دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

ولزوم اتصاف ما لا مزية فيه ولا منقصة بالاستحباب ، لأنه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة ؛

______________________________________________________

وحاصل الأمر الثاني : أن تفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب يستلزم استحباب العبادة المكتنفة بما لا يلائمها ولا ينافرها كالصلاة في الدار ، بالإضافة إلى الصلاة في الحمام ، ونحوه من المشخصات المنافرة للطبيعة ؛ لكون الصلاة في الدار أكثر ثوابا من الصلاة في الحمام ، وهذا مما لم يلتزم به أحد من الفقهاء ؛ إذ يلزم أن يكون كل من الكراهة والاستحباب من الأمور النسبية ، بمعنى : أن الصلاة في الدار مستحبة بالنسبة إلى الصلاة في الحمام ، ومكروهة بالنسبة إلى الصلاة في المسجد ، هذا تمام الكلام في تقريب الإشكالين بالأمرين المذكورين.

ولكن لا يرد شيء من الأمرين على تفسير العبادة المكروهة بأقلية الثواب ؛ وذلك لما عرفت عند شرح كلام المصنف : «وذلك لأن الطبيعة المأمور بها في حدّ نفسها ...» إلخ. فقوله : «لما عرفت ...» إلخ تعليل لقوله : «لا يرد عليه».

وحاصل الكلام في المقام : أنه ليس من أقلية الثواب وأكثريته الأقلية والأكثرية المطلقتين ؛ بل أكثرية الثواب وأقليته اللتان تضافان إلى نفس الطبيعة المتشخصة بمشخص لا يوجب مزية ولا منقصة ، فإذا كان لنفس الطبيعة من حيث هي مقدار حصة من المصلحة ، واختلاف المشخصات في الملاءمة وعدمها يوجب زيادة الثوب وقلتها ، كما أن الفرد المكروه خصوص العبادة التي يكون ثوابها. لاحتفافها بما لا يلائمها. أقل من ثواب الفرد المتشخص ؛ بما لا يلائمه ولا ينافره ؛ كالصلاة في الدار ونحوها من الأمكنة المباحة ، فلا يتصف غير هذا الفرد من أفراد الطبيعة بالكراهة ، كما لا تتصف الصلاة في الدار ونحوها من الأمكنة المباحة. التي لا توجب زيادة ولا نقصانا في مصلحة الطبيعة. بالاستحباب بالإضافة إلى الصلاة الواقعة في مكان مكروه كالحمام ، لأكثرية ثواب الصلاة في الدار من ثواب الصلاة في الحمام.

وقوله : «وكذا كونه أكثر ثوابا» ناظر إلى ردّ اللازم الثاني.

وحاصل الردّ : أن الأكثرية تلاحظ بالقياس إلى نفس الطبيعة مع الغض عن تشخصها بالمشخص الملائم أو المنافر ، وعليه : فلا يصح أن يقال : إن الصلاة في المكان المباح كالدار مستحبة بالإضافة إلى الصلاة في الحمام ؛ لأن الأكثرية كما عرفت تضاف إلى مصلحة نفس الطبيعة ومن المعلوم : أن مصلحة الصلاة في المكان المباح ليست بأكثر من مصلحة نفس الطبيعة حتى تتصف بالاستحباب.

وبالجملة : المقيس عليه في الأقلية والأكثرية هو خصوص الفرد الذي لا يحدث بسبب تشخصه مزية ولا منقصة ، لا طبيعة أخرى ، كما في الإيراد الأول ، ولا مطلق

٤٢١

لما عرفت من : أن المراد من كونه أقل ثوابا : إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها ولا منقصة من المشخصات ، وكذا كونه أكثر ثوابا.

ولا يخفى : أن النهي في هذا القسم (١) لا يصلح إلّا للإرشاد (٢) ، بخلاف القسم الأول فإنه يكون فيه مولويا ، وإن كان حمله على الإرشاد بمكان من الإمكان.

______________________________________________________

الأفراد من نفس تلك الطبيعة كما هو مبنى الإيراد الثاني ، حيث إنه جعل المقيس عليه هو الفرد الذي يحدث بسبب تشخصه منقصة ، ولذا توهم أن الصلاة في المكان المباح بالنسبة إلى الصلاة في الحمام مستحبة ؛ لكن قد عرفت أنه ليس هو المقيس عليه ، على ما في «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ١٢٦».

(١) أي : القسم الثاني من العبادات المكروهة ، وهو : كون النهي متعلقا بذات العبادة وعنوانها مع وجود البدل لها.

(٢) أي : الإرشاد إلى فرد آخر يكون بدلا عن الفرد المنهى عنه ؛ إذ المفروض : وجود البدل للفرد المنهى عنه. ثم إن الحمل على الإرشاد يختص بالتوجيه المختص به ، وهو كون النهي لأجل حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها ، دون التوجيه المشترك بينه وبين القسم الأول من كون متعلق النهي عنوانا ذا مصلحة منطبقا على العبادة ومتحدا معها ، أو ملازما لها.

ووجه عدم صحة حمل النهي في هذا القسم الثاني على غير الإرشاد هو : أن النهي المولوي ولو تنزيهيا منوط بثبوت مفسدة في متعلقه ، أو مصلحة في نقيضه مزاحمة لمصلحته ، وهو مفقود في المقام ، لوجود المصلحة في متعلقه وعدم مصلحة في نقيضه ، بخلاف القسم الأول لوجود المصلحة في متعلقه وفي تركه ، ولذا صار أرجح من فعله ، فلا بد من كون النهي في هذا القسم الثاني إرشادا إلى منقصة حاصلة في الطبيعة بواسطة تشخصها بغير الملائم ؛ ككون الصلاة في الحمام.

وكيف كان ؛ فقد عرفت أن النهي في القسم الأول يمكن أن يكون إرشادا إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل لا الإرشاد إلى فعل آخر من تلك الطبيعة ، إذ المفروض : كونه مما لا بدل له كصوم يوم عاشوراء ، ويمكن أن يكون لاستحباب الترك مولويا إما لانطباق عنوان ذي مصلحة عليه كمخالفة بني أمية. وإما لاستلزامه أمرا مطلوبا كإتيان زيارة عاشوراء ، وهذه الوجوه الثلاثة المذكورة في القسم الأول ثم النهي في القسم الثاني.

وأما النهي في هذا القسم الثاني : فإما للوجوه الثلاثة المذكورة في القسم الأول كما

٤٢٢

وأما القسم الثالث (١) : فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان ، أو الملازمة له بالعرض والمجاز ، وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان.

ويمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى غيرها (٢) من سائر الأفراد مما لا يكون متحدا معه ، أو ملازما له إذ (٣) المفروض : التمكن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلا.

______________________________________________________

أشار إليه بقوله : فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول طابق النعل بالنعل ، وإما لنقص الثواب بالتشخص بما لا يلائم العبادة ، فحينئذ : يكون النهي إرشاديا لا غير ، كما أشار إليه بقوله : «كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها ...» إلخ ، إلى أن قال : «ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصلح إلّا للإرشاد» ، وقد تقدم وجه ذلك ، فلا حاجة إلى التكرار. هذا تمام الكلام في القسم الثاني.

(١) وهو ما تعلق به النهي لا بذات العبادة ؛ بل بما هو مجامع معها وجودا أو ملازم لها خارجا كالصلاة في مواضع التهمة. وحاصل الكلام : أن المصنف لما فرغ من توجيه القسمين الأولين شرع في توجيه القسم الثالث.

وملخص ما أفاده في الجواب عن القسم الثالث : أنه يمكن أن يكون النهي فيه مولويا ، ويمكن أن يكون إرشاديا. وعلى الأول لا يسند النهي إلى العبادة حقيقة ؛ بل بالعرض والمجاز ؛ لأن المنهي عنه هو ذاك العنوان المتحد مع العبادة. كالكون في مواضع التهمة. أو الملازم لها فيما إذا كانت الصلاة هي الأقوال والأفعال ، فإسناد النهي إلى الصلاة إذا كان مولويا. بأن يقال : إن الصلاة منهي عنها. إنما هو بالعرض والمجاز ؛ لأن المنهي عنه حقيقة هو الكون في مواضع التهمة ، ففي الحقيقة لا تكون الصلاة فيها منهيا عنها ، فلا يجتمع فيها الكراهة والوجوب ، ولا الأمر والنهي حتى يقال بجواز الاجتماع ، فلا دخل لها بمسألة الاجتماع أصلا.

(٢) يعني : إلى غير العبادة المنهي عنها من سائر الأفراد التي لا تكون متحدة مع العنوان ولا ملازمة له. وحاصل الكلام في المقام : أن النهي عن العبادة في القسم الثالث يمكن أن يكون عرضيا مولويا ، ويمكن أن يكون حقيقيا إرشاديا ؛ بأن يكون النهي عن الصلاة في مواضع التهمة للإرشاد إلى الصلاة في غيرها كالصلاة في الدار والمسجد.

(٣) تعليل لكون النهي إرشادا إلى سائر الأفراد ، بمعنى : أنه لما كان الإتيان بالأفراد السليمة عن الحزازة الواجدة للمزية ممكنا ؛ أمكن أن يكون النهي إرشادا إلى تلك الأفراد.

٤٢٣

هذا (١) على القول بجواز الاجتماع. وأما على الامتناع : فكذلك (٢) في صورة الملازمة.

______________________________________________________

(١) أي : أن ما ذكرناه. من كون المأمور به حقيقة هي العبادة والمنهي عنه حقيقة هو ذلك العنوان ، وإضافة النهي إلى العبادة تكون بالعرض والمجاز. مبني على القول بجواز الاجتماع ؛ لكفاية تعدد العنوان في إمكان اجتماع الأمر والنهي ، فعنوان العبادة هو المأمور به ، والعنوان المتحد الملازم هو المنهي عنه ، والتنافي بين الأمر والنهي يرتفع بتعدد العنوان.

(٢) يعني : بناء على الامتناع يكون المنهي عنه هو العنوان الملازم ، والملازم به عنوان العبادة ، هذا في صورة كون العنوان المنهى عنه ملازما للعبادة وأمّا في صورة اتحاد العنوان المنهي عنه مع العبادة ، وانطباقه عليها. وترجيح جانب الأمر على النهي كما هو المفروض ؛ إذا المفروض : صحة العبادة المكروهة بالإجماع كما أشار إليه المصنف في صدر البحث ، فيكون حال النهي في هذا القسم الثالث حال النهي في القسم الثاني ؛ بل هو يرجع إليه بالدقة ؛ وذلك ، لأن اتحاد العنوان المنهي عنه مع العبادة يوجب تشخصها بمشخص غير ملائم للطبيعة المأمور بها ، فينقص بسببه مقدار من مصلحتها ، فالنهي إرشاد إلى تلك المنقصة حتى يأتي العبد بالطبيعة في فرد آخر فاقد للحزازة والمنقصة.

وكيف كان ؛ فقد أجاب المصنف عن هذا القسم الثالث على الجواز تارة ، وعلى الامتناع أخرى ، أما على الجواز المبتني على تعدد متعلقي الأمر والنهي لأجل تعدد العنوان فحاصله : أنه يمكن أن يكون النهي مولويا وكان إسناده إلى العبادة مجازيا ؛ لأن المكروه هو ذاك العنوان المتحد معها أو الملازم لها دون العبادة بنفسها ، ويمكن أن يكون إرشاديا أي : خاليا عن الطلب النفساني ، فيكون إسناده إلى العبادة حقيقيا قد أنشئ بداعي الإرشاد إلى سائر الأفراد مما لم يبتل بعنوان ذي منقصة متحد معها أو ملازم لها.

وأما على الامتناع : فإن كان النهي لأجل عنوان يلازم العبادة خارجا فالجواب هو عين جواب المجوز حرفا بحرف كما أشار إليه بقوله : «وأما على الامتناع فكذلك في صورة الملازمة ...» الخ. وأما إذا كان النهي لأجل عنوان يتحد مع العبادة وجودا ورجحنا جانب الأمر كما هو المفروض ؛ إذ لو كان الراجح جانب النهي لكانت العبادة باطلة جدا لا مكروهة. فالجواب ما أجيب به في القسم الثاني. أي : الجواب الأخير فيه من كون النهي لمنقصة مغلوبة في الفعل وإنما نهى الشارع عنه إرشادا إلى سائر الأفراد مما لم يبتل بالمنقصة والحزازة أصلا.

فالمتحصل : إنه إما لا يلزم الاجتماع لكفاية تعدد العنوان في تعدد المعنون ، وإما يحمل النهي على الإرشاد ، فلا تنافي بين النهي الإرشادي والأمر المولوي.

٤٢٤

وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الأمر ـ كما هو المفروض ، حيث إنه صحة العبادة ـ فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني ، فيحمل على ما حمل عليه فيه ، طابق النعل بالنعل ، حيث إنه بالدقة يرجع إليه ؛ إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها (١) في الملاءمة كما عرفت.

وقد انقدح بما ذكرناه (٢) ؛ أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول مطلقا ، وفي هذا القسم على القول بالجواز.

______________________________________________________

(١) اختلاف المخصصات والمشخصات في الملاءمة وعدمها كما عرفت في القسم الثاني ، حيث قال : «لأن الطبيعة المأمور بها في حد نفسها إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة ...» إلخ ، فراجع ما سبق في القسم الثاني.

(٢) أي : وقد ظهر بما ذكرناه في معنى أقلية الثواب. وأنها تضاف إلى المصلحة الخاصة القائمة بأصل الطبيعة : إن حمل النهي على الإرشاد إلى أقلية الثواب لا مجال له في القسم الأول الذي لا بدل له أصلا.

وجه عدم المجال : أنه لا يتصور أقلية الثواب في مثل صوم يوم عاشوراء ، والنوافل المبتدأة وغيرهما مما لا بدل له ، وتنحصر الطبيعة في فرد واحد أي : ليس لها الأفراد حتى يكون النهي إرشادا إلى الأفراد التي لا منقصة فيها ؛ إذ ليس لصوم يوم عاشوراء فرد آخر حتى يحمل النهي عنه على الإرشاد إلى إتيان الطبيعة في ضمن هذا الفرد الآخر منها.

ومجرد أرجحية الترك. لانطباق عنوان ذي مصلحة عليه أو ملازمته للترك. لا يسوغ حمل النهي عن صوم يوم عاشوراء على الكراهة ، ضرورة : أن مصلحة الترك لأجل ذلك العنوان وإن كانت أرجح من مصلحة الفعل ، ولذا يكون تركه أرجح من فعله ، إلّا إنه ليس من الكراهة بمعنى أقلية الثواب على النحو الذي ذكرناه ؛ إذ الأقلية لا بد وأن تكون في بعض أفراد الطبيعة كالصلاة في الحمام بالنسبة إلى البعض الآخر من أفراد نفس هذه الطبيعة كالصلاة في غيره ، ولا تلاحظ الأقلية بين طبيعتين كأقلية مصلحة الصوم مثلا من مصلحة الصلاة.

وفي القسم الأول من العبادات المكروهة يكون العنوان المتحد أو الملازم أرجح من الفعل ، ومن المعلوم : مغايرة ذاك العنوان للعبادة ، فهما من قبيل الطبيعتين ؛ لا فردين من طبيعة واحدة كما هو مورد حمل النهي على أقلية الثواب ، فمصلحة صوم عاشوراء باقية

٤٢٥

كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها ، وأن الأمر الاستحبابي

______________________________________________________

على حالها ، ولا ينقص منها شيء ، غاية الأمر : أنه يزاحمها مصلحة أقوى منها ، وهذا غير نقصان مصلحة الطبيعة لأجل تشخصها بمشخص غير ملائم لها.

نعم قد تقدم في القسم الأول : إمكان حمل النهي فيه على الإرشاد إلى ترك طبيعة صوم عاشوراء لانطباق عنوان راجح عليه ؛ لكنه غير حمله على الإرشاد إلى أقلية الثواب بالمعنى المذكور ، أعني : الإرشاد إلى ترك فرد من الطبيعة فيه حزازة ومنقصة ، والإتيان بفرد آخر منها لا حزازة فيه ولا منقصة كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٣١».

قوله : «مطلقا» أي : سواء قيل بالجواز أم الامتناع.

وحاصل الكلام في المقام : أنه لا مجال لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول. بأن يكون النهي إرشادا إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل. أما على الجواز : فلعدم المقتضي لحمل النهي على الإرشاد بعد إمكان حمله على المولوي ؛ لتعدد متعلق الأمر والنهي ، والحمل على الإرشاد إنما هو لعدم إمكان حمله على المولوي.

وأما على الامتناع : فلعدم بدل للعبادة كصوم عاشوراء حتى يكون النهي إرشادا إلى سائر أفراد الطبيعة المأمور بها مما لا منقصة فيه.

وكيف كان ؛ فلما كان وجه عدم حمل الكراهة في القسم الأول على الإرشاد انتفاء الفرد الآخر لا يعقل الفرق بين القول بجواز الاجتماع والقول بامتناعه فقال : «إنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول مطلقا».

قوله : «وفي هذا القسم على القول بالجواز ...» إلخ. أي : في القسم الثالث يعني : وقد ظهر مما ذكرنا : أنه لا مجال لحمل النهي على أقلية الثواب في القسم الثالث أيضا على القول بالجواز ؛ إذ على هذا القول يتعدد متعلق الأمر والنهي ، ويستريح القائل بالجواز من دفع الإشكال ، فيبقى ظهور النهي على حاله ، ولا داعي إلى ارتكاب التأويل فيه بحمله على الإرشاد أو غيره من التأويلات. وكذا الحال على القول بالامتناع في صورة الملازمة ؛ لتعدد متعلق الأمر والنهي وجودا أيضا.

نعم ؛ على القول بالامتناع والاتحاد تنقص مصلحة الطبيعة ؛ لتشخصها بما لا يلائمها ، فيحمل النهي عنها على الإرشاد إلى نقصان المصلحة ، والإتيان بالطبيعة في ضمن سائر الأفراد التي لا تتحد مع ذلك العنوان الموجب للحزازة والمنقصة.

قوله : «كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب» ، إشارة إلى الجواب عن اجتماع الوجوب والاستحباب في العبادات. كالصلاة في المسجد ..

وحاصل الجواب : أن الأمر الاستحبابي بالصلاة جماعة أو في المسجد مثلا يمكن

٤٢٦

يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقا (١) على نحو الحقيقة (٢) ، ومولويا اقتضائيا كذلك (٣) ، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه (٤) ملازمتها لما هو مستحب أو متحد معه على القول بالجواز.

______________________________________________________

حمله على الإرشاد إلى أفضل الأفراد ، كحمل النهي في القسم الثاني والثالث على الإرشاد إلى منقصة حاصلة في مصلحة الطبيعة المتشخصة بمشخص غير ملائم للطبيعة ، فلا يكون في مثل صلاة الجماعة أمر استحبابي ووجوبي حتى يلزم اجتماع الحكمين الفعليين المولويين.

(١) يعني : على كلا القولين من الجواز والامتناع ؛ لأن محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي هو الحكمان المولويان ؛ لا كل حكمين ولو لم يكن أحدهما أو كلاهما مولويا ، فالحكمان المولوي والإرشادي لا إشكال في جواز اجتماعهما ، فلا بأس بكون الأمر بإتيان الصلاة جماعة إرشاديا. وعلى هذا : فلا يكون مثل الصلاة جماعة. مما اجتمع فيه حكمان مولوي بأصل الطبيعة وإرشادي إلى الفرد الأفضل منها. دليلا على جواز اجتماع حكمين فعليين حتى يستدل به على جواز اجتماع الأمر والنهي في مسألتنا.

(٢) يعني : أن الأمر الإرشادي يتعلق بنفس العبادة ، فهي المأمور بها بالأمر الإرشادي حقيقة ؛ لا عنوان آخر متحد معها أو ملازم لها حتى تكون العبادة مأمورا بها بالعرض والمجاز.

(٣) أي : على نحو الحقيقة ، وحاصله : أنه يمكن حمل الأمر الاستحبابي على المولوي الاقتضائي الذي يراد به وجود مصلحة الاستحباب ؛ لا الاستحباب المولوي العقلي حتى يجتمع الحكمان الفعليان ، وبه يندفع الإشكال أيضا على كلا القولين ؛ لأن محل النزاع في مسألة الاجتماع هو : اجتماع الحكمين الفعليين لا الحكمين اللذين يكون أحدهما فعليا والآخر اقتضائيا ، ولا يقدح اجتماعهما مطلقا سواء قلنا بجواز الاجتماع أم لا ، فيجتمع الأمر الاستحبابي الاقتضائي والوجوبي الفعلي.

قوله : «وفعليا» عطف على قوله : «اقتضائيا» ، يعني : ويمكن حمل الأمر الاستحبابي على المولوي الفعلي ؛ لكن مجازا لا حقيقة بأن يكون عروض الاستحباب الفعلي للعبادة بالعرض والمجاز ، ويكون معروض الاستحباب حقيقة عنوانا ملازما للصلاة جماعة ؛ كما إذا فرض أن المستحب الشرعي هو اجتماع المسلمين في مكان واحد لفوائد شتى تترتب على اجتماعهم ، فإذا كانت الصلاة جماعة ملازمة لهذا العنوان اتصفت بالاستحباب الفعلي المولوي مجازا ، كما في «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ١٣٤».

(٤) يعني : في مورد كان ملاك الأمر الاستحبابي ملازمة العبادة لعنوان مستحب ، أو اتحاد العبادة معه.

٤٢٧

ولا يخفى : أنه لا يكاد يأتي (١) القسم الأول هاهنا (٢) ، فإن (٣) انطباق عنوان

______________________________________________________

وحاصل الجواب عن اجتماع الوجوب والاستحباب : يرجع إلى وجوه ثلاثة :

الأول : حمل الأمر الاستحبابي على الإرشادي الذي هو أمر حقيقة ، من غير فرق فيه بين القول بجواز الاجتماع والقول بامتناعه.

الثاني : حمله على المولوي الاقتضائي ، وهو أمر أيضا حقيقة ؛ لكنه في مرحلة الاقتضاء لا الفعلية ، وهو يكون فيما إذا كان ملاك الأمر اتحاد العبادة مع عنوان مستحب كالكون في مسجد.

الثالث : حمله على المولوي الفعلي ؛ لكن تعلقه بالعبادة يكون بالعرض والمجاز ، لكون متعلق الأمر حقيقة العنوان الملازم للصلاة جماعة ، كاجتماع المسلمين في مكان واحد ؛ لكن هذا الوجه مبني على جواز الاجتماع لتعلق كل من الأمر الوجوبي والندبي بعنوان يخصه.

قوله : «على القول بالجواز» قيد لقوله : «متحد» ضرورة : أنه على الامتناع يستحيل اجتماع الوجوب والاستحباب الفعليين لتضادهما راجع «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ١٣٥».

(١) الصواب حذف جملة «ما ذكر» عن المتن ، أي : «لا يكاد يأتي ما ذكر في القسم الأول هاهنا».

وحاصل ما أفاده : أن ما ذكر في القسم الأول من العبادات المكروهة ؛ من كون الترك فيها متحدا أو ملازما لعنوان ذي مصلحة لا يجري في اجتماع الوجوب والاستحباب ؛ كالصلاة في المسجد أو جماعة.

وجه عدم الجريان : هو الفرق بين المقامين ، حيث إن العنوان في القسم الأول من العبادات المكروهة كصوم يوم عاشوراء ينطبق على الترك أو يلازمه ، فيصير كل من الفعل والترك مستحبا. وفي المقام ينطبق العنوان الراجح على نفس الفعل ، فموضوع الوجوب والاستحباب واحد ، ولا بد من التأكد ، وصيرورة الوجوب أكيدا ناشئا عن مصلحة أكيدة ، وإلّا لزم اجتماع الضدين ، فلا تتصف الصلاة في المسجد مثلا بالاستحباب إلّا على القول بالجواز ؛ إذ بناء عليه تكون الصلاة بعنوان الكون في المسجد الذي ينطبق عليها مستحبة شرعا ، وبعنوان الصلاتية واجبة ، فيتعدد موضوع الوجوب والاستحباب ، فيمتنع التأكد ؛ لعدم وحدة موضوع المصلحة الوجوبية والاستحبابية ، لأن التأكد فرع الاتحاد ، فإذا انتفى الاتحاد. هو الأصل. ينتفي التأكد وهو الفرع.

(٢) يعني : في اجتماع الوجوب والاستحباب كالصلاة في المسجد مثلا.

(٣) تقريب : لما عرفت من عدم جريان ما ذكر في القسم الأول في المقام.

٤٢٨

راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه ، لا أنه يوجب استحبابه أصلا ولو بالعرض والمجاز (١) إلّا على القول بالجواز ، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فإنه لو لم يؤكد الإيجاب لما يصحح الاستحباب إلّا اقتضائيا بالعرض والمجاز فتفطن.

______________________________________________________

(١) وذلك لاستحالة اجتماع الضدين في موضوع واحد حقيقي ولو بعنوانين ، فلا يكون الواجب مستحبا ولو بالعرض والمجاز ؛ لأن العرض والمجاز إنما يتصور فيما كان هناك شيئان متلازمان أحدهما واجب والآخر مستحب ، فتكون نسبة فيما كان هناك شيئان متلازمان أحدهما واجب والآخر مستحب ، فتكون نسبة الاستحباب إلى الواجب مجازا من باب نسبة صفة أحد المتلازمين إلى الآخر وفي المقام ليس إلّا شيء واحد ، ومن البديهي : امتناع اجتماع الضدين في موضوع واحد ولو بعنوانين «إلّا على القول بالجواز» ؛ بأن يكون تعدد الوجه كافيا في اجتماع الحكمين المتضادين ، فعلى هذا القول : يمتنع القول بتأكيد الوجوب ؛ إذ للوجوب موضوع وللاستحباب موضوع آخر ، وقد عرفت أن التأكيد فرع للاتحاد.

«وكذا» لا يجري جواب القسم الأول «فيما إذا لازم» الواجب «مثل هذا العنوان» الراجح ، ولم يكن متحدا معه ، «فإنه» أي : ذلك الملازم «لو لم يؤكد الايجاب» لأجل تعدد موضوع المصلحتين ، حيث إن مصلحة الإيجاب تقوم بنفس العبادة ، ومصلحة الاستحباب تقوم بالعنوان الملازم لها ، فلا يصحح الاستحباب الفعلي للعبادة أصلا ؛ لما مر من عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر. «إلّا اقتضائيا بالعرض والمجاز». هذا بناء على الامتناع.

وأما بناء على الجواز : فيكون الاستحباب فعليا بالعرض والمجاز ؛ وذلك لجواز طلب أحد المتلازمين استحبابا مع طلب الآخر إيجابا.

وكيف كان ؛ فإن أمر الاستحباب دائر بين أمور ثلاثة : فيما إذا كان هناك عنوانان متلازمان أحدهما واجب والآخر مستحب.

الأول : اجتماعه مع الوجوب ، وهذا غير تام حتى على القول بالاجتماع ؛ إذ لكل واحد منها موضوع خاص به ، فلا معنى لسراية أحدهما إلى موضوع الآخر.

الثاني : أن يكون الاستحباب مؤكدا للوجوب حتى يكون واجبا مؤكدا ، وظاهر عبارة المصنف : التردد في هذا مع إنه غير صحيح ؛ لأن استحباب موضوع لا يوجب تأكيد رجحان واجب آخر.

الثالث : أن يكون أحد المتلازمين واجبا فقط والآخر مستحبا فقط ، ولا يخفى : أن

٤٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستحباب في هذا الحال لا يكون فعليا ؛ لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ، فيكون هناك وجوب فعلي واستحباب اقتضائي ، فتكون نسبة الاستحباب إلى الملازم بالعرض والمجاز لا بالحقيقة ، «فتفطن» كي تعرف أنه فرق بين القول بالاجتماع. فيجوز اختلاف المتلازمين في الحكم ، فيكون الاستحباب فعليا. وبين القول بالامتناع فلا يجوز اختلافهما في الحكم ، فيكون الاستحباب مجازا ، كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٣٩٤» مع تصرف منا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١. وقد استدل المجوزون بأمور : ومنها : أنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي لما وقع نظيره في الشريعة المقدسة ، وقد وقع نظيره فيها فيجوز الاجتماع ؛ لأن حكم الأمثال والنظائر فيما يجوز ولا يجوز واحد.

وخلاصة الكلام في المقام : أن العبادات المكروهة مجمع على صحتها ، وقد جمع فيها الاستحباب والكراهة ، فالجمع بينهما. مع تضاد الأحكام الخمسة. دليل على أن تعدد العنوان يكون مجديا في تعدد المعنون ؛ إذا لو لم يكن مجديا لما وقع ذلك في الشريعة المقدسة كما تراه في الأمثلة المذكورة في المتن.

وقد أجاب المصنف عن هذا الاستدلال بالجواب الإجمال تارة ، والتفصيلي أخرى.

فيقال في الجواب الإجمالي :

أولا : أنه بعد قيام البرهان العقلي على استحالة اجتماع حكمين في شيء واحد ذي عنوانين لا بد من التصرف والتأويل فيما ظاهره الاجتماع ؛ لأن ظهور الأدلة في الاجتماع لا يقاوم البرهان العقلي على الامتناع. وبعد تأويل الظهور يسقط ظهور الأدلة في الاجتماع عن الحجية.

وثانيا : أن المجوز قد ادعى الجواز فيما إذا كان الاجتماع بعنوانين بينهما عموم من وجه ؛ كما في «صل ولا تغصب» لا بعنوان واحد ؛ كما في العبادات المكروهة كقوله : «صل ولا تصل في الحمام» ، والمجوز لا يجوز الاجتماع في العبادات المكروهة ، فعليه أيضا التخلص عن هذا الإشكال.

٢. وأما الجواب التفصيلي فيتوقف على ذكر أقسام العبادات المكروهة فنقول : إنها على ثلاثة أقسام :

٤٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له كصوم يوم عاشوراء ، والنوافل المبتدأة.

ثانيها : ما تعلق به النهي كذلك ويكون له البدل ؛ كالنهي عن الصلاة في الحمام.

ثالثها : ما تعلق النهي به لا بذاته ؛ بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم له خارجا كالصلاة في مواضع التهمة ، بناء على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

وحاصل الجواب عن القسم الأول : إن الكراهة في الموارد المذكورة ليست كراهة اصطلاحية ناشئة عن مفسدة في الفعل حتى يقال باجتماع الكراهة والاستحباب ، فيكون دليلا على جواز الاجتماع.

بل الكراهة بمعنى مرجوحية الفعل عن الترك من دون أن تكون فيه مفسدة ومنقصة ؛ بل فيه مصلحة ، كما في الترك ، غاية الأمر : مصلحة الترك أكثر وأرجح من مصلحة الفعل ، وهذا الرجحان إنما هو لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك ؛ كانطباق عنوان مخالفة بني أمية على ترك صوم يوم عاشوراء.

فحينئذ لم يجتمع فيها أمر ونهي أصلا حتى يقال بجواز الاجتماع ، وتكون العبادات المكروهة برهانا على الجواز ؛ وذلك لما عرفت من : أن الكراهة بمعنى مرجوحية الفعل لا الكراهة المصطلحة.

نعم ؛ كان الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين لوجود المصلحة فيهما ، فيجري عليهما حكم التزاحم من التخيير مع تساويهما والتعيين مع أهمية أحدهما ، وبما أن الترك أهم من الفعل فيقدم عليه. وأن الفعل أيضا يقع صحيحا لعدم قصور فيه أصلا من ناحية المحبوبية ، ووفائه بغرض المولى.

فالمتحصل : أن المصنف قد أجاب عن القسم الأول بجوابين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك».

وثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك».

وحاصل الوجهين : أن أرجحية الترك على الفعل إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه كعنوان مخالفة بني أمية في ترك صوم يوم عاشوراء ، وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة ؛ كملازمة ترك صوم عاشوراء لحال البكاء والجزع على الحسين المظلوم ، والمفروض : أن مصلحة البكاء يوم عاشوراء أرجح من مصلحة الصوم فيه ،

٤٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

فالنهي عن الصوم فيه يكون لملازمة تركه لعنوان ذي مصلحة ، فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي ؛ لأن متعلق الأمر شيء ومتعلق النهي شيء آخر.

٣. نعم ؛ يمكن أن يكون النهي محمولا على الإرشاد في كلا الوجهين ؛ بأن يكون إرشادا إلى رجحان مصلحة الترك من مصلحة الفعل إما لانطباق عنوان ذي مصلحة على الترك كما هو مقتضى الوجه الأول ، وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة ، فيكون إسناد النهي إلى الترك على نحو الحقيقة ، فلا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي ؛ وذلك لعدم التنافي بين النهي الإرشادي والأمر المولوي ، فيكون حمل النهي على الإرشاد جوابا ثالثا عن القسم الأول.

وما يقال : إن أرجحية الترك توجب حزازة ومنقصة في الفعل ، فيكون الفعل مكروها بالكراهة المصطلحة فلا يكون الفعل صحيحا ، لأن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به ؛ فلا يصح ما سبق من أن الفعل يقع صحيحا ؛ مدفوع : بأن أرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ولا منقصة فيه أصلا ، فإن الفعل في المقام على ما هو عليه من المصلحة ، فلذا يقع صحيحا.

٤. وأما القسم الثاني : فقد أجاب عنه المصنف بما يرجع إلى وجهين :

أحدهما : ما تقدم في القسم الأول طابق النعل بالنعل ؛ من كون النهي تنزيهيا متعلقا بعنوان ذي مصلحة ملازم للترك على التفصيل المتقدم.

وعلى كلا التقديرين : إما أن يكون النهي مولويا فتكون الكراهة بمعنى مرجوحية الفعل لا الكراهة المصطلحة ، أو إرشادا إلى رجحان الترك ومنقصة في الفعل ، فلا ينافي الأمر المولوي ، فلا يلزم إجماع أمر ونهي كما عرفت في القسم الأول فراجع.

نعم ؛ يمكن أن يكون النهي هنا إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد ، ويكون أكثر ثوابا ، بمعنى : أن الطبيعة المأمور بها لها مقدار من المصلحة ، وتلك المصلحة تنقص وتزداد بحسب تشخصها بما له شدة الملاءمة وعدم الملاءمة ، فينقص ثوابها تارة ، ويزيد أخرى ، والنهي إرشادا إلى الإتيان بما هو أكثر ثوابا ، فيكون معنى الكراهة في العبادة ما هو أقل ثوابا ، وهذا مراد من فسر الكراهة في العبادة بكونها أقل ثوابا.

غاية الأمر : ليس الأقلية بالنسبة إلى عبادة أخرى ؛ بل الأقلية بالنسبة إلى فرد آخر من نفس الطبيعة.

فلا يرد حينئذ على هذا التفسير ما أورده صاحب الفصول من إشكالين ، وهما لزوم

٤٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الأخرى بالكراهة ؛ كاتصاف الصوم بالكراهة لكونه أقل ثوابا من الصلاة.

ولزوم اتصاف ما لا مزية فيه ولا منقصة بالاستحباب ، لأنه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة ، ثم قال في الفصول : لا يمكن الالتزام بهما.

يعني : لا يرد شيء من هذين الإشكالين على تفسير العبادة المكروهة بأقلية الثواب ؛ لأن المراد بالأقلية هي الأقلية بالنسبة إلى الفرد الآخر ؛ لا الأقلية بالنسبة إلى الطبيعة الأخرى ؛ كأقلية ثواب الصلاة في الحمام من الصلاة في الدار ، ويلزم الاختلاف في مصلحة نفس الطبيعة من جهة تشخصها بما لا يلائم نفس الطبيعة ، وأكثرية ثواب الصلاة في المسجد لأجل تشخصها بما يلائم الطبيعة.

وكيف كان ؛ فالنهي في هذا القسم الثاني لا يصح إلّا للإرشاد إذا كانت الكراهة في العبادة بمعنى : أقلية الثواب حيث يكون النهي إرشادا إلى منقصة حاصلة في الطبيعة بواسطة تشخصها بغير الملائم للطبيعة ؛ ككون الصلاة في الحمام مثلا.

٥. أما القسم الثالث : وهو ما تعلق به النهي لا بذات العبادة ؛ بل بما هو مجامع معها وجودا أو ملازم لها خارجا ؛ كالصلاة في مواضع التهمة. فحاصل الجواب عنه : أنه يمكن أن يكون النهي مولويا ، ويمكن أن يكون إرشاديا. وعلى التقديرين : لا يكون النهي دليلا على جواز الاجتماع ؛ لأن النهي على الأول لا يسند إلى العبادة حقيقة ؛ بل بالعرض والمجاز ؛ لأن المنهي عنه هو ذاك العنوان المتحد مع العبادة. كالكون في مواضع التهمة ، أو الملازم لها فيما إذا كانت الصلاة عبارة عن الأقوال والأفعال ، ففي الحقيقة لا تكون الصلاة منهيا عنها ، فلا يجتمع فيها الكراهة والوجوب ، ولا الأمر والنهي حتى يقال بجواز الاجتماع.

وأما على الثاني : أعني كون النهي للإرشاد. فلا ينافي الأمر المولوي حتى يكون دليلا على الجواز.

وكيف كان ؛ فيكون النهي حقيقيا إرشاديا ؛ بأن يكون النهي عن الصلاة في مواضع التهمة إرشادا إلى الصلاة في غيرها ؛ كالصلاة في الدار والمسجد.

٦. الفرق بين الأقسام الثلاثة : أنه لا يصح حمل النهي على الإرشاد بمعنى : أقلية الثواب في القسم الأول الذي لا بدل له أصلا ؛ إذ لا يتصور أقلية الثواب في مثل صوم يوم عاشوراء. نعم ؛ يمكن أن يحمل النهي على الإرشاد إلى ترك صوم يوم عاشوراء ؛ لانطباق عنوان راجح عليه.

٤٣٣

ومنها (١) : أن أهل العرف يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا ،

______________________________________________________

هذا بخلاف القسم الثاني ، حيث يجوز حمل النهي على الإرشاد بمعنى : أقلية الثواب ، فيكون المنهي عنه أقل ثوابا عن بدله. ولا يصح حمل النهي على الإرشاد ، بمعنى : أقلية الثواب في القسم الثالث كالقسم الأول ، سواء قلنا بجواز الاجتماع أو الامتناع.

أما على الجواز : فلتعدد المتعلق ، فلا يرد الإشكال حتى يحتاج إلى ارتكاب التأويل بحمل النهي على الإرشاد.

وأما على الامتناع. وصورة الملازمة : فيحمل النهي عن العبادة على الإرشاد إلى نقصان المصلحة والإتيان بالعبادة في ضمن الأفراد التي لا تتحد مع ذلك العنوان الموجب للحزازة والمنقصة.

وقد ظهر مما ذكرنا حال اجتماع الوجوب والاستحباب في العبادة ؛ كالصلاة في المسجد مثلا ، حيث يكون الأمر فيها على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد.

٧. نظريات المصنف «قده» :

١. يقول المصنف بالامتناع لا بالجواز.

٢. يقع مورد الاجتماع صحيحا على القول بجواز الاجتماع ، ولا يقع صحيحا على القول بالامتناع.

٣. والأمر في موارد اجتماع الوجوب والاستحباب إرشاد إلى أفضل الأفراد.

هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

الدليل الآخر على الجواز

(١) ومن أدلة القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي : هو عد العرف. بما هم من العقلاء. من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا وعاصيا ، أي : مطيعا من جهة وعاصيا من جهة أخرى. وحاصل الاستدلال بهذا الدليل : أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، ثم خاطه في ذلك المكان فيحكم العرف والعقلاء بأنه مطيع من جهة الأمر بالخياطة ، وعاص من جهة الكون في المكان المخصوص.

وأما كونه مطيعا : فلإتيانه بالمأمور به كخياطة الثوب ، وأما كونه عاصيا : فلإتيانه في المكان الذي نهاه المولى عن الكون فيه.

وهذا الحكم من العرف والعقلاء يكشف عن حكم العقل بجواز اجتماع الأمر والنهي ؛ وإلّا فلا بد من أن يكون مطيعا أو عاصيا فقط. فيكون دليلا على وجوب

٤٣٤

وعاصيا من وجهين ، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص كما مثل به الحاجبي والعضدي ، فلو خاطه في ذلك المكان عد مطيعا لأمر الخياطة وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان.

وفيه (١) ـ مضافا إلى المناقشة في المثال : بأنه ليس من باب الاجتماع ، ضرورة (٢): إن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجودا أصلا كما لا يخفى ـ المنع إلّا عن صدق أحدهما : إما الإطاعة بمعنى : الامتثال فيما غلب جانب الأمر ، أو العصيان فيما غلب جانب النهي ؛ لما عرفت من البرهان (٣) على الامتناع.

______________________________________________________

الخياطة وحرمتها ، فيجتمع فيها الأمر والنهي ؛ وإلّا لما صدق عليها إلّا إطاعة فقط ، أو عصيان كذلك ، ومثل بهذا صاحب المعالم «قده» من الخاصة ، والحاجبي والعضدي من العامة.

الجواب عنه

(١) قد أجاب المصنف عن الدليل المزبور بوجهين :

الوجه الأول : عدم كون مثال الخياطة مطابقا للممثل ؛ إذ يعتبر في مسألة اجتماع الأمر والنهي أن يكون العنوانان اللذان تعلق بهما الأمر والنهي متصادقين على المجمع ؛ بحيث يكون مصداقا لهما ، وهذا المثال ليس كذلك ، ضرورة : أن المنهي عنه. وهو الكون. من مقولة الأين ، والمأمور به. وهو الخياطة. من مقولة الفعل ، لأنها بمعناها المصدري ؛ «إدخال الخيط في الثوب وإخراجه عنه بواسطة الإبرة بكيفية خاصة» ، وتباين المقولتين وعدم اتحادهما من الأمور الضرورية كما في علم الميزان.

وكذا الحال : إذا أريد بالخياطة معنى اسم المصدر ، وهو الصفة الخاصة الحاصلة للثوب ، القائمة قيام العرض بالموضوع ، فلا تتحد مع الكون في المكان ؛ كي يكون اجتماع الأمر والنهي فيه برهانا على الجواز.

(٢) تعليل الخروج مثال الخياطة عن مسألة الاجتماع ، هذا تمام الكلام في الوجه الأول. وأما الوجه الثاني ـ والذي أشار إليه بقوله : «المنع ...» إلخ. : فحاصله ـ : بعد الغض عن الوجه الأول الراجع إلى المناقشة في المثال. عدم تسليم صدق الإطاعة والعصيان معا ؛ بل المسلم صدق أحدهما : إما الإطاعة بناء على ترجيح جانب الأمر ، وإما العصيان بناء على ترجيح جانب النهي ؛ لأنه مقتضى التضاد بين الأمر والنهي ، وعدم تعدد الجهة موجب لتعدد متعلق الأمر والنهي حتى يدفع لزوم اجتماع الضدين.

(٣) أي : البرهان على الامتناع هو التضاد بين الأمر والنهي.

٤٣٥

نعم (١) ؛ لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الفرض والعصيان في التوصليات.

وأما في العبادات : فلا يكاد يحصل الفرض منها إلّا فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه ، كما تقدم.

بقى الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام (٢) ، والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا.

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على المنع عن صدق الإطاعة والمعصية معا ، وأنه لا بد من صدق أحدهما فقط.

وحاصل الاستدراك ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٤». : أنه لا بأس بصدقهما معا في التوصليات ؛ لكن معنى الإطاعة حينئذ هو حصول الغرض الداعي إلى الأمر ، حيث إنه يسقط بوجود المأمور به في الخارج ولو بغير داعي القربة ؛ لإتيان المأمور به بداعي أمره.

وعلى هذا : فلا يحصل الغرض من العبادات إلّا بصدور المأمور به من المكلف على الوجه غير المحرم حتى يصلح للعبادية والمقربية ، فلا يصدق الإطاعة والمعصية معا في العبادات.

وكيف كان ؛ فلا إشكال في صدق الإطاعة إذا كانت بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات ؛ وذلك لما عرفت سابقا : من حصول الغرض منها وسقوط أمرها ولو بفعل الغير أو المحرم ؛ كغسل الثوب المتنجس بالماء المغصوب ، فالخياطة توصلية يحصل الغرض منها بما هو المحرم.

هذا بخلاف العبادات ، فلا يحصل الغرض منها الداعي إلى الأمر إلّا بصدور المأمور به في الخارج من المكلف على وجه غير محرم ؛ بل على الوجه القربي ؛ لا على وجه يكون مبغوضا عليه كما تقدم تفصيل ذلك في الأمر العاشر ، حيث قال المصنف هناك : إن الصلاة في الدار المغصوبة مع العلم بالغصبية أو مع العلم بحكمها باطلة ؛ لكونها. والحال هذه. لا تصلح للعبادية والمقربية.

التفصيل بالجواز عقلا والامتناع عرفا

(٢) كسلطان العلماء ، والمحقق الأردبيلي ، وسيد الرياض ، والسيد الطباطبائي «قدس الله أسرارهم» ، على ما قيل في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٤٠».

وحاصل الوجه في هذا التفصيل : أن الاجتماع في نظر العقل جائز ؛ لأن تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون في نظره الدقي ، فيكون رافعا للتضاد بين الأمر والنهي ، فلا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد.

٤٣٦

وفيه (١) : إنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلّا طريق العقل ، فلا معنى لهذا التفصيل إلّا ما أشرنا (٢) إليه من النظر المسامحي الغير المبتنى على التدقيق والتحقيق ، وأنت خبير (٣) بعدم العبرة به ، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق ، وقد

______________________________________________________

هذا بخلاف نظر العرف ، حيث لا يكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون ، فيلزم اجتماع الضدين مثلا : الصلاة في الدار المغصوبة ليست بشيء واحد في نظر العقل ؛ بل شيئان لأن الصلاة في نظره شيء والغصب شيء آخر. وأما في نظر العرف فهما شيء واحد ، فيلزم اجتماع الضدين وهو محال.

جواب المصنف عن التفصيل

(١) وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب : يتوقف على مقدمة وهي : أنه قد أشار المصنف في الأمر الثاني من الأمور التي ذكرها قبل الخوض في المقصود : أن الجهة المبحوث عنها فيها التي بها تمتاز المسائل هي : إن تعدد الجهة والعنوان في الواحد هل يوجب تعدد المعنون أم لا؟ قال : لا يوجب تعدد المعنون. وكذلك أشار في الأمر الرابع : أن مسألة الاجتماع عقلية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن هذه المسألة عقلية ، ولا ربط لها بعالم الألفاظ ومداليلها ؛ إذ الجواز والامتناع من أحكام العقل ، لا العرف ؛ إذ الحاكم بارتفاع غائلة اجتماع الضدين. لتعدد الجهة وعدم ارتفاعها. هو العقل ؛ فلا معنى لنسبة ما هو حكم العقل إلى العرف ، فإذا جوز العقل اجتماع الأمر والنهي : فلا وجه لحكم العرف بامتناعه ، والعرف إنما يرجع إليه في تعيين المفاهيم ومداليل الألفاظ ، وليست مسألة الاجتماع منها حتى يرجع فيها إلى العرف ، وعلى هذا فلا معنى للتفصيل بين العرف والعقل بأن يقال : إن الأول يحكم بالامتناع ، والثاني بعدم الامتناع.

(٢) يعني : في الأمر الرابع ، حيث قال فيه : «وذهاب البعض إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ليس بمعنى دلالة اللفظ ؛ بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنان ، وأنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين ...» إلخ.

(٣) غرضه : ردّ التوجيه المزبور بأنه مبني على حجية نظر العرف في تطبيق المفاهيم على مصاديقها ، حيث إن المجمع في نظرهم المسامحي شيء واحد ، مع كونه بالدقة اثنين ، ومن المقرر في محله : عدم حجية المسامحات العرفية في مقام التطبيق ، نعم ؛ هي حجة في تشخص المفاهيم. والضمير في «به» و «خلافه» عائد إلى النظر المسامحي.

٤٣٧

عرفت فيما تقدم (١) : إن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنهي ؛ بل في الأعم ، فلا مجال لأن يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل ، ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين ؛ وإن كان العقل (٢) يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين ، فتدبر.

______________________________________________________

(١) يعني : تقدم في الأمر الرابع من قوله : «وقد عرفت» توجيه التفصيل المزبور بوجه آخر وهو : أن عدم الجواز عرفا يمكن أن يكون لأجل كون مدلول صيغتي الأمر والنهي عرفا مما يمتنع الجمع بينهما ؛ لتنافيهما ، فلا بد من القول بالامتناع عرفا. وقد أجاب عنه المصنف في الأمر الرابع : بأن النزاع في الجواز وعدمه لا يختص بما إذا كان الأمر والنهي مدلولين للصيغة ؛ بل أعم من كون الدال عليهما الصيغة أو الإجماع مثلا ، ومن المعلوم : أنه لا بد من ورود الأقوال نفيا وإثباتا على موضوع البحث بما له من السعة والضيق. وعليه : فلا محيص عن كون التفصيل بين الجواز عقلا والامتناع عرفا واردا على مطلق الأمر والنهي ، سواء كانا مدلولين للصيغة أم غيرها ؛ بأن يقال بالامتناع عرفا في كل أمر ونهي ، كما هو كذلك على الجواز عقلا ، لا في خصوص ما إذا كان مدلولين للصيغة. راجع «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ١٤٢».

(٢) أي : أن التنافي المانع عن الاجتماع لعله عرفي ؛ لكن العقل يجوّز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين يتعلق الوجوب بأحدهما والحرمة بالآخر. قوله : «فتدبر» تدقيقي فقط.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ من أدلة القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي : هو عد العرف من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا وعاصيا.

وخلاصة الاستدلال : أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، ثم خاطه في ذلك المكان ، فيحكم العرف بأنه مطيع من جهة الأمر بالخياطة ، وعاص من جهة الكون في المكان المخصوص ، فيكون دليلا على وجوب الخياطة وحرمتها ، فيجتمع فيها الأمر والنهي.

وقد أجاب المصنف عن ذلك بوجهين :

الوجه الأول : هو عدم كون مثال الخياطة مطابقا للممثل ؛ لأن المنهي عنه ـ وهو الكون ـ من مقولة الأين والمأمور به ـ وهو الخياطة ـ من مقولة الفعل ، فلا تتحد الخياطة

٤٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مع الكون في المكان المخصوص حتى يقال باجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

أما الوجه الثاني : فحاصله : عدم تسليم صدق الإطاعة والعصيان معا ؛ بل المسلم صدق أحدهما إما الإطاعة ـ بناء على ترجيح جانب الأمر ـ وإما العصيان ـ بناء على ترجيح جانب النهي ـ.

نعم ؛ لا بأس بصدقهما في التوصليات ؛ لكن معنى الإطاعة حينئذ : هو حصول الغرض الداعي إلى الأمر لإتيان المأمور به بداعي أمره ، فلا إشكال في صدق الإطاعة إذا كانت بمعنى حصول الغرض منها ، والخياطة توصلية يحصل الغرض منها بما هو المحرم.

٢ ـ التفصيل بالجواز عقلا والامتناع عرفا : بتقريب : أن الاجتماع في نظر العقل جائز ؛ لأن تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون في نظره الدقي ، فلا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد ، هذا بخلاف نظر العرف حيث لا يكون تعدد العنون موجبا لتعدد المعنون ، فيلزم اجتماع الضدين وهو محال.

وخلاصة ما أجاب المصنف عن هذا التفصيل : أن مسألة اجتماع الأمر والنهي عقلية لا علاقة لها بعالم الألفاظ ومداليلها ؛ لأن الحاكم بالجواز أو الامتناع هو العقل لا العرف ، والعرف إنما يرجع إليه في تعيين المفاهيم ومداليل الألفاظ ، فلا يرجع في مسألة الاجتماع إلى العرف ، فلا معنى للتفصيل المزبور أصلا.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ قد عرفت أن المصنف يقول بامتناع اجتماع الأمر والنهي.

٢ ـ عدم صحة الاستدلال بمثال الخياطة على جواز الاجتماع.

٣ ـ عدم صحة التفصيل بين حكم العقل والعرف ؛ بل لا حكم إلّا للعقل كما عرفت.

٤٣٩
٤٤٠