحث عن كون انتفاء الشرط موجبا لانتفاء الحكم أم لا ، فلو كان الحكم شخصيا ، فلا معنى لهذا النزاع فيه ، إذ لا يعقل بقاء الحكم الشخصي بعد انتفاء موضوعه حتى ينازع في بقائه ، وانتفائه بانتفاء ما علق عليه.

والمتحصل : أنه ليس المعيار في المفهوم كون المنفي شخص الحكم ، بل المعيار فيه كون المنفي سنخ الحكم ، بحيث إذا قام دليل على ثبوت الحكم في صورة انتفاء الشرط كان معارضا للمفهوم ، فإذا دل دليل على وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء كان معارضا للمفهوم ، وهو عدم وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء.

فقد ظهر من هذا البيان : أنه يعتبر في المفهوم إمكان بقاء الحكم عند ارتفاع ما علق عليه من الشرط ، فلو لم يمكن بقاؤه كذلك فهو خارج عن المفهوم كما في مثل : «إن رزقت ولدا فاختنه» ، مما ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه عقلا ، وكما في مثل الوقف أو الوصية أو النذر على الأولاد إن كانوا فقراء ، أو الفقهاء إن كانوا متهجدين ، فإذا انتفى الفقر أو التهجد عنهم انتفت الوقفية والوصية وغيرهما ، لكن لا من ناحية المفهوم ، بل من جهة عدم قابلية مال إنشاء الوقف له ثانيا ، فبعد حكم الشارع بعدم جعل الوقفية لمال مرتين يكون الحكم بها شخصيا ، وقد عرفت : أن انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي ، وليس من باب المفهوم أصلا.

نعم ، يكون الفرق بين مثل : «إن رزقت ولدا فاختنه» ، وبين مثل : «وقفت داري على أولادي إن كانوا فقراء» في أن تشخص الموضوع في الأول حقيقي لا يحتاج إلى جعل وإنشاء بخلاف الثاني ، فإن عدم قابلية مال لإنشاء الوقفية له مرتين إنما هو بحكم الشارع ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣٤١» مع توضيح وتصرف منا.

(١) أي : فلا يتمشى النزاع في المفهوم ، وإنما يعقل النزاع فيما إذا كان الشرط دخيلا في الحكم لا في الموضوع كما في المثال المعروف ، فإن المجيء دخيل في الوجوب لا في الإكرام ؛ فإنه معقول وممكن جاء أو لم يجئ ، فيعقل النزاع في المفهوم أي : انتفاء سنخ الحكم بانتفاء المجيء ، وأما إذا كان دخيلا في الموضوع أيضا كما في قولك : «إن رزقت ولدا فاختنه» حيث إن رزق الولد دخيل في الوجوب وفي الختان ، إذ لو لا الولد لا مورد للختان ، فلا يعقل النزاع في المفهوم ، إذ هذا الحكم ينتفي بانتفاء الولد بضرورة العقل ،

١٦٩

للقضية الشرطية مفهوما ، أو ليس لها مفهوم إلا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء وانتفاؤه عند انتفاء الشرط ممكنا (١). وإنما وقع النزاع في أن لها (٢) دلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، أو لا يكون لها دلالة.

ومن هنا (٣) انقدح : أنه ليس من المفهوم ودلالة القضية على الانتفاء عند الانتفاء

______________________________________________________

وإنشاء وجوب آخر غير معقول لانتفاء المورد والموضوع.

(١) خبر «كان» في قوله : كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء ممكنا.

(٢) أي : «إنما وقع النزاع في أن» للجملة الشرطية «دلالة على الانتفاء عند الانتفاء» كما يدعيه القائل بالمفهوم ، «أو لا يكون لها دلالة» كما يدعيه من لا يقول بالمفهوم.

فتحصل من جميع ما ذكر : أن الجزاء لو كان شخصيا لم يعقل النزاع في المفهوم ، إذ الحكم الشخصي تابع لموضوعه ، فليس ارتفاعه عند انتفاء الشرط من جهة المفهوم ، بل من جهة ارتفاع الحكم الشخصي برفع موضوعه. هذا بخلاف ما لو كان الجزاء كليا فإنه يمكن أن يقع النزاع في أن هذا اللفظ المعلق فيه الكلي على الشرط هل يدل على انتفاء الكلي أم لا يدل؟ بل ساكت عن وجوده وعدمه.

(٣) أي : من اعتبار كون المنفي في المفهوم سنخ الحكم لا شخصه انقدح : أنه إذا قيل مثلا : «وقفت أو ملكت أو أوصيت أو نذرت داري لأولادي إن كانوا فقراء» ينتفي الحكم عند انتفاء الشرط ، ولا يجوز إعطاؤها لغيرهم ، ولكن ليس ذلك من باب المفهوم كما توهم ، بل بضرورة العقل كما عرفت ، حيث تكون دلالة الجملة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء من باب انتفاء شخص الحكم عقلا بسبب انتفاء موضوعه ، والمفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم ونوعه في الموارد التي يمكن فيها ثبوت سنخ الحكم في الجزاء عند ثبوت الشرط منطوقا حتى يمكن نفيه مفهوما. وفي الأمور المذكورة لا يمكن ثبوت سنخ الحكم كي يمكن نفيه بالمفهوم.

والوجه في ذلك : إن قصد الواقف الوقف على خصوص الفقراء من أولاده ، فكان الوقف بالقصد المذكور وقفا على خصوص الفقراء منهم ، وليس وقفا على غيرهم لا بهذا الوقف المشخص لانتفائه بانتفاء موضوعه ، ولا بالوقف الشخصي الآخر لامتناع اجتماع وقفين على مال واحد ، مثلا : الدار إذا صارت وقفا على الفقراء فهي لا تقبل أن تصير وقفا على غيرهم بإنشاء آخر ، لتحقق التعارض بين «وقفت داري على أولادي الفقراء» مثلا ، وبين «وقفت داري على أولادي مطلقا» أي : وإن كانوا أغنياء.

فتوهم : أن دلالة الشرطية في مثل الوقف والوصية التمليكية والنذر على المفهوم فاسد جدا ، لأن الدلالة المفهومية إنما تتحقق في الموارد التي يمكن فيها تعليق سنخ الحكم في

١٧٠

في الوصايا والأوقاف والنذور والأيمان ، كما توهم بل عن الشهيد (١) في تمهيد القواعد : أنه لا إشكال في دلالتها على المفهوم.

وذلك (٢) لأن انتفائها عن غير ما هو المتعلق لها من الأشخاص التي تكون بألقابها أو بوصف شيء أو بشرطه مأخوذة في العقد (٣) أو مثل العهد ليس (٤) بدلالة الشرط

______________________________________________________

الجزاء عند ثبوت الشرط حتى يمكن نفيه بالمفهوم ، ولكن العين الموقوفة كالدار لا تقبل أن تصير وقفا بإنشاء آخر لغير الموقوف عليهم ، وكذلك العين الموصى بها أو المنذورة لا تقبل أن تصير وصية لغير الموصى لهم بإنشاء آخر ، أو أن تصير نذرا لغير المنذور لهم. فليس ضابط المفهوم بموجود فيها ، إذ لا يمكن ثبوت سنخ الحكم فيها ، فلا تكون الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء من باب المفهوم.

(١) أي : حكي عن الشهيد «قدس‌سره» في كتاب «تمهيد القواعد» : دلالة القضية الشرطية على المفهوم في الأوقاف والوصايا والنذور حيث قال : لا إشكال في دلالتها في مثل الوقف والوصايا والنذور والأيمان ، كما إذا قال : ـ «وقفت داري هذه على أولادي الفقراء» ، أو «إن كانوا فقراء» ، أو نحو ذلك (١) ، ولعل الوجه في تخصيص المذكور هو : عدم دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم ، وفهم التعارض فيما لو قال بعد ذلك : «وقفت على أولادي مطلقا».

(٢) تعليل لقوله : «ومن هنا انقدح» يعني : لأن انتفاء تلك الأمور أي : الأوقاف والوصايا وأخواتهما «عن غير ما هو المتعلق لها» ، أي : لتلك الأمور «من الأشخاص التي تكون بألقابها» نحو «وقفت داري على أولادي» ، «أو بوصف شيء» نحو : «وقفت داري على أولادي الفقراء» ، «أو بشرطه» أي : بشرط شيء نحو : «وقفت داري على أولادي إن كانوا فقراء».

(٣) أي : في عقد الوقف والوصية ونحوهما أي : تكون الأشخاص «بألقابها ..» إلخ «مأخوذة في العقد ، أو مثل العهد» ، كالنذر واليمين.

(٤) أي : ليس الانتفاء «بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب عليه» أي : على الانتفاء.

وحاصل الكلام : أن انتفاء الوصايا وأخواتها عن غير الأشخاص الذين تعلقت بهم ليس من باب مفهوم الشرط أو الوصف أو اللقب ، بل لأجل عدم قابلية شيء للوقف أو الوصية أو النذر مرتين ، ومن المعلوم : أن الانتفاء حينئذ عقلي ، لكون الحكم المعلق شخصيا فيكون انتفاؤه بانتفاء موضوعه ، وقد عرفت : أن صلاحية الحكم المعلق في

__________________

(١) تمهيد القواعد ، ق ٢٥ ، ص ١١٠.

١٧١

أو الوصف أو اللقب عليه ، بل لأجل أنه إذا صار شيء وقفا على أحد ، أو أوصى به أو نذر له (١) إلى غير ذلك لا يقبل أن يصير وقفا على غيره ، أو وصية أو نذرا له ، وانتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصية عن غير مورد المتعلق قد عرفت : أنه عقلي (٢) مطلقا ، ولو قيل (٣) بعدم المفهوم في مورد صالح له.

إشكال ودفع :

لعلك تقول : كيف (٤) يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم ، لا نفس شخص

______________________________________________________

المنطوق على الشرط أو الوصف للإنشاء ثانيا ـ حتى يكون المنفي في المفهوم طبيعة الحكم لا شخصه ـ معتبرة في المفهوم.

(١) أي : نذر ذلك الشيء لأحد وكل من «أوصى» و «نذر» يكون مبنيا للمفعول.

(٢) لأنه من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، نظير : انتفاء العرض بانتفاء محله.

(٣) بيان للإطلاق. ومعنى العبارة : أن انتفاء شخص الوقف ونحوه عن غير متعلقه يكون عقليا ، ولو قيل بعدم المفهوم في مورد يمكن أن يكون له مفهوم ، فالانتفاء هنا ليس من باب المفهوم ، بل هو عقلي ، فيكون أجنبيا عن المفهوم.

والمتحصل : أن مورد النزاع هو : ما علق السنخ والنوع لا الشخص. أما لو علق الشخص : فلا إشكال في الانتفاء عند الانتفاء ، لكنه ليس من باب المفهوم ، بل من جهة حكم العقل بانتفاء الحكم لأجل انتفاء موضوعه.

في الإشكال ودفعه

(٤) الاستفهام إنكاري أي : لا يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم ونوعه ، فهذا الإشكال إشكال على ما تقدم من المصنف من : أن المناط في المفهوم هو انتفاء نوع الحكم المعلق لا انتفاء شخصه. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الحكم المنفي في المفهوم يمكن أن يكون كليا ، ويمكن أن يكون جزئيا.

إذا عرفت هذه المقدمة فيقال في تقريب الإشكال : إنّنا لا نسلم كون المفهوم انتفاء نوع الحكم المعلق ، بل انتفاء شخصه ، فيكون الحكم المنفي في المفهوم جزئيا.

والوجه في ذلك : أن الشرط مما علق عليه شخص الحكم لا سنخ الحكم ونوعه ، لأن الموجود في قضية «إن جاءك زيد فأكرمه» هو الحكم المنشأ شخصيا ، والشرط إنما هو شرط لهذا الحكم المذكور المنشأ وليس شرطا للنوع حتى يستلزم انتفاؤه انتفاء سنخ الحكم ، إذ ليس في القضية ذكر عن النوع.

١٧٢

الحكم في القضية (١) ، وكان الشرط في الشرطية إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره (٢) ، فغاية (٣) قضيتها : انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه ، لا انتفاء سنخه ، وهكذا الحال في سائر القضايا التي تكون مفيدة للمفهوم.

ولكنك غفلت (٤) عن أن المعلق على الشرط إنما هو نفس الوجوب الذي هو مفاد

______________________________________________________

فالنتيجة هي : منع اعتبار كلية الحكم المنفي في المفهوم ، لأن الحكم المنشأ في المنطوق بالإنشاء الخاص شخصي لا كلي ، والشرط إنما جعل قيدا لذلك الحكم الشخصي ، فلو كان للقضية الشرطية مفهوم لكان مفهومها انتفاء ذلك الحكم الشخصي ، فأين الحكم الكلي حتى ينفى في المفهوم؟

فدعوى : اعتبار كون الحكم المنفي طبيعة الحكم وسنخه لا شخصه خالية عن الدليل.

(١) أي : في القضية المنطوقية ، وتشخص الحكم إنما يكون بسبب الإنشاء. والواو في قوله : «وكان الشرط ..» إلخ للحالية ، يعني : والحال : أن الشرط في القضية الشرطية إنما هو شرط للحكم الجزئي الحاصل بالإنشاء. كما أشار إليه بقوله : «إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه».

ومن المعلوم : أن إنشاء الحكم عبارة عن إيجاده الموجب لتشخصه ، لما ثبت في محله من : إن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، فلا يتصور كلية الحكم المنشأ حتى ينفى في المفهوم ، بل انتفاء الشرط يوجب انتفاء ذلك الحكم الشخصي.

(٢) أي : دون غير ذلك الحكم المنشأ ، بل الحكم المعلق في المنطوق هو شخص ذلك المنشأ.

(٣) يعني : فغاية ما تقتضيه القضية الشرطية هو : انتفاء ذلك الحكم الشخصي المنطوقي بانتفاء شرطه ، لا انتفاء سنخ الحكم ونوعه ، هذه نتيجة كون الشرط في القضية الشرطية شرطا بالنسبة إلى الحكم المنشأ في المنطوق.

(٤) دفع للإشكال : توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنه لا فرق بين المعاني الاسمية والحرفية على ما هو مختار المصنف «قدس‌سره» ، لما عرفت في بحث معنى الحرف من : أن المعنى في كل من الاسم والحرف واحد.

وإنما الاختلاف في اللحاظ ، حيث إن المعنى في الاسم ملحوظ استقلالا ، وفي الحرف آلة ، وهذان اللحاظان من خصوصيات الاستعمال لا المستعمل فيه حتى يصير المعنى جزئيا ، فالتشخص والخصوصية من أطوار الاستعمال وشئونه.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن المعلق على الشرط كالمجيء في نحو : «إن جاءك

١٧٣

الصيغة ومعناها ، وأما الشخص (١) والخصوصية الناشئة من قبل استعمالها فيه لا تكاد تكون من خصوصيات معناها المستعملة فيه كما لا يخفى (٢) ، كما لا تكون الخصوصية الحاصلة من قبل الإخبار به من خصوصيات ما أخبر به واستعمل فيه إخبارا لا إنشاء.

وبالجملة : كما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط (٣) خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الإخبار به كذلك المنشأ بالصيغة المعلق عليه. وقد عرفت بما حققناه

______________________________________________________

زيد فأكرمه» هو نفس الوجوب الكلي الذي وضعت له الصيغة لا الشخص ، وذلك لما عرفت في المقدمة من : أن التشخص والخصوصية من شئون الاستعمال ، فلا تكون الخصوصية من قيود معنى صيغة الأمر حتى يقال : إن معنى الصيغة من حيث الهيئة هو : الوجوب الجزئي ، إذ من المعلوم : عدم إمكان دخل الخصوصيات الناشئة من الاستعمال في المعنى المستعمل فيه لتأخرها عنه على ما تقدم تفصيله من المصنف في بحث المعنى الحرفي فراجع.

(١) الأولى أن يقال : «وأما التشخص» ، لأن الشخص هو الجزئي ، والغرض بيان وجه تشخصه لا بيان شخصيته ، كما أن الأولى تبديل الضمير في قوله : «معناها» بالصيغة ، بأن يقال : «من خصوصيات معنى الصيغة المستعملة فيه» ، حيث إن المستعملة صفة للصيغة لا للضمير ، فإن توصيف الضمير بالظاهر غير معهود.

(٢) يعني : أنه لا فرق بين الإنشاء والإخبار في أنهما من خصوصيات الاستعمال لا من خصوصيات المستعمل فيه.

وحاصل الكلام في المقام : أنه كما لا تكون الخصوصية الحاصلة من قبل الإخبار به دخيلة في المعنى المخبر به ، وموجبة لشخصه كذلك لا تكون الخصوصية الناشئة من ناحية الاستعمال دخيلة في المستعمل فيه المنشأ بالصيغة وموجبة لتشخصه ، بل المعنى باق على كليته في كلا الموردين ، فالمتحصل : أن الخصوصية الحاصلة من قبل الإنشاء لا تكون من خصوصيات المستعمل فيه.

(٣) أي : لا فرق بين الإنشاء والإخبار في عدم دخل لهما في تخصيص المستعمل فيه ، فكما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط ـ في قولنا : «إن جاءك زيد فإكرامه واجب» ـ «خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الإخبار به» ، بل هو على حاله قبل الاستعمال من الكلية ، فكذلك المنشأ بالصيغة المعلق على الشرط لا يكون خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الإنشاء. فالإخبارية والإنشائية ليستا من خصوصيات نفس المعنى حتى توجبا جزئيته ، بل هما من خصوصيات الاستعمال.

١٧٤

في معنى الحرف (١) وشبهه : أن ما استعمل فيه الحرف عام كالموضوع له ، وأن خصوصية لحاظه بنحو الآلية ـ والحالية لغيره ـ من خصوصية الاستعمال ، كما أن خصوصية لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك (٢) ، فيكون اللحاظ الآلي كالاستقلالي من خصوصيات الاستعمال لا المستعمل فيه.

وبذلك (٣) قد انقدح : فساد ما يظهر من التقريرات في مقام التفصي عن هذا

______________________________________________________

(١) يعني : قد تقدم من المصنف في المعنى الحرفي كون الموضوع له في الحروف كليا كالموضوع له في أسماء الأجناس ، ولحاظ الآلية في الحروف كلحاظ الاستقلالية في الأسماء لا يوجب تشخص المعنى. وعليه : فالمعلق على الشرط في القضية الشرطية حكم كلي سواء كان بنحو الإنشاء أو الإخبار ، وهذا تعريض بما في التقريرات. كما سيأتي في قوله : «وبذلك قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات» فانتظر.

(٢) يعني : من خصوصية الاستعمال ، «فيكون اللحاظ الآلي» في الحروف كاللحاظ الاستقلالي في الأسماء من خصوصيات الاستعمال ، لا المستعمل فيه حتى يصير المعنى بسبب ذلك اللحاظ خاصا. وكأن القائل بالجزئية توهم كون الوجوب في الجزاء مقيدا بقيد الإنشاء ، وعليه : فالوجوب المقيد بهذا القيد جزئي ؛ إذ إنشاء الوجوب معناه إيجاده ، ومن المعلوم : أن كل موجود جزئي حقيقي ؛ إذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد.

وقد غفل المتوهم عن : أن الإنشاء كالإخبار ليس قيدا للموضوع له بل من كيفية الاستعمال ، فإن الإنسان قد يستعمل بلباس الإنشاء فيقول : «افعل» ، وقد يستعمله بلباس الإخبار فيقول : «يجب عليك».

(٣) أي : بما ذكرناه من كون المعنى في الحرف ـ كالمعنى في الاسم ـ كليا ، وعدم صيرورته باللحاظ الآلي والاستقلالي اللذين هما من خصوصيات الاستعمال جزئيا. قد انقدح واتضح فساد ما ذكره في التقريرات (١) في مقام دفع الإشكال المذكور ، فلا بد من ذكر ما في التقريرات في مقام دفع الإشكال حتى يتضح فساده ، وحاصل ما أفاده في التقريرات في مقام دفع الإشكال والجواب عنه : هو أنه فرّق في التقريرات بين قوله : «إن جاءك زيد وجب إكرامه» ، وقوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، بأن الوجوب المخبر به في الأول كلي ، فانتفاء السنخ بانتفاء الشرط معقول فيه. وأما الوجوب المنشأ بالهيئة في المثال الثاني جزئي خارجي ؛ لأن المنشأ المتحقق بالإنشاء هو شخص الوجوب ، إذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد. وبعبارة أخرى : أن الوجوب المعلق على الشرط إن كان

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ج ٢ ، ص ٣٩.

١٧٥

الإشكال من التفرقة بين الوجوب الإخباري والإنشائي بأنه كلي في الأول وخاص في الثاني ، حيث دفع الإشكال (١) بأنه لا يتوجه في الأول (٢) : لكون الوجوب كليا ،

______________________________________________________

بالإخبار ، كقولك : «إن جاءك زيد وجب إكرامه» فلا يرد عليه إشكال ، لكون الوجوب فيه كليا ، فيكون الحكم المعلق على الشرط كليا لا شخصيا ، حيث إن المادة قد استعملت في معناها الكلي. وإن كان بالإنشاء ، كما في قولك : «إن جاءك زيد فأكرمه» فالحكم المعلق على الشرط ـ كوجوب إكرام زيد ـ وإن كان جزئيا لكونه معنى الهيئة الذي يكون معنى حرفيا ، لأنها موضوعة لإنشاء النسبة الطلبية بين المادة ـ كالإكرام ـ والمخاطب ، والنسبة قائمة بالطرفين فهي معنى حرفي إلا إن المنفي هو سنخ الحكم بانتفاء الشرط على القول بالمفهوم ، لأن أداة الشرط مثل كلمة «إن» تدل على انحصار علة سنخ الحكم وطبيعته بالشرط المذكور في المنطوق ، وإن كان الحكم المذكور فيه فردا من أفراد طبيعة الحكم ، فأداة الشرط قرينة على انحصار علية الشرط لسنخ الحكم لا لشخصه.

والوجه في قرينيّة الشرط على ذلك : أنه لو كان الحكم جزئيا لا كليا ، كان انتفاؤه بانتفاء الشرط عقليا وأجنبيا عن باب المفهوم ، وإلا كان للقضية اللقبية أيضا مفهوم ، لانتفاء شخص الحكم فيها بانتفاء موضوعه وهو باطل بالضرورة ؛ لما عرفت من : أن انتفاء شخص الحكم في كل قضية بانتفاء موضوعه عقلي وأجنبي عن المفهوم.

فالنتيجة هي : دلالة القضية الشرطية على المفهوم مطلقا أي : سواء كان الحكم المذكور في المنطوق بلسان الإخبار أم الإنشاء.

(١) حق العبارة أن تكون هكذا : «حيث دفع الإشكال على الأول : بكون الوجوب كليا ، وعلى الثاني : بأن ارتفاع مطلق الوجوب في الوجوب الإنشائي من فوائد العلية المستفادة من الجملة الشرطية» ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣٥٠».

هذا تمام الكلام فيما أفاده في التقريرات في الجواب عن الإشكال ، وأما وجه فساد هذا الجواب ظهر مما ذكره المصنف من أنه لا فرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي في الكلية ، وإنما الجزئية فيهما تكون من ناحية الاستعمال لا دخل لها في الموضوع له.

(٢) الأولى تبديل «في» ب «على» حتى يكون مع قوله «وعلى الثاني» على نسق واحد ، والمراد من الأول : هو الوجوب الإخباري ، قوله : «لكون الوجوب كليا» علة لعدم توجه الإشكال عليه ، فحاصل دفع الإشكال على الأول : بكون الوجوب كليا. وعلى الثاني : بأن ارتفاع مطلق الوجوب في الوجوب الإنشائي من فوائد العلية المستفادة من الجملة الشرطية ، فتدل القضية الشرطية على المفهوم على كلا التقديرين ، فيرتفع الإشكال من البين.

١٧٦

وعلى الثاني : بأن ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العلّية المستفادة من الجملة الشرطية ، حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستندا إلى ارتفاع العلة المأخوذة فيها ، فإنه (١) يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة الشرط كما في اللقب والوصف.

وأورد (٢) على ما تفصّي به عن الإشكال بما ربما يرجع إلى ما ذكرناه بما حاصله :

______________________________________________________

(١) أي : شخص الوجوب ، وهذا تعليل لقوله : «ليس مستندا ...» إلخ ومعنى العبارة : أن ارتفاع شخص الوجوب بارتفاع موضوعه لا يختص بالقضية الشرطية ، بل يكون في غيرها كالقضية اللقبية والوصفية ، مع عدم كون ارتفاع شخص الحكم فيها من المفهوم ، فلا بد أن يكون للشرط خصوصية تستتبع المفهوم ، وليست تلك الخصوصية إلا دلالة أداة الشرط على انحصار العلية في مدخولها.

(٢) يعني : أورد صاحب التقريرات (١) على ما أجيب به عن الإشكال المتقدم في قوله : ـ «إشكال ودفع» ـ بجواب يرجع إلى ما أجاب به المصنف من عدم الفرق بين الوجوب في الكلام الخبري والإنشائي من حيث كلية المعنى بمعنى : أنه كما أن الوجوب في الكلام الخبري كلي فكذلك في الكلام الإنشائي. وكما أن قصد خصوص الحكاية عن تحقق المعنى الخبري في الخارج يكون من خصوصيات الاستعمال ؛ فكذلك قصد خصوص إيجاد معنى الكلام الإنشائي في الخارج يكون من خصوصيات الاستعمال وأطواره ، وقد أورد على هذا الجواب صاحب التقريرات بما حاصله : من إنه لا حاجة إلى هذا التكلف والتعسف ، بل الصواب في المقام ما ذكرناه في الجواب من : أن الوجوب في الكلام الإنشائي وإن كان جزئيا إلا إن انتفاء الوجوب الكلي عند انتفاء الشرط من نتائج انحصار علة سنخ الحكم الثابت في الجزاء في الشرط ، هذا مضافا إلى أنه لا دليل على كون الموضوع له في الإنشاء عاما كليا ، بل قام الدليل على خلافه ، حيث إن الخصوصيات من حيث هي هي مستفادة من ألفاظ الإنشاء ، إذ الغرض منه : إيجاد المنشأ في الخارج بصيغة الأمر ، فلا يستفاد الوجوب الكلي من صيغة الأمر ؛ لأن الشيء الموجود في الخارج جزئي وليس بكلي ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب إيراد صاحب التقريرات على ما تفصي به عن الإشكال.

وقد قال في التقريرات ـ بعد ذكر الإشكال المتقدم ـ ما هذا لفظه : «وقد يذب عنه : بأن الوجوب المنشأ في المنطوق هو الوجوب مطلقا من حيث كون اللفظ موضوعا له بالوضع العام واختصاصه وشخصيته من فعل الآمر ، كما أن شخصية الفعل المتعلق

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ج ٢ ، ص ٣٨.

١٧٧

إن التفصّي لا يبتني على كلية الوجوب لما أفاده ، وكون الموضوع له في الإنشاء عاما لم يقم عليه دليل لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه حيث إن الخصوصيات بأنفسها مستفادة من الألفاظ.

وذلك (١) لما عرفت : من أن الخصوصيات في الإنشاءات والإخبارات إنما تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلا بينهما (٢).

______________________________________________________

للوجوب من فعل المأمور ، فيحكم بانتفاء مطلق الوجوب في جانب المفهوم». هذا هو الجواب الذي ذكره صاحب التقريرات ، ثم أورد عليه بما عرفت توضيحه فلا حاجة إلى تكرار ذلك.

فالمتحصل : أن التفصّي عن الإشكال المذكور لا يبتني على كون الوجوب كليا من ناحية الوضع ، لإمكان استفادة كليته من علية الشرط ، كما عرفت توضيح ذلك.

(١) بيان لانقداح فساد ما في التقريرات وتعليل له أي : قد عرفت سابقا : أن الموضوع له في كل من الاسم والحرف كلي ، وأن الآلية والاستقلالية والإخبارية والإنشائية من خصوصيات الاستعمال ، وخارجة عن نفس المعنى ، فالوجوب كلي وهو المعلق على الشرط ، وانتفاؤه بانتفاء شرطه يكون من باب المفهوم.

(٢) يعني : الإنشاء والإخبار من حيث الكلية سيان «بلا تفاوت بينهما أصلا» ، فالتفصيل بينهما بكون المعنى في الإنشاء جزئيا ، وفي الإخبار كليا ـ كما في التقريرات ـ غير وجيه ، ولذا تعجب منه المصنف وقال : «ولعمري لا يكاد ينقضي تعجبي ..» إلخ يعني : أني أقسم ببقاء حياتي لا ينقضي تعجبي من صاحب التقريرات كيف جعل خصوصيات الإنشاء من قيود المعنى المستعمل فيه ، مع إنها كخصوصيات الإخبار ناشئة من قبل الاستعمالات؟ ولا يعقل أن يدخل في المعنى المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال ، لأن الاستعمال متأخر عن المستعمل فيه برتبة ، فالخصوصية الناشئة من قبل الاستعمال المتأخر عن المستعمل في الإخبار والإنشاء لا يعقل أن تكون من خصوصيات المعنى المستعمل فيه المتقدم فيهما.

وحاصل وجه تعجب المصنف هو : أن خصوصية الإنشائية كخصوصية الإخبارية في إمكان الدخل في نفس المعنى وامتناعه ، ولا وجه للتفرقة والتفكيك بينهما أصلا بالتزام كلية المعنى الخبري ، فيكون انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط فيه من باب المفهوم ، هذا بخلاف الإنشاء حيث تكون خصوصية الإنشائية فيه داخلة في المعنى الإنشائي ، ولذا تشبث في استفادة المفهوم حينئذ من القضية الشرطية بدلالة أداة الشرط على انحصار العلية بالشرط ، وكيف كان ؛ فالتفرقة بين الإخبار والإنشاء غير سديدة.

١٧٨

ولعمري لا يكاد ينقضي تعجبي كيف تجعل خصوصيات الإنشاء من خصوصيات المستعمل فيه مع إنها كخصوصيات الإخبار تكون ناشئة من الاستعمال ، ولا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال ، كما هو واضح لمن تأمّل.

الأمر الثاني (١):

أنه إذا تعدد الشرط مثل : (إذا خفي الأذان فقصر) (*) و (إذا خفي الجدران فقصر) (**) فبناء على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم لا بدّ من التصرف ورفع اليد

______________________________________________________

في تعدد الشرط ووحدة الجزاء

(١) محل البحث في هذا الأمر الثاني هو : ما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء في الشرطين لفظا ومفهوما نحو : «إذا خفي الأذان فقصر ، وإذا خفي الجدران فقصر» ، فالقائل بعدم المفهوم في راحة ، إذ شرط التقصير عنده هو خفاء كليهما نظرا إلى منطوق القضيتين ، ولا تعارض بينهما حينئذ أصلا.

وأما القائل بالمفهوم بالوضع أو بالقرينة العامة ، فلا بد له من التصرف فيهما بأحد الوجوه الأربعة لحل التعارض بين منطوق كل منهما ومفهوم الآخر ، لأن مقتضى مفهوم «إذا خفي الأذان فقصر» هو : عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان وإن خفي الجدران ، ومقتضى منطوق «وإن خفي الجدران فقصر» هو : عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الجدران وإن خفي الأذان ، فيقع التعارض بين منطوق كل منهما ومفهوم الآخر كما عرفت.

وقد تعرض المصنف للتصرف في ظهور كل منهما في المفهوم بأحد الوجوه الأربعة :

١ ـ ما أشار إليه بقوله : «إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر» ، لأن المنطوق أقوى دلالة من المفهوم فيقال : «إذا لم يخف الأذان فلا تقصر» إلا إذا خفي الجدران. وكذا يخصص مفهوم إذا خفي الجدران بمنطوق الآخر فيقال : «إذا لم يخف

__________________

(*) الرواية في التهذيب ، ج ٤ ، ص ٢٣٠ ، ح ٥٠ هكذا : عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : سألته عن التقصير. قال : «إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر ، وإذا قدمت من سفر فمثل ذلك».

(**) الرواية كما في الكافي ، ج ٣ ، ص ٤٣٤ ، ح ١ / التهذيب ، ج ٢ ، ص ١٢٠ ، ح ١ / الفقيه ، ج ١ ، ص ٤٣٥ ، ح ١٢٦٦ : عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله «عليه‌السلام» : الرجل يريد السفر متى يقصر؟ قال : «إذا توارى من البيوت ...».

١٧٩

عن الظهور ، إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر فيقال : بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين (١).

______________________________________________________

الجدران فلا تقصر» إلا إذا خفي الأذان ، ومقتضى تخصيص المفهومين هو : عدم انحصار الشرط في كل من الخفاءين وأن كلا من الشرطين عدل للآخر ، إذ المتحصل بعد تخصيص المفهومين بالمنطوقين هو : «إذا خفي الأذان أو الجدران وجب القصر» ، ومفهومه : «إذا لم يخفيا لا يجب القصر» ، وأما إذا خفي أحدهما وجب القصر ، لأنه مقتضى ثبوت العدل للشرط في إحدى القضيتين ، فيكون مرجع هذا الوجه إلى رفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في عموم المفهوم ، ونتيجته : إثبات عدلية كل من الشرطين للآخر ، ونفي الجزاء عند انتفاء كليهما ، فينتفي وجوب القصر بانتفاء الخفاءين.

(١) يعني : خفاء الأذان والجدران في المثال المذكور ، لأن المفهوم حينئذ هو انتفاء وجوب القصر عند انتفاء الخفاءين.

٢ ـ ما أشار إليه بقوله : «وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما» ، وهذا الوجه هو ثاني الوجوه الأربعة وحاصله : هو رفع اليد عن المفهوم في الشرطيتين ، بأن تكون القضيتان الشرطيتان كالقضية اللقبية في عدم الدلالة على المفهوم ، فيكون كل منهما من قبيل زيد قائم ، حيث لا يدل على نفي القيام عن عمرو ، لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفي ذلك الشيء عن غيره ، فإثبات وجوب القصر عند خفاء الأذان لا يدل على نفيه عند خفاء الجدران ، بمعنى : أن خفاء الأذان بالاستقلال موجب للقصر ، وخفاء الجدران كذلك موجب للقصر ، فمفادهما : مجرد الثبوت عند الثبوت ، بلا دلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، فالنتيجة حينئذ : إنكار المفهوم ، إذ لا تدل القضية الشرطية في كل منهما على عدم دخل شيء آخر في ثبوت الجزاء.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول هو : أن هذا الوجه لا يدل على المفهوم أصلا يعني : لا تدل الشرطيتان على عدم دخل شيء آخر في ثبوت الجزاء فلا يقع بينهما تعارض أصلا ، هذا بخلاف الوجه الأول ، فإن فيهما الدلالة على المفهوم وعدم مدخلية شيء آخر في الجزاء ، فيقع التعارض بينهما ويخصص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر كما عرفت ، فالوجه الأول من قبيل أكرم زيدا ولا تكرم غيره ، وأكرم عمروا ولا تكرم غيره ، والوجه الثاني من قبيل أكرم زيدا وأكرم عمروا.

وكيف كان ؛ فحاصل هذا الوجه الثاني هو : الالتزام بعدم المفهوم في كل منهما.

٣ ـ ما أشار إليه بقوله : «وإما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر». هذا هو

١٨٠