دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد ، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب ، مع إنه محال بلا ريب ولا إشكال.

إن قلت : فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك (١) ، فإن الطلب

______________________________________________________

اختياري غير عصيان الأمر بالأهم ؛ كأن يقول : «إذا شتمت مؤمنا فصلّ وأزل في آن واحد» ، مع وضوح قبح هذا التكليف ، وأن تعليقه على فعل اختياري لا يرفع قبحه. فيكون محالا على الحكيم كما أشار إليه بقوله : «مع إنه محال بلا ريب ولا إشكال» أي : مع إن تعليق طلب الضدين في عرض واحد على أمر اختياري غير عصيان الأهم محال بلا ريب.

بقي الكلام فيما هو المشهور من : أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فنقول : إنّ معناه : أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ؛ بمعنى : أن المكلف في صورة تنجز التكليف عليه لو صيره محالا على نفسه لا يسقط عنه العقاب على مخالفة ذلك التكليف ، وليس معناه : أن كون الشيء : مقدورا للمكلف في زمان يصحح أمر المولى به وإن أصبح محالا بسوء اختياره.

(١) أي : على نحو الترتب. أي : قوله : «إن قلت : فرق ...» إلخ. هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها لتصحيح طلب الضدين بنحو الترتب. الوجه الأول : ما أشار إليه بقوله : «بدعوى : إنه لا مانع». والوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «لا يقال : نعم». وحاصل هذا الوجه الثالث : هو الفرق بين مثل : «إذا ضربت زيدا فقم واقعد» ، وبين اجتماع الطلبين بنحو الترتب فيستحيل الأول دون الثاني.

وملخص الفرق بينهما : هو استحالة طلب الضدين معا ، وذلك لمطاردة طلب كل منهما لطلب الآخر ، هذا بخلاف ما إذا كان طلبهما بنحو الترتب ، المبحوث عنه في المقام ؛ فإن كلا من الضدين حينئذ لا يطارد الآخر ؛ لأن طلب المهم منوط بعصيان أمر الأهم ، فمقتضى الترتب : وقوع مطلوبية كلّ من الضدين في طول مطلوبية الآخر ، وامتناع وقوعهما معا على صفة المطلوبية عرضا ، فلو فرض محالا إيجادهما معا لا يتصف بالمطلوبية إلّا خصوص الأهم ؛ لأن مطلوبية المهم موقوفة على عصيان الأمر الأهم ، والمفروض : امتثاله.

قوله : «فإن الطلب في كل منهما» بيان للفرق بين الاجتماع بنحو العرضية ، والاجتماع بنحو الترتب والطولية.

قوله : «فلا يكاد يريد غيره» أي : غير الأهم يعني : لا يريد المهم على فرض الإتيان بالأهم.

٢٦١

في كل منهما في الأول يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني ، فإن الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم ، فإنه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه ، وعدم عصيان أمره.

قلت : (١) ليت شعري! كيف لا يطارده الأمر بغير الأهم؟ وهل يكون طرده (٢) له إلّا من جهة فعليته ، ومضادة متعلقه للأهم؟ والمفروض : فعليته ، ومضادة متعلقه له.

وعدم (٣) إرادة غير الأهم ـ على تقدير الإتيان به ـ لا يوجب عدم طرده لطلبه مع

______________________________________________________

فالمتحصل من الجميع : أن الترتب ممكن ، وقياسه على اجتماع طلب الضدين على نحو العرضية قياس مع الفارق ، وقد عرفت الفرق ، فلا حاجة إلى التكرار والإعادة.

(١) هذا جواب عن الاستدلال بصحة الترتب بإبداء الفرق بين اجتماع الطلبين في عرض واحد ، وبين اجتماعهما بنحو الترتب. وحاصله : إثبات استحالة الترتب ، وعدم الفرق في الامتناع بين الاجتماع العرضي والترتبي.

توضيحه : أنّ المطاردة الناشئة من فعلية الطلب وتضاد المتعلقين ـ كالصلاة والإزالة ـ موجودة في الترتب كوجودها في اجتماع طلب الضدين عرضيا ، حيث إن أمر الأهم فعلي ، وأمر المهم ـ لعصيان أمر الأهم ـ أيضا صار فعليا ، فيجتمع الطلبان الفعليان بالضدين في آن واحد ، فكل منهما يطرد الآخر ، فأمر الأهم ينفي مطلوبية المهم ، وبالعكس ، فتحصل المطاردة من الطرفين في الترتب ، كحصولها منهما في اجتماع الطلبين عرضيا.

فالمتحصل : أن الترتب محال ؛ لوجود المطاردة فيه ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٧٧».

(٢) أي : ليس طرد المهم للأهم إلّا من جهة فعلية أمر المهم ، ومضادة متعلقه للأهم ، وهما توجبان المطاردة.

(٣) قوله : «وعدم إرادة غير الأهم ...» إلخ دفع لتوهم عدم لزوم المطاردة إذا أتى الشخص بالأهم ؛ ضرورة : أنه على تقدير الإتيان بالأهم لا يتعلق الطلب بالمهم حتى يكون طاردا لطلب الأهم ، فحينئذ لا تتحقق المطاردة من الطرفين حتى يستحيل الترتب.

وحاصل الدفع : أن مجرد عدم إرادة المهم في صورة الإتيان بالأهم لا يمنع عن طرد طلب المهم لطلب الأهم : مع فرض فعلية أمر المهم بعصيان أمر الأهم ، فتتحقق حينئذ المطاردة من الطرفين ؛ وهي موجبة لاستحالة الترتب.

وكيف كان ؛ فالإشكال على الترتب وارد على تقدير الإتيان بالمهم ، وعصيان الأهم.

٢٦٢

تحققه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة (١) ، من جهة المضادة بين المتعلقين.

مع أنه (٢) يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم ، فإنه (٣) على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد ، كما كان في غير هذا الحال ، فلا يكون له (٤) معه أصلا بمجال.

إن قلت : (٥) فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات؟

______________________________________________________

(١) أي : المطاردة الموجبة لاستحالة الترتب.

(٢) غرضه : إثبات استحالة الترتب حتى بناء على الطرد من طرف واحد وهو طرف الأمر بالأهم ؛ بأن لا يكون أمر المهم طاردا لأمر الأهم.

توضيح ذلك : أنه لو سلمنا عدم المطاردة بين الطرفين ؛ بل من طرف أمر الأهم فقط فلنا أن نقول : باستحالة الترتب ؛ لأن أمر الأهم يطرد طلب المهم على كل حال ؛ سواء أتى بالأهم أم تركه ، إذ المفروض : كون أمره فعليا مطلقا من دون اشتراطه بشيء ، والطرد من طرف واحد كاف في استحالة طلب الضدين ؛ لعدم قدرة المكلف على امتثال الأمرين معا ، فاستحالة طلب الضدين ليست منوطة بالمطاردة من الطرفين ، حتى يقال : إن طلب المهم لا يطرد طلب الأهم ، فلا يحكم بالاستحالة لعدم المطاردة.

(٣) أي : الأمر بالأهم في حال عصيان أمره طارد لطلب الضد ، كما كان طاردا له في غير حال العصيان لكون الأمر بالأهم فعليا مطلقا ، والمراد بالحال في كلا الموردين هو : العصيان.

فالمتحصل : أن أمر الأهم طارد مع عرضية الطلبين وطوليّتهما.

(٤) أي : فلا يكون للأمر بالمهم مع الأمر بالأهم مجال أصلا ؛ لكفاية طرد الأهم فقط في الاستحالة من دون توقفها على طرد المهم للأهم أي : لا تتوقف الاستحالة على المطاردة ومعنى طرد الأهم : أنه يكون مانعا لحدوث الأمر بالمهم. ومن هنا ظهر : بطلان الإشكال على المصنف بأنه : لا يعقل أن يكون الطرد من طرف واحد.

(٥) هذا هو الوجه الرابع لتصحيح طلب الضدين بنحو الترتب من القائلين به ، فيقال في تقريب هذا الوجه : أن طلب الضدين بنحو الترتب قد وقع في العرف والشرع كقول المولى : لعبده : «اذهب إلى المكتب وإلّا فأكرم الضيوف» ، وأمر الشارع بالسفر للجهاد والدفاع عن الإسلام في رمضان ، وبالصوم على تقدير ترك السفر ، وهكذا.

ومن المعلوم : أن وقوع الترتب في العرف أدل دليل على إمكانه ، ومعه فلا سبيل إلى إنكار الترتب والالتزام باستحالته.

٢٦٣

قلت : لا يخلو : (١) إما أن يكون الأمر بغير الأهم ، بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقيقة.

وإما أن يكون الأمر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة ، وأن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة ، فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم ؛ لا أنه (٢) أمر مولوي فعلي كالأمر به (٣) فافهم وتأمل جيدا (٤).

ثم إنه (٥) لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة

______________________________________________________

(١) حاصل الجواب عن الدليل المذكور : أن ما ذكر وإن كان ظاهره وقوع الترتب ؛ إلّا إن الواجب صرفه عن ظاهره بعد قيام البرهان العقلي على استحالته ، فإن الظاهر لا يقاوم البرهان العقلي على الامتناع ، فلا بد من التوجيه. بأحد وجهين :

الأول : صدور الأمر بالمهم بعد الإغماض ورفع اليد عن أمر الأهم ، ففي صورة عدم الإتيان لا أمر إلّا أمر المهم ، فليس هنا أمران بالضدين حتى يصح اجتماعهما على نحو الترتب ، ولكن هذا خارج عما نحن فيه ، وأجنبي عن الترتب المبحوث عنه ، وهو : اجتماع طلبين فعليين طوليين متعلقين بضدين في آن واحد ، إذ المفروض : عدم الإغماض عن الأهم وبقاء الأمر به.

الثاني : عدم كون الأمر بالمهم في هذه الموارد مولويا ، بل هو إرشادي ؛ بأن يكون إرشادا إلى محبوبية متعلقه ـ وهو المهم ـ وبقائه بعد عصيان أمر الأهم على ما كان عليه من المصلحة ، فليس هنا أمران مولويان فعليان متعلقان بالضدين ، بل الأمر المولوي واحد وهو متعلق بالأهم. وهذا خارج عن محل الكلام.

(٢) أي : ليس الأمر بالمهم مولويا فعليا ـ كالأمر بالأهم ـ حتى يلزم اجتماع طلبين مولويين فعليين متعلقين بالضدين في آن واحد ـ كما هو المراد من الترتب ـ حتى يكون اجتماعهما برهانا إنّيا على وقوع الترتب فضلا عن إمكانه.

(٣) أي : كالأمر بالأهم في المولوية والفعلية.

(٤) قوله : «تأمل جيدا» تدقيقي من أجل تعقيبه بكلمة الجيد. هذا ما يقتضيه الذوق السليم من غير حاجة إلى الدليل وإقامة البرهان لتحصيل اليقين.

(٥) الضمير للشأن. وهذا إشكال آخر على الترتب غير ما تقدم من الامتناع والاستحالة.

وحاصل هذا الإشكال : أن لازم الترتب هو تعدد العقاب في صورة مخالفة كلا

٢٦٤

مخالفة الأمرين لعقوبتين (١) ؛ ضرورة : قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا (٢) كان سيدنا الأستاذ «قدس‌سره» لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنّا نورد به (٣) على الترتب ، وكان بصدد تصحيحه.

فقد ظهر : (٤) أنه لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو أهم منها إلّا ملاك الأمر.

نعم ؛ (٥) فيما إذا كانت موسعة ، وكانت مزاحمة بالأهم في بعض الوقت لا في

______________________________________________________

الأمرين ، فيلزم العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ضرورة : عدم قدرته على الجمع بين الضدين في آن واحد. ومن البديهي : أن العقاب على غير المقدور قبيح عقلا ، فيكون محالا من الحكيم. وبطلان اللازم ـ أعني : تعدد العقاب ـ كاشف عن بطلان الملزوم وهو الترتب.

وكيف كان ؛ فلا يمكن للقائل بالترتب الالتزام بلازمه وهو : تعدد استحقاق العقاب عند ترك الأهم والمهم معا ؛ لما عرفت : من لزوم العقاب على أمر غير مقدور. وعلى هذا :

فلا سبيل إلى الالتزام بالترتب حتى يمكن تصحيح الضد العبادي به بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده.

(١) أي : بأن تكون إحدى العقوبتين على ترك الأهم ، والأخرى : على ترك المهم.

(٢) أي : لأجل كون الترتب مستلزما للعقاب على غير المقدور لم يلتزم السيد الشيرازي ـ وهو المحقق الميرزا الكبير «قدس‌سره» ـ بتعدد العقاب.

(٣) أي : بهذا الإشكال ، وكان السيد بصدد تصحيح الترتب بدفع هذا الإشكال.

والمتحصل : أن الترتب مستلزم للعقاب على غير المقدور ، وهو قبيح. اللهم إلّا إن يقال : إن المكلف بسوء اختياره أوجب التكليفين على نفسه ولا مانع عنه ؛ لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. فتدبر.

(٤) أي : أن المصنف يستنتج من بطلان الترتب ـ لأجل الإشكالات الواردة عليه ـ عدم صحة ما فرعوه عليه من صحة العبادة المضادة للأهم ، فينحصر تصحيحها بالملاك ؛ من غير حاجة إلى الأمر حتى نلتزم بالترتب ، وقد عرفت تصحيح العبادة بالملاك ، فلا حاجة إلى ذكره في المقام ، وتركنا ما في المقام من بسط الكلام في إحراز الملاك تجنبا عن التطويل الممل.

(٥) هذا استدراك على ما تقدم من المصنف من : انحصار مصحح العبادة المضادة للأهم بالملاك وهو رجحانها الذاتي فهي صحيحة ؛ لأن مصلحتها ورجحانيتها وعموديتها للدين محفوظة ، ولا تذهب من البين لأجل مزاحمتها بالأهم.

٢٦٥

تمامه (١) يمكن أن يقال : أنه حيث كان الأمر بها على حاله وإن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ؛ أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر ، فإنه وإن كان خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ؛ إلّا إنه (٢) لمّا كان وافيا

______________________________________________________

وحاصل الاستدراك : أنه يمكن تصحيح العبادة بالأمر في مورد خاص وهو : ما إذا كان المهم ـ كالصلاة ـ موسعا ، وزوحم في بعض وقته بواجب أهم كإنقاذ غريق أو إطفاء حريق.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للواجب الموسع ـ كالصلاة مثلا ـ أفراد عرضية ، كالصلاة في المسجد وفي البيت وفي الحسينية ، وأفراد طولية ـ كالصلاة في أول الوقت وآخر الوقت ـ.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مزاحمتها بالواجب الأهم كإنقاذ الغريق إنما هي في بعض أفراد طولية كالصلاة في أول الوقت ، وتلك المزاحمة توجب خروج ذلك البعض عن حيّز الأمر المتعلق بطبيعة المهم ، فلا أمر بالنسبة إلى الأفراد المزاحمة ، فيختص الأمر بالأفراد غير المزاحمة ـ وهي ما يمكن الإتيان به بعد زمان الأهم ـ فإذا عصى الأمر بالأهم وأتى بالمهم ـ بقصد الأمر المتعلق بغير الأفراد المزاحمة ـ صح الضد العبادي ؛ مثلا : لو غرق مسلم أول الظهر ، ثم ترك الشخص الإنقاذ واشتغل بالصلاة حتى هلك الغريق فإنه يمكن أن يأتى بالصلاة بقصد الأمر المتعلق بها بعد وقت الأهم ، فإن أمر الصلاة إنما سقط في أول الوقت مقدار زمان انقاذ الغريق ، أما بعد عصيان أمر الأهم ، وهلاك الغريق فالأمر بالمهم باق ، فلا حاجة حينئذ إلى قصد الملاك لتصحيح الضد العبادي ، كالصلاة مثلا.

(١) أي : لم تكن مزاحمة المهم بالأهم في تمام وقت المهم ؛ إذ لو كانت المزاحمة في تمام الوقت سقط طلب طبيعة المهم رأسا للمزاحمة.

(٢) أي : أن الفرد المزاحم لمّا كان وافيا بالغرض كالباقي تحت العبادة ؛ كان مثل الباقي ، يعني : كما يصح الإتيان بالأفراد غير المزاحمة لوفائها بغرض المولى ، كذلك يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي أمر الطبيعة وإن كان خارجا عن دائرة الطبيعة بوصف كونها مأمورا بها ، ولا تفاوت في نظر العقل بين الفرد المزاحم بالأهم ، وبين غيره من الأفراد غير المزاحمة له في الوفاء بالغرض ، وسقوط الأمر ، وصحة الإتيان به بداعي أمر الطبيعة.

وكيف كان ؛ فالمزاحمة لا توجب سقوط الأمر عن طبيعة المهم رأسا ، بل توجب سقوطه عن الفرد المزاحم بالأهم ، وصيرورة وقت المهم مضيقا لاختصاصه بغير وقت الأهم ، فالأمر بسائر أفراد المهم ـ مما لا يزاحم ـ باق على حاله ، فلا مانع من الإتيان بالمهم

٢٦٦

بغرضها كالباقي تحتها كان عقلا مثله في الإتيان به في مقام الامتثال ، والإتيان به بداعي ذلك الأمر بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا.

ودعوى : أن الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها وما زوحم منها بالأهم وإن كان من أفراد الطبيعة ؛ لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها فاسدة (١) ؛ ...

______________________________________________________

بداعي الأمر المتعلق بسائر أفراده مما ليس مزاحما للأهم ، فإن الفرد المزاحم وإن كان خارجا عن حيّز طبيعة المهم بما هي مأمور بها ؛ لكنه من أفرادها بما هي هي ، ومما يفي بغرض المولى.

فحينئذ لا يفرق العقل بين هذا الفرد المبتلى بمزاحمة الأهم ، وبين الأفراد غير المزاحمة في الوفاء بالغرض الداعي إلى الأمر الذي يسقط به ، كسقوطه بغيره من الأفراد الباقية تحت الطبيعة.

ومن هنا ظهر : الفرق بين الموسع والمضيق وهو الإتيان بالمهم بداعي الأمر إذا كان موسعا. أما لو كان مضيقا : فلا يمكن الإتيان به إلّا بالملاك لسقوط الأمر به بالمرة لأجل مزاحمته بالأهم.

ولمّا كان هناك مظنة إشكال أشار إلى بيان دفعه بقوله : «ودعوى : أن الأمر لا يكاد يدعو ...» إلخ.

وأما تقريب الإشكال : فيقال : إن أمر المولى لا يدعو العبد إلّا إلى المأمور به ، مثلا : إذا قال المولى لعبده : «اشتر اللحم» فيدعوه هذا الأمر إلى اشتراء اللحم ، ولا يدعوه إلى اشتراء الخبز أو الكتاب. والمفروض في المقام : أن الفرد المزاحم ليس متعلقا للأمر حين مزاحمته للأهم وإن كان من أفراد الطبيعة ؛ ولكن مجرد كونه من أفراد الطبيعة مع عدم أمر به لا يجدي في صحته المترتبة على الأمر ؛ لاختصاصه بالأفراد غير المزاحمة ، فلا يدعو إلى ما اختص به ، وهو الفرد المزاحم ، فلا يحصل الامتثال بإتيان الفرد المزاحم بقصد أمر الطبيعة.

(١) خبر قوله : «دعوى» ودفع لها.

وحاصل الدفع وتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين خروج الفرد المزاحم عن طبيعة الصلاة ؛ لأجل التخصيص ، وبين خروجه عنها لأجل التزاحم بالأهم.

وملخص الفرق : أن الخروج في الأول إنما هو عن الملاك والخطاب معا ، فالفرد الخارج يكون فاقدا للملاك وغير محصل للغرض ، هذا بخلاف الثاني حيث يكون الخروج

٢٦٧

فإنه (١) إنما يوجب ذلك إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة ، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها إلّا إنه ليس لقصور فيه ، بل لعدم إمكان تعلق الأمر بما تعمه عقلا ، وعلى كلّ حال : فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال ، وإطاعة الأمر بها ، بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلا (٢). هذا (٣) على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع.

______________________________________________________

خطابا لا ملاكا ؛ إذ لا قصور في الملاك ، بل المحذور يختص بمقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بين الضدين ، فلا بد من رفع عن أحد الخطابين وهو المهم.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن خروج الفرد المزاحم عن دائرة الطبيعة المأمور بها يوجب عدم داعوية أمر الطبيعة بالنسبة إليه ؛ إذا كان الخروج لأجل التخصيص دون المزاحمة ، والمفروض : أن الخروج في محل الكلام إنما هو للتزاحم لا للتخصيص.

وكيف كان ؛ فلا تفاوت بين الفرد المزاحم وغيره في الملاك والوفاء بالغرض ، وكان المانع عن شمول الطلب الفعلي المتعلق بالطبيعة مزاحمته للأهم ، ومع وجود الملاك والوفاء بالغرض صح الإتيان بداعي الأمر بالطبيعة ؛ إذ لا تفاوت بنظر العقل الحاكم بوجوب الإطاعة بين هذا الفرد المزاحم وغيره في الوفاء بالغرض الداعي إلى الأمر ؛ وإن لم يتعلق به الأمر لأجل التزاحم.

(١) أي : خروج الفرد المزاحم عن تحت الأمر «إنما يوجب ذلك» أي : عدم صحة الإتيان به بداعي الأمر ، «إذا كان خروجه عنها» أي : عن الطبيعة «بما هي كذلك» أي : مأمور بها «تخصيصا» أي : حتى لا يكون ملاك الأمر موجودا في الفرد الخارج «لا مزاحمة» أي : بأن يكون الملاك موجودا في الفرد المزاحم.

(٢) أي : لكون الفرد المزاحم كغيره في الفردية للطبيعة ، والمحصلية للغرض لوجود الملاك فيه.

(٣) أي : جواز الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة «على القول بتعلق الأمر بالطبيعة واضح ، وأما على القول بتعلق الأوامر بالفرد فأيضا واضح ؛ لأن هذا الفرد مشترك مع سائر الأفراد في الوفاء بالغرض ، والاشتمال على المصلحة ، فلا يمتنع عقلا أن يؤتى بهذا الفرد بداعي الأمر المتعلق بسائر الأفراد ، وهذا ما أشار إليه المصنف «قدس‌سره» : «وأما بناء على تعلقها بالأفراد ، فكذلك» يعني : يصح الإتيان بالفرد المزاحم للأهم بدعوة الأمر المتعلق بغيره على القول بتعلق الأوامر بالأفراد أيضا ؛ وذلك لأن المناط ـ وهو كون المأتي به واجدا لما هو ملاك الأمر مع عدم كونه مأمورا به ـ متحقق على كلا القولين.

وإنما الفرق بينهما هو : أن المأمور به بناء على تعلق الأوامر بالأفراد مباين للفرد

٢٦٨

وأما بناء على تعلقها بالأفراد فكذلك ، وإن كان جريانه عليه أخفى ، كما لا يخفى ، فتأمل (١).

ثم لا يخفى : أنه بناء على إمكان الترتب وصحته (٢) ، لا بد من الالتزام بوقوعه من دون انتظار دليل آخر عليه ، وذلك لوضوح : أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلّا امتناع الاجتماع في عرض واحد ، لا كذلك (٣) ، فلو قيل (٤) بلزوم

______________________________________________________

المزاحم ، فلا ينطبق عليه أصلا ، بل يقوم مقامه لوفائه بغرض واحد يقوم بكل واحد من الأفراد المتباينة ؛ نظير الملاك الواحد القائم بكل واحد من أفراد التخييري وأما بناء على تعلق الأوامر بالطبائع : فليس المأمور به مباينا للفرد المزاحم ، بل يشمله لكون الفرد المزاحم من أفراده بما هو هو وإن لم يكن من أفراده بما هو مأمور به. وهذا الفارق أوجب كون جريان القول بصحة الفرد المزاحم ـ بناء على القول بتعلق الأوامر بالأفراد ـ أخفى من جريانه على القول بتعلقها بالطبائع ، لأن داعوية الأمر المتعلق بفرد لفرد آخر أخفى من داعوية الأمر بالطبيعة للفرد.

(١) لعله إشارة إلى ما تقدم من : أن وجود الملاك في الفرد الخارج عن تحت الأمر لا يصحح الإتيان بذاك الفرد بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة أو بفرد آخر ، وليس هذا إلّا من قبيل الإتيان بصلاة الصبح بداعي الأمر المتوجه إلى صلاة الظهر مثلا ؛ لوجود الملاك وهو : المعراجية مثلا ، فالأمر بالتأمل حينئذ إشارة : إلى صحة ما تقدم من قوله : «ودعوى إن الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها».

(٢) أي : صحة الترتب.

والغرض من هذا الكلام : بيان ما هو المهم في بحث الترتب ؛ وهو : إثبات إمكانه.

وأما وقوعه فلا حاجة إلى البحث عنه ، بل إمكانه مساوق لوقوعه ؛ لأن المفروض : وجود الخطابين المتزاحمين في الشرعيات ، كالأمر بالصلاة ، وإنقاذ الغريق المؤمن ، والمزاحمة لا تقتضي عقلا إلّا امتناع اجتماع المتزاحمين عرضا لا طولا ـ كما هو قضية الترتب ـ فإن جعل أحدهما في طول الآخر رافع لهذا المحذور العقلي. فبناء على إناطة صحة العبادة بالأمر ، وعدم كفاية مجرد الملاك في صحتها ـ كما هو مبنى القائلين ببطلان الترتب وعدم معقوليته ـ كانت العبادة مأمورا بها بأمر فعلي موجب لصحتها ، كما في «منتهى الدراية» ، ج ٢ ، ص ٤٩٢.

(٣) أي : لا بنحو الترتب. بمعنى : إن العقل لا يحكم بامتناع الاجتماع على نحو الترتب والطولية ، إنما يحكم بامتناع الاجتماع على نحو العرضية.

(٤) أي : كما نسب إلى القدماء ، واختاره غير واحد من متأخري المتأخرين.

٢٦٩

الأمر في صحة العبادة ، ولم يكن في الملاك كفاية ، كانت العبادة مع ترك الأهم صحيحة لثبوت الأمر بها في هذا الحال (١) ، كما إذا لم تكن هناك مضادة.

______________________________________________________

(١) أي : حال ترك الأهم ـ بناء على القول بالترتب ـ فإن الأمر في هذه الصورة متحقق كثبوته حال عدم ابتلائه بمزاحمة الضد الأهم. هذا تمام الكلام في بحث الترتب ، وتركنا ما في المقام من بسط الكلام رعاية للاختصار المطلوب في المقام.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان الغرض من الترتب ؛ ومحل النزاع منه ، وبيان أقسامه :

الغرض منه هو : تصحيح الضد العبادي حتى على القول بتوقف صحة العبادة على الأمر ، وعدم كفاية الملاك والمحبوبية في قصد التقرب المعتبر في العبادة.

ومحل النزاع منه هو : الترتب بمعناه المصطلح عند الأصوليين ، يعني : تعلق الأمر بالضد بنحو الترتب كالأمر بالصلاة مترتبا على عصيان الأمر بالإزالة ؛ بأن يقال : «أزل النجاسة وإن عصيت فصل». أما تصوير أقسامه فيما إذا كان أحد الضدين أهمّ من الآخر : فقد أشار إليه المصنف بقوله : «بنحو الشرط المتأخر ...» إلخ.

الأول : أن يكون المهم مترتبا على عصيان الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن ؛ كأن يقول المولى : «أزل النجاسة وان عصيت فصلّ مقارنا للعصيان».

الثاني : أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على أمر الأهم بنحو الشرط المتقدم. كأن يقول : «أزل النجاسة وإن عصيت فصلّ بعده».

الثالث : أن يكون أمر المهم مترتبا على أمر الأهم بنحو الشرط المتأخر ؛ كأن يقول : «أزل النجاسة وإن عصيت بعد فصلّ» ، وكذلك البناء على معصية أمر الأهم أو العزم عليها ، وبعض هذه الأقسام ـ كالأول والثاني ـ خارج عن محل الكلام لسقوط الأمر بالأهم بالعصيان ، فلا يلزم اجتماع الأمر بالضدين في آن واحد.

٢ ـ وقد أنكر المصنف «قدس‌سره» الترتب بأنه مستلزم للمحال ، وهو طلب الضدين في زمان واحد وهو في الاستحالة كاجتماع الضدين.

أما تقريب لزوم طلب الضدين في عرض واحد فحاصله : أن ملاك الاستحالة ـ أعني : فعلية الأمرين ـ موجود في طلب الضدين بنحو الترتب.

أما فعلية أمر المهم : فلأجل حصول شرطه ـ وهو عصيان أمر الأهم ـ أما فعلية أمر الأهم ؛ فلأن طلبه مطلق فيكون موجودا في مرتبة طلب المهم ، ولا يسقط أمره بمجرد

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

فرض حصول المعصية أو العزم عليها فيما بعد ؛ ما لم تتحقق المعصية.

توهم الفرق بين الامتناع بالذات ، والامتناع بالاختيار ؛ باستحالة الأول دون الثاني مدفوع ؛ بأن ما يقال : من أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا تكليفا ، فطلب الضدين محال مطلقا ؛ بلا فرق بين أن يكون الامتناع بسوء الاختيار أم بغيره ؛ لأن منشأ المحال هو : طلب الجمع بين الضدين موجود في الصورتين.

٣ ـ توهم الفرق بين طلب الضدين في عرض واحد ، وبين طلبهما على نحو الترتب فالمحال هو الأول دون الثاني مدفوع ، بأنه لا فرق بين الطلبين في المطاردة ولزوم الاستحالة ؛ لأن المطاردة الناشئة من فعلية الطلبين وتضاد المتعلقين موجودة في كلتا الصورتين كما عرفت.

فالمتحصل : هو استحالة الترتب.

وتوهم : وقوع الترتب في العرفيات ؛ مثل قول المولى لعبده : «اذهب إلى المدرسة وإلّا فأكرم الضيوف» مردود بكونه مخالفا للبرهان العقلي على الامتناع ، فلا بدّ من توجيه ذلك بأحد وجهين :

أحدهما : إن صدور الأمر بالمهم إنما هو بعد الإغماض ، ورفع اليد عن أمر الأهم ، فليس هنا إلّا الأمر بالمهم ، فيخرج عن موضوع الترتب.

ثانيهما : حمل أمر المهم على الإرشاد إلى بقاء متعلقه على ما هو عليه من المصلحة ، فيخرج أيضا عن محل الكلام ؛ لأن الترتب إنما هو بين الأمرين المولويين.

٤ ـ القائل بالترتب لا يمكنه أن يلتزم بما هو لازم الترتب ؛ وهو تعدد العقاب في صورة مخالفة كلا الأمرين ؛ لأن تعدد العقاب مستلزم للعقاب على ما هو خارج عن قدرة العبد ؛ ضرورة : عدم قدرته على الجمع بين الضدين في زمان واحد ، وبطلان اللازم كاشف عن بطلان الملزوم.

فالمتحصل من الإشكالات الواردة على الترتب : بطلان ما فرعوه عليه من صحة العبادة المضادة للأهم ، فينحصر تصحيحها بالملاك من دون الحاجة إلى الأمر.

٥ ـ يمكن تصحيح الضد العبادي بالأمر في بعض الموارد وهو : ما إذا كان المهم واجبا موسعا كالصلاة ، وزوحم بعض وقته بواجب أهم كإنقاذ المسلم من الغرق ، فحينئذ إذا أتى بالمهم عند ترك الأهم بقصد الأمر المتعلق بالطبيعة صح الضد العبادي ؛ إذ لا فرق بنظر العقل بين الفرد المزاحم وغيره في الوفاء بالغرض الداعي إلى الأمر ، وهذا على القول

٢٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

بتعلق الأوامر بالطبائع واضح ؛ لاشتراك جميع الأفراد في الطبيعة المأمور بها.

أما على القول بتعلقها بالأفراد : فغير واضح لتباين الفرد المزاحم للفرد المأمور به. غاية الأمر : يقوم الفرد المزاحم مقام الفرد المأمور به لوفائه بالغرض.

ودعوى : أن أمر المولى لا يدعو العبد إلّا إلى المأمور به ، والمفروض : أن الفرد المزاحم ليس مأمورا به من أفراد الطبيعة ، لكن مجرد كونه من أفرادها مع عدم الأمر به لا يجدي في صحته المترتبة على الأمر مدفوعة ؛ بالفرق بين خروج الفرد عن الطبيعة المأمور بها بالمزاحمة ، أو التخصيص ؛ حيث إن خروجه عن دائرة الطبيعة المأمور بها بالمزاحمة لا يوجب عدم داعوية أمر الطبيعة بالنسبة إلى الفرد المزاحم ، وإنما يوجب ذلك إذا كان الخروج تخصيصا ، والمفروض : أن الخروج في المقام إنما للمزاحمة لا للتخصيص.

فالمتحصل : إنه لا فرق بنظر العقل بين الفرد المزاحم وغيره في الملاك ، والوفاء بالغرض ، ومع وجود الملاك والوفاء بالغرض صح الإتيان بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة.

قوله : «تأمل» لعله إشارة إلى صحة الإشكال بقوله : «ودعوى : إن الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها» ؛ لأن وجود الملاك في الفرد المزاحم ـ مع خروجه عن تحت الأمر ـ لا يصحح الإتيان بذاك الفرد بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة ، أو بفرد آخر.

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو : بطلان الترتب.

٢٧٢

فصل

لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ، خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا ،

______________________________________________________

في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

وقبل الدخول في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام توضيح ذلك يتوقف على تقديم أمور :

١ ـ المراد بالجواز في عنوان البحث هو : الجواز بمعنى الإمكان ؛ لا الجواز بمعنى الإباحة والترخيص.

٢ ـ المراد بالإمكان هو : الإمكان الوقوعي في مقابل الامتناع الوقوعي لا الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع بالذات.

والفرق بينهما كالشمس في رابعة النهار ؛ وهو : أن الإمكان الوقوعي يرجع إلى عدم استلزام وجود الشيء للمحال ؛ بحيث لا يترتب على وجوده محذور من لزوم خلف أو دور أو نحو ذلك.

والإمكان الذاتي يرجع إلى كون الشيء في حد نفسه ممكن غير ممتنع الوجود ، فالإمكان الوقوعي ما لا يستلزم المحال ، والإمكان الذاتي ما ليس بمحال في نفسه ، والمقصود هو الإمكان الوقوعي دون الذاتي ، إذ لم يقل أحد بعدم الإمكان الذاتي ، يعني : كون الأمر مع العلم بانتفاء الشرط في نفسه محالا كاجتماع النقيضين.

٣ ـ المراد بالشرط : هو شرط الأمر ـ الوجوب ـ لا شرط المأمور به ـ الواجب ـ الشاهد على ذلك : قول المصنف «نعم ؛ لو كان المراد من لفظ الأمر ، الأمر ببعض مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الأخرى».

نعم ؛ يظهر من المحقق العراقي ، وصاحب المعالم : أن المراد بالشرط : شرط وجود المأمور به. «نهاية الأفكار ج ١ ـ ٢ ، ص ٣٧٨» ، «معالم الدين ، ص ٢٢٢».

ثم المراد من شرط الأمر ليس مطلق شرط الوجوب ؛ كالوقت بالنسبة إلى الصلاة ، بل هو خصوص القدرة والتمكن من المأمور به. يعني : هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء قدرة المكلف على الفعل أم لا؟

٢٧٣

ضرورة (١) : أنه لا يكاد يكون الشيء (٢) مع عدم علته ـ كما هو المفروض هاهنا ـ فإن (٣) الشرط من أجزائها ، وانحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى.

وكون (٤) الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي (٥) بعيد (٦) عن محل الخلاف بين الأعلام.

______________________________________________________

إذا عرفت هذه الأمور فيتضح لك : ما هو محل الكلام في المقام ، حيث إن المقصود من الجواز هو : الإمكان الوقوعي ، ومن الشرط هو : شرط الأمر والوجوب وخصوص القدرة على الفعل ، لأنها من الشرائط العامة للتكاليف الشرعية. ذهب المصنف إلى عدم الجواز يعني : عدم الإمكان وقوعا ؛ لاستلزامه حصول المعلول من دون علته وهو خلف ، وذلك لأن الشرط من أجزاء العلة ، فحصول الأمر مع عدم الشرط يكون من وجود المعلول بلا علة ، وهو خلاف فرض العلية. وبعبارة أخرى : أن المراد بالأمر هو البعث الفعلي إلى متعلقه ، وفعلية البعث متوقفة على علتها التامة التي من أجزائها الشرط ، فمع العلم بانتفاء الشرط لا يتحقق إنشاء البعث الفعلي. فالقول بالجواز المستلزم لتحقق المشروط من دون شرطه مساوق لجواز وجود المعلول بلا علة ، وهو خلف. هذا خلافا لأكثر العامة ؛ فإنهم جوّزوا الأمر مع العلم بانتفاء الشرط. كما أشار إليه بقوله : «خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا».

(١) تعليل لقوله : «لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه».

وملخص التعليل : أن القول بالجواز مستلزم لما لا يمكن الالتزام من وجود شيء بلا علة ، وهو خلف ، كما عرفت.

(٢) يعني لا يوجد الشيء ـ أعني : الأمر ـ مع عدم علته.

(٣) تعليل لكون المفروض هنا وجود الشيء بدون علته.

وحاصل التعليل : أن الشرط المنتفي يكون من أجزاء العلة ، فيلزم من جواز الأمر بدونه وجود المعلول بلا علة ، إذ لا فرق في انتفاء العلة بين انتفائها بانتفاء جميع أجزائها أو بعضها ؛ كانتفاء الشرط في محل الكلام.

(٤) قوله : «وكون الجواز ...» إلخ دفع لما يقال : من أن الأمر وإن كان لا يوجد مع ٧ انتفاء علته التامة إلّا إنه ممكن ذاتا ؛ لأن الامتناع الناشئ عن عدم العلة لا ينافي الإمكان الذاتي ؛ لما تقرر في محله من عدم التنافي بين الإمكان الذاتي وبين الامتناع بالغير ، فحينئذ يصح أن يقال : يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه بمعنى : أنه يمكن في ذاته وإن كان ممتنعا بالنظر إلى انتفاء شرطه.

(٥) فمعنى العنوان : هل يمكن ذاتا أمر الآمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

(٦) خبر لقوله : «وكون الجواز ...» إلخ ، ودفع «لما يقال ...» إلخ.

٢٧٤

نعم ؛ (١) لو كان المراد من لفظ الأمر : الأمر ببعض مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه

______________________________________________________

وحاصل الدفع : أن جعل الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي «بعيد عن محل الخلاف بين الأعلام» ، إذ لا شك في إمكان الأمر ذاتا مع العلم بانتفاء الشرط ؛ لبداهة : أن الأمر بالنظر إلى ذاته ممكن لا مانع منه عقلا. فلا وجه لأن يجعل موردا للخلاف والنزاع ، فلا بدّ من أن يكون المراد بالإمكان الإمكان الوقوعي ، لا الذاتي ، فمعنى العنوان حينئذ هل يمكن وقوع أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

(١) استدراك على قوله : «لا يجوز أمر الآمر ...» إلخ.

وحاصل الاستدراك : أنه يمكن الالتزام بجواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ، فيما إذا أريد من لفظ الأمر بعض مراتبه ـ وهو الإنشاء ـ ومن ضمير ـ شرطه ـ الراجع إليه : بعض مراتبه الآخر وهي الفعلية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للأمر ـ على مذهب المصنف ـ مراتب :

الأولى : الاقتضاء يعني : المصالح والمفاسد الواقعية التي تقتضي الأحكام الإلزامية على مذهب الحق وهو مذهب العدلية.

الثانية : مرتبة الإنشاء : وهي إنشاء الحكم على طبق المصالح أو المفاسد.

الثالثة : مرتبة الفعلية : وهي الأحكام بعد بيانها وقبل علم المكلفين بها.

الرابعة : مرتبة التنجّز : وهي بعد بلوغ الأحكام إلى المكلفين وعلمهم بها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع حينئذ هو : أنه هل يجوز للآمر الأمر الإنشائي مع علمه بعدم شرطه فعليته أم لا؟ بأن يكون المراد من لفظ الأمر في عنوان البحث : مرتبة إنشائه ، ومن الضمير الراجع إليه في لفظ شرطه : مرتبة فعليته على سبيل الاستخدام ؛ إذ تحرير محل النزاع على هذا النحو لا بأس به. والحق حينئذ : جوازه إذ لا محذور في نفس الإنشاء مع عدم شرط فعليته كقوله : «حج إن استطعت» ، حيث إنه ليس بداعي البعث الجدّي حتى يقبح ذلك على الحكيم ، أو يمتنع للزوم وجود المعلول بدون علته التامة ، لأن ذلك إنما يلزم إذا أريد بالأمر البعث الفعلي.

وأما إذا أريد به مجرد الإنشاء ، فلا محذور فيه أصلا لكثرة الأغراض الداعية إلى الإنشاء ، وعدم انحصار الغرض منه في كونه بداعي الجد وإن كان ذلك هو الغالب في أوامر الموالي ، ولذا ينصرف إليه إطلاق الأمر ، لكنه أجنبي عن مقام الثبوت المبحوث عنه ؛ إذ التمسك بالإطلاق إنما هو في مقام الإثبات.

وكيف كان ؛ فالنزاع في جواز إنشاء الأمر مع علم الآمر بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية ، وقد عرفت : أن البعث والتحريك الإنشائي مع العلم بفقد شرط فعليته جائز ، إذ لا محذور فيه.

٢٧٥

بعض مراتبه الأخر ، بأن يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه ، بمرتبة فعليّته (١).

وبعبارة أخرى : كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية ، لعدم شرطه لكان (٢) جائزا.

وفي وقوعه (٣) في الشرعيات والعرفيات غنى وكفاية ، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مئونة برهان.

وقد عرفت (٤) سابقا : أن داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك جدا

______________________________________________________

(١) بأن ينشئ الحكم مع العلم بأنه لا يصير فعليا بالنسبة إلى المكلف لفقدان شرط فعليته.

(٢) جواب ـ لو ـ في قوله : «لو كان المراد من لفظ الأمر الأمر ببعض مراتبه».

(٣) يعني في وقوع الأمر الإنشائي من دون بلوغه إلى الفعلية «في الشرعيات» كموارد الطرق والأمارات التي هي على خلاف الواقع ، فإن الواقعيات محفوظة في مقام الإنشاء ، ولكنها لم تصل إلى مرتبة الفعلية لعدم قيام الحجة عليها ، بل وكالأحكام الإنشائية التي لم تصل إلى الفعلية في أوائل البعثة ، بل إلى الآن مما أودع عند الحجة «صلوات الله عليه». «والعرفيات» كالأوامر العامة للحكومات التي تشمل بلفظها جميع الأفراد مع عدم وصولها إلى مرتبة الفعلية بالنسبة إلى بعض ؛ لعدم قيام الحجة عنده «غنى وكفاية» لإثبات إمكان الأمر الإنشائي مع عدم الوصول إلى الفعلية.

«ولا يحتاج معه» أي : مع وقوعه في الشرعيات والعرفيات «إلى مزيد بيان أو مئونة برهان» ، لأن أدل الدليل على الشيء وقوعه في الخارج. كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٥٨».

(٤) يعني : قد عرفت في المبحث الأول في معاني صيغة الأمر : أن الأمر دائما يستعمل في الطلب الإنشائي ، والاختلاف إنما هو في دواعي الإنشاء ، فتارة : يكون الداعي إلى ذلك الطلب هو الطلب الحقيقي الجدّي ، وأخرى : امتحان العبد ، وثالثة : التسخير أو التعجيز إلى غير ذلك من دواعي الإنشاء.

والمتحصل من مجموع كلام المصنف في هذا المقام : أنه يمكن تصوير النزاع على وجوه ثلاثة :

الأول : إنه هل يجوز التكليف بغير المقدور أم لا؟ وهو الذي اختلف فيه العدلية والأشاعرة ولعل صدر عنوان البحث ناظر إلى هذا الوجه بقرينة التعليل بقوله : «ضرورة :

٢٧٦

حقيقة ، بل قد يكون صوريا امتحانا ، وربما يكون غير ذلك ، ومنع (١) كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدا واقعا وإن كان في محله ؛ إلّا إن إطلاق الأمر عليه ، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث توسعا ، مما بأس به أصلا ، كما لا يخفى.

وقد ظهر بذلك (٢) : حال ما ذكره الأعلام في المقام من النقض والإبرام وربما يقع

______________________________________________________

إنه لا يكاد ...» إلخ. فيكون المراد : أن أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه كقدرة العبد ـ التي هي شرط للأمر والمأمور به ـ هل يجوز أم لا؟

الثاني : أنه هل يجوز الأمر أي : إنشاؤه مع علم الآمر بعدم شرط فعليته أم لا؟ وقد أشار إليه المصنف بقوله : «نعم لو كان المراد ...» إلخ.

الثالث : أنه هل يجوز إنشاء الأمر وإن لم يكن الغرض منه إتيان المأمور به ، بل مصلحة أخرى من امتحان أو غيره أم لا؟ وقد أشار إليه المصنف بقوله : «وقد عرفت سابقا : أن داعي إنشاء الطلب ...» إلخ ، لكن مرجعه إلى الوجه الثاني ، ولذا لم يجعله المصنف وجها مستقلا ؛ إلّا إن الحق سقوط هذا البحث عن الاعتبار ـ بناء على ما هو الحق من كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية ـ لأنه بعد فرض رجوع جميع الشرائط إلى الموضوع سواء كانت شرعية كالبلوغ من الشرائط العامة والاستطاعة ونحوها من الشرائط الخاصة ، أم عقلية كالقدرة لا يتوجه أمر إلى عاجز حتى ينازع في صحته وعدمها.

نعم ؛ لهذا البحث مجال ـ بناء على كون الأحكام الشرعية من القضايا الخارجية ـ لأنه حينئذ يصح أن يقال : هل يجوز أمر العاجز عن إيجاد شيء بالإتيان به أم لا؟ كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٥١٩».

(١) قوله : «ومنع كونه أمرا ...» إلخ دفع للتوهم.

وحاصل التوهم : أن الأمر المنشأ بغير داعي البعث الجدي ليس أمرا حقيقة ، فلا ينبغي جعل عنوان البحث في قولهم : «هل يجوز أمر الآمر ...» إلخ ؛ الأمر المنشأ بغير داعي البعث الجدي ، فمرجع هذا التوهم إلى الإشكال على تحرير محل النزاع على الوجه المزبور ، وهو جعل الأمر إنشائيا.

وحاصل الدفع : أن يقال : إن الأمر وإن كان كذلك إلّا إن إطلاق الأمر عليه توسعا لا بأس به ؛ إذا كانت هناك قرينة دلت على أن إنشاء الأمر إنما هو بداع آخر غير البعث الجدي.

(٢) يعني : ظهر بالذي ذكرناه في تحرير محل النزاع ـ من كون المراد من لفظ الأمر بعض مراتبه ـ «حال ما ذكره الأعلام ...» إلخ.

٢٧٧

به (١) التصالح بين الجانبين ، ويرتفع النزاع من البين ، فتأمل (٢) جيدا.

______________________________________________________

وغرض المصنف من هذا الكلام : التنبيه على ما وقع في كلمات الأعلام من الخلط بين مراتب الأمر ، والاشتباه بين شرط المأمور به المسمى بشرط الوجود ، وبين شرط الأمر المسمى بشرط الوجوب.

(١) يعني : بما ذكرنا من أول الفصل إلى هنا يقع التصالح بين القائل بالجواز ، والقائل بعدمه ، بتقريب : أن مراد القائل بالجواز هو الأمر الإنشائي ، إذ لا مانع من مجرد الإنشاء مع فقدان شرط فعليته ، ومراد القائل بعدم الجواز : هو الأمر الفعلي ؛ فإنه لا يجوز مع فقدان شرط فعليته ، وبهذا البيان يرتفع النزاع من البين حيث يكون لفظيا.

(٢) لعله إشارة إلى الدقة لئلا يقع الخلط والاشتباه بين ما هو شرط المأمور به وما هو شرط الأمر ، أو إشارة إلى إباء بعض عباراتهم عن الحمل على الأمر الإنشائي ؛ لكون استدلالاتهم ناظرة إلى الأمر الفعلي.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ المراد بالجواز في عنوان البحث : هو الجواز بمعنى الإمكان الوقوعي. والمراد بالشرط : هو شرط الأمر لا شرط المأمور به ؛ بقرينة قوله : «نعم ؛ لو كان المراد من لفظ الأمر ...» إلخ.

قال المصنف : بعدم الجواز ، يعني : عدم الإمكان وقوعا ؛ لاستلزامه حصول المعلول بلا علة ، وهو خلف ومحال. وذلك ؛ لأن الشرط المنتفي من أجزاء العلة ، فيلزم ـ من جواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط ـ وجود المعلول بلا علة ، وهو ما ذكرناه من الخلف المحال.

وتوهم : كون الجواز في العنوان بمعنى : الإمكان الذاتي فلا ينافي الامتناع الناشئ من فقدان الشرط بعيد ؛ إذ لا ارتياب في الإمكان الذاتي ، فلا وجه لأن يجعل موردا للخلاف والنزاع ، فلا بدّ من أن يكون المراد بالإمكان : الإمكان الوقوعي لا الذاتي ، فيقع فيه الخلاف : هل يمكن أمر الآمر وقوعا مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

٢ ـ قوله : «نعم ؛ لو كان المراد من لفظ الأمر ...» إلخ استدراك على قوله : «لا يجوز أمر الآمر ...» إلخ.

وحاصل الاستدراك : أنه يمكن الالتزام بجواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ، فيما إذا أريد من لفظ الأمر الأمر ببعض مراتبه ـ وهو الإنشاء ـ ومن ضمير ـ شرطه ـ الراجع إليه بعض مراتبه الأخر وهي الفعلية. فيقع النزاع حينئذ في : أنه هل يجوز للآمر الأمر

٢٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الإنشائي مع علمه بعدم شرط فعليته أم لا؟ والحق حينئذ هو : الجواز ؛ إذ لا محذور عقلا في نفس الإنشاء مع عدم شرط فعليته ، مع وقوعه في الشرعيات والعرفيات ، فإن وقوع الشيء أقوى دليل عليه.

٣ ـ توهم : أن المنشأ بغير داعي البعث الجدّي ليس أمرا حقيقة ، فلا ينبغي جعل عنوان البحث في قولهم : ـ «هل يجوز أمر الآمر ...» إلخ ـ الأمر المنشأ بغير داعي البعث الجدّي ، فمرجع هذا التوهم إلى الإشكال على تحرير محل النزاع على الوجه المذكور مدفوع ؛ بأن الأمر ـ وإن كان كذلك ـ إلّا إن إطلاق الأمر عليه توسعا لا بأس به إذا دلت قرينة على أن إنشاء الأمر إنما هو بداعي آخر غير البعث الجدّي.

وكيف كان ؛ فيمكن التصالح بين القائل بالجواز ، والقائل بعدمه ؛ بأن يكون مراد الأول : هو الأمر الإنشائي ، ومراد الثاني : هو الأمر الفعلي ؛ إذ لا مانع من الإنشاء مع فقدان الشرط في الأمر الإنشائي ، ولا يجوز الأمر الفعلي مع فقدان شرط فعليته ، فيرتفع النزاع من البين.

قوله : «فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى إباء بعض عباراتهم عن الحمل على الأمر الإنشائي ؛ لكون استدلالاتهم ناظرة إلى الأمر الفعلي.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» هو : عدم الجواز مع وحدة المرتبة.

يعني : لا يجوز الأمر الفعلي مع العلم بانتفاء شرط الفعلية. والجواز مع اختلاف المراتب. يعني : يجوز الأمر الإنشائي مع العلم بانتفاء شرط فعليته.

٢٧٩
٢٨٠