دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

المقام الثاني : في المعاملات ، ونخبة القول : أن النهي الدّال على حرمتها لا يقتضي الفساد ؛ لعدم الملازمة فيها لغة ولا عرفا بين حرمتها وفسادها (١) أصلا ، كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة ، أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب ، أو بالتسبّب بها إليه وإن لم يكن السبب ولا المسبّب ـ بما هو فعل من الأفعال ـ بحرام ،

______________________________________________________

في عدم اقتضاء النهي الفساد في المعاملات

(١) أي : فساد المعاملة. ومعنى فسادها : هو عدم ترتّب الأثر المقصود منها كالملكية والزوجية ونحوهما عليها ، وصحّتها عبارة عن ترتّب الأثر المزبور عليها ، ومن المعلوم : عدم المنافاة بين حرمة المعاملة وبين ترتّب الأثر المقصود عليها عقلا ، هذا بخلاف حرمة العبادة ؛ حيث إنّها لا تجتمع مع الصحة ، لعدم صلاحية المبغوض للمقربيّة ، فلا يجدي قصد الأمر المغلوب بالنهي في نظر المولى ، كما إنه لا يدل النهي لغة ولا عرفا على فساد المعاملة ؛ لوضوح : أن مدلول النهي هو التحريم ، والفساد ـ أعني : عدم ترتّب الأثر ـ ليس مدلولا مطابقيا ولا التزاميا له أصلا ، فالدلالة على الفساد بأنحائها مفقودة.

وكيف كان ؛ فلا ملازمة لغة ولا عرفا بين حرمة المعاملة وفسادها ؛ سواء كانت الحرمة متعلقة بنفس السبب بما هو فعل مباشري كالإيجاب والقبول في وقت النداء ، على نحو كان المبغوض هو نفس الإيجاب والقبول ، من دون أن يكون الأمر المترتب عليهما مبغوضا شرعا ، أو كانت الحرمة متعلقة بالمسبّب بما هو فعل تسبيبي على نحو كان المبغوض شرعا هو نفس الأمر المترتّب على السبب دون السبب بنفسه ؛ كتمليك المسلم من الكافر الحاصل بهذا السبب ، أو المصحف منه فإنّه فعل تسبيبي حاصل بالسبب الخاص ، فالسبب وإن كان حراما شرعا غيريا ولكن المبغوض النفسي هو نفس تمليك المسلم أو المصحف من الكافر الحاصل بهذا السبب الخاص كما أشار إليه بقوله : «أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبيب» حيث إن النهي في هذا القسم من البيع كبيع المسلم والمصحف من الكافر قد تعلق بالمضمون ، وهو تمليكهما من الكافر لا بالمعاملة بما هي فعل مباشري.

أو كانت الحرمة متعلقة بالتسبّب بسبب خاص ؛ كما إذا نهى عن تمليك الزيادة بالبيع الربوي على نحو كان المبغوض هو التمليك بهذا السبب الخاص ، فلو حصل التمليك بسبب آخر غير البيع الربوي كالهبة ونحوها لم يبغضه الشارع.

وبعبارة أخرى : أن نفس إنشاء البيع الربوي ، وكذا تملّك الزيادة ليس منهيا عنه ؛ لجواز تملّكها بناقل شرعي كالهبة ، بل المنهي عنه هو التسبّب بالبيع لتملك الزيادة.

١٢١

وإنّما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها (١) ، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع ، أو بيع شيء.

نعم (٢) ؛ لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها ، كما أن

______________________________________________________

(١) أي : مع صحة المعاملة ، بمعنى : أن الشارع نهى عن شيء ، وكان ذلك بحيث يلزم من تحريمه فساد المعاملة ، ولا يعقل صحة المعاملة مع تحريم ذلك الشيء لأجل التلازم الواقع بين حرمته وفساد المعاملة ؛ إمّا تلازما حقيقيا أو تلازما عرفيا أو تلازما شرعيا. فالنهي حينئذ يدل على الفساد بضميمة ذلك التلازم المعلوم خارجا «مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع» كقولهم «عليهم‌السلام» : «ثمن العذرة «سحت» (١) ، وقولهم : «عليهم‌السلام» : «ما ثمن الجارية المغنّية إلّا كثمن الكلب» (٢) ، ونحو ذلك ، «أو» النهي عن «بيع شيء» كقوله : «عليه‌السلام» : «لا تبع ما ليس عندك» (٣).

وكيف كان ؛ فالوجه في دلالة هذا القسم من النهي على الفساد أنّه لو كان بيع العذرة والجارية المغنّية والبيع الربوي صحيحا لكان ثمنه ملكا للبائع ومثمنه ملكا للمشتري ، للتلازم بين الصحة والمملوكية ويترتّب عليه جواز التصرف ، وحيث علم من النهي عدم جواز التصرف كشف عن فساد البيع.

فتحصل من جميع ذلك : إن النهي على خمسة أقسام :

١ ـ النهي عن السبب ، ٢ ـ النهي عن المسبّب ، ٣ ـ النهي عن جعل شيء خاص سببا لمسبّب خاص ، ٤ ـ النهي الدال على حرمة الثمن ، ٥ ـ النهي الدّال على حرمة المثمن.

والثلاثة الأولى لا تدل على الفساد ، والقسمان الأخيران يدلان على الفساد.

(٢) هذا استدراك على نفي الملازمة لغة وعرفا بين الحرمة والفساد في باب المعاملات إلّا فيما إذا كان النهي دالا على حرمة الثمن أو المثمن كما عرفت. وحاصله : إنّه لا يبعد دعوى كون النهي عن المعاملة ظاهرا في الإرشاد إلى فسادها ، لنقص شرط أو خبر ، أو

__________________

(١) التهذيب ، ج ٦ ، ص ٣٧٢ ، ح ٢٠١.

(٢) الكافي ، ج ٥ ، ص ١٢٠ ، ح ٤ / التهذيب ، ج ٦ ، ص ٣٥٧ ، ح ١٤٠ / الاستبصار ، ج ٣ ، ص ٦١ ، ح ٢.

(٣) الرواية في التهذيب ، ج ٧ ، ص ٢٣٢ ، ح ٢٥ هكذا : عن سليمان بن صالح ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «نهى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن سلف ، وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن».

وكذلك في الفقيه ، ج ٤ ، ص ٣ ، ح ٤٩٦٨ عن الحسين بن زيد في حديث المناهي الطويل.

١٢٢

الأمر بها يكون ظاهرا في الإرشاد إلى صحّتها ؛ من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها كما لا يخفى.

لكنّه (١) في المعاملات بمعنى العقود والإيقاعات ، لا المعاملات (٢) بالمعنى الأعم

______________________________________________________

وجود مانع بلا دلالة على حكم تكليفيّ. كما أن الأمر بها ظاهر في الإرشاد إلى الصحة بلا دلالة على حكم تكليفي.

أما وجه نفي البعد عن ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها ـ لا في الحرمة التكليفية الّتي هي ظهوره الأوّلي ـ فلأنّ الغرض الأصلي في المعاملات هو بيان صحتها وفسادها ، ولذا يكون الأمر بها إرشادا إلى صحتها من دون دلالته على وجوبها أو استحبابها ، فلا يدل مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إلّا على صحّة العقود لا على وجوبها أو استحبابها ، فالنهي عن المعاملة نظير نهي الطبيب ظاهر في الإرشاد إلى ما يضر المريض ، وأمره ظاهر في الإرشاد إلى ما ينفعه من رفع مرضه وعود صحته. ونظير النواهي الشرعية لإفادة المانعية في العبادات ، كالنهي عن التكتّف ، وقول آمين في الصلاة.

وكيف كان ؛ فالنهي عن المعاملة نظير الأمر الواقع عقيب الحظر ، فكما إن الأمر حينئذ لا يدل على الوجوب ؛ بل على رفع المنع ، فكذلك النهي عنها لا يدل إلّا على رفع الصحة الّتي تقتضيها أدلة الإمضاء مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

(١) أي : لكن نفي البعد عن ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد إنّما يكون في المعاملات بالمعنى الأخص وهي العقود والإيقاعات ، لا بمعناها الأعمّ ، وهو ما لا يعتبر فيه قصد القربة ، لو أمر به كان أمره توصليا كالأمر بتطهير الثوب والبدن ، فإنّ النهي عن المعاملة بالمعنى الأعم يحمل على ما تقتضيه القرينة الخارجية إن كانت ، وإلّا فيحمل على معناه الحقيقي وهو الحرمة ، لكنّها لا تدل على الفساد ؛ لما مرّ من عدم الملازمة بين الحرمة والفساد لا لغة ولا عرفا.

(٢) أي : ليست النواهي في المعاملات التي تقابل العبادات ظاهرة في الإرشاد كما أن الأوامر فيها توصلية ؛ إذ لا يعتبر فيها قصد القربة فإذا لم يكن الظهور للنواهي في الإرشاد فيها ، فلا بدّ من الرجوع إلى القرائن في خصوص المقامات ، فيؤخذ بمفادها إمّا الإرشادية وإمّا المولوية. وعلى تقدير فقدها : فلا محيص عن الأخذ بمقتضى ظاهر صيغة النهي من حرمة المنهي عنه ، وقد عرفت : إنها لا تستلزم للفساد في المعاملات لا لغة ولا عرفا.

فالمتحصل : هو عدم ظهور النهي في المعاملات بالمعنى الأعم في الإرشاد إلى الفساد. وقال المصنف مفرّعا عليه : «فالمعوّل هو : ملاحظة القرائن ...» إلخ. فقوله : «فالمعول» متفرع

١٢٣

المقابل للعبادات ، فالمعوّل هو ملاحظة القرائن في خصوص المقامات ، ومع عدمها لا محيص عن الأخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة ، وقد عرفت أنّها (١) غير مستتبعة للفساد لا لغة ولا عرفا.

نعم (٢) ؛ ربّما يتوهم استتباعها له شرعا من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه.

منها : ما رواه في الكافي (*) والفقيه (**) عن زرارة عن الباقر «عليه‌السلام» : سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده ، فقال : «ذلك إلى سيّده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما» ، قلت : ـ أصلحك الله تعالى ـ إنّ حكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر «عليه‌السلام» : «إنّه لم يعص الله ، إنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز» ، حيث دل بظاهره على أن النكاح لو كان مما حرّمه الله تعالى عليه كان فاسدا.

______________________________________________________

على عدم ظهور النهي في المعاملات بالمعنى الأعم في الإرشاد إلى الفساد ، فحينئذ إذا كانت هناك قرينة على إرادة معنى خاص منه ، فلا إشكال في لزوم حمل النهي عليه ، وإلّا فلا بدّ من إرادة ظاهره وهو الحرمة.

كما أشار إليه بقوله : «ومع عدمها لا محيص عن الأخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة». وكلمة «من» في قوله : «من الحرمة» بيان للموصول في قوله : «بما هو».

(١) أي : قد عرفت : أن الحرمة لا تستتبع الفساد لا لغة ولا عرفا ؛ فحرمة التصرف في الماء المغصوب بتطهير الثوب والبدن به لا تدل على الفساد أي : بقاء النجاسة.

(٢) استدراك على عدم استتباع الحرمة للفساد لغة وعرفا ، لكنّها تستتبعه شرعا لأجل الأخبار الواردة في هذا الباب منها : ما في المتن بتقريب : أن تعليل عدم فساد نكاح العبد الفاقد لإذن سيّده ب «إنه لم يعص الله» ، يقتضي فساد كل ما يكون عصيانا له «تبارك وتعالى» ، فالحرمة التكليفية تقتضي الفساد ، لأنّ عدم فساد النكاح في الرواية إنّما هو لأجل عدم كونه معصية له «تبارك وتعالى» ؛ إذ مفهوم «إنه لم يعص الله إنّما عصى سيّده» هو فساد النكاح إذا كان مما حرّمه تعالى.

وهناك بعض الروايات الأخرى في نحو هذا الحكم.

وكيف كان ؛ فالمستفاد من الروايات : أن الحرمة الإلهية تستلزم الفساد.

__________________

(*) الكافي ، ج ٥ ، ص ٤٧٨ ، ح ٣ / التهذيب ، ج ٧ ، ص ٣٥١ ، ح ٦٣.

(**) الفقيه ، ج ٣ ، ص ٥٤١ ، ح ٤٨٦٢.

١٢٤

ولا يخفى (١) : أنّ الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا : أنّ النكاح ليس ممّا لم يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسدا ، ومن المعلوم : استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) أي : لا يخفى أن الاستدلال بنحو هذه الرواية للمطلب فاسد صغرى وكبرى ، أما صغرى : فلعدم دلالة هذه الرواية على المدعى ، وهو دلالة النهي على الفساد لأجل الملازمة بين الحرمة والفساد ، والفساد في مورد الرواية ليس لأجل نهي الشارع عن النكاح ؛ بل لأجل عدم إمضائه وعدم تشريعه. واستتباع العصيان بمعنى : عدم الإمضاء والتشريع للفساد ، والبطلان يكون من البديهيات ، ولا ربط له بالعصيان المبحوث عنه وهو إتيان ما نهى عنه الشارع من المعاملة.

وأما كبرى : فلأنه ـ مع فرض الدلالة ـ لا يثبت بمثل هذه الموارد الجزئية كبرى كلية في جميع أبواب العقود والإيقاعات وسائر التوصليات ؛ على تلازم النهي والفساد شرعا.

وحاصل الجواب عن الاستدلال بالرواية : أن المعصية ـ وهي مخالفة الحرمة الّتي هي المقصودة في المقام ـ أجنبيّة عن المعصية المرادة من هذه الروايات ، توضيحه : يتوقف على مقدمة وهي : أنّ المعصية على قسمين :

الأول : المعصية التابعة لعدم إمضاء الشارع وعدم إجازته ، مثلا : لو لم يجز الله تعالى ولم يمض جعل العقد المعلق على شرط سببا لحلية الفرج ، ثم جعل شخص ذلك العقد سببا للحلية كان عاصيا له تعالى.

الثاني : المعصية التابعة للنهي ، مثلا : لو نهى الله تعالى عن المعاملة الربوية ، ثم عامل شخص بهذه المعاملة كان عاصيا له تعالى.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنّه ليس المراد بالمعصية في الجملتين الموجبة والسالبة ـ وهما قوله «عليه‌السلام» : «إنه لم يعص الله وإنّما عصى سيّده» ـ مخالفة الحرمة التكليفية حتى يصحّ الاستدلال به ويقال بدلالة النهي على الفساد ؛ إذ لو كان المراد بها الحرمة التكليفية لم يستقم معنى الحديث ؛ إذ لا إشكال في كون مخالفة السيّد عصيانا له «تبارك وتعالى» ؛ ضرورة : وجوب إطاعة العبد للمولى شرعا ، فهو حكم إلهي ، فمخالفته مخالفة لله تعالى وعصيان له ، مع إنّ الإمام «عليه‌السلام» قال : «لم يعص الله» ، فنفي المعصية عن مخالفته لسيّده قرينة على ما ذكرنا من عدم كون المراد بالمعصية مخالفة الحرمة التكليفية ، وعلى إن العبد لم يرتكب حراما. وذلك أن ما صدر منه لم يكن مما لم يمضه الشارع ولم يشرعه ، كتزويج المحارم أو التزويج في العدة ؛ بل كان مما أمضاه وأجازه.

١٢٥

ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله تعالى ولم يأذن به ، كما أطلق عليه (١) بمجرد عدم إذن السيّد فيه أنّه معصية.

وبالجملة : لو لم يكن (٢) ظاهرا في ذلك لما كان ظاهرا فيما توهم. وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب (٣) فراجع وتأمل.

تذنيب (٤):

حكي عن أبي حنيفة والشيباني : دلالة النهي على الصحة ، وعن الفخر : أنه وافقهما في ذلك.

______________________________________________________

فالمراد بالمعصية المنفية : هو القسم الأوّل ، وهو خارج عن محلّ النزاع ؛ إذ لا نزاع في فساد ما لم يجزه الشارع ولم يمضه.

والحاصل : أن الرواية تدل بمفهومها على أن العصيان الناشئ عن عدم الإجازة موجب للفساد ، ولا تدل على محل البحث وهو أنّ العصيان الناشئ عن النهي موجب للفساد.

(١) أي : على العمل يعني : كما أطلق على العمل بأنّه معصية إذا كان من دون إذن السيّد.

(٢) أي : لو لم يكن هذا الحديث المذكور في المتن ظاهرا في عمل لم يمضه الله تعالى «لما كان ظاهرا فيما توهم» من دلالة النهي على الفساد.

(٣) أي : سائر الأخبار الواردة في هذا الباب أيضا لا تدل على إفادة النهي للفساد.

في دلالة النهي على صحة متعلقه

(٤) تذنيب : في دفع توهم دلالة النهي عن المعاملات على الصحّة مطلقا.

«حكي عن أبي حنيفة» وتلميذه محمد بن الحسن الشيباني «دلالة النهي على الصحة ، وعن الفخر» أي : فخر المحققين نجل العلامة الحلّي «قدس الله سرّهما» «أنّه وافقهما في ذلك» ؛ لأن النهي تكليف ، والتكليف مشروط بالقدرة ؛ بمعنى : أن يكون كل من الفعل والترك تحت قدرة المكلف ، إذ كل حكم تكليفي لا يتعلق إلّا بما هو مقدور للمكلف.

ثم لا يكون متعلّق النهي مقدورا إلّا إذا كان بجميع أجزائه وشرائطه الّتي هي مورد النهي مقدورا ، لو فرض أن المكلف خالف وأتى بالمنهي عنه كذلك ـ أي : بجميع أجزائه وشرائطه يترتب عليه الأثر بالضرورة ، وهذا هو معنى كونه صحيحا. وحينئذ فالنهي عن الشيء يدل على صحته لا محالة.

١٢٦

والتحقيق : أنه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبّب أو التسبيب ، لاعتبار (١) القدرة في متعلّق النهي كالأمر ، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة.

وأمّا إذا كان عن السّبب : فلا (٢) ، لكونه مقدورا وإن لم يكن صحيحا. نعم ؛ قد

______________________________________________________

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب دلالة النهي على الصحة ؛ ولكن المصنف اختار التفصيل في المقام حيث قال : «والتحقيق أنّه في المعاملات ...» إلخ.

وحاصل الكلام في المقام : أنّ المصنف قال بدلالة النهي على الصحة في مورد من العبادات ، وفي موردين من المعاملات.

أحدهما : تعلق النهي بالمسبب ؛ كالنهي عن بيع المصحف من الكافر ، فلو لم يكن قادرا على التمليك ـ بأن يوجد البيع بحيث يترتّب الأثر أعني : الملكية ـ لما صحّ النهي عنه.

ثانيهما : تعلق النهي بالتسبّب كالظهار ، فإنّ التسبّب به إلى الفراق بين الزوجين مبغوض ، بخلاف التسبّب بالطلاق إلى البينونة بينهما ، فإن لم يترتّب الفراق على الظهار كان النهي عنه لغوا ؛ إذ المفروض : كون النهي إنما هو بلحاظ ترتّب الأثر عليه ، لا بلحاظ كونه فعلا مباشريا كالبيع وقت النداء.

ففي هذين الموردين من المعاملات لا محيص عن دلالة النهي على الصحة ؛ لأن المنهي عنه هو المؤثر الذي يتوقف تأثيره على كونه صحيحا ؛ إذ الفاسد لا يصلح للسببية.

أما دلالة النهي على الصحة في مورد من العبادات : فهو فيما إذا كانت العبادة ذاتية ـ أي : غير متوقفة على قصد القربة ـ كالسجود مثلا ، فإنّ النهي عن هذا القسم من العبادات يدل على الصحة ، كما في المعاملات ، لأنّ متعلقه مقدور للمكلف ، لقدرته على إيجاد السجود مثلا وعدمه ، فلو فرض أنه أتى بالسجود المنهي عنه لكانت عبادة صحيحة ؛ إذ لا تتوقف عباديّته على الأمر به حتى لا يمكن إيجاده مع النهي عنه.

(١) تعليل لدلالة النهي على الصحة في الموردين المذكورين.

(٢) أي : وأما إذا كان النهي عن السبب فلا يدل على الصحة ، وهذا إشارة إلى القسم الثالث من أقسام المعاملة.

والغرض من هذا الكلام : أنّ النهي عن المعاملة إن كان عن السبب بما أنّه فعل مباشري ـ كالبيع وقت النداء ، حيث إن المنهي عنه هو العقد المفوّت لصلاة الجمعة لا العقد المؤثر في الملكية ـ فلا يدل على الصحة ؛ إذ المبغوض هو إيجاد ذات السبب ، لكونه من أفعاله المباشرية لا لكونه مؤثرا في الملكية وسببا لها ، فالملحوظ هو المعنى

١٢٧

عرفت : أن النهي عنه (١) لا ينافيها.

أمّا العبادات (٢) : فما كان منها عبادة ذاتية ـ كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى ـ فمع النهي عنه يكون مقدورا ، كما إذا كان مأمورا به وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأمورا به ، فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد ، وهو محال.

______________________________________________________

المصدري ؛ لا معنى اسم المصدر ، ومن المعلوم : أنّ المنهي عنه ـ وهو إيجاد ذات السبب مع الغضّ عن سببيّته وتأثيره في المسبب ـ مقدور للمكلف من دون توقف للقدرة على صحته. وهذا ما أشار إليه بقوله : «لكونه مقدورا وإن لم يكن صحيحا». وهذا تعليل لعدم دلالة النهي عن السبب على الصحة. وحاصل التعليل : لكون السبب مقدورا وإن لم يكن صحيحا.

(١) يعني : أن النهي عن السبب لا ينافي صحته ، كما تقدم في البيع وقت النداء فإنه صحيح مع كونه منهيا عنه.

فالحاصل : أن النهي عن السبب يجتمع مع كل من الصحة والفساد ، فيكون السبب المنهي عنه مقدورا مطلقا سواء كان صحيحا أو فاسدا.

(٢) لمّا فرغ المصنف من بحث المعاملات شرع في بحث العبادات والنهي عنها.

وحاصل ما أفاده في النهي عنها : هو أن العبادات على قسمين :

الأول : ما تكون عباديته ذاتية ، مع قطع النظر عن الأمر بها ، ومن غير توقف عباديتها على قصد القربة ؛ نحو : السجود والخشوع والخضوع ، والنهي في هذا القسم يدل على الصحة ، كما في المعاملات ، لأن متعلقه مقدور للمكلف ، فإنه قادر على إيجاد السجود وعلى عدم إيجاده ، فلو أتى بالسجود المنهي عنه لكان عبادة صحيحة ؛ إذ لا تتوقف صحته على الأمر به كي لا يمكن إيجاده مع النهي عنه.

فالمتحصّل : أن عباديّة السجود لا تتوقف على الأمر به حتى يقال بأنّه لا يمكن إيجاده مع النهي عنه لاستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

الثاني : ما لا تكون عباديته ذاتية ؛ بل تتوقف على قصد القربة إذا تعلق به أمر ، وحيث إنّ عباديته متوقفة على قصد القربة المتوقف على الأمر به ، فإذا تعلق به نهي منع عن تعلق الأمر به ، لما مرّ في مبحث اجتماع الأمر والنهي من امتناع اجتماعهما في واحد بعنوانين فضلا عن عنوان واحد كما في المقام. وحينئذ فإذا لم يتعلق به الأمر كان غير مقدور ؛ لأنّ المفروض : توقف عباديته على تعلق الأمر به ، فإذا فرض تعلق النهي به وأتى به

١٢٨

وقد عرفت (١) : أنّ النهي في هذا القسم إنّما يكون نهيا عن العبادة ، بمعنى : أنّه لو

______________________________________________________

المكلّف لم يكن صحيحا ؛ لأنّ الأمر لم يتعلق به حتى يصير عبادة صحيحة ، والنهي عنه لا يدل على صحته.

نعم ؛ لو فرض إمكان اجتماع الأمر والنهي في واحد بعنوان واحد كان النهي عنه دالّا على صحته.

وكيف كان ؛ فالنهي عن العبادات يوجب عدم كون المكلف قادرا على إيجادها عبادة ؛ إذ إيجادها عبادة يتوقف على قصد القربة ، وقصد القربة يتوقف على الأمر العبادي ، والأمر العبادي لا يجتمع مع النهي عنها ؛ لاستلزامه اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوان واحد.

فالمتحصل من الجميع : أن النهي أمّا في المعاملات : فيدل على الصحة في قسمين منهما. وأما في العبادات : فدلالته على الصحة في غير الذاتية منها مجرّد فرض ، إذ المراد بالعبادة المنهي عنها حينئذ هي العبادة الشأنية ـ أي : ما لو تعلق به أمر لكان عبادة ـ كصوم العيدين ، وصلاة الحائض ، ومعلوم : أن النهي عن العبادة بهذا المعنى لا يدل على صحتها إلّا بفرض المحال أي : لو فرض محالا تعلق النهي بها لكان النهي دالّا على صحتها. كما في «منتهى الدراية ج ٣ ، ص ٢٩٦».

وأما لو كانت العبادة ذاتية : فالنهي عنها يدل على صحتها إذ لا تتوقف عباديتها على الأمر بها كي يقال إن الأمر لا يجتمع مع النهي.

(١) أي قد عرفت سابقا : أن النهي في هذا القسم من العبادة المحتاجة في عباديّتها إلى قصد القربة لا يتعلق بالعبادة الفعلية حتى يدل على صحتها ، ويلزم منه اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوان واحد ؛ بل إنّما يكون نهيا عن العبادة الشأنية بمعنى : أنه لو كان مأمورا به كان الأمر به أمر عبادة أي : لا يسقط إلا بقصد القربة ، فالنهي حينئذ لا يكشف عن صحتها ؛ لأن النهي وإن كان مشروطا بالقدرة إلّا إن القدرة على العبادة الشأنية لا تتوقف على قصد القربة حتى يتوقف على الأمر الملازم للصحة.

ويمكن أن يكون قوله : «وقد عرفت أنّ النهي ...» إلخ إشارة إلى توهم وهو : أنّه إذا كان اجتماع الأمر العبادي والنهي محالا كما سبق في قوله : «وهو محال» فيسقط البحث عن النهي في العبادة رأسا ، لأنّ العبادة الفعلية غير الذاتية المتقوّمة بقصد الأمر منوطة بالأمر ، فكيف يتعلق بها النهي إذا كان اجتماع الأمر والنهي محالا فلازم ذلك سقوط البحث عن النهي في العبادة.

١٢٩

كان مأمورا به كان الأمر به أمر عبادة لا يسقط إلّا بقصد القربة فافهم (١).

______________________________________________________

وقد أجاب المصنف عن هذا التوهم بقوله : «أن النهي في هذا القسم إنّما يكون نهيا عن العبادة بمعنى : أنه لو كان مأمورا به كان الأمر به أمر عبادة».

وحاصل الجواب : أن المراد بالعبادة فيما يمكن تعلق النهي به هو العبادة التقديرية ، وهي ما لو أمر به لكان عبادة ، لا العبادة الفعلية الّتي تكون مأمورا بها فعلا ، كما تقدم.

(١) يمكن أن يكون إشارة إلى : أن النهي في المعاملات لا يدل على الصحة حتى ما كان عن المسبب أو التسبيب ، وذلك : لاحتمال أن يكون إرشادا إلى عدم ترتب الأثر بمعنى : أن هذه المعاملة العرفية التي يرتب العرف عليها الأثر لا يترتب عليها الأثر في نظر الشارع ؛ بل يمكن أن يكون إشارة إلى لزوم التناقض لو دل النهي على الصحة ؛ لأنّ الصحة ملازمة للإمضاء الشرعي ، والنهي ملازم لعدم الإمضاء الشرعي.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتخلص البحث في أمور :

١ ـ أقسام تعلق النهي بالعبادة مع أحكامها :

أما أقسامه فهي خمسة :

١ ـ ما يتعلق النهي بذات العبادة ؛ كالنهي عن الصلاة حال الحيض.

٢ ـ ما يتعلق بجزئها ؛ كالنهي عن قراءة العزائم في الصلاة.

٣ ـ ما يتعلق بشرطها ؛ كالنهي عن الوضوء بالماء المغصوب.

٤ ـ ما يتعلق بوصفها الملازم ؛ كالنهي عن الجهر والإخفات في القراءة كالجهر في الظهرين ، والإخفات في العشاءين والصبح.

٥ ـ ما يتعلق بوصفها غير الملازم ؛ كالنهي عن الكون الغصبي حال الصلاة ؛ إذ قد تقع الصلاة في غير المغصوب.

أمّا أحكام هذه الأقسام : فلا إشكال في دخول القسم الأول والثاني في محلّ النزاع ؛ لأن جزء العبادة عبادة ، والنهي عنه نهي عنها.

والفرق بينهما بعد اشتراكهما في أصل البطلان بالنهي : إنه لا يقتضي النهي عن الجزء إلّا فساد ذلك الجزء ، ولا يقتضي فساد أصل العبادة إلّا بالاقتصار على ذلك الجزء الفاسد ؛ لأن الاقتصار عليه يوجب بطلان أصل العبادة من أجل النقيصة العمدية ، هذا بخلاف النهي عن نفس العبادة ، حيث يقتضي بطلانها ، ولا علاج لصحتها أصلا.

١٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما القسم الثالث : فحرمته لا تستلزم الفساد لا فساد الشرط ولا فساد العبادة المشروطة به ؛ لأن الغالب في شرائط العبادة هو التوصلية كطهارة البدن والثوب عن النجاسة ، فالنهي عن الشرط لا يوجب فساد الشرط فضلا عن فساد العبادة المشروطة به.

وأما القسم الرابع : فالنهي عنه ملازم للنهي عن العبادة ؛ فالنهي عن الوصف الملازم يندرج في النهي عن جزء العبادة ، إذ المنهي عنه حقيقة هو الموصوف أعني : القراءة وهو جزء العبادة كالصلاة.

وأما القسم الخامس : فخارج عن مسألة النهي عن العبادة ، وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

٢ ـ النهي عن العبادة لأجل أحد هذه الأمور : مثل : «لا تصلّ وأنت تقرأ العزائم» و «لا تصلّ وأنت لابس الحرير» و «لا تصل الظهرين وأنت تجهر القراءة» ، و «لا تصل وأنت في المكان المغصوب». والأول مثال لتعلق النهي بالعبادة لأجل تعلقه بالجزء ، والثاني : لأجل الشرط ، والثالث : لأجل الوصف الملازم ، والرابع : لأجل الوصف المفارق.

ثم النهي عن العبادة لأجل الجزء أو الشرط أو الوصف يتصوّر على قسمين :

أحدهما : أن تكون هذه الأمور واسطة في العروض ؛ بأن يكون متعلق النهي في الحقيقة نفس هذه الأمور ، وكان النهي عن العبادة بالعرض والمجاز ، وعليه : فالنهي عن هذه الأمور يكون من قبيل الوصف بحال الموصوف بمعنى : أن الحرمة أولا وبالذات تعرض على الجزء أو الشرط أو الوصف ، وثانيا وبالعرض على الصلاة.

وثانيهما : أن تكون هذه الأمور واسطة في الثبوت ـ أي : علّة لتعلق النهي بالعبادة ـ بحيث يكون النهي متعلّقا حقيقة بنفس العبادة لأجل تلك الأمور. فإن كان النهي من قبيل الأوّل بأن كان متعلقا حقيقة بنفس هذه الأمور فقد عرفت حكمه من حيث الدخول في محل النزاع وعدمه ، وقد تقدم دخول القسم الأوّل والثاني والرابع إذا كان النهي عن الوصف الملازم.

وأمّا إذا كان من قبيل الثاني أي : بأن كان المقصود هو تحريم نفس العبادات ، وهذه الأمور كانت واسطة في الثبوت : فحال هذا النهي حال النهي في القسم الأول من الأقسام الخمسة أعني : النهي عن نفس العبادة.

أما استظهار أحد الوجهين المذكورين فمنوط بخصوصيات الموارد.

٣ ـ أقسام النهي في المعاملات مثل أقسامه في العبادات ، وهي خمسة :

١٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

١ ـ المعاملة المنهي عنها لذاتها هي : كالبيع الربوي.

٢ ـ المعاملة المنهي عنها لجزئها ؛ كبيع الشاة بالخنزير ، حيث يكون بيع الشاة منهيا عنه باعتبار ثمنه وهو الجزء المقوّم للبيع.

٣ ـ المعاملة المنهي عنها لشرطها هي : كالنكاح بشرط كون الطلاق بيد الزوجة ، وبيع العنب بشرط أن يعمل خمرا.

٤ ـ المعاملة المنهي عنها لوصفها اللازم هي : كبيع الحصاة والمنابذة.

٥ ـ المعاملة المنهي عنها لوصفها المفارق هي : كنكاح الأمة من غير إذن سيّدها ومالكها.

وقد ظهر حكم هذه من حكم أقسام النهي في العبادات ، فلا يكون بيانها ثانيا وعلى حدة بمهم.

٤ ـ المقام الأول : في اقتضاء النهي عن العبادة للفساد :

وحاصل الكلام في المقام : أنّ النهي المتعلق بالعبادة ـ سواء كان المنهي عنه عبادة مستقلة نحو : «لا تصل في الدار المغصوبة» أم جزئها نحو : «لا تقرأ العزائم في الصلاة» ، أم شرطها نحو : «لا تتوضأ بالماء المغصوب» ـ يقتضي الفساد لوجود الملاك وهو الحرمة الكاشفة عن المبغوضية المضادة للمحبوبيّة المقوّمة للعبادة. ومن المعلوم : أن المحبوبية لا تجتمع مع المبغوضية في شيء واحد ، فلا محالة يكون النهي رافعا للأمر ، فيفسد المنهي عنه سواء كان نفس العبادة أم جزئها أو شرطها.

والمتحصّل : أن هناك ملازمة بين الحرمة والفساد وامتناع اجتماع الصحة عند المتكلم والفقيه مع النهي الدّال على الحرمة الذاتية.

أما الصحة عند المتكلم : فلعدم وجود أمر حتى يتحقق الموافقة للأمر أو الشريعة.

وأما الصحة عند الفقيه : فلعدم تمكن المكلف من قصد القربة مع النهي الدال على الحرمة ، فإنّ الصحة بمعنى سقوط الإعادة مترتب على إتيان العبادة بقصد القربة.

٥ ـ الإشكال على دلالة النهي على الفساد : بأن يقال : إن النهي لا يدل على الفساد إلّا إذا دل على الحرمة الذاتية. والمفروض : عدم دلالته على ذلك ـ لامتناع اتصاف العبادة بالحرمة الذاتية ـ لأن المكلّف إن أتى بالعمل بدون قصد القربة ـ كصلاة الحائض لتمرين الصبي ـ فلا يتصف بالحرمة ؛ لأنّ المحرم هو العبادة الّتي تتقوّم بقصد

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

القربة وبدون قصدها لا يكون العمل عبادة حتى تفسد بحرمتها الناشئة من النهي. وإن أتى بالعمل مع قصد القربة كان مشرّعا ؛ إذ لا أمر به مع حرمته ، فلا يقدر على نيّة القربة إلّا بتشريع ليقصد التقرب به ، وحينئذ يحرم العمل للتشريع ، ومع هذه الحرمة التشريعية يمتنع اتصافها بالحرمة الذاتية ؛ لاجتماع المثلين المستحيل.

وخلاصة الكلام في المقام : أن النهي عن العبادة لما لم يدل على الحرمة الذاتية لامتناع اتصاف العبادة بها فلم يدل على الفساد أيضا.

فلا يصح الالتزام بدلالته على فساد العبادة.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجوه :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة ...» إلخ.

توضيح ذلك : أن العبادة تارة : تكون شأنية بمعنى : أنه لو أمر به كان عبادة كصوم العيدين بناء على حرمته ذاتا ، فهو عبادة شأنية بحيث لو ورد الأمر به من الشارع لكان أمره عباديا كالأمر بصوم سائر الأيّام.

وأخرى : تكون العبادة عبادة ذاتية فعلية ؛ كالسجود مثلا ، ثم المراد بالعبادة في العنوان هو العبادة الشأنية لا العبادة الذاتية الفعلية ، فما ذكره المستشكل من امتناع اتصاف العبادة بالحرمة الذاتية ممنوع ؛ إذ لا مانع من اتصاف العبادة الشأنية بالحرمة الذاتية ، فإن صوم العيدين عبادة شأنية فيه مفسدة ملزمة أوجبت حرمته الذاتية.

أمّا الوجه الثاني في الجواب فحاصله : منع ما ذكره المستشكل من امتناع الاتصاف بالحرمة الذاتية مع الحرمة التشريعية لاجتماع المثلين المستحيل ، لأن مورد اجتماع المثلين المحال هو اتحاد الموضوع ، وأمّا مع تعدده فلا يلزم اجتماع المثلين والمقام من هذا القبيل ؛ ضرورة : أنّ موضوع حرمته التشريعية هو الالتزام بكون شيء من الدين مع عدم العلم بأنه منه ، ومن المعلوم : أن الالتزام فعل قلبي ، وموضوع الحرمة الذاتية هو نفس الفعل الخارجي ؛ كالسجود من الجنب ، ومع تعدد الموضوع لا تجتمع الحرمتان حتى يلزم اجتماع المثلين المحال.

أمّا الوجه الثالث فحاصله : أنّه يمكن البناء على فساد العبادة المنهي عنها وإن لم نقل بدلالة النهي على الحرمة ؛ إذ لا أقلّ من دلالته على عدم الفرد المنهي عنه مأمورا به ؛ إذ لا معنى للنهي مع الأمر الفعلي ، وبدون الأمر يكون حراما تشريعيا ، فيكون فاسدا لكفاية الحرمة التشريعية في الفساد.

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

«فافهم» لعله إشارة إلى عدم دفع اجتماع المثلين ؛ لأن الحرمة التشريعية ممّا يتصف به الفعل الخارجي ، فيلزم اجتماع المثلين.

قوله : «نعم لو لم يكن النهي» استدراك على قوله : «لكان دالا على الفساد» ، وحاصله : أن ما ذكرناه من دلالة النهي على الفساد لدلالته على الحرمة التشريعية إنّما هو فيما إذا لم يكن النهي عرضيا ؛ كالنهي عن ضدّ الواجب كالصلاة المضادّة للإزالة بناء على كون النهي عن ضدّ الواجب عرضيا ، حيث إن المنهي عنه حقيقة هو ترك الإزالة ، فالنهي عن الصلاة عرضي ، والنهي العرضي لا يقتضي الفساد.

٦ ـ عدم اقتضاء النهي للفساد في المعاملات : إذ لا منافاة بين حرمة المعاملة وبين صحتها بمعنى : ترتب الأثر المقصود عليها ؛ كالملكية والزوجية ونحوهما. هذا بخلاف حرمة العبادة ، حيث إنّها لا تجتمع مع الصحة كما عرفت.

وكيف كان ؛ فلا ملازمة لغة وعرفا بين حرمة المعاملة وفسادها سواء كانت الحرمة متعلقة بنفس السبب بما هو فعل مباشري ، كالإيجاب والقبول في وقت النداء. أو كانت متعلقة بالمسبّب بما هو فعل تسبيبي ؛ كتمليك المصحف من الكافر الحاصل بالسبب الخاص.

نعم ؛ يدل النهي على الفساد إذا كان المنهي عنه أكل الثمن نحو قولهم «عليهم‌السلام» «ثمن العذرة سحت» ، أو كان النهي عن شيء لا يكون عند البائع نحو «لا تبع ما ليس عندك» ؛ للتلازم بين الحرمة والفساد ـ في هذه الموارد.

قوله : «لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الإرشاد إلى فسادها» استدراك على نفي الملازمة لغة وعرفا بين الحرمة والفساد في باب المعاملات وحاصله : أنّه لا يبعد دعوى كون النهي عن المعاملة ظاهرا في الإرشاد إلى فسادها ؛ لنقص شرطها أو جزئها ، أو لوجود مانع بلا دلالة على حكم تكليفي أصلا ، كما أن الأمر بها ظاهر في الإرشاد إلى الصحة.

أما وجه نفي البعد : فلأنّ الغرض الأصلي في المعاملات هو : بيان صحتها وفسادها ، ولذا يكون الأمر بها إرشادا إلى صحتها ، فلا يدل مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إلّا على صحة العقود لا على وجوبها أو استحبابها ، ولكن نفي البعد عن ظهور النهي في المعاملة في الإرشاد إلى الفساد إنّما يكون في المعاملات بالمعنى الأخص ، وهي العقود والإيقاعات لا بالمعنى الأعم ، وهو ما لا يعتبر فيه قصد القربة.

١٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

٧ ـ «نعم ؛ ربما يتوهم استتباعها له شرعا من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليه» ، وقال المصنف سابقا : إنّ الحرمة لا تستتبع الفساد شرعا ، ثم يستدرك ويقول : لكن الحرمة تستتبع الفساد شرعا لأجل الأخبار الواردة في هذا الباب.

منها : ما في المتن بتقريب : أن تعليل عدم فساد نكاح العبد الفاقد لإذن سيّده ب «إنه لم يعص الله» يقتضي : فساد كل ما يكون عصيانا له تعالى ، فالحرمة التكليفية تقتضي الفساد بمقتضى مفهوم : «إنّه لم يعص الله» ؛ إذ مفهومه : فساد النكاح إذا كان ممّا حرّمه الله تعالى ، فالمستفاد من الرواية : أن الحرمة الإلهية تستلزم الفساد.

وقد أجاب المصنف عنه بقوله : «ولا يخفى : أن الظاهر» ، وحاصل الجواب عن الاستدلال بالرواية : أن المعصية على قسمين :

١ ـ المعصية التابعة لعدم إمضاء الشارع.

٢ ـ المعصية التابعة للنهي ومخالفة الحرمة التكليفية ثم محلّ الكلام هو المعصية بالمعنى الثاني ، ومورد الرواية هو المعصية بالمعنى الأول ، فهي أجنبيّة عن المقام ؛ إذ لو كان المراد بها الحرمة التكليفية لم يستقم معناها ؛ لأن مخالفة السيّد شرعا مخالفة لله تعالى ، فالمراد بالمعصية المنفية فيها : هو القسم الأول ، وهو خارج عن محل النزاع ؛ إذ لا نزاع في فساد ما لم يجزه الشارع ولم يمضه.

٨ ـ تذنيب : في دلالة النهي على صحّة متعلقه ، كما حكي عن أبي حنيفة والشيباني بتقريب : أن النهي تكليف ، والتكليف مشروط بالقدرة ؛ إذ كل حكم تكليفي لا يتعلق إلّا بما هو مقدور ، ولا يكون متعلق النهي في المعاملات مقدورا إلّا إذا كان المنهي عنه بجميع أجزائه وشرائطه ـ الّتي هي مورد النهي ـ مقدورا.

فلو فرض : أن المكلف أتى بالمنهي عنه ، وخالف النهي يعني : أتى بالمنهي عنه بجميع الأجزاء والشرائط يترتب عليه الأثر بالضرورة ، وهذا معنى كونه صحيحا ، وحينئذ فالنهي يدل على الصحة.

إلّا إن المصنف اختار التفصيل وقال : بدلالة النهي على الصحة في مورد من العبادات ، وفي موردين من المعاملات.

أحدهما : تعلق النهي بالمسبب كالنهي عن بيع المصحف من الكافر ، فلو لم يكن قادرا على التمليك لم يصح النهي عن البيع.

ثانيهما : تعلق النهي بالتسبيب ؛ كالظهار ، فإنّ التسبيب فيه إلى الفراق بين الزوجين

١٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

مبغوض ، بخلاف التسبيب بالطلاق ، فإن لم يترتب الفراق والبينونة على الظهار كان النهي عنه لغوا ؛ لأن النهي إنما هو بلحاظ ترتب الأثر عليه ؛ لا بلحاظ كونه فعلا مباشريا. ففي هذين الموردين من المعاملات لا محيص عن دلالة النهي على الصحة.

أما دلالة النهي على الصحة في مورد من العبادات : فهو فيما إذا كانت العبادة ذاتية غير متوقفة على قصد القربة ؛ كالسجود مثلا ، فإن النهي عن هذا القسم من العبادات يدل على الصحة ؛ لأن متعلقه مقدور للمكلف لقدرته على إيجاد السجود ، فلو أتى بالسجود المنهي عنه لكانت عبادة صحيحة ؛ إذ لا تتوقف عباديته على الأمر به حتى لا يمكن إيجاده مع النهي عنه.

٩ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ النهي عن العبادة أو جزئها أو وصفها الملازم يقتضي فسادها ؛ دون النهي عن شرطها أو وصفها المفارق.

٢ ـ النهي عن المعاملات لا يدل على الفساد ؛ إلا فيما إذا كان النهي عن الثمن أو المثمن فيدلّ على الفساد.

٣ ـ يدل النهي على الصحة في المعاملات فيما إذا كان متعلقا بالمسبب أو التسبيب.

٤ ـ يدل النهي على الصحة في العبادة فيما إذا كانت ذاتية.

١٣٦

المقصد الثالث

في المفاهيم

١٣٧
١٣٨

في المفاهيم (١)

مقدمة (٢):

وهي : أن المفهوم (٣) ـ كما يظهر من موارد إطلاقه ـ هو عبارة عن حكم إنشائي أو

______________________________________________________

في بحث المفاهيم

(١) كان الأولى أن يقول المصنف : المقصد الثالث في المنطوق والمفهوم ، ولعل التعبير الموجود إنما هو لأجل الفرار عن تعرّض حال المنطوق ؛ لأنّ المهم هو بيان حال المفهوم ، ولذا قال : «المقصد الثالث في المفاهيم».

(٢) مقدمة في بيان معنى المفهوم ، وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محلّ الكلام في المقام فنقول : إنّه قد يطلق المفهوم ويراد منه كل ما يفهم من اللفظ من المعنى ، في مقابل المنطوق بمعنى الملفوظ ، فكل لفظ منطوق بهذا المعنى. هذا هو المعنى اللغوي للمفهوم والمنطوق.

وقد يطلق ويراد منه مطلق ما يفهم من الشيء ؛ سواء كان ذلك الشيء لفظا أم كان غيره ؛ كالإشارة والكتابة ، ولعلّ هذا هو المعنى العرفي للمفهوم ، وهذان الإطلاقان خارجان عن محلّ الكلام ، فإن محل الكلام هو المفهوم الاصطلاحي في مقابل المنطوق الاصطلاحي ، وقد وقع الخلاف في تعريف كل من المنطوق والمفهوم في اصطلاح الأصوليين.

وقد عرّف الحاجبي المنطوق : «بما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق». والمفهوم : «بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق» ، وتبعه صاحب القوانين.

وقال العضدي في تعريف المنطوق : «أن يكون حكما لمذكور وحالا من أحواله» ، وفي تعريف المفهوم : «أن يكون حكما لغير مذكور وحالا من أحواله» ، وقد أطيل فيهما الكلام بالنقض والإبرام طردا وعكسا. وتركنا ما فيه من النقض والإبرام رعاية للاختصار.

(٣) والحق عند المصنف : «أن المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور ؛ لا أنّه حكم لغير مذكور».

١٣٩

إخباري ، تستتبعه خصوصيّة المعنى الّذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة ولو بقرينة الحكمة (١) ، وكان يلزمه (٢) لذلك ، وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه. فمفهوم إن

______________________________________________________

ومنه يعرف المنطوق فيكون حكما مذكورا.

وحاصل الكلام في المقام : أن المفهوم ـ كما يظهر من موارد إطلاقه ـ هو : عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري ؛ مثل : عدم وجوب الإكرام المستفاد من قولنا : «إن جاءك زيد فأكرمه» حيث إنّه حكم إنشائي لازم لخصوصية من خصوصيّات المعنى المراد من كلمة «إن» ، ومثل عدم وجوب الإكرام المستفاد من قولنا : «إن جئتني أكرمك» ، هذا مثال للحكم الإخباري كما أن الأول مثال للحكم الإنشائي.

فمنطوق قولنا : «إن جاءك زيد فأكرمه» هو وجوب إكرام زيد على تقدير المجيء ، ومفهومه هو الانتفاء عند الانتفاء ، ومنطوق قولنا : «إن جئتني فأكرمك» : هو وجوب إكرام المخاطب على تقدير المجيء ، ومفهومه عدم وجوب إكرامه على تقدير عدم المجيء.

(١) خصوصية معنى الجملة الشرطية هي تعليق الجزاء بالشرط ، وهي مستلزمة للمفهوم أعني : الانتفاء عند الانتفاء الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية ، واستفادة تلك الخصوصية إمّا تكون بالوضع ، وإمّا بالانصراف ، وإمّا بمقدمات الحكمة ، فحينئذ :

مفهوم جملة «إن جاءك زيد فأكرمه» ـ على القول به ـ قضية شرطية سالبة بشرطها وجزائها ، وهي : «إن لم يجئك زيد فلا تكرمه».

ثم المفهوم على قسمين :

أحدهما : أن يكون المفهوم مخالفا للمنطوق في الإيجاب والسلب كالمثالين المذكورين.

وثانيهما : أن يكون موافقا للمنطوق في الإيجاب والسلب كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) حيث يكون المفهوم حرمة الشتم والضرب ، فيكون موافقا للمنطوق ـ وهو حرمة التأفّف ـ في الإيجاب.

قوله : «بقرينة الحكمة» متعلق بقوله : «أريد من اللفظ» يعني : ولو كان الدّال على تلك الخصوصية قرينة الحكمة لا الوضع.

(٢) يعني : كان الحكم الإنشائي أو الإخباري من لوازم ذلك المعنى المنطوقي لأجل تلك الخصوصية. فالأولى تبديل «لذلك» ب «لأجلها».

والمتحصل : أنه يعتبر أن يكون ذلك الحكم الإنشائي أو الإخباري مما تستلزمه

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

١٤٠