دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

٢ ـ حكمهم بوجوب حفظ الماء قبل دخول وقت الصلاة لصرفه في الطهارة ؛ إذا علم المكلف بعدم التمكن من تحصيله بعد دخول الوقت ؛ مع عدم وجوب الصلاة قبل الوقت حتى يجب حفظ الماء للطهارة.

٣ ـ حكمهم بوجوب السعي إلى الحج على المستطيع النائي قبل يوم عرفة مقدمة للحج.

٤ ـ حكمهم بوجوب معرفة القبلة لمن أراد السفر إلى البلدان النائية ، وغير ذلك من الموارد التي يجدها المتتبع في مطاوي كلمات الفقهاء. هذا خلاصة الكلام في ذكر بعض تلك الموارد.

وأما دفع الإشكال والتخلص عن هذه العويصة فقد ذكر له وجوه عديدة :

الأول : ما نسب إلى صاحب الحاشية : من الالتزام بالوجوب النفسي في هذه الموارد.

الثاني : ما أفاده صاحب الفصول : من الالتزام بالواجب المعلق في هذه المقامات ، وقد دفع الإشكال بهذا الطريق ؛ إذ الوجوب يكون حاليا قبل مجيء وقت الواجب في الواجب المعلق ، ولهذا تجب مقدماته فعلا لكون الوجوب فعليا.

الثالث : ما أفاده الشيخ الأنصاري : من الالتزام برجوع القيد والشرط إلى المادة لا إلى الهيئة ـ فيكون الوجوب مطلقا وفعليا ـ لأن المقيد بالشرط الاستقبالي هو الواجب ، فتجب مقدماته لكون الوجوب فعليا.

الرابع : ما أفاده المصنف في دفع الإشكال : من الالتزام بالواجب المشروط بشرط متأخر ؛ مفروض الوجود في موطنه كما سيأتي عن قريب ، فيكون الوجوب حينئذ فعليا قبل حصول الشرط.

وبعبارة واضحة : يكون وجوب ذي المقدمة فعليا فيترشح الوجوب منه إلى مقدماته ؛ لأن المعيار في وجوبها فعلية وجوب ذيها وهي متحققة في الواجب المشروط بشرط متأخر مفروض الوجود في موطنه ؛ لأن المفروض : أن الشرط يحصل في وقته ، ولهذا لا بد من الآن الإتيان بالمقدمات التي تفوت بعد حصول الشرط.

فقد ظهر مما ذكرناه : أن دفع الإشكال لا ينحصر بالالتزام بالواجب المعلق ، أو بالالتزام برجوع القيد إلى المادة لبّا ، بل يمكن دفع الإشكال بناء على الالتزام بالواجب المشروط على نحو الشرط المتأخر.

وكيف كان ؛ فقد علم أن المعيار في وجوب المقدمة فعلية وجوب ذيها ، ففي كل مورد كان وجوبه فعليا كان وجوبها فعليا أيضا.

٨١

وكونه في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها ، هو فعلية وجوب ذيها ، ولو كان أمرا استقباليا ، كالصوم في الغد والمناسك في الموسم ، كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخرا ، أو مطلقا ، منجزا كان أو معلقا ، فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا ، أو مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف ، كما إذا أخذ عنوانا للمكلف كالمسافر والحاضر والمستطيع إلى غير ذلك.

أو جعل (١) الفعل المقيد باتفاق حصوله ، وتقدير وجوده ـ بلا اختيار أو باختياره ـ

______________________________________________________

(١) قوله : «أو جعل» عطف على قوله : «أخذ عنوانا» أي : المقدمة لا تكون واجبة إذا كانت موردا للتكليف ؛ من غير فرق بين كونها عنوانا للمكلف ، وبين كونها على نحو جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله وتقدير وجوده ؛ سواء كان الحصول بلا اختيار للمكلف ، أو كان باختياره موردا للتكليف.

ومثال الأول : ما لو قال المولى لعبده : أوجبت عليك الصلاة عند دخول الوقت ، وأوجبت عليك الحج على تقدير حصول الاستطاعة بالإرث.

ومثال الثاني : إن سافرت فقصر ، وإن استطعت بالكسب فحج ؛ فإن فيهما جعل الفعل المقيد بحصول الشرط ـ بلا اختيار المكلف أو باختياره ـ موردا للتكليف ، بحيث لا تكليف بدونه.

فتحصل من عبارة المصنف : أنه لا تجب المقدمة الوجودية إلّا بشروط ثلاثة :

أحدها : عدم كون المعلق عليه قيدا للوجوب ـ كما أشار إليه بقوله : ـ «فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب أيضا» ، إذ لو كان قيدا للوجوب أيضا أي : كما كان قيدا للواجب لما وجب تحصيله كالاستطاعة مثلا ، حيث لا يجب تحصيلها للحج ؛ لإناطة الوجوب بها.

ثانيها : عدم كون المقدمة مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف ؛ كما إذا أخذت عنوانا للمكلف ؛ كالمسافر إذا كان القيد قيدا للموضوع ، كما إذا قال المولى : «إن سافرت فقصّر» ، ـ أو قال : «إن استطعت فحج» فلا يجب تحصيله ؛ لأن مثل هذه القيود مما أخذ عنوانا للموضوع يمتنع تعلق الوجوب بها ؛ لأن السفر مثلا وإن كان مقدمة وجودية لصلاة القصر ؛ إلّا إنه يمتنع ترشح التكليف عليه ، إذ المفروض : كون الموضوع كالعلة للحكم في توقف الحكم عليه ، فلا يتحقق التكليف إلّا عند تحققه ، فلا بد من وجوده في وجود الحكم ، ومع ذلك يمتنع ترشح الوجوب عليه لاستلزامه طلب الحاصل ؛ إذ قبل الموضوع لا حكم أصلا ، وبعد حصوله لا معنى لوجوب تحصيله لما عرفت من لزوم طلب الحاصل.

٨٢

موردا للتكليف ، ضرورة : إنه لو كان مقدمة الوجوب أيضا لا يكاد يكون هناك وجوب إلّا بعد حصوله ، وبعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل ، كما أنه إذا أخذ على أحد النحوين يكون كذلك ، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف ، ومع حصوله لا يكاد يصح تعلقه به فافهم (١).

إذا عرفت ذلك (٢) ، فقد عرفت : أنه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل

______________________________________________________

ثالثها : عدم كون المقدمة قيدا للفعل بوجودها الاتفاقي أي : بأن لا يجعل الفعل المقيد باتفاق حصولها بلا اختيار ـ كالبلوغ والوقت ـ أو باختيار المكلف ـ كالسفر مثلا ـ موردا للتكليف ـ كما أشار إليه بقوله : ـ «أو جعل الفعل المقيد ...» إلخ ؛ إذ لو كانت بوجودها الاتفاقي قيدا للواجب لكان الشرط حينئذ وجودها الاتفاقي ، فلا تكون المقدمة واجبة ؛ إذ ليست المصلحة الملزمة في وجودها كذلك كي توجب وجوبها.

قوله : «ضرورة : أنه لو كان مقدمة الوجوب أيضا» تعليل لاعتبار الشرائط المذكورة في وجوب المقدمة ، وقد عرفت توضيح ذلك.

(١) لعله إشارة إلى : أن القيد إذا أخذ عنوانا للمكلف صار الوجوب مشروطا فيخرج عن الإطلاق ، وكذا إذا أخذ شرطا للوجوب فلا وجوب أصلا حتى يترشح على المقدمة ، فهذان الشرطان مقومان للإطلاق ومحققان له.

(٢) أي : إذا عرفت ما ذكرناه من المقدمة. «فقد عرفت : إنه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه بعد زمانه فيما إذا كان وجوبه حاليا مطلقا ، ولو كان مشروطا بشرط متأخر».

وحاصل الكلام في المقام : أن قول المصنف : «فقد عرفت أنه لا إشكال أصلا ...» إلخ شروع في التخلص عن العويصة المشهورة التي تقدم الكلام فيها ، وفي الجواب عنها.

وكيف كان ؛ فكان كلامه من أول التنبيه إلى هنا مقدمة للشروع في التخلص عنها ، فينبغي لنا أن نذكر العويصة والجواب عنها ثانيا توضيحا لكلام المصنف «قدس‌سره» هنا.

وخلاصة الإشكال والعويصة : أنه قد قام الإجماع ، بل الضرورة على وجوب بعض المقدمات قبل زمان حضور الواجب كالغسل في الليل للصوم في الغد ، وكتحصيل الزاد والراحلة قبل مجيء موسم الحج ، فيرد فيه الإشكال من جهة أنه تجب المقدمة قبل وجوب ذيها ، مع إن وجوبها تابع لوجوبه.

وفي الجواب عن هذه العويصة وجوه : بل أقوال قد تقدم ذكرها ، وقلنا : إن الشيخ الأنصاري ذهب إلى أن الشرط من قيود المادة لا الهيئة. وذهب صاحب الفصول إلى

٨٣

زمان الواجب إذا لم يقدر عليه بعد زمانه ، فيما إذا كان وجوبه حاليا مطلقا ، ولو كان مشروطا بشرط متأخر كان معلوم الوجود فيما بعد كما لا يخفى ، ضرورة (١) : فعلية وجوبه وتنجزه بالقدرة عليه بتمهيد مقدمته.

فيترشح منه الوجوب عليها على الملازمة ، ولا يلزم منه (٢) محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وإنما اللازم (٣) الإتيان بها قبل الإتيان به ؛ بل (٤) لزوم الإتيان بها

______________________________________________________

الواجب المعلق. وذهب المصنف إلى القول بالواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر إذا علم وجود الشرط فيما بعد.

فوجوب ذي المقدمة ثابت فعلا على جميع تلك الأقوال ، فيترشح الوجوب منه إلى المقدمة. ولهذا قال المصنف : «فقد عرفت إنه لا إشكال أصلا في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه» أي : على الإتيان بالمقدمة بعد زمان الواجب.

(١) قوله : «ضرورة ...» إلخ تعليل لنفي الإشكال ، يعني : لا إشكال أصلا في وجوب المقدمة ولزوم الإتيان بها ، ضرورة : فعلية وجوب الواجب وتنجزه بسبب القدرة على الواجب بواسطة مقدمته «فيترشح منه» أي : من هذا الواجب المنجز «الوجوب عليها» أي : على المقدمة ، بناء «على الملازمة» بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، فقوله : «فيترشح ...» إلخ نتيجة لفعلية وجوب ذي المقدمة أي : فيترشح الوجوب من وجوب الواجب على المقدمات الوجودية ؛ بناء على الملازمة بين وجوب الواجب نفسيا ووجوب مقدمته غيريا.

(٢) أي : من وجوب المقدمة «محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها» حتى يقال : كيف يترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة مع عدم وجوب ذي المقدمة؟

ووجه عدم لزوم المحذور هو : وجوب ذي المقدمة فعلا المقتضي لفعلية وجوب مقدماته.

(٣) أي : «وإنما اللازم» من وجوب المقدمة في هذا الحال هو الإتيان بها قبل الإتيان بالواجب ، ولا محذور فيه أصلا بعد اتحاد وجوبي الواجب ومقدمته زمانا واختلافهما رتبة.

والحاصل : أن الوجوب لذي المقدمة حالي ، لكنه على نحو المشروط بالشرط المتأخر.

(٤) أي : يمكن إثبات وجوب المقدمة حتى على القول بعدم الملازمة بين الوجوب النفسي والغيري الشرعيين ؛ وذلك لكفاية حكم العقل بوجوب المقدمة من باب لزوم الإطاعة ؛ لتوقف امتثال الأمر النفسي على إتيانها.

٨٤

عقلا ـ ولو لم نقل بالملازمة ـ لا يحتاج (١) إلى مزيد بيان ومئونة برهان ؛ كالإتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه.

فانقدح بذلك (٢) : أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة بالتعلق بالتعليق ، أو بما يرجع إليه من جعل الشرط من قيود المادة في المشروط.

______________________________________________________

(١) قوله : «لا يحتاج ...» إلخ خبر ـ لقوله : ـ «لزوم الإتيان بها عقلا» أي : الإتيان بهذه المقدمة ليس إلّا «كالإتيان بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه» ، فهذا الكلام من المصنف تنظير لمقدمات الواجب قبل زمانه بمقدماته في زمان الواجب في الوجوب العقلي.

وحاصل التنظير : أنه كما تجب المقدمات الوجودية في زمان الواجب قبل إتيانه ، فكذلك تجب مقدماته الوجودية قبل زمان إتيان الواجب مع فعلية وجوبه.

وكيف كان ؛ فلا إشكال ـ على جميع الأقوال المذكورة ـ في وجوب الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، إذا لم يقدر عليه في زمانه ، وأما على مذهب الشيخ والفصول «قدس‌سرهما» فالأمر واضح ؛ لأن القيد راجع إلى المادة ، ومقتضاه : فعلية الوجوب. وأما على مذهب المصنف القائل بالوجوب المشروط المشهوري : فلجواز الشرط المتأخر بالمعنى المتقدم الذي مرجعه إلى الشرط المقارن.

(٢) أي : بما ذكرناه. من فعلية وجوب ذي المقدمة إذا كان مشروطا بشرط متأخر ، وكانت فعلية وجوبه كافية في وجوب مقدماته ـ انقدح : «أنه لا ينحصر التفصي عن هذه العويصة ...» إلخ ، أي : فظهر بما ذكرناه من كفاية الالتزام بالواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر في وجوب المقدمة : أنه لا ينحصر التفصي عن إشكال وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها بالتشبث بالواجب المعلق ، أو بما يرجع إلى الواجب المعلق ؛ من جعل الشرط من قيود المادة كما هو مسلك الشيخ الأنصاري ، والأول من صاحب الفصول أي : التخلص عن الإشكال ، والتفصي عنه لا ينحصر بالتشبث بالواجب المعلق كما عن الفصول ، أو بما صنعه الشيخ من رجوع القيود إلى المادة في الواجب المشروط.

بل هنا لنا جواب ثالث : وهو كون الوجوب فعليا ومشروطا بنحو الشرط المتأخر ، فتجب مقدماته من دون الحاجة إلى ما تشبث به صاحب الفصول والشيخ الأنصاري «قدس‌سرهما» ، أو بالتشبث بوجوه أخر من «الوجوب النفسي التهيّئي المنسوب إلى المحقق التقي في حاشيته ، ومن «الوجوب العقلي الإرشادي لحكم العقل بتنجز الواجب بعد وقته بالقدرة لأجل التمكن من تحصيل مقدماته قبل شرط الوجوب» ، ومن «الوجوب العقلي الإرشادي لأجل حكمه بلزوم حفظ غرض المولى».

٨٥

فانقدح بذلك (١) : أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب ؛ كالغسل في الليل في شهر رمضان وغيره ، مما وجب عليه الصوم في الغد ؛ إذ (٢) يكشف به بطريق الإنّ عن سبق وجوب الواجب ، وإنما المتأخر هو زمان إتيانه (٣) ، ولا محذور فيه أصلا ، ولو فرض العلم بعدم سبقه (٤) ، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري ، فلو نهض دليل على وجوبها (٥) ، فلا محالة يكون

______________________________________________________

(١) أي : بما ذكرناه من فعلية وجوب ذي المقدمة الموجبة لفعلية وجوب مقدماته ـ وإن كان مشروطا بشرط متأخر ـ ظهر : «أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة» المقدسة «الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب» ، وقد عرفت سابقا أمثلة تلك الموارد ومنها : الغسل في الليل في شهر رمضان للصوم في الغد وغيره من سائر الأمثلة.

(٢) قوله «إذ يكشف ...» إلخ تعليل لنفي الإشكال ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن البرهان ـ على ما في علم الميزان ـ على قسمين :

الأول : البرهان اللمّي وهو : الاستدلال من العلة على المعلول ؛ كالاستدلال بتعفن الأخلاط على الحمى ، فيقال : زيد متعفن الأخلاط ، وكل متعفن الأخلاط محموم ، فزيد محموم.

الثاني : البرهان الإنّي وهو : الاستدلال بالمعلول على العلة كالاستدلال بالحمى على تعفن الأخلاط في المثال المذكور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المقام من هذا القبيل ؛ حيث إن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ، فيستكشف من وجوب المقدمات قبل وجوب ذيها وجوب ذيها بالبرهان الإنّي ، فالاستدلال بالمعلول على العلة ينفي إشكال وجوب المقدمة قبل مجيء وقت ذيها ؛ لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ، فيكون كاشفا عنه ، فلا إشكال في وجوبها عند وجوب ذيها.

(٣) أي : أن وجوب الواجب مقدم على زمان إتيانه ، «وإنما المتأخر هو زمان إتيانه ولا محذور فيه» أي : لا محذور في تأخر زمان الواجب وتقدم وجوبه «أصلا».

(٤) أي : ولو فرض بعدم سبق وجوب الواجب ؛ «لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري» ؛ لأن الوجوب الغيري فرع الوجوب النفسي ، فحيث لا وجوب نفسيا لم يكن وجوب غيري ، وغرض المصنف من قوله : «ولو فرض العلم بعدم سبقه» هو :

اختصاص البرهان الإنّي بما إذا لم يعلم بعدم وجوب ذي المقدمة قبل مجيء وقته ، وأما إذا علم بعدم وجوبه قبل وقته فلا مجال للبرهان المزبور ؛ إذ يستحيل حينئذ اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري لاستلزامه وجود المعلول بلا علة.

(٥) أي : فلو نهض دليل على وجوب المقدمة : «فلا محالة يكون وجوبها نفسيا» ،

٨٦

وجوبها نفسيا ولو تهيّؤا ليتهيّأ بإتيانها ، ويستعد لإيجاب ذي المقدمة عليه ؛ فلا محذور أيضا (١).

إن قلت (٢) : لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي

______________________________________________________

وفي بعض النسخ : «نفسيا تهيئيا».

وكيف كان ؛ فمع الدليل على وجوبها يكون وجوبها نفسيا لا غيريا ترشحيّا ، وملاك هذا الوجوب النفسي هو : تهيّؤ المكلف واستعداده لإيجاب ذي المقدمة في وقته بسبب إتيان مقدمته ، ثم الفرق بين هذه المقدمة وبين غيرها من المقدمات هو : إن وجوب هذه المقدمة ليس معلولا لوجوب ذي المقدمة ؛ بخلاف وجوب سائر المقدمات فإنه معلول له ؛ لكونه مترشحا من وجوب ذيها.

(١) أي : فلا محذور في وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، كما لا محذور في وجوبها ؛ إذا كان وجوب ذيها مشروطا بشرط متأخر معلوم الوجود في وقته وظرفه.

وحاصل الكلام في المقام هو : أن سبق وجوب المقدمة كاشف عن وجوب ذيها فعلا وحاليا ؛ وذلك لاستحالة ترشح الوجوب من دون وجوب ذيها ، فلو فرض سبق وجوب المقدمة ، وعلم عدم حالية وجوب ذيها فليس وجوبها ترشحيا ؛ بل إما وجوب نفسي ذاتي لحكمة فيه ، وإما وجوب نفسي تهيّئي أي : لحكمة التهيؤ والاستعداد للتكليف ، كما ذكر في وجوب التعلم.

(٢) هذا الإشكال إشكال على البرهان الإنّي المزبور ـ وهو كشف وجوب المقدمة عن سبق وجوب ذيها.

توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة وهي : أن مقدمة الواجب باعتبار قدرة المكلف عليها على قسمين :

الأول : أن تكون موسعة ، وهي : أن تكون مقدورة له في زمان الواجب وقبل زمانه.

الثاني : أن تكون مضيقة بمعنى : أنها مقدورة قبل زمان الواجب فقط.

والقسم الأول لا يجب تحصيله قبل زمان الواجب ، هذا بخلاف القسم الثاني ، فيجب تحصيله قبل زمان الواجب لاستلزام عدم تحصيله فوت الواجب ، وباعتبار الدليل أيضا على قسمين : قسم مما قام على وجوبها دليل خاص ، وقسم آخر مما لم يدل على وجوبها دليل خاص.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في تقريب الإشكال : أنه يلزم بناء على الكشف : وجوب جميع مقدمات الواجب الوجودية ، دون خصوص ما قام الدليل على وجوب الإتيان به قبل زمان ذي المقدمة ؛ لأن المفروض : فعلية وجوب ذي المقدمة ، وعليته

٨٧

المقدمة ؛ لزم وجوب جميع مقدماته ولو موسعا ، وليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر.

قلت : لا محيص عنه (١) ، إلّا (٢) إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة ، وهي القدرة عليه بعد مجيء زمانه ، لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه ، فتدبر جدا.

______________________________________________________

لوجوب المقدمات مطلقا من دون تفاوت بينها ، مع إن الأمر ليس كذلك أي : ليس يجب جميع المقدمات حتى ما لم يقم دليل على الإتيان بها قبل زمان ذيها ؛ إذ لو كانت واجبة لوجبت المبادرة إلى الإتيان بها ، والحال : إنه لا تجب المبادرة إلى ما لم يقم دليل بالخصوص على وجوب الإتيان بها قبل زمان ذيها.

وبعبارة أخرى : أن لازم البرهان الإنّي : أن وجوب احدى المقدمات كاشف إنّا عن وجوب ذيها فعلا ، ولازم ذلك : وجوب جميع المقدمات ؛ لاتحاد حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز ، والحال : إنه لا يجب تحصيل جميع المقدمات قبل مجيء وقت الواجب ؛ إذ لا تجب المبادرة إلى ما لم يقم دليل بالخصوص على وجوب الإتيان به.

وقد ظهر ـ مما ذكرناه ـ الإشكال على المعلق الفصولي ، والمشروط الشيخي ؛ إذ لازمهما هو وجوب جميع المقدمات الوجودية للواجب ، مع إن الأمر ليس كذلك ، كما عرفت تفصيل ذلك.

(١) أي : عن الالتزام بوجوب جميع المقدمات قبل وقت ذي المقدمة وجوبا غيريا. وحاصل جواب المصنف هو : الالتزام بوجوب جميع المقدمات بالوجوب الغيري بالبرهان الإنّي ؛ لأن وجوب إحدى المقدمات من قبل مجيء وقت الواجب كاشف إنّا عن وجوب ذيها فعلا ، ثم مقتضى عليّة وجوب الواجب لوجوب مقدماته هو : الالتزام بوجوب سائر مقدماته قبل وقت ذي المقدمة ، فوجوبه يلازم وجوب جميع المقدمات ؛ لأنّ الوجوب الغيري الترشحي معلول للوجوب النفسي. فإذا ثبت الوجوب النفسي قبل الوقت ثبت الوجوب الغيري كذلك ، ولا تختلف المقدمات في الوجوب الغيري ، هذا إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب مطلقة.

(٢) أي : لا يجب الالتزام بوجوب سائر المقدمات قبل وقت الواجب ؛ إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة وهي : القدرة عليه بعد مجيء زمانه ، فتختلف المقدمات قبل الوقت ، فبعضها واجبة ، وبعضها غير واجبة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن لكل مقدمة سهم في إيجاد القدرة على ذيها ، فإن القدرة على الواجب ناشئة من القدرة على مقدماته ، وبانتفاء القدرة

٨٨

تتمة :

قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل ، وكونه (١) موردا للتكليف

______________________________________________________

على واحدة منها تنتفي القدرة عليه ، فلا بد من قدرات متعددة حسب تعدد مقدماته.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن القدرة على الواجب من ناحية مقدماته على قسمين : قدرة خاصة ، وقدرة مطلقة.

والأولى : هي القدرة على الواجب من قبل القدرة على المقدمة بعد مجيء زمان الواجب ، كما أشار إليه بقوله : «وهي القدرة عليه بعد مجيء زمانه».

والثانية : هي القدرة على الواجب في زمانه قدرة حاصلة من زمن وجوبه ، كما أشار إليه بقوله : «لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه» ، فهي شاملة للقدرة بعد مجيء زمان الواجب ، وللقدرة الموجودة قبل زمانه ولهذا سميت بالمطلقة ، والمقدمة التي أخذ في الواجب من قبلها قدرة مطلقة : تكون واجبة من أول زمن وجوب ذيها.

هذا بخلاف المقدمة التي أخذ في الواجب من قبلها قدرة خاصة ؛ حيث لا تكون واجبة قبل زمان الواجب ، بل قام الدليل على عدم وجوبها قبل زمان الواجب.

فحينئذ إذا انتفت القدرة على المقدمات المذكورة في وقت الواجب ـ بأن اتفق عدم التمكن منها في زمانه ـ سقط وجوب الواجب ، فإذا انتفى الوجوب النفسي انتفى الوجوب الغيري ؛ لأنه تابع.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف في المقام ، والحواشي في المقام لا تخلو عن التطويل الممل ، أو الاختصار المخل.

قوله : «فتدبر جدا» لعله إشارة إلى : أن قيام الدليل على عدم وجوب المقدمة في زمان وجوب ذيها مستلزم للتفكيك بين الوجوب النفسي والغيري.

في دوران أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة

(١) أي : كون القيود موردا للتكليف ؛ بأن يكون تحصيلها واجبا «وعدمه» أي : عدم كونه موردا للتكليف ؛ بأن لا يكون تحصيلها واجبا ، والأولى : تأنيث الضمير في «كونه» لرجوعه إلى القيود.

وحاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» : أنك قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل وعدمه ؛ بمعنى : أن بعض القيود يكون تحصيله واجبا ، كما إذا كان قيدا

٨٩

وعدمه ، فإن علم حال قيد فلا إشكال ؛ وإن دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة ، نحو الشرط المتأخر أو المقارن ، وأن يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب ، فإن كان في مقام الإثبات ما يعيّن حاله ، وأنه راجع إلى أيّهما من القواعد العربية (١) فهو ، وإلّا فالمرجع هو الأصول العملية.

وربما قيل (٢) في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة ، بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة ، وتقييد المادة ، بوجهين :

______________________________________________________

للواجب المطلق ، وبعضها لا يكون تحصيله واجبا ؛ كما إذا كان القيد راجعا إلى الهيئة المسمى بالمقدمة الوجوبية.

أو كان مأخوذا عنوانا للمكلف نحو : «المسافر يقصّر» ، أو كان راجعا إلى المادة ، وكان غير اختياري كالوقت ، أو كان اختياريا قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب نحو : «صل عند ما تطهر» ، والقيد في هذه الموارد مما علم حاله من حيث وجوب تحصيله وعدم لزوم تحصيله.

ولكن غرض المصنف من هذه التتمة هو : ذكر حال القيد فيما إذا لم يعلم حاله بأنه راجع إلى الهيئة بنحو الشرط المتأخر أو المقارن أو المادة ؛ بنحو يمكن أن يكون موردا للتكليف ، أو يستحيل على ما عرفت من التفصيل المتقدم في القيود.

وحاصل الكلام في المقام : أنه إذا علم حال القيد فلا كلام فيه ولا إشكال في حكمه. وأما إذا لم يعلم ذلك وأمكن رجوع القيد لبّا وواقعا وفي مقام الثبوت إلى كل من الهيئة والمادة ؛ فإن كان هناك في مقام الإثبات ما يوجب ظهور رجوعه إلى الهيئة أو المادة ؛ كالقواعد العربية مثلا الموجبة لظهور رجوعه إلى الهيئة ، فلا كلام أيضا ، وإن لم يكن في مقام الإثبات ما يعيّن ذلك : فالمرجع هي الأصول العملية ومقتضاها البراءة عن وجوب هذا القيد لكونه مشكوك الوجوب ، وقد قرر في ضبط مجاري الأصول : أن الشك في التكليف مجرى البراءة ، فيرجع في المقام إلى أصالة البراءة عن وجوب هذا القيد ، بل عن وجوب ذي المقدمة ، لأن المفروض : عليّة وجوب الواجب لوجوب مقدمته ، فنفي أحدهما بأصالة البراءة مستلزم لنفي الآخر ؛ للتلازم بين العلة والمعلول وجودا وعدما. هذا ما أشار إليه بقوله : «وإلّا فالمرجع هو الأصول العملية».

(١) أي : القواعد العربية الموجبة للظن برجوع القيد إلى الهيئة ، وإن لم توجب العلم بذلك ، وإلّا اندرج في صورة العلم بحال القيد ، فلا وجه حينئذ للمقابلة بينه وبين صورة العلم.

(٢) القائل هو صاحب التقريرات ، قال بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادة ،

٩٠

أحدهما : أن إطلاق الهيئة يكون شموليا ، كما في شمول العام لأفراده ، فإن وجوب الإكرام ـ على تقدير الإطلاق ـ يشمل جميع التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له ، وإطلاق المادة يكون بدليا (١) غير شامل لفردين في حالة واحدة.

ثانيهما (٢) : أن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة ويرتفع به

______________________________________________________

ولو تم ما في التقريرات لا تصل النوبة إلى الأصول العملية لتقدم الأصول اللفظية عليها.

وحاصل كلام الشيخ في التقريرات : أنه إذا ثبت قيد ، ولم يعلم أنه راجع إلى الهيئة أو إلى المادة فاختار : ترجيح إطلاق الهيئة والوجوب ، على إطلاق المادة والواجب لوجهين :

الأول : أن إطلاق الهيئة شموليّ كالعام بالنسبة إلى أفراده. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة في قوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» ؛ حيث إن إطلاق الهيئة شمولي ، وإطلاق المادة بدلي ؛ بمعنى : أن الطلب المستفاد من الهيئة ثابت على كل حال وفي كل تقدير ؛ لا في حال دون حال وفي تقدير دون تقدير ، فالطلب والوجوب مستمر إلى حصول امتثال أمره ، وشامل لجميع التقادير والأحوال ؛ نظير شمول كل عالم ـ في قوله : «أكرم كل عالم» ـ لكل فرد من أفراد العلماء في آن واحد ؛ كما هو شأن العام الاستغراقي.

هذا بخلاف إطلاق المادة كالإكرام في المثال المزبور حيث إنه بدلي كالمطلق بالنسبة إلى أفراده ؛ إذ المطلوب منها فرد واحد من الإكرام على البدل لا جميع أفراده (١).

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إذا دار الأمر بين تخصيص العام الشمولي ، وبين تقييد المطلق البدلي يقدم الثاني على الأول كما سيأتي وجهه في مبحث العام والخاص ، ومن المعلوم : أن ما نحن فيه من صغرياته ؛ لما عرفت من أن إطلاق الهيئة شموليّ ، وإطلاق المادة بدليّ ، فالإطلاق الشمولي مما يقدم على البدلي.

(١) ملخص تقريب كون إطلاق المادة بدليا هو : أن مقتضى تعلق الأمر بطبيعة هي مطلوبية صرف الوجود منها ، الذي لا ينطبق على جميع الأفراد في آن واحد ؛ بل ينطبق على كل واحد من الأفراد على البدل كما هو شأن العام البدلي ، فلا محالة يكون إطلاق المادة بدليّا لا شموليا.

(٢) الدليل والوجه الثاني على ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة : «أن تقييد

__________________

(١) راجع : مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٢٥٢.

٩١

مورده ، بخلاف العكس ، وكلما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

أما الصغرى (١) : فلأجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان لإطلاق المادة ؛ لأنها (٢) لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة ، بخلاف تقييد المادة ، فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله ، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

______________________________________________________

الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة ، ويرتفع به» أي : يرتفع بتقييد الهيئة «مورده» أي : مورد إطلاق المادة ، «بخلاف العكس» أي : تقييد إطلاق المادة فإنه لا يوجب بطلان محل الإطلاق في الهيئة. «وكلما دار الأمر بين تقييدين كذلك» أي : أحدهما موجب لتقييدين ، والآخر موجب لتقييد واحد «كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى» من التقييد الذي يوجب بطلان الآخر.

وأما توضيح ذلك فكريّا : فيتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين تقييد إطلاق الهيئة وبين تقييد إطلاق المادة. وحاصل الفرق بينهما هو : أن تقييد إطلاق الهيئة موجب لتقييد إطلاق المادة أيضا ؛ لأنّ إطلاق الهيئة يبطل محل الإطلاق في المادة ، فإذا فرض مثلا تقييد وجوب إكرام زيد بمجيئه كان الواجب ـ وهو الإكرام ـ مقيدا بالمجيء أيضا ، لأن الإكرام حينئذ لا ينفك عن المجيء.

ففيه : ارتكاب خلاف ظاهرين ، هذا بخلاف تقييد إطلاق المادة ؛ فإن الهيئة تبقى على إطلاقها ؛ إذ التقدير ثبوت الوجوب من الآن للإكرام إلى المجيء ، فالوجوب ثابت للإكرام على تقديري المجيء وعدمه ، ففيه ارتكاب خلاف ظاهر واحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه إذا دار الأمر بين ارتكاب خلاف ظاهرين ، وبين ارتكاب خلاف ظاهر واحد يقدم الثاني على الأول ، والمقام من هذا القبيل.

(١) أي : وهي قوله : أن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة ، وقد تقدم تفصيل ذلك.

(٢) أي : المادة لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة لما عرفت : من استلزام تقييد إطلاق الهيئة تقييد المادة ، بخلاف تقييد إطلاق المادة فإنه لا يستلزم تقييد اطلاق الهيئة كما عرفت.

٩٢

وأما الكبرى (١) : فلأن التقييد وإن لم يكن مجازا إلّا إنه (٢) خلاف الأصل ، ولا فرق في (٣) الحقيقة بين تقييد الإطلاق ، وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر ، وبطلان العمل به.

وما ذكرناه من الوجهين (٤) موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الأستاذ العلامة «أعلى الله مقامه» ، وأنت خبير بما فيهما.

______________________________________________________

(١) أي : وهي ـ قوله : ـ «وكلما دار الأمر بين تقييدين كذلك ...» إلخ. أي : قد عرفت النتيجة وهي : أولوية تقييد واحد حاصل من تقييد المادة ، على تقييدين حاصلين من تقييد الهيئة.

وبعبارة أخرى : أولوية تقييد لا يوجب بطلان إطلاق الآخر من تقييد يوجب ذلك.

أما وجه الأولوية فهو : كون التقييد خلاف الظاهر ، ومن المعلوم : أن ارتكاب خلاف ظاهر واحد أولى من ارتكاب خلاف ظاهرين عند أبناء المحاورة ، الذين يحتفظون على الظواهر ، ولا يعدلون عنها إلّا بقرينة على إرادة خلافها.

وليس وجه الأولوية لزوم تعدد المجاز على تقدير تقييد إطلاق الهيئة ، ووحدته على فرض تقييد إطلاق المادة ؛ وذلك لعدم لزوم المجازية في التقييد أصلا ؛ لكون القيد مستفادا من دالّ آخر ، مثلا : إن الرقبة المؤمنة حقيقة في معناها ، والإيمان قد أريد بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول ، فالتقييد لا يكون مجازا على مبنى المحققين ؛ كما أشار إليه بقوله : «وإن لم يكن مجازا» ؛ لأن اسم الجنس ونحوه موضوع للماهية اللابشرط المقسمي ، والتقييد والإرسال كلاهما بدال آخر على نحو تعدد الدال والمدلول.

(٢) أي : إلّا إن التقييد خلاف الأصل أي : الظاهر.

(٣) أي : لا فرق في الحقيقة والواقع بين تقييد الإطلاق بعد انعقاده ، وبين أن يعمل عملا يمنع عن انعقاد الإطلاق ، فيشترك مع التقييد في بطلان العمل بالإطلاق ؛ كتقييد الهيئة في المقام فإنه يمنع عن وجود الإطلاق في المادة ، فالمقام وإن لم يكن من دوران الأمر بين تقييد إطلاقين حقيقة ، وبين تقييد إطلاق واحد ؛ إلّا إنه نظيره في عدم العمل بالإطلاق ، فلا فرق في عدم العمل به بين تقييده وبين إيجاد عمل يمنع عن انعقاد الإطلاق من الأول.

(٤) أي : هما اللذان استدل بهما لترجيح تقييد المادة على تقييد الهيئة :

أحدهما : كون إطلاق الهيئة شموليا ، وإطلاق المادة بدليّا.

والآخر : كون تقييد الهيئة مبطلا لمحل الإطلاق في المادة ، دون العكس.

٩٣

أما في الأول (١) : فلأن مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة ، إلّا إنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها ؛ لأنه أيضا كان بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

______________________________________________________

(١) أجاب المصنف كلا الوجهين ، وحاصل جوابه عن الوجه الأول يتضح بعد تقديم مقدمة وهي : الفرق بين الشمول المستفاد من مقدمات الحكمة ، وبين الشمول المستفاد من الألفاظ الموضوعة للعموم ، والفرق بينهما : أن الشمول المستفاد من الإطلاق إنما هو بمقدمات الحكمة ، والعموم المستفاد من ألفاظ العموم إنما هو بالوضع ، والأول : كالمفرد المحلى باللام بناء على عدم وضعه للعموم ، فعمومه إنما هو ببركة مقدمات الحكمة ، كقوله تعالى : (أحلّ الله البيع) ، فالمستفاد من البيع هو العموم الشمولي ببركة مقدمات الحكمة ، كما أن المستفاد من المفرد المنكر في نحو : «أكرم عالما» هو العموم البدلي بمقدمات الحكمة.

والثاني : كالجمع المحلي باللام في نحو : «أكرم العلماء» ؛ حيث إن عمومه إنما هو بالوضع لا بمقدمات الحكمة.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك : إن إطلاق الهيئة وإن كان شموليا والآخر بدليّا ؛ إلّا إن المناط في ترجيح أحد الإطلاقين على الإطلاق الآخر ليس كون أحدهما شموليا والآخر بدليا ؛ بل المناط في الترجيح هو الاستناد إلى الوضع ؛ لأن الأقوى هو ما يكون مستندا إليه ، وقد عرفت : عدم كون شمول إطلاق الهيئة بالوضع ، بل هو مثل بدلية إطلاق المادة إنما هو بمقدمات الحكمة ، فليس أحدهما أقوى من الآخر.

وقوله : «لأنه أيضا» تعليل لعدم الترجيح. نعم ؛ إذا كان الإطلاق الشمولي مستندا إلى الوضع كما في الجمع المحلى باللام ، والإطلاق البدلي مستندا إلى مقدمات الحكمة مثل : الإطلاقات المنعقدة لأسماء الأجناس مثل : لفظ «البيع» ، و «الربا» في قوله تعالى : (أحل الله البيع وحرّم الرّبا) ؛ قدم الإطلاق الشمولي الوضعي على الإطلاق البدلي الحكمي ، لا بملاك كونه شموليا ؛ بل بملاك كونه وضعيا ، وعلى هذا ففي المقام حيث إن كلا من إطلاق الهيئة وإطلاق المادة مستند إلى مقدمات الحكمة ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر ؛ ولو كان إطلاق الهيئة شموليا وإطلاق المادة بدليا.

والسر في تقديم ما هو مستند إلى الوضع على ما هو مستند إلى مقدمات الحكمة هو : أن من مقدمات الحكمة عدم البيان وعدم ما يصلح للقرينية ، والوضع بيان فيجب الاستناد إليه.

ولكن مقتضى مقدمات الحكمة يختلف ؛ فقد يكون عموما شموليا كما في قوله تعالى : (أحلّ الله البيع) الوارد في مقام الامتنان على العباد ، وقد يكون بدليا كما في

٩٤

غاية الأمر : أنها تارة : يقتضي العموم الشمولي ، وأخرى : البدلي ، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا ، كما لا يخفى.

وترجيح (١) عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لأجل كون دلالته بالوضع ؛ لا

______________________________________________________

قول الشارع : «إن ظاهرت فأعتق رقبة» ؛ حيث يكون مقتضى الإطلاق عتق رقبة واحدة ؛ سواء كانت مؤمنة أو كافرة ، وقد يكون مقتضاها التعيين كما في صيغة الأمر الوارد في مقام البيان ؛ فإن مقتضاها كون الوجوب نفسيّا عينيا تعيينيا.

هذا ما أشار إليه بقوله : «غاية الأمر : أنها تارة يقتضى العموم الشمولي ...» إلخ. وكان غرض المصنف من هذا الكلام : دفع توهم بتقريب : أنه إذا كان إطلاق كل من الهيئة والمادة ناشئا من مقدمات الحكمة لكانت نتيجتها في الهيئة والمادة واحدة ؛ بمعنى : أن يكون الإطلاق في كليهما شموليا ، أو بدليا ؛ لا أن يكون الإطلاق في أحدهما شموليا وفي الآخر بدليا.

وحاصل الدفع : أنه لا منافاة بين كون نتيجتها مختلفة حسب اقتضاء خصوصيات الموارد ؛ بأن يكون الإطلاق واردا مورد الامتنان ، أو يكون الطلب متعلقا بصرف الطبيعة ؛ بأن يكون المطلق مفردا منكرا ، فالإطلاق في الأول : شمولي ، وفي الثاني : بدلي ، كما عرفت.

(١) قوله : «وترجيح عموم العام ...» إلخ دفع لما يتوهم : من تقديم العموم الشمولي على البدلي عند وقوع التعارض بينهما ؛ كما لو قال : «أكرم العلماء ، ولا تكرم فاسقا» ، فالعالم الفاسق ـ الذي هو مورد الاجتماع والتعارض ـ يلحق في الحكم بالعادل فيكرم ، فإذا لم يرجح الشمولي على البدلي ، فلما ذا نرى القوم يقدمون العام على المطلق؟ ولازم ذلك : تقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة لكون الأول شموليا ، والثاني بدليا.

وحاصل الدفع : أن تقديم عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لأجل كون العموم بالوضع ، والإطلاق البدلي بمقدمات الحكمة ، فليس تقديمه بملاك كونه عموما شموليا حتى يقال بترجيح إطلاق الهيئة لكونه شموليا على اطلاق المادة لكونه بدليا.

ولذا لو انعكس الأمر فرضا ؛ بأن يكون هناك عام دل بالوضع على العموم البدلي ، ومطلق دل بمقدمات الحكمة على الشمولي لكان العام مقدما على الإطلاق بلا كلام ، كما أشار إليه بقوله : «فلو فرض أنهما في ذلك على العكس» أي : «فلو فرض أن العام والمطلق في الشمولية والبدلية على العكس» لكان ما بالوضع مقدما على ما بمقدمات الحكمة ؛ وإن كان الثاني شموليا والأول بدليا.

٩٥

لكونه شموليا ، بخلاف المطلق فإنه بالحكمة ، فيكون العام أظهر منه فيقدم عليه ، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس ، فكان عام بالوضع دل على العموم البدلي ، ومطلق بإطلاقه دل على الشمول ، لكان العام يقدم بلا كلام.

وأما في الثاني (١) : فلأن التقييد وإن كان خلاف الأصل ، إلّا إن العمل ـ الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة ، وانتفاء بعض مقدماته ـ لا يكون على خلاف الأصل أصلا ، إذ معه لا يكون هناك إطلاق ؛ كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.

وبالجملة : لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلّا كونه (٢) خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة ، ومع انتفاء المقدمات (٣) لا يكاد ينعقد له هناك

______________________________________________________

(١) بعد ما فرغ المصنف عن جواب الوجه الأول شرع في الجواب عن الوجه الثاني وهو : استلزام تقييد الهيئة لارتكاب خلاف أصلين ، واستلزام تقييد المادة ارتكاب خلاف أصل واحد.

وحاصل الجواب عن الوجه الثاني يتضح بعد تقديم مقدمة وهي : الفرق بين تقييد إطلاق المطلق بعد انعقاده بجريان مقدمات الحكمة ، وبين إيجاد المانع عن جريان مقدمات الحكمة ، الموجبة لانعقاد إطلاق المطلق.

وحاصل الفرق : أن الأول مخالف للأصل دون الثاني ؛ إذ ليس إيجاد المانع عن انعقاد الإطلاق كالتقييد في المخالفة للأصل ؛ لأن المراد بالأصل هنا هو الإطلاق ، ومن المعلوم : إنه لا إطلاق عند عدم جريان مقدمات الحكمة.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك : أن ما ذكر من كون التقييد في الهيئة يوجب بطلان الإطلاق في المادة ـ وهو خلاف الأصل ـ غير تام ؛ إذ تقييد الهيئة لا يوجب تقييد إطلاق المادة حتى يكون على خلاف الأصل.

بل تقييد الهيئة يوجب عدم انعقاد الإطلاق في جانب المادة ، وهذا ليس مخالفا للأصل أصلا.

فقول الشيخ في بيان الكبرى ـ حيث قال : «ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق ، وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل به» ـ غير مستقيم ؛ لما عرفت من الفرق بينهما : من أن الأول : على خلاف الأصل دون الثاني. فالقياس بينهما قياس مع الفارق.

(٢) أي : كون التقييد «خلاف الظهور ...» إلخ.

(٣) أي : يكفي في عدم انعقاد الإطلاق انتفاء إحدى مقدمات الحكمة ، من دون الحاجة إلى انتفاء الجميع.

٩٦

ظهور ، كان ذلك العمل المشارك مع التقييد في الأثر ، وبطلان العمل بإطلاق المطلق مشاركا معه في خلاف الأصل أيضا.

وكأنه (١) توهم : أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت ، ورفع اليد عن العمل به (٢) تارة : لأجل التقييد ، وأخرى : بالعمل المبطل للعمل به وهو (٣) فاسد ؛ لأنه لا يكون إطلاق إلّا فيما جرت هناك المقدمات.

______________________________________________________

وخلاصة الكلام في المقام : أن انتفاء المقدمات ـ الحاصل من تقييد الهيئة ـ يمنع عن انعقاد ظهور للمادة في الإطلاق ، وهذا المنع وإن كان مشاركا للتقييد في بطلان العمل بالإطلاق ؛ إلّا إنه ليس مشاركا له في المخالفة للأصل ـ أي : الظاهر أيضا ـ فالمشاركة مختصة ببطلان العمل بالإطلاق ، ولا يشارك التقييد في مخالفة الأصل.

فبالنتيجة : العمل بتقييد الهيئة الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة ، وانتفاء بعض مقدماتها في المادة لا يكون على خلاف الأصل ؛ إذ مع تقييد الهيئة لا يكون هناك إطلاق ، كي يكون بطلان العمل بالإطلاق في الحقيقة مثل التقييد ، الذي يكون على خلاف الأصل.

(١) أي : الشيخ «توهم : أن إطلاق المطلق ...» إلخ أي : هذا الكلام توجيه لما في التقريرات : من كون تقييد الهيئة مستلزما لبطلان العمل بإطلاق المادة. وحاصل التوجيه : أن الشيخ توهم ثبوت الإطلاق للمادة كثبوت العموم للعام ، فيكون عموم الهيئة شموليا معارضا لإطلاق المادة بدليا ، والمراد من قوله : «كعموم العام» هو : عموم الهيئة ، ومن المطلق : المادة.

(٢) أي : إطلاق المطلق في جانب المادة.

وحاصل الكلام : أنه رفع اليد عن العمل بإطلاق المادة تارة : لأجل التقييد ، وأخرى : «بالعمل المبطل» أي : بتقييد الهيئة ؛ لأن تقييد الهيئة موجب لبطلان العمل بإطلاق المادة ، فيكون على خلاف الأصل.

(٣) أي : توهم : أن إطلاق المطلق كالعموم «فاسد» ، وقد سبق وجه الفساد وقلنا : إنه لا إطلاق للمادة حتى يكون تقييد الهيئة مبطلا له ؛ وذلك لتوقفه على جريان مقدمات الحكمة ، والمفروض : عدم جريانها ، حيث إن تقييد الهيئة مانع عنه ، لكونه بيانا للمادة ومضيقا لدائرتها ، فتقييد الهيئة يكون كقرينة على عدم الإطلاق في المادة.

وقد قرر في محله : عدم جريان مقدمات الحكمة مع وجود ما يصلح للقرينية ، وعليه : فلا إطلاق للمادة حينئذ حتى يكون تقييد الهيئة مبطلا له ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ٢٢٦» مع تصرف ما.

٩٧

نعم (١) ؛ إذا كان التقييد بمنفصل ، ودار الأمر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهم مجال ، حيث (٢) انعقد للمطلق إطلاق ، وقد استقر له ظهور ولو بقرينة الحكمة ، فتأمل (٣).

______________________________________________________

(١) قوله : «نعم ؛ إذا كان التقييد بمنفصل ...» إلخ استدراك على قوله : «وهو فاسد».

وحاصل الاستدراك : أن لهذا التوهم مجالا في صورة انفصال القيد ، ودوران أمره بين الرجوع إلى الهيئة وبين الرجوع إلى المادة ، حيث إن الإطلاق حينئذ ثابت لكل من الهيئة والمادة ، لجريان مقدمات الحكمة في المادة بلا مانع ؛ إذ المفروض : انفصال القيد وعدم منعه من انعقاد الإطلاق في كل من الهيئة والمادة.

والخلاصة : أن لتوهم ثبوت الإطلاق في كل من الهيئة والمادة مجالا مع انفصال القيد ، دون اتصاله.

(٢) قوله : «حيث» ، تعليل لقوله : «كان لهذا التوهم مجال».

وحاصل التعليل : إنه لا مانع من انعقاد الإطلاق للمادة بمقدمات الحكمة ، مع عدم بيان متصل في الكلام مانع عن جريانها ؛ إذ المفروض : انفصال القيد كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٢٧».

(٣) لعله إشارة إلى : عدم صحة هذا التوجيه ، وهو فرض انفصال القيد الموجب لثبوت الإطلاق في كل من الهيئة والمادة.

وجه عدم صحته : أن عدم البيان ـ الذي هو من مقدمات الإطلاق ـ إن أريد به عدم البيان في مقام التخاطب فهو متين ، لكنه ليس كذلك ، إذ المنسوب إلى الشيخ الأنصاري هو : عدم البيان الجدي ، كالبيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ؛ لا البيان في مقابل الإهمال. فلو ورد بعد حين دليل على التقييد كشف ذلك عن عدم إطلاق من أول الأمر ، وعليه : فلا فرق في عدم انعقاد الإطلاق بين اتصال القيد وانفصاله ، فتوجيه كلام الشيخ «قدس‌سره» وهو ثبوت الإطلاق في كل من الهيئة والمادة بفرض القيد منفصلا غير وجيه على مبناه ، ووجيه على مبنى المشهور. راجع «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٢٢٨».

خلاصة البحث مع نظريات المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ المنجز : ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور كالمعرفة يسمى بالواجب المنجز ؛ لأن التكليف ثابت ومنجز.

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والمعلق : ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور كالحج ؛ حيث يتوقف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور. وهذا التقسيم ابتكره صاحب الفصول ، وقد فرّع عليه وجوب المقدمة قبل وقت العمل بذي المقدمة في الواجب المعلق ، ويسمى بالواجب المعلق ؛ لكون الواجب معلقا على أمر غير مقدور.

٢ ـ وهناك جهات من البحث : الأولى : هي الفرق بين الواجب المشروط المشهوري ، والواجب المعلق الفصولي.

الثانية : هي إنكار الشيخ الأنصاري لتقسيم الواجب إلى المنجز والمعلق.

الثالثة : هي إشكال المصنف على هذا التقسيم.

الرابعة : إشكالات أخرى على الواجب المعلق.

وأما الفرق : فملخصه على ما في الفصول هو : أن التوقف في المشروط المشهوري إنما هو للوجوب ، وفي الواجب المعلق إنما هو للفعل الواجب ، فيكون الوجوب حاليا في المعلق ، واستقباليا في المشروط ؛ لتوقف الوجوب فيه على الشرط.

وأما إنكار الشيخ الأنصاري لهذا التقسيم : فلأن الواجب المعلق الفصولي هو عين الواجب المشروط الشيخي ، فتقسيم الشيخ الواجب إلى المطلق والمشروط يغني عن تقسيم الفصول الواجب إلى المنجز والمعلق.

غاية الأمر : المعلق الفصولي أخص من المشروط الشيخي ؛ لأن المعلق يتوقف على أمر غير مقدور كالموسم للحج ، والمشروط ما كان الواجب متوقفا على أمر استقبالي سواء كان ذلك الأمر مقدورا أو غير مقدور. فحينئذ تقسيم الفصول ليس إلّا نفس تقسيم الشيخ ، فالشيخ ملتزم بالواجب المعلق لكن سماه مشروطا. نعم ؛ إنه أنكر المشروط بمعناه المشهور ، فحينئذ إنكار الشيخ بحسب الظاهر للمعلق الفصولي لا يخلو عن إشكال ؛ لأن المفروض هو : اتحاد المعلق الفصولي مع المشروط الشيخي ، فلا معنى للإنكار.

وأما إشكال المصنف على تقسيم الفصول : فملخصه : أن مجرد كون الواجب حاليا في المنجز ، واستقباليا في المعلق لا يجدي في صحة التقسيم إلى المنجز والمعلق بعد كون الوجوب في كلا القسمين حاليا ومطلقا ، وغرض الفصول من المعلّق ـ وهو وجوب المقدمة ـ مترتب على كلا القسمين ، فلا يصح التقسيم المزبور لعدم الثمرة والفائدة.

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ الكلام في الجهة الرابعة وهي : الإشكالات الواردة على الواجب المعلق غير ما مر من الشيخ والمصنف.

الإشكال الأول : الذي أشار إليه بقوله : «ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر.» وهو المحقق النهاوندي ، وخلاصة ما أفاده من الإشكال على الواجب المعلق : أن الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في عدم الانفكاك عن المراد ، فكما أن الإرادة التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد ـ لأنها عبارة عن الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ـ فكذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعية عن المراد وهو فعل الغير ، فهي لا تنفك عن حركة الغير إلى الفعل ، فالتعليق باطل لاستلزامه انفكاك الإرادة عن المراد ، ولازم ذلك : امتناع الواجب المعلق لكون المراد فيه متأخرا عن الإرادة زمانا.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بوجوه :

الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «وفيه : أن الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي ...» إلخ ، وخلاصة هذا الوجه من الجواب : أن المستشكل قد قاس الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية بعدم انفكاك المراد عن الإرادة ، والمصنف يقول : بعدم امتناع انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد ، فتتعلق الإرادة التكوينية بأمر استقبالي فيما إذا كان المراد بعيد المسافة ، ومما يحتاج إلى مقدمات كثيرة محتاجة إلى زمان طويل ، كطي المسافات ، مثلا : نفرض أن المراد هو تحصيل المال الذي يحتاج تحصيله إلى السفر المحتاج إلى المقدمات العديدة ، فينفك المراد عن الإرادة ؛ لأن فعل المقدمات لا يكون له إرادة مستقلة ، بل إرادتها تبعية مترشحة عن إرادة ذيها ، فالإرادة التكوينية تنفك عن المراد المنوط بتمهيد مقدمات ومضي زمان ، فالإرادة التشريعية تنفك عن المراد بطريق أولى.

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «وقد غفل ...» إلخ ، وحاصله : منع اعتبار التحريك الفعلي في تعريف الإرادة ؛ بل المراد من حركة العضلات هي : مطلق الحركة فعلية كانت أو شأنية ، فيكفي في تحقق الإرادة أن تكون حركة العضلات استقبالية ، نعم ؛ يعتبر فيها التحريك الفعلي حين إيجاد المراد ، ففي المراد الاستقبالي وإن كان يلزم انفكاك الإرادة عن التحريك الفعلي ؛ إلّا إنه لا ضير فيه بعد منع اعتبار التحريك الفعلي في الإرادة وكفاية التحريك في موطنه.

الوجه الثالث : ما أشار إليه بقوله : «هذا مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلّا بأمر متأخر عن زمان البعث ...» إلخ ، ومرجع هذا الوجه الثالث : إلى بطلان قياس الإرادة التشريعية

١٠٠