دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

أما في مقام الأوّل (١) : فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن كانا متحدين فيما هو

______________________________________________________

الشرعية ؛ لأن الطبيعة من حيث هي هي ليست إلّا هي ليست موجودة ولا معدومة ولا واحدة ولا كثيرة ولا غيرها من الأشياء.

ولكنها بما هي مقيدة بالوجود ؛ بحيث يكون القيد خارجا والتقيد داخلا تكون متعلقة للأحكام ؛ إذ ليست الماهية من حيث هي هي منشأ للآثار التي منها الأحكام الشرعية ؛ لوضوح : عدم قيام المصالح والمفاسد بها من حيث هي هي ، بل باعتبار وجودها ، بمعنى : تعلّق الحكم بها بقيد الوجود بنحو خروج القيد ودخول التقيّد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إذا كان متعلق الأمر والنهي ماهيتين لا محذور في الاجتماع من حيث ثبوت الحكمين ، ولا من حيث سقوطهما. وقد عرفت في المقدمة تعدد متعلقي الأمر والنهي. إذ المفروض : عدم كون الوجود جزءا للمتعلقين حتى يتحدا بسبب الوجود ، كي يلزم اجتماع الضدين المستحيل. بل المتعلقان متعددان في مقام الأمر والنهي ، وفي مقام الامتثال والعصيان.

وأما تعددهما في المقام الأوّل : فهو واضح لتعدد الطبيعتين وإن اتحدتا فيما هو خارج عن متعلق الطلب. وهو الوجود. فلا يلزم حينئذ إشكال اجتماع المصلحة والمفسدة ، ولا الإرادة والكراهة ، ولا البعث والزجر.

وأمّا تعددهما في المقام الثاني : فلأن المفروض : هو تعدد متعلقي الأمر والنهي ، وعدم وحدتهما ، فموضوع الأمر غير موضوع النهي ، ولذا يمتثل الأمر بإيجاد متعلقه ، ويتحقق العصيان بمخالفة النهي فلا يجتمع الحكمان في واحد في شيء من المقامين.

فالمتحصل : أنه لا يلزم اجتماع الأمر والنهي في واحد أصلا ؛ لا في مقام التشريع ولا في مقام الامتثال. أما الأول : فلما عرفت من : تعدد الطبيعتين بما هما متعلقان لهما.

وأما الثاني : فلأنه إذا أتى بالصلاة في الغصب سقط الأمر بطبيعة الصلاة بالطاعة ، والنهي عن طبيعة الغصب بالعصيان بسوء الاختيار.

فلا يجتمع الأمر والنهي في واحد أصلا ؛ لا في مقام التشريع ولا في مقام الامتثال ، فلا محيص عن الحكم بجواز الاجتماع ، هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «لا في مقام تعلّق البعث والزجر ، ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار».

(١) أي : وأما عدم الاتحاد «في المقام الأول» وهو مقام تعلّق البعث والزجر «فلتعددهما» أي : فلتعدد المتعلقين «بما هما متعلقان لهما» أي : للأمر والنهي. «وإن كانا» أي : المتعلقان «متحدين فيما هو خارج عنهما» أي : في الوجود الذي هو خارج عن

٤٠١

خارج عنهما ، بما هما كذلك (١).

وأما في المقام الثاني (٢) : فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان بمجرد الإتيان ، ففي أيّ مقام اجتمع الحكمان في واحد؟

وأنت (٣) خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت من أن تعدد العنوان لا يوجب

______________________________________________________

المتعلقين بما هما متعلقان للأمر والنهي ، فمتعلق الأمر والنهي متعدد ، واتحادهما يكون بحسب الوجود الذي هو خارج عن المتعلقين وعارض عليهما.

وكيف كان ؛ فليس الاتحاد في متعلق الأمر والنهي ، فالمتعلق متعدد والمتحد غير متعلق.

(١) أي : بما هما متعلقان للأمر والنهي.

(٢) أي : وأما عدم الاتحاد «في المقام الثاني» وهو مقام إطاعة الأمر وعصيان النهي : فلحصول الإطاعة والعصيان بإتيان المجمع ، فلا بد من تعدد موضوع الإطاعة والعصيان ؛ لامتناع الامتثال بما هو المبعد المبغوض المنهي عنه ، وعدم إمكان صيرورته عبادة.

والملخص : أنه لا يجتمع الأمر والنهي في واحد أصلا ، لا في مقام التشريع ولا في مقام الامتثال ، فلا محيص عن الحكم بجواز الاجتماع. فالاستفهام في قوله : «ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد» إنكاريّ يعني : لم يجتمع الأمر والنهي في شيء من المقامين.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على الجواز على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد.

وقبل بيان ما أجاب به المصنف عن هذا التوهم نذكر الفرق بين الآثار العادية والعقلية فنقول : إن الإحراق من الآثار العادية للنار حيث يجوز انفكاكه عنها بإعجاز ونحوه. والتحيز من الآثار العقلية للجسم ، حيث يستحيل انفكاكه عنه ، وهما لا يترتبان على الماهية من حيث هي هي ، بل على وجودها أو على خارجية الماهية على الخلاف في أصالة الوجود أو أصالة الماهية.

(٣) هذا هو جواب المصنف عن استدلال المحقق القمي.

وحاصل الجواب : أن تعلق الأحكام بالطبائع لا يجدي في جواز الاجتماع ، ولا يكون دليلا على الجواز بعد ما عرفت في المقدمة الثالثة : من أن تعدد العنوان ، كعنوان الصلاة وعنوان الغصب ، لا يوجب تعدد المعنون ، لا وجودا ولا ماهية ؛ لإمكان تصادقهما على معنون واحد فلا ينفع في الجواز.

ومحصل ما أفاده المصنف في رد الدليل المذكور على جواز الاجتماع هو : أنه. بعد

٤٠٢

تعدد المعنون ، لا وجودا ولا ماهية ، ولا تنثلم به وحدته أصلا ، وأن المتعلق للأحكام هو المعنونات لا العنوانات ، وأنها (١) إنما تؤخذ في المتعلقات بما هي حاكيات كالعبارات لا بما هي على حيالها واستقلالها. كما ظهر مما حققناه (٢) : أنه لا يكاد يجدي أيضا

______________________________________________________

وضوح : عدم تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع بما هي هي ، بل بوجودها ، ووضوح : قيام الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام بالمعنونات ، ووضوح : عدم تعدد المعنون بالعناوين لا وجودا ولا ماهية. يمتنع تعلق حكمين متضادين على موجود واحد وجودا وماهية ، فالحركة التي ينطبق عليها عنوانا الصلاة والغصب واحدة ، فيمتنع أن تكون محكومة بحكمين متضادين.

(١) أي : العنوانات «إنما تؤخذ في المتعلقات بما هي حاكيات كالعبارات» ، والألفاظ «لا بما هي على حيالها واستقلالها» ، كما يدعيه القائل بالجواز. وبهذا كله تبين أن القول بتعلق الأحكام بالطبائع لا يدفع غائلة اجتماع الضدّين.

(٢) في بطلان الوجه الأول «أنه لا يكاد يجدي أيضا» أي : كعدم إجداء الوجه المتقدم في إثبات جواز اجتماع الأمر والنهي. وهذا إشارة إلى دليل آخر من أدلة المجوزين ، وهو ما ذكره المحقق القمي «قده» ، وهذا الدليل مركب من أمور.

ثم إن المصنف قد أخذ الجزء الأول من هذا الدليل. وهو تعلق الأحكام بالطبائع. وجعله دليلا مستقلا بتقريب قد عرفته مع الجواب :

الأول : كون الأحكام متعلقة بالطبائع.

الثاني : كون الفرد مقدمة لوجود الكلي ، لا عينه.

الثالث : جواز اجتماع الأمر الغيري والنهي.

الرابع : عدم قدح المقدمة المحرمة في امتثال الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة.

وقد أشار المصنف إلى الأمر الأول والثاني بقوله : «كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه» ، وإلى الأمر الثالث والرابع بقوله : «إنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار.» إلخ.

إذا عرفت هذه الأمور تعرف تقريب هذا الدليل ، حيث إن المجمع. أعني : الصلاة في الدار المغصوبة. ليس بنفسه مأمورا به بالأمر النفسي ، بل متعلق الأمر النفسي هو طبيعة الصلاة ، لا هذا الفرد ، فهذا الفرد مقدمة محرمة للواجب النفسي أعني : الطبيعة ، ولا تقدح حرمة المقدمة مع عدم انحصارها بالحرام في صحة الواجب إذا لم يكن انحصارها به من ناحية العبد ، نظير قطع طريق الحج بالمركوب المغصوب ، حيث إن الحج صحيح حينئذ بلا إشكال.

٤٠٣

كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهى عنه ، وإنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار.

وذلك (١) ـ مضافا إلى وضوح فساده ، وأن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج ، كيف؟ والمقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود ، ولا تعدد كما هو واضح ـ أنه إنما

______________________________________________________

نعم ؛ مع انحصار المقدمة بالحرام يقبح من الشارع الأمر بذيها ؛ بل لا بد حينئذ إما من سقوط الأمر إن كانت مفسدة النهي أقوى ، وإما من سقوط النهي إن كانت مصلحة الأمر أقوى ؛ إلّا إذا كان الانحصار بسوء الاختيار ، فإن ذا المقدمة حينئذ فاسد مع عدم سقوط الأمر به ، كما في «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ٩٩».

(١) أي : وجه ظهور فساد هذا الدليل.

وأجاب المصنف عن هذا الدليل بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «مضافا.» إلخ.

والثاني : ما أشار إليه بقوله : «أنه إنما يجدي.» إلخ.

وحاصل الوجه الأول : هو منع مقدمية الفرد لوجود الكلي. وهو الأمر الثاني. وإن الفرد عين الكلي لا إنه أمر مغاير له ، فليس بينهما تغاير وتعدد ، ولهذا يحمل الكلي على الفرد فيقال : «زيد إنسان» ، ولو كان مقدمة لم يصح الحمل ، ولهذا لا يقال : الوضوء صلاة ، ولهذا قال المصنف : «كيف والمقدمية تقتضي الاثنينية» يعني : كيف يكون الفرد مقدمة والحال أن المقدميّة تقتضي الاثنينية بحسب الوجود وبحسب الماهيّة.

وكيف كان ؛ فالمقدمية تقتضي تعدد المقدمة وذيها وجودا ، ضرورة : تعدد العلة والمعلول وجودا ، ومن المعلوم : انتفاء هذا التعدد بين الكلي وفرده ، فحديث المقدمية أجنبيّ عن الفرد.

وحاصل الوجه الثاني. وهو ما أشار إليه بقوله : «إنما يجدي.» إلخ. أنه لو سلم مقدمية الفرد لوجود الكلي ، فهي إنما تجدي في جواز اجتماع الأمر والنهي إذا كان الفرد مقدمة للطبيعتين المأمور بها والمنهي عنها حتى يتعلق به الأمر والنهي معا بلحاظ فرديته لهما ؛ لكن الأمر ليس كذلك ، لأن المجمع في مسألة اجتماع الأمر والنهي ليس فردا لماهيتين حتى يتعدّد ماهية ، ويصح تعلق الأمر والنهي به ، بل هو فرد لماهية واحدة ، كما تقدم في المقدمة الرابعة ، فيمتنع تعلقهما به ؛ لاستلزامه اجتماع الضدين ، وهما الأمر والنهي.

وكيف كان ؛ فبعد وضوح كون المجمع واحدا يمتنع اجتماع الأمر والنهي فيه وإن سلمنا مقدمية الفرد للكلي ؛ لاستلزامه اجتماع الضدين لكون الفرد وهو المجمع واحدا

٤٠٤

يجدي لو لم يكن المجمع واحدا ماهية وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضا واحد.

______________________________________________________

وجودا وماهية كما عرفت في المقدمة الرابعة ، «قد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها» أي : الفرد بحسب الماهية أيضا واحد كوحدته وجودا.

قوله «وقد عرفت.» إلخ إشارة إلى ما تقدم في المقدمة الرابعة من كون المجمع واحدا وجودا وماهية.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ القول بالامتناع يتوقف على تمهيد مقدمات.

١ ـ خلاصة تلك المقدمات :

المقدمة الأولى : هي تضاد الأحكام في مرتبة الفعلية دون مرتبة الاقتضاء والإنشاء ؛ إذ لا مانع من كون شيء ذا مصلحة من جهة وذا مفسدة من جهة أخرى في مرتبة الاقتضاء ، كما لا مانع من إنشاء حكم بمجرد وجود مقتضيه ولو مع اقترانه بالمانع في مرتبة الإنشاء ، فإن الإنشاءات المجردة عن الإرادة والكراهة لا تناف بينها ، فتجتمع كاجتماع مقتضياتها. ولكن اجتماع الأمر والنهي الفعليين بنفسه محال لكونه من اجتماع الضدين الذي هو محال ، فيلزم التكليف المحال ؛ لا التكليف بالمحال الذي هو جائز عند بعض كالأشاعرة.

المقدمة الثانية : هي في بيان تعيين ما هو متعلق الحكم وهو ليس إلّا نفس المعنون الذي هو فعل المكلف ، بمعنى : أن المكلف يكلف بإصدار وإيجاد ذلك الفعل ، لأن الحكم تابع للملاك ، والملاك إنما هو في فعل المكلف الذي هو المعنون لا في عنوانه واسمه ، فإن العناوين والأسماء لا تكون وافية بالمصلحة والغرض ، فلا وجه لتعلق الحكم بها ؛ بل يتعلق بما فيه الملاك والمصلحة وهو المعنون.

المقدمة الثالثة : أن تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون.

وملخّص ما أفاده المصنف في تقريب المقدمة الثالثة هو : أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ولا تنثلم به وحدته ، ويشهد لذلك صدق العناوين المتعددة على الواجب تعالى مع بساطته ووحدته ، حيث يصدق عليه تعالى عنوان العالم والمريد والقادر والمغني وغيرها من الصفات الكمالية والجلالية ، فعدم تعدد ذات واجب الوجود مع تعدد العناوين المنطبقة عليه شاهد صدق على أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ، فمجرد

٤٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وجودا ولا تنثلم به وحدته أصلا.

٢ ـ المقصود من المقدمة الرابعة هو دفع توهمين :

أحدهما : توهم ابتناء القول بالامتناع على أصالة الوجود ، والقول بالجواز على أصالة الماهية.

ثانيهما : ابتناء القول بالجواز على تعدد وجود الجنس والفصل ، والقول بالامتناع على عدم تعدده.

أما بطلان التوهم الأول : فلأن هذا التوهم مبني على تعدد الماهية لموجود واحد ، وهو غير معقول ؛ إذ لا يعقل أن يكون للموجود بوجود واحد إلّا ماهية واحدة ، فحينئذ : لا يتفاوت بين القول بأصالة الوجود أو الماهية ؛ إذ المجمع واحد على كلا القولين ، سواء كان الأصل في التحقق هو الوجود أو الماهية.

ومن هنا ظهر فساد التوهم الثاني ؛ إذ كما لا يعقل تعدد الماهية لموجود واحد كذلك لا يعقل تعدد الجنسين القريبين والفصلين كذلك.

أما صدق العناوين أو العنوانين على المجمع : فليس من قبيل صدق الأجناس والفصول ؛ حتى يكون أحدها متعلقا للأمر والآخر متعلقا للنهي.

والمتحصل : هو استحالة تعلق الأمر والنهي بالمعنون ؛ لاستلزامه اجتماع الضدين المستحيل عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمات فيقال في تقرير الامتناع : أن نتيجة المقدمات المذكورة هي : أن المجمع. كالصلاة في الدار المغصوبة. يكون واحدا وجودا وماهية ، فيكون تعلق الأمر والنهي به محالا ؛ لاستلزامه اجتماع الضدين.

٣ ـ وتوهم ارتفاع محذور اجتماع الضدين. على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد مدفوع بما عرفت في المقدمة الثالثة ؛ من إن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا ولا ماهية ، فيمتنع تعلق حكمين متضادين على معنون واحد لكونه واحدا وجودا وماهية.

وكذلك لا يجدي في ارتفاع غائلة اجتماع الضدين : كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه ؛ وذلك لمنع مقدمية الفرد للكلي أولا ؛ لأن المقدمية تقتضي الاثنينية والتعدد ، ولا تعدد بين الفرد والكلي ؛ لأن الفرد هو عين الكلي ، ولا تجدي مقدمية الفرد في جواز الأمر والنهي. ثانيا : لو سلمنا المقدمية وذلك إن مقدمية

٤٠٦

ثم إنه قد استدل (١) على الجواز بأمور :

منها : أنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي ، لما وقع نظيره ، وقد وقع كما في

______________________________________________________

الفرد إنما تجدي في جواز الاجتماع إذا كان الفرد مقدمة للطبيعتين المأمور بها والمنهي عنها حتى يتعلق به الأمر والنهي معا بلحاظ فرديته لهما ، وليس الأمر كذلك ، لأن المجمع في مسألة الاجتماع ليس فردا لماهيتين حتى يتعدد ماهية ويصح تعلق الأمر والنهي به ؛ بل هو فرد لماهية واحدة كما عرفت في المقدمة الرابعة ، فيمتنع تعلقهما به لاستلزامه اجتماع الضدين لكون الفرد. وهو المجمع. واحدا وجودا وماهية.

٤. رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو : امتناع اجتماع الأمر والنهي تبعا للمشهور.

في أدلة جواز الاجتماع

(١) يعني : قد استدل القائلون بالجواز. مضافا إلى الدليلين السابقين. بأمور : منها : ما أشار إليه بقوله : «أنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي لما وقع نظيره». وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الدليل المزبور يرجح إلى القياس الاستثنائي ، والاستدلال به إنما يتم بعد ثبوت أمرين : أحدهما : الملازمة بين المقدم والتالي والآخر : بطلان التالي لينتج بطلان المقدم.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في تقريب الاستدلال : إن الملازمة ثابتة إذ لو لم يكن الاجتماع جائزا لم يقع في الشريعة المقدسة ؛ لامتناع وقوع ما هو ممتنع ومستحيل كاجتماع الضدين أو النقيضين. وقد وقع الاجتماع في الشريعة.

ومن البديهي : أن وقوع شيء أقوى دليل على إمكانه ، فقيام الدليل على اجتماع حكمين. مع التضاد بين الأحكام الخمسة على ما عرفت في المقدمة الأولى. كاشف عن كون تعدد الجهة مجديا في الاجتماع ؛ وإلّا لما جاز الاجتماع للتضاد المزبور.

فرافع التضاد هو تعدد الجهة مطلقا ، سواء كان الحكمان المجتمعان هما الوجوب والحرمة أم الاستحباب والكراهة ، فحاصل الدليل : أن العبادات المكروهة مجمع على صحتها ، وقد جمع فيها الاستحباب والكراهة ، فلو لم يجدي تعدد الجهة لم يجتمعا ؛ لما عرفت من : تضاد الأحكام. هذا تمام الكلام في ثبوت الملازمة بين المقدم والتالي.

وأما بطلان التالي. وهو عدم وقوع الاجتماع. فأوضح من الشمس ، فينتج بطلان المقدم أعني : عدم جواز الاجتماع ، فالنتيجة هي : جواز الاجتماع ؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين.

٤٠٧

العبادات المكروهة ؛ كالصلاة في مواضع (١) التهمة ، وفي الحمام ، والصيام في السفر ، وفي بعض الأيام (٢).

بيان الملازمة (٣) : أنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددها ؛ لعدم اختصاصهما من بين الأحكام بما يوجب الامتناع من التضاد ؛ بداهة : تضادها بأسرها ، والتالي باطل ، لوقوع اجتماع

______________________________________________________

(١) والمراد بمواضع التهمة هي : الأمكنة التي يتهم المصلي فيها على استخفافه بالصلاة. كالمعاطن والمزابل ، وقد ورد النهي عن الصلاة فيها في جملة من الأخبار.

(٢) كصوم يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء. وفي الصلاة في الحمام يجتمع الوجوب والكراهة إن كانت الصلاة فريضة ، والاستحباب والكراهة إن كانت نافلة. وكذا في الصوم : فإن كان مستحبا يجتمع فيه الندب والكراهة ، وإن كان واجبا كالصوم بدل الهدي في الحج يجتمع فيه الوجوب والكراهة.

والمراد من الصيام في بعض الأيام هو : الصوم يوم عاشوراء.

(٣) بيان الملازمة بين المقدم أعني : «لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي» والتالي أعني : «لما وقع نظيره» : إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماع الأمر والنهي لما جاز اجتماع الحكمين أي : اجتماع حكمين آخرين غير الوجوب والحرمة في مورد تعدد الجهة ؛ لعدم اختصاص الوجوب والحرمة بعلة امتناع اجتماعهما وهو تضادهما ؛ لأن التضاد ثابت بين جميع الأحكام. والتالي باطل لوقوع اجتماع الكراهة مع الوجوب في مثل الصلاة في الحمام إذا كانت فريضة ، ولوقوع اجتماع الكراهة مع الاستحباب في مثل صلاة النافلة في الحمام ، والصوم في السفر ، والصوم في عاشوراء. ويحتمل أن يكون الصوم في السفر مثالا لاجتماع الكراهة مع الوجوب إذا كان الصوم واجبا فيه ؛ كالصوم المنذور المعين في السفر ، أو كصوم بدل الهدي إذا عجز المكلف عنه ، فلا بد من أن يصوم عشرة أيام ثلاثة منها في مكة المكرمة وسبعة منها إذا رجع.

وصوم عاشوراء مكروه مطلقا ، سواء كان في السفر أم في الحضر ، لأن بني أمية التزموا صوم هذا اليوم شكرا للانتصار ، فتركه فيه مخالفة لهم وهي مطلوبة للشارع المقدس.

وكيف كان ؛ فالملازمة في المقام بديهية ؛ لوجود التضاد بين جميع الأحكام.

أما بطلان التالي : فمستفاد من ظواهر الأدلة الشرعية ؛ لأنه ظاهرها اجتماع الكراهة والوجوب ، والكراهة والاستحباب كما في الأمثلة المذكورة. وقد أجاب المصنف عن هذا الدليل بجوابين إجمالي وتفصيلي.

٤٠٨

الكراهة والإيجاب أو الاستحباب في مثل الصلاة في الحمام ، والصيام في السفر ، وفي عاشوراء ولو في الحضر ، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب ، في مثل الصلاة في المسجد أو الدار (١).

والجواب عنه : أما إجمالا : فبأنه لا بد من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع ، بعد قيام الدليل على الامتناع ، ضرورة : أن الظهور لا يصادم البرهان ، مع إن قضية ظهور تلك الموارد : اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد ، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك ، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين فهو (٢) أيضا ـ

______________________________________________________

أما الجواب عنه إجمالا فمرجعه إلى أمرين :

أحدهما : أن أدلة العبادات المكروهة في الأمثلة المذكورة ظاهرة في جواز اجتماع الحكمين ، فيقال في الجواب : أنه بعد قيام البرهان العقلي والدليل القطعي على استحالة الاجتماع في شيء واحد ذي عنوانين لا بد من التصرف والتأويل فيما ظاهره الاجتماع ، ضرورة : أن ظهور الأدلة في الاجتماع لا يقاوم البرهان العقلي على الامتناع ؛ لأنهما من قبيل النص والظاهر في لزوم رفع اليد عن الظهور بالنص وارتكاب التأويل في الظهور ، ومعه لا يبقى ظهور في اجتماع الحكمين في الموارد المذكورة.

وكيف كان ؛ فقد ظهر وجه الإجمال ، وأن المصنف لم يبين كيفية التصرف والتأويل.

ومجمل الكلام في المقام : أنه بعد التأويل يسقط ظهور الأدلة في الاجتماع عن الحجية والدليلية هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

ثانيهما : أن المجوز قد ادعى الجواز فيما إذا كان الاجتماع بعنوانين بينهما عموم من وجه كما في (صل ولا تغصب) لا بعنوان واحد ، كما في العبادات المكروهة كقوله : (صلّ ولا تصل في الحمام) وعليه : فالمجوز أيضا ممن يجب عليه التخلص عن هذه العويصة. هذا ما أشار إليه بقوله : «ولا يقول الخصم بجوازه كذلك» أي : لا يقول : بجواز الاجتماع بعنوان واحد.

(١) فإن أتينا بالفريضة في الدار فقد اجتمع فيها الوجوب مع الإباحة ، وإن أتينا بالفريضة في المسجد فقد اجتمع فيها الوجوب مع الاستحباب أو الاستحباب مع الاستحباب كما لو أتينا بالنافلة في المسجد.

(٢) فالخصم القائل بجواز الاجتماع مع تعدد العنوان والجهة كالقائل بالامتناع مطلقا لا بد له من التفصي عن إشكال اجتماع الحكمين بعنوان واحد في الموارد المذكورة.

٤٠٩

لا بد له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها ، لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة ، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا ، كما لا يخفى.

وأما تفصيلا : فقد أجيب عنه بوجوه (١) يوجب ذكرها بما فيها من النقض والإبرام

______________________________________________________

فحاصل الكلام في المقام : أنه لا بد على كلا القولين من التفصّي عن محذور الاجتماع خصوصا على القول بالجواز إذا لم يكن للمأمور به مندوحة ، فإنه إذا كان له مندوحة أي : بدل كالصلاة في الحمام. حيث إن العبد يقدر على إيجادها في المسجد أو الدار. أمكن القول بعدم توجه الأمر بالصلاة في هذا المورد المكروه أعني : الحمام بخصوصه ، فلا يلزم الاجتماع. بخلاف ما إذا لم يكن له مندوحة كصوم عاشوراء ، فإن الأمر الاستحبابي متوجه إليه يقينا ؛ لأن صوم كل يوم مستحب في نفسه لا لبدليته عن غيره ، فيلزم الاجتماع قطعا ، فلا بد للقائل بالجواز خصوصا هنا من التفصي عن محذور الاجتماع كالقائل بالامتناع.

وكيف كان ؛ فلا يبقى للخصم مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع في الموارد المذكورة على جواز الاجتماع أصلا ؛ بل المصنف «قده» ألزم المستدل بها بالتأويل لأجل العنوان الواحد فيها ، فالمانع والمجوز يكونان ملزمين بالتصرف والتأويل في هذه الموارد كما هو واضح.

(١) أي : الجواب تفصيلا. قد أجيب عن الإشكال بوجوه عديدة مذكورة في التقريرات ، وقد أطال الكلام صاحب التقريرات في الجواب عنه ؛ إلّا إن ذكر تلك الوجوه بما فيها من النقض والإبرام يوجب طول الكلام الذي لا يليق بالمقام. فالأولى حينئذ الاقتصار على الجواب التحقيقي ؛ بحيث تنقطع مادة إشكال الاجتماع ، فيقال وعلى الله تعالى الاتكال والاعتماد والتوكل :

إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام :

في أقسام العبادات المكروهة وأحكامها

وقبل بيان أحكام أقسام العبادات المكروهة ينبغي بيان ما هو الفرق بين تلك الأقسام.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنه إذا أمر بطبيعة وجوبا أو ندبا فتارة : تكون لها أفراد عرضية أو طولية يتخير المكلف بينها عقلا كما في الأول ، وشرعا كما في الثاني.

وأخرى : لا تكون لها أفراد يتخير بينها عقلا أو شرعا ؛ بل كل فرد منها كان واجبا أو

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

مستحبا على التعيين ، فالمأمور به في الأول يكون مما له البدل كالفرائض اليومية ونوافلها ، حيث يتخير المكلف بين أن يأتي بها في هذا المكان أو في ذاك المكان أو في مكان ثالث ، هذا في الأفراد العرضية.

وأما في الأفراد الطولية فكذلك يتخير المكلف بين أن يأتي بها في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره ؛ فكل فرد من الأفراد العرضية أو الطولية يكون بدلا عن الآخر يجب أو يستحب تخييرا.

هذا بخلاف القسم الثاني حيث لا بدل للطبيعة التي تعلق بها الأمر وجوبا أو ندبا ، فالمأمور به مما لا بدل له ؛ إذ ليس حينئذ كل فرد بدلا عن الآخر كصوم شهر رمضان أو صوم سائر الأيام ، فإن صوم كل يوم واجب أو مستحب على التعيين ، وهكذا النوافل التي ليس لها وقت خاص ولا عنوان مخصوص ، فإنها مما تستحب في كل وقت يسع ركعتين على التعيين. هذا كله في العبادات الواجبة أو المستحبة بقسميها أي : مما لا بدل وما له البدل.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول. في الفرق بين أقسام العبادات المكروهة التي قسمها المصنف على ثلاثة أقسام : إن الفرق بينها يتضح بعد ذكر مثال لكل واحد منها.

فمثال ما لا بدل له : هو صوم عاشوراء ؛ بناء على كراهته. أو صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء ، أو النوافل المبتدأة عند طلوع الشمس أو غروبها.

ومثال ما له البدل : كالصلاة في الحمام ، أو في معاطن الإبل ، أو في مرابط الخيل ، أو في مرابض الغنم أو غيرها من الأماكن التي تكره فيها الصلاة. ثم ما هو الجامع بين هذين القسمين : أن النهي فيهما يكون متعلقا بنفس العبادة وبذاتها كما صرح به المصنف بقوله : «ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته» ، فنفس الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها أو في الحمام تكون مكروهة.

في قبال القسم الثالث وهو : ما إذا تعلق النهي بالعبادة ، ولكن لا بذاتها وعنوانها ، بل علم من الخارج أن النهي به لأجل عنوان يتحد معها وجودا أو يلازمها خارجا ، فالمنهى عنه حقيقة هو ذلك العنوان المتحد مع العبادة وجودا أو الملازم لها خارجا ؛ لا نفس العبادة وذاتها كالصلاة في مواضع التهمة فهي تكون منهيا عنها لأجل اتحاد الصلاة مع الكون في مواضع التهمة المنهي عنه ، فالنهي لم يتعلق بذات العبادة ولا بعنوانها الذي هو عنوان الصلاة كما في القسمين السابقين ؛ بل تعلق بالكون الذي يتحد مع الصلاة

٤١١

طول الكلام بما لا يسعه المقام ، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الإشكال ، فيقال وعلى الله الاتكال : إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ، ولا بدل له ، كصوم يوم عاشوراء ، والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات.

وثانيها : ما تعلق به النهي كذلك ، ويكون له البدل ، كالنهي عن الصلاة في الحمام.

ثالثها : ما تعلق النهي به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم له خارجا ، كالصلاة في مواضع التهمة ، بناء على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

أما القسم الأول (١) : فالنهي تنزيها عنه بعد الإجماع على أنه يقع صحيحا ومع

______________________________________________________

وجودا إذا كانت الصلاة عبارة عن الأكوان وهي كون المصلي حال القيام ، وكونه حال الركوع والسجود.

وأما إذا كانت الصلاة عبارة عن الأفعال والأقوال. أي : القيام والقعود والانحناء والاستقبال والتكبيرة والقراءة والذكر والتشهد والتسليم. وكانت الأكوان خارجة عن حقيقة الصلاة ، فكان النهي متعلقا بالكون الذي هو ملازم للصلاة خارجا أي : لا تتحقق الصلاة في الخارج إلّا بسبب الكون ، يعني : كون المصلي في مكان من الأمكنة ، فالكون ملازم للصلاة خارجا. هذا تمام الكلام في الفرق بين الأقسام.

(١) هذا شروع في بيان الجواب عن الإشكال ببيان أحكام تلك الأقسام.

وحاصل الكلام في المقام : أن النهي عن القسم الأول يكون تنزيهيا بعد الإجماع على أن القسم الأول يقع صحيحا ، ولازم قيام الإجماع على صحة العبادة قرينة على أن يكون الترك أرجح ، وحينئذ يكون النهي تنزيهيا لا تحريميا ، ضرورة : عدم اجتماع صحة العبادة مع النهي التحريمي عنها.

وكيف كان ؛ فالإجماع على صحة العبادة قرينة جلية على كون النهي تنزيهيا.

وتوضيح الجواب عن القسم الأول يتوقف على مقدمة وهي : أن الكراهة في الموارد المذكورة ليست كراهة مصطلحة. وهي التي تنشأ عن مفسدة في الفعل. إذ لو كانت الكراهة في المقام كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل غالبة على مصلحته لم يقع الفعل في الخارج صحيحا ، ضرورة : عدم إمكان التقرب إلى المولى بما هو مبغوض له ومشتمل على مفسدة غالبة ، مع إنه لا شبهة في وقوع الفعل صحيحا وإمكان التقرب به

٤١٢

ذلك يكون تركه أرجح ، كما يظهر من مداومة الأئمة «عليهم‌السلام» على الترك.

إما (١) لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك ، فيكون الترك كالفعل ذا

______________________________________________________

إلى المولى ، فتكون الكراهة حينئذ بمعنى مرجوحية الفعل عن الترك من دون أن تكون فيه مفسدة ومنقصة ؛ بل فيه مصلحة كما في الترك ، غاية الأمر : أن مصلحة الترك أكثر من مصلحة الفعل وأرجح منها.

وهذا الرجحان إنما هو من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه ؛ كانطباق عنوان مخالفة بني أمية على ترك صوم عاشوراء ؛ لأنهم يلتزمون به فرحا لانتصارهم على الإمام الحسين «عليه‌السلام».

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه يكون كل من الفعل والترك ذا مصلحة ، ولذا لو أتى بالفعل يقع صحيحا ، على هذا : فالحكم الفعلي في القسم الأول من العبادات المكروهة وهو الكراهة بمعنى المرجوحية ؛ لا الكراهة المصطلحة ، فحينئذ : لم يجتمع فيها أمر ونهي حتى يقال بجواز الاجتماع. وتكون العبادات المكروهة برهانا عليه.

نعم ؛ كان الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين لوجود المصلحة فيهما ، فيجري عليهما حكم التزاحم من التخيير مع تساويهما والتعيين مع أهمية أحدهما ، حيث إن المكلف لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال.

وفي المقام : بما أن الترك أهم من الفعل فيقدم عليه ، وأن الفعل أيضا يقع صحيحا ؛ لعدم قصور فيه أصلا من ناحية الفعل لمحبوبيته ووفائه بغرض المولى ، كما هو الحال في جميع موارد التزاحم بين المستحبات ؛ بل الواجبات فإنه يصح الإتيان بالمهم عند ترك الأهم من جهة اشتماله على الملاك ومحبوبيته في نفسه. هذا غاية ما يمكن أن يقال في الجواب عن القسم الأول مع رعاية الاختصار.

(١) هذا خبر لقوله : «فالنهي تنزيها.» إلخ ، وشروع في الجواب عن القسم الأول من العبادات المكروهة. وقد أجاب عنه بوجهين هذا أولهما. وثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك.» إلخ ، وهذا ما يأتي في كلام المصنف «قده».

وحاصل الوجه الأول. على ما في «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ١١٢». أنه يمكن أن يكون النهي فيها الموجب لمرجوحية فعلها لأجل انطباق عنوان راجح على الترك أوجب أرجحية الترك من الفعل الذي يكون ذا مصلحة أيضا ، فيكون كل من الفعل والترك ذات مصلحة ، ولذا لو أتى بالفعل وقع صحيحا ، غايته أن مصلحة الترك أكثر من مصلحة الفعل ، ولوجود المصلحة فيهما يكون الترك في الحقيقة مأمورا به كالفعل ، فيصير

٤١٣

مصلحة موافقة للغرض ، وإن كان مصلحة الترك أكثر فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين ، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن (١) أهم في البين ، وإلّا فيتعين الأهم وإن كان الآخر يقع صحيحا ، حيث إنه (٢) كان راجحا وموافقا للغرض ، كما (٣)

______________________________________________________

الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين ويجرى عليهما حكم التزاحم من التخيير مع تساويهما في الملاك ، والتعيين مع أهمية أحدهما ، ففي مثل صوم يوم عاشوراء يكون أرجحية تركه من فعله لأجل انطباق عنوان راجح عليه ؛ كمخالفة بني أمية ، حيث إن مخالفتهم أهم في نظر الشارع من مصلحة الصوم ، ولذا صار الترك أرجح من الفعل ، كما هو الشأن في سائر موارد التزاحم ، فإن الأهم يقدّم على المهم مع بقاء مصلحة المهم بحالها ، ولذا لو صام صح بناء على كفاية الملاك في صحة العبادة ، وعلى هذا : فالحكم الفعلي في القسم الأول من العبادات المكروهة هو الكراهة ، فلم يجتمع فيها أمر ونهي حتى يقال بجواز الاجتماع ، وتكون العبادات المكروهة برهانا عليه.

وحاصل الوجه الثاني : أن أرجحية الترك يمكن أن تكون لأجل ملازمة الترك لعنوان ملازم معه لا منطبق عليه ؛ كملازمة ترك صوم يوم عاشوراء لحال البكاء والجزع على الحسين المظلوم «عليه‌السلام» ، وكملازمة ترك صوم يوم عرفة للنشاط في الدعاء ، والمفروض : أن مصلحة البكاء في يوم عاشوراء أو الدعاء في يوم عرفة أرجح من مصلحة صومهما. فالنهي عن صومهما يكون لملازمة تركه لهذين العنوانين أو غيرهما.

والفرق بين الوجهين : أن الترك على الوجه الأول يكون متعلق البعث حقيقة ؛ لانطباق العنوان الراجح عليه واتحاده معه. بخلاف هذا الوجه الثاني حيث إن الترك بناء عليه لا يكون متعلق الطلب حقيقة ؛ لعدم انطباق العنوان الملازم الذي تكون المصلحة قائمة به عليه ، فإسناد الطلب إلى الترك حينئذ يكون بالعرض والمجاز ، نظير إسناد الإنبات إلى الربيع ، والجريان إلى النهر والميزاب ، والحركة إلى جالس السفينة كما لا يخفى.

وكيف كان ؛ فيكون الترك على هذا الوجه الثاني كالترك على الوجه الأول وهو انطباق العنوان عليه ؛ فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي على كلا الوجهين ، فلا تكون العبادات المكروهة من أدلة الجواز.

(١) هذا بيان لحكم التزاحم ، وحيث إن المفروض هو أهمية الترك فيتعين.

(٢) أي : الآخر المراد به الفعل. وهذا تعليل لوقوع المزاحم المهم. وهو الفعل. صحيحا ، وحاصل وجه صحته : موافقته للغرض ، وهو المصلحة.

(٣) أي : كما وقوع الآخر صحيحا جار في سائر المستحبات المتزاحمات ، فإذا أتى بالمستحب المهم وترك المستحب الأهم وقع صحيحا ؛ لاشتماله على المصلحة.

٤١٤

هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات ، بل الواجبات (١).

وأرجحيّة (٢) الترك من الفعل لا توجب (٣) حزازة ومنقصة فيه أصلا ، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته ، ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع فإن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به.

______________________________________________________

(١) يعني : إذا أتى بالواجب المهم وترك الأهم كان صحيحا ؛ لأجل ما فيه من المصلحة.

(٢) إشارة إلى توهم وهو أن يقال : إن أرجحية الترك من الفعل يوجب حزازة في الفعل ، ومعها لا أمر بالفعل فلا يقع صحيحا.

وحاصل الدفع : أن أرجحية الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة في الفعل أصلا ؛ كما يوجب الحزازة ما إذا كان في الفعل مفسدة غالبة على مصلحته ؛ كالصلاة المزاحمة لفعل الإزالة ، فإن الصلاة ذات مصلحة قليلة ومفسدة كثيرة ، فتكون الصلاة حينئذ ذات حزازة «ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع».

وبتقريب آخر : قوله : «وأرجحية الترك ...» إلخ إشارة إلى توهم الفرق بين المقام الذي يكون الفعل فيه مرجوحا ، والترك راجحا ، وبين المستحبات المتزاحمة فيكون قياس المقام بالمستحبات المتزاحمة قياسا مع الفارق ، والقياس إذا كان كذلك كان باطلا.

وحاصل الفرق : أن المستحبات المتزاحمة يكون فعل كل واحد منها أرجح من تركه ، فيصح التقرب بفعله بلا إشكال ، بخلاف ما نحن فيه ؛ إذ في صورة تساوي مصلحتي الفعل والترك يشكل التقرب بأحدهما فضلا عما إذا كانت إحدى المصلحتين أقوى من الأخرى ، كما هو المفروض ، حيث إن مصلحة الترك أقوى من مصلحة الفعل ، ومع الأقوائية الموجبة لمرجوحية الفعل كيف يمكن التقرب به ، بل المقرب هو الترك فقط. هذا تمام الكلام في تقريب التوهم المزبور.

(٣) خبر لقوله : «وأرجحية الترك ...» إلخ ، ودفع للتوهم المزبور وحاصله : إن المانع عن التقرب ليس مطلق مرجوحية الفعل من الترك ؛ بل المانع هو مرجوحيته لمفسدة ومنقصة في الفعل نفسه دون مرجوحيته ، لأجل اهتمام الشارع بمصلحة الترك زائدا على مصلحة الفعل الموافقة للغرض ، فإنه ليس مانعا عن التقرب به مع اشتماله على مصلحة في نفسه ، وهناك تطويل للكلام بالنقض والإبرام تركناه رعاية للاختصار المطلوب في المقام.

قوله : «ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع» أي : لكون المفسدة الغالبة على مصلحة الفعل مانعة عن التقرب به لا يقع الفعل صحيحا بناء على القول بالامتناع وتغليب جانب النهي على الأمر ، هذا «بخلاف المقام» وهو كون كل من الفعل والترك ذا

٤١٥

بخلاف المقام فإنه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض ، كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا.

وإما (١) لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك (٢) من دون انطباقه (٣) عليه ، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت إلا (٤) في إن الطلب المتعلق به حينئذ (٥) ليس بحقيقي ، بل بالعرض والمجاز ، فإنما يكون (٦) في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان.

بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به (٧) حقيقة كما في سائر المكروهات (٨) من غير

______________________________________________________

مصلحة ، «فإنه على ما هو عليه» أي : فإن الفعل على ما هو عليه من الرجحان لا يصير مرجوحا بسبب أرجحية الترك منه ؛ بل هو على ما هو عليه من الرجحان صالح لصحة التقرب به ، فيقع صحيحا لو أتى به المكلف كالفعل الذي لم يكن تركه راجحا.

(١) عطف على قوله : «إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة» وعدل له ، وهو الثاني من الوجهين اللّذين أجاب لهما المصنف عن إشكال القسم الأول من العبادات المكروهة. وقد ذكرنا تقريب الوجهين والفرق بينهما فلا حاجة إلى توضيح هذا الوجه الثاني هنا.

(٢) أي : ذي مصلحة من دون انطباق ذلك العنوان على الترك.

(٣) أي : من دون انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك ، يعني : ليس النهي لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك كما في القسم الأول ، فيكون الترك على هذا الوجه الثاني كالترك على الوجه الأول وهو انطباق العنوان عليه.

(٤) هذا إشارة إلى الفرق بين الوجهين ، وقد بينا الفرق سابقا ، فلا حاجة إلى التكرار.

(٥) أي : حين ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة ليس الطلب بالترك بحقيقي.

(٦) أي : يكون النهي والطلب في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان ، كما إذا فرضنا أن ترك صوم يوم عاشوراء ملازم لإتيان زيارة عاشوراء وفيه مصلحة راجحة على مصلحة الصوم ، فالطلب ذاتا وحقيقة متعلق بفعل الملازم لا بترك الصوم ، وإنما أسند إليه بالعرض والمجاز ؛ كإسناد الجريان إلى الميزاب.

(٧) لتعلق الطلب بالترك حقيقة ، وكونه حقيقيا إنما هو لانطباق العنوان عليه.

(٨) غرض المصنف هو : تنظير صورة انطباق العنوان على الترك. في كون الطلب المتعلق بالترك حقيقيا. بالمكروهات المصطلحة ، فكما أن النهي فيها يتعلق بها حقيقة فكذلك في صورة انطباق عنوان على الترك ، فلا فرق بينهما من حيث كون النهي في كليهما على نحو الحقيقة إلّا من حيث منشأ تعلق النهي والطلب ، فإنه في المكروهات المصطلحة هو المنقصة في نفس الفعل ، وهي أوجبت تشريع الحكم بالكراهة ، وفي الترك

٤١٦

فرق إلّا إن منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل ، وفيه (١) رجحان في الترك ، من دون حزازة في الفعل أصلا ، غاية الأمر : كون الترك أرجح.

نعم (٢) ، يمكن أن يحمل النهي ـ في كلا القسمين ـ على الإرشاد إلى الترك الذي

______________________________________________________

رجحانه الناشئ من انطباق عنوان راجح عليه من دون حزازة ومنقصة في نفس الفعل ؛ كما هو شأن المكروه المصطلح.

(١) أي : منشأ النهي والطلب في القسم الأول من العبادات المكروهة هو رجحان الترك ؛ لا لأجل منقصة في الفعل ، بل لأجل عنوان راجح منطبق على الترك. هذا ما أشار إليه بقوله : «غاية الأمر كون الترك أرجح».

(٢) هذا استدراك على قوله : «فإن النهي تنزيها عنه ...» إلخ ، حيث يكون ظاهره : كون النهي مولويا وهو على قسمين ؛ لأن المراد بالكراهة ليس كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل ؛ بل بمعنى : مرجوحية الفعل من الترك مع ما فيهما من المصلحة ، غاية الأمر : أن مصلحة الترك أرجح من مصلحة الفعل. ورجحان الترك إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك ، كانطباق مخالفة بني أمية على ترك صوم عاشوراء. وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة عليه ؛ كما إذا فرضنا أن ترك صوم عاشوراء ملازم لإتيان زيارة عاشوراء وفيه مصلحة راجحة على مصلحة الصوم.

والفرق بين القسمين والوجهين هو : أن إسناد النهي والطلب إلى الفعل على الوجه الأول حقيقة ، وعلى الوجه الثاني مجاز ، وعلى كلا الوجهين لا يلزم اجتماع حكمين متضادين أعني : الاستحباب والكراهة المصطلحة حتى يقال بجواز الاجتماع وتكون العبادات المكروهة برهانا عليه. هذا خلاصة الكلام في الجواب الأول والثاني عن القسم الأول.

ثم قوله : «نعم ؛ يمكن أن يحمل النهي. في كلا القسمين. على الإرشاد ...» إلخ. جواب ثالث عن القسم الأوّل ، وحاصل هذا الجواب الثالث إن هذا النهي ليس مولويا ، بل إرشاد إلى رجحان مصلحة الترك من مصلحة الفعل ؛ إما لانطباق عنوان ذي مصلحة على الترك ، كما هو الوجه الأول. وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة ، ويكون إسناد النهي إلى الفعل في كلا القسمين على نحو الحقيقة ؛ لأن النهي المولوي وإن كان تابعا للمفسدة في متعلقه إلّا إن النهي الإرشادي ليس تابعا للمفسدة في المتعلق ؛ بل إرشاد إلى وجود المصلحة في الترك ، من دون فرق بين أن يكون لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة عليه ، أو لأجل ملازمته لعنوان كذلك.

وكيف كان ؛ فالنهي الإرشادي لا ينافي الأمر المولوي ، فهما لا يندرجان في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

٤١٧

هو أرجح من الفعل ، أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا لذلك ، وعليه : يكون النهي على نحو الحقيقة ، لا بالعرض والمجاز ، فلا تغفل.

وأما القسم الثاني (١) : فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول ،

______________________________________________________

هذا تمام الكلام في الجواب عن القسم الأول.

والمتحصل : إن النهي في القسم الأول على أربعة أقسام ؛ لأنه إما مولوي وإما إرشادي ، وعلى كل تقدير : فإما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك ، وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة.

(١) وهو ما تعلق النهي بذات العبادة وعنوانها مع وجود البدل لها ؛ كالصلاة في الحمام مثلا ، وقد أجاب المصنف عن هذا القسم بما يرجع إلى وجهين ؛ أحدهما : نظير ما تقدم في القسم الأول من كون النهي تنزيهيا بمعنى بمرجوحية الفعل الذي تعلق به النهي على التفصيل الذي تقدم فراجع.

فيقال في الجواب في هذا القسم الثاني وهو ـ ما تعلق النهي بذات العبادة وكان لها بدل ـ إن النهي عن الصلاة في الحمام إما لأجل عنوان ينطبق عليها كالاستخفاف بها ، أو لأجل عنوان يلازمها ؛ كاغتشاش الحواس وعدم حضور القلب المنافي للإقبال. هذا بناء على كون النهي مولويا ، ويمكن أن يكون إرشادا إلى العنوان المنطبق على الترك أو الملازم له كما مر. هذا ما أشار إليه بقوله : «فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول طابق النعل بالنعل».

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة ...» إلخ.

وحاصله : أن النهي عن الصلاة في الحمام مثلا يمكن أن يكون إرشادا إلى منقصة حاصلة في الطبيعة المأمور بها لأجل تشخصها بمشخص غير ملائم لها ؛ إذ للطبيعة بنفسها مع الغض عن المشخصات الملاءمة وغيرها مقدار من المصلحة ، وبتشخيصها بمشخص غير ملائم تنقص المصلحة كالصلاة في المسجد ، وبمشخص لا يلائمها ولا يخالفها كالصلاة في الدار تبقى مصلحة الطبيعة بحالها ، ولا تزيد ولا تنقص ، فالمشخصات على أقسام والنهي المتعلق بالطبيعة المتشخصة بمشخص غير ملائم لها يكون إرشادا إلى المنقصة الحاصلة من تشخص الطبيعة به.

وعلى هذا : فلا يكون النهي مولويا حتى يقال باجتماع الكراهة والوجوب أو الاستحباب ، هذا خلاصة الكلام في الجواب عن القسم الثاني.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

٤١٨

طابق النعل بالنعل ، كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها ؛ لأجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها ، كما في الصلاة في الحمام ، فإن (١) تشخصها بتشخص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجا ، وإن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه ، ولا حزازة فيه أصلا ، بل كان راجحا كما لا يخفى.

وربما يحصل لها لأجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشريفة ، وذلك لأن الطبيعة المأمور بها في حد نفسها ـ إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاءمة ، ولا عدم الملاءمة ـ لها مقدار من المصلحة (٢) والمزية ، كالصلاة في الدار مثلا ، وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها (٣) بما له شدة الملاءمة ، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة ، ولذلك (٤) ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى ، ويكون النهي فيه (٥) لحدوث نقصان في مزيتها فيه

______________________________________________________

(١) تعليل لنقصان المصلحة بسبب تشخص وقوع الطبيعة بمشخص غير ملائم لها ، وحاصل التعليل : أن الطبيعة بتشخصها بمشخص غير الملائم تسقط عن قابليتها للمعراجية ، كوقوعها في الحمام وإن لم يكن نفس الكون فيه ذا حزازة ومنقصة ، بل ربما كان راجحا ، كالدخول فيه للغسل والتنظيف أو غير ذلك بخلاف الصلاة في مواضع التهمة ، فإن في نفس الكون فيها حزازة وكراهة كما أنه تحصل للصلاة لتخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة لها مزية كالصلاة في المسجد والمشاهد المشرفة ، فتكثر بها المصلحة.

(٢) أي الطبيعة المأمور بها «في حدّ نفسها لها مقدار من المصلحة والمزية كالصلاة في الدار مثلا».

(٣) أي : تشخص الطبيعة بمشخص له شدة الملاءمة كالصلاة في المسجد.

(٤) يعني : ولأجل زيادة المصلحة ونقصانها بالمشخص الملائم والمنافر ينقص ثوابها تارة ، ويزيد أخرى.

(٥) أي : يكون النهي فيما كانت العبادة متشخصة بخصوصية لم تكن ملائمة للعبادة. إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد وإلى ما يكون أكثر ثوابا منها وقد عرفت غير مرة : أنه لا تنافي بين النهي الإرشادي والأمر المولوي واجتماعهما لا يكون دليلا على جواز الاجتماع

وكيف كان ، فالنواهي المذكورة المتعلقة بالعبادات ليست على ظواهرها من المولوية حتى يكون اجتماعها مع الأوامر برهانا على جواز الاجتماع.

٤١٩

إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد ، ويكون أكثر ثوابا منه ، وليكن (١) هذا مراد من قال : إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا.

ولا يرد (٢) عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الأخرى بالكراهة ،

______________________________________________________

(١) أي وليكن هذا أي : تفسيرهم العبادة المكروهة بكونها أقل ثوابا أقليته بالنسبة إلى الفرد الآخر من نفس تلك الطبيعة لا الأقلية بالإضافة إلى عبادة أخرى.

مراد من قال : إن الكراهة في العبادة تكون بمعنى أنها تكون أقل ثوابا

والحاصل : أن من قال : إن العبادة المكروهة عبارة عن العبادة التي تكون أقل ثوابا مراده أنه لو كان هناك طبيعة لها مقدار من الثواب في نفسها ثم كان بعض أفراد تلك الطبيعة أقل ثوابا ، باعتبار تشخص تلك الأفراد بخصوصية غير ملاءمة ، وليس مرادهم أن كل عبادة أقل ثوابا من ثواب غيرها تكون مكروهة ، بل الأفراد الناقصة من الطبيعة مكروهة بمعنى أنها أقل ثوابا من سائر أفراد تلك الطبيعة.

وكيف كان ؛ فالملحوظ في أقلية الثواب ، وفي أكثريته هو نفس الطبيعة من حيث هي هي ، مع قطع النظر عن مشخصاتها الوجودية ، سواء كانت ملائمة لها أم كانت غير ملائمة ، فكل فرد من أفراد الطبيعة المأمور بها إذا كانت مصلحته زائدة على مصلحة أصل الطبيعة فهو مستحب ، وأفضل الأفراد كالصلاة في المسجد مثلا. وكل فرد من أفرادها إذا كانت مصلحته ناقصة عن مصلحة أصل الطبيعة المأمور بها فهو مكروه ؛ كالصلاة في الحمام. فالمراد من أصل الطبيعة : هو الصلاة التي لا تتشخص بمشخص ملائم ولا بعدم الملائم ، فهي مقياس ومعيار ، فيكون هذا مراد من قال : إن الكراهة في العبادة تكون بمعنى : أقلية ثوابها كي لا يلزم ما يرد عليه من الإشكالين كما لا يخفى.

(٢) يعني : لا يرد على هذا التفسير ما ذكره صاحب الفصول ؛ من أن الكراهة بمعنى : أقلية الثواب تستلزم أمرين لا يمكن الالتزام بهما ، وأولهما : ما أشار إليه بقوله : «بلزوم اتصاف العبادة ...» إلخ. وثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «ولزوم اتصاف ما لا مزية فيه ...» إلخ.

وحاصل الأمر الأول : هو لزوم اتصاف كل عبادة تكون أقل ثوابا من أخرى بالكراهة. مثلا إذا كان ثواب الصلاة أكثر من الصوم لزم أن يكون الصوم مكروها. وكذا الحال بالنسبة إلى أفراد طبيعة واحدة مع تشخصها بمشخصات مختلفة من حيث الملاءمة وعدمها ، فتكره الصلاة في الحمام بالإضافة إلى الصلاة في الدار. وهكذا ، وهذا من البطلان على حد البداهة والضرورة.

٤٢٠