دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

جاءك زيد فأكرمه مثلا ـ لو قيل به ـ قضية شرطية سالبة بشرطها وجزائها ، لازمة للقضية الشرطية التي تكون معنى القضية اللفظية ، وتكون لها (١) خصوصية بتلك الخصوصية كانت مستلزمة لها. فصح (٢) أن يقال : إن المفهوم إنما هو حكم غير مذكور ، لا إنه (٣) حكم لغير مذكور ـ كما فسر به (٤) ـ وقد وقع فيه (٥) النقض

______________________________________________________

خصوصية المعنى المنطوقي ، بحيث لو لم تكن تلك الخصوصية لم يدل المنطوق على ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري المسمى بالمفهوم ، فلا بد أن تكون تلك الخصوصية المعتبرة في المنطوق مدلولا عليها باللفظ حتى يخرج المفهوم عن المداليل الالتزامية ، كوجوب المقدمة وحرمة الضد ، فإن اللفظ لا يدل فيهما إلا على ذي الخصوصية وهو وجوب ذي المقدمة ، ووجوب الضد الآخر ، ونفس الخصوصية تستفاد من الخارج ، لا من اللفظ.

(١) أي : للقضية الشرطية الموجبة في المنطوق «خصوصية بتلك الخصوصية» أي : بسبب تلك الخصوصية كانت القضية اللفظية «مستلزمة لها» أي : للقضية المفهومية.

(٢) هذا متفرع على ما أفاده من كون المفهوم عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري غير مذكور في القضية تقتضيه خصوصية المعنى المنطوقي ، إذ يصح حينئذ أن يقال : إن المفهوم حكم غير مذكور في القضية اللفظية ، ضرورة : أن حرمة إكرام زيد غير مذكورة في قولنا : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، وكذا حرمة الضرب والشتم فإنها غير مذكورة في قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ).

فالمتحصل : هو أن نفس المفهوم ـ وهو الحكم الإنشائي أو الإخباري ـ غير مذكور في المنطوق بلا واسطة وإن كان مدلولا عليه بذكر الخصوصية المشتملة له في المنطوق.

(٣) أي : لا أن المفهوم حكم لموضوع غير مذكور في المنطوق. فالفرق بين المفهوم والمنطوق على هذا التعريف : أن الموضوع في المنطوق مذكور ، وفي المفهوم غير مذكور ، كالضرب والشتم الموضوعين للحرمة فإنهما غير مذكورين في المنطوق.

(٤) أي : كما فسر المفهوم بأنه حكم لغير مذكور كما عرفت ذلك عن الحاجبي والعضدي.

(٥) أي : في هذا التفسير «النقض والإبرام بين الأعلام».

وحاصل الكلام : أن تعريف المفهوم بكونه حكما لغير مذكور لا يكون جامعا لأفراده ، ولا مانعا لغير أفراده. وأما عدم كونه جامعا للأفراد : فلخروج مفهوم الشرط ومفهوم الغاية عن المفهوم بالمعنى المذكور ، فإن الموضوع في مفهوم الشرط ـ في مثل : «إن

١٤١

والإبرام بين الأعلام ، مع أنه لا موقع له (١) كما أشرنا إليه في غير مقام ، لأنه من قبيل شرح الاسم كما في التفسير اللغوي (٢).

ومنه (٣) قد انقدح حال غير هذا التفسير مما ذكر في المقام ، فلا يهمنا التصدي لذلك ، كما لا يهمنا بيان أنه (٤) من صفات المدلول أو الدلالة وإن كان بصفات

______________________________________________________

جاءك زيد فأكرمه» ـ هو زيد المذكور في المنطوق ، وكذا الموضوع في مفهوم الغاية ـ في مثل «صم إلى الليل» ـ هو الليل المذكور في المنطوق.

وأما عدم كونه مانعا لغير أفراده : فلدخول مثل مقدمة الواجب فيه ؛ لأن وجوب المقدمة المستفاد من وجوب ذيها حكم لغير مذكور ، إذ المقدمة لم تذكر في القضية المفيدة لوجوب ذيها ، ودخول نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) فيه ، لأن السؤال حكم لغير مذكور وهو «الأهل» ، مع إنه ليس من باب المفهوم وإنما هو من باب المجاز في الحذف ، فهو من باب المنطوق.

وكيف كان ؛ فلازم ما ذكروه في تعريفي المنطوق والمفهوم هو : خروج بعض أفراد المنطوق ، ودخوله في تعريف المفهوم.

(١) أي : لا موقع لما ذكر من النقض والإبرام ، كما أشار المصنف إلى عدم موقع للنقض والإبرام في غير مورد من الموارد.

وكيف كان ؛ فقوله : «مع إنه لا موقع له» جواب عن الإشكالات التي أوردوها على تعريفي المنطوق والمفهوم طردا وعكسا.

وحاصل الجواب : أن تلك الإشكالات لا موقع لها ، لعدم كون هذه التعريفات حدودا حقيقية ، بل من قبيل شرح الاسم فلا تجب فيها مراعاة ما تجب مراعاته في التعاريف الحقيقية من الطرد والعكس.

(٢) أي : الذي يكون الغرض منه المعرفة في الجملة ، ولذا قد يقع التعريف منهم بالأعم ، كقول اللغوي : «سعدانة نبت» ، وقد يقع بالأخص ، كقول النحوي : «الفاعل ما صدر عنه الفعل».

(٣) أي : ومن كون التفسير المزبور من قبيل شرح الاسم ظهر : حال سائر تفاسير المفهوم ، فلا يعتبر فيها الطرد والعكس لكونها من قبيل شرح الاسم ، «فلا يهمنا التصدي لذلك» أي : لغير هذا التفسير المنسوب إلى العضدي من سائر التفاسير.

(٤) أي : ليس المهم بيان أن المفهوم من صفات المدلول أو الدلالة. هذا الكلام من

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

١٤٢

المدلول أشبه ، وتوصيف الدلالة أحيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلق (١).

______________________________________________________

المصنف إشارة إلى نزاع آخر في باب المفهوم وهو : أنه هل المفهوم من صفات المعني والمدلول ، أو من صفات الدلالة؟ وليس هنا قول : بأنه من صفات الدال.

وتوضيح ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدمة وهي : أن الصفات على ثلاثة أقسام :

الأول : صفات المدلول كالكلية والجزئية ونحوهما ، مثلا : لفظ الإنسان ليس كليا ، وكذا دلالة لفظ الإنسان على معناه ليست كلية ، وإنما الكلي هو مدلول الإنسان ، وعلى هذا : فلو اتصف لفظ الإنسان أو دلالته على معناه بالكلية كان من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف ، إذ الموصوف الحقيقي هو المعنى لا اللفظ والدلالة.

الثاني : صفات الدال كالثلاثية والرباعية والمجردية والمزيدية. فإنها صفات الألفاظ الدالة على المعاني ، لا صفات مدلولها ، ولا صفات دلالتها ، ولو اتصف أحدهما بهذا النحو من الأوصاف كان مجازا.

الثالث : صفات الدلالة كالنصوصية والصراحة والظهور ، فإنها صفات دلالة الألفاظ على معانيها ، لأن اللفظ بما هو لفظ لا يكون نصا وكذلك المعنى بما هو معنى ، وإنما النص هو دلالة اللفظ على معناه حتى لو اتصف اللفظ أو المعنى بإحدى هذه الأوصاف كان مجازا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد وقع النزاع في المفهوم بأنه من صفات المدلول ، إذ المفهوم حكم ملازم لخصوصية المعنى ، فلا بد من أن يكون من صفات المدلول ، وقد أشار إليه المصنف بقوله : «وإن كان بصفات المدلول أشبه» ، لما عرفت من : أن المفهوم من لوازم خصوصية المعنى المنطوقي ، فالمدلول إما منطوق وإما مفهوم ، ويشهد له بعض التفاسير كقولهم : «إن المفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق» ، والمراد بالموصول أعني : ما في قوله : «ما دل» هو المدلول ، فالمتصف بالمفهوم هو المدلول.

قوله : «أو الدلالة» إشارة إلى قول آخر. والوجه في ذلك : أنه لا يتصف بالمفهوم المعنى ، والمدلول من حيث هو المعنى ، وإنما يتصف به بلحاظ الدلالة ـ بمعنى : أن الدلالة لو كانت تابعة سميت مفهوما ـ يقول المصنف : لا يهمنا التعرض للنزاع تفصيلا ، ولكن كون المفهوم بصفات المدلول أشبه حيث قيل في تفسير المنطوق بأنه حكم لموضوع مذكور ، والمفهوم حكم لموضوع غير مذكور ، أو المنطوق هو حكم مذكور ، والمفهوم هو حكم غير مذكور ، ومن البديهي : أن الحكم هو المدلول لا الدلالة.

(١) يعني : توصيف الدلالة أحيانا بالمفهوم كما يقال : الدلالة المفهومية والمنطوقية «كان من باب التوصيف بحال المتعلق» وهو المدلول لا من التوصيف بحال الموصوف.

١٤٣

وقد انقدح من ذلك (١) : أن النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة إنما يكون في أن القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الأخرى (٢) أم لا؟

______________________________________________________

وبعبارة واضحة : أن توصيف الدلالة بالمفهوم إنما يكون بلحاظ متعلق الدلالة ـ وهو المدلول ـ لا باعتبار نفسها ، فتوصيف الدلالة بالمفهومية يكون بالعناية والمجاز ، فالوصف حينئذ بحال المتعلق لا الموصوف.

(١) أي : ظهر من كون المفهوم ناشئا من خصوصية المعنى المنطوقي ، ولازما لها : أن النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه يرجع إلى : أن تلك الخصوصية المستتبعة للمفهوم ثابتة بالوضع أو بالقرينة العامة أي : مقدمات الحكمة أم لا ، فإن دل المنطوق على تلك الخصوصية لزمه المفهوم ، وإلا فلا ، وبعد ثبوت دلالة المنطوق على تلك الخصوصية لا إشكال في دلالته على المفهوم الذي هو لازمه ، فالنزاع في حجية المفهوم يرجع حقيقة إلى النزاع في ثبوته ، لا إلى حجيته ، فقولهم : «مفهوم الشرط حجة» مبني على المسامحة ، إذ الصحيح أن يقال : هل للشرط مفهوم أم لا؟ لأن النزاع في الحقيقة في الصغرى وهو ثبوت المفهوم لا في الكبرى أعني : حجيته.

يعني : ليس النزاع في حجية المفهوم بعد ثبوته كالنزاع في حجية خبر الواحد.

وكيف كان ؛ فالنزاع إنما هو في أصل الدلالة لا في الحجية بعد الدلالة.

فقولهم : هل المفهوم حجة أم لا؟ يراد به ما ذكرناه من أنه هل للقضية الشرطية مفهوم أم لا؟

(٢) أي : القضية المفهومية. ثم معادل القرينة العامة والوضع هو القرينة الخاصة الدالة على المفهوم ، فإن كان الدال على تلك الخصوصية هو الوضع أو القرينة العامة : فلا إشكال في ثبوت المفهوم ، لدلالة تلك الخصوصية المدلول عليها بالوضع أو القرينة على الثبوت عند الثبوت ، والانتفاء عند الانتفاء ، ولا نعني بالمفهوم إلا هذا.

وإن كان الدال على تلك الخصوصية قرينة خاصة : فلا يترتب عليه المفهوم في جميع الموارد ، لاختصاص تلك القرينة بموردها ، نظير قرينة تدل على إرادة الوجوب من الأمر الواقع عقيب الحظر في بعض الموارد ، بعد كون وقوعه عقيب الحظر قرينة عامة على إرادة رفع المنع من الأمر ، فإن تلك القرينة الخاصة ـ التي تدل على إرادة الوجوب من الأمر الواقع عقيب الحظر في بعض الموارد ـ تختص بموردها ، ولا تكون قرينة على إرادة الوجوب منه في كل مورد يقع الأمر بعد الحظر ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣١٠» مع تصرف منا.

١٤٤

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ محل الكلام : هو المفهوم بالمعنى الاصطلاحي ، وقد عرف بتعاريف عديدة ، قال الحاجبي : المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق ، والمفهوم «ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق» (١) العضدي : المنطوق : «أن يكون حكما لمذكور وحالا من أحواله. والمفهوم «أن يكون حكما لغير مذكور وحالا من أحواله».

والحق عند المصنف : أن المفهوم إنما هو حكم غير مذكور ، لا إنه حكم لغير مذكور.

فالمفهوم هو حكم إنشائي ، كعدم وجوب الإكرام المستفاد من نحو : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، أو حكم إخباري ، كعدم وجوب الإكرام المستفاد من نحو «إن جئتني أكرمك» ، فمفهوم الأول : هو انتفاء وجوب الإكرام عند انتفاء الشرط ، ومفهوم الثاني هو : عدم وجوب الإكرام عند عدم المجيء.

ثم ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري مما تستلزمه خصوصية المعنى المنطوقي ، بحيث لو لم تكن تلك الخصوصية لم يدل المنطوق على ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري المسمى بالمفهوم.

٢ ـ خلاصة ما أورده البعض على تعريف العضدي للمفهوم : بأنه حكم لغير مذكور وحال من أحواله. فيرد عليه تارة : بعدم كونه جامعا. وأخرى : بعدم كونه مانعا.

أما عدم كونه جامعا : فلخروج مفهوم الشرط والغاية عنه ، فإنّ الموضوع في مفهوم الشرط في مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» مذكور في المنطوق وهو زيد ، وكذا الموضوع في مفهوم الغاية في مثل : «صم إلى الليل» هو الليل مذكور في المنطوق.

وأما عدم كونه مانعا : فلدخول مثل مقدمة الواجب فيه ، لأن وجوب المقدمة المستفاد من وجوب ذيها حكم لغير مذكور ، إذ المقدمة لم تذكر في القضية المفيدة لوجوب ذيها ، إلّا إن المصنف يقول : إنه لا مجال للإشكال بعد كون هذه التعاريف لفظية لا حقيقية ، إذ لا تجب فيها مراعاة ما تجب مراعاته في التعاريف الحقيقية من الطرد والعكس.

٣ ـ هل المفهوم من صفات المعنى والمدلول ، أو من صفات الدلالة؟ وليس هنا قول : بأنه من صفات الدال.

التوضيح بعد تمهيد مقدمة وهي : إن الصفات على ثلاثة أقسام :

١ ـ صفات المدلول كالكلية والجزئية ، كمدلول لفظ الإنسان ، فلو اتصف لفظ

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الإنسان أو دلالته على معناه بالكلية لكان ذلك من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف ، إذ الموصوف حقيقة هو المدلول لا اللفظ.

٢ ـ صفات الدال ، كالثلاثية والرباعية فإنهما من صفات الألفاظ الدالة على المعاني ، لا من صفات مدلولها ، ولا من صفات دلالتها ، ولو اتصف أحدهما بهذا النحو من الأوصاف كان مجازا.

٣ ـ صفات الدلالة ، كالنصوصية والظهورية ، فإنهما من صفات دلالة الألفاظ ، لأن اللفظ بما هو لفظ لا يكون نصا ولا ظاهرا ، فلو اتصف اللفظ بهما كان مجازا.

فنقول بعد هذه المقدمة : إنه قد وقع النزاع في كون المفهوم من صفات المدلول أو من صفات الدلالة.

وظاهر المصنف : أنه من صفات المدلول ، لأن المدلول إما منطوق وإما مفهوم ، والشاهد على ذلك : ما ذكر في تعريف المفهوم ، بأنه حكم غير مذكور في المنطوق. ومن البديهي : أن الحكم هو المدلول لا الدلالة.

٤ ـ أن النزاع في المفهوم حقيقة يكون صغرويا لا كبرويا ، بمعنى : أن النزاع إنما هو في ثبوت المفهوم وعدمه لا في حجيته وعدمها ، فقولهم : «مفهوم الشرط حجة» مبني على المسامحة ، إذ الصحيح أن يقال : «هل للشرط مفهوم أم لا؟».

وكيف كان ؛ فالنزاع إنما هو في أصل الدلالة لا في الحجية.

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ المفهوم حكم إنشائي أو إخباري غير مذكور في المنطوق.

٢ ـ المفهوم من صفات المدلول لا من صفات الدلالة.

٣ ـ النزاع في بحث المفهوم يكون صغرويا لا كبرويا.

١٤٦

فصل : الجملة الشرطية (١)

هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء ـ كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام ـ أم لا؟ فيه خلاف (٢) بين الأعلام. لا شبهة في استعمالها ، وإرادة الانتفاء عند الانتفاء

______________________________________________________

في مفهوم الشرط

(١) الكلام في مفهوم الشرط بمعنى : أنه إذا قال المولى لعبده : «إن جاءك زيد فأكرمه» فهل تدل هذه الجملة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء ، كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام بحيث لو قال بعد ذلك : «وإن أحسن زيد إليك فأكرمه» كان ذلك مخصصا لمفهوم «إن جاءك زيد فأكرمه» ، أم لا؟ بل لا تدل الجملة الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء ، فيه خلاف.

(٢) يعني : اختلف الأصحاب في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وعدم دلالتها عليه ، وقد أشار إلى محل النزاع بقوله : «لا شبهة في استعمالها» أي : الجملة الشرطية ، «وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام» واحد ، وهذا خارج عن محل الكلام ، إذ لا خلاف فيه ، ولا إشكال ، وإنما الخلاف والإشكال في أن هذا الاستعمال هل هو بالوضع أو بقرينة عامة ، كوقوع الأمر عقيب الحظر الذي هو قرينة عامة على عدم الوجوب منه ، فإنه يحمل الأمر على ذلك إلا إذا قامت قرينة خاصة على إرادة الوجوب منه ، بأن يكون المقام من هذا القبيل قامت قرينة عامة كمقدمات الحكمة على المفهوم ، بحيث لا بد من الحمل على المفهوم لو لم تقم قرينة على خلافه من حال أو مقال.

وكيف كان ؛ فدلالة الجملة الشرطية على المفهوم مبنية على أمور :

الأول : أن يكون الشرط والقيد في القضية الشرطية راجعا إلى مفاد الهيئة دون المادة ، بأن يكون مفادها تعليق مضمون جملة على مضمون جملة أخرى ، والتعليق هو ربط أحد الشيئين بالآخر بنحو لا يتخلف عنه ولا يمكن تحققه بدونه ، فهو يساوق العلية المنحصرة ، بمعنى : أن ترتب الجزاء على الشرط يكون من قبيل ترتب المعلول على علته المنحصرة.

الثاني : أن تكون ملازمة بين الجزاء والشرط.

الثالث : أن تكون القضية الشرطية ظاهرة في أن ترتب الجزاء على الشرط من باب ترتب المعلول على العلة ، لا من باب ترتب العلة على المعلول ، ولا من ترتب أحد المعلولين على الآخر لعلة ثالثة.

الرابع : أن تكون القضية الشرطية ظاهرة في كون الشرط علة منحصرة للحكم فيها ،

١٤٧

في غير مقام ، إنما الإشكال والخلاف في أنه بالوضع أو بقرينة عامة ، بحيث لا بد من الحمل عليه لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال ، فلا بد للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة بأحد الوجهين على تلك الخصوصية المستتبعة لترتب الجزاء على الشرط ، نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة ، وأما القائل بعدم الدلالة : ففي فسحة ، فإن له منع دلالتها على اللزوم ، بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق ، أو منع دلالتها على الترتب ، أو على نحو الترتب على العلة أو العلة

______________________________________________________

فمتى تحققت هذه الأمور : تمت دلالتها على المفهوم ، فلا بد للقائل من إثبات هذه الأمور.

قوله : «بأحد الوجهين» أي الوضع والقرينة العامة.

«وأما القائل بعدم الدلالة ففي فسحة» عن إقامة الدليل على العدم ، «فإن له» منع دلالة القضية الشرطية من جهات كثيرة :

١ ـ منع دلالة القضية الشرطية على اللزوم بأن يقال : لا نسلم الملازمة بين الشرط والجزاء حتى يكون انتفاء الشرط سببا لانتفاء الجزاء ، بل الجملة الشرطية إنما تدل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق ، نحو : «إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق» ، فإن التلازم بين الطرفين من باب الاتفاق ، يعني : لا علية في البين ، وعليه : فلا يلزم الانتفاء عند الانتفاء.

٢ ـ منع دلالة الشرطية على الترتب بأن يقال : لا نسلم ترتب الجزاء على الشرط ـ وإن سلمنا الملازمة بينهما ـ بل الجملة الشرطية إنما تدل على عدم الانفكاك بينهما ، ومن الممكن أن يكونا موجودين في عرض واحد نحو : «إن كان الخمر حراما كان بيعه باطلا» ، مع إنه كلا منهما معلول للإسكار مثلا.

٣ ـ منع دلالة القضية الشرطية على نحو الترتب على العلة ، بعد تسليم الدلالة على الترتب بأن يقال : لا نسلم دلالة الشرطية على كون الجزاء مترتبا على الشرط بنحو الترتب على العلة التامة ؛ بل تدل على كون المقدم علة ، أما أنها تامة فلا ، إذ من المحتمل كونه علة ناقصة.

٤ ـ منع دلالتها على ترتب الجزاء على الشرط نحو الترتب على العلة المنحصرة ، بعد تسليم الأمور السابقة أي : اللزوم أو الترتب أو العلية ، وذلك لاحتمال أن يكون لشيء واحد علل تامة متبادلة نحو : «إن كانت الشمس طالعة كانت الغرفة مضيئة» ، فإنه لا يدل على عدم إضاءة الغرفة حين عدم طلوع الشمس لاحتمال كونها مضيئة بالسراج أو النار أو الكهرباء.

١٤٨

المنحصرة (١) بعد تسليم اللزوم أو العلية ، لكن منع دلالتها (٢) على اللزوم ، ودعوى كونها اتفاقية في غاية السقوط ، لانسباق اللزوم منها قطعا.

وأمّا المنع عن أنه (٣) بنحو الترتب على العلة فضلا عن كونها منحصرة فله مجال واسع.

______________________________________________________

(١) يعني : أو منع دلالة القضية الشرطية على كون الترتب بنحو العلة المنحصرة.

والمتحصل : أن ثبوت المفهوم منوط بما ذكر من الجهات الثلاث ، وبدلالة القضية الشرطية على كون ترتب الجزاء على الشرط بنحو الترتب على العلة المنحصرة ، لا مطلق العلة ولو لم تكن منحصرة ، فإنكار دلالة القضية الشرطية على كون الترتب بهذا النحو كاف في عدم ثبوت المفهوم.

(٢) هذا إشارة إلى دفع المنع الأول الذي أشار إليه بقوله : «فإن له منع دلالتها على اللزوم» ، ومعنى العبارة : أن كون الجملة الشرطية اتفاقية لا لزومية في غاية السقوط ، لانسباق اللزوم من الجملة الشرطية قطعا ، فإنه لو لم تكن قرينة في البين فهم منها التلازم بين الشرط والجزاء. فقوله : «لانسباق اللزوم ...» إلخ تعليل لكون القضية الشرطية لزومية لا اتفاقية ، كما هو مقتضى المنع الأول.

وحاصل التعليل : تبادر اللزوم من القضية الشرطية قطعا ، والتبادر علامة الوضع ، فلا وجه لمنع دلالتها على اللزوم.

(٣) أي : المنع عن أن اللزوم بنحو الترتب أو المنع عن كون الترتب بنحو الترتب على العلة ـ فضلا عن كون الشرط علة منحصرة للجزاء ـ في محله ، وله مجال واسع ، إذ لم تثبت دلالة الجملة الشرطية على كون الشرط علة للجزاء ـ فضلا عن دلالتها على الانحصار ـ وإن كان بينهما تلازم في الوجود غالبا ، فإن التقصير في مثل «المسافر إذا قصر الصلاة أفطر» ليس علة للإفطار ، بل هما حكمان متلازمان ثابتان للمسافر غير الناوي لإقامة عشرة أيام ، وعليه : فليس للقائل بالمفهوم دعوى تبادر اللزوم ، وترتب الجزاء على الشرط بنحو الترتب على العلة المنحصرة ، إذ استعمالها في الترتب على العلة غير المنحصرة يكون مثل استعمالها في العلة المنحصرة بلا عناية ومجاز ، وبلا رعاية علاقة من العلائق المصححة للتجوز ، ومعه كيف تصح دعوى التبادر المزبور؟

وكيف كان ؛ فالغرض هو إنكار المفهوم لأجل المنع عن كون اللزوم بنحو الترتب على العلة ومن أنكر المفهوم للقضية الشرطية ينبغي له أن ينكر الأمر الثالث من الأمور الأربعة وهو : ترتب الجزاء على الشرط على نحو العلية يعني : لا يكون الترتب المذكور بالعلية ، ولا ينبغي أن ينكر اللزوم وأصل الترتب ، إذ هما أمران مسلمان لا يقبلان الإنكار.

١٤٩

ودعوى : تبادر اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة ـ مع كثرة استعمالها (١) في الترتب على نحو الترتب على الغير المنحصرة منها ؛ بل (٢) في مطلق اللزوم ـ بعيدة (٣) عهدتها (٤) على مدعيها ، كيف؟ ولا يرى في استعمالها فيهما (٥)

______________________________________________________

(١) أي : استعمال الجملة الشرطية «في الترتب على نحو الترتب على» العلة «الغير المنحصرة منها» أي : من العلة نحو : «إذا كانت الشمس طالعة فالغرفة مضيئة» ، إذ لإضاءة الغرفة أسباب عديدة غير طلوع الشمس.

قوله : «مع كثرة استعمالها» في الحقيقة تعليل لبعد هذه الدعوى.

(٢) أي : بل كثيرا ما تستعمل الجملة الشرطية في مطلق اللزوم. وبعبارة واضحة : بل كثرة استعمال الجملة الشرطية في مطلق اللزوم دون اللزوم الخاص ـ وهو الترتب بنحو العلية ـ ثابتة ، ومع هذه الكثرة لا تصح دعوى تبادر اللزوم والترتب بنحو العلة المنحصرة الذي هو أساس المفهوم.

(٣) خبر قوله : «ودعوى» ، ودفع لها ، وقد عرفت وجه بعدها في قوله : «مع كثرة استعمالها ..» إلخ.

(٤) أي : عهدة الدعوى المذكورة على من يدعيها ، فاللازم عليه : إما الجواب عن هذه الموارد ، وإما رفع اليد عن الدعوى المذكورة.

(٥) أي : كيف تصح دعوى تبادر العلة المنحصرة ، مع كون الاستعمال في مطلق اللزوم ، والترتب بنحو العلة المنحصرة على نهج واحد؟ إذ لو صح تبادر العلة المنحصرة من الجملة الشرطية لكان استعمالها في مطلق اللزوم استعمالا في غير الموضوع له ، وكان بالعناية والمجاز ، لأن التبادر علامة الوضع ، مع إنه ليس كذلك ، لما عرفت : من أن الاستعمال في مطلق اللزوم كالاستعمال في العلة المنحصرة على نهج واحد بلا عناية أصلا ، فاستعمال الجملة الشرطية في الموردين على نهج واحد كاشف عن عدم صحة دعوى التبادر.

فقوله : «كيف؟ ولا يرى ..» إلخ دليل على عدم صحة الدعوى المذكورة. نعم ؛ قد تستعمل الجملة الشرطية في اللزوم والترتب على نحو الترتب على العلة المنحصرة نحو : «كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» ، إذ طلوع الشمس علة منحصرة لوجود النهار.

وقد تستعمل في اللزوم والترتب على نحو الترتب على العلة غير المنحصرة نحو : «كلما كان هذا الشيء إنسانا كان حيوانا» ، فاللزوم والترتب بين الشرط ـ وهو كون الشيء إنسان ـ وبين الجزاء ـ وهو كون الشيء حيوانا ـ وإن كان ثابتا ولكن ليس الترتب

١٥٠

عناية ورعاية علاقة ، بل إنما تكون إرادته (١) كإرادة الترتب على العلة المنحصرة بلا عناية ، كما يظهر على من أمعن النظر وأجال البصر في موارد الاستعمالات ، وفي عدم الإلزام والأخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات والاحتجاجات.

وصحة الجواب بأنه لم يكن لكلامه مفهوم ، وعدم صحته (٢) لو كان له ظهور فيه معلوم.

وأما (٣) دعوى الدلالة بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل

______________________________________________________

على العلة المنحصرة ، بل على العلة غير المنحصرة ، إذ كون الشيء فرسا أيضا علة لكونه حيوانا.

وقد تستعمل في اللزوم الاتفاقي والترتب الاتفاقي نحو : «كلما كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا» ، ونستكشف من استعمالها في هذه الموارد على نهج واحد أنها وضعت لمطلق اللزوم بين الشرط والجزاء ، وعليه : فليس لها مفهوم في جميع موارد استعمالها بل لها مفهوم في بعض الموارد لوجود الأمور المقوّمة للمفهوم.

فالحق هو : التفصيل في المقام والقول بالمفهوم في بعض الموارد ، كما يظهر هذا التفصيل لمن أمعن النظر وأجال البصر في موارد استعمالات الجملة الشرطية. ومن هنا يظهر : أن القائل بالمفهوم لا يتمكن من إلزام الخصم بالمفهوم في مقام المخاصمات والمرافعات والاحتجاجات ، فلو كان لها مفهوم لألزم الخصم به ، وصح أن يقول في جواب الخصم : «ليس لكلامي مفهوم» ، فلو كان كلامه ظاهرا في المفهوم لما صح الجواب بنفي المفهوم.

(١) أي : تكون إرادة مطلق اللزوم بلا عناية ، مثل إرادة الترتب على العلة المنحصرة.

«كما يظهر على من أمعن النظر» والغرض من هذا الكلام هو : الاستشهاد على استعمال الجملة الشرطية في الجامع بين العلة المنحصرة ومطلق اللزوم ، وكون الاستعمال في كل منهما بلا عناية بوجهين ، أحدهما : موارد الاستعمالات ، والآخر : عدم الإلزام بمفهوم الجملة الشرطية في مقام المخاصمات ، ولو كان لها مفهوم لم يكن لعدم الإلزام المزبور وجه ، لأن المفهوم كالمنطوق حجة ، فإنكار المفهوم مخالف للحجة ، فلا يقبل إذ مخالفة الحجة غير مقبولة.

(٢) أي : عدم صحة الجواب بنفي المفهوم لو كان لكلامه ظهور في المفهوم ، فصحته تدل على عدم ظهور الكلام في المفهوم عند أبناء المحاورة.

(٣) إشارة إلى دليل آخر أمكن الاستدلال به للقول بالمفهوم ، وهو الانصراف.

١٥١

أفرادها وهو اللزوم بين العلة المنحصرة ومعلولها ففاسدة (١) جدا ، لعدم كون الأكملية موجبة للانصراف إلى الأكمل ، لا سيما مع كثرة الاستعمال في غيره ، كما لا يكاد يخفى.

______________________________________________________

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن اللزوم بين الشرط والجزاء على أقسام :

١ ـ أدنى ٢ ـ أوسط ٣ ـ أعلى وأكمل.

فالأول : هو اللزوم الاتفاقي ، كما بين نطق الإنسان ونهق الحمار في نحو : «إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا».

والثاني : هو اللزوم على نحو الترتب على العلة غير المنحصرة ، كما بين طلوع الشمس وضياء العالم في مثل : «إن كانت الشمس طالعة فالعالم مضيء».

والثالث : هو اللزوم على نحو الترتب على العلة المنحصرة ، كما بين طلوع الشمس ووجود النهار في مثل : «إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا».

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن إطلاق العلاقة اللزومية ـ التي تدل عليها القضية الشرطية ـ منصرف إلى القسم الثالث ، لأن الشيء إذا ذكر مطلقا ينصرف إلى الفرد الكامل ، فالأكملية توجب انصراف اللزوم إلى خصوص اللزوم الحاصل بين العلة المنحصرة ومعلولها ، ومن المعلوم : أن العلة المنحصرة تستتبع الانتفاء عند الانتفاء ، الذي يتقوم به المفهوم.

وكيف كان ؛ فثبت المفهوم للجملة الشرطية لأجل اللزوم بينهما على نحو الترتب على العلة المنحصرة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال للقول بالمفهوم.

(١) أي : «وأما دعوى الدلالة ...» إلخ ففاسدة جدا. وحاصل ما أفاده المصنف في فسادها وجوه :

١ ـ أن الموجب للانصراف المفيد للإطلاق هو أنس اللفظ بالمعنى الناشئ عن كثرة الاستعمال ، دون الأكملية ، فإنها لا توجب الانصراف المعتد به. هذا ما أشار إليه بقوله : «لعدم كون الأكملية موجبة للانصراف ..» إلخ.

٢ ـ أن الانصراف المزبور ـ بعد تسليم كون الأكملية موجبة له ـ ممنوع في خصوص المقام ، إذ يعتبر في الانصراف أن يكون الفرد المنصرف إليه هو الغالب من حيث الاستعمال ، وهو مفقود في محل الكلام ، إذ ليس الاستعمال في الفرد الأكمل أغلب من غيره وهو العلة الغير المنحصرة.

٣ ـ منع أكملية اللزوم الثابت بين العلة المنحصرة ومعلولها من اللزوم الثابت بين العلة

١٥٢

هذا مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما أكمل مما إذا لم تكن العلة بمنحصرة ، فإن الانحصار لا يوجب (١) أن يكون ذاك الربط الخاص الذي لا بد منه في تأثير العلة في معلولها آكد وأقوى.

______________________________________________________

الغير المنحصرة ومعلولها ، هذا ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما» أي : بين العلة المنحصرة ومعلولها «أكمل مما إذا لم تكن العلة بمنحصرة».

توضيح ذلك : على ـ ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣١٩» ـ : أن العلة المنحصرة عبارة عن السبب المجامع مع الشرط وعدم المانع مع عدم سبب آخر ، ومن المقرر في محله : تفاوت دخل أجزاء العلة في ترتب المعلول عليها ، ففي السبب خصوصية تقتضي وجود المعلول ، وليست هذه الخصوصية في غير السبب ، والشرط وعدم المانع دخيلان في تأثير السبب ، وإلا فوجود المعلول يستند إليه لا إلى سائر أجزاء العلة ، وتلك الخصوصية مقدمة لسببية السبب سواء وجد معه سائر أجزاء العلة أم لا ، وسواء كان هناك سبب آخر أم لا. فليس انحصار العلة من الذاتيات المنوّعة للسبب ، ولا من الصفات اللازمة له ـ كالضحك للإنسان ـ بل ينتزع الانحصار وعدمه من وجود سبب آخر وعدمه ، فليس الانحصار موجبا لأكملية الخصوصية التي يتقوم بها السبب ويستند إليها المسبب ، بل إن تحققت في المسبب أثر السبب آثره في وجود المعلول سواء كان منحصرا أم لا ، وإن لم تتحقق فيه : فلا يؤثر في وجوده أصلا ، بل الانحصار أجنبي عن سببية السبب.

ثم إن الأولى تقديم هذا الوجه على الوجه الأول بأن يقال : أما أولا : فلا أكملية ، وأما ثانيا : فبعد تسليمها لا توجب الانصراف فيرجع جواب المصنف عن الدعوى المذكورة إلى منعها صغرى وكبرى.

أما صغرى : فلعدم كون العلاقة بين العلة المنحصرة ومعلولها آكد وأقوى من العلاقة بين العلة الغير المنحصرة ومعلولها ، لما عرفت : من أن الانحصار ينتزع من عدم سبب آخر ، لا عن نفس الخصوصية المقوّمة للسبب حتى يكون اللزوم بين العلة المنحصرة ومعلولها أكمل من اللزوم بين العلة الغير المنحصرة ومعلولها.

وأما كبرى : فلعدم كون الأكملية موجبة للانصراف ، سيما مع كثرة الاستعمال في غير الأكمل أيضا ، كما في المقام ، ضرورة : كثرة استعمال الجملة الشرطية في غير العلة المنحصرة لو لم يكن بأكثر.

(١) أي : الانحصار لا يوجب أن يكون الربط بين العلة المنحصرة ومعلولها آكد وأقوى من الربط بين العلة الغير المنحصرة ومعلولها ، بل يمكن ادعاء : إن اللزوم لا يتصف بالكمال والنقص أصلا.

١٥٣

إن قلت : نعم (١) ، ولكنه قضية الإطلاق بمقدمات الحكمة ، كما أن قضية إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النفسي.

قلت : أولا : هذا (٢) فيما تمت هناك مقدمات الحكمة ، ولا تكاد تتم فيما هو مفاد

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الاستدلال لإثبات المفهوم بطريق آخر ، وهو : التمسك بالإطلاق.

وحاصل الاستدلال : أن ما تقدم من عدم دلالة الجملة الشرطية بالوضع على انحصار العلة في الشرط وإن كان صحيحا ، إلا إن مقتضى مقدمات الحكمة هو الانحصار ، نظير صيغة الأمر حيث إن مقتضى إطلاقها ـ ببركة مقدمات الحكمة ـ هو كون الوجوب نفسيا عينيا تعيينيا لا غيريا كفائيا تخييريا ، فكذلك في المقام مقتضى إطلاق العلاقة اللزومية ببركة مقدمات الحكمة كونها على نحو العلة المنحصرة لا غيرها ، بتقريب : أنه لو كان للشرط المذكور عدل لكان على المتكلم بيانه بأن يقول ـ بدل «إن جاءك زيد فأكرمه» : «إن جاءك زيد أو أرسل كتابا فأكرمه» ، فعدم بيان العدل ـ مع كونه في مقام البيان ـ يقتضي كون الشرط علة منحصرة ، فيستفاد المفهوم حينئذ من الإطلاق ، كما يستفاد من إطلاق صيغة الأمر كون الوجوب نفسيا ، لأن الوجوب الغيري يحتاج إلى مئونة بيان ، إذ كون الوجوب للغير يكون قيدا زائدا ، فلا بد من بيانه بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان.

والمتحصل : أن مقدمات الحكمة تقتضي انحصار العلة الذي يترتب عليه المفهوم.

(٢) أي : التمسك بالإطلاق لإثبات انحصار العلة في الشرط إنما يصح «فيما تمت هناك مقدمات الحكمة».

وحاصل الكلام في المقام : أن المصنف قد أجاب عن الاستدلال المذكور لإثبات المفهوم بوجهين :

الأول : عدم جريان مقدمات الحكمة في المقام ، توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن مقدمات الحكمة إنما تجري فيما يكون قابلا للإطلاق ، ولا ينعقد الإطلاق في معنى أدوات الشرط لأنها حروف ، وقد ثبت في محله : أن المعنى الحرفي جزئي غير قابل للتقييد ، فما يدل على الخصوصية المستتبعة للمفهوم هو «إن» الشرطية مثلا غير قابلة للتقييد ، فلا ينعقد الإطلاق ، لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد ـ على ما سيأتي إن شاء الله ـ هو تقابل العدم والملكة ، فالإطلاق دائما يمتنع بامتناع التقييد ، فمورد مقدمات الحكمة حينئذ هو : المعنى القابل للإطلاق والتقييد ، فينحصر موردها في المعاني الاسمية ، لأنها قابلة للإطلاق والتقييد.

١٥٤

الحرف ، كما هاهنا ، وإلا (١) لما كان معنى حرفيا كما يظهر وجهه بالتأمل.

وثانيا : تعينه (٢) من بين أنحائه بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا معيّن ، ومقايسته (٣) مع تعين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق ، فإن النفسي

______________________________________________________

(١) أي : وإن تمت مقدمات الحكمة ، وجرت في المعنى الحرفي لما كان معنى حرفيا ، وانقلب إلى المعنى الاسمي ، إذ مورد مقدمات الحكمة هو المعنى الملحوظ استقلالا ، لأن جريانها يستدعي لحاظ المعنى الذي تجري فيها مستقلا حتى يحكم عليه بالإطلاق ، ولحاظ الاستقلالية ينافي لحاظ الآلية المقوّمة للمعنى الحرفي.

(٢) أي : تعين اللزوم بين العلة المنحصرة ومعلولها من بين أنحاء اللزوم بالإطلاق بلا معيّن ،

وهذا هو الوجه الثاني الذي أجاب به المصنف عن إثبات المفهوم بمقدمات الحكمة ، وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ج ٣ ، ص ٣٢٢» ـ : أنه بعد تسليم جريانها في المعنى الحرفي ، والإغماض عن الجواب الأول لا يمكن أيضا تعيين العلة المنحصرة بمقدمات الحكمة ، وذلك لأن للعلة المنحصرة خصوصية في مقابل الخصوصيات الأخر ، وفرد للعلة المطلقة التي نسبتها إلى أفرادها نسبة واحدة. فإثبات إحدى الخصوصيات بالإطلاق الذي نسبته إلى جميع هذه الخصوصيات على حد سواء تعيين لأحد الأفراد المتساوية بلا معيّن ، وذلك لتساوي العلة المطلقة بالنسبة إلى جميع أفرادها من العلة المنحصرة وغيرها.

(٣) أي قياس تعين العلة المنحصرة بتعيين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الأمر قياس مع الفارق ، فيكون باطلا بالإجماع. فقوله : «ومقايسته» ناظر إلى قوله : «كما أن قضية إطلاق صيغة الأمر هو الوجوب النفسي».

وحاصل الفرق : أن الوجوب النفسي وجوب مطلق ، بمعنى : أن النفسي واجب مطلقا أي : سواء كان هناك واجب آخر أم لا. فلا مانع من تعيينه بالإطلاق ، هذا بخلاف الوجوب الغيري ، فإنه مشروط بوجوب الغير ، فيحتاج إلى مئونة زائدة مثل : «إذا وجبت الصلاة عليك فتوضأ».

أما العلة المنحصرة فليست كالوجوب النفسي ، لما عرفت من أنها خصوصية في مقابل الخصوصيات الأخر ـ يعني : أنها فرد متساوي لسائر أفرادها ـ ونسبة الإطلاق إلى جميع الخصوصيات واحدة من دون مرجح لخصوص العلة المنحصرة ، فلا يمكن إثباتها بالإطلاق ، فالفرق بينها وبين الوجوب النفسي ظاهر ، وقد أشار إليه بقوله : «فإن الوجوب النفسي هو الواجب على كل حال». فنتيجة الفرق : أنه لا مانع من إثبات الوجوب

١٥٥

هو الواجب على كل حال ، بخلاف الغيري فإنه واجب على تقدير دون تقدير ، فيحتاج بيانه إلى مئونة التقييد بما إذا وجب الغير ، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدمات الحكمة محمولا عليه (١) ، وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة ، ضرورة : أن كل واحد من أنحاء اللزوم والترتب محتاج في تعينه إلى القرينة مثل الآخر بلا تفاوت أصلا ، كما لا يخفى.

ثم إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط (٢) بتقريب : أنه لو لم يكن

______________________________________________________

النفسي بإطلاق صيغة الأمر ، هذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة في المقام ، إذ الإطلاق لا يقتضي كون العلة منحصرة حتى يحمل الإطلاق عليه.

والمتحصل : أن الظاهر من الجملة الشرطية هو : مطلق اللزوم والترتب ، الأعم من كونه على العلة المنحصرة وغير المنحصرة ، والإطلاق ظاهر في الجامع ، فكل منهما بالخصوص يحتاج إلى قرينة معينة بلا تفاوت بين العلة المنحصرة وغيرها.

(١) أي : على الوجوب النفسي.

(٢) هذا إشارة إلى التقريب الثاني من التمسك بالإطلاق للقول بالمفهوم.

وحاصل الكلام : أن المصنف لمّا فرغ من بيان دعوى تبادر اللزوم ، ودعوى الانصراف ، ومقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة لإثبات المفهوم أخذ بالاستدلال الرابع ـ وهو التقريب الثاني من التمسك بالإطلاق ـ وقال : إن مقتضى إطلاق الشرط في مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» هو علية الشرط ـ أعني : المجيء وحده ـ لوجوب الإكرام ، وهذا يستلزم الانتفاء عند الانتفاء ، لأنه لو لم يكن شرط وجوب الإكرام منحصرا في المجيء لما كان هذا الشرط علة وسببا للجزاء ، بل العلة والسبب هو مع غيره ، فكان على المولى بيانه وتقييده بذلك الغير.

والحال : أن إطلاق الشرط يقتضي كونه علة منحصرة لوجوب الإكرام ، والفرق بين الوجه الثالث وهذا الوجه الرابع هو : أن مصب الإطلاق في الوجه الثالث كان في معنى أدوات الشرط مثل : «إن وإذا» وغيرهما ، ومصبه هنا كان في نفس الشرط ، كالمجيء في المثال المتقدم ، فهذا الإطلاق إطلاق أحوالي للشرط بتقريب : أن المقدم إن كان علة منحصرة صح أن يقال : كلما تحقق المقدم ترتب عليه التالي ، وإن لم يكن كذلك لم يصح ذلك ، ففي المثال المذكور : إن لم يكن شرط وجوب الإكرام منحصرا في المجيء ، بل كان له شرط آخر كالسلام كان الجامع بين الشرطين هو المؤثر في وجود التالي ، مع إن إطلاق الشرط ـ أعني : المجيء ـ من حيث الأحوال يقتضي أن يكون في

١٥٦

بمنحصر يلزم تقييده ، ضرورة : أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده ، وقضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا (١).

وفيه (٢) : إنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك ، إلا إنه من المعلوم ندرة تحققه لو لم نقل بعدم اتفاقه.

______________________________________________________

حال انفراده وعدم انضمامه إلى غيره مؤثرا ، كما أشار إليه بقوله : «وقضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا» أي : مقتضى إطلاق الشرط تأثيره وحده ، سواء كان قبله أو بعده أو معه شيء آخر أم لا. فلو لم يكن هذا الإطلاق مرادا للمتكلم لكان عليه البيان والتنبيه على خلافه.

(١) أي : سواء كان قبله أو بعده أو معه شيء آخر أم لا.

والمتحصل : أن إطلاق الشرط من حيث الأحوال دليل على حصر وجوب الإكرام في المثال المتقدم على المجيء ، فينتفي بانتفائه ، فهذا الوجه أيضا من القرائن العامة على ثبوت المفهوم.

(٢) أجاب المصنف عن هذا الاستدلال بقوله : «وفيه : إنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم» ، وهو الانتفاء عند الانتفاء ، لأن الإطلاق ـ بالمعنى المزبور ـ لو تم لدل على المفهوم قطعا ، لكن الكلام في تماميته.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن إطلاق الشرط ـ كالمجيء في المثال المذكور ـ يتصور على وجهين :

أحدهما : الإطلاق في مقام حدود العلة ، فيرجع إليه عند الشك والتردد في أنها واحدة أو أكثر ، ويسمى بالإطلاق الأحوالي والمقامي.

وثانيهما : الإطلاق في مقام بيان أنه علة تامة أو بعض العلة ، بحيث يحتاج إلى انضمام أمر آخر متقدما أو مقارنا ، ويسمى بالإطلاق اللفظي ، كإطلاق الرقبة في «أعتق رقبة».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الإطلاق الذي لو تم لدل على المفهوم وينفع المستدل هو القسم الأول ، إلّا إنه قليل جدا ، إذ الغالب كون المتكلم في مقام الحاجة إلى الضميمة وعدمها ، لا في مقام حصر العلة وعدمه ، لأن إحراز المتكلم في مقام بيان انحصار الشرط وترتب الجزاء عليه فقط مشكل جدا ، إذ الظاهر أنه في مقام كون الجزاء مترتبا على الشرط من دون بيان كون الترتب عليه بنحو الترتب على العلة المنحصرة.

والمتحصل : أنه لو فرض في مورد تمامية الإطلاق فلا مجال لإنكار المفهوم فيه.

١٥٧

فتلخص (١) بما ذكرناه : أنه لم ينهض دليل على وضع مثل «إن» على تلك الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء ، ولم تقم عليها قرينة عامة. أما قيامها أحيانا كانت مقدمات الحكمة أو غيرها مما لا يكاد ينكر ، فلا يجدي القائل بالمفهوم أنه قضية الإطلاق في مقام من باب الاتفاق.

وأما توهم (٢) : أنه قضية إطلاق الشرط ، بتقريب : أن مقتضاه تعينه ، كما أن مقتضى إطلاق الأمر تعين الوجوب.

______________________________________________________

(١) أي : فتلخص مما ذكرناه من ردّ أدلة إثبات المفهوم للجملة الشرطية : أنه لم يقم دليل متين على وضع أدوات الشرط مثل : «إن» و «لو» الشرطيتين وغيرهما للخصوصية المستلزمة لانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، إذ هي وضعت لمطلق السببية واللزوم ، لا لخصوص السببية المنحصرة ، ولم تقم على العلة المنحصرة قرينة عامة ومقدمات الحكمة والانصراف من إطلاقها إلى الفرد الكامل وهو ترتب الجزاء على الشرط ، على نحو الترتب على العلة المنحصرة منتف جدا.

أما قيام القرينة العامة أحيانا سواء كانت مقدمات الحكمة أم غيرها كالانصراف : وإن كان غير قابل للإنكار ، ولكنه لا يجدي في إثبات المفهوم في جميع القضايا الشرطية كما هو المدعى ، لأن المثبت للمفهوم كذلك إما وضع أدوات الشرط للعلة المنحصرة المستتبعة للمفهوم ، وإما القرينة العامة بأنحائها ـ الثلاثة من الانصراف ، والإطلاق الناشئ من جريان مقدمات الحكمة في نفس أدوات الشرط ، وإن كانت موضوعة لمطلق الربط بين الشرط والجزاء ، والإطلاق الجاري في حالات الشرط ـ فهي غير موجودة في جميع الموارد ، ووجودها في بعض الموارد غير مفيد لإثبات ما هو المقصود في المقام.

والمتحصل : أن قيام القرينة العامة النادرة أحيانا في بعض الموارد لا ينفع بحال القائل بالمفهوم في جميع موارد استعمال الجملة الشرطية ، لأنه من الأصولي ، والأصولي يبحث عن المسائل الأصولية على نحو الكلي الجاري في جميع الموارد.

(٢) أي : هذا أيضا تمسك بإطلاق الشرط لإثبات تعينه في العلية والتأثير ، ونفي العدل عنه كما أشار إليه بقوله : «أن مقتضاه تعينه» أي : مقتضى الإطلاق تعين الشرط في التأثير ، ولازم تعينه هو الانتفاء عند الانتفاء ، فالتمسك بإطلاق الشرط لإثبات تعينه في التأثير ونفي العدل نظير التمسك بإطلاق صيغة الأمر لإثبات الوجوب التعييني ونفي العدل عنه.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الإطلاق في المقام يمكن أن يكون نافيا للانضمام الذي يقتضيه العطف بالواو ، ويعبر عنه بالإطلاق الواوي أي : لو كان شيء

١٥٨

ففيه : أن التعين ليس في الشرط نحوا يغاير نحوه فيما إذا كان متعددا ، كما كان في الوجوب كذلك ، وكان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو آخر لا بد في التخييري منهما من العدل ، وهذا بخلاف الشرط فإنه ـ واحدا كان أو متعددا ـ

______________________________________________________

دخيلا في تأثير الشرط لكان معطوفا عليه بالواو مثل : «إن جاءك زيد وحفظ درسه فأكرمه».

ويمكن أن يكون الإطلاق نافيا للعدل الذي يقتضيه العطف ب «أو» ويعبر عنه بالإطلاق الأوي. أي : لو كان شيء آخر أيضا علّة لتحقق الجزاء لكان معطوفا على الشرط ب «أو» نحو : «إن جاءك زيد أو سلم عليك فأكرمه». والفرق بين الإطلاق هنا والإطلاق السابق الذي تقدم في قوله : «ربما يتمسك ..» إلخ هو : أن الإطلاق السابق انضمامي ، والإطلاق هنا عدلي ، فيكون مثبتا لتعين الشرط في العلية والمؤثرية ، ونافيا لوجود عدل للشرط ، نظير إطلاق صيغة الأمر في كونه معينا للوجوب التعييني ، فإن الوجوب التخييري وإن كان من أقسام الوجوب إلا إنه محتاج إلى بيان زائد على أصل الوجوب ، كأن يقول : «صم أو أطعم». فالإطلاق في المقام كإطلاق صيغة الأمر مثبت للتعيين والانحصار ، وناف للعدل.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن مقتضى الإطلاق هو : عدم وجود عدل للشرط مؤثر وحده في تحقق الجزاء ، ولو كان لعطفه المتكلم ب «أو» ويقول : «إن جاءك زيد أو سلم عليك فأكرمه» ، فمن الإطلاق وعدم العطف نستكشف كون الشرط علة منحصرة للجزاء. غاية الأمر : أن الإطلاق العدلي مترتب على الإطلاق الانضمامي بمعنى : أن الإطلاق الانضمامي ينفي الانضمام ويثبت الاستقلال في العلية. وهذا الإطلاق ينفي العدل ويثبت بأن العلة المستقلة واحدة ، وليس له عدل أصلا.

وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا التوهم هو : فساد قياس العلة المنحصرة بالوجوب التعييني ، لكونه مع الفارق.

وحاصل الفرق : أن الوجوب التعييني مغاير للوجوب التخييري ثبوتا وإثباتا. أما مغايرتهما ثبوتا : فلأن مصلحة الوجوب التعييني غير مصلحة الوجوب التخييري ، حيث إن المصلحة في الوجوب التعييني قائمة بنفس الواجب ، وفي الوجوب التخييري قائمة بالجامع بين الأمرين مثل : «صم أو أعتق» ، أو قائمة بكل منهما مع عدم إمكان الجمع بين المصلحتين ، لسقوط الوجوب بإتيان أحد الشيئين اللذين تقوم بهما المصلحتان.

وأما مغايرتهما إثباتا : فلاحتياج الوجوب التخييري إلى بيان العدل بمثل كلمة «أو»

١٥٩

كان نحوه واحدا. ودخله (١) في المشروط بنحو واحد لا تتفاوت الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الإطلاق إثباتا ، وكان الإطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل لاحتياج (٢)

______________________________________________________

كأن يقول : «صم أو أعتق» بخلاف التعييني فإنه لا يحتاج إلى بيان زائد على بيان أصل الوجوب مثل : «صل» ، ولما كان الإطلاق أمرا عدميا ، فمقتضاه : عدم جعل العدل ، وليس الوجوب التعييني إلا ذلك وهذا بخلاف العلة المنحصرة وغيرها ، فإنه لا تفاوت بينهما في التأثير في المعلول ، لأن صفة الشرطية منتزعة عن خصوصية ذاتية محضة ، والذاتيات لا تقبل التخيير ، لأنها لا تتخلف ، فالشرطية قائمة بالشرط الواحد ، والمتعدد على وزان واحد ، لا أنها قائمة بالمتعدد تخييرا ، وبالواحد تعيينا حتى يكون الإطلاق مقتضيا للثاني ، كإطلاق صيغة الأمر.

وكيف كان ؛ فاتضح فساد قياس العلة المنحصرة وغيرها بالوجوب التعييني والتخييري بعد ما ذكرناه من الفرق.

والمتحصل : أنه ليست الشرطية في الشرط المتحد مغايرة للشرطية في الشرط المتعدد ، بل كلتاهما على نحو واحد كما أشار إليه بقوله : «وليس في الشرط نحوا يغاير نحوه» ، كما كان في الوجوب كذلك أي : نحوا مغايرا ، وكان الوجوب في كل من الواجب التعييني والتخييري متعلقا بالواجب بنحو يغاير تعلق الوجوب بالواجب بنحو آخر ، بمعنى : أنه لا بد في الوجوب التخييري منهما من العدل ، دون الوجوب التعييني ، فإن الوجوب فيه يتعلق بالواجب بغير عدل.

(١) أي : ودخل الشرط في المشروط بنحو واحد لا تتفاوت الحال في النحو الواحد. أو المتعدد ثبوتا ، فلا تتفاوت الحال إثباتا أيضا لتفرع الإثبات على الثبوت وتبعيته له ، فلا يكون للشرطية سنخان كالوجوب كي يكون أحدهما موافقا للإطلاق أي : ما لا يكون له العدل كالوجوب التعييني يثبت بالإطلاق ، إذ فرق واضح بين الوجوب التعييني والتخييري ، وبين الشرط الواحد والمتعدد ، إذ الأولان سنخان متغايران من الوجوب ثبوتا وإثباتا.

ولذا يمكن إثبات التعيينية بالإطلاق دون الأخيرين ، لكون الشرطية فيهما بنحو واحد ثبوتا وإثباتا ، بحيث يكون الإطلاق بالنسبة إليهما على حد سواء. فلا يمكن إثبات العلة المنحصرة بإطلاق الشرط ، ويمكن إثبات الوجوب التعييني بإطلاق صيغة الأمر ، فقياس الشرط بإطلاق صيغة الأمر يكون قياسا مع الفارق.

(٢) تعليل لإثبات الإطلاق للوجوب التعييني. وحاصله : أن ما له العدل ـ كالوجوب التخييري ـ محتاج إلى زيادة مئونة ثبوتا وإثباتا على أصل الوجوب ، ومن المعلوم : أن

١٦٠