دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

فالحري (١) أن يقال : إن الواجب مع كل شيء يلاحظ معه ، إن كان وجوبه غير مشروط به ، فهو مطلق بالإضافة إليه ، وإلّا فمشروط كذلك ، وإن كانا بالقياس إلى شيء آخر كانا بالعكس.

ثم الظاهر (٢) : أن الواجب المشروط كما أشرنا إليه ، أن نفس الوجوب فيه

______________________________________________________

(١) وقبل تفصيل البحث في الجهة الرابعة نذكر ما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٢» من توضيح عبارة المتن : «فالحري أن يقال : إن الواجب مع كل شيء يلاحظ معه» أي : أن الواجب مع كل شيء من مقدماته الذي يلاحظ الواجب معه «إن كان وجوبه غير مشروط به» ؛ بأن كان المولى يريد الواجب على كل حال «فهو مطلق بالإضافة إليه» أي : إلى ذلك الشيء ؛ أعني : المقدمة ، «وإلا» أي : وإن لم يكن كذلك ـ بأن كان وجوب الواجب بشرط وجود تلك المقدمة ـ «فمشروط كذلك» أي : بالإضافة إلى تلك المقدمة ، وإن كان كل من الواجبين المطلق بالإضافة والمشروط بالإضافة «بالقياس إلى شيء آخر» من المقدمات «بالعكس».

فالمطلق مشروط ، والمشروط مطلق ، فالصلاة بالإضافة إلى الطهارة واجب مطلق ، والحج بالإضافة إلى الزاد مشروط ، وإن كانت الصلاة بالإضافة إلى شيء آخر كالوقت مشروطا ، والحج بالإضافة إلى شيء آخر كالسير مطلقا.

(٢) هذا الكلام من المصنف توطئة لبيان النزاع بين الشيخ الأنصاري ، وبين غيره من الأعلام ـ والمصنف منهم ـ وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي : أن للأمر مثلا هيئة تفيد الوجوب ، ومادة هي متعلق الوجوب ، فإذا قيد الأمر بقيد كان حتما ظرف الفعل في زمان حصول ذلك الشرط.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مبنى الشيخ «قدس‌سره» على أن القيد يرجع إلى المادة ، والهيئة تبقى على إطلاقها ، فالوجوب في الحال ، وإنما الواجب متأخر ، فإذا قال : «حج إن استطعت» وجب على المكلف في الحال الحج الواقع بعد الاستطاعة. وأما على مبنى المصنف وغيره من الأعلام : فالقيد يرجع إلى مفاد الهيئة ، والمادة تتقيد بتبع مفادها ، فالوجوب كالواجب متأخر فلا يجب في الحال ، وإنما يجب الحج بعد الاستطاعة.

وهذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «إن الواجب المشروط كما أشرنا إليه ، أن نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط» أي : تقدم في كلامه الإشارة إلى الواجب المشروط حيث قال : «ضرورة : اشتراط وجوب كل واجب ببعض الأمور» ، وقال أيضا : «إن كان وجوبه غير مشروط فهو مطلق بالإضافة إليه ، وإلّا فمشروط كذلك».

٤١

مشروط بالشرط ، بحيث لا وجوب حقيقة ، ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط ، كما هو ظاهر الخطاب التعليقي (١) ، ضرورة : أن ظاهر خطاب «إن جاءك زيد فأكرمه» كون الشرط من قيود الهيئة (٢) ، وأنّ طلب الاكرام وإيجابه معلق على المجيء (٣) ، لا أن الواجب فيه (٤) يكون مقيدا به ، بحيث يكون الطلب والإيجاب في الخطاب فعليا ومطلقا ، وإنما الواجب يكون خاصا ومقيدا ، وهو الإكرام على تقدير المجيء ، فيكون الشرط من قيود المادة لا الهيئة ، كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة (٥) «أعلى الله مقامه» ، مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة (٦) واقعا ، ولزوم كونه من قيود

______________________________________________________

(١) أي : ظاهر الخطاب التعليقي هو : كون نفس الوجوب مشروطا.

وجه الظهور : هو أن المعلق على الشرط هو الجزاء ؛ كوجوب الإكرام المعلق على المجيء في قوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، فيكون الشرط قيدا لهيئة الجزاء التي وضعت للنسبة الطلبية ، فالوجوب المستفاد من الهيئة معلق على الشرط ، فقبل حصوله لا وجوب أصلا.

(٢) أي : من قيود الهيئة الجزائية كما هو رأي المصنف ، لا من قيود المادة كما نسب إلى الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ؛ لأن أكرم عند التحليل : «وجوب الإكرام».

ومن البديهي : أنه لو قيل وجوب الإكرام مشروط بالمجيء يفهم منه : أن المضاف أي : لفظ الوجوب مقيد ومشروط بالمجيء ؛ لا أن المضاف إليه أعني : لفظ الإكرام مقيد به.

(٣) أي : لو لا المجيء لا إيجاب ولا وجوب.

(٤) أي : ليس الشرط من قيود المادة ، بأن يكون الواجب في الطلب مقيدا بالشرط كما يقول الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ؛ حيث يكون الواجب خاصا أعني : مخصوصا بزمان المجيء وهو الإكرام على تقدير المجيء في المثال المذكور على رأي الشيخ «قدس‌سره».

(٥) نسبه إلى الشيخ الأعظم : صاحب مطارح الأنظار. راجع ج ١ ، ص ٢٣٦.

(٦) أي : فقد وقع الكلام بين الأعلام في إمكان الواجب المشروط ؛ بمعنى : إمكان رجوع القيد إلى الوجوب ، وتقييد الوجوب به ؛ بحيث لا يتحقق إلّا بعد تحققه. وعمدة الأقوال فيه قولان :

أحدهما : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» على ما في التقريرات : من عدم إمكان رجوع القيد إلى الوجوب ، وإنما هو راجع إلى الواجب ، فالوجوب فعلي مطلق ؛ كما أشار إليه المصنف بقوله : «مدعيا لامتناع كون الشرط من قيود الهيئة واقعا ، ولزوم

٤٢

المادة لبا ، مع الاعتراف بأن قضية القواعد العربية أنه من قيود الهيئة ظاهرا.

______________________________________________________

كونه من قيود المادة لبا».

وثانيهما : ما التزم به المصنف تبعا للمشهور من : إمكان رجوع القيد إلى الوجوب ، وتعليق تحققه على الشرط.

وحاصل ما نسب إلى الشيخ الأنصاري يرجع إلى دعويين : دعوى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة ، ودعوى لزوم رجوعه إلى المادة لبا مع اعترافه بأن مقتضى القواعد العربية هو رجوع القيد إلى الهيئة في الجملة الشرطية لا إلى المادة.

وقد استدل الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» على ما ذهب إليه بوجهين (١) :

الوجه الأول : ـ وهو الدليل على الدعوى الأولى ـ : أن مفاد الهيئة معنى حرفي غير قابل للإطلاق والتقييد ؛ لأن التقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، والحرف موضوع للمعنى الجزئي الحقيقي ، ومن البديهي : أن الجزئي غير قابل للتقييد ، فيمتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة ؛ لعدم قابليته للتقييد ، فإن ما هو قابل له هو المعنى الكلي حيث يصدق على حصص متعددة ، فيكون قابلا للإطلاق والتقييد. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «أما امتناع كونه من قيود الهيئة» إلى أن قال : «فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب ـ الذي يدل عليه الهيئة ـ فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة» ، فيكون الوجوب حينئذ مطلقا ، وحاليا ، والواجب مقيدا واستقباليا.

الوجه الثاني ـ وهو الدليل على الدعوى الثانية : وهي ما أشار إليه بقوله : «وأما لزوم كونه من قيود المادة لبا» ـ هو شهادة الوجدان بعدم اشتراط الوجوب والطلب في شيء من الموارد.

توضيح ذلك بعد تقديم مقدمة وهي : أن الإنسان العاقل إذا توجه إلى شيء إما أن يتعلق به طلبه باعتبار اشتماله على المصلحة الداعية للأمر ، أو لا يتعلق به طلبه ، أما الفرض الثاني : فهو خارج عن محل الكلام ، وأما الفرض الأول : فهو على قسمين :

أحدهما : أن يتعلق به الطلب بلا قيد لترتب المصلحة عليه بلا تعليق على شيء ؛ كما إذا طلب الماء مطلقا.

وثانيهما : أن يتعلق به مع قيد وخصوصية كما إذا طلب الماء بقيد البرودة والصفاء وهذا القسم يتصور على وجهين :

أحدهما : أن يكون القيد غير اختياري ؛ كالبلوغ ، والوقت المقيد بهما الصلاة.

__________________

(١) راجع : مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٢٣٧.

٤٣

أما امتناع كونه من قيود الهيئة : فلأنه لا إطلاق في الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهيئة ؛ حتى يصح القول بتقييده بشرط ونحوه ، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب ـ الذي يدل عليه الهيئة ـ ، فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة.

وأما لزوم كونه (١) من قيود المادة لبّا : فلأن العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت إليه ، فإما أن يتعلق طلبه به ، أو لا يتعلق به طلبه أصلا ، لا كلام على الثاني.

وعلى الأول : فإما أن يكون ذاك الشيء موردا لطلبه وأمره مطلقا على اختلاف طوارئه ، أو على تقدير خاص ، وذلك التقدير تارة يكون من الأمور الاختيارية (٢) ، وأخرى : لا يكون كذلك (٣) ، وما كان من الأمور الاختيارية قد يكون مأخوذا فيه (٤) على نحو يكون موردا للتكليف ، وقد لا يكون كذلك (٥) ، على اختلاف الأغراض

______________________________________________________

ثانيهما : أن يكون القيد اختياريا ؛ كالاستطاعة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن التقييد في جميع هذه الأقسام والصور راجع إلى المادة ، فالقيد سواء كان اختياريا أو غير اختياري قيد للمادة ؛ وهو الواجب لا الوجوب وهو مفاد الهيئة ، فرجوع القيد إلى المادة أمر وجداني يلتفت إليه كل أحد ، ويجده من نفسه ، وبهذين الوجهين استدل الشيخ الأنصاري على ما ذهب إليه من عدم رجوع القيد إلى الهيئة ، ورجوعه إلى المادة.

(١) قوله : «وأما لزوم كونه» ـ أي : الشرط من قيود المادة ـ إشارة إلى الدليل على الدعوى الثانية ؛ بمعنى : أنه بعد امتناع رجوع القيد إلى الهيئة يتعين رجوعه إلى المادة.

(٢) أي : كالطهارة للصلاة ، والاستطاعة للحج.

(٣) أي : لا يكون من الأمور الاختيارية ؛ كالوقت بالنسبة إلى الصلاة.

(٤) أي : الأمر الاختياري قد يكون مأخوذا في الطلب «على نحو يكون موردا للتكليف» ؛ بحيث يتوجه التكليف إلى الفعل حال تحقق ذلك الأمر الاختياري ؛ كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة ، فيجب تحصيل ذلك الأمر الاختياري من باب المقدمة للواجب المطلق.

(٥) أي : وقد لا يكون الأمر الاختياري موردا للتكليف ؛ كالاستطاعة لمن تمكن من تحصيلها ، فإنها لم تقع موردا للتكليف ، فلا يتوجه التكليف إلى المقدمة ؛ بل يجب الإتيان بالواجب على تقدير حصول المقدمة وهو الواجب المشروط.

ثم اختلاف وقوع شيء مطلقا أو مقيدا ناشئ من اختلاف الأغراض الداعية إلى

٤٤

الداعية إلى طلبه والأمر به ، من غير فرق في ذلك بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، والقول بعدم التبعيّة كما لا يخفى.

هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل (١) المقرر لبحثه بأدنى تفاوت ، ولا يخفى ما فيه (٢).

أما حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة (٣) ، فقد حققناه سابقا : أن كل واحد من

______________________________________________________

ذلك ؛ بمعنى : أنه ربما يكون الغرض طلبه مطلقا وربما يكون مشروطا. ولا فرق في اختلاف وقوع شيء مطلقا أو مقيدا بين القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، والقول بعدم التبعية ، فكما أنه بناء على التبعية يكون الوجوب حاليا والقيد راجعا إلى المادة ؛ كذلك بناء على عدم التبعية ، ومذهب الأشعري فإنه يقول : بأن تصور الفعل علة تامة للميل إلى الأمر والطلب مطلقا ، أو مقيدا بشيء.

نعم ؛ على القول بالتبعية يكون الاختلاف المزبور ناشئا من اختلاف المصالح والأغراض.

وكيف كان ؛ فقالت العدلية : بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ؛ فإن الله تعالى لا يفعل ولا يأمر ولا ينهى إلّا لغرض وفائدة ؛ نظرا إلى أن الفعل بلا غرض وفائدة عبث ، والعبث قبيح ، والقبيح يستحيل عليه تعالى.

وقالت الأشاعرة : بعدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ؛ بل جوّزوا عليه تعالى أن يفعل أو يأمر أو ينهى بغير غرض وفائدة ؛ نظرا إلى أن الفعل بلا غرض وفائدة عبث ، والعبث قبيح ، والقبيح يستحيل عليه تعالى.

وقالت الأشاعرة : بعدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ؛ بل جوّزوا عليه تعالى أن يفعل أو يأمر أو ينهى بغير غرض وفائدة ؛ بتوهم : أن الفعل لغرض وفائدة من شأن الناقص المستكمل بذلك الغرض والفائدة ، وهو «تبارك وتعالى» كامل لا نقص فيه ، غفلة عن أن النقص إنما يلزم إذا كان النفع عائدا إليه تعالى ، وأما إذا كان عائدا إلى غيره فلا يوجب ذلك نقصا فيه تعالى.

(١) أي : وهو العلامة الميرزا أبو القاسم النوري ؛ كما في «منتهى الدراية» ج ، ٢ ص ١٦٣.

(٢) أي : ما في استدلال الشيخ الأنصاري من الإشكال.

(٣) هذا جواب عن الاستدلال بالوجه الأول ؛ وهو : الدليل على الدعوى الأولى.

وحاصل جواب المصنف عن الوجه الأول هو : أن مفاد الهيئة وإن كان معنى حرفيا ؛ إلّا إن المعنى الحرفي لا يختلف عن المعنى الاسمي في كونه مفهوما كليّا ، وإن اختلف معه في كيفية الوضع ونحوه ، فكما أن المعنى الاسمي يقبل التقييد لقابليته للسعة والضيق ؛ كذلك المعنى الحرفي لما حققه المصنف في المعاني الحرفية ؛ من اشتراكهما في

٤٥

الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عاما كوضعها ، وإنما الخصوصية من قبل الاستعمال كالأسماء ، وإنما الفرق بينهما أنها وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هو هو ، والحروف (١) وضعت لتستعمل وقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلقات ، فلحاظ الآلية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى ؛ بل من مشخصات الاستعمال كما لا يخفى على أولي الدراية والنّهى. فالطلب المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لأن يقيد ؛ مع إنه لو سلم أنه فرد (٢) فإنما يمنع عن

______________________________________________________

المفهومية التي هي موضوع الإطلاق والتقييد ، فيكون المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي كليا قابلا للإطلاق والتقييد.

فكل من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عام ، والخصوصية تنشأ من ناحية الاستعمال ؛ فيمتنع دخلها في الموضوع له ، كما أشار إليه بقوله : «وإنما الخصوصية ...» إلخ.

وبالجملة : أن المعنى الحرفي كلي قابل للتقييد ؛ كالمعنى الاسمي ، فلا مانع حينئذ من رجوع القيد إلى الهيئة لكون معناها كليا لا جزئيا حقيقيا ، ويصح أن يقال : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، ويراد منه : أن الطلب عند المجيء ثابت لإكرام زيد.

(١) أي : غاية ما يقال في الفرق بين الاسم والحرف هو : أن الاسم وضع ليراد معناه بما هو هو ، والحرف وضع ليراد معناه حالة لغيره ، واللحاظان خارجان عن المعنى ، فلا يكون معناهما جزئيا ذهنيا. فإن لحاظ الآلية في الحروف كلحاظ الاستقلالية في الأسماء إنما هو من مشخصات الاستعمال ، لا من خصوصيات المعنى ، ومن طوارئه ، ولوازمه كما لا يخفى على أولى الدراية والنهى.

(٢) هذا هو الجواب الثاني عن الوجه الأول ، وحاصل ما أفاده المصنف من الجواب عن الوجه الأول :

ثانيا : أننا لو سلمنا أن الهيئة مستعملة في الفرد من الطلب فنقول : إن الفرد لا يقبل التقييد إذا أنشئ أولا مطلقا ، ثم أريد تقييده ، فهذا الفرد لا يمكن تقييده عقلا ؛ لأن الفرد بمجرد الإنشاء يتشخص بتشخص خاص ، ولا يعقل انقلاب الشخص المنشأ مطلقا إلى الشخص المقيد ، هذا بخلاف ما إذا أنشئ من أول الأمر مقيدا بحيث يلاحظ القيد والمقيد فيصبّ عليهما الإنشاء مرة واحدة ، فالممتنع هو الأول دون الثاني.

وبعبارة أخرى : أن التقييد على قسمين : أحدهما : إيجاد شيء مقيدا ومضيقا ؛ نظير ضيق فم الركية. والآخر : تضييق ما أوجد موسعا ، والمقام نظير القسم الأول.

٤٦

التقييد لو أنشئ أولا غير مقيد ، لا ما إذا أنشئ من الأول مقيدا ، غاية الأمر : قد دل عليه بدالين ، وهو غير إنشائه أولا ، ثم تقييده ثانيا ، فافهم (١).

فإن قلت : على ذلك (٢) ؛ يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ ، حيث لا طلب قبل حصول الشرط.

قلت : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله ؛ فلا بد أن لا يكون قبل

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فملخص الجواب : أن الطلب الخاص الذي هو مفاد الهيئة لم يقيد بشيء بعد إنشائه بالصيغة حتى يقال : إن الجزئي غير قابل للتقييد ؛ بل أنه أنشئ مقيدا ؛ بمعنى : أن المتكلم تصور الطلب بجميع خصوصياته المقصودة ثم أنشأه بالهيئة مقيدا بالخصوصية وهي الشرط ، فالشرط قرينة تدل على الخصوصية ، والصيغة تدل على الطلب المطلق ، فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، كما أشار إليه المصنف بقوله : «قد دل عليه بدالين» أي : دل على المقيد بدالين : الأول : الهيئة : الثاني : الشرط ، فلا محذور في هذا التقييد أصلا.

(١) لعله إشارة إلى أن المعنى الحرفي ـ على مذهب الشيخ الأنصاري ـ بذاته جزئي حقيقي ؛ لا أنه كلي ، وإنما جزئيته من ناحية الإنشاء ، فلا إطلاق له في حد ذاته حتى يصح إنشاؤه مقيدا.

أو إشارة إلى أنه لو سلم أن الطلب إذا أنشئ أولا مطلقا فلا يقبل التقييد بعد ، فما ذا يقال في مثل : أكرم زيدا إن جاءك؟ بحيث أخّر الشرط عن الطلب ، ولم يقل إن جاءك زيد فأكرمه ، فإن الطلب حينئذ قد أنشئ أولا مطلقا ، فكيف يقيد بالشرط بعد؟ فينحصر الجواب الذي لا يرد عليه الإشكال في الجواب الأول وهو : أن المعنى الحرفي كلي قابل للتقييد.

(٢) أي : على ما ذكرت من كون الشرط قيدا للهيئة والطلب المستفاد منها : «يلزم تفكيك الإنشاء من المنشأ» ، وهذا الاعتراض على المصنف دليل آخر أي : دليل ثالث على ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري ؛ من رجوع القيد إلى المادة لا إلى الهيئة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الإنشاء والمنشأ كالإيجاد والوجود ، والعلة والمعلول ؛ في استحالة الانفكاك بينهما ، فكما لا ينفك الوجود عن الإيجاد ، والمعلول عن العلة ؛ فكذلك لا ينفك المنشأ عن الإنشاء ؛ لأن الإنشاء علة للمنشإ هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى : أن تقييد المنشأ ـ وهو مفاد الهيئة ـ يرجع إلى تقييد الإنشاء.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه على تقدير كون الشرط قيدا للهيئة ـ كما هو رأي المصنف لا قيدا للمادة كما هو رأي الشيخ ـ يلزم انفكاك الإنشاء زمانا عن المنشأ ؛ لأن

٤٧

حصوله طلب وبعث ، وإلّا لتخلف عن إنشائه وإنشاء أمر على تقدير كالإخبار به (١) بمكان من الإمكان ، كما يشهد به الوجدان ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

الطلب لا يحصل إلّا بعد حصول شرطه حسب الفرض ، والمفروض : أن الإنشاء حالي ، والمنشأ ـ وهو الطلب ـ استقبالي ، فينفك الإنشاء عن المنشأ ، وهو مستحيل ؛ لاستحالة انفكاك المعلول عن العلة ؛ لأن الإنشاء علة للمنشإ ، فحينئذ لا محيص عن رجوع الشرط إلى المادة كما هو رأي الشيخ الأنصاري.

وقد أجاب عن هذا الاعتراض بقوله : «قلت : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله ...» إلخ.

وتوضيح ما أفاده المصنف من الجواب يتوقف على مقدمة وهي : أن الإنشاء ـ وإن كان علة للمنشإ ـ إلّا إنه ليس علة تامة في جميع الموارد ؛ بل قد يكون علة تامة كإنشاء الوجوب للصلاة مثلا على نحو مطلق وبلا قيد ، فلا يلزم الانفكاك أصلا لحصولهما فعلا. وقد يكون علة ناقصة ؛ بأن يكون الإنشاء جزء العلة ، وجزؤها الآخر هو الشرط ؛ كإنشاء الوجوب للحج بشرط الاستطاعة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا يلزم الانفكاك على الأول ، وأما على الثاني : وإن كان يلزم ذلك إلّا إنه مما لا محذور فيه ؛ لورود الإنشاء على المقيد بشرط ، فحصوله بمجرد الإنشاء مستلزم للخلف ، فشأن الإنشاء حينئذ هو شأن الإرادة في أنه إذا تعلقت بشيء متأخر فلا يقع المراد قبله ، وإلّا يلزم الخلف وكذا الإنشاء ؛ فإذا تعلق بشيء مقيد بأمر متأخر فلا يقع المنشأ قبله.

(١) أي : كالإخبار بأمر على تقدير «بمكان من الإمكان» ؛ أي : فكما لا يوجب تعليق المخبر به ـ في قولك : إن جاء زيد يكرمه عمرو ـ تعليقا في الإخبار ؛ فكذلك تعليق المنشأ لا يوجب تعليقا في الإنشاء ، فتوهم : كون المنشأ والإنشاء كالإيجاد والوجود التكوينيين غير قابلين للتعليق ، وأن تعليق المنشأ يسري إلى الإنشاء فاسد ؛ لعدم صحة قياس المنشأ والإنشاء بالإيجاد والوجود ، بل الإنشاء نظير الإخبار ؛ لا الإيجاد التكويني ، فالإنشاء لأمر على تقدير كالإخبار به على تقدير بمكان من الإمكان ، «كما يشهد به» أي : بإمكان إنشاء أمر على تقدير أمر «الوجدان» ؛ كإنشاء تمليك معلق على الموت في الوصية التمليكية مثلا.

وقيل : كان الأولى على المصنف تبديل ـ الوجدان ـ بالدليل ؛ لأن ترتب الأثر في موارد تخلف المنشأ عن الإنشاء زمانا إنما هو بالدليل الشرعي ، لا الوجدان ، إلّا إن يريد بالوجدان حكم العقلاء والعرف بذلك ، غاية الأمر : أن الشرع أمضاه.

٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فقد يقال : إن قياس الإنشاء بالإخبار قياس مع الفارق ؛ بناء على ما هو نظرية المشهور من أن الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، فيكون الإنشاء والمنشأ نظير الإيجاد والوجود ، فلا يمكن تخلف المنشأ عن الإنشاء ، كما لا يتخلف الوجود عن الإيجاد.

وأما بناء على ما هو نظرية الأستاذ السيد الخوئي «قدس‌سره» ؛ من أن الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل : فيصح قياس الإنشاء بالإخبار في صحة التعليق ، ويندفع الإشكال المذكور من أصله ؛ إذ يمكن أن يكون الاعتبار حاليا ، والمعتبر أمرا متأخرا ، كاعتبار وجوب الصوم على زيد غدا ، فالتفكيك بين الاعتبار والمعتبر ـ وإن كان يلزم ـ إلّا إنه لا محذور فيه ، ولا يقاس ذلك بالتفكيك بين الإيجاد والوجود في التكوينيات ، ويشهد لما ذكرناه صحة الوصية التمليكية ، فلو قال الموصي : هذه الدار لزيد بعد وفاتي ؛ فلا شبهة في تحقق الملكية للموصى له بعد وفاته ، مع إن الاعتبار فعلي ، ومن البديهي : أن هذا ليس إلّا من ناحية أن الموصي اعتبر فعلا الملكية للموصى له في ظرف الوفاة. ومن هنا لم يستشكل أحد في صحة تلك الوصية حتى من القائلين برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

قوله : «فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى إشكال وجواب. وأما تقريب الإشكال فيقال : إن المنشأ إذا كان بعد حصول الشرط يلزم تأثير المعدوم في الموجود ؛ لأن الإنشاء حين وجود الشرط معدوم.

وأما الجواب : فأوّلا : بالنقض ، وهو أن المنشأ إذا كان بعد حصول الشرط المتقدم يلزم تأثير المعدوم في الموجود ؛ إذ المفروض : أن الشرط المتقدم أيضا جزء من العلة ، فلولاه لم يكن وجوب.

وثانيا : بالحل ، وهو : أن المنشأ أمر اعتباري ، فيصح أن يكون منشؤه متقدما كما تقدم بيانه في تصوير الشرط المتأخر هذا تمام الكلام في الجواب عن الدليل الأول للشيخ.

وأما الجواب عن دليله الثاني وهو : حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّا ؛ فقد أشار إليه بقوله «ففيه : أن الشيء إذا توجه إليه وكان موافقا للغرض ...» إلخ.

وحاصل ما أجاب المصنف عن الدعوى الثانية للشيخ الأنصاري ـ وهي : لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّا ـ هو : صحة رجوع الشرط إلى الهيئة ، وعدم امتناعه ، بلا فرق بين القول بتبعية الأحكام لما في أنفسها من المصالح والمفاسد ، وبين القول بتبعيتها لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد على ما عليه الأكثر.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

توضيح ذلك بعد تقديم مقدمة وهي : أن الأحكام ـ على ما هو الحق عند العدلية ـ تابعة للمصالح والمفاسد ؛ إما في نفس الأحكام ، أو في متعلقاتها ، ثم تلك المصالح تارة : لا يكون حصولها مشروطا بشرط ، وأخرى : يكون حصولها مشروطا بشرط.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن حال الطلب النفساني الذي يظهر وينقدح في نفس الطالب والآمر كحال الإرادة ، فإن الإنسان إذا راجع وجدانه والتفت إلى شيء فقد لا يريده أصلا ، وقد يريده على كل حال وتقدير ، وقد يريده على تقدير دون تقدير ، وحال دون حال ، بل الطلب هو نفس الإرادة على ما سبق في بحث اتحاد الطلب والإرادة.

ثم وجه اختلاف الطلب والحكم إطلاقا وتقييدا : أن الإنسان قد يتوجه إلى شيء فيتعلق به طلبه النفساني لأجل ما فيه من المصلحة ، ولكن ربما يمنعه المانع عن إنشاء الطلب المطلق الحالي ، فيضطر الإنسان إلى إنشاء طلب مشروط بشرط مترقب الحصول المقارن لزوال المانع ثبوتا لتحصيل تلك المصلحة.

هذا ظاهر بناء على تبعية الأحكام للمصالح في متعلقاتها.

وأما بناء على تبعية الأحكام للمصالح في نفس الأحكام : فالأمر أوضح وأظهر ؛ لأنه كما تكون المصلحة في الحكم المطلق بلا قيد ؛ فكذا تكون المصلحة في الحكم المشروط. الأول : كوجوب الصلاة بالإضافة إلى الطهارة. الثاني : كوجوب الحج بالإضافة إلى الاستطاعة ؛ إلّا إن الحكم الفعلي قد يتخلف عن المصلحة التامة الكاملة على كلا القولين ـ هما تبعية الأحكام للمصالح في متعلقاتها أو في أنفسها ـ كما في موارد قيام الأمارات ، أو الأصول العملية على خلاف الأحكام الواقعية الموجب لسقوطها عن الفعلية.

والحال : أن المصالح في متعلقاتها محفوظة. وكما في بعض الأحكام في أول البعثة ، فكم من واجب فيه مصلحة تامة ، والحكم كان مجعولا في الواقع على طبق المصلحة ؛ ومع ذلك كان للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مانع عن إنفاذه وإظهاره. ومقام البحث من هذا القبيل ؛ بمعنى : أنه قد يكون الشيء فيه مصلحة تامة ، ويتبعها الحكم الواقعي ، ولكن يمنع وجود المانع الآمر عن إنشاء الطلب المطلق الفعلي ، فحينئذ ينشئ الطلب المشروط الثابت على تقدير شرط متوقع الحصول المقارن لزوال المانع ؛ خوفا من أن لا يتمكن من الجعل والإيجاد المطلق عند زوال المانع ، فينشئ الطلب من الآن مشروطا بشرط ، ومقيدا بقيد حتى يصير الحكم فعليا عند حصول الشرط بنفسه ؛ بلا حاجة إلى خطاب جديد آخر.

٥٠

وأما حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّا ففيه : أن الشيء إذا توجه إليه ، وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها ، كما يمكن أن يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا ، لعدم مانع عن طلبه ، كذلك يمكن أن يبعث إليه معلقا ، ويطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول لأجل مانع عن الطلب والبعث فعلا قبل حصوله ، فلا يصح منه إلّا الطلب والبعث معلقا بحصوله ، لا مطلقا ولو متعلقا بذاك على التقدير ، فيصح منه طلب الإكرام بعد مجيء زيد ، ولا يصح منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيد بالمجيء ، هذا بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.

وأما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور به ، والمنهي عنه فكذلك ، ضرورة : أن التبعية كذلك إنما تكون في الأحكام الواقعية بما هي واقعية ، لا بما هي فعلية.

فإن المنع عن فعلية تلك الأحكام غير عزيز ، كما في موارد الأصول والأمارات على خلافها ، وفي بعض الأحكام في أول البعثة ، بل إلى يوم قيام القائم «عجل الله فرجه» ، مع إن حلال محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة (*) ؛ ومع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الأحكام باقيا مرّ الليالي والأيام ؛ إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام ، كما يظهر من الأخبار المروية عن الأئمة «عليهم‌السلام» (**).

______________________________________________________

ومحصل الجميع : أن الأحكام الشرعية ليست جزافية بضرورة من مذهب العدلية ، بل كل واحد من الأوامر والأحكام قد صدر عن الشارع ؛ إما من جهة كون متعلقه مشتملا على مصلحة ملزمة أريد إيصالها إلى العبد ، وحينئذ فقد يرى المولى أن الفعل الكذائي على إطلاقه ـ وبأي وجه حصل مشتمل ـ على المصلحة أو الحكم الكذائي

__________________

(*) بصائر الدرجات ، ص ١٤٨ ، ح ٧. وفي الكافي ، ج ١ ، ص ٥٨ ، ح ١٩ عن الصادق «عليه‌السلام» : «حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة».

(**) وقد وردت روايات كثيرة توضح تفرد القائم ببعض الأحكام ؛ لعدم وجود المانع من إظهارها ، منها : ما في البحار ، ج ٥٢ ، ص ٣٢٥ ، ح ٣٩ : قال أبو عبد الله «عليه‌السلام» : «دمان في الإسلام حلال من الله «عزوجل» لا يقضي فيهما أحد بحكم الله «عزوجل» حتى يبعث الله القائم من أهل البيت ، فيحكم فيهما بحكم الله «عزوجل» ؛ لا يريد فيه بينة : الزاني المحصن يرجمه ، ومانع الزكاة يضرب رقبته».

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

كذلك ، فلا محالة يأمر به على نحو المطلق أو ينشئ الحكم كذلك.

وقد يرى أن الفعل الكذائي أو الحكم الكذائي حال كون كل واحد يكون مقيدا بقيد ، مشتملا على المصلحة لا مطلقا ؛ فلا محالة يأمر به على نحو المقيد ، أو ينشئ الحكم كذلك. وإما من جهة كون متعلقة مشتملا على مفسدة ملزمة ؛ فنهي المولى يكون دافعا عن تلك المفسدة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٥١» :

«أن الشيء إذا توجه» المولى «إليه وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة» ؛ كما يقوله العدلية ، «أو غيرها» من مطلق الجهة الموجبة للطلب ـ كما يقوله الأشعري ـ «كما يمكن أن يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا» من غير تقييد بشرط «لعدم مانع عن طلبه» فعلا ؛ «كذلك يمكن أن يبعث إليه معلقا» بحصول الشرط ـ إلى أن قال ـ «فلا يصح منه» أي : من المولى «إلّا الطلب والبعث معلقا بحصوله لا مطلقا» أي : لا يصح الطلب المطلق «ولو» كان هذا الطلب المطلق «متعلقا بذاك» الشيء المأمور به «على التقدير» أي : تقدير حصول الشرط ، أي : يلزم الطلب المقيّد حينئذ ، ولا يصح الطلب المطلق ولو كان منصبا على المادة المقيدة ، «فيصح منه طلب الإكرام» المقيد بكونه «بعد مجيء زيد ، ولا يصح منه الطلب المطلق الحالي للإكرام المقيد» هذا الطلب «بالمجيء. هذا بناء على تبعية الأحكام لمصالح فيها» أي : في نفس الأحكام. «في غاية الوضوح» ؛ لوضوح : إمكان كون المصلحة في الإطلاق ، وإمكان كونها في التقييد بأن يكون هناك مانع عن الإطلاق مثلا.

«وأما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها» أي : في متعلق الأحكام «فكذلك» في غاية الوضوح ؛ وإن كان ربما يتوهم أنه بناء على ذلك يستقيم ما ذكره الشيخ «رحمه‌الله» ؛ من كون القيود راجعة إلى المادة.

وتقريره : أن الحكم تابع للمتعلق وهو حسن أو قبيح بحسب ذاته ؛ فلا معنى لمنع المانع ، لكن هذا توهم فاسد ؛ «ضرورة : أن التبعية كذلك» للمصلحة في المتعلق «إنما تكون في الأحكام الواقعية بما هي واقعية ؛ لا» أن التبعية لمصلحة المتعلق في الأحكام «بما هي فعلية» ، بل الأحكام الفعلية تابعة لما فيها من المصالح ، وعليه : فقد يمنع من فعلية الطلب مانع ، فلا يكون الحكم فعليا ، بل معلقا فلا يتم مدعى الشيخ «رحمه‌الله» ، ومما يدل على جواز تقييد الفعلية بوجودات متأخرة أمور ثلاثة ، فقد أشار المصنف إلى الأول

٥٢

فإن قلت : (١) فما فائدة الإنشاء؟ إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا وبعثا حاليا.

قلت (٢) : كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط ، بلا حاجة إلى

______________________________________________________

منها بقوله : «كما في موارد الأصول والأمارات على خلافها» أي : خلاف الأحكام الواقعية ، فإن مصلحة التسهيل أو غيره مانعة عن فعلية الحكم الواقعي. وإلى الثاني : بقوله : «وفي بعض الأحكام في أول البعثة» ، فإنها لم تكن فعلية لعدم استعداد المكلفين ، وقد أشار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بعض الأخبار إلى ذلك. وإلى الثالث : بقوله : «بل إلى يوم قيام القائم عجل الله فرجه» ، فإنها بعد ظهوره تكون فعلية بعد ما لم تكن ، فهذه الأمور الثلاثة شواهد على تقييد الأحكام الفعلية بما هي فعلية ؛ لا الأحكام الواقعية بما هي واقعية.

(١) هذا الاعتراض من المصنف على نفسه دليل رابع للشيخ «رحمه‌الله» القائل برجوع القيد إلى المادة.

وحاصل هذا الاعتراض : أن كون الإنشاء حاليا مع كون المنشأ استقباليا ـ كما هو مقتضى رجوع القيد إلى الهيئة ـ عديم الفائدة ؛ فيلزم أن يكون الإنشاء لغوا لعدم فائدة فيه ؛ إذ المفروض : ترتب المنشأ ـ وهو مفاد الهيئة ـ على الشرط الذي لم يحصل بعد ، فالوجوب حينئذ لم يكن فعليا فيكون الطلب لغوا ؛ لأن المشروط لا يتحقق إلّا بعد تحقق شرطه ؛ مثلا : إذا كان وجوب ذهاب زيد إلى دار عمرو مقيدا بطلوع الشمس ؛ كان أمر المولى في الليل له بالذهاب كذلك لغوا ؛ لعدم وجه لكون الأمر مشروطا بشرط ، مع تمكن المولى من الأمر المطلق عند حصول الشرط ؛ بأن يأمره بذلك في المثال المذكور بعد طلوع الشمس.

(٢) حاصل جواب المصنف عن لغوية الإنشاء المشروط لعدم فائدة فيه : إنه ليس الإنشاء المذكور بلا فائدة ، بل له فائدتان : الفائدة الأولى : ما أشار إليه بقوله : «كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط ...» إلخ.

وملخص الكلام في الفائدة الأولى هو : عدم الحاجة إلى إنشاء جديد بعد حصول الشرط ؛ بل يصير الطلب والبعث فعليا بعد حصول الشرط ؛ من دون حاجة إلى خطاب جديد ، بل لو لا الإنشاء قبل الشرط لما كان المولى متمكنا من الخطاب المطلق بعد حصول الشرط ؛ بأن كان هناك محذور يمنع من الخطاب المطلق بعد حصول الشرط ، فلو لم يتمكن المولى عن الإنشاء في زمان حصول الشرط ، أو كان له مانع عن إنشاء الطلب المطلق حين حصوله ؛ فيكتفي بالوجوب المشروط.

الفائدة الثانية : ما أشار إليه بقوله : «مع شمول الخطاب كذلك» أي : على نحو المشروط.

٥٣

خطاب آخر ، بحيث لولاه لما كان فعلا متمكنا من الخطاب ، هذا مع شمول الخطاب كذلك للإيجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط ، فيكون بعثا فعليا بالإضافة ، وتقديريا بالنسبة إلى الفاقد له ، فافهم وتأمل جيدا.

ثم الظاهر : دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط ، في محل النزاع أيضا (١) ، فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق ، غاية الأمر : تكون في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل الوجوب بناء على وجوبها من باب الملازمة.

______________________________________________________

وحاصل الكلام في الفائدة الثانية هو : شمول الخطاب وعمومه ؛ بحيث يشمل واجد الشرط وفاقده ، فيكون الخطاب فعليا بالإضافة إلى واجد الشرط ، ومشروطا بالنسبة إلى فاقده ، فالخطاب في قول الشارع : ـ حجوا إن استطعتم ـ فعليّ لواجد الاستطاعة ، وإنشائي لفاقدها ، فيكتفي بهذا الإنشاء على كلا التقديرين أي : وجود الاستطاعة وعدمها.

لا يقال : أنه يلزم استعمال اللفظ في المعنيين في إطلاق واحد ـ وهما الوجوب الشأني بالنسبة إلى غير الواجد للشرط ، والوجوب الفعلي بالإضافة إلى الواجد للشرط ـ كما قلت هذا في صيغة الأمر ، وهي : «حجوا» في المثال المذكور.

فلأنه يقال : إن خطاب «حجوا» يدل على إنشاء الوجوب المشروط والإنشائي فقط ، ولكن العقل والنقل من الخارج يدلان على فعلية الوجوب بالإضافة إلى واجد الشرط وهو المستطيع حاليا ، كما أن سائر الخطابات الشرعية بالإضافة إلى العالمين بها فعلية ، وبالنسبة إلى الجاهلين بها شأنية ، فليس في المقام استعمال اللفظ في معنيين مختلفين.

قوله : «فافهم وتأمل جيدا» ؛ لعله إشارة إلى ما ذكر من الإشكال والجواب.

(١) كالمقدمات الوجودية للواجب المطلق ، لأنه بعد حصول مقدمات وجوبه يصبح الواجب مطلقا وفعليا. وبحسب الدقة هذا من المصنف «قدس‌سره» دفع لتوهم خروج المقدمات الوجودية للواجب المشروط عن محل النزاع.

أما تقريب التوهم فيتوقف على مقدمة وهي : أن مقدمات الواجب المشروط على قسمين :

الأول : مقدمة وجودية : كقطع المسافة التي هي مقدمة وجودية للحج.

الثاني : مقدمة وجوبية : كالاستطاعة التي هي مقدمة وجوبية للحج.

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المشهور قال : بخروج مقدمات الواجب المشروط مطلقا عن محل النزاع ، فلذا خصص بعض العلماء النزاع بمقدمات الواجب المطلق.

وحاصل الدفع والجواب عن التوهم المذكور : أنه لا فرق بين الواجب المشروط والواجب المطلق في المقدمات الوجودية ، فكما أن المقدمات الوجودية للواجب المطلق داخلة في محل النزاع فكذلك المقدمات الوجودية للواجب المشروط داخلة فيه ؛ لأن الواجب المشروط بعد تحقق مقدمات وجوبه يصير الواجب فعليا ، فيأتي النزاع في مقدماته ؛ إذ لا فرق بين الحج بالإضافة إلى قطع المسافة ، بعد تحقق الاستطاعة ، وبين الصلاة بالإضافة إلى الوضوء ، فلا وجه لتخصيص النزاع بمقدمات الواجب المطلق.

نعم الفرق بينهما : أن وجوب مقدمات الواجب المشروط تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ؛ بمعنى : أنه إذا كان وجوب ذيها مشروطا كان وجوبها مشروطا ، وبمجرد صيرورة وجوب ذيها فعليا يصير وجوبها فعليا.

هذا ما أشار إليه بقوله : «غاية الأمر : تكون في الإطلاق والاشتراط تابعة لذي المقدمة». وكيف كان ؛ فلا إشكال في دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع ، غاية الأمر : أن وجوب المقدمة ـ بناء على القول به للملازمة بين وجوبي الواجب ومقدمته ـ تابع لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا. هذا تمام الكلام في المقدمات الوجودية.

وأما المقدمات الوجوبية : فقد أشار إليها بقوله : «وأما الشرط المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب : فخروجه مما لا شبهة فيه ، ولا ارتياب».

وحاصل الكلام : أنه قد يتخيّل الإشكال في خروج المقدمات الوجوبية عن محل النزاع بناء على ما يظهر من تقريرات الشيخ «قدس‌سره» من إنكار الواجب المشروط ، ورجوع الشروط كلها إلى المادة والفعل لبّا دون الطلب ، بل يجب القول حينئذ بوجوبها بناء على الملازمة.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بما حاصله : من أن المقدمات الوجوبية المعلق عليها الوجوب في ظاهر الخطاب خارجة عن محل النزاع على كلا القولين ؛ أي : قول المشهور من تعقل الواجب المشروط ، وقول الشيخ : من عدم تعقله ورجوع الشروط كلها

٥٥

وأما الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر الخطاب : فخروجه مما لا شبهة فيه ، ولا ارتياب.

أما على ما هو ظاهر المشهور والمنصور فلكونه مقدمة وجوبية (١).

______________________________________________________

إلى المادة. وأما خروجها على قول المشهور فواضح ؛ إذ لا وجوب لذي المقدمة قبل تحقق مقدمة الوجوب كي يترشح الوجوب منه إليها.

وأما بعد حصولها وتحققها في الخارج : فطلبها طلب لما هو حاصل وهو محال. وأما خروجها على قول الشيخ «قدس‌سره» : فلأنه «قدس‌سره» وإن كان أرجع القيود كلها إلى الفعل ؛ ولكن القيود تختلف.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان أقسام القيود ؛ فنقول : إن القيد والشرط «تارة :» يكون غير اختياري كالوقت كما في قول الشارع : «حج في الموسم» ، أو «صلّ عند الزوال» ، فهذا القسم مما لا يعقل وجوبه.

«وأخرى :» أن القيد وإن كان أمرا اختياريا ، ولكن قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب ، كما لو قال : «حج عند الاستطاعة» ، أو «صلّ بعد ما تطهرت» ، فإن القيد في هذا القسم وإن كان راجعا إلى الفعل وهو أمر اختياري ؛ ولكنه قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب فلا يجب تحصيله.

و «ثالثة» : يكون القيد اختياريا ، وقد أخذ على نحو يترشح إليه الوجوب ؛ كما إذا قال الشارع : «حج عن استطاعة» ، أو «صل عن طهارة» ، وفي هذا القسم يجب تحصيل القيد غيريا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه ليس كل قيد بمجرد رجوعه إلى المادة دون الهيئة مما يلزم القول بوجوب تحصيله كما عرفت ، ومن هنا ظهر خروج المقدمات الوجوبية عن محل النزاع على كلا القولين.

(١) أي : فلا يمكن أن يترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة ؛ لأن لازم كون الشرط مقدمة للوجوب هو : تأخر وجود الوجوب عن وجود الشرط ـ وهي المقدمة ـ تأخر المعلول عن علته ، ومع هذا التأخر يكون تحصيل الشرط بعد حصوله من تحصيل الحاصل المحال. هذا بناء على مذهب المشهور.

وأما بناء على ما هو مختار الشيخ «قدس‌سره» من رجوع القيد إلى المادة ؛ فلأن الشرط وإن كان حينئذ من المقدمات الوجودية التي يجب تحصيلها بناء على الملازمة ؛ إلّا إن بعض أقسام الشروط ليس واجب التحصيل كما عرفت ، والاستطاعة من هذا القبيل ، فإنها ليست واجبة التحصيل ، لأنها أخذت على نحو لا يجب تحصيلها ، بل وجودها

٥٦

وأما على المختار لشيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ فلأنه وإن كان من المقدمات الوجودية للواجب ؛ إلّا إنه أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه ، فإنه جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط ، فمعه كيف يترشح عليه الوجوب ويتعلق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟

نعم (١) ؛ على مختاره «قدس‌سره» لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه ؛ لتعلّق بها الطلب في الحال ـ على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال ـ

______________________________________________________

الاتفاقي دخيل في الواجب ومصلحته ، فلا موجب للزوم تحصيله.

قوله : «فإنه جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط» ؛ علة لقوله : «أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه».

وحاصل الكلام في المقام : أن الشيخ «قدس‌سره» جعل مثل الحج واجبا على تقدير حصول الاستطاعة ، ومع حصولها كيف يترشح عليها الوجوب ويتعلق بها الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟! وفي المقام كلام متضمن على ما يرد من الإشكال على المصنف تركناه رعاية للاختصار.

(١) هذا من المصنف استدراك عما سبق من عدم الفرق بين قول المشهور ، ومختار الشيخ في خروج الشرط المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب.

وحاصل الاستدراك : أنه يظهر الفرق بين قول المشهور ، وما هو مختار الشيخ في سائر المقدمات الوجودية ؛ غير المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب.

بمعنى : أن ما تقدم من عدم وجوب تحصيل الشرط على القولين ؛ يختص بما أخذ في الواجب على نحو لا يجب تحصيله ؛ بأن كان الشرط وجوده الاتفاقي كما سبق توضيحه ، فلا فرق بين القولين في عدم وجوبه. وأما سائر مقدماته الوجودية التي لم تؤخذ بهذا النحو في الواجب ، فيسري الوجوب إليها على مختار الشيخ «قدس‌سره» ؛ إذ المفروض : كون الوجوب حاليا ، والواجب استقباليا ، فيجب إيجادها فعلا.

فإذا علم بالفرض أنه يستطيع في المستقبل ـ وللحج مقدمات وجودية كالزاد والراحلة ـ فعلى مبنى الشيخ «رحمه‌الله» : تتصف بالوجوب حالا ؛ بناء على وجوب المقدمة من باب الملازمة ؛ لاتصاف الحج بالوجوب حالا. وأما على مبنى المشهور : فلا تتصف بالوجوب قبل الاستطاعة إلّا معلقا ؛ لعدم اتصاف الحج بالوجوب إلّا كذلك.

نعم ؛ إذا لم يتحقق الشرط الذي أخذ بوجوده الاتفاقي شرطا في ظرفه في المستقبل انكشف عدم الوجوب.

٥٧

وذلك لأن (١) إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي ، والواجب إنما هو استقبالي ، كما يأتي في الواجب المعلق ؛ فإن الواجب المشروط على مختاره هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق. فلا تغفل.

هذا (٢) في غير المعرفة والتعلم من المقدمات ، وأما المعرفة : فلا يبعد القول

______________________________________________________

(١) قوله هذا تعليل لوجوب المقدمات الوجودية التي لم يعلق عليها الوجوب.

وقد أشار المصنف إلى اتحاد الواجب المشروط عند الشيخ ، مع الواجب المعلق عند صاحب الفصول بقوله : «فإن الواجب المشروط على مختاره ، هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق».

أما وجه كون الواجب المشروط على مذهب الشيخ هو عين الواجب المعلق الذي اصطلح عليه صاحب الفصول : فلأن القيد على مذهب كليهما يرجع إلى المادة ، وإنما الفرق بينهما ـ كما سيأتي ـ أن المعلق الفصولي من مصاديق المشروط الشيخي ؛ وذلك لأن المعلق هو : ما يتوقف الواجب على أمر غير مقدور كالدلوك في الصلاة ، والموسم في الحج.

والمشروط هو : ما يتوقف الواجب على أمر استقبالي سواء كان مقدورا كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ، أو غير مقدور كالموسم بالنسبة إليه.

(٢) الكلام الذي ذكرناه من : أن المقدمات الوجودية للواجب المشروط كنفس الواجب مشروطة بحصول الشرط ؛ بحيث إنه لو لا الشرط لم يجب ذو المقدمة فلم تجب مقدماتها ؛ إنما هو في غير المعرفة. واما المعرفة : فلا يبعد القول بوجوبها حتى في الواجب المشروط قبل حصوله شرطه ـ على مسلك المشهور ـ وهو كون الشرط قيدا للوجوب لا للواجب ، فقول المصنف : «هذا في غير المعرفة» استثناء عما أفاده آنفا من تبعية المقدمة لذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط ، فيقول المصنف : هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات فإنها تابعة لذي المقدمة في الوجوب.

وأما المعرفة : فهي واجبة مطلقا أي : حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار ؛ وهو كون الشرط قيدا للهيئة لا للمادة. وأما على مختار الشيخ من رجوع الشرط إلى الواجب ، وكون الوجوب فعليا : فلا يرد الإشكال ، ولكن ليس الوجه في وجوب المعرفة والتعلم الملازمة بين وجوبي المقدمة وذيها ؛ وذلك لوجهين :

الوجه الأول : هو عدم كون التعلم والمعرفة من المقدمات الوجودية التي هي مورد الملازمة ؛ لوضوح : عدم كون التعلم من علل وجود الواجب ؛ وذلك لإمكان الإتيان بالواجب حال الجهل احتياطا. فوجود الصلاة مع السورة المشكوكة جزئيتها لا

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يتوقف على العلم بجزئيتها ؛ لجواز الإتيان بالصلاة المشتملة على السورة رجاء واحتياطا.

نعم ؛ الامتثال العلمي التفصيلي يتوقف على العلم ، وحينئذ فلا يتوقف وجود الواجب على التعلم إلّا على القول باعتبار التمييز في العبادات ، لكن هذا القول ضعيف ؛ فلا يكون التعلم من المقدمات الوجودية كما عرفت.

الوجه الثاني : هو عدم وجوب ذي المقدمة فعلا ؛ لعدم حصول شرطه ؛ فلا وجوب حتى يترشح على المقدمة.

بل الوجوب في وجوب التعلم هو : حكم العقل بذلك للعلم الإجمالي بالأحكام ؛ الموجب للفحص عنها ، وتحصيل المؤمّن من تبعاتها. فمجرد احتمال التكليف المنجّز بالعلم الإجمالي يوجب الفحص عن الدليل ، فإن لم يظفر به يسقط الاحتمال فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

هذا مضافا إلى روايات آمرة بتعلم الأحكام ، ولذا احتمل بعضهم وجوب التعلم نفسيا.

وكيف كان ؛ ففي وجوب المعرفة ؛ بمعنى : تعلم مسائل الواجب كمسائل الحج قبل حصول شرطه إشكال ؛ فإن الأمر دائر بين القول بوجوب تعلم مسائل الحج قبل حصول شرطه ؛ فيرد عليه : أنه قبل وجوب ذي المقدمة ، كيف يعقل وجوب المقدمة ؛ إذ المفروض : ترشح الوجوب من ذيها؟ وبين القول بعدم وجوب تعلم المسائل حينئذ ؛ فيرد عليه : أنه كيف يجوز ترك التعلم فيما لو أدّى تركه إلى ترك الواجب ؛ مثل ما إذا استطاع في حال سير القافلة ، ولا يتمكن من التعلم ؛ فإنّه يفضي إلى ترك واجبات الحج.

وقد أجاب المصنف «قدس‌سره» عن هذا الإشكال باختيار الشق الأول من الترديد ، حيث قال : «فلا يبعد القول بوجوبها» أي : وجوب المعرفة.

وقيل في الجواب : بوجوبها نفسيا طريقا إلى حفظ الواقعيات.

وقيل : بوجوبها عقلا إرشادا إلى حفظ الأغراض.

وقيل : بما في المتن من استقلال العقل بتنجز الأحكام بمجرد احتمالها ، وعدم العذر إلّا بالفحص واليأس عن الظفر عن الدليل على التكليف.

وفي المقام ما من النقض والإبرام بما لا يخلو عن التطويل في الكلام ، فتركناه رعاية للاختصار.

٥٩

بوجوبها ، حتى في الواجب المشروط ـ بالمعنى المختار ـ قبل حصول شرطه لكنه لا بالملازمة ؛ بل من باب استقلال العقل بتنجّز الأحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها ، إلّا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف ، فيستقل بعده بالبراءة ، وأن العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان ، والمؤاخذة عليها بلا برهان ، فافهم (١).

تذنيب :

لا يخفى : أن اطلاق الواجب على الواجب المشروط ، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا ، وأما بلحاظ حال قبل حصوله : فكذلك على الحقيقة على مختاره «قدس‌سره» في الواجب المشروط ؛ لأن الواجب وإن كان أمرا استقباليا عليه (٣) ، إلّا إن تلبسه بالوجوب في الحال ومجاز على المختار ، حيث لا تلبس

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى أن وجوب التعلّم ليس مطلقا ؛ بل فيما إذا علم المكلف أنه لو تركه لما يتمكن من إتيان الواجب بعد حصول الشرط ولو بطريق الاحتياط.

(٢) هذا التذنيب على شطرين : الشطر الأول : هو تحقيق حال إطلاق الواجب على الواجب المشروط من حيث الحقيقة والمجاز.

الشطر الثاني : في أحوال الصيغة مع الشرط ، فيكون الغرض من عقد هذا التذنيب : بيان حال إطلاق الواجب على الواجب المشروط ، وإطلاق الصيغة مع الشرط ؛ بمعنى : هل هي حقيقة في إنشاء الطلب المشروط أم لا؟

وأما الكلام في الشطر الأول فنقول : إن إطلاق الواجب على الواجب المشروط «تارة» : يكون بلحاظ حال النسبة ؛ أعني : حال حصول الشرط ، و «أخرى» : يكون بلحاظ ما قبل الشرط. فعلى الأول : يكون الإطلاق على نحو الحقيقة مطلقا أي : سواء كان الشرط قيدا للهيئة كما هو مختار المصنف ، أم قيدا للمادة كما هو مختار الشيخ.

وأما على الثاني : أي : الإطلاق بلحاظ ما قبل الشرط : فكان على نحو الحقيقة على مختار الشيخ ، وعلى نحو المجاز على مختار المصنف ؛ وذلك لما تقدم في مباحث المشتق من : الاتفاق على كونه مجازا فيما لم يتلبس بعد بالمبدإ ؛ لأن الواجب من مصاديق المشتق ، فلا بد من أن يكون إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل شرطه مجازا بعلاقة الأول ، أو المشارفة ؛ كما هو تصريح الشيخ البهائي «قدس‌سره» في «زبدة الأصول».

(٣) أي : على مختار الشيخ «قدس‌سره» ؛ لأن المشتق وهو الواجب متلبس بالمبدإ

٦٠