دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

كالصلاة في المغصوب (١) ، وإنما ذكر ـ هذا ـ لإخراج ما إذا تعدد متعلق الأمر والنهي ، ولم يجتمعا وجودا ولو جمعهما واحد مفهوما ؛ كالسجود لله تعالى ، والسجود للصنم مثلا ؛ لا لإخراج الواحد الجنسي (٢) ، أو النوعي ؛ كالحركة (٣) والسكون الكليين المعنونين بالصلاتية والغصبية.

______________________________________________________

الأول ـ غاية الأمر : أن تكون الوحدة وصفا للواحد نفسه لا لمتعلقه ـ سواء كان كليا أم جزئيا.

وبعبارة أخرى : أن المراد بالواحد في العنوان هو الواحد وجودا ؛ بأن يتعلق الأمر بشيء ، والنهي بشيء آخر.

ولكن اتحد المتعلقان في الوجود والتحقق ؛ كالصلاة المأمور بها ، والغصب المنهي عنه المتحدين في الوجود عند إقامة الصلاة في الدار المغصوبة. هذا معنى قوله : «المراد بالواحد ما كان ذا وجهين ، ومندرجا تحت عنوانين» ، فمناط صغرويته لمسألة اجتماع الأمر والنهي هو : كونه مصداقا لعنوانين ، فلو لم يكن كذلك ـ بأن لا يتصادق عليه عنوانان ـ كان خارجا عن حريم هذه المسألة ؛ كالسجود لله تعالى الذي هو المأمور به ، وللصنم الذي هو المنهي عنه ؛ لعدم تصادقهما على سجود خارجي ؛ لأن صدقهما عليه منوط باتحادهما وجودا ، وذلك مفقود في السجود له تعالى وللصنم ؛ لتباينهما المانع عن هذا الاتحاد ، والاتحاد بحسب المفهوم فقط ـ كالسجود في المثال ـ لا يجدي في مسألة الاجتماع ، بل المعتبر اتحادهما بحسب المصداق ، فيخرج بقيد الاتحاد في الوجود والمصداق الأمر بالسجود لله ، والنهي عن السجود للأصنام ؛ لاختلاف المتعلقين مصداقا ، وبقي الباقي تحت عنوان الواحد.

(١) يعني : من المكان أو اللباس بمعنى : أن كلي الصلاة في المغصوب مصداق للطبيعتين المتعلقتين للأمر والنهي فقوله : «كالصلاة في المغصوب» مثال لذي وجهين ؛ فإن هذه الحركات الكلية ؛ الشاملة لكل صلاة في الغصب تتعنون بعنوان الصلاة المأمور بها ، وبعنوان الغصب المنهي عنه. ثم قوله : «مطلق ما كان ذا وجهين» لإخراج ما إذا كان متعلّقا الأمر والنهي متباينين وجودا ، وإن اتحدا مفهوما ؛ كالسجود لله تعالى وللصنم ؛ لعدم اتحاد هذين المتعلقين وجودا أصلا ، كما سبق.

(٢) يعني : كما لو أمر بإحضار حيوان ، ونهى عنه ، «أو النوعي» كما لو أمر بإحضار إنسان ونهى عنه.

(٣) فإن الحركة كلي ينطبق عليها عنوانان كليّان ؛ وهما : الصلاة والغصب ، وكذا السكون ، فالواحد سواء كان جنسيا أم نوعيا أم شخصيا إذا صدق عليه عنوانان كليان

٣٤١

الثاني : (١) الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة هو : أن الجهة المبحوث

______________________________________________________

تعلق بأحدهما أمر ، وبالآخر نهي يندرج في مسألة الاجتماع ؛ وإلّا فهو أجنبي عنها. وعليه : فالسجود لله تعالى وللصنم خارج عن هذا البحث ؛ لعدم صدقهما على موجود خارجي ، وإن صدق على كل منهما مفهوم السجود.

وكيف كان ؛ فإن كلا من الحركة والسكون اللذين هما كليان يصير معنونا بعنواني الصلاة والغصب.

والمتحصل : أن ميزان صغروية الواحد لمسألة الاجتماع هو : انطباق متعلقي الأمر والنهي عليه في الخارج ؛ من غير فرق في ذلك بين كون ذلك الواحد كليا أو جزئيا ، هذا خلافا للعضدي ؛ فإنه خصص النزاع بالواحد الشخصي ؛ زاعما : أن الواحد الجنسي ونحوه لا مانع من الاجتماع فيه.

الفرق بين مسألة الاجتماع ومسألة النهي في العبادة

(١) الغرض من عقد هذا الأمر الثاني هو : دفع توهم عدم الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية ، وهي مسألة النهي في العبادة.

فيقع الكلام تارة : في تقريب توهم عدم الفرق بين المسألتين. وأخرى : في دفع التوهم المزبور.

أما توهم عدم الفرق : فيقال في تقريب ذلك : إن الأمر والنهي مجتمعان في كل واحدة من المسألتين من دون فرق بينهما.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الأمر بالصلاة أمر بأجزائها ؛ كالتكبيرة ، والقراءة ، والركوع ونحوها ، ومنها : الكون أعني : كون المصلّي في مكان من الأمكنة ، فالكون مما تعلق به الأمر ، فإذا صلى في الدار المغصوبة كان الكون فيها مما تعلق به النهي ؛ نظرا إلى أن النهي عن الغصب ، يعني : «لا تغصب» بمعنى : «لا تكن في الدار المغصوبة».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الكون في الدار المغصوبة حال الصلاة مأمور به ؛ باعتبار الكون الصلاتي ، كما أنه بلحاظ الكون الغصبي منهي عنه. هذا خلاصة الكلام في اجتماع الأمر والنهي في هذه المسألة.

وأما اجتماعهما في مسألة النهي في العبادة في نحو : «لا تصلّ في الدار المغصوبة» فواضح ؛ لأن النهي عنها فيها نهي عن جميع أجزائها فيها ، ومن جملتها الكون أي : «لا تكن في الدار المغصوبة حال الصلاة» ، فقد علم تعلق الأمر والنهي بالكون في الدار

٣٤٢

عنها فيها التي بها تمتاز المسائل هي : أن تعدد الوجه والعنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق بالأمر والنهي ، بحيث يرتفع به غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه

______________________________________________________

المغصوبة في كلتا المسألتين ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، فلا وجه لجعلهما مسألتين ، بل هما مسألة واحدة.

وأما حاصل ما أفاده في دفع التوهم المذكور : فتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنه كما أن تمايز العلوم بالأغراض ؛ كذلك يمكن أن يكون تمايز المسائل بها اتحد الموضوع أو تعدد ، ويمكن أن يكون تمايزها باختلاف جهة البحث.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الفرق بين المسألتين بكلا الأمرين موجود في المقام.

أما التمايز والفرق بينهما بالأمر الأول ـ وهو الغرض ـ : فلأن الغرض في هذه المسألة هو إثبات سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر مع تعدد العنوان ؛ كما يسرى في العنوان الواحد ، أو عدم سرايته ، هذا بخلاف مسألة النهي في العبادة ؛ فإن الغرض فيها ـ بعد الفراغ عن السراية ـ هو : إثبات الفساد أو عدمه ، ولذا تكون هذه المسألة ـ بعد القول بالامتناع وتقديم جانب النهي ـ من صغريات تلك المسألة ؛ بخلاف ما لو قلنا بالجواز أو قلنا بالامتناع ، وقدمنا الأمر ، أو تساويا ، فلا تكون من صغرياتها.

وأما التمايز والفرق بينهما بالأمر الثاني ـ وهو اختلاف جهة البحث ـ : فلأن الاختلاف بينهما إنما هو باختلاف جهة البحث في كلّ من المسألتين ؛ حيث إن جهة البحث في هذه المسألة هي : أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون ، حتى يخرج عن الواحد الذي يمتنع اجتماع الحكمين المتضادين فيه ، فلا يسري كل من الحكمين إلى متعلق الآخر أم لا يوجبه؟ بل هو واحد فيسري كل من الأمر والنهي من متعلقه إلى متعلق الآخر فيتحد مجمعهما ، ويكون المجمع حينئذ لوحدته محكوما بأحد الحكمين دون كليهما ، لتضادهما ، وامتناع اجتماع المتضادين.

بخلاف مسألة النهي في العبادة ؛ فإنّ الجهة المبحوث عنها فيها هي دلالة النهي على الفساد وعدمها ، بعد الفراغ عن كون متعلق النهي عين ما تعلق به الأمر ، فلا جهة جامعة بين جهتي البحث في المسألتين.

نعم ؛ لو بنى على الامتناع ، وتقديم جانب الحرمة ؛ كان المورد من صغريات تلك المسألة.

وكيف كان ؛ فالفرق بين المسألتين في غاية الوضوح ، حيث نبحث في هذه المسألة عن السراية ، وتعلق النهي بنفس ما تعلق به الأمر ، وفي المسألة الآتية عن دلالة النهي على الفساد ؛ بعد الفراغ عن تعلق النهي بعين ما تعلق به الأمر.

٣٤٣

واحد (١) أو لا يوجبه (٢) ، بل يكون حاله حاله ، فالنزاع في سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر لاتحاد متعلقيهما وجودا ، وعدم سرايته (٣) لتعددهما وجها ، وهذا (٤) بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأخرى ؛ فإن البحث فيها (٥) في أن النهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها بعد الفراغ عن التوجه إليها (٦).

نعم ؛ (٧) لو قيل بالامتناع ، مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع ؛ يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.

______________________________________________________

(١) كالصلاة التي تعلّق بها الأمر والنهي بعنوان واحد ؛ وهو عنوان الصلاتية.

(٢) يعني : لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المتعلق ؛ بل يكون حال الشيء ذي الوجهين حال الشيء ذي الوجه الواحد في استحالة اجتماع الأمر والنهي فيه ، فلا يكون تعدد الوجه مجديا في دفع محذور اجتماع الضدين ؛ لأن الشيء الواحد لا يجتمع فيه الأمر والنهي ؛ سواء كان متعدد العنوان أو متحد العنوان ؛ إذ المفروض : وحدة الموضوع ، فيكون حال متعدد العنوان حال متحد العنوان في لزوم اجتماع الضدين.

(٣) يعني : وعدم سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر ؛ «لتعددهما وجها» يعني : لتعدد متعلق الأمر ، ومتعلق النهي وجها وعنوانا ، فيكون أحدهما متعلقا للأمر ، والآخر متعلقا للنهي. فقوله : «لتعددهما وجها» تعليل لعدم السراية أعني : أن عدم السراية مستند إلى تعدد الوجه والعنوان.

(٤) يعني : ما ذكر من أن جهة البحث في هذه المسألة هي : أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أم لا يوجبه؟ «بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأخرى» أي : مسألة النهي في العبادة.

(٥) يعني : في المسألة الأخرى وهي : النهي في العبادة. فقوله : «فإن البحث فيها ...» إلخ. إشارة إلى تقريب المغايرة بين المسألتين ، وقد مرّ توضيح ذلك سابقا. وقلنا : إن البحث في مسألة الاجتماع يكون في أن النهي هل تعلق بعين ما تعلق به الأمر أم لا؟

وفي مسألة النهي في العبادة يكون في أن النهي ـ بعد الفراغ عن تعلقه بعين ما تعلق به الأمر ـ هل يقتضي الفساد أم لا؟ فتغاير المسألتين من الوضوح كالشمس في النهار ، والنار على النار.

(٦) أي : توجه النهي إلى العبادة أو المعاملة ، فمسألة الاجتماع في مرتبة صغرى مسألة النهي في العبادة على بعض التقادير ، كما عرفت غير مرة. وستأتي الإشارة إليه في كلامه.

(٧) هذا استدراك على المغايرة بين المسألتين ، وحاصل الاستدراك : أنه قد يكون البحث في هذه المسألة منقحا لصغرى من صغريات مسألة النهي في العبادة ، كما إذا قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي ؛ لأجل عدم إجداء تعدد الوجه في دفع غائلة محذور

٣٤٤

فانقدح : أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح.

وأما ما أفاده في الفصول من : الفرق (١) بما هذه عبارته : «ثم اعلم : أن الفرق بين المقام (٢) والمقام المتقدم ـ وهو : أن الأمر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟ ـ

______________________________________________________

اجتماع الضدين ، وترجيح جانب النهي لبعض الوجوه المذكورة في محلّها ؛ فإن المقام حينئذ من صغريات النهي في العبادة ، إذ بعد ترجيح النهي وسقوط الأمر يتوجه النهي إلى العبادة ؛ كالصلاة في الدار المغصوبة ، فيقع الكلام في أن النهي المتوجه إلى الصلاة يقتضي فسادها أم لا؟ فيقال على القول بدلالة النهي على الفساد : هذه العبادة منهي عنها ، وكل عبادة منهي عنها فاسدة ، فهذه العبادة فاسدة.

(١) بعد ما فرغ المصنف من الفرق بين المسألتين ، نقل وجهين آخرين للفرق : أحدهما : ما في الفصول. وثانيهما : ما سيأتي ذكره في كلامه ، من : أن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا ، وهناك في دلالة النهي لفظا. ثم ناقش كلا منهما بما يأتي تفصيله في كلامه «قدس‌سره» وما في الفصول من الفرق بين المسألتين ردّ لما زعم المحقق القمي «رحمه‌الله» من الفرق ، حيث قال ما حاصله : إن ملاك مسألة الاجتماع هو : كون النسبة بين المأمور به والمنهي عنه عموما من وجه ؛ نحو : «صلّ ولا تغصب» ، وملاك مسألة النهي في العبادة هو : كون النسبة بين المأمور به والمنهي عنه عموما مطلقا ، والمنهي عنه يكون خاصا نحو : «صلّ ولا تصل في الغصب».

وردّه صاحب الفصول بما حاصله : من أن الفرق بينهما في المعاملات ظاهر ، وفي غاية الوضوح ؛ وذلك لعدم تعلق الأوامر بالمعاملات حتى تتحقق مسألة الاجتماع ، فمسألة الاجتماع تختص بالعبادات ، ولا تجري في المعاملات بالمعنى الأخص. نعم ؛ تجري في المعاملات بالمعنى الأعم ؛ كالواجبات التوصلية.

وأما الفرق بينهما في العبادات : فلأن الموضوع والمتعلق في اجتماع الأمر والنهي متعدد ؛ لتعلق الأمر بطبيعة مغايرة للطبيعة التي تعلق بها النهي ؛ سواء كانت النسبة بين الطبيعتين عموما من وجه ؛ كالصلاة والغصب ، أم عموما مطلقا ؛ كالضاحك بالفعل ، والإنسان في نحو : «أكرم الإنسان ، ولا تكرم الضاحك بالفعل» ؛ حيث إن الموضوع ـ في كلا المثالين ـ متعدد حقيقة أعني : الصلاة والغصب ـ في المثال الأول ـ والإنسان والضاحك بالفعل ـ في المثال الثاني ـ هذا بخلاف مسألة النهي في العبادة ؛ فإن الموضوع فيها متحد حقيقة ، والتغاير إنما هو في الإطلاق والتقييد ؛ نحو «صلّ ولا تصلّ في الغصب».

والمتحصل : أن الموضوع في إحداهما متعدد حقيقة ، وفي الأخرى متحد كذلك.

(٢) أعني : مسألة النهي في العبادة. ومراده بالمقام المتقدم هو : مسألة الاجتماع.

٣٤٥

أما في المعاملات فظاهر.

وأمّا في العبادات : فهو : أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة وإن كان (١) بينهما عموم مطلق ، وهنا فيما إذا اتحدتا (٢) حقيقة ، وتغايرتا بمجرد الإطلاق والتقييد (٣) ؛ بأن تعلق الأمر بالمطلق ، والنهي بالمقيد» انتهى موضع الحاجة ؛ فاسد (٤) ، فإن مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات ، لا يوجب التمايز بين المسائل ما لم يكن هناك اختلاف الجهات ، ومعه (٥) لا حاجة أصلا إلى تعددها ، بل لا بدّ من عقد مسألتين مع وحدة الموضوع ، وتعدد الجهة المبحوث عنها (٦).

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى ردّ ما ذكره المحقق القمي «رحمه‌الله» من : أن الفرق بين المسألتين من حيث إن النسبة بين المأمور به والمنهي عنه في إحداهما عموم من وجه ، وفي الأخرى عموم مطلق ، وقد عرفت توضيح ذلك.

(٢) يعني : فيما إذا اتحدت الطبيعتان حقيقة ؛ بأن توجه النهي بعين ما توجه إليه الأمر.

(٣) وحاصل الكلام في المقام : أن موضوع مسألة الاجتماع تعدد الطبيعة ، وموضوع مسألة النهي في العبادة وحدتها ، فتغاير الموضوع أوجب تعدد المسألة. هذا تمام الكلام في الفرق الذي ذكره صاحب الفصول.

(٤) هذا جواب «أمّا» في قوله : «وأمّا ما أفاده في الفصول من الفرق». والصواب أن تكون كلمة «فاسد» مع الفاء ، لكونه من موارد لزوم اقتران الجواب بالفاء كما لا يخفى.

وكيف كان ؛ فملخص ما أفاده في ردّ الفصول ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٨» ـ : أن تمايز المسائل إنما هو باختلاف الجهات والأغراض كما تقدم في صدر الكتاب ؛ لا باختلاف الموضوعات ، فمع وحدة الموضوع وتعدد الجهة لا بد من عقد مسألتين ، كما أنه مع تعدد الموضوع ، ووحدة الجهة لا بد من عقد مسألة واحدة.

وعلى هذا ؛ فبما أن جهة البحث في مسألتي الاجتماع والنهي في العبادة واحدة ، وهي صحة العبادة في المكان المغصوب مثلا ، فلا بدّ من عقد مسألة واحدة لهما ؛ لا مسألتين وإن تعددتا موضوعا ، فتعدد البحث عنهما في كلام الأعلام «قدس الله تعالى أسرارهم» كاشف عن عدم كون هذا الفرق فارقا.

(٥) يعني : ومع اختلاف الجهات لا حاجة أصلا إلى تعدد الموضوعات.

(٦) كمسألة الأمر ؛ فإن جهة البحث فيها متعددة ؛ مثل : كون الأمر ظاهرا في الوجوب ، وفي الفور أو التراخي ، وفي المرة أو التكرار وغيرها من الجهات المتعلقة بالأمر ولأجل تعدد الجهات عقدوا لها مسائل عديدة بتعددها وإن كان الموضوع واحدا.

٣٤٦

وعقد مسألة واحدة في صورة العكس (١) ، كما لا يخفى.

ومن هنا (٢) انقدح أيضا : فساد الفرق بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا ، وهناك في دلالة النهي لفظا ؛ فإن مجرد ذلك ـ لو لم يكن تعدد الجهة في البين ـ لا يوجب إلّا تفصيلا في المسألة الواحدة ؛ لا عقد مسألتين. هذا مع عدم (٣) اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ ، كما سيظهر.

______________________________________________________

(١) أي : بأن كانت الجهة واحدة ، والموضوع متعددا ـ كالاستثناء المتعقب للجمل ـ فإن جهة البحث ـ وهي : استعلام حال القيد استثناء كان أم غيره ـ لمّا كانت واحدة أوجبت وحدة المسألة ؛ وإن كان الموضوع متعددا بحسب كونه شرطا ، وغاية ، وصفة وحالا ، واستثناء وغيرها ، فإن الاستثناء والصفة والحال ونحوها متعددة موضوعا لكنها متحدة جهة كما عرفت.

وكيف كان ؛ فلمّا كانت جهة البحث ـ في صورة العكس ـ واحدة فينبغي عقد مسألة واحدة ، فعدم عقد مسألتين مع تعدد الموضوع كاشف عن عدم كون هذا الفرق فارقا.

(٢) يعني : ومن كون التمايز بين المسائل باختلاف الجهة لا تعدد الموضوع «انقدح أيضا : فساد الفرق» الذي ذكره بعضهم ؛ «بأن النزاع هنا» أي : في مسألة اجتماع الأمر والنهي ؛ «في جواز الاجتماع عقلا ، وهناك» يعني : في مسألة النهي في العبادة «في دلالة النهي لفظا».

فالفرق بينهما : أن إحداهما عقلية ، والأخرى لفظية. وقد أشار إلى فساد هذا الفرق بقوله : «فإن مجرد ذلك» أي : الفرق المزبور.

وخلاصة ما يمكن أن يقال في تقريب فساد الفرق المذكور : إن مجرد كون البحث عقليا في مسألة الاجتماع ، ولفظيا في مسألة النهي في العبادة ما لم يرجع إلى تعدد جهة البحث ؛ لا يوجب إلّا التفصيل في المسألة الواحدة ؛ بأن يعقد مبحث واحد ، ويتكلم فيه تارة : عن الحكم العقلي ، وأخرى : عن الحكم اللفظي بأن يقال في مسألة الاجتماع : يجوز الاجتماع عقلا أو لا يجوز.

وأما لفظا فيدل على الفساد أو لا يدل عليه. والأول : بحسب حكم العقل. والثاني : بحسب حكم العرف. وهذا لا يوجب عقد مسألتين ؛ فإن الاختلاف بين العقل والعرف لا يقتضي عقد مسألتين.

(٣) هذا إشكال على نفس الفرق المذكور ولو بعد تسليم كونه فارقا ومصححا لعقد مسألتين. وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية» ، ج ٣ ، ص ٢٠ ـ : أن النزاع في مسألة

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

النهي في العبادة لا يختص بدلالة اللفظ ؛ ـ لما سيأتي إن شاء الله تعالى من عدم اختصاصه بها ـ بل يجري في غيرها أيضا ، فيقال مثلا : هل الحرمة المستفادة من الإجماع والضرورة تقتضي فساد المحرم أم لا؟ بأن مطلق الحرمة ـ على القول بالفساد ـ ينافي العبادية ولو لم يكن الدال على الحرمة لفظا.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان محل النزاع مع ما في المسألة من الأقوال.

وأما محل النزاع فهو : ما إذا كان ما تعلق به الأمر والنهي واحدا ذا وجهين ، ومعنونا بعنوانين ـ كالصلاة والغصب ـ بأحدهما تعلق الأمر ، وبالآخر تعلق النهي ، فإذا صلّى المكلف في الدار المغصوبة ؛ يقع الكلام في جواز الأمر والنهي في هذه الحالة.

وهناك ثلاثة أقوال :

قول : بالجواز ؛ فيكون العمل محكوما بحكمين لتعدد المجمع ، وكونه موجودا بوجودين ؛ لأن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون.

وقول : بالامتناع ؛ فيكون المجمع محكوما بحكم واحد ـ وهو الوجوب أو الحرمة ـ لاتحاد المجمع ، وكونه موجودا بوجود واحد ؛ فإن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون.

وقول : بالجواز عقلا والامتناع عرفا ؛ لأن العقل يرى المجمع اثنين لتعدد العنوان والوجه ، ولكن بالنظر السطحي العرفي يكون المجمع واحدا ، فيستحيل اجتماع الأمر والنهي فيه.

٢ ـ المراد بالواحد في عنوان المسألة : ما لا يكون متعددا ، في مقابل ما يكون متعددا ؛ لا ما لا يكون كليا في مقابل ما يكون كليا ، فيشمل الواحد الشخصي ، والصنفي ، والنوعي ، والجنسي. ثم أن تكون الوحدة وصفا للواحد نفسه لا لمتعلقه.

وبعبارة أخرى : المراد بالواحد هو : الواحد وجودا ؛ كالصلاة المأمور بها ، والغصب المنهي عنه المتحدين في الوجود ، فالصلاة في الدار المغصوبة واحد مع الغصب وجودا ، ومصداق لعنوانين. وأما لو لم يكن المجمع مصداقا كذلك كان خارجا عن حريم هذه المسألة ؛ كالسجود لله الذي هو المأمور به ، وللصنم الذي هو المنهي عنه لعدم تصادقهما على السجود الخارجي ؛ لأن السجود لله تعالى مباين للسجود للصنم في الخارج ، والاتحاد من حيث المفهوم لا يجدي ؛ لأن المعتبر هو : الاتحاد من حيث المصداق المفقود

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

في المثال المذكور ، فبقيد الاتحاد في الوجود والمصداق خرج المثال المذكور لاختلاف المتعلقين فيه مصداقا.

٣ ـ الفرق بين مسألة الاجتماع ، ومسألة النهي في العبادة هو : أن الاختلاف بينهما باختلاف جهة البحث في كل من المسألتين ؛ فإن البحث في هذه المسألة عن أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون ، فلا يسري كل من الحكمين إلى متعلق الآخر ، أو لا يوجبه فيكون متعلق كل منهما واحدا؟ بخلاف مسألة النهي في العبادة ؛ فإن البحث فيها عن أن تعلق النهي بالعمل العبادي هل يقتضي فساده أم لا؟

فلا جهة جامعة بين جهتي البحث في المسألتين.

نعم ؛ لو بنى على الامتناع وتقديم جانب الحرمة ؛ كان المورد من صغريات تلك المسألة.

ثم ذكر المصنف فرقين آخرين :

أحدهما : ما في الفصول من : أن جهة الفرق هي الاختلاف الموضوعي بينهما ، فموضوع كل منهما غير موضوع الآخر ؛ فإن الموضوع في مسألة الاجتماع متعدد ؛ وذلك لتعلق الأمر بطبيعة مغايرة للطبيعة التي تعلق بها النهي.

هذا بخلاف مسألة النهي في العبادة ؛ فإن الموضوع فيها متحد حقيقة ، والتغاير إنما هو في الإطلاق والتقييد ، فتغاير الموضوع أوجب تعدد المسألة.

وناقشه المصنف : بأن اختلاف الموضوع لا يوجب تعدد المسألة مع وحدة الجهة ، ومع تعددها تعدد المسألة وإن اتحد الموضوع.

وثانيهما : ما ذكر من أن الفرق بينهما هو : كون البحث هنا عقليا ، وفي تلك المسألة عن دلالة اللفظ فيكون لفظيا.

وناقشه المصنف : بأن هذا الاختلاف لا يوجب عقد مسألتين ؛ لأنه تفصيل في المسألة الواحدة كما عرفت آنفا.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ المراد بالواحد في عنوان المسألة هو : مطلق ما كان ذا وجهين ، ومعنونا بعنوانين ؛ سواء كان كليا ، أو جزئيا.

٢ ـ الفرق بين المسألتين إنما هو باختلاف جهة البحث ؛ فإن البحث في مسألة الاجتماع عن أن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أم لا؟ وفي مسألة النهي في العبادة يكون البحث عن دلالة النهي على الفساد ، وعدم دلالته عليه.

٣٤٩

الثالث (١) : أنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق الاستنباط كانت

______________________________________________________

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو : إثبات كون مسألة الاجتماع من المسائل الأصولية ، وأن ذكرها في علم الأصول ليس استطراديا.

توضيح كون هذه المسألة أصولية يتوقف على مقدمة وهي : أن الضابط في كون المسألة أصولية : أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي ؛ ولو باعتبار أحد طرفيها من دون ضم كبرى مسألة أخرى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن نتيجة هذه المسألة تقع في طريق الاستنباط على كلا القولين ؛ أعني : جواز الاجتماع وامتناعه.

بيان ذلك : أنه إذا قلنا : بجواز الاجتماع عقلا فيستنبط : صحة الصلاة في الدار المغصوبة ، ويستنبط : عدم وجوب اعادتها ثانيا ، وإذا قلنا : بالامتناع فيستنبط منه : فساد الصلاة فيها ، ووجوب إعادتها ثانيا.

فالمتحصل : أن نتيجة هذه المسألة تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي ، كما عرفت فلا وجه لجعلها من المسائل الكلامية أو الفقهية ، أو من المبادئ الأحكامية ، أو من المبادئ التصديقية ؛ «وإن كان فيها جهاتها» أي : وإن كان في مسألة الاجتماع جهات تلك المسائل.

أما كونها من المسائل الكلامية : فلأن البحث في علم الكلام يكون عن أحوال المبدأ والمعاد ، والمسائل الكلامية مسائل عقلية ، ومن الظاهر : أن البحث في هذه المسألة عن استحالة اجتماع الأمر والنهي وإمكانه يكون عقليا ، فيناسب المسائل الكلامية. هذا أولا.

وثانيا : أن النزاع في هذه المسألة يكون عن فعله «عزوجل» وأنه هل يجوز للحكيم تعالى أن يأمر بشيء لجهة وينهى عنه لجهة أخرى ، أم لا يجوز عليه سبحانه؟ فيكون البحث عن أحوال المبدأ ، وعما يصح أو يمتنع على الله تعالى ، فهذه المسألة من المسائل الكلامية ؛ لأن المسألة الكلامية هي التي يبحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد ، وما يصح أو يمتنع على الله تعالى.

أما كونها من المسائل الفقهية : فلأن البحث فيها : عن عوارض فعل المكلف وهي : صحة الصلاة في المكان المغصوب ، وفسادها فيه ، فينطبق ضابط المسائل الفقهية عليها ، لأن البحث في علم الفقه إنما هو عن عوارض أفعال المكلف.

وأما كونها من المبادئ الأحكامية ـ وهي ما يكون البحث فيه عن حال الحكم ؛ كالبحث عن أن وجوب شيء هل يستلزم وجوب مقدمته أو حرمة ضده أم لا؟ ـ : فلأن

٣٥٠

المسألة من المسائل الأصولية ، لا من مبادئها الأحكامية ، ولا التصديقية ، ولا من المسائل الكلامية ، ولا من المسائل الفرعية ، وإن كانت فيها جهاتها كما لا يخفى ،

______________________________________________________

البحث في هذه المسألة في الحقيقة بحث عن حال الحكم من حيث إمكان اجتماع اثنين منها في شيء وعدم إمكانه. وعليه فتكون المسألة من المبادئ الأحكامية كما هو الحال في بقية مباحث الاستلزامات العقلية.

أما كونها من المبادئ التصديقة للمسألة الأصولية : فلأن المبادئ التصديقية لمسائل علم الأصول هي التي تبتني عليها مسائله ، والمراد بالمسألة الأصولية هنا هو : التعارض والتزاحم ، وهما في المقام مبنيان على ان تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون أو لا يوجبه؟

وعلى الأول : يجوز الاجتماع ، وتدخل هذه المسألة في صغريات مسألة التزاحم ؛ لعدم التعارض بين الأمر والنهي بعد تعدد متعلقهما.

وعلى الثاني : يمتنع الاجتماع ، وتدخل هذه المسألة في صغريات مسألة التعارض ؛ لوحدة المتعلق.

ومن هنا يعلم : وجه كون هذه المسألة من المبادئ التصديقية للمسألة الأصولية ؛ لأن إحراز كون الاجتماع من باب التزاحم أو التعارض يتوقف على وحدة المتعلق ، وتعدده في المجمع. فعلى الأول : من باب التعارض المستلزم لامتناع الاجتماع. وعلى الثاني : من باب التزاحم المستلزم لجواز الاجتماع.

وأما بيان الفرق بين التعارض والتزاحم فسيأتي في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله.

وكيف كان ؛ فمسألة الاجتماع تكون من المسائل الأصولية ؛ إذ يكفي في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق الاستنباط ، وتعيين الوظيفة بأحد طرفيها وإن كانت لا تقع فيه بطرفها الآخر ، وإلّا لخرج كثير من المسائل عن كونه مسألة أصولية ؛ مثل : مسألة حجية خبر الواحد ؛ فإنها لا تقع في طريق الاستنباط على القول بعدم حجيته ، وكذا حجية خبر الواحد ؛ فإنها لا تقع في طريق الاستنباط على القول بعدم حجيته ، وكذا حجية ظاهر الكتاب على القول بعدم حجيته ؛ مع إنه لا ريب في كونهما من المسائل الأصولية ، فمتى أمكن كون المسألة أصولية لا وجه لأن يكون ذكرها استطراديا ، ولا يلتفت الأصولي إلى الجهات الأخر فيها كمسألتنا هذه ؛ حيث تكون فيها جهات المسائل الكلامية والفقهية وغيرهما ، إذ قد عرفت في أول الكتاب تداخل علمين أو علوم في المسألة الواحدة ؛ بأن تكون فيها جهات من البحث بحيث تدخل بلحاظها في مسائل أكثر من علم.

٣٥١

ضرورة : (١) أن مجرد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أخرى ، يمكن عقدها معها من المسائل (٢) ، إذ لا مجال حينئذ (٣) لتوهم عقدها من غيرها في الأصول ، وإن عقدت (٤) كلامية في الكلام وصح عقدها فرعية أو غيرها بلا كلام ، وقد عرفت في أول الكتاب : أنه لا ضير في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين ؛ لانطباق جهتين عامتين على تلك الجهة ؛ كانت (٥) بإحداهما من مسائل علم ، وبالأخرى من آخر ، فتذكر.

الرابع : أنه قد ظهر (٦) من مطاوي ما ذكرناه : أن المسألة عقلية ، ولا اختصاص

______________________________________________________

(١) تعليل لكون هذه المسألة من المسائل الأصولية ، وحاصله : أن وجود سائر الجهات في هذه المسألة ـ كما عرفت ـ لا يوجب كونها من تلك المسائل ، مع وجود جهة تدرجها في المسائل الأصولية ، وتصحح عقدها أصولية ، وعلى هذا فلا وجه لجعلها من غير المسائل الأصولية ، كما لا مرجح لعدّها من المسائل غير الأصولية.

(٢) أي : من المسائل الأصولية كما عرفت توضيح ذلك.

(٣) يعني : حين وجود الجهة الأصولية ، بمعنى : أنه مع وجود الجهة الأصولية فيها ؛ المصححة لعدّها من مسائل علم الأصول ؛ لا وجه لجعلها من غير مسائله ، ولا لدعوى : أن ذكرها في علم الأصول استطراد ، إذ لا معنى للاستطراد مع كونها من مسائله.

وبعبارة أخرى : لا وجه لتوهم عقد هذه المسألة في علم الأصول ، مع عدم كونها من مسائله.

(٤) يعني : مع الجهة الأصولية في مسألة الاجتماع تعدّ من مسائلها ؛ وإن عقدت أيضا من المسائل الكلامية والفرعية وغيرهما ، لوجود جهاتها في مسألتنا ، فالأولى : إضافة «أيضا» بعد «عقدت» كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٢٥».

(٥) يعني : كانت المسألة الواحدة مندرجة في مسائل علمين ؛ لانطباق جهتين عامتين عليها ، وهما : جهة البحث عن فعل المبدأ المبحوث عنها في علم الكلام ، وجهة الوقوع في طريق الاستنباط المبحوث عنها في علم الأصول ، ولا ضير في تداخل علمين أو أكثر في مسألة واحدة ، كما عرفت في أول الكتاب.

في كون المسألة عقلية لا لفظية

(٦) يعني : قد ظهر عما سبق في صدر الأمر الثاني من : أن النزاع في المسألة هو في سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر وعدمها ، فعلى الأول : يحكم العقل باستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ؛ لاتحاد المجمع في مورد التصادق

٣٥٢

للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الإيجاب والتحريم باللفظ ، كما ربما يوهمه (١) التعبير بالأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول ؛ إلّا أنه لكون الدلالة عليهما غالبا بهما ، كما هو أوضح من أن يخفى.

______________________________________________________

والاجتماع. وعلى الثاني : يحكم بإمكان اجتماعهما فيه ؛ لتعدد المجمع في مورد التصادق والاجتماع. ومن الواضح : أن الحاكم باستحالة الاجتماع أو بإمكانه هو العقل ، فالمسألة عقلية ، ولا ترتبط بعالم اللفظ أصلا.

(١) أي : يوهم اختصاص النزاع باللفظ : «التعبير بالأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول :»

وقد استدل لتوهم كون المسألة لفظية بوجهين :

الأول : تعبير الأصوليين في المقام بلفظ الأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول وهما : يدلان على الوجوب والحرمة ، بمعنى : أن الوجوب مدلول للفظ صيغة الأمر ، والحرمة مدلول للفظ صيغة النهي ، فهذه المسألة بهذا الاعتبار لفظية ؛ إذ الوجوب والحرمة مدلولان للفظ الأمر والنهي.

الثاني : تفصيل بعض الأعلام في هذه المسألة بين العقل والعرف حيث قال : بالجواز عقلا ، وبالامتناع عرفا ، ومن المعلوم : أن العرف إنما يحكم بالامتناع بعد إلقاء لفظ الأمر والنهي عليه ، فالامتناع العرفي مما يدل عليه اللفظ بواسطة الملازمة العرفية ، بين دلالة لفظ كل من الأمر والنهي على الوجوب والحرمة بالمطابقة ، وبين دلالة كل منهما على نفي الوجوب والحرمة بالالتزام ، ولازم ذلك : امتناع اجتماع الحكمين في المجمع ، فمرجع الامتناع العرفي إلى دلالة اللفظ.

هذا بخلاف الحكم بالجواز عقلا ؛ لأن المراد بالجواز العقلي : حكمه بالجواز لكون العنوانين موجبين لتعدد الموضوع ، ولا ملازمة عنده بين وجوب أحدهما ، وعدم حرمة الآخر.

والمتحصل : أن التفصيل بالجواز عقلا ، والامتناع عرفا بمعنى : أن اللفظ يدل عرفا على الامتناع ، وهذه الدلالة تكشف عن كون النزاع في دلالة الأمر والنهي على الجواز وعدمه ، وهما ظاهران في الطلب بالقول ، فتكون المسألة لفظية ؛ إذ لو كانت عقلية محضة لم يكن وجه للامتناع العرفي ؛ الذي مرجعه إلى ظهور اللفظ في الامتناع.

وقد أجاب المصنف عن كلا الوجهين.

وحاصل ما أفاده في الجواب عن الوجه الأول هو : أن تعبيرهم بلفظ الأمر والنهي في العنوان ؛ إنما يكون لأجل استفادة الوجوب والحرمة غالبا من لفظ الأمر والنهي ، ولا

٣٥٣

وذهاب البعض إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ، ليس بمعنى دلالة اللفظ ؛ بل بدعوى : أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنين ، وأنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين ، وإلا (١) فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي ، غاية (٢) الأمر دعوى :

دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

يكون هذا لأجل الحصر والانحصار كما أشار إلى توجيه التعبير المذكور بقوله : «إلّا إنه لكون الدلالة عليهما غالبا».

وحاصل التوجيه : أن غلبة كون الدال على الأمر والنهي هو اللفظ ؛ دعت إلى التعبير عن الوجوب والحرمة بالأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول ، ولعل هذه الغلبة أوجبت ذكرها في مباحث الألفاظ.

وقد أشار إلى الجواب عن الوجه الثاني بقوله : «وذهاب البعض إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا».

وحاصل الجواب عن الوجه الثاني : هو أن ذهاب البعض كالمحقق الأردبيلي «قدس‌سره» إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ؛ ليس بمعنى دلالة لفظ الأمر والنهي على الامتناع ؛ حتى يكون من أكبر الشواهد على كون هذا المسألة لفظية ، بل معنى هذا التفصيل : أن الواحد المعنون بعنوانين اثنان بالنظر الدقيق العقلي ، وواحد بالنظر المسامحي العرفي ، فلهذا يحكم العقل بجواز الاجتماع ، والعرف بامتناعه. فكون هذه المسألة لفظية مرفوض عند المصنف ؛ إذ لا شهادة في المعنى المذكور على كون المسألة لفظية لا عقلية.

(١) أي : وإن لم يكن مراد المفصل ما ذكرناه من الامتناع العرفي ؛ الذي مرجعه إلى كون الواحد ذي الوجهين واحدا بنظر العرف ؛ لم يكن للامتناع العرفي معنى محصل ؛ لأن امتناع اجتماع الضدين حكم عقلي ، فلا معنى لجوازه عقلا ، وامتناعه عرفا.

(٢) يعني : يمكن أن يكون الامتناع العرفي بمعنى : دلالة لفظ الأمر والنهي على عدم وقوع الاجتماع بعد اختيار جواز الاجتماع عقلا ، ولا يكون الامتناع العرفي بمعنى عدم جواز الاجتماع بعد حكم العقل بالجواز ، كي يلزم الانفكاك بين حكم العقل وحكم العرف.

وكيف كان ؛ فبعد توجيه الامتناع العرفي ـ بكون الواحد ذي الوجهين واحدا بنظر العرف ؛ غير جائز عقلا اجتماع الحكمين فيه ـ لا بدّ من التصرف في قول المفصّل : ـ بامتناع الاجتماع عرفا ـ بأن يقال : إن اللفظ يدل على عدم الوقوع بعد اختيار الجواز عقلا ، لا أنه يدل على الامتناع حتى يتوهم كون المسألة لفظية.

فنتيجة البحث : أنه لا يشهد هذا التفصيل على كون المسألة لفظية محضة.

٣٥٤

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ أن مسألة اجتماع الأمر والنهي من المسائل الأصولية ؛ لوجود ضابط المسألة الأصولية فيها ، فإن الضابط في كون المسألة أصولية : أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي. ونتيجة هذه المسألة تقع في طريق الاستنباط ؛ إذ تستنبط صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بجواز الاجتماع ، وفسادها فيها على القول بالامتناع ، وتقديم جانب الحرمة على الوجوب.

فلا يكون ذكرها في علم الأصول استطراديا.

٢ ـ أن هذه المسألة من المسائل العقلية ، لا من المسائل اللفظية ؛ لأن النزاع في سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر وعدمها ، فالعقل هو الحاكم بالاستحالة على الأول ، وعلى الجواز على الثاني ، فتكون المسألة عقلية ، ولا ترتبط بعالم اللفظ أصلا.

وقد يتوهم : كون المسألة لفظية لأحد وجهين :

الأول : تعبير الأصوليين في المقام بلفظ الأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول.

الثاني : تفصيل بعض الأعلام كالمقدس الأردبيلي «قدس‌سره» في هذه المسألة بين العقل والعرف ، فقال : بالامتناع عرفا ، والجواز عقلا ؛ بمعنى : أن اللفظ يدل عرفا على الامتناع ، والمراد بالجواز العقلي هو : حكمه بالجواز ، لكون العنوانين موجبين لتعدد الموضوع.

وقد أجاب المصنف عن الأول : بأن تعبيرهم ـ في العنوان بالأمر والنهي ـ إنما يكون لأجل استفادة الوجوب والحرمة غالبا من اللفظ ، ولا يكون لأجل الحصر والانحصار.

وعن الثاني : بأن ذهاب البعض إلى الجواز عقلا ، والامتناع عرفا ليس بمعنى دلالة لفظ الأمر والنهي على الامتناع ؛ حتى يكون دليلا على كون المسألة لفظية ؛ بل معنى هذا التفصيل : أن الواحد المعنون بعنوانين اثنان بالنظر الدقيق العقلي ، وواحد بالنظر المسامحي العرفي ، فلذا يحكم العقل بالجواز ، والعرف بالامتناع.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ كون المسألة أصولية ؛ لا كلامية ، ولا فقهية ولا غيرهما ، ولو وجدت فيها جهاتها.

٢ ـ كون المسألة عقلية لا لفظية.

٣٥٥

الخامس (١) : لا يخفى : أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعم جميع أقسام الإيجاب والتحريم ، كما هو قضية إطلاق لفظ الأمر والنهي.

______________________________________________________

في عموم ملاك النزاع لجميع أقسام الإيجاب والتحريم

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو : بيان تعميم محل النزاع في مسألة الاجتماع لمطلق الوجوب والحرمة ؛ سواء كانا نفسيين ، أو غيريين ، أو مختلفين ، أو كانا عينيين ، أو كفائيين ، أو مختلفين. أو كانا تعيينيين ، أو تخييريين. أو كانا تعبديين ، أو توصليين أو مختلفين ، بل ملاك النزاع ـ وهو : سراية كل من الوجوب والحرمة إلى متعلق الآخر وعدمها ـ يعم الجميع حتى الأمر والنهي غير الإلزاميين.

وزعم صاحب الفصول : اختصاص النزاع بالوجوب والحرمة النفسيين التعيينيين العينيين لوجهين :

الوجه الأول : هو الانصراف يعني : ينصرف الذهن من لفظ الأمر والنهي في العنوان إلى النفسيين التعيينيين العينيين ، كما ينصرف الذهن من إطلاق لفظ الماء إلى الماء البارد الصافي. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «ودعوى الانصراف ...» إلخ.

وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه : بما حاصله : من أن دعوى انصراف الأمر والنهي «إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما». أي : في مادتي الأمر والنهي ؛ «غير خالية عن الاعتساف».

وجه الاعتساف : أن منشأ الانصراف : إما هو غلبة الوجود ، وإما كثرة الاستعمال وكلاهما باطل. أما بطلان الأولى : ـ أعني : غلبة الوجود ـ لمنعها صغرى وكبرى.

أما صغرى : فلأن الوجوب بمعنى كونه نفسيا تعيينيا عينيا لا يكون غالبا من حيث الوجود في الشريعة المقدسة ؛ لكثرة وجود خلافها فيها أيضا.

وأما كبرى : فلأن الغلبة من حيث الوجود ـ على فرض تسليمها ـ لا توجب الانصراف عند إطلاق مادة الأمر ؛ لأن الموجب للانصراف هو : كثرة الاستعمال لا غلبة الوجود كما قرر في محله.

وأما بطلان الثانية : ـ أعني : كثرة الاستعمال ـ فلمنعها أيضا صغرى وكبرى. أما منعها صغرى فلكثرة استعمال لفظ الأمر في الوجوب الغيري والكفائي والتخييري شرعا.

وأما منعها كبرى : فهي وإن كانت موجبة للانصراف ؛ إلّا إنها لا تنفع في خصوص المقام ؛ لقيام القرينة العقلية على الخلاف ، وهي عموم الملاك وتضاد مطلق الوجوب مع مطلق الحرمة.

٣٥٦

ودعوى : الانصراف إلى النفسيين التعيينيين العينيين في مادتهما غير خالية عن الاعتساف. وإن سلم في صيغتهما ، مع إنه فيها (١) ممنوع.

______________________________________________________

والمتحصل : أنّنا لا نسلّم الانصراف في مادتي الأمر والنهي «وإن سلم في صيغتهما». أي : وإن سلّم الانصراف في صيغتي الأمر والنهي ؛ بأن يقال : إن صيغة «افعل» حيث يطلق ؛ فالظاهر : منه النفسي التعييني العيني ؛ كما تقدم في مباحث صيغة الأمر حيث قال المصنف «قدس‌سره» : «السادس : قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا عينيا تعيينيا» ، وكذا صيغة «لا تفعل».

(١) أي : مع أن الانصراف في الصيغة ممنوع أيضا ؛ إن أريد به التبادر الوضعي الذي يجدي في تقييد الإطلاقات ؛ لانتفاء التبادر الوضعي قطعا مع وجود القرينة العقلية على العموم. هذا تمام الكلام في الجواب عن الوجه الأول.

الوجه الثاني : هو الإطلاق ؛ بمعنى : أن مقتضى إطلاق لفظ الأمر والنهي هو الوجوب والحرمة النفسيين التعيينيين العينيين ، فهذا الإطلاق يدل على كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ؛ لا غيريا ولا تخييريا ولا كفائيا ، وكذا جانب الحرمة. وقد أشار إليه المصنف بقوله : «نعم لا يبعد ...» إلخ.

فقوله : «نعم» استدراك على منع الانصراف المذكور في الوجه الأول.

وحاصله : أنه يمكن دعوى انصراف النفسية والتعيينية والعينية ، وانسباقها من الإطلاق بمقدمات الحكمة ؛ لا من التبادر الوضعي الذي منعناه في الجواب عن الانصراف. وتقريب : هذه الدعوى : أن غير النفسية والتعيينية والعينيّة يحتاج ثبوتا وإثباتا إلى مئونة زائدة ، فعدم بيان ذلك كاشف عن عدم إرادة غيرها ، كما عرفت في بحث الأوامر.

وحاصل جواب المصنف عن هذا الوجه الثاني : أن مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة ، وإن كان ذلك ، إلّا إن مقدمات الحكمة لا تجري في المقام ؛ لأن جريان مقدمات الحكمة المنتجة لإرادة العينية والتعيينية والنفسية في المقام ؛ إنما يتم فيما لو لم تكن هناك قرينة عقلية ، إذ من مقدمات الحكمة هو : عدم البيان ، والقرينة العقلية ـ وهي : منافاة الوجوب والحرمة بأنحائهما ـ بيان لعدم الإطلاق ، لأن المضادة بين مطلق الوجوب والحرمة مانعة عن إرادة الإطلاق ؛ المقتضي لإرادة النفسية وأختيها في المقام.

والمتحصل : أن الإطلاق محتاج إلى مقدمات الحكمة الغير الجارية في المقام ؛ لأن من مقدمات الحكمة عدم القرينة على خلاف الإطلاق ، وفي المقام قرينة عقلية للعموم ؛ لما عرفت من : عموم الملاك لجميع الأقسام ، فإن ملاك هذا النزاع هو استحالة اجتماع المتضادين في واحد ذي وجهين ، أو جوازه ، وهذا لا يختص بقسم دون قسم من

٣٥٧

نعم ؛ لا يبعد دعوى : الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدمات الحكمة الغير الجارية في المقام ؛ لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام ، وكذا ما وقع في البين من النقض والإبرام.

______________________________________________________

الوجوب والحرمة ، «وكذا ما وقع في البين من النقض والإبرام» لا يختص بقسم دون قسم.

وكيف كان ؛ فالمانع من انعقاد الإطلاق بمقدمات الحكمة أمران : الأول : عموم الملاك. والثاني : عموم النقض والإبرام الواقعين في كلام الأصوليين ، وهو يشمل جميع أقسامهما ، فهما قرينتان على خلاف الإطلاق.

وفي «منتهى الدراية» ج ٣ ، ص ٣٠ ـ في شرح قوله : «وكذا ما وقع في البين من النقض والإبرام» ـ ما هذا لفظه : «يعني : وكذا لا يخلو عن التعسف ما قيل : من عدم تصوير اجتماع الوجوب والتحريم التخييريين ، لأجل عدم جواز الحرام التخييري كما عن المعتزلة ؛ استنادا إلى استحالة الحرام التخييري ، حيث إن النهي عن شيئين تخييرا يرجع إلى النهي عن أحدهما ، وهو يقتضي حرمتهما معا ؛ لأن الإتيان بكل واحد منهما إيجاد لمفهوم أحدهما ، فيكون كلاهما حراما ، ومن المعلوم : استحالة تعلق النهي بواحد منهما فقط ، وتعلقه بكليهما في آن واحد».

وحاصل الكلام في الجواب ـ عما قيل من عدم تصوير اجتماع الوجوب والتحريم التخييريين ـ هو : أن ما قيل في وجه استحالة الحرام التخييري من : «استحالة تعلق النهي بواحد منهما فقط ، وتعلقه بكليهما في آن واحد» مردود ، لأن النهي عن شيئين تخييرا يرجع إلى النهي عن مفهوم أحدهما ، وهو ليس بمستحيل أصلا.

وكيف كان ؛ فهناك بحث عن جريان النزاع في الواجب والحرام التخييريين ، وقد ذكر المصنف مثالين لكلا القسمين ؛ لأن الحق عند المصنف هو جريان النزاع في كلا القسمين.

ومثال الوجوب التخييري : ما أشار إليه بقوله : «إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا بينهما» ؛ بأن يكون الواجب أحدهما تخييرا.

ومثال الحرام التخييري : ما أشار إليه بقوله : «وكذلك إذا نهي عن التصرف في الدار ، والمجالسة مع الأغيار» ؛ بأن يكون الحرام أحدهما تخييرا.

وحينئذ إذا صلى في الدار ، لزم اجتماع الواجب والحرام التخييريين في شيء واحد ؛ وهو التصرف في الدار بالصلاة ، فإن هذا التصرف باعتبار الصلاتية عدل للواجب التخييري ، وباعتبار الغصبية عدل للحرام التخييري ، فلا فرق بين هذا وبين اجتماع

٣٥٨

مثلا : إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا بينهما ، وكذلك نهي عن التصرف في الدار والمجالسة مع الأغيار ، فصلى فيها مع مجالستهم ؛ كان حال الصلاة فيها. حالها ، كما أمر بها تعيينا ، ونهي عن التصرف فيها ، كذلك في جريان النزاع في الجواز والامتناع ، ومجيء أدلة الطرفين ، وما وقع من النقض والإبرام في البين ، فتفطن.

السادس : (١) أنه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال ، بل ربما قيل : بأن الإطلاق إنما هو للاتكال على الوضوح ، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال.

______________________________________________________

الواجب والحرام التعيينيين في جريان النزاع ؛ كالأمر بالصلاة تعيينا ، والنهي عنها في الدار المغصوبة كذلك ، كما أشار إليه بقوله : «كان حال الصلاة فيها حالها ؛ كما إذا أمر بها تعيينا ، ونهي عن التصرف فيها كذلك» ؛ يعني : حال كون الصلاة واجبة بالوجوب التخييري ؛ كحال كونها واجبة بالوجوب التعييني في جريان النزاع.

والمتحصل : أنه يجري النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين وامتناعه فيه في الواجب والحرام التخييريين أيضا ، وتجيء أدلة المجوزين والمانعين في هذا المورد ، ويجيء النقض والإبرام هنا ، فتفطن ولا تغفل ، إذ لا وجه لاختصاص النزاع بالواجب النفسي العيني ؛ بل يجري في التعييني أيضا.

في اعتبار المندوحة في محل النزاع

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو : التنبيه على ما ذكره بعض من : اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع.

توضيح اعتبار قيد المندوحة : يتوقف على مقدمة وهي : أن المندوحة هي : كون المكلف في سعة وفسحة ؛ بأن يكون له مفرّ وطريق لامتثال الصلاة في غير الدار المغصوبة ؛ بأن لم يكن المكان منحصرا في الغصب ، بأن كان له مكان مباح يتمكن من الصلاة فيه ؛ في مقابل من لا يتمكن من الإتيان بها إلّا في الغصب هذا أولا.

وثانيا : أن الخلاف في جواز الاجتماع وعدمه يختص بصورة قدرة المكلف على موافقة الأمر والنهي ؛ بأن يتمكن من فعل الصلاة في غير المكان المغصوب ، وذلك لأن القدرة من الشرائط العامة لا بد منها في التكاليف الشرعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد يتوهم اعتبار قيد المندوحة بالمعنى المذكور في محل النزاع ؛ إذ مع عدم المندوحة في مقام الامتثال لا إشكال في الامتناع ، ولا خلاف أصلا ، فلا بدّ من القول بالامتناع ؛ لئلا يلزم التكليف بالمحال ، لأن الأمر بالصلاة بدون المندوحة تكليف بما لا يقدر المكلف على امتثاله ؛ لعدم تمكنه من الصلاة الصحيحة مع

٣٥٩

ولكن التحقيق مع ذلك : (١) عدم اعتبارها فيما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال ، وهو اجتماع الحكمين المتضادين ، وعدم الجدوى في كون موردهما موجها بوجهين في دفع «رفع» غائلة اجتماع الضدين ، أو عدم لزومه ، وأن تعدد الوجه يجدي في دفعها ، ولا يتفاوت في ذلك أصلا وجود المندوحة وعدمها ، ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.

______________________________________________________

انحصار المكان في الغصب ، كما أشار إليه بقوله : «وبدونها يلزم التكليف بالمحال» لعدم قدرة المكلف على الفعل والترك معا.

فالمتحصل : أن محل الخلاف بين الأصوليين في جواز الاجتماع ، وامتناعه إنما هو في المورد الذي يكون المكلف قادرا في مقام الامتثال على الإتيان بالصلاة خارج الدار المغصوبة ؛ بأن دخلها بسوء اختياره لا بالاضطرار.

وأما إذا لم تكن المندوحة للمكلف ، وانحصر المكان في الدار المغصوبة ؛ بأن دخلها بالاضطرار ؛ فلا بدّ من القول بالامتناع بلا خلاف أصلا ، وإلّا لزم التكليف بالمحال ؛ لأنه لا يتمكن من إتيان الصلاة الصحيحة في الدار المغصوبة ، بحيث يوجب قربا للمولى ، فيكون هذا نظير الأمر بالطيران في كونه تكليفا بغير المقدور ؛ وهو باطل عند العدلية.

ثم الذي أخذ قيد المندوحة صريحا في محل النزاع هو : صاحب الفصول حيث قال ما هذا لفظه : «وإن اختلفت الجهتان ، وكان للمكلف مندوحة في الامتثال فهو موضع النزاع ، ومن ترك قيد الأخير فقد اتكل على الوضوح لظهور اعتباره». «الفصول الغروية ، ص ١٢٤».

(١) أي : مع لزوم التكليف بالمحال لو لا المندوحة «عدم اعتبارها» يعني : عدم اعتبار المندوحة «فيما هو المهم في محل النزاع» ؛ إذ لا أثر لها فيما هو المهم ، فإن المهم في هذا الباب هو أنه هل يرتفع التضاد بين الأمر والنهي بتعدد الجهة أم لا؟

وبعبارة أخرى : أن المهم في المقام هو : بيان أنه هل يلزم اجتماع الحكمين المتضادين الذي هو محال ، أو لا يلزم المحال؟

وعمدته معرفة أن تعدد الوجه هل يجدي في تعدد ذي الوجه فلا يلزم المحال ، أو لا يجدي فيلزم المحال؟

ومن الواضح : أن هذا المعنى لا يختلف الحال فيه بين وجود المندوحة ، وعدم وجودها ، نعم ؛ وجود المندوحة دخيل في الحكم الفعلي بالجواز عند من يرى امتناع التكليف بالمحال.

٣٦٠