دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر ؛ إلّا إنّه لا معصية عليه ، وأما عليه وترجيح جانب النهي : فيسقط به الأمر به مطلقا في غير العبادات لحصول الغرض الموجب له ، وأما فيها فلا مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيرا ، فإنه وإن كان متمكنا ـ مع عدم الالتفات ـ من قصد القربة ، وقد قصدها ، إلّا إنه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرب به أصلا فلا يقع مقرّبا ، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة ، كما لا يخفى.

وأما إذا لم يلتفت إليها قصورا ، وقد قصد القربة بإتيانه ، فالأمر يسقط ، لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرّب به ؛ لاشتماله على المصلحة ، مع صدوره حسنا لأجل الجهل بحرمته قصورا ، فيحصل به الغرض من الأمر ، فيسقط به قطعا ، وإن لم يكن امتثالا له بناء (١) على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد

______________________________________________________

لا يكون صدوره منه حسنا ؛ بل يكون قبيحا ومبغوضا ، فإذن : لا يمكن الحكم بصحّة العبادة الفاقدة للشرط الثالث.

فالمكلف وإن كان متمكّنا مع عدم الالتفات إلى الحرمة من قصد القربة لكونه جاهلا بالحرمة. وقد قصدها. إلّا إنه مع التقصير لا يصلح لأن يتقرّب بهذا العمل إلى المولى الحكيم ؛ لما عرفت من : أنّ الجاهل المقصّر كالعالم العامد فلا يكون معذورا ، كما في الروايات ، فيكون عمله العبادي بدون قصد القربة باطلا.

وأما إذا لم يلتفت إلى الحرمة قصورا وأتى بالعمل مع قصد القربة : فيسقط الأمر ويحصل الغرض ؛ لاشتمال العمل على المصلحة وإن لم يكن امتثالا للأمر أي : وإن لم يكن سقوط الأمر امتثالا له ؛ لأن امتثال الأمر عبارة عن فعل المأمور به بداعي أمره ، ولا أمر هنا بعد ترجيح جانب النهي حسب الفرض ، فقصد التقرّب أوجب كون الفعل طاعة ، والجهل عن قصور أوجب كونه غير معصية لكون الجهل عذرا ، فيكون حسنا لا غير وإطاعة لا امتثالا.

لا يقال : إنه لا معنى للتفكيك بين سقوط الأمر ، وبين حصول امتثال الأمر ؛ بل إذا سقط الأمر وحصل الغرض فقد حصل الامتثال ، فلا معنى لقوله : «وإن لم يكن امتثالا» ، فإنه يقال : إن عنوان الامتثال إنّما يصدق فيما إذا كان المأتي به مما تعلق به الأمر وكان باقيا ؛ لا فيما إذا كان الحكم بصحة العمل من جهة محبوبيّته وحسنه أو كونه ذا ملاك ، كما في المقام.

(١) قيد للنفي وهو عدم الامتثال ، يعني : أن عدم كون الفعل مأمورا به في حال

٣٨١

واقعا (١) ، لا لما هو المؤثر منها «منهما نسخة». فعلا للحسن أو القبح ؛ لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محلّه.

______________________________________________________

الجهل القصوري بالحرام. حتى يتحقق به الامتثال. مبني على تبعية الأحكام لأقوى المناطات الواقعية التي هي من الأمور الخارجية.

(١) قيد للمصالح والمفاسد. توضيح ما هو مراد المصنف من هذا الكلام في المقام يتوقف على مقدمة وهي : أن الأفعال المتعلقة للأحكام «تارة» : تتصف بكونها ذوات مصالح ومفاسد ، و «أخرى» : تتصف بكونها حسنة أو قبيحة والفرق بين الوصفين أن اتصاف الأفعال المتعلقة للأحكام بكونها ذوات المصالح والمفاسد إنّما هو بحسب الواقع ونفس الأمر ، سواء علم المكلف باشتمالها عليهما أم لا ؛ لما عرفت من : كون الملاكات أمورا خارجية قائمة بالأفعال تكوينا ، من دون دخل علم المكلف بتلك الملاكات في اتصاف الأفعال بها. هذا بخلاف اتصاف الأفعال بالحسن والقبح ؛ فإنه مشروط بعلم المكلف بكونها ذوات المصالح أو المفاسد ؛ إذ المدح والذم لا يترتبان إلّا على الفعل الصادر عن الفاعل المختار العالم بصلاحه وفساده ، فلو صدر عنه في حالة الاضطرار إليه أو الجهل بهما لا يتصف ذلك الفعل بحسن ولا قبح.

وحاصل الفرق : أن اتصاف الفعل. كالصلاة مثلا. بكونها ذات المصلحة أو اتصافه. كقتل المؤمن مثلا. بكونه ذا مفسدة غير مشروط بعلم المكلف بهما. وأما اتصافه بالحسن أو القبح : فمشروط بعلم المكلف بصلاح الفعل وفساده.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد اختلفوا على قولين :

الأول : أنها تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية من غير تقييد بالعلم والجهل بمعنى : أن الفعل إذا كان ذا مصلحة كان واجبا ؛ وإن كان المكلف جاهلا بها. وإذا كان ذا مفسدة كان حراما ؛ وإن جهل المكلف مفسدته ، فحينئذ إذا تعارضت المفسدة والمصلحة كان الحكم تابعا للأقوى منهما في الواقع وإن جهله المكلف. هذا ما أشار إليه بقوله : «بناء على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعا».

الثاني : أنّها ليست تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ؛ بل إنما هي تابعة للحسن والقبح الفعليين التابعين لما علم من المصالح والمفاسد ، فالمجهول منهما لا يكون مؤثرا في الحكم ، وحينئذ لو اجتمعت المصلحة والمفسدة وكانت المفسدة أقوى من المصلحة ولكن المكلف لا يعلم ذلك فأتى بالمجمع باعتبار ما علمه من المصلحة فيه كان واجبا ؛ لاشتماله على الحسن الناشئ من علم المكلف.

٣٨٢

مع أنّه (١) يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك ، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه

______________________________________________________

وإذا انعكس الأمر ؛ بأن كانت المصلحة أقوى ولكن المكلف لا يعلم ذلك ولم يفعله باعتبار ما علمه من المفسدة فيه : كان الفعل حراما لاشتماله على القبح الناشئ من علم المكلف ، هذا ما أشار إليه بقوله : «لا لما هو المؤثر منهما للحسن أو القبح لكونهما تابعين لما علم منهما» أي : المصالح والمفاسد ، فقوله : «لا لما هو المؤثر ...» الخ. مقابل لقوله : «لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعا».

وكيف كان ؛ فعلى القول الأول : تكون الصلاة في الدار المغصوبة حراما ؛ لتبعيّة الحرمة لملاكها النفس الأمري وهو المفسدة الغالبة على المصلحة ؛ كما هو المفروض على القول بالامتناع وترجيح جانب النهي ، حيث إن الحكم تابع لأقوى المناطين وعلى القول الثاني : وهو تبعية الأحكام الشرعية للملاكات المؤثرة فعلا في الحسن والقبح العقليين. تكون الصلاة في الدار المغصوبة واجبة ومأمورا بها شرعا ؛ إذ المفروض : أن ملاك الحرمة ليس هو نفس المفسدة بما هي هي ، بل بما هي معلومة ، وفي صورة الجهل بالموضوع أو الحكم قصورا لا تؤثر المفسدة الواقعية في القبح حتى يترتب عليها الحرمة. ولا فرق في عدم الحرمة بين كونه لعدم المقتضي ، وبين كونه لوجود المانع ، كما في مورد البحث ، فإنّ المفسدة الواقعية وإن كانت مقتضية للحكم الشرعي إلّا إن الجهل مانع عن تأثيرها فيه ؛ كمنعه عن تأثير تلك المفسدة في الحكم العقلي بالقبح.

في تصحيح المجمع بالأمر بالطبيعة

(١) الغرض من هذا الكلام هو : تصوير امتثال الأمر حتى على مبنى تبعية الأحكام للملاكات الواقعية ، أي : يمكن «أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك» أي : مع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ؛ كما هو مقتضى القول الأول بتقريب : إن العقل لا يرى تفاوتا في الوفاء بالغرض القائم بالطبيعة المأمور بها بين الفرد المبتلى بالمزاحم أعني : المجمع. وبين سائر الأفراد ، فلا فرق بين الصلاة في المكان المغصوب وبين سائر أفرادها إلّا من ناحية وجود المانع عن الوجوب في الفرد المزاحم ؛ لا عدم المقتضى إذ المفروض : وجوده في جميع الأفراد ، فحينئذ يحكم بإمكان حصول امتثال الأمر إذا أتى بالمجمع كالصلاة في المغصوب بداعي امتثال الأمر بالطبيعة ، كما تقدم نظيره في ضدّ الواجب كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة ، حيث إنه قيل بإمكان الإتيان بالصلاة هناك بداعي الأمر المتعلق بطبيعتها وإن كان فردها المزاحم بالإزالة خاليا عن الأمر ، فالفرد المزاحم وإن لم يكن فردا للطبيعة بما هي مأمور بها لكنّه من أفرادها بما هي هي ، ومشتمل على ما

٣٨٣

وبين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها ، وإن لم تعمه بما هي مأمور بها ، لكنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضى.

ومن هنا انقدح أنّه يجزي ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة ، وعدم كفاية الإتيان بمجرّد المحبوبية ، كما يكون كذلك في ضدّ الواجب ، حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا.

وبالجملة : مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا (١) أو حكما (٢) ، يكون الإتيان

______________________________________________________

تشتمل عليه أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها من الغرض الداعي إلى الأمر.

قوله : «فإنّ العقل ...» الخ تقريب : لإمكان حصول امتثال الأمر حتى على القول بتبعيّة الأحكام للملاكات الواقعية.

والمتحصل : أن الطبيعة المأمور بها وإن كانت لا تعمّ بما هي مأمور بها ذلك الفرد المزاحم إلّا إن عدم شمولها له ليس لأجل عدم المقتضى ؛ بل لوجود المانع.

وعليه : فالأفراد متساوية الأقدام بالنسبة إلى المقتضى وهو الوفاء بالغرض والمانع. وهو التزاحم. أوجب عدم شمول الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها للفرد المزاحم.

فاتضح مما ذكر من عدم التفاوت بين الفرد المزاحم وبين سائر الأفراد. في الوفاء بالغرض ووجود المقتضى في جميعها : أنّ الإتيان بالمجمع يجزي ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة ، وعدم كفاية مجرد محبوبيّتها ؛ كما أشار إليه بقوله : «ومن هنا انقدح أنّه يجزي» يعني : ومن عدم التفاوت بين المجمع وبين سائر الأفراد في الوفاء بالغرض ظهر : أن الإتيان بالمجمع الذي هو الفرد المزاحم يجزي ، «ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة وب «عدم كفاية الإتيان بمجرد المحبوبية كما يكون كذلك» بدون الأمر مجزيا «في ضدّ الواجب» كالصلاة التي هي ضد الإزالة ، «حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا» ، ومع ذلك تصح الصلاة وتقع مجزية في صورة الجهل قصورا ؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ، ٢ ص ٣٥٠».

(١) كعدم العلم بالغصب ولو مع العلم بالحرمة ؛ إلّا إن الجهل بالموضوع يوجب الجهل بالحكم ، إذ من لا يعلم الغصب لا يعلم الحرمة من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

(٢) أي : الجهل بحكم الغصب ؛ بأن لا يعلم حرمته مع العلم بالغصب ، فالجهل القصوري بالحرمة «تارة» : يكون لأجل الجهل بموضوعها ، و «أخرى» : يكون لأجل الجهل بنفسها ، وفي الصورتين يصدق الجهل بالحرمة. وعلى كلتا الصورتين يكون الإتيان بالمجمع امتثالا وبداعي الأمر بالطبيعة.

غاية الأمر : إن التفاوت بين هذا الفرد المزاحم. كالصلاة في المغصوب. وبين سائر

٣٨٤

بالمجمع امتثالا ، وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة ، غاية الأمر : إنّه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها لو قيل (١) بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعية ، وأمّا لو قيل بعدم التزاحم إلّا في مقام فعلية الأحكام لكان ممّا تسعه ، وامتثالا لأمرها بلا كلام.

وقد انقدح بذلك (٢) الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين ،

______________________________________________________

الأفراد ليس إلّا في شمول الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها لسائر الأفراد دون هذا الفرد المزاحم وإن كان فردا لها بما هي هي ، هذا ما أشار إليه بقوله : «إنّه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها».

(١) قيد لقوله : «ممّا تسعه» ، ومعنى العبارة حينئذ : أن عدم كون المجمع من أفراد الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها مبنيّ على تزاحم الملاكات في مقام تأثيرها في الأحكام الإنشائية ؛ إذ يكون المجمع حينئذ منهيا عنه لأقوائيّة مناط النهي من مناط الأمر كما هو المفروض في المقام.

وأمّا بناء على تزاحم الملاكات في مقام فعلية الأحكام ، وعدم مزاحمتها في مقام تأثيرها في الأحكام الإنشائية : فيكون المجمع مأمورا به ، ومن أفراد الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها ؛ إذا المفروض : عدم فعلية الحرمة للجهل بها قصورا ، فالحكم الفعلي حينئذ هو الوجوب فقط.

وكيف كان ؛ فعلى القول بتزاحم الملاكات في مقام فعلية الأحكام وعدم تزاحمها في مقام إنشائها يكون المجمع من أفراد الطبيعة المأمور بها ؛ لا الطبيعة بما هي هي. فقوله : «وأما لو قيل بعدم التزاحم ...» الخ مقابل لقوله : «لو قيل بتزاحم الجهات ...» إلخ.

وحاصل الكلام : أنه بناء على القول الثاني وهو تبعيّة الأحكام للملاكات (المؤثرة فعلا كان الفرد المزاحم من أفراد الطبيعة المأمور بها ، فيكون الإتيان به) امتثالا لأمر الطبيعة بلا كلام أصلا ؛ لما تقدم من أن الحكم تابع للحسن والقبح الفعليين الناشئين من علم المكلف ، فيكون هذا الفرد مأمورا به لكونه معلوم الحسن وإن كانت المفسدة الواقعية أغلب وأقوى.

في الفرق بين الاجتماع والتعارض

(٢) أي : ظهر بما مرّ مرارا من الفرق بين التعارض والاجتماع. الذي هو من صغريات مسألة التزاحم. أنّ الصلاة في المغصوب مثلا إن أحرز فيها ملاك أحد الحكمين فهي مورد التعارض ، فإن اختير أو رجّح دليل الحرمة حرمت الصلاة ، وتبطل حتى من الجاهل

٣٨٥

وقدّم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا ، حيث لا يكون معه مجال للصحّة أصلا ، وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع.

وقيل : بالامتناع ، وتقديم جانب الحرمة ، حيث يقع (١) صحيحا في غير مورد من موارد (٢) الجهل والنسيان ، لموافقته للغرض بل للأمر.

______________________________________________________

القاصر. وإنّ أحرز وجود الملاكين : فهي مورد الاجتماع. الذي هو من صغريات باب التزاحم. فعلى الامتناع وترجيح جانب الحرمة : صحت الصلاة من الجاهل القاصر بالحرمة أو الفساد لوجود ملاك الوجوب. هذا بخلاف فرض التعارض ؛ حيث تبطل الصلاة حتى من الجاهل القاصر ، لعدم وجود ملاك الوجوب مع ترجيح جانب الحرمة وطرح دليل الوجوب.

فتصحيح العبادة مع الجهل القصوري بالحرمة على القول بالامتناع ، وترجيح جانب النهي إنّما هو لاشتمالها على المصلحة مع صدوره حسنا ، فيختصّ هذا الوجه. في تصحيح العبادة. بباب الاجتماع الذي هو من صغريات مسألة التزاحم ، وعدم جريانه في التعارض.

فإن كان دليلا الوجوب والحرمة متعارضين بأن يكون أحدهما واجدا للملاك لا كلاهما ، وقدم دليل الحرمة تخييرا. كما في المتكافئين. أو ترجيحا. كما في غيرهما. على دليل الوجوب لا يجري فيه الوجه المذكور في تصحيح المجمع ، وذلك لعدم إحراز المصلحة فيه حتى يكون الإتيان به لوفائه بالغرض الموجب للأمر مسقطا للأمر وإن لم يكن امتثالا له.

فالمتحصل : أنّه هناك فرق واضح بين مسألة الاجتماع الذي هو من التزاحم المنوط باشتمال كل من المتزاحمين على الملاك. بناء على الامتناع وترجيح جانب الحرمة. وبين باب التعارض الذي لا يعتبر فيه إلّا اشتمال أحد المتعارضين على المناط ، فإنّ الصحة في الأول بالتقريب المذكور متجهة ، بخلاف الثاني ، فإنّه لا يتطرق فيه احتمال الصحة أصلا بعد عدم إحراز المناط في المجمع ، هذا ما أشار إليه بقوله : «حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا» ، أي : لا يكون مع التعارض مجال للصحة ، ووجه عدم المجال للصحة هو : عدم العلم بالمصلحة ، ووجود النهي فقط.

(١) يعني : حيث يقع المجمع في باب اجتماع الأمر والنهي صحيحا أي : مسقطا للأمر وإن لم يكن امتثالا له.

(٢) وهو ما إذا كان الجهل قصورا والنسيان عذريا «لموافقته للغرض». قوله : «لموافقته للغرض» علة لوقوعه صحيحا يعني : يقع المجمع صحيحا لموافقته للغرض الموجب للأمر.

٣٨٦

ومن هنا (١) علم أن الثواب عليه (٢) من قبيل الثواب على الإطاعة ؛ لا الانقياد ومجرّد اعتقاد الموافقة.

وقد ظهر بما ذكرناه (٣) : وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة

______________________________________________________

قوله : «بل للأمر» إشارة إلى ما ذكره بقوله : «مع إنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال ...» إلخ ، يعني يمكن أن يقال بحصول الامتثال وهو إمكان إتيان المجمع بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة ، حيث إن الفرد المزاحم وإن لم يكن له أمر ، إلّا إن الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة يصلح لأن يكون داعيا إلى إيجاد الفرد المزاحم.

(١) يعني : ومن كون المجمع صحيحا. لكونه موافقا للغرض والأمر واشتماله على المصلحة. علم أن ترتّب الثواب على إتيان المجمع في مورد الجهل القصوري والنسيان يكون من قبيل ترتبه على الطاعة ، لمطلوبيّة المجمع واقعا ، سواء كان مع الأمر أم بدونه ؛ لا من قبيل ترتبه على الانقياد الذي هو الإتيان بشيء باعتقاد مطلوبيته ، مع عدم كونه مطلوبا واقعا كالاعتقاد بوجوب شيء وانكشاف خلافه ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ٧٦» مع تصرّف منّا.

(٢) أي : على المجمع من قبيل الثواب على الطاعة ؛ لا الانقياد الذي هو مبنى القول بالبطلان. والمراد بالانقياد هنا : مقابل التجري الذي هو عبارة عن الإتيان بما هو مخالف الواقع برجاء المحبوبية والمطلوبية ؛ لا الانقياد الذي يطلق على الطاعة. فقوله : «ومجرّد اعتقاد الموافقة» مفسر للانقياد ، فيكون عطفه عليه عطفا تفسيريا ، ومن هنا لا يبقى مجال لتوهم أنّ مجرد اعتقاد كون المجمع مأمورا به مع حرمته واقعا لا يوجب حسنه ، ولا ترتّب الثواب عليه ، فيكون باطلا ، كما هو الحال في التجري ، فإنّ اعتقاد كون الفعل مبغوضا ومنهيا عنه مع عدم حرمته واقعا لا يوجب قبحه ، ولا ترتب العقوبة عليه وإن كان الفاعل مذموما.

فتلخص : أن الآتي بالصلاة في المكان المغصوب مع الجهل القصوري ، أو النسيان مطيع حقيقة ، فيستحق الثواب إطاعة لا انقيادا كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٧٧».

في وجه صحة المجمع بناء على الامتناع

(٣) أي : ذكرناه في وجه صحة المجمع من وجود المصلحة فيه ، أعني : ظهر من هذا «وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة ...» إلخ. وقوله : «وقد ظهر بما ذكرناه ...» الخ تمهيد لدفع توهم أشار إليه بقوله : «مع إن الجلّ لو لا الكل ...» إلخ فلا بد من تقريب التوهم ؛ كي يتضح ما أفاده المصنف من الدفع فنقول في تقريب التوهم : إنه

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي كما عن الجل لو لا الكل. لا وجه للحكم بالصحة في بعض الموارد ؛ بل لا بد من الحكم بالبطلان في جميعها.

فالتفصيل في الصحة بين الالتفات والجهل التقصيري وبين النسيان والجهل القصوري غير وجيه ؛ إذ على القول بالجواز وكذا الامتناع وتغليب جانب الأمر يكون المجمع صحيحا ، وعلى القول بالامتناع وترجيح جانب النهي يكون المجمع باطلا مطلقا ، سواء كان عالما أم جاهلا أم ناسيا ، فالمجمع إما صحيح وإما باطل ، فلا وجه لحكم الأصحاب بالتفصيل المذكور.

وحاصل الدفع هو : الفرق حكما بين الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور ، وكذا النسيان العذري ، وبين العالم بهما أو الجهل عن تقصير فيحكم بالصحة بالاتفاق للجهل القصوري أو النسيان العذري ، وبالبطلان كذلك في صورة العلم أو الجهل عن تقصير ؛ لأن الجاهل المقصّر كالعالم العامد في الحكم. هذا هو وجه حكم الأصحاب بالتفصيل بحسب الموارد.

ومن هنا ظهر : إن القول بالبطلان مطلقا وفي جميع الموارد غير صحيح.

هذا تمام الكلام في الأمور العشرة التي ذكرها قبل الخوض في المقصود.

خلاصة بحث ثمرة الاجتماع مع رأي المصنف «قده»

يتخلص البحث في أمور :

١. يسقط الأمر بإتيان المجمع بناء على الجواز فتصح الصلاة في الغصب مع حصول العصيان للنهي أيضا. وكذا الحال على الامتناع وترجيح جانب الأمر بدون معصية للنهي ، لأنّ المفروض سقوط النهي لأجل غلبة الأمر.

وأما على الامتناع وترجيح جانب النهي : فيسقط الأمر في غير العبادات مطلقا ؛ لحصول الغرض الداعي إلى الأمر بإتيان متعلقه بلا قصد القربة لكونه توصليا.

وأمّا في العبادات : فتبطل الصلاة من العالم بالحرمة ؛ لعدم تمكّنه من التقرب ، ومن الجاهل المقصر ؛ إذ لا يحصل بتقرّبه القرب المحصل للغرض إن قدم جانب النهي أو تساويا. وتصحّ من الجاهل القاصر ؛ لأنه تقرّب بما فيه صلاحية التقرب لاشتماله على المصلحة المستتبعة للحسن الذاتي ، وللجهل القصوري المستتبع للحسن الصوري ، فيحصل به الغرض من الطبيعة المأمور بها فيسقط الأمر ، «وإن لم يكن امتثالا له بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعا».

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

توضيح مراد المصنف : أن القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد اختلفوا على قولين ؛ قول : بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيتين ، فذو المصلحة واجب وإن لم يعلم بها المكلف ، وذو المفسدة حرام كذلك وذو الجهتين محكوم بأقواهما ، فالصلاة في الغصب. على هذا القول. حرام ولو مع الجهل عن قصور بالحرمة لا يحصل بها الامتثال ولكن سقوط الأمر إنّما هو لأجل حصول الغرض من الأمر مع الجهل القصوري ؛ لاشتمالها على المصلحة وصدورها حسنا عند الجهل بالحرمة عن قصور. فالإتيان بالصلاة مع قصد القربة موجب لسقوط الأمر وإن لم يكن امتثالا له ، وهناك قول «بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد الاعتقاديتين ، فلا تحرم الصلاة مع الجهل بالحرمة ؛ بل هي واجبة للاعتقاد بالمصلحة والوجوب فقط ، فيحصل الامتثال بإتيانها ، ولهذا قيّد المصنف عدم حصول الامتثال بكون الأحكام تابعة للملاكات الواقعية ؛ كما هو مقتضى القول الأوّل ، فعلى هذا القول لم يكن امتثالا للأمر لعدم الأمر لأقوائية المفسدة.

٢. يمكن تصوير امتثال الأمر حتى على مبنى القول الأول بتقريب : أنّ العقل لا يرى تفاوتا. في الوفاء بالغرض القائم بالطبيعة المأمور بها. بين الفرد المبتلى بالمزاحم وبين سائر الأفراد إلّا من ناحية وجود المانع عن الوجوب في الفرد المزاحم ؛ لا عدم المقتضي إذ المفروض : وجوده في جميع الأفراد ، فحينئذ يحكم بإمكان امتثال الأمر إذ أتى بالمجمع بداعي امتثال الأمر بالطبيعة.

ومن عدم التفاوت عند العقل بين الفرد المزاحم وسائر الأفراد ظهر أنه يجزى الإتيان بالمجمع ؛ ولو على القول باعتبار قصد امتثال الأمر في صحة العبادة ، غاية الأمر : يقصد امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة المأمور بها.

٣. «وبالجملة : مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا ؛ بأن لا يعلم المكلف الغصب ، أو حكما بأنه لا يعلم حرمة الغصب لا يكون الإتيان بالمجمع امتثالا ...» الخ ، يعني : إذا أتى بالمجمع مع قصد القربة يحكم بصحة المجمع إذا كان عبادة على كلا القولين.

غاية الأمر : على القول الأول يكون هناك فرق بين الفرد المزاحم وبين سائر الأفراد.

وحاصل الفرق : أن الطبيعة المأمور بها تشمل سائر الأفراد بما هي مأمور بها ، ولا تشمل الفرد المزاحم إلّا بما هي هي لا بما هي مأمور بها.

وأما على القول الثاني. وهو كون الأحكام تابعة للملاكات المؤثرة فعلا. فيكون

٣٨٩

مع النسيان أو الجهل بالموضوع ، بل أو الحكم إذا كان عن قصور ، مع أنّ الجلّ لو لا الكل قائلون بالامتناع ، وتقديم الحرمة ، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر ، فلتكن من ذلك على ذكر.

إذا عرفت هذه الأمور ، فالحق (١) هو القول بالامتناع ، كما ذهب إليه المشهور ، وتحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال ، يتوقف على تمهيد مقدمات :

إحداها (٢) : أنه لا ريب في أن الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها وبلوغها

______________________________________________________

المجمع مأمورا به ، ومن أفراد الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها ؛ إذ المفروض : عدم فعلية الحرمة عند الجهل بها عن قصور.

٤ ـ الفرق بين الاجتماع والتعارض وحاصله : أنه قد مرّ مرارا : أن الصلاة في الغصب مثلا إن أحرز فيها ملاك أحد الحكمين فهي مورد التعارض. وإن أحرز وجود الملاكين فهي مورد الاجتماع.

٥ ـ حكم الأصحاب بصحّة المجمع بناء على القول بالامتناع مبنيّ على الفرق بين الالتفات والجهل التقصيري ، وبين النسيان والجهل القصوري ، ونظرا إلى الفرق بينهما حكموا بصحة المجمع عند النسيان العذري والجهل القصوري ، وببطلانه في صورة العلم بالحرمة أو الجهل عن تقصير ؛ لأن الجاهل المقصر كالعالم العامد في الحكم ، فالحكم بالبطلان مطلقا وفي جميع الموارد ، كما توهّم غير مستقيم ، بل غير صحيح.

٦ ـ رأي المصنف «قده» :

١ ـ سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقا ، يعني : ولو في العبادات مع حصول عصيان النهي أيضا.

٢ ـ وعلى الامتناع يحصل الامتثال مع ترجيح جانب الأمر بلا معصية في النهي ، ومع ترجيح جانب النهي لا يحصل الامتثال في العبادات مع العلم والالتفات والجهل عن تقصير ، ويسقط الأمر ، بل يحصل الامتثال عند عدم العلم والجهل عن قصور.

(١) ذهب المصنف إلى الامتناع في المقام تبعا للمشهور ، وذكر للاستدلال على ذلك مقدمات أربعة.

تضاد الأحكام الخمسة

(٢) والغرض من تمهيد هذه المقدمة : هو إثبات التضاد بين الأحكام الخمسة ، فلا يجوز اجتماع اثنين منها في فعل واحد ؛ لاستحالة اجتماع الضدين. وتوضيح ما أفاده

٣٩٠

إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة : ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين البعث نحو واحد في زمان ، والزجر عنه في ذاك الزمان ، وإن لم يكن بينها مضاده ما لم يبلغ إلى تلك

______________________________________________________

المصنف. في المقدمة الأولى من التضاد بين الأحكام. يتوقف على مقدمة : وهي مشتملة على أمور :

الأول : أن للحكم أربعة مراتب عند المصنف «قده» :

١. مرتبة الاقتضاء. ٢. مرتبة الإنشاء. ٣. مرتبة الفعلية. ٤. مرتبة التنجز.

الثاني : أن هذه المراتب طولية بمعنى : إنه ما لم تتحقق المرتبة السابقة لا موضوع للمرتبة اللاحقة ، فتحقق كل مرتبة يتوقف على وجود سابقتها.

الثالث : بيان الفرق بين هذه المراتب.

وخلاصة الكلام في الفرق : أن مرتبة الاقتضاء هي مرتبة الملاك أعني : المصلحة والمفسدة المستتبعتين للحسن والقبح الذاتيين لا الفعليين ، فإن الفعل المشتمل على المصلحة حسن ذاتا ، والمشتمل على المفسدة قبيح كذلك.

ومرتبة الإنشاء هي مرتبة جعل القانون عرفا ، وإنشاء الحكم على طبق المصلحة والمفسدة شرعا.

ومرتبة الفعلية هي : مرتبة بيان الحكم وإعلامه وإبلاغه للمكلف ؛ بحيث يبلغ الحكم مرتبة البعث والزجر.

وأما مرتبة التنجز فهي : مرتبة انقطاع عذر المكلف ببلوغ الحكم إليه وقدرته عليه ، فإذا علم به وهو متمكن من امتثاله فقد تنجز عليه التكليف ، فحينئذ لا عذر له في تركه ، فالحكم قبل أن يبلغ إلى مرتبة الإعلام والإبلاغ إنشائي ، وإذا بلغ إلى مرتبة الإعلام والإبلاغ قبل بلوغه إلى المكلف وعلمه به فهو فعلي. وبعد بلوغه إليه وعلمه به منجز.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن التضاد بين الأحكام ليس في جميع المراتب ، فلا تضاد بين الاقتضائيين ولا بين الإنشائيين ، ضرورة : إمكان اجتماع الملاكين وإنشاء الحكمين. وإنما التضاد بين الحكمين الفعليين ؛ إذ يستحيل اجتماع إرادتي الفعل والترك أي : يلزم التكليف المحال من المولى ، لا إنه تكليف بالمحال ، فيستحيل حتى عند من يجوز التكليف بالمحال كالأشاعرة.

والمتحصل : أن التضاد إنما هو في مقام الفعلية دون الاقتضاء والإنشاء ، إذ لا مانع من إنشاء حكم بمجرد وجود مقتضيه ولو مع اقترانه بالمانع. فإن الإنشاءات المجرّدة عن الإرادة والكراهة لا تنافي بينها ، فتجتمع كاجتماع مقتضياتها.

٣٩١

المرتبة ؛ لعدم (١) المنافاة والمعاندة بين وجوداتها (٢) الإنشائية قبل البلوغ إليها (٣) ، كما لا يخفى ، فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال (٤) بل من جهة أنّه بنفسه محال ، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضا (٥).

ثانيتها (٦) : أنّه لا شبهة في أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف وما هو في الخارج

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم التضاد بين الحكمين ما لم يبلغا مرتبة الفعلية.

(٢) أي وجودات الأحكام الإنشائية ، وهي الأحكام المجهولة على ما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد ؛ وإن كانت مقرونة بالموانع ، فعلى هذا : يمكن إنشاء الوجوب والحرمة لشيء واحد إذا كان فيه مصلحة ومفسدة ، فلا منافاة بين الحكمين الإنشائيين التابعين لمجرّد المقتضى لهما ومع وجود المانع.

(٣) أي : إلى الفعلية فإن التنافي بين الحكمين إنما يكون في هذه المرتبة دون مرتبة الإنشاء والاقتضاء.

(٤) يعني : أن اجتماع الأمر والنهي الفعليين بنفسه محال ؛ لكونه من اجتماع الضدين الذي هو محال في نفسه ، لا إن الاجتماع المذكور يكون من التكليف بغير المقدور ، لعدم قدرة العبد على الجمع بين الفعل والترك حتى يكون من التكليف بالمحال الذي هو جائز عن بعض كالأشاعرة.

وكيف كان ؛ فقوله : «فاستحالة اجتماع الأمر والنهي ...» إلخ ، متفرع على تضاد الأحكام في مرتبة الفعلية.

(٥) يعني : أن القائلين بجواز التكليف بغير المقدور يعترفون أيضا بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي الفعليين ؛ لكونه بنفسه محالا.

في تعلق الأحكام بالمعنونات لا بالعناوين والأسماء

(٦) المقصود من تمهيد هذه المقدمة الثانية : هو تعيين متعلق الحكم سواء كان أمرا أم نهيا ، وبيان أن متعلق الحكم ليس إلّا نفس المعنون الذي هو فعل المكلف ، وهو فاعله وجاعله ويترتب عليه الخواص والآثار ، بمعنى : أن المكلف يكلّف بإصدار وإيجاد الفعل في الخارج ؛ لأن الفعل الخارجي ليس متعلق التكليف حتى يلزم التكليف بالمحال أعني : طلب ما هو حاصل في الخارج.

وتوضيح ما أفاده المصنف ؛ من تعلق الأحكام بالمعنونات لا بالعناوين والأسماء يتوقف على مقدمة وهي أمور :

الأمر الأول : أن الحكم تابع للملاك ، بمعنى : أن كل ما فيه الملاك يكون متعلقا

٣٩٢

يصدر عنه وهو فاعله وجاعله ؛ لا ما هو اسمه ، وهو واضح ، ولا ما هو عنوانه مما قد

______________________________________________________

للحكم ؛ لأن تعلقه بغير ما يقوم به الملاك ينافي ما عليه العدلية من تبعية الأحكام للملاكات الثابتة في متعلقاتها.

الأمر الثاني : أن الملاكات لا تقوم بالأمور الاعتبارية التي لا تأصل لها في الخارج ؛ بل تقوم بالموجودات الخارجية المتأصلة ، وعليه ؛ فالعنوان الاعتباري المأخوذ متعلقا للتكليف في ظاهر الخطاب ليس متعلقا له حقيقة. لما عرفت في الأمر الأول من تعلق الحكم بما فيه الملاك ، وقد عرفت في الأمر الثاني من أن الأمر الاعتباري لا يقوم فيه الملاك ، ولازم ما ذكر : أن العنوان الاعتباري عنوان مشير إلى ما هو متعلق الحكم واقعا وحاك عنه ، فالمتعلق هو المعنون والمسمى دون العنوان والاسم اللذين ينتزعان عن المعنون والمسمى ، ولا يكون لهما ما يحاذيهما في الخارج كما هو شأن خارج المحمول ؛ كالزوجية والرقية والحرية ونحوها من الاعتباريات التي لا وجود لها في الخارج ، وتكون من خارج المحمول وتؤخذ آلة للحاظ متعلقات الأحكام.

الأمر الثالث : الفرق بين الاسم والعنوان فنقول : إن التصرف في مال الغير بالبيع مثلا يشتمل على «معنون» هو التصرف في مال الغير بلا إذن ، و «عنوان» هو الغصب ، و «اسم» هو البيع ، والفرق بينهما : أن العنوان أمر منتزع عن التصرفات الخاصة وهي التصرفات في مال الغير بلا إذن والاسم أمر منتزع عن المسمى ؛ كالبيع عن المسمى وهو مبادلة مال بمال. فالعنوان والاسم أمران منتزعان عن المعنون والمسمي ، ولا يكون لهما ما يحاذيهما في الخارج ، فيكونان من خارج المحمول باصطلاح الفلاسفة المسمّى بالمحمول بالضميمة ، في مقابل المحمول بالضميمة ، وهو ما إذا كان للمحمول مبدأ خارجي عند حمله على موضوع كقولنا : «زيد عالم» مثلا ويسمى بالمحمول بالضميمة ؛ إذ لا يصح الحمل إلّا بعد انضمام مبدأ المحمول. وهو العلم. إلى ذات الموضوع وهو زيد في المثال المذكور.

فهذا الفرق في الاسم والعنوان كاشف عن اختلاف المعنون والمسمى ؛ إذ المعنون في المثال المذكور هو التصرف في مال الغير بغير إذن منه. والمسمى هو التصرف المقيّد بمبادلة مال بمال ، فيكون بينهما عموم مطلق أو من وجه فتدبر.

وكيف كان ؛ فمتعلق الحكم هو المعنون والمسمّى دون العنوان والاسم اللذين ينتزعان عن المعنون والمسمّى ؛ لما عرفت من عدم قيام الملاكات بالأمور التي لا تأصّل لها في الخارج.

وهناك فرق آخر بين العنوان والاسم وهو : كون الأول أمرا انتزاعيا ، والثاني : أمرا

٣٩٣

انتزع عنه ؛ بحيث لو لا انتزاعه تصورا واختراعه ذهنا (١) ، لما كان بحذائه شيء خارجا ، ويكون خارج المحمول كالملكية والزوجية والرقية والحرية والمغصوبيّة ، إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات ، ضرورة (٢) : إن البعث ليس نحوه والزجر لا يكون

______________________________________________________

متأصّلا كالناطق والعالم ، فيكون العنوان من خارج المحمول ، والاسم من المحمول بالضميمة ؛ إلّا إن الفرق الأوّل أنسب بالمقام فتدبر.

إذا عرفت هذه المقدمة تعرف : أن متعلق الحكم هو الفعل الصادر عن المكلف ؛ لأنّه مشتمل على الملاك الذي يتبعه الحكم لا اسمه وعنوانه ؛ لما عرفت من : أنهما من الأمور الاعتبارية التي لا تأصل لها في الخارج ، والملاكات إنما تقوم بالموجودات الخارجية المتأصلة.

(١) قوله : «ذهنا» إشارة إلى أن عروض العنوان لمتعلق الحكم يكون في الذهن ؛ لأن عروض المغصوبية للموجود الخارجي المتعلق للحكم. وهو التصرف في مال الغير بدون رضاه. ليس كعروض السواد والبياض وغيرهما من الأعراض الخارجية لمعروضاتها ، ضرورة : أن ظرف العروض في الأعراض الخارجية هو الخارج ، بخلاف الملكية والزوجية والمغصوبية ونحوها من الأمور الاعتبارية ، فإن ظرف عروضها هو الذهن ؛ إذ لا يحاذيها شيء في الخارج حتى يكون الخارج ظرف عروضها.

والمتحصل : أن متعلق الحكم هو فعل المكلف لا اسمه وعنوانه ، ففي الصلاة مثلا يتعلق البعث بنفس ما يقع في الخارج من الركوع والسجود والقراءة وغيرها من الأفعال والأقوال ، دون عنوانه كالصلاة وكذا الغصب ، فإن النهي يتعلق بنفس التصرف الخارجي في مال الغير بدون رضاه ، وعنوان الغصب مشير إليه ، فالعنوان المنتزع عن المعنون يكون خارج المحمول ، وهو ما ينتزع ويخرج عن ذات المعروض ، ثم يحمل عليه من دون أن يكون له ما يحاذيه في الخارج كالإمكان والوجوب والامتناع ونحوها مما لا وجود لها في الخارج ، ويكون عروضها لمعروضاتها في الذهن ، نظير الكلية والجزئية ونحوهما من المعقولات الثانية.

وعليه : فعنوان الصلاتية ، والغصبية والملكية ونحوها من المحمول بالصميمة وخارج المحمول لعدم تأصلها في الوجود الخارجي.

(٢) تعليل لعدم تعلق التكليف بالاسم والعنوان وقد تقدم تفصيله. وملخصه : أن الحكم تابع للملاك ، فما يقوم به الملاك هو متعلق الحكم لا غيره ، ومن المعلوم : عدم قيام الملاك بالأمر الانتزاعي ، وإنما هو قائم بالموجود الخارجي أعني : الفعل الصادر من المكلف.

فمحصل هذه المقدمة : أن متعلق التكليف هو نفس الفعل لا اسمه وعنوانه حتى

٣٩٤

عنه ، وإنما يؤخذ في متعلق الأحكام آلة للحاظ متعلقاتها ، والإشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها لا بما هو هو وبنفسه ، وعلى استقلاله وحياله.

ثالثتها : أنه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون ولا ينثلم به (١) وحدته ، فإن (٢) المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد ، وتصدق على

______________________________________________________

يقال : إن متعلق الأمر عنوان غير عنوان تعلق به النهي ، فيجوز الاجتماع كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٨٥».

والضمير في «منها» و «إليها» راجع إلى «متعلقاتها» وفي «متعلقاتها» راجع إلى الأحكام.

تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون

المقصود من هذه المقدمة الثالثة : هو إثبات عدم كون صدق عناوين كثيرة موجبا لتعدد المعنون ولانثلام وحدته.

وخلاصة الكلام في المقام : أنه لما أثبت المصنف في المقدمة الأولى تضاد الأحكام الفعلية ، وفي المقدمة الثانية تعلق الأحكام بالمعنونات والمسميات لا بالعناوين والأسماء صار في هذه المقدمة الثالثة بصدد إثبات وحدة المعنون كي يمتنع اجتماع الأمر والنهي فيه عقلا كما هو مختاره «قده» فقال : إن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ولا تنثلم به وحدته ، واستشهد لذلك بصدق العناوين المتعددة على من هو واحد لا تعدد فيه ، وفارد لا كثرة له ؛ كالواجب «تبارك وتعالى» ، حيث يصدق عليه عنوان العالم والقادر والمريد والمغني والسميع والبصير وغيرها من الصفات الكمالية والجلالية ، مع إنه تعالى واحد أحد بسيط من جميع الجهات ليس فيه جهة دون جهة ولا حيث دون حيث ، فعدم تعدد ذات واجب الوجود مع تعدد العناوين المنطبقة عليه شاهد صدق على إن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون.

فإذا كانت العناوين المتعددة مما تصدق على الواحد البسيط من جميع الجهات ولا ينافي ذلك وحدته ؛ فكذلك صدقها على غيره مما ليس كذاك لا ينافي وحدته بطريق أولى.

(١) يعني : ولا ينثلم بتعدد الوجه والعنوان وحدة المعنون.

(٢) هذا تعليل لعدم كون مجرد تعدد الوجه موجبا لتعدد المعنون وحاصله : على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦». شهادة الوجدان بذلك ، كوضوح صدق مفهوم العالم والعادل والهاشمي على زيد مثلا ، مع كونه واحدا حقيقة ، فمجرد تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون. ثم المراد بالألفاظ الثلاثة في قوله : «فهو على بساطته ووحدته

٣٩٥

الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة ؛ بل بسيط من جميع الجهات ، ليس فيه حيث غير حيث ، وجهة مغايرة لجهة أصلا ، كالواجب «تبارك وتعالى» ، فهو على بساطته ووحدته وأحديته ، تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية والجمالية (١) له الأسماء الحسنى والأمثال العليا (٢) ، لكنها (٣) بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد.

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكل إلى ذاك الجمال يشير

رابعتها (٤) : إنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلّا ماهية واحدة وحقيقة

______________________________________________________

وأحديته» معنى واحد وهو نفي التركيب عن واجب الوجود ؛ وإن كان المتبادر في بادئ النظر من الوحدة هو نفي الشريك عنه تعالى. لكن المناسب للمقام. لما كان نفي التركيب حتى لا يتوهم كون صدق كل عنوان باعتبار جزء من الأجزاء. هو إرادة البساطة من الوحدة.

(١) الفرق بين الصفات الجلالية والجمالية : أن الصفات الجمالية هي الصفات الثبوتية ، مثل كونه تعالى قادرا عالما سميعا بصيرا إلى غير ذلك. والصفات الجلالية هي الصفات السلبية مثل كونه تعالى لا شريك له ، ليس بمتحيز ، ليس بجسم ، إلى غير ذلك.

وجميع تلك الصفات حاكية عن الذات البسيطة غاية البساطة ؛ إذ لا منشأ لانتزاع صفاته «جلّ وعلا» إلّا نفس ذاته المقدسة ، بخلاف صفاتنا ، فإنها منتزعة عن ذواتنا باعتبار تلبسها بمبادئ تلك الصفات كالعلم والعدالة وغيرهما.

(٢) أي : الصفات العليا وقيل : «الأمثال» جمع المثل بالتحريك ، وكل وجود مثل له تعالى ومظهر له في مرتبته ، والعليا منها هي الموجودات الكاملة في مرتبتي العلم والعمل.

(٣) يعني : لكن تلك الصفات بأجمعها مع تعددها حاكية عن الذات البسيطة غاية البساطة ، فملخص هذه المقدمة : أن مجرد تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وجودا ولا ينثلم به وحدته أصلا ، كما في «منتهى الدراية ، ج ، ٣ ص ٨٨».

المتحد وجودا متحد ماهية

(٤) المقصود من بيان هذه المقدمة الرابعة : دفع توهمين يظهران من عبارة الفصول.

أحدهما : ابتناء القول بالامتناع على أصالة الوجود ؛ لكون عدم استلزام تعدد العنوان لتعدد المعنون مبنيا عليها ، والقول بالجواز على أصالة الماهية ؛ لكون العنوانين ماهيتين متعددتين متصادقتين على واحد.

ثانيهما : ابتناء القول بالجواز على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج ، والقول بالامتناع على عدم تعدده.

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا مجمل الكلام في التوهمين للفصول ، فقد يقال في تقريب التوهم الأول : إن النزاع في المسألة يبتني على النزاع في مسألة أصالة الوجود أو الماهية ، فإن قلنا في تلك المسألة : بأصالة الوجود فلا مناص في هذه المسألة من القول بالامتناع. وإن قلنا في تلك المسألة : بأصالة الماهية فلا مانع من الالتزام بالقول بالجواز في هذه المسألة.

بيان ذلك. على ما في «محاضرات في أصول الفقه ، ج ، ٤ ص ١٩٨». أن القائل بأصالة الوجود يدعي أن ما في الخارج هو الوجود ، والماهية منتزعة من حدوده ، وليس لها ما بإزاء فيه أصلا.

والقائل بأصالة الماهية يدعي أن ما في الخارج هو الماهية ، والوجود منتزع من إضافة الماهية إلى الموجد ، وليس له ما بإزاء.

وبعد ذلك نقول : إنه بناء على أصالة الوجود في تلك المسألة ، وأن الصادر من الموجد هو الوجود لا غيره ، فلا محالة يكون هو متعلق الأمر والنهي دون الماهية ، لفرض إنه لا عين ولا أثر لها في الخارج. وعليه : بما أن الوجود في مورد الاجتماع واحد فلا يعقل تعلق الأمر والنهي به ، ضرورة : استحالة أن يكون شيء واحد مأمورا به ومنهيا عنه معا ومحبوبا ومبغوضا في آن واحد ، فإذن : لا مناص من القول بالامتناع.

وأما بناء على أصالة الماهية : فلا محالة يكون متعلق الأمر والنهي هو الماهية ؛ لفرض إنه على هذا لا عين ولا أثر للوجود. وعليه : فبما أن الماهية المتعلقة للأمر كالصلاة. مثلا. في مورد الاجتماع غير الماهية المتعلقة للنهي كالغصب ، فلا مانع من القول بالجواز. واجتماع الأمر والنهي ، وذلك لأن الماهيات متباينات بالذات والحقيقة ، فلا يمكن اتحاد ماهية مع ماهية أخرى ، ولا يمكن اندراج ماهيتين متباينتين تحت ماهية واحدة ، فإذن في الحقيقة لا اجتماع للأمر والنهي في شيء واحد.

ولكن هذا التوهم مدفوع بما ذكره المصنف «قده».

وتوضيح ما أفاده المصنف في دفع هذا التوهم الأول يتوقف على مقدمة ، وهي : الفرق بين الماهية والعنوان وحاصله : أن الماهية. على ما في علم الميزان. ما تقع في جواب السؤال بما هو من الجنس والفصل أو الجنس وحده ، وقد تقرر في محلّه : إنّه لا يعقل تحقق جنسين قريبين وفصلين كذلك لموجود واحد ، فلا يعقل أن يكون لموجود واحد ماهيتان ؛ بحيث تكون كل واحدة منهما عين ذلك الموجود الواحد ، ضرورة : أن لكل ماهية وجودا واحدا ، ولا يعقل أن يكون للماهيتين وجود واحد أو للموجودين ماهية

٣٩٧

فاردة ، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلّا تلك الماهية فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة وكانت عينه في الخارج

______________________________________________________

واحدة أو لموجود واحد ماهيات كثيرة ، هذا بخلاف العنوان حيث يمكن أن يكون لموجود واحد عنوانان أو عناوين كثيرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ للمجمع في مورد الاجتماع والتصادق وجودا واحدا ، فلا محالة تكون له ماهية واحدة ، وعليه : فلا فرق بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية ، فكما أنه على الأول يستحيل اجتماع الأمر والنهي ، فكذلك على الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا ، لأن الماهية الصادقة على المجمع واحدة لا محالة سواء كان الأصل في التحقق هو الوجود أم الماهية.

أما على الأوّل : فلأن الوجود المتحقق في الخارج على القول بأصالته واحد.

وأما على الثاني : فلكون الماهية المتحققة خارجا على القول بأصالتها واحدة أيضا ؛ لما عرفت من : عدم تعقل ماهيتين لموجود واحد ، لاستلزامه تجنس موجود واحد بجنسين ، وتفصّله بفصلين ، وهو غير معقول كما «في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص ٩١».

وأما التوهم الثاني. وهو ابتناء القول بالجواز على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج والقول بالامتناع على عدم تعدده. فيقال في تقريبه : أننا لو قلنا بتعدد وجودهما جاز الاجتماع ؛ لأن الأمر يتعلق بأحدهما والنهي يتعلق بالآخر.

ولو قلنا : بوحدة وجودهما امتنع الاجتماع ؛ لأن هناك وجودا واحدا ، فلا يعقل أن يتعلق به الأمر والنهي معا.

وأما وجه اندفاع هذا التوهم الثاني : فلأن الممنوع تصادق ماهيتين على موجود واحد لا عنوانين عرضيين انتزاعيين كما في المقام ، ومن الواضح : إنه ليس العنوانان المتصادقان على المجمع فيما نحن فيه من قبيل الجنس والفصل حتى يكون أحدهما متعلقا للأمر والآخر متعلقا للنهي ؛ إذ الحركة التي هي من مقولة الفعل مثلا لا تختلف حقيقتها هذه بتصادق عنواني الصلاة والغصب عليها وعدمه ، فلو لم يصدق شيء من هذين العنوانين على الحركة المزبورة لم يقدح في صدق حقيقتها. وهي مقولة الفعل.

وكيف كان ؛ فتعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، فيستحيل تعلق الأمر والنهي بالمعنون ، لاستلزامه اجتماع الضدين في موضوع واحد ، لما عرفت. في المقدمة الأولى. من تضادّ الأحكام الفعلية هذا تمام الكلام في دفع التوهمين للفصول.

٣٩٨

كما هو شأن الطبيعي وفرده ، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية وذاتا لا محالة ، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الأمر والنهي ؛ إلّا إنه كما يكون واحدا وجودا ، يكون واحدا ماهية وذاتا ، ولا يتفاوت فيه (١) القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.

ومنه (٢) ظهر : عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة على القولين في تلك المسألة ، كما توهم في الفصول ، كما ظهر عدم الابتناء على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج ، وعدم تعدده ، ضرورة (٣) : عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له ، وإنّ مثل الحركة في دار من أيّ مقولة كانت لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها ، وقعت جزءا للصلاة أو لا كانت تلك الدار مغصوبة أو لا (٤).

إذا عرفت ما مهدناه عرفت : أنّ المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا كان تعلق الأمر والنهي به محالا ولو كان تعلقهما به (٥) بعنوانين ؛ لما عرفت من كون فعل

______________________________________________________

(١) أي : في الموجود الواحد الذي ليس له إلّا ماهية واحدة ، أي : لا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية ، فكما أن الوجود المتحقق في الخارج أصالة عند القائلين بأصالته ليس إلّا واحدا ، فكذلك الماهية المتحققة في الخارج أصالة عند القائلين بأصالتها لا تكون إلّا ماهية واحدة.

(٢) أي : ومن عدم تعدد ماهية الموجود الواحد «ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في» هذه «المسألة». أي : مسألة الاجتماع «على القولين في تلك المسألة» أي : مسألة أصالة الوجود أو الماهية ، «كما توهم في الفصول». وقد تقدم تقريب توهم صاحب الفصول مع دفعه ، وتركنا ذكر ما في الفصول تجنبا عن التطويل. فقوله : «ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز.» الخ. إشارة إلى التوهم الثاني ، وقد تقدم تقريب التوهمين مع دفعهما ، فلا حاجة إلى ذكرهما ثانيا.

(٣) تقريب لعدم ابتناء جواز الاجتماع وعدمه على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج ، وقد عرفت وجه ذلك آنفا ، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا.

(٤) أي : قد عرفت أنّ صدق العناوين المتعددة لا يكاد تنثلم به وحدة المعنون بها ، ومحدودا بحدود موجبة لانطباقها عليه كما لا يخفى ، وحدوده ومخصصاته لا توجب تعدده بوجه أصلا.

فالمتحصل : أنه لا يكون عنوان الصلاة والغصب من قبيل الجنس والفصل للحركة ؛ إذ لو كانا من قبيلهما لاختلفت الحركة باختلاف جنسها أو أصلها.

(٥) يعني : بالمجمع.

٣٩٩

المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه متعلقا للأحكام لا بعناوينه الطارئة عليه ، وإنّ غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلق بالطبائع لا الأفراد ، فإنّ غاية تقريبه أن يقال : إنّ الطبائع من حيث هي هي ، وإن كانت ليست إلّا هي ، ولا تتعلق بها الأحكام الشرعية ؛ كالآثار العادية والعقلية ، إلّا أنّها مقيدة بالوجود ، بحيث كان القيد خارجا والتقيّد داخلا صالحة لتعلق الأحكام بها ، ومتعلقا الأمر والنهي على هذا لا يكونان متحدين أصلا ، لا في مقام تعلّق البعث والزجر ، ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار.

______________________________________________________

تقرير دليل الامتناع

وحاصل الكلام في تقرير دليل الامتناع : أن يقال : إن نتيجة المقدمات الأربع : هي أن المجمع كالصلاة في الدار المغصوبة يكون واحدا وجودا وذاتا ، فيكون تعلق الأمر والنهي به محالا ، ولو كان تعلقهما به بعنوانين. وذلك لما عرفت سابقا من كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه باختيار متعلقا للأحكام لا بعناوينه الطارئة عليه ، والحال أنك قد عرفت في المقدمة الأولى : تضادّ الأحكام الخمسة ، واستحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد ، لاستلزم ذلك اجتماع الضدين وإن كان تضادها في مرتبة الفعلية على ما عرفت.

وقد عرفت في المقدمة الثانية : أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف وما يصدر عنه في الخارج لا ما هو اسمه وعنوانه الذي ينتزع من الفعل وقد علمت في المقدمة الثالثة : إن المعنون واحد ، وإن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، فقد ظهر من هذه المقدمات ظهورا واضحا : استحالة اجتماع الأمر والنهي في المجمع المعنون بعنوانين ، ومن هنا يظهر : عدم الحاجة إلى ذكر المقدمة الرابعة في استحالة اجتماع الأمر والنهي ، فيكون ذكرها في المقام لدفع التوهمين لصاحب الفصول.

نعم ؛ بقي في المقام توهم آخر قد أشار المصنف إلى دفعه بقوله : «وإن غائلة اجتماع الضدين فيه لا تكاد ترتفع بكون الأحكام تتعلق بالطبائع لا الأفراد».

وحاصل التوهم : أن محذور اجتماع الضدين في شيء يرتفع على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد ، وهذا التوهم من أدلة الجواز استدل به المحقق القمي «قده».

وتوضيح ما أفاده المصنف في تقريب هذا التوهم يتوقف على مقدمة وهي : أنّ الطبائع والماهيات من حيث هي هي وإن كانت غير قابلة لأن تتعلق بها الأحكام

٤٠٠