دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

فصل

الحق : أن الأوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الأفراد ، ولا يخفى : أن المراد (١) أن متعلق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد كما أن متعلقه في النواهي هو : محض

______________________________________________________

أوامر تتعلق بالطبائع أو الأفراد؟

(١) قد نبّه المصنف بهذه العبارة على أمرين :

أحدهما : أنه ليس البحث في المقام ـ كما يوهمه العنوان ـ في متعلق الأوامر والنواهي ، فإن متعلقهما هي الطبائع بلا إشكال ؛ لدلالة الأمر والنهي على الوجود والعدم ، فإن الأمر معناه : طلب الوجود ، والنهي : طلب الترك. ومن المعلوم : أن متعلق هذين المدلولين هو الطبائع ، فمعنى : «صلّ ولا تشرب الخمر» طلب وجود طبيعة الصلاة ، وطلب ترك طبيعة شرب الخمر ؛ بل البحث في متعلق الطلب الذي هو جزء مدلولي الأمر والنهي ، وفي أن متعلق هذا الطلب هل هو الطبيعة أو الفرد؟

وثانيهما : أن مراد القائلين بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد : ليس تعلقهما بالموجودات الخارجية ، ضرورة : أن الموجود الخارجي مسقط للأمر ، فكيف يتعلق به الأمر؟ كما أن مراد القائلين بالطبائع ليس هو الطبائع الصرفة من حيث هي ، في قبال الطبائع من حيث الوجود ؛ لأن الطبائع مع قطع النظر عن وجودها غير قابلة لتوجيه الطلب إليها ، بل المراد : هي الطبائع من حيث مطلق الوجود ، مع قطع النظر عن ضم الخصوصيات الخارجية إليها.

ومن هنا ظهر : ما هو المراد بالطبائع والأفراد في محل النزاع. فالمراد بالطبائع : أن المطلوب منها وجودها السعي بما هو وجود لا بما هو فرد.

والمراد بالأفراد : وجود الطبيعة مع اللوازم والخصوصيات الوجودية ، التي بها يكون الفرد فردا لها.

فالفرق بين القولين أن للخصوصيات الفردية دخل في متعلق الطلب على القول بتعلقها بالأفراد ، وليس لها دخل فيه على القول بتعلقها بالطبائع.

فالمتحصل : أن مرجع النزاع في هذه المسألة إلى : أن الأوامر هل تتعلق بالطبائع مع قطع النظر عن مشخصاتها ، ولوازم وجوداتها في الخارج ؛ بحيث تكون تلك المشخصات

٢٨١

الترك ، ومتعلقهما (١) هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود (٢) ، والمقيدة بقيود ، تكون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات ، بحيث لو كان الانفكاك عنها (٣) بأسرها ممكنا ؛ لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا ، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الأحكام (٤) ، بل في المحصورة (٥). على ما حقق في

______________________________________________________

واللوازم خارجة عن دائرة متعلقاتها ، وإنما هي موجودة معها قهرا ، لاستحالة كون الشيء موجودا بلا تشخص ـ نظرا إلى قاعدة ـ (الشيء ما لم يتشخص لم يوجد) ، أو تتعلق بالأفراد مع تلك المشخصات ؛ بحيث تكون المشخصات مقومة للمطلوب داخلة في دائرة المتعلقات؟. فالكلام حقيقة في دخل تلك الخصوصيات وعدمه في متعلق الطلب ، فعلى القول بدخلها فيه : يكون متعلقه الأفراد ، وعلى القول بعدمه : يكون المتعلق الطبائع.

(١) أي : الإيجاد والترك ، والأول : في الأمر ، والثاني : في النهي.

(٢) أي : بحدود ذاتية ؛ كالحيوان الناطق مثلا بالنسبة إلى الإنسان ، «والمقيدة بقيود» خارجية ؛ كالضاحكية بالنسبة إلى الإنسان ، تكون الطبيعة بها أي : بسبب هذه المقوّمات والخواص «موافقة للغرض والمقصود» مثلا ، فلو لم يكن الإنسان ناطقا أو ضاحكا لم يكن موافقا للغرض فرضا ، «من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات» كالطول في زيد ، والقصر في عمرو مثلا.

فقول المولى : «صلّ الظهر» لا يريد إلّا حقيقة الصلاة المحدودة بكذا ، والمقيدة بقيد الظهرية ، ولا يريد الخصوصيات الفردية ، ككونها في البيت ، أو في المسجد ، أو في هذا اللباس ، أو ذلك اللباس ، أو نحو ذلك.

(٣) أي : عن الخصوصيات اللازمة المقوّمة لفردية الفرد.

(٤) يعني : مثل : «الإنسان نوع ، والحيوان جنس» فإن المراد : أن نفس طبيعة الإنسان نوع ، ونفس طبيعة الحيوان جنس من دون دخل خصوصيات الأفراد في النوعية والجنسية. فوجه المشابهة بين القضية الطبيعية ، وبين المقام هو : عدم النظر إلى الأفراد ، مع افتراقهما : في أن الموضوع في الطبيعية هو الطبيعة الكلية من حيث كونها كلية ، بخلاف المقام فإن متعلق الطلب فيه هو الطبيعة بما هي لا بما هي كلية. ولذا قال : في غير الأحكام.

(٥) وهي التي تشتمل على السور ؛ مثل : «كل» مثلا في قوله تعالى : (كل من عليها فان)(١) و «كلما» في قوله «عليه‌السلام» : «كلما مضى من صلواتك وطهورك فامضه

__________________

(١) الرحمن : ٢٦.

٢٨٢

غير المقام (١).

وفي مراجعة الوجدان (٢) للإنسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك ، حيث يرى إذا راجعه إنه لا غرض له في مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلّا إليها ؛ من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية ، وعوارضها العينية (٣) وأن نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام (٤) المطلوب ، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية.

فانقدح بذلك : (٥) أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد : أنها بوجودها

______________________________________________________

كما هو» (١) ، فإن الحكم في المحصورة ثابت للأفراد ، فإن الفناء ووجوب المضي ثابتان للأفراد الخارجية من الموجودات في المثال الأول ، والصلوات والطهورات في المثال الثاني ؛ في قبال القضية الطبيعية التي حكم فيها على الطبيعة ؛ كالإنسان نوع ، فإن معروض النوعية التي هي من المعقولات الثانية هو : طبيعة الإنسان لا أفراده الخارجية.

(١) فإن المحقق في محله : كون الحكم في القضايا المحصورة أيضا ثابتا للطبيعة ، غاية الأمر : أن الفرق بين الطبيعية والمحصورة هو : أن الطبيعية ملحوظة بنفسها ، ومن حيث هي في الأولى ، ومن حيث كونها سارية في الأفراد في الثانية ، فالموضوع في هاتين القضيتين : هي الطبيعة كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٥٢٧».

(٢) الغرض : هو إثبات تعلق الطلب بالطبائع ـ لا الأفراد ـ بالوجدان ، وهو في غاية الوضوح ، فلا يحتاج إلى بيان ، وإقامة برهان.

(٣) يعني : لو أمر المولى عبده بإحضار الماء مثلا ، فليس مطلوبه إلّا نفس طبيعة الماء من دون نظر إلى خصوصية ظرفه ، وكيفية الإتيان به ، وغيرهما من سائر الخصوصيات التي هي مقوّمة لفردية الفرد.

(٤) لا أنه جزء المطلوب ، وجزؤه الآخر هو : خصوصية الفرد «وإن كان ذاك الوجود» السعي المنطبق على الأفراد «لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية» الفردية ؛ لتقوّم فردية الفرد بها ، فيمتنع انفكاك الفرد عن تلك الخصوصية.

(٥) يعني : انقدح بمراجعة الوجدان المزبور ، الحاكم بكون المطلوب نفس وجود الطبيعة من دون لوازم الوجود المقوّمة لفردية الفرد : «أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون

__________________

(١) في التهذيب ، ح ٢ ، ص ٣٤٤ ، ج ١٤ : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو وفي الاستبصار ، ج ١ ، ص ٤٠١ ، ح ٤ : «ما مضى من صلاتك ما لم تنقض الصلاة بالكلام متعمدا. فلا بأس عليك».

٢٨٣

السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود متعلقة للطلب ، لا إنها بما هي هي كانت متعلقة له كما ربما يتوهم ، فإنها كذلك ليست إلّا هي. نعم ؛ هي (١) كذلك تكون متعلقة للأمر فإنه (٢) طلب الوجود ، فافهم (٣).

______________________________________________________

الأفراد أنها» أعني : الطبائع بوجودها السعي الساري في جميع أفراد الطبيعة ؛ المعبر عنه بالجامع الوجودي متعلقة للطلب ؛ لا أن الطبائع باعتبار أنفسها ، ومن حيث هي هي متعلقة للطلب ، حتى يكون المعنى طلب جعل الماهية ماهية «كما ربما يتوهم ، فإنها كذلك» أي : فإن الطبيعة كذلك يعني : بما هي هي «ليست إلّا هي» لا مطلوبة ولا مبغوضة. فقوله : «فإنها كذلك ...» إلخ ردّ لتوهم تعلق الطلب بالطبائع من حيث هي.

وجه الردّ : ما عرفت من عدم قابلية نفس الطبائع لتعلق الطلب بها ، إذ لا يترتب عليها أثر ، ضرورة : أن المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام قائمة بوجودات الطبائع لا بأنفسها من حيث هي ، لأنها من هذه الحيثية لا يترتب عليها أثر أصلا. فلا وجه لتعلق حكم بها ، بل متعلق الحكم ليس إلّا ما يقوم به الملاك ، وهو وجودات الطبيعة ، إذ الطبيعة من حيث هي هي ليست إلّا هي لا مطلوبة ولا مبغوضة.

(١) يعني : الطبيعة من حيث هي متعلقة للأمر ليطلب به وجودها في الخارج.

فقوله : «نعم ؛ هي كذلك» استدراك على عدم صحة الطلب بالماهية من حيث هي هي.

وحاصل الاستدراك : أن الطلب لا يصح أن يتعلق بالطبيعة من حيث هي ، لكن يصح أن يتعلق بها الأمر ؛ ضرورة : أن الأمر هو طلب الإيجاد ، ولا إشكال في صحة تعلق طلب الإيجاد بنفس الماهية المجردة عن الوجود. بخلاف الطلب ؛ فإن الإيجاد ليس داخلا في مفهومه ، كما هو داخل في مفهوم الأمر ، فلا يصح تعلق الطلب بنفس الماهية.

(٢) فإن الأمر طلب الوجود ، فيصح تعلقه بالماهية من حيث هي.

وقوله : «فإنه» بمنزلة التعليل للاستدراك المذكور بقوله : «نعم ؛ هي كذلك».

(٣) لعله إشارة إلى عدم صحة التفكيك بين الأمر والطلب بما ذكر ، إذ لا معنى لمطلوبية الطبيعة إلّا كون إيجادها أو إعدامها مطلوبا ، فالإيجاد والإعدام داخلان في مفهوم كل من الأمر والطلب ، فلا فرق بينهما ، بل هما بمعنى واحد وهو طلب إيجاد الطبيعة في ضمن فرد من الأفراد.

والمتحصل : أن المصنف «قدس‌سره» اختار تعلق الأمر بالطبيعة لا الفرد ، وأو كل معرفة صحة ما اختاره إلى مراجعة الوجدان ، فإنه يقضي بذلك ، لأن الآمر لا يجد في نفسه إلّا إرادة ذات العمل من الغير مع غض النظر عن العوارض اللازمة.

٢٨٤

دفع وهم (١):

لا يخفى : أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب إنما يكون بمعنى : أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد ، وجعله (٢) بسيطا الذي هو مفاد كان التامة ، وإفاضته ، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج ، كي يلزم طلب الحاصل كما توهم (٣).

______________________________________________________

(١) توضيح الوهم يتوقف على مقدمة وهي : أن متعلق الطلب والأمر ـ سواء قلنا : بأنه من الطبائع أو الأفراد ـ من الممكنات ، والممكن نظرا إلى الخارج إما موجود فيه أو معدوم هذا أولا.

وثانيا : أن متعلق الطلب والأمر ـ على ما هو ظاهر كلام المصنف ـ هو : الطبيعة من حيث الوجود على كلا القولين ، والفرق بينهما إنما هو في لحاظ محض الوجود من دون نظر إلى شيء من خصوصياته أو لحاظه مع الخصوصيات الفردية ، فاعتبار أصل الوجود في متعلق الطلب مسلم على كلا القولين ، وإنما الكلام في دخل تلك الخصوصيات وعدمه. فعلى القول بدخلها : يكون متعلق الأمر والطلب الأفراد ، وعلى القول بعدمه : يكون المتعلق الطبائع.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن مقتضى تعلق الطلب ـ كما عرفت ـ هو عروض الطلب على الوجود ، وحينئذ إذا كان عروض الطلب قبل الوجود لزوم عروض العارض بدون المعروض. وإن كان عروضه بعد الوجود لزم تحصيل الحاصل ، وكلاهما محال. هذا تمام الكلام في توضيح التوهم.

(٢) يعني : جعل المتعلق «بسيطا» بمعنى إيجاده.

(٣) المتوهم هو صاحب الفصول. وقد أشار المصنف إلى جواب هذا التوهم بقوله : «لا يخفى : أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب إنما يكون بمعنى : أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد ...» إلخ.

وحاصل جواب المصنف عن توهم الفصول : أن المراد بتعلق الطلب والأمر بالوجود ليس تعلقهما بوجود الطبيعة الثابتة في الخارج ، مثل أن يقول المولى لعبده : «صلّ» ، ويقول : «أريد منك وجود الصلاة الموجودة» إذ لا يعقل ذلك لاستلزامه تحصيل الحاصل ، بل المراد تعلقهما بإيجاد الطبيعة ، فمعنى تعلق الطلب بالطبيعة هو : طلب إيجادها حيث إن المولى يتصور الطبيعة المحصلة لغرضه ، ثم يطلب إيجادها على الوجه الوافي بغرضه ، ولا يلزم طلب الأمر الحاصل. فالمتحصل : أن طلب المولى يتعلق بنقض عدم الطبيعة

٢٨٥

ولا جعل (١) الطلب متعلقا بنفس الطبيعة ، وقد جعل وجودها (٢) غاية لطلبها.

وقد عرفت : إن الطبيعة بما هي هي ليست إلّا هي ، لا يعقل أن يتعلق بها طلب لتوجد أو تترك ، وأنه لا بدّ في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها ، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه ، كي يكون ويصدر منه ، هذا بناء على أصالة الوجود.

وأما بناء على أصالة الماهية (٣) ، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا ، بل

______________________________________________________

بالوجود ، وإيجادها بمفاد كان التامة ، لا أن طلبه يتعلق بالطبيعة الموجودة حتى يلزم طلب الحاصل المحال ، فليس الطلب متعلقا بالطبيعة بما هي هي ، ولا بالطبيعة الموجودة ، بل يتعلق بإيجادها الذي هو فعل المأمور به ، فلا يلزم محذور طلب الحاصل.

وبعبارة أخرى : إن ما يتعلق به الطلب ليس الوجود الخارجي حتى يلزم طلب الحاصل ، بل الوجود الذهني اللحاظي ، والآمر إنما يطلب جعل الوجود الذهني خارجيا.

(١) يعني : ولا يريد المولى جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة لأجل أن توجد ، حتى يكون وجودها غاية لطلبها ، كما أشار إليه بقوله : «وقد جعل وجودها غاية لطلبها» ، والواو في قوله : «وقد جعل» حالية ، أي : والحال : أن الطالب قد جعل الوجود غاية لطلبها ، وارتكب المتوهم هذا التكلف لدفع محذور طلب الحاصل ، حيث زعم : أن طلب الحاصل محال عن المولى الحكيم ، فلا بد من أن يكون الأمر متعلقا بالطبيعة من حيث هي ، وجعل غاية هذا الطلب إيجاد الطبيعة ، مع إن هذا التكلّف في البطلان كطلب الحاصل ؛ لما عرفت : من إن الطبيعة من حيث هي هي ليست إلّا هي ، فلا يعقل أن يتعلق بها الطلب لتوجد في الأوامر أو تترك في النواهي.

فلا فرق في البطلان بين تعلق الطلب بالطبيعة الموجودة ، وتعلقه بالطبيعة المجردة عن الوجود ، لاستلزام الأول : طلب الحاصل ، والثاني : غير معقول.

(٢) يعني : الذي ذكرناه من كون متعلق الطلب هي الطبيعة بلحاظ وجودها ؛ لا الطبيعة بما هي هي بناء على القول بأصالة الوجود ظاهر.

(٣) توضيح كلام المصنف «قدس‌سره» يتوقف على مقدمة وهي : بيان الفرق بين القول بأصالة الوجود وبين القول بأصالة الماهية ، وحاصله : أن المراد بأصالة الوجود : أن الأصل في التحقق هو الوجود بمعنى : أن المجعول بالجعل البسيط أولا وبالذات هو الوجود ، والماهية مجعولة بتبعه فهي أمر اعتباري بالنسبة إلى الوجود.

وعليه : فيكون توصيف الوجود بالوجود في قولنا : «الوجود موجود» من قبيل وصف الشيء باعتبار نفسه لثبوت الموجودية للوجود بنفسه وذاته.

٢٨٦

بما هي بنفسها في الخارج ، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات والأعيان الثابتات ، لا بوجودها كما كان الأمر بالعكس على أصالة الوجود.

وكيف كان ؛ فيلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهية الخارجية ، أو الوجود فيطلبه ، ويبعث نحوه ليصدر منه ، ويكون ما لم يكن ، فافهم وتأمل جيدا.

______________________________________________________

أما توصيف الماهية بالوجود في قولنا : «الماهية موجودة» فمن قبيل وصف الشيء باعتبار متعلقه ، لأن موجودية الماهية لا تكون بنفسها ، بل بالوجود ؛ كاتصاف جالس السفينة بالحركة مع قيامها بالسفينة حقيقة.

وأما المراد بأصالة الماهية : فهو أن الأصل في التحقق هو الماهية ؛ بمعنى : أن المجعول بالجعل البسيط أولا وبالذات هي الماهية ، والوجود مجعول بتبع جعلها ، فيكون قولنا : «الماهية موجودة» من الوصف باعتبار نفس الشيء لا المتعلق.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : بناء على أصالة الوجود واعتبارية الماهية ـ كما هو المنسوب إلى المحققين من المشائين ـ يكون الصادر حقيقة هو الوجود. فيصح تعلق الطلب به من دون إشكال فيه ؛ إذ المطلوب هو الطبيعة باعتبار وجودها.

وأما بناء على القول بأصالة الماهية ـ وأنها هي الصادرة حقيقة ، وأن الوجود أمر اعتباري ـ كما هو مذهب شيخ الإشراق وغيره ـ يكون المطلوب خارجية الطبيعة المتحققة بنفس جعلها التكويني.

فالطلب على القول بأصالة الوجود : يتعلق بإيجاد الطبيعة في الخارج. وعلى القول بأصالة الماهية : ملحوظة بخارجيتها لا بوجودها في ضمن الأفراد.

وعلى القول بأصالة الوجود : ملحوظة بوجودها في الخارج في ضمن فرد من أفرادها.

قوله : «فافهم وتأمل جيدا» إشارة إلى دقة المطلب ؛ لكونه ملحوقا بالأمر بالتأمل المقيد بالجودة ، فلا يكون إشارة إلى ضعفه.

ختام الكلام في بيان أمرين :

أحدهما : إنه قد يتوهم التنافي بين النزاع في تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أو الأفراد ، وبين ما ثبت في محله : من كون المصادر المجردة عن اللام والتنوين موضوعة للطبيعة اللابشرطية.

وجه المنافاة : أن التسالم على وضع تلك المصادر للطبيعة يستلزم كون متعلق الأوامر والنواهي نفس الطبائع ، حيث إن ذلك مقتضى وضع موادها ـ وهي المصادر ـ للطبائع ،

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا وجه للترديد بين تعلقها بالطبائع أو الأفراد.

ويمكن دفع التنافي : بأن إرادة الأفراد ـ على القول بتعلق الأحكام بها ـ إنما هي بالقرينة ، وهي : كون الأمر لطلب إيجاد الطبيعة ، ومن المعلوم : امتناع إيجاد شيء بدون لوازم الوجود التي لا تنفك عن الفرد ، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، فإرادة الفرد إنما تكون بهذه القرينة.

ثانيهما : وقد ذكروا لهذا البحث ثمرات :

منها : كونه موجبا لاندراج مسألة اجتماع الأمر والنهي في كبرى التزاحم ـ بناء على تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع ـ وفي كبرى التعارض ـ بناء على تعلقهما بالأفراد ـ كما لا يخفى.

ومنها : صحة قصد التقرب بلوازم الوجود ، لوقوعها في حيّز الأمر ـ بناء على تعلق الأحكام بالأفراد ـ وعدمها ، لعدم وقوعها في حيّزه ـ بناء على تعلقها بالطبائع ـ لكونه تشريعا محرما حينئذ.

ومنها : جريان الأصل في بعض لوازم الوجود إذا شك في وجوبه لكونه شكا في التكليف ـ بناء على تعلق الأحكام بالأفراد ـ فإن أصل البراءة يجري فيه حينئذ ، ولا يجري فيه ـ بناء على تعلقها بالطبائع ـ لكون الشك حينئذ في المحصل الذي تجري فيه قاعدة الاشتغال ، حيث إن الفرد مقدمة لوجود الطبيعة المأمور بها ، وليس بنفسه مأمورا به ، وغيرها من الثمرات التي لا يخلو ذكرها عن التطويل فتركناها رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان ما هو محل النزاع في هذا البحث :

توضيح ذلك : أن مراد القائلين بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد : ليس تعلقهما بالموجودات الخارجية ، ضرورة : أن الموجود الخارجي مسقط للأمر ، فلا يعقل أن يتعلق به الأمر.

كما أن مراد القائلين بتعلقهما بالطبائع : ليس تعلقهما بالطبائع الصرفة من حيث هي ، في قبال الطبائع من حيث الوجود ، لأن الطبائع مع قطع النظر عن وجودها غير قابلة لتوجيه الطلب إليها ، بل المراد : هي الطبائع من حيث مطلق الوجود مع غض النظر عن ضم الخصوصيات الخارجية إليها ، فمرجع النزاع في هذا البحث إلى : أن الأوامر هل

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تتعلق بالطبائع مع قطع النظر عن مشخصاتها في الخارج ، أو تتعلق بالأفراد يعني بالطبائع مع المشخصات المقوّمة للمطلوب؟ فالكلام في دخل تلك المشخصات وعدمه في متعلق الطلب.

٢ ـ والمصنف اختار تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع ، وأوكل معرفة صحة ما اختاره إلى مراجعة الوجدان من دون حاجة إلى إقامة برهان.

ثم قال : «فانقدح بذلك» أي : بالوجدان الحاكم بكون المطلوب نفس وجود الطبيعة لا أنها مع الخصوصيات الفردية ولا أنها من حيث هي هي ، لأن الطبيعة من حيث هي هي ليست إلّا هي لا مطلوبة ولا مبغوضة ، فتوهم تعلق الأوامر والنواهي بها من حيث هي هي باطل ، لما عرفت : من أنها من حيث هي هي غير قابلة لتعلق الطلب بها ، ولا يترتب عليها أثر ؛ ضرورة : أن المصالح والمفاسد الداعية إلى تشريع الأحكام قائمة بوجودات الطبائع لا بأنفسها من حيث هي ، فلا وجه لتعلق الأحكام بها.

قوله : «نعم هي كذلك» استدراك على عدم صحة تعلق الطلب بالطبيعة من حيث هي هي.

وحاصل الاستدراك : أن الطلب وإن كان لا يصح أن يتعلق بالطبيعة من حيث هي هي ؛ إلّا إنه يصح أن يتعلق بها الأمر ؛ ضرورة : أن الأمر : هو طلب الإيجاد ، ولا إشكال في صحة طلب إيجاد نفس الطبيعة المجردة عن الوجود ، هذا بخلاف الطلب فإن طلب الإيجاد ليس داخلا في مفهومه كما هو داخل في مفهوم الأمر.

قوله : «فافهم» لعله إشارة : إلى عدم صحة التفكيك بين الأمر والطلب بما ذكر ؛ إذ لا معنى لمطلوبية الطبيعة إلّا كون إيجادها أو إعدامها مطلوبا ، فالإيجاد والإعدام داخلان في مفهوم كل من الأمر والطلب ، فلا فرق بينهما.

٣ ـ «دفع وهم» توضيح الوهم : أن متعلق الأمر والطلب حال الأمر والطلب إما موجود وإما معدوم. فعلى الأول : يلزم طلب الحاصل. وعلى الثاني : يلزم وجود العارض من دون معروض ؛ لأن الطلب عارض للوجود قبل تحققه ، وكلاهما محال. والمتوهم هو : صاحب الفصول.

وحاصل الدفع : أن المراد بتعلق الأمر والطلب بالوجود : ليس تعلقهما بوجود الطبيعة الثابتة في الخارج حتى يلزم طلب الحاصل ، بل المراد تعلقهما بإيجاد الطبيعة ، فمعنى تعلق الطلب بالطبيعة هو : طلب إيجادها ، حيث إن المولى يتصور الطبيعة المحصلة لغرضه ، ثم

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يطلب إيجادها على الوجه الوافي بغرضه ، ولا يلزم طلب الحاصل.

وقد جعل الفصول وجود الطبيعة غاية لطلبها ؛ لئلا يلزم طلب الحاصل ، إلّا إن هذا منه ليس إلّا تكلفا محضا ؛ لأن الطبيعة من حيث هي هي غير قابلة للطلب كما عرفت ، فلا فرق في البطلان بين تعلق الأمر والطلب بالطبيعة الموجودة أو بنفسها ، وجعل الوجود غاية لطلبها.

٤ ـ أن ما ذكره المصنف من تعلق الطلب بالطبيعة من حيث الوجود ؛ لا بها من حيث هي هي ظاهر على القول بأصالة الوجود ، وأما على القول بأصالة الماهية فالمطلوب جعلها من الأعيان الخارجية.

والفرق بين القولين : أن المراد بأصالة الوجود هو : كون الأصل في التحقق هو الوجود بمعنى : أن المجعول بالجعل البسيط أولا وبالذات هو الوجود والماهية مجعولة بتبعه ، فهي أمر اعتباري بالنسبة إلى الوجود.

والمراد بأصالة الماهية : أن الأصل في التحقق هي الماهية ؛ بمعنى : أن المجعول بالجعل البسيط أولا وبالذات هي الماهية ، والوجود مجعول بتبع جعلها.

إذا عرفت هذا الفرق فنقول : إن الطلب على القول بأصالة الوجود يتعلق بإيجاد الطبيعة في الخارج ، وعلى القول بأصالة الماهية يتعلق بجعلها من الخارجيات.

٥ ـ من ثمرات هذا البحث : صحة قصد التقرب بلوازم الوجود لوقوعها في حيّز الأمر ؛ بناء على تعلق الأحكام بالأفراد ، وعدمها على القول بتعلقها بالطبائع.

ومنها : اندراج مسألة اجتماع الأمر والنهي في التزاحم ؛ على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالطبائع. وفي التعارض على القول بتعلقهما بالأفراد.

ومنها : جريان أصل البراءة في بعض لوازم الوجود إذا شك في وجوبه ، على القول بتعلق الأحكام بالأفراد ، وعدم جريانه على القول بتعلقها بالطبائع ، بل تجري قاعدة الاشتغال ؛ لأن الشك حينئذ إنما هو في المحصل وهو مجرى قاعدة الاشتغال.

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو : تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع.

٢٩٠

فصل

إذا نسخ الوجوب : فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم ، ولا بالمعنى الأخص.

______________________________________________________

مبحث نسخ الوجوب

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام.

فنقول : إن محل النزاع هو : بقاء الجواز بالمعنى الأعم ، أو بالمعنى الأخص في مقام الإثبات لدلالة الدليل الناسخ أو المنسوخ أو غيرهما عليه ، لا بقاؤه في مقام الثبوت والواقع ، إذ لا يخلو الواقع عن حكم من الأحكام.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن جماعة ذهبوا إلى بقاء الجواز بالمعنى الأعم ـ وهو الإذن في الفعل المشترك بين الأحكام الأربعة غير الحرمة ـ واستدلوا على ذلك : بدلالة الدليل المنسوخ ؛ بتقريب : أنه قبل النسخ كان يدل بالمطابقة على الوجوب ، وبالتضمن على الجواز ؛ لأنه جزء الوجوب المركب من الإذن في الفعل والمنع من تركه ، فإذا ارتفعت دلالته المطابقية عن الحجية بواسطة الناسخ ؛ تبقى دلالته التضمنية على حالها لعدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية.

والمصنف لم يرتض هذا المذهب ، ولذا قال : «إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم». أعني : الإذن في الفعل ، «ولا بالمعنى الأخص» أعني : الإباحة الشرعية مقابل الأحكام الأربعة الأخرى ، «كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام» ، فيقع الكلام تارة : في عدم دلالة الدليل الناسخ على بقاء الجواز مطلقا.

وأخرى : في عدم دلالة الدليل المنسوخ عليه كذلك.

وثالثة : في عدم دلالتهما على ثبوت غير الجواز من الأحكام.

فنقول : إذا أوجب المولى إكرام العلماء بقوله : «أكرم العلماء» ثم نسخ وجوبه بقوله : «نسخت الوجوب» فلا دلالة للدليل الناسخ ، ولا للدليل المنسوخ على بقاء الجواز لا بالمعنى الأعم ، ولا بالمعنى الأخص ، ولا دلالة لهما أيضا على ثبوت غيره من الأحكام.

٢٩١

كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام.

ضرورة : أن ثبوت كل واحد من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن.

ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا بدّ للتعيين من دليل آخر (١) ، ولا مجال (٢)

______________________________________________________

وأما عدم دلالة الدليل الناسخ على بقاء الجواز مطلقا : فلأنه لا يدل على أزيد من رفع الوجوب ونفيه ، ولا يدل على بقاء الجواز لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما.

وأما عدم دلالة الدليل المنسوخ : فلأن مفاده هو الوجوب ، وهو بسيط عند المصنف ، والمفروض : ارتفاعه بدليل الناسخ.

فالمتحصل : أن الدليل الناسخ لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت وهو الوجوب ، من دون تعرض إلى حال الجواز نفيا وإثباتا.

وأما الدليل المنسوخ الدال على الوجوب : فعدم دلالته على الجواز ـ مع فرض بساطة الوجوب ـ واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فلا دلالة لهما على بقاء الجواز.

وأما عدم دلالتهما على ثبوت غيره من الأحكام الباقية ، فلأن كل واحد من تلك الأحكام ـ وإن كان ممكن الثبوت للمورد ـ إلّا إن واحدا من دليلي الناسخ والمنسوخ لا يدل بإحدى الدلالات على تعيين خصوص واحد من تلك الأحكام ، فلا بدّ لتعيين حكم للمورد من دليل آخر غير دليلي الناسخ والمنسوخ.

(١) يعني : غير دليلي الناسخ والمنسوخ.

(٢) هذا الكلام من المصنف إشارة إلى التمسك بالأصل بعد فقد الدليل الاجتهادي ؛ بأن يقال : يمكن إثبات الجواز بالاستصحاب لليقين به قبل النسخ ، والشك فيه بعده ، فيثبت الجواز بالأصل يعني : استصحاب الجواز بعد ارتفاع الوجوب بالنسخ. فدليل كل من الناسخ والمنسوخ وإن كان قاصرا عن إثبات الجواز بعد النسخ ، لكن يمكن ابقاؤه بعده بالاستصحاب ؛ لليقين السابق والشك اللاحق.

ثم أورد المصنف على الاستصحاب المذكور بما حاصله : أن هذا الاستصحاب لا يجري لكونه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وضابطه : الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد للشك في حدوث فرد آخر ، مقارنا لارتفاع الفرد السابق ، وما نحن فيه من هذا القبيل إذ قد علم بارتفاع الجواز الموجود في ضمن الوجوب وشك في وجود جواز آخر مقارنا لارتفاعه ، وهذا هو القسم الثالث من أقسام استصحاب

٢٩٢

لاستصحاب الجواز ، إلّا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ؛ وهو : ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، وقد حققنا في محله : إنه لا يجري الاستصحاب فيه ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع ، بحيث عدّ عرفا ـ لو كان ـ أنه باق ، لا أنه أمر حادث غيره : ومن المعلوم : (١) أن كل واحد من الأحكام مع الآخر عقلا وعرفا ، من المباينات والمتضادات غير الوجوب والاستحباب ، فإنه (٢) وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلا إلّا أنهما متباينان عرفا فلا مجال للاستصحاب إذا

______________________________________________________

الكلي الذي اختار المصنف عدم جريانه فيه ؛ إذ مع تعدد الوجود ينتفي الشك في البقاء الذي هو أحد ركني الاستصحاب.

نعم ؛ يستثنى منه : ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه ليس فردا مغايرا للأول في نظر العرف ؛ كما إذا كان نظير الشك في بقاء كلي السواد الموجود سابقا في ضمن مرتبة قوية منه للشك في ذلك الفرد في ضمن مرتبة ضعيفة ؛ بحيث يعد في العرف أنه من تغير الحالات لا من تعدد الأفراد ، فإنه لا مانع من إجراء الاستصحاب هنا ، ولكن الأحكام ليست كذلك ، بل هي متغايرة عرفا.

(١) غرض المصنف : أن المقام ليس من موارد الاستثناء ؛ بتقريب : أن الوجوب والاستحباب من قبيل السواد الشديد والضعيف ، لأن الاختلاف بينهما في المرتبة ، فإذا شك في بقاء الجواز في ضمن الاستحباب : صح إجراء استصحاب الكلي.

وحاصل الجواب : أن الاختلاف بين الوجوب والاستحباب إنما هو بالتباين ، إذ هما فردان متغايران عرفا ، ومن المعلوم : أن المعيار في باب الاستصحاب هو نظر العرف.

نعم ؛ الاستحباب يكون من مراتب الوجوب عقلا ، لكن لا يجري فيه الاستصحاب أيضا ؛ لعدم صدق الشك في البقاء عرفا لتضاد الوجوب والاستحباب بنظره الذي هو المدار في جريان الاستصحاب.

(٢) الضمير للشأن. وغرض المصنف : أن التضاد عقلا وعرفا مختص بغير الوجوب والاستحباب ، وأما هما : فتضادهما يكون بنظر العرف فقط ، وأما بنظر العقل فلا تضاد بينهما ، إنما هما متفاوتان بالمرتبة ، وأن الوجوب هو المرتبة الشديدة من الطلب ، والاستحباب مرتبة ضعيفة منه ، لكن لمّا كانا بنظر العرف متضادين ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه ؛ ضرورة : أن صدق الشك في البقاء منوط بنظر العرف ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٥٣٩».

٢٩٣

شك في تبدل أحدهما بالآخر ، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعا في هذا الباب (١).

______________________________________________________

(١) يعني : باب الاستصحاب.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ محل الكلام هو : بقاء الجواز في مقام الإثبات لدليل الناسخ أو المنسوخ أو غيرهما ؛ لا بقاء الجواز في الواقع ومقام الثبوت.

وملخص ما أفاده المصنف : أنه إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا لدليل المنسوخ ولا لغيرهما على بقاء الجواز مطلقا ، يعني : سواء كان الجواز بالمعنى الأعم ، أو بالمعنى الأخص.

أما عدم دلالة دليل الناسخ ، فلأنه لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت وهو الوجوب ؛ من دون تعرض إلى حال الجواز وغيره.

وأما عدم دلالة دليل المنسوخ : فلأنه لا يدل إلّا على الوجوب ، وهو بسيط عند المصنف ، والمفروض : ارتفاعه بالنسخ.

وأما عدم دلالتهما على ثبوت غير الجواز من الأحكام الباقية ، فلأن تلك الأحكام وإن كان كل واحد منها ممكن الثبوت للمورد ؛ إلّا إن واحدا من دليلي الناسخ أو المنسوخ لا يدل بإحدى الدلالات على تعيين خصوص واحد منها.

فلا بدّ لتعيين واحد من تلك الأحكام الباقية للمورد من دليل آخر ؛ غير دليلي الناسخ والمنسوخ.

٢ ـ أما استصحاب الجواز لليقين به قبل النسخ والشك فيه بعده : فمرفوض بعدم جريانه ، لكونه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وضابطه : هو الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد ؛ للشك في حدوث فرد آخر منه مقارنا لارتفاع الفرد السابق.

ومختار المصنف : عدم جريان الاستصحاب فيه ؛ إلّا إن يكون الفرد اللاحق من مراتب الفرد السابق كالسواد الضعيف ، بالنسبة إلى السواد الشديد ، فإذا شك في بقاء كلي السواد في ضمن السواد الضعيف ـ بعد العلم بارتفاع السواد ـ الشديد يجري الاستصحاب ، ولكن الأحكام ليست كذلك ، بل هي متغايرة عرفا.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو : عدم الدليل على بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب.

٢٩٤

فصل

إذا تعلق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء ، ففي وجوب كل واحد على التخيير ، بمعنى : عدم جواز تركه إلّا إلى بدل ، أو وجوب الواحد لا بعينه ، أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعيّن عند الله ، أقوال (١).

والتحقيق أن يقال : إنه إن كان الأمر باحد الشيئين بملاك أنه هناك غرض واحد

______________________________________________________

في الوجوب التخييري

(١) الأقوال التي أشار إليها المصنف أربعة :

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان أمور :

الأول : بيان محل النزاع : وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي :

أولا : الفرق بين الوجوب التعييني والتخييري.

وثانيا : الفرق بين التخيير الشرعي والعقلي.

أما الفرق بين الوجوب التعييني والتخييري : فإن الواجب التعييني هو الذي يجب معيّنا ، فلا بدّ من الإتيان لشخصه لا به أو بدله ؛ كصوم شهر رمضان.

والواجب التخييري : هو الذي يجب هو أو بدله ، فيجب على المكلف الإتيان بأحدهما أو أحدها نحو : كفارة الإفطار في شهر رمضان المخيرة بين العتق والصيام والإطعام.

وأما الفرق بين التخيير الشرعي والعقلي : فحاصله : أن التخيير الشرعي هو الذي أمر الشارع بكل واحد من شيئين أو أشياء ؛ بحيث لا يكون بينهما أو بينها جامع كقوله : إذا أفطرت صوم شهر رمضان متعمدا «فأعتق رقبة ، أو صم شهرين ، أو أطعم ستين مسكينا».

وأما التخيير العقلي فهو : ما إذا كان هناك جامع واحد متعلق لغرض المولى فيأمر بذلك الجامع كقوله : «أعتق رقبة» ، ثم يحكم العقل بالتخيير بين أفراد رقبة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع هو : الوجوب التخييري شرعا لا عقلا ، ولا الوجوب التعييني.

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : أن في الواجب التخييري الشرعي إشكالا يجب دفع ذلك. فلا بدّ من توضيح الإشكال قبل الجواب عنه.

أما توضيح ذلك : فيتوقف على مقدمة وهي : أن حقيقة الوجوب متقوّمة بالمنع من الترك ، والواجب التخييري يجوز تركه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : إن الواجب التخييري مما لا ينطبق حدّ الواجب عليه.

وأما حاصل الجواب عن هذا الإشكال : فإن الوجوب التخييري سنخ من الوجوب ، يتصف به كل واحد من الشيئين أو الأشياء ، ولكن ليس اتصاف كل واحد منهما أو منها كاتصاف الشيء بالوجوب التعييني ، بأن يعاقب على تركه بالخصوص ، ويستحق الثواب على فعله كذلك ، بل تترتب عليه آثار الوجوب كعدم جواز الترك إلّا إلى بدل ، وترتب الثواب على فعل واحد منهما أو منها ، وترتب العقاب على ترك فعلين أو أفعال. فهذه الآثار آثار للوجوب ، فتدل عليه.

الثالث : بيان عمدة الأقوال في الوجوب التخييري وهي أربعة :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «وجوب كل واحد على التخيير ـ بمعنى : عدم جواز تركه إلّا إلى بدل ـ». قوله : «بمعنى : عدم جواز تركه ...» إلخ. تفسير للوجوب التخييري وحاصله : أن عدم جواز الترك مطلقا ولو مع البدل هو الوجوب التعييني كالصلوات اليومية ، فلا يجوز تركها مطلقا ولو مع الإتيان بغيرها ، وعدم جواز الترك إلّا إلى بدل هو الوجوب التخييري كخصال الكفارة ، فإن عدم جواز ترك كل واحد من الأبدال مقيد بعدم الإتيان بالآخر ، وإلّا فيجوز الترك ، وهذا سنخ من الوجوب يتصف به كل واحد من الفردين أو الأفراد ، وهو مغاير الوجوب التعييني بجواز تركه مع بدل ، والثواب بإتيان أحدهما ، والعقاب على تركهما معا.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أو وجوب الواحد لا بعينه» ، والفرق بين هذا القسم والقسم الأول : أن الواجب على الأوّل : كل واحد من الأبدال تخييرا ، وعلى الثاني : أحدها لا بعينه ، فالواجب واحد لا متعدد ، ثم المراد من «لا بعينه» هو : الجامع بين الأمرين ، وهذه العبارة كناية عنه ، فمعنى العبارة : هو وجوب الجامع بين الأمرين.

أو المراد منه هو : وجوب الواحد لا بعينه المصداقي ، وهو الفرد المنتشر أو وجوب الواحد لا بعينه المفهومي يعني : مفهوم أحدهما ، كما هو ظاهر العضدي ، بل صريحة حيث قال في أثناء الاحتجاج : «بأن المراد : وجوب مفهوم أحدهما الصادق على كل

٢٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

واحد من مصاديقه لا بعينه أي : على البدلية ، لا المصداق لا بعينه».

الثالث : ما أشار إليه بقوله : «أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما» ، فالواجب على هذا القول : كل واحد من الشيئين أو الأشياء تعيينا ، ومتعلقا للإرادة ، ولكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر ، فيكون مرجع هذا القول إلى اشتراط وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الإتيان بالآخر ، فيكون امتثال واحد منهما أو منها مسقط لغيره من الأبدال ، كما يسقط في كثير من المقامات بارتفاع موضوعه.

وكيف كان ؛ فكل واحد من الطرفين أو الأطراف واجب تعييني.

والفرق بين هذا القول والقولين السابقين ظاهر ، فإن الواجب على هذا القول هو كل واحد منهما أو منها على التعيين ، وإن سقط بفعل البعض.

وعلى الأول والثاني : يكون وجوب كل منهما أو منها على التخيير ، غاية الأمر : أن الواجب على الأول معين ، وعلى الثاني مردد.

الرابع : ما أشار إليه بقوله : «أو وجوب المعين عند الله». بمعنى أن الله يعلم أن ما يختاره المكلف هو ذلك المعين عنده تعالى ، مثلا : يعلم الله أن زيدا يختار الإطعام ، فالواجب على زيد واقعا هو الإطعام ، وهكذا يعلم : أن عمروا يختار الصيام ، فالواجب على عمرو واقعا هو الصيام.

وهناك قول خامس ، وهو : أن الواجب واقعا ما اختاره المكلّف ، فيختلف الواجب باختلاف اختيار المكلّفين ، بل باختلاف حالاتهم في مورد التخيير بين القصر والإتمام ، وهذا القول ما تبرأ منه كل من المعتزلة والأشاعرة ، ونسبه كلّ إلى صاحبه ، وهو أسخف الأقوال ، ولعله لذلك لم يشر إليه المصنف.

وكيف كان ؛ فمصبّ هذه الأقوال هو : مقام الثبوت ، إذ لا إشكال في الوجوب التخييري في مقام الإثبات ؛ ضرورة : وقوعه في الشرعيات والعرفيات ، والإشكال إنما هو في تصويره ، كما عرفت الإشارة إليه بالنسبة إلى بعض الأقوال ، وهنا كلام طويل في النقض والإبرام في الأقوال المذكورة ، ولكن تركنا طول الكلام في المقام رعاية للاختصار.

إذا عرفت هذه الأمور ؛ فاعلم : أنه قد بين المصنف ـ بعد نقل الأقوال ـ مختاره ومذهبه في المقام تحت عنوان «التحقيق».

وغرضه من التحقيق : تصوير التخيير الشرعي ، وإرجاعه حقيقة إلى التخيير العقلي.

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل التحقيق : أن الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء نظرا إلى الملاك والغرض ثبوتا على قسمين.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الوجوب سواء كان تخييريا أو تعيينيا تابع للملاك ، والغرض الذي يكون داعيا إلى الأمر بشيء معين في الوجوب التعييني ، وإلى الأمر بشيئين أو أشياء في الوجوب التخييري ، ثم ذلك الملاك والغرض تارة : يكون واحدا يحصل بكل منهما أو منها ، وأخرى : يكون متعددا ؛ بأن يكون لكل واحد من الشيئين غرض مستقل ، فيتعدد الأمر والحكم بتعدد الغرض.

فإذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن الكلام في تصوير التخيير الشرعي في مقام الثبوت ـ على ما هو مختار المصنف ـ يقع في مقامين :

المقام الأول : فرض وحدة الغرض.

والمقام الثاني : تعدده.

وحاصل الكلام في المقام الأول : أن الغرض الداعي إلى الأمر بشيئين أو أشياء واحد ، بحيث يسقط الأمر بحصول ذلك الغرض الواحد ؛ كرفع العطش الحاصل بكل واحد من الإناءين اللذين أحدهما ماء والآخر عصير الفاكهة ، أو كلاهما ماء. فلا بدّ أن يكون الواجب هو الجامع المنطبق على كل واحد منهما ، ويصير التخيير حينئذ عقليا لا شرعيا ، والدليل على ذلك : أن الغرض الواحد ـ وهو الملاك ـ لا يصدر إلّا من الواحد ، فلا يؤثر فيه المتباينان ، أو المتباينات للزوم السنخية بين العلة والمعلول ، وهي ممتنعة بين المتباينين بما هما متباينان ، وبين الغرض الواحد القائم بكل منهما ، فلا محيص عن كون متعلقه جامعا بين المتباينين ، كتعلّق الأمر بالصلاة الجامعة بين أفرادها العرضية والطولية.

ومن المعلوم : أن هذا التخيير بين الأفراد عقلي وليس بشرعي.

غاية الأمر : أنه لمّا لم يكن ذلك الجامع معلوما لدى العقل بمعنى : أن العقل لا يلتفت إليه ليطبقه على أفراده ؛ بيّن الشارع أفراد ذلك الجامع الذي هو الواجب حقيقة ، فأمر بالفردين أو بالأفراد من ذلك الجامع ، فالجامع واجب تعييني ، والتخيير بين أفراده عقلي. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

فالمتحصل : أن التخيير يكون عقليا فيما إذا كان هناك غرض واحد وهذا هو مختار المصنف. إذ يأتي تضعيف التخيير الشرعي بفرض تعدد الغرض في المقام الثاني.

وحاصل الكلام في المقام الثاني : أن يكون الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء بملاك متعدد ؛

٢٩٨

يقوم به كل واحد منهما ؛ بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ، ولذا (١) يسقط به الأمر ؛ كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا ، وذلك (٢) لوضوح : إن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ، ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار (٣) نحو من السنخية بين العلة والمعلول.

______________________________________________________

بأن يكون في كل واحد منهما أو منها غرض مستقل ، ولكن لا يحصل الغرض من أحدهما مع حصوله من الآخر ؛ لما بينهما من التضاد المفوّت أحدهما للآخر ، بحيث لو أتى بأحدهما أو أحدها فات غرض الآخر ، فإتيانه لغو ، فلا بدّ من الاكتفاء بإتيان أحدهما أو أحدها في مقام الامتثال.

فلا محيص عن كون كل منهما أو منها واجبا في ظرف عدم الآخر ، لأنه مقتضى تبعية الوجوب للملاك والغرض ، فيكون وجوبهما أو وجوبها تخييريا لا تعيينيا ، إذ المفروض : امتناع استيفاء كلا الغرضين ، وإمكان استيفاء أحدهما أو أحدها ، فيمتنع أن يكون وجوب كل منهما أو منها تعيينيا.

فالمتحصل : أنه إذا كان الغرض متعددا ، وكان كل واحد منه قائما بفعل ؛ إلّا إن حصول واحد من الغرض مضاد لحصول الآخر ، فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج ؛ فحينئذ لا مناص من الالتزام بوجوب كل منهما بنحو يجوز تركه إلى بدل لا مطلقا ، ضرورة : أنه بلا موجب ومقتض ؛ بعد فرض : أن الغرضين المترتبين عليهما متضادان بحيث لا يمكن تحصيل كليهما معا ، وعليه : فيكون التخيير بينهما شرعيا ضرورة : مرجع هذا إلى وجوب هذا أو ذاك ، ولا نعني بالتخيير الشرعي إلّا هذا.

إلّا إن هذا الفرض بعيد جدا ؛ لأن فرض كون الغرضين متضادين بحيث لا يمكن الجمع بينهما في الخارج ، مع فرض كون المكلف قادرا على إيجاد الفعلين بعيد جدا ؛ إذ لا يعقل التضاد بين الغرضين مع عدم المضادة بين الفعلين.

وكيف كان ؛ فتحصل مما ذكر : أنه في حال كون الغرض واحدا يكون الجامع بين الأمرين واجبا ، والتخيير بينهما عقلي ، وحال كون الغرض متعددا يكون الأمران واجبين ، ولكن التخيير بينهما شرعي ، فهما واجبان تخييرا.

(١) يعني : لأجل حصول تمام الغرض يسقط الأمر المترتب عليه بالإتيان بواحد منهما.

(٢) قوله : «وذلك» إشارة إلى برهان وجوب الجامع ، وكون التخيير عقليا كما عرفت.

(٣) يعني : لو لا اعتبار السنخية بين العلة والمعلول لأثّر كل شيء في كل شيء ؛ كما قيل في علم الفلسفة.

٢٩٩

وعليه : فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي ، لبيان أن الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

وإن كان (١) بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض ، لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه ؛ كان كل واحد واجبا بنحو (٢) من الوجوب ، يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما ، والعقاب على تركهما ، فلا وجه في مثله (٣) للقول بكون الواجب هو

______________________________________________________

(١) إشارة إلى المقام الثاني الذي تقدم تفصيل ذلك.

(٢) يعني : كان كل واحد واجبا مغايرا للوجوب التخييري العقلي الذي تقدم في المقام الأول ، وكذلك يكون واجبا مغايرا للوجوب التعييني المتوقف على ثبوت الغرض في كل منهما مطلقا ، والمفروض : عدم ثبوته كذلك لما عرفت : من أن الغرض يكون في كل واحد منهما في ظرف عدم الآخر.

فالمتحصل : أن الوجوب التخييري نحو من الوجوب «يستكشف عنه تبعاته» يعني : آثاره ، ومن آثاره : عدم جواز تركه إلّا إلى بدل ، إذ لا معنى لعدم جواز الترك إلّا الوجوب ، ومن آثاره : ترتب الثواب على فعل واحد منهما ، فترتب الثواب على فعل واحد منهما كاشف إنّا عن الوجوب ، لأن الثواب مترتب على إطاعة الحكم الوجوبي. هذا إذا أتى بواحد من الفعلين.

وأما إذا أتى بكليهما : فعلى القول بوجوب كل منهما في ظرف عدم الآخر ؛ لا يترتب الثواب أصلا لعدم وجوب شيء منهما حينئذ ، إذ المفروض : وجوب كل واحد منهما عند عدم الآخر ، وقد فات الشرط حال الجمع بينهما.

وأما على القول بكون الواجب خصوص ما يقوم به الغرض ـ سابقا كان أو لاحقا ـ يترتب الثواب على خصوص ما يقوم به الغرض دون الآخر.

ومن آثار الوجوب التخييري : ترتب العقاب على ترك الفعلين ، ولا عقاب إلّا على ترك الواجب ، فهذه الآثار تدل على وجوب كل منهما.

(٣) يعني : في مثل ما يكون التكليف متعلقا بكل واحد من الشيئين بملاك مستقل ؛ بمعنى : تعلق التكليف بأحد الشيئين على سبيل التخيير ، مع تعدد الملاك والغرض.

وغرض المصنف من هذا الكلام : تزييف الأقوال المبنيّة على تعدد الملاك والغرض ، وهي الأقوال الأربعة المذكورة ، مع فرض : تعدد الملاك في الجميع ، أو في البعض.

٣٠٠