دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر به في خارج الوقت» هل يدل الأمر بالموقت على وجوب الفعل خارج الوقت ـ على نحو تعدد المطلوب ـ أو يدل على عدم الوجوب ، أو لا دلالة له على شيء منهما؟

ظاهر المصنف هو : التفصيل بين كون التوقيت بدليل متصل ـ فلا يدل دليل التوقيت على الوجوب بعد خروج الوقت ـ وبين كون دليل التوقيت منفصلا.

وأمّا إذا كان التوقيت بدليل منفصل : فلا يخلو عن صور أربع :

١ ـ إطلاق كلّ من دليلي الواجب والتقييد ، فيؤخذ بدليل التقييد لحكومته على إطلاق دليل الواجب ، ومقتضاه : عدم الوجوب بعد الوقت ، فيكون من باب وحدة المطلوب.

٢ ـ عدم إطلاق دليليهما. والمرجع في هذه الصورة هو : أصل البراءة عن وجوب القضاء في خارج الوقت.

٣ ـ إطلاق دليل الواجب دون دليل التوقيت.

٤ ـ عكس هذه الصورة. والمرجع في هاتين الصورتين هو : الإطلاق ، ففي الأولى :

يحكم بالوجوب بعد انقضاء الوقت. وفي الثانية : عدم الوجوب بعده.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ إمكان الواجب الموسع.

٢ ـ التخيير بين الأفراد الطولية عقلي.

٣ ـ لا دلالة للأمر بالموقت على الأمر به في خارج الوقت ، إلّا في صورة كون دليل التوقيت منفصلا ، وكان لدليل الواجب إطلاق دون دليل التوقيت.

٣٢١
٣٢٢

فصل

الأمر بالأمر بشيء ، أمر به (١) لو كان الغرض حصوله ، ولم يكن له غرض في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره به ، كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر أو

______________________________________________________

الأمر بالأمر

(١) هل الأمر بالأمر بشيء أمر بذلك الشيء أم لا؟ فيه قولان : بيان محل النزاع : إذا أمر المولى عبده زيدا بأن يأمر عمروا بشيء ؛ كالصلاة مثلا ، فهل يكون عمرو مأمورا للمولى ـ فإذا خالف عدّ عاصيا لأمره ، فيكون الأمر بالأمر بشيء أمرا به ـ أم لا؟ بأن يكون عمرو مأمورا لزيد ، بأن يكون لأمر زيد موضوعية وليس له طريقية قولان : نسب الأول منهما : إلى بعض المتأخرين. والثاني : إلى بعض المحققين. هذا مجمل الكلام في المقام.

ولكن ظاهر المصنف هو : التفصيل في مقام الثبوت ، وعدم تعيين أحد المحتملات في مقام الإثبات.

توضيح التفصيل : يتوقف على مقدمة وهي : أن أمر المولى إنما يتصور ـ بلحاظ الغرض ـ على أقسام :

الأول : أن يكون غرضه حصول ذلك الشيء في الخارج ، وكان الغرض من التوسيط هو مجرد تبليغ أمره إلى الشخص الثالث.

الثاني : أن يكون غرضه متعلقا بصرف أمر الواسطة ؛ من دون تعلقه بحصول ذلك الشيء بأن يريد امتحان الواسطة في أنه هل يطيع ويبلغ الأمر إلى الثالث أم لا؟

الثالث : أن يكون غرضه قد تعلق بحصول ذلك الشيء ؛ لكن بعد تعلق أمر الواسطة به ، بحيث يكون أمر الواسطة من قبيل شرط الوجوب.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الأمر بالأمر بشيء أمر به في الصورة الأولى ، ولا يكون أمرا به في الصورة الثانية ، والثالثة.

وأمّا عدم كون الأمر الأول أمرا بذلك الشيء في الصورة الثانية فواضح ؛ لعدم تعلق غرض المولى بفعل ذلك الشيء أصلا ، إذ تمام موضوع غرض المولى حينئذ هو نفس أمر الغير به.

٣٢٣

النهي. وأمّا لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذلك الشيء ؛ من دون تعلق غرضه به أو مع تعلق غرضه به لا مطلقا ، بل بعد تعلّق أمره به ، فلا يكون أمرا بذلك الشيء ، كما لا يخفى.

وقد انقدح بذلك : أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر ، على كونه أمرا به ، ولا بدّ في الدلالة عليه من قرينة عليه.

______________________________________________________

وأما عدم كونه أمرا به في الصورة الثالثة : فلأنه مأمور به بشرط أمر الواسطة به لا مطلقا.

فحاصل التفصيل : أن الأمر بالأمر بشيء أمر به إذا تعلق الغرض بحصول ذلك الشيء وليس أمرا به إذا لم يكن كذلك. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

أمّا مقام الإثبات فقد أشار إليه بقوله : «وقد انقدح بذلك» يعني بتطرق الاحتمالين أي : كون الأمر بالأمر بشيء أمرا به وعدم كونه أمرا به «أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر على كونه أمرا به». يعني : لا دلالة على تعيين أحد الاحتمالين المذكورين ، بل لا بدّ من قرينة خارجية عليه هذا هو رأي المصنف «قدس‌سره» ، ولكن مقتضى الظهور العرفي هو الاحتمال الأول ؛ لأن الغرض هو الفعل وليس الغرض من التوسيط إلّا التبليغ.

أمّا ثمرة ذلك فتظهر في مشروعية عبادة الصبي بمجرد ما ورد في بعض الروايات من قوله : «مروا صبيانكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين» فإنه على الأول : تثبت مشروعية عبادة الصبي.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ إذا أمر المولى عبده بأن يأمر آخر بشيء فهل أمره بالأمر بذلك الشيء أمر به أم لا؟ قولان ، ذهب المصنف إلى التفصيل بين ما إذا كان الغرض من الأمر بالأمر هو حصول ذلك الشيء ، وبين ما إذا كان الغرض يحصل بنفس الأمر من دون تعلق غرض بفعل ذلك الشيء أو مع تعلقه ، ولكن بقيد تعلق أمر الغير به ، فيكون الأمر بالأمر أمرا بالشيء في الصورة الأولى دون الصورة الثانية.

٢ ـ ثمرة المسألة تظهر في مشروعية عبادة الصبي ، فهي مشروعة وصحيحة على القول الأول دون القول الثاني.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو : التفصيل في مقام الثبوت وعدم الدليل على تعيين أحد القولين في مقام الإثبات.

٣٢٤

فصل

إذا ورد أمر بشيء (١) بعد الأمر به قبل امتثاله ، فهل يوجب تكرار ذلك الشيء ، أو تاكيد الأمر الأول ، والبعث الحاصل به ، قضية إطلاق المادة (٢) هو التأكيد ، فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة مرتين ؛ من دون أن يجيء تقييد لها في البين ، ولو (٣)

______________________________________________________

الأمر بعد الأمر

(١) قبل البحث ينبغي بيان محل النزاع وتوضيحه يحتاج إلى مقدمة قصيرة وهي :

أنه إذا ورد أمر بعد أمر آخر ؛ فتارة : يكون الأمر الثاني بعد امتثال الأمر الأول ، وأخرى : يكون قبل امتثاله.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو : ما إذا ورد الأمر الثاني قبل امتثال الأمر الأول ؛ كما إذا قال : «أعتق رقبة» ، ثم ورد أمر آخر وقال : «أعتق رقبة» ، فيقع الكلام في الأمر الثاني هل إنه يكون تأسيسا حتى يجب عتق رقبتين امتثالا لأمرين ، أم يكون تأكيدا للأمر الأول ، فلا يجب إلّا عتق رقبة واحدة؟ وأما لو ورد الأمر الثاني بعد الامتثال للأمر الأول فهو خارج عن محل النزاع ؛ لأنه يكون تأسيسا بلا خلاف أصلا.

(٢) يعني : مادة الأمر ؛ كالعتق في المثال المزبور. توضيحه : أن إطلاق مادة الأمر الثاني وعدم تقييدها بما ينوّعه ، أو يصنّفه أو يشخصه يقتضي اتحاد المادتين مفهوما ، وكون المطلوب بالأمر الثاني عين المطلوب بالأمر الأول ، فلا محالة يكون الطلب الثاني تأكيدا له ، إذ لو لا التأكيد يلزم اجتماع المثلين ؛ نظرا إلى مفاد الهيئة وهما الطلبان. هذا ما أشار إليه بقوله : «فإن الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق بطبيعة واحدة» ؛ لاستلزامه المحال وهو اجتماع المثلين ، ضرورة : أن صرف الوجود سواء كان من طبيعة الطلب أم طبيعة المطلوب لا يتثنّى ولا يتكرر ما لم ينضم إليها ما يكثّرها نوعا ، أو صنفا ، أو شخصا. كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٥٨٠».

(٣) كلمة ـ لو ـ وصلية ، كأن يقول : ـ بعد قوله : «أعتق رقبة» ـ «أعتق رقبة مرة أخرى» فمعنى العبارة : ولو كان التقييد بمثل مرة أخرى ، فإن كلمة أخرى مرّة توجب مغايرة متعلق الأمر الثاني لمتعلق الأمر الأول ؛ لأن متعلق الأول : هو الوجود الأول.

٣٢٥

كان بمثل مرة أخرى ، كي يكون متعلق كل منهما غير متعلق الآخر ، كما لا يخفى.

والمنساق (١) من إطلاق الهيئة وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده ، إلّا إن الظاهر : هو انسباق التأكيد عنها فيما كانت مسبوقة بمثلها ، ولم يذكر هناك سبب ، أو ذكر سبب واحد.

______________________________________________________

ومتعلق الثاني : هو الوجود الثاني. ومن المعلوم : تغاير المتعلقين حينئذ.

(١) دفع لتوهم التنافي بين إطلاق المادة الظاهر في التأكيد ، وإطلاق الهيئة الظاهر في التأسيس ؛ بتقريب : أن إطلاق الهيئة ظاهر في التأسيس ؛ لكشفه عن إرادة أخرى غير الإرادة المنكشفة بالأمر الأول ، ومقتضى التأسيس : امتثال آخر غير امتثال الأول ، فيكون إطلاق الهيئة منافيا لإطلاق المادة الظاهر في التأكيد.

وحاصل الدفع : أن هناك قرينة نوعية على التأكيد ؛ بحيث توجب رفع اليد عن ظهور إطلاق الهيئة في التأسيس.

توضيح ذلك : أنه إذا كان الأمر مسبوقا بمثله ولم يذكر سبب أصلا ؛ كما إذا ورد : «أعتق رقبة» ، ثم ورد أيضا : «أعتق رقبة» ، أو ذكر سبب واحد لهما معا ؛ كقوله : «إن أفطرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة» ، ففي هاتين الصورتين يكون الأمر الثاني مؤكدا للأول ، إذ لو حمل على التأسيس لزم التصرف في اللفظ بتقييد المادة في الثاني بما يوجب تكثّرها لتغاير المادة في الأمر الأول ؛ لئلا يلزم اجتماع المثلين.

هذا بخلاف ما إذا حمل على التأكيد ؛ إذ لا حاجة حينئذ إلى تصرف في اللفظ أصلا.

وأما لو ذكر سبب لأحدهما دون الآخر حمل على التأسيس ، ووجب التكرار ، كأن يقول : «أعتق رقبة» ثم يقول : «إذا أفطرت فأعتق رقبة» ، وكذا الحال إذا ذكر سببان كأن يقال : «إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة» ، فيجب التكرار ؛ لأنه مقتضى تعدد السبب.

فالمتحصل : أن هنا صورا ـ كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٥٨٢» ـ :

الأولى : أن لا يذكر سبب أصلا. وحكمها التأكيد.

الثانية : أن يذكر سبب واحد لهما معا ، وحكمها التأكيد أيضا.

الثالثة : أن يذكر سبب لأحدهما دون الآخر ، وحكمها التأسيس ، ووجوب التكرار.

الرابعة : أن يذكر سببان لهما كالظهار والإفطار لوجوب العتق ، وحكمها التأسيس ووجوب التكرار أيضا. هذا تمام الكلام في بحث الأوامر.

٣٢٦

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

وملخص البحث : أنه إذا ورد أمر بعد أمر آخر ، وقبل امتثال الأمر الأول فيقال : أنه لا ريب في أن الأمر بشيء في نفسه ظاهر في التأسيس ، وإنما الكلام والإشكال فيما إذا كان مسبوقا بأمر آخر ؛ فهل هو عندئذ ظاهر في التأسيس ، أو التأكيد؟ إذا كانا مطلقين ؛ بأن لم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد؟ ظاهر المصنف «قدس‌سره» هو الثاني ؛ أعني : التأكيد ؛ لئلا يلزم اجتماع المثلين نظرا إلى مفاد هيئتهما.

نعم ؛ ظاهر إطلاق الهيئة وإن كان هو التأسيس ؛ إلّا إنه لا بدّ من رفع إليه عن ذلك لأجل قرينة ؛ وهي كون الأمر الثاني مسبوقا بمثله ، ولم يذكر سبب أصلا أو ذكر سبب واحد ، فمقتضى ذلك : أن المطلوب بالأمر الثاني هو عين المطلوب بالأمر الأول.

وما ذكر إنما هو فيما إذا كان التكرار ممكنا ، وأمّا فيما لا يمكن نحو : «اقتل زيدا» ؛ فحمل الأمر الثاني على التأكيد أمر بديهي.

٣٢٧
٣٢٨

المقصد الثاني

في النواهي

٣٢٩
٣٣٠

فصل

الظاهر : أن النهي (١) بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادته وصيغته ، غير (٢) إن متعلق الطلب في أحدهما الوجود ، وفي الآخر العدم ، فيعتبر فيه (٣) ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلا.

______________________________________________________

النواهي

(١) النهي في اللغة : هو الزجر عن الشيء ؛ سواء كان بالقول أو بالفعل. وفي الاصطلاح : قد اختلفت عباراتهم في تعريفه ؛ قيل : النهي هو قول القائل لمن دونه لا تفعل ، وإنما يكون نهيا إذا أكره المنهى عنه.

وقيل : إنه طلب الترك بالقول على جهة الاستعلاء.

وقيل : إنه هو القول الدال على طلب الترك على جهة الاستعلاء.

وقيل : إنه طلب كفّ عن فعل بالقول استعلاء. وغيرها من الأقوال. والمصنف يقول : إن النهي بمادته وصيغته يدل على الطلب مثل الأمر بمادته وصيغته ؛ يعني : كما أنّ الأمر بمادته «أم ر» ، وصيغته ـ افعل ـ يدل على الطلب ؛ فكذلك النهي بمادته ، «ن ه ي» ، وصيغته ـ لا تفعل ـ يدل على الطلب ، فلا فرق بينهما في الدلالة على الطلب.

وإنما الفرق بينهما هو : في متعلق الطلب ؛ بمعنى : أن متعلق الطلب ـ الذي هو مدلول الأمر ـ هو : الوجود ، ومتعلق الطلب ـ الذي هو مدلول النهي ـ هو : العدم ، فالمطلوب من قوله : «صلّ» هو وجود الصلاة ، ومن قوله : «لا تشرب الخمر» عدم شرب الخمر.

(٢) إشارة إلى ما ذكرناه من الفرق بين الأمر والنهي. وهناك فرق آخر بينهما وهو : كون الأمر بالفعل ناشئا عن المصلحة فيه ، والنهي عنه ناشئا عن المفسدة فيه ـ على ما هو الحق عند العدلية ـ من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

وقد ظهر مما ذكرناه : ما هو محل النزاع في مبحث النواهي ، وهو : النهي بالمعنى الاصطلاحي لا بمعناه اللغوي.

(٣) يعني : فيعتبر في النهي ما يعتبر في الأمر ؛ من اعتبار العلو دون الاستعلاء وغيره مما تقدم ، ومن كون التهديد والتعجيز وغيرهما من الدواعي لا من المعاني.

٣٣١

نعم ؛ (١) يختص النهي بخلاف ؛ وهو : أن متعلق الطلب فيه هل هو الكفّ أو مجرد الترك ، وأن لا يفعل؟ والظاهر : (٢) هو الثاني.

وتوهم : أن الترك ومجرد أن لا يفعل خارج عن تحت الاختيار ، فلا يصح أن يتعلق به البعث والطلب فاسد (٣) ؛ فإن الترك أيضا يكون مقدورا ؛ وإلّا لما كان الفعل

______________________________________________________

فالمتحصل : أن النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له ؛ وهو : الدلالة على الطلب ، غير إن متعلق النهي هو ترك الفعل ، ونفس أن لا يفعل ، ومتعلق الأمر إيجاد الفعل ، فيعتبر في دلالة النهي عليه ما يعتبر في دلالة الأمر ؛ من كونه صادرا عن العالي ، فلو صدر عن السافل أو المساوي فلا يكون نهيا حقيقة.

(١) نعم ؛ هناك خلاف يختص بالنهي «وهو : أن متعلق الطلب فيه هل الكفّ» ؛ بمعنى : زجر النفس عن إرادة الفعل ، وصرفها عن الميل إليه ، «أو مجرد الترك ، وأن لا يفعل» ؛ بمعنى : مجرد الترك ، وعدم الفعل ؛ وإن لم يكن عن زجر النفس.

والفرق بينهما : أن الكف أمر وجودي ، ولا يصدق على مجرد الترك ؛ بل لا بد أن يستند الترك إلى زجر النفس ؛ هذا بخلاف الترك فإنه عدم محض ، ويصدق على مطلق العدم ؛ سواء كان مع الزجر أم بدونه. وبينهما عموم مطلق ؛ إذ كلما تحقق الكفّ تحقق الترك ، دون العكس ، فيكون الترك أعم من الكفّ.

(٢) يعني : الظاهر بحسب ما هو المتبادر عرفا «هو : الثاني» ، يعني : مجرد الترك وعدم الفعل.

(٣) يعني : توهم عدم صحة مجرد الترك متعلق الطلب فاسد ، والتوهم المزبور إشارة إلى استدلال القائل بكون متعلق النهي هو : الكفّ ؛ لا مجرد الترك ، فلا بد من توضيح الاستدلال قبل بيان فساده.

فنقول : إن توضيح الاستدلال يتوقف على مقدمة وهي : أن متعلق التكليف لا بد أن يكون مقدورا للمكلف ؛ لأن اعتبار القدرة عقلا في متعلقات التكاليف من الشرائط العامة ، فالتكليف لا يتعلق بما هو خارج عن القدرة والاختيار.

فإذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه إذا كان متعلق النهي هو الكفّ : صح تعلق النهي به ؛ لكونه مقدورا للمكلف.

وأما إذا كان متعلق النهي مجرد الترك ، وعدم الفعل ؛ فلا يصح أن يتعلق النهي به ؛ لأن العدم غير مقدور ، وغير اختياري ، إذ القدرة لا تتعلق بالأعدام ؛ لأن العدم أزلي حاصل بنفس عدم علته ، فالقدرة المتأخرة لا تؤثر في العدم السابق عليها.

فالنتيجة هي : أن الكفّ هو الذي يصح أن يتعلق به النهي لكونه مقدورا. دون مجرد

٣٣٢

مقدورا ، وصادرا بالإرادة والاختيار. وكون العدم الأزلي لا بالاختيار ، لا يوجب (١) أن يكون كذلك (٢) بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلا للتكليف.

ثم إنه لا دلالة لصيغته (٣) على الدوام والتكرار ، كما لا دلالة لصيغة الأمر ، وإن

______________________________________________________

الترك ، وعدم الفعل ؛ لكونه خارجا عن القدرة والاختيار.

وأما توضيح فساد الاستدلال المذكور : فلأن الترك لا يكون خارجا عن القدرة والاختيار ، بل هو مقدور كالفعل.

توضيح مقدورية الترك يتوقف على مقدمة وهي : أن المقدور ما تكون نسبة القدرة إلى فعله وتركه واحدة ؛ بأن يكون كل واحد منهما مقدورا ، فلو لم يكن الترك مقدورا لم يكن الفعل أيضا مقدورا ، فمقدورية أحدهما تستلزم مقدورية الآخر.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه لمّا كان الفعل مقدورا بالضرورة ؛ فالترك كذلك ؛ إذ لو كان الترك أو الفعل غير مقدور لكان الطرف الآخر واجبا أو ممتنعا ، فيخرجان عن حيطة الاختيار ، وهو خلف.

(١) هذا دفع لإشكال عدم كون العدم الأزلي مقدورا. وحاصل الدفع : أن غير المقدور هو ذات العدم الأزلي لا استمراره ، بداهة : أن المكلف قادر على قطع استمرار العدم ونقضه بالوجود ، وهذا المقدار من القدرة كاف في صحة تعلق النهي بالعدم ، إذ العدم الأزلي بحسب البقاء يقع موردا للتكليف ، ومن المعلوم : أن المكلف في هذه المرتبة قادر على التأثير في العدم بقطع استمراره ، فيصير العدم بهذا الوجه مقدورا للمكلف ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٦» مع تصرف ما.

(٢) يعني : لا بالاختيار بقاء واستمرارا ، فإن العدم السابق ليس محلا للكلام ، بل هو العدم بحسب البقاء والاستمرار ، وبهذا الاعتبار يكون العدم مقدورا فيكون متعلقا للتكليف.

عدم دلالة النهي على التكرار

(٣) يعني : لا دلالة لصيغة النهي على الدوام والتكرار ، كما لا دلالة لصيغة الأمر عليه فقوله : «لا دلالة لصيغته على الدوم والتكرار» إشارة إلى ردّ القائل بدلالة النهي على الدوام والتكرار ؛ حيث إن الغرض من الأمر يحصل بوجود الطبيعة المأمور بها في ضمن فرد من أفرادها ، فلا يدل على الدوام والاستمرار ؛ هذا بخلاف النهي حيث إن حصول الغرض منه يتوقف على ترك الطبيعة ، وتركها يتوقف على ترك جميع أفرادها الطولية والعرضية. هذا معنى دلالة النهي على الدوام والتكرار.

٣٣٣

كان قضيتهما عقلا تختلف ولو مع وحدة متعلقهما ؛ بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلق بها الأمر مرة والنهي أخرى ، ضرورة : أن وجودها يكون بوجود فرد واحد ، وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع كما لا يخفى (١).

ومن ذلك (٢) يظهر : أن الدوام والاستمرار إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال ، فإنه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة ؛ إلّا بعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.

______________________________________________________

وحاصل ردّ المصنف عليه : أنه لا فرق بينهما في عدم الدلالة على الدوام والتكرار بالدلالة اللفظية الوضعية ، وهي محل الكلام.

وما ذكر من الفرق والاختلاف بينهما إنما هو بحسب حكم العقل ، وهو يختلف في المقامين ، فإنه لمّا كان وجود الطبيعة الذي هو المطلوب في الأمر يتحقق بأول وجوداتها ، لانطباق الطبيعة عليه قهرا ، وحصول الغرض الداعي إلى الأمر بها الموجب لسقوط الأمر ، هذا بخلاف عدم الطبيعة الذي هو المطلوب في النهي ، حيث إن عدمها يتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها الطولية والعرضية ؛ كان مقتضى حكم العقل في الأمر هو سقوط الطلب بأول وجودات الطبيعة ، وعدم سقوطه في النهي إلّا بترك جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها ، من غير فرق في هذا التوقف بين إطلاق الطبيعة كقوله : «لا تشرب الخمر» ، وبين تقييدها بقيد كقوله : «لا تشرب ماء الرمان في زمان مرضك».

وكيف كان ؛ فدلالة النهي على الدوام والاستمرار إنما هي بحكم العقل ، وهو خارج عن محل الكلام ؛ لا بالوضع حتى يكون من محل الكلام.

(١) إذ النهي ـ كما عرفت ـ عبارة عن كراهة الطبيعة ، فتحقق الفرد الموجب لتحقق الطبيعة يكون مكروها ، والأمر عبارة عن محبوبية الطبيعة ، فبتحقق فرد يتحقق المحبوب. وهذا التفاوت ليس بسبب دلالة الأمر والنهي على المرة والتكرار ؛ بل بملاحظة حكم العقل على ما عرفت.

(٢) يعني : ومن حكم العقل بتوقف ترك الطبيعة على ترك جميع الأفراد ، وأن عدم الطبيعة لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع ؛ يظهر : أن الدوام إنما يكون فيما إذا تعلق النهي بطبيعة مطلقة ، حيث إن عدمها منوط بترك جميع الأفراد العرضية والطولية ، بخلاف ما إذا كان متعلق النهي الطبيعة المقيدة بزمان أو حال نحو : «لا تضرب يوم الجمعة» ، أو «لا تشرب في القيام» ، فإن الاستمرار حينئذ يختص بذلك الزمان أو تلك الحالة ، فلا يقتضي النهي عدم جميع أفراد الضرب حتى في غير يوم الجمعة ، أو عدم جميع أفراد الشرب حتى في حال الجلوس.

٣٣٤

وبالجملة : قضية النهي ليس إلّا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له (١) ؛ كانت مقيدة أو مطلقة ، وقضية تركها عقلا إنما هو ترك جميع أفرادها.

ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك (٢) لو خولف ، أو عدم إرادته ، بل لا بد في

______________________________________________________

وجه الظهور : أن عدم الجميع لما كان لازما لعدم الطبيعة المطلقة ؛ فعدم الطبيعة المقيدة لا يلازم عدم الجميع ، «فإنه حينئذ» أي : حين إطلاق الطبيعة ؛ «لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة» المطلقة «معدومة ؛ إلّا بعدم جميع أفرادها الدفعية» أعني : العرضية ؛ كأن يترك شرب الخمر في الدار ، وفي السوق ، وفي المسجد وهكذا. «والتدريجية» أعني : الأفراد الطولية ؛ كأن يترك الشرب في الساعة الأولى ، والثانية ، والثالثة وهكذا.

(١) للنهي فإن «كانت مقيدة» كان مقتضى النهي ترك الطبيعة المقيدة بجميع أفرادها العرضية والطولية ؛ لأن مجرد النهي عن طبيعة لا يقتضي إطلاق الترك ؛ بحيث يكون مقتضاه ترك جميع أفرادها في جميع الأزمنة والأمكنة وفي كل حال ، بل إطلاق الترك منوط بإطلاق المتعلق ، فلو كان مطلقا كان الترك مطلقا ، وإن كان مقيدا كان الترك كذلك.

والمتحصل من جميع ما ذكرنا : أن مقتضى النهي ترك الطبيعة الواقعة في حيّزه ؛ من دون دلالة له على الدوام والتكرار ، وإنما هما مستفادان من حكم العقل ، كما أن الاكتفاء بالمرة في الأمر كان مستفادا من العقل.

(٢) يعني : «لا دلالة للنهي على إرادة» المولى «الترك» ثانيا وثالثا وهكذا «لو خولف» النهي ، «أو عدم إرادته ، بل لا بدّ في تعيين ذلك من دلالة» خارجية تدل على انحلال النهي إلى نواهي متعددة ، أو على وحدة النهي ، من غير فرق بين أن يكون ذلك الدليل الخارجي لفظيا أو لبيا ، بل «ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة» ؛ بأن يكون للطبيعة الواقعة في حيز النهي إطلاق من جهة تعميمها ما بعد العصيان ؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٣١١».

والغرض من قوله : «ثم لا دلالة للنهي» هو : أنه لو عصى النهي بإيجاد الفرد الأول من الطبيعة المنهي عنها ؛ فهل يحرم عليه إيجادها ثانيا وثالثا وهكذا ، أم يسقط النهي بالعصيان ، فلا تبقى الحرمة ، فيجوز حينئذ إتيان متعلق النهي ثانيا وثالثا وهكذا؟

وبعبارة أخرى ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٩» ـ : هل تدل صيغة النهي على حرمة كل فرد من أفراد الطبيعة المنهي عنها بنحو العام الاستغراقي ؛ بحيث يشمل جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها حتى لا يسقط النهي بعصيانه ، أم لا تدل عليها كذلك ؛ وإنما تدل على حرمة الفرد الأول من أفرادها فقط ، فلو أتى به سقط النهي؟

٣٣٥

تعيين ذلك من دلالة ، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة ، ولا يكفي إطلاقها (١) من سائر الجهات ، فتدبر جيدا (٢).

______________________________________________________

الحق عدم دلالة نفس الطبيعة على مطلوبية كل فرد من أفراد متعلق النهي ؛ إذ مدلولها هو نسبة ترك الطبيعة إلى المكلف ؛ دون مطلوبية كل فرد من أفرادها ، وترك جميع الأفراد إنما هو بحكم العقل ؛ لتوقف امتثال النهي على ذلك ، فلا دلالة لصيغة النهي على حرمة الأفراد المتعاقبة.

(١) يعني : إطلاق الطبيعة «من سائر الجهات» ؛ كالإطلاق من حيث الفور والتراخي ، والزمان والمكان ، والآلة ونحوها ؛ فإن الإطلاق من سائر الجهات لا يجدي في إثبات مطلوبية الترك بعد الترك ؛ لإمكان الإطلاق من جهة ، والإهمال من جهة أخرى.

(٢) وهو تدقيقي ؛ لأن المقام لا يخلو عن الدقة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ النهي في اللغة : هو الزجر عن الشيء ، وله في الاصطلاح معان ومنها : ما أفاده المصنف من أن النهي بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب ؛ كصيغة الأمر ومادته ، والاختلاف بينهما في المتعلق ، فمتعلق الأمر هو : نفس الفعل ، ومتعلق النهي هو : الترك ، وإلّا فالمستفاد منهما هو شيء واحد وهو الطلب ، ومن هنا اعتبر في صدق النهي ما اعتبره في صدق الأمر ؛ من لزوم صدوره من العالي.

٢ ـ الخلاف في متعلق النهي هل هو مجرد الترك وأن لا يفعل ، أو الكفّ بمعنى : صرف النفس عن الفعل؟ قولان : الحق عند المصنف هو الأول.

الفرق بينهما : أن الكفّ أمر وجودي ، بخلاف الترك فإنه عدم محض ، فالترك أعم من الكفّ.

وتوهّم : عدم صحة مجرد الترك متعلق الطلب ـ لكونه خارجا عن القدرة والاختيار ، ومتعلق التكليف يجب أن يكون مقدورا وهو الكفّ دون الترك ـ فاسد ؛ فإن الترك والعدم مقدور باعتبار البقاء والاستمرار ؛ إذ لو لم يكن الترك مقدورا لم يكن الفعل أيضا مقدورا ، فمقدورية أحدهما تستلزم مقدورية الآخر.

٣ ـ عدم دلالة النهي على الدوام والتكرار.

وتوهم : دلالة النهي على الدوام والتكرار ـ للفرق بين الأمر والنهي ؛ بأن الغرض من الأمر هو إيجاد الطبيعة المأمور بها فيحصل بإيجادها في الفرد الأول منها. هذا بخلاف

٣٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

النهي حيث إن الغرض منه هو ترك الطبيعة المنهي عنها ، وهو يتوقف على ترك جميع أفرادها الطولية والعرضية ؛ فلا بد من الدوام والتكرار ـ مدفوع بأنه لا فرق بينهما في عدم الدلالة على الدوام والتكرار بالدلالة اللفظية الوضعية التي هي محل الكلام في المقام ، وأما ما ذكر من الفرق بينهما فإنما هو بحسب حكم العقل ؛ بمعنى : أن المطلوب في الأمر ـ هو وجود الطبيعة ـ يتحقق بأول وجوداتها لانطباق الطبيعة عليه قهرا ، هذا بخلاف ما هو المطلوب في النهي ـ وهو عدم الطبيعة ـ فيتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها الطولية والعرضية ، فلذا كان مقتضى حكم العقل في الأمر سقوط الطلب بأوّل وجودات الطبيعة ، وعدم سقوطه في النهي إلّا بترك جميع أفرادها.

٤ ـ لا دلالة للنهي على إرادة المولى للترك ثانيا وثالثا وهكذا ، ولا على عدم إرادته عند مخالفة العبد للنهي ، فلا بد في تعيين إرادة الترك أو عدم إرادته من دلالة خارجية تدل على انحلال النهي إلى النواهي المتعددة ، أو على وحدة النهي.

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ أن النهي صيغة ومادة مثل الأمر في الدلالة على الطلب الإلزامي ، وإنما التفاوت بينهما في المتعلق.

٢ ـ أن متعلق الطلب في النهي هو مجرد الترك ، وأن لا يفعل ؛ لا الكفّ بمعنى : زجر النفس عن الفعل.

٣ ـ أنه لا دلالة لصيغة النهي على الدوام والتكرار ، كما لا دلالة لصيغة الأمر عليه.

٤ ـ ليس للنهي دلالة على إرادة المولى للترك ثانيا وثالثا ، ولا على عدم إرادته عند مخالفة العبد للنهي.

٣٣٧
٣٣٨

اختلفوا (١) في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه على أقوال ثالثها :

جوازه عقلا وامتناعه عرفا ، وقبل الخوض في المقصود يقدم أمور :

______________________________________________________

في اجتماع الأمر والنهي

(١) وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي فنقول : إنه لا نزاع في امتناع الأمر والنهي في واحد بعنوان واحد مثل : «صلّ ولا تصلّ» وذلك لما عرفت من : أنّ مفاد الأمر هو : البعث نحو وجود الطبيعة المحبوبة ، ومفاد النهي هو : الزجر عن وجود الطبيعة المبغوضة.

ومن الواضح عند العقل والعقلاء : أنه يمتنع أن يصدر عن المولى الواحد بالنسبة إلى المكلف الواحد بعث وزجر حال كونهما متعلقين بطبيعة واحدة في زمان واحد ، وليس هذا من التكليف بالمحال الذي يجوّزه الاشعري ؛ بل من التكليف المحال.

وإنما النزاع في جواز اجتماعهما في واحد إذا كان ذا وجهين ، ومعنونا بعنوانين بأحدهما تعلق الأمر ، وبالآخر تعلق النهي ؛ كما في الصلاة في المغصوب فيما إذا خاطب الشارع المكلف بقوله : «صلّ ، ولا تغصب» ، فالمأمور به غير المنهي عنه ، والماهيتان مختلفتان ؛ غير إن المكلف بسوء اختياره جمعهما في مورد واحد ؛ على وجه يكون المورد مصداقا لعنوانين ، ومجمعا لهما. فيقع الكلام في جواز مثل هذا الاجتماع ؛ كما إذا صلى في الدار المغصوبة ، فيبحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي في هذه الحالة.

فعلى القول بالجواز : يكون العمل محكوما بحكمين ؛ لتعدد المجمع ، وكونه موجودا بوجودين ، والتركيب بين متعلقي الأمر والنهي يكون انضماميا ، وتعدد العنوان يوجب تعدد المعنون.

وعلى القول بالامتناع : يكون المجمع محكوما بحكم واحد ، وهو أهم الحكمين من الوجوب أو الحرمة ؛ لاتحاد المجمع ، وكونه موجودا بوجود واحد ، والتركيب بينهما يكون اتحاديا ، وتعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون.

وقد يبدو مما ذكر : أن مقتضى التحقيق أن يكون النزاع في المسألة صغرويا وهو أصل

٣٣٩

الأول : المراد بالواحد (١) : مطلق ما كان ذا وجهين ، ومندرجا تحت عنوانين ، بأحدهما كان موردا للأمر ، وبالآخر للنهي ، وإن كان كلّيا مقولا على كثيرين ؛

______________________________________________________

الاجتماع. وليس كبرويا أعني : الجواز أو الامتناع بعد أصل الاجتماع ؛ كما هو المتوهم من عنوان المسألة ، حيث جعل موضوع المسألة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد. ومحمولها الجواز أو الامتناع.

وكيف كان ؛ «فمنهم» من جوّز الاجتماع بدعوى : أن تعدد الوجه والعنوان مما يوجب تعدد المتعلق ، فلا يسري كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر ؛ كي يلزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ؛ الذي لا نزاع في امتناعه.

«ومنهم» من منعه ؛ نظرا إلى أن تعدد الوجه والعنوان مما لا يوجب تعدد المتعلق ، فيسري كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر ، فيكون من اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد فيمتنع.

وهناك قول آخر وهو : جوازه عقلا ، وامتناعه عرفا ؛ لأن العقل حيث يرى المجمع اثنين ـ لتعدد العنوان والوجه ـ فلا مانع عنده من الاجتماع.

أما العرف : فحيث ينظرون إلى الشيء بالنظر السطحي ، والمجمع بهذا النظر يكون واحدا ؛ يكون الاجتماع عندهم محالا. وهذه الأقوال الثلاثة التي أشار إليها المصنف بقوله : «اختلفوا ... على أقوال : ثالثها : جوازه عقلا وامتناعه عرفا».

المراد بالواحد في العنوان

(١) المراد بالواحد الذي وقع في عنوان هذا البحث هو : «مطلق ما كان ذا وجهين ، ومندرجا تحت عنوانين».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الواحد تارة : يطلق ويراد منه ما لا يكون كليا فيقال : هذا واحد أي : ليس بكلي قابل للانطباق على كثيرين.

وأخرى : يطلق ويراد منه ما لا يكون متعددا ، فيقال : الصلاة في الدار المغصوبة واحدة. أي : فلا تكون متعددة ؛ بمعنى : إنه ليس في الدار شيئان أحدهما كان متعلق الأمر ، والآخر متعلق النهي ، بل فيها شيء واحد ـ وهو الصلاة ـ يكون مجمعا لمتعلقيهما ، والنسبة بين الواحد بهذا المعنى ، والواحد بالمعنى الأول هي عموم مطلق ؛ فإن هذا المعنى أعم من المعنى الأول لشموله الواحد الشخصي ، الواحد الصنفي ، والواحد النوعي ، والواحد الجنسي ؛ بخلاف المعنى الأول ؛ فإنه خاص بالقسم الأول.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المراد بالواحد في المقام هو : المعنى الثاني لا المعنى

٣٤٠