دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

يمكن تحقق ذيها بدونها ، إلّا إن العادة جرت على الإتيان به بواسطتها ، فهي (١) وإن كانت غير راجعة إلى العقلية ، إلّا إنه لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع ، وإن كانت (٢) بمعنى : أن التوقف عليها وإن كان فعلا واقعيا كنصب السلم ونحوه للصعود على السطح ، إلّا إنه لأجل عدم التمكن من الطيران الممكن عقلا فهي أيضا راجعة إلى العقلية ، ضرورة : استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لغير الطائر فعلا ، وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا. فافهم (٣).

______________________________________________________

(١) جواب الشرط في قوله : «فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة» فهي أي : المقدمة العادية «وإن كانت غير راجعة إلى العقلية». وجه عدم رجوعها إلى العقلية هو : كون المقدمية بحسب العادة فقط ، من دون توقف عليها وجودا ؛ بحيث يمكن عادة تحقق ذي المقدمة بدونها ، مثل : ما جرت العادة على لبس الرداء قبل الخروج من الدار ، فهي مما لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع ؛ لعدم التوقف الوجودي كي يترشح الوجوب إليها على القول بالملازمة.

(٢) هذا معطوف على قوله : «فإن كانت ...» إلخ ، أي : وإن كان المقدمة العادية بمعنى : ما أستحيل وجود ذي المقدمة بدونه عادة ، وإن لم يكن مستحيلا عقلا ؛ نظير نصب السلم للصعود على السطح ، فهي أيضا راجعة إلى العقلية ، فإن الصعود على السطح بلا نصب السلم لغير الطائر فعلا مستحيل عقلا وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا.

وبعبارة أخرى : أن الممتنع واقعا «تارة» : يكون امتناعه لأمر برهاني عقلي ؛ كالكون على السطح بدون طي المسافة ، حيث إنه مترتب على الطفرة التي قام البرهان على امتناعها ، «وأخرى» : لأمر طبيعي عادي كطيران الإنسان ؛ فإن امتناعه إنما هو لعدم كون الجسم الثقيل بطبعه قابلا للطيران إلّا بقاسر خارجي من جناح أو قوة خارقة للعادة ؛ فإنه ليس ممتنعا برهانا ، لكنه بالقياس إلى عادم القاسر المزبور محال عقلا.

فالمراد بالمقدمة العادية : ما هو مقدمة لما يمتنع بدونها عادة ، وإن لم يمتنع في نفسه عقلا ؛ كامتناع الصعود على السطح بدون نصب السلم وغيره من أسباب الصعود ، فإنه محال عادة وإن كان في نفسه ممكنا عقلا ، فوجوده بدون السبب محال عقلا ، فلا محالة ترجع المقدمة العادية إلى العقلية ؛ لكون توقف الصعود على السطح لغير القادر فعلا على الطيران عقليا.

(٣) لعله إشارة إلى منع رجوع المقدمة العادية إلى العقلية ؛ لأن المناط في المقدمة العقلية هو : كون التوقف عقليا ، ومع فرض إمكان الطيران عقلا لا يكون توقف الصعود على نصب السلم عقليا ، بل يكون عاديا.

٢١

ومنها : (١) تقسيمها إلى مقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم.

______________________________________________________

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ المقدمة : إما عقلية إن امتنع وجود ذي المقدمة بدونها عقلا ؛ كالعلة بالنسبة إلى المعلول. وإما شرعية إن امتنع وجوده بدونها شرعا ؛ كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة. وإما عادية إن امتنع وجوده بدونها عادة ؛ كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود.

٢ ـ رجوع الأخيرين إلى العقلية. أما الشرعية : فلأن توقف وجود الشيء عليها شرعا لا يكون إلّا بأخذها شرطا في الواجب ، واستحالة المشروط بدون شرطه عقلية. وأما رجوع العادية : فلأن نصب السلم مثلا من المقدمات العقلية للصعود بالنسبة إلى من لا يقدر على الطيران أو غيره.

٣ ـ أما رأي المصنف

فهو : دخول المقدمة العقلية في محل النزاع ، وكذلك الشرعية لرجوعها إليها. وأما العادية : فإن رجعت إلى العقلية فهي داخلة في محل النزاع ؛ وإلّا فلا تكون مقدمة حقيقة.

(١) ومن تقسيمات المقدمة ؛ تقسيمها إلى أربعة أشياء وهي : مقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم ، فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في تعريف كل واحدة منها.

المقام الثاني : في دخولها في محل النزاع.

وأما ملخص الكلام في المقام الأول فهو حسب ما يلي :

١ ـ مقدمة الوجود هي : ما يتوقف عليها وجود الواجب ، في الخارج مثل : قطع المسافة بالنسبة إلى الحج.

٢ ـ مقدمة الصحة هي : ما يتوقف عليها صحة الواجب مثل : الطهارة بالنسبة إلى الصلاة ؛ فإن صحة الصلاة متوقفة على الطهارة ، وبدونها لا تصح الصلاة.

٣ ـ مقدمة الوجوب هي : ما يتوقف عليها وجوب الواجب مثل : الاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

٤ ـ مقدمة العلم هي : ما يتوقف عليها العلم بوجود الواجب مثل : غسل مقدار زائد من الوجه واليدين في الوضوء ليعلم أنه أتى بالواجب حتما. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

٢٢

لا يخفى : رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود ، ولو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم ، ضرورة : أن الكلام في مقدمة الواجب لا في مقدمة المسمى بأحدها (١) ، كما لا يخفى.

ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع (٢) ، وبداهة (٣) عدم

______________________________________________________

وأما المقام الثاني : فنقول : إنه لا إشكال في دخول مقدمة الوجود في محل النزاع ، كما لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع.

وأما مقدمة الصحة فهي أيضا داخلة في محل النزاع ؛ لأنها ترجع إلى مقدمة الوجود ؛ «ولو على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم».

وأما رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود ـ على القول بوضع الأسامي للصحيح ـ فواضح إذ بانتفاء مقدمة الصحة على هذا القول ينتفي الوجود من أصله ؛ وذلك فإن الكلام في مقدمة الواجب ، والواجب هو الصحيح ينتفي بانتفاء مقدمة الصحة.

وأما رجوعها إليها ـ على القول الأعمي ـ : فلأن مقدمة الصحة على هذا القول وإن لم تكن مقدمة لوجود الشيء ؛ لأن المسمى يتحقق بدونها ، ولكن الكلام في هذا البحث إنما هو في مقدمة الواجب ، والواجب هو الصحيح فقط.

ومن الواضح : توقف وجود الصحيح على مقدمة الصحة ؛ وإن لم يتوقف وجود مسمى الصلاة عليها ، وكيف كان ؛ فكان مرجع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود ، فتكون داخلة في محل النزاع. هذا ما أشار إليه بقوله : «لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود ...» إلخ.

(١) أي : المسمى بأحد الأسامي. وحاصل الكلام : أن الطهارة على القول الأعمي وإن كانت مقدمة للصحة وليست مقدمة للوجود ؛ إلّا إن الكلام إنما هو في مقدمة الواجب ، وليس العمل بدون الطهارة واجبا ، فكانت الطهارة مقدمة لوجود ما هو الواجب.

(٢) أي : وجه خروج مقدمة الوجوب عن النزاع هو : أن محل النزاع في وجوب المقدمة ، ولا يمكن وجوبها قبل تحقق ذيها ، وقبل اتصافه بالوجوب ؛ لأن وجوب المقدمة يترشح من وجوب ذيها ، والمفروض : إنه لا وجوب للواجب قبل تحقق مقدمة الوجوب ، وأما بعد تحققها فلا معنى لترشح الوجوب إليها ؛ لاستلزامه طلب الحاصل.

(٣) قوله : «وبداهة ...» إلخ ، عطف على «خروج ...» إلخ ، ومعنى العبارة حينئذ : لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع ، ولا إشكال أيضا في بداهة عدم اتصاف المقدمة بالوجوب المقدمي المترشح من قبل الوجوب المشروط بهذه المقدمة ؛

٢٣

اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها ، وكذلك المقدمة العلمية (١) وإن

______________________________________________________

كالاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج ، فإنها لا تتصف بهذا الوجوب المقدمي ؛ لأن الاستطاعة من قبيل جزء العلة لوجوب الحج ، فهي متقدمة على الوجوب تقدم العلة على المعلول ، فلا يعقل ترشح الوجوب عن المعلول على العلة ؛ لأنه مستلزم لتحصيل الحاصل إن ثبت وجوب المقدمة من أمر خارج ، أو تقدم الشيء على نفسه إن أريد إثباته من نفس وجوب ذي المقدمة ، وكلاهما محال ؛ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ١٢٨» مع تصرف ما.

وبالجملة : أن مقدمة الوجوب خارجة عن محل النزاع ؛ لأن الوجوب النفسي لا يتحقق إلّا بعد تحققها ؛ نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، ومعه لا يعقل فرض ترشح الوجوب من ذيها عليها ؛ للزوم طلب الحاصل.

(١) أي : المقدمة العلمية كمقدمة الوجوب أيضا خارجة عن حريم نزاع وجوب مقدمة الواجب ، لأنها مما لا يتوقف عليها وجود الواجب واقعا ، فإن الصلاة إلى كل جهة من الجهات المحتملة للقبلة لا تكون دخيلة في حصول نفس الواجب الواقعي ، نعم ؛ هي دخيلة في حصول ما هو واجب عقلا وهو حصول العلم بالامتثال ، فتكون واجبة بالوجوب العقلي الإرشادي من باب وجوب الإطاعة لا الوجوب الشرعي المولوي من باب الملازمة ؛ لعدم كونها مقدمة له ، ولهذا يقول المصنف : «إلّا إنه من باب وجوب الإطاعة إرشادا» أي : إلّا إن الوجوب في مقدمة العلم عقلي محض من باب حكم العقل بدفع الضرر المترتب على مخالفة الواجب المنجز.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه : أن المقدمة العلمية لا ربط لها بالمقام ، ومحل الكلام أصلا ؛ وإنما هي عبارة عن حكم العقل بلزوم إتيان جميع المحتملات إرشادا إلى حصول الإطاعة والامتثال ، فانحصرت المقدمة المبحوث عنها في مقدمة الوجود.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ التقسيم الثالث للمقدمة هو تقسيمها إلى أربعة أشياء :

١ ـ مقدمة الوجود. ٢ ـ مقدمة الصحة. ٣ ـ مقدمة الوجوب. ٤ ـ مقدمة العلم. والفرق بينها واضح.

٢ ـ لا إشكال في دخول مقدمة الوجود في محل النزاع ، كما لا إشكال في خروج مقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم عن محل النزاع.

أما وجه خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع : فلأن المقدمة التي يتوقف عليها

٢٤

استقل العقل بوجوبها ؛ إلّا إنه من باب وجوب الإطاعة إرشادا ليؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجّز ؛ لا مولويا من باب الملازمة ، وترشح الوجوب عليها من قبل وجوب ذي المقدمة.

ومنها (١) : تقسيمها إلى المتقدم ، والمقارن ، والمتأخر ، بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدمة ، وحيث أنها كانت من أجزاء العلة ، ولا بد من تقدمها بجميع أجزائها

______________________________________________________

الوجوب قبل وجودها لا وجوب لذيها حتى يترشح منه الوجوب إليها ، وبعد وجودها لا معنى لوجوبها للزوم طلب الحاصل.

وأما خروج مقدمة العلم عن محل النزاع : فلعدم كون ذيها ـ أعني : العلم ـ واجبا شرعيا حتى يترشح الوجوب منه إليها ، فالوجوب فيها وجوب عقلي من باب حكمه بوجوب الإطاعة والامتثال حذرا من عقوبة مخالفة الواجب.

وأما مقدمة الصحة : فهي داخلة في محل النزاع ؛ لرجوعها إلى مقدمة الوجود حتى على القول بكون الأسامي موضوعة للأعم ، لأن الكلام في مقدمات ما هو الواجب وهو أخص من الموضوع له ، إذ الواجب إنما هو الصحيح دون الأعم. وأما على الصحيحي فرجوعها إلى مقدمة الوجود واضح.

٣ ـ رأي المصنف هو : دخول مقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة في محل النزاع ؛ دون مقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم.

تقسيم المقدمة إلى المتقدم والمقارن والمتأخر

(١) ومن تقسيمات المقدمة : «تقسيمها إلى المتقدم» : كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، «والمقارن» : كالاستقبال لها ، «والمتأخر» : كغسل الليلة الآتية بالنسبة إلى صوم اليوم الماضي ، وهذا التقسيم الثلاثي تقسيم للشرط الذي هو أحد المقدمات ؛ وهو على أقسام ، وتوضيح ما هو محل الإشكال من تلك الأقسام يتوقف على مقدمة وهي بيان أقسام الشرط وهي ثلاثة :

١ ـ شرط المكلف به. ٢ ـ شرط التكليف. ٣ ـ شرط الوضع.

ثم كل واحد على ثلاثة أقسام :

١ ـ أقسام شرط المكلف به :

١ ـ الشرط المتقدم على المشروط كالطهارة للصلاة ؛ بناء على أن المراد بالطهارة هي الغسلات الثلاث ، والمسحات الثلاث ؛ لا الطهارة المعنوية المسببة عنها ، وإلّا فهي من الشرط المقارن.

٢٥

على المعلول أشكل الأمر في المقدمة المتأخرة ؛ كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة

______________________________________________________

٢ ـ الشرط المقارن : كالستر ، والاستقبال للصلاة.

٣ ـ الشرط المتأخر : كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند جماعة ؛ فإن المشروط ـ وهو صوم النهار السابق ـ مقدم وجودا على الأغسال الواقعة في الليلة المتأخرة. هذا تمام الكلام في أقسام شرط المكلف به.

٢ ـ أقسام شرط التكليف.

١ ـ الشرط المتقدم على التكليف المشروط : كما لو قال المولى : إن جاءك زيد يوم الخميس فيجب عليك إطعامه في يوم الجمعة ، فالشرط حاصل يوم الخميس وهو مجيء زيد ، والمشروط هو : وجوب الإطعام يحصل في يوم الجمعة.

٢ ـ الشرط المقارن : كالبلوغ ، والعقل ونحوهما.

٣ ـ الشرط المتأخر : كما لو قال المولى : إن سافرت يوم الاثنين فتصدق قبله بيوم مثلا ، فالشرط ـ وهو السفر ـ لاحق ـ والمشروط ـ وهو وجوب التصدق ـ سابق ، هذا تمام الكلام في شرط التكليف.

٣ ـ أقسام شرط الوضع :

١ ـ الشرط المتقدم : كما في شروط الوصية التمليكية ؛ فإنه لو أوصى زيد بإعطاء بيته بعد موته إلى عمرو ، ثم مات زيد بعد سنة ؛ فحينئذ يتملّك عمرو البيت ، وقد فصل بين العقد وهو شرط التملك وبين التملك سنة كاملة.

٢ ـ الشرط المقارن : كاشتراط الماضوية ، والعربية ، والتنجيز في العقود والايقاعات ؛ فإنها مقارنة مع الأثر الحاصل منها زمانا كالملكية وغيرها.

٣ ـ الشرط المتأخر : كالإجازة في العقد الفضولي ؛ بناء على الكشف ، فالملكية للمشتري حاصلة حين العقد بشرط الإجازة ، وهي متأخرة عنها. هذا تمام الكلام في أقسام الشرط.

وأما المقتضي : فالظاهر أن له قسمين لا أكثر : المقارن ، والمتقدم. والأول : كالعقد في أغلب المعاملات ؛ المقارن لحصول الأثر من النقل والانتقال زمانا.

والثاني : كالعقد في الوصية ، لأنه سابق على حصول الأثر.

إذا عرفت هذه المقدمة. فاعلم : إنه لا إشكال في الشرط المقارن في جميع تلك الأقسام ؛ وإنما الإشكال في الشرط المتأخر ، ولكن المصنف لم يقتصر في الإشكال على الشرط المتأخر ، بل أورده على الشرط المتقدم أيضا.

بدعوى : أن الشرط بما أنه من أجزاء العلة التامة فلا بد من أن يكون مقارنا مع المشروط زمانا ، فكما لا يعقل أن يكون الشرط متأخرا عن المشروط فكذلك لا يعقل أن

٢٦

صوم المستحاضة عند بعض ، والإجازة في صحة العقد على الكشف كذلك ، بل (١) في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرم حينه كالعقد في الوصية والصرف والسلم (٢) ؛ بل (٣) في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه لتصرمها (٤) حين

______________________________________________________

يكون متقدما عليه ، فلا بد من أن يكون مقارنا للمشروط زمانا.

ومن هنا قال المصنف «قدس‌سره» : «فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في الشرعيات».

توضيح ذلك : أنه يعتبر في العلة أن تكون موجودة حين وجود معلولها ؛ بداهة : امتناع تأثير المعدوم في الوجود ، فكما يمتنع تأثير الشيء قبل وجوده ؛ كما هو الحال في الشرط المتأخر ، فكذلك يمتنع تأثيره بعد انعدامه كما هو الحال في الشرط المتقدم ، وعليه : فلا يعقل تأثير الوصية في الملكية ، لأنها معدومة حين الموت فيلزم تأثير المعدوم في الوجود.

فتلخص مما ذكرناه : أن إشكال عدم مقارنة أجزاء العلة للمعلول لا يختص بالمقدمة المتأخرة المعبّر عنها بالشرط المتأخر ، بل يعم الشرط المتقدم ؛ وذلك لفقدان مقارنة أجزاء العلة زمانا للمعلول في كل من الشرط المتقدم والمتأخر ، ولزوم تأثير المعدوم في الوجود ، وانفكاك المعلول عن العلة زمانا في كليهما.

(١) أي : «بل» يشكل الأمر «في الشرط ، أو المقتضي المتقدم على المشروط زمانا المتصرم» أي : المنقضي ذلك الشرط «حينه» أي : حين المشروط كالملكية للموصى له في عقد الوصية ؛ فإنها تترتب على الموت مع انعدام العقد حينه.

(٢) أي : أن الملكية في هذه الموارد مترتبة على الموت والقبض والتقابض مع انعدام العقد حينها.

(٣) غرض المصنف «قدس‌سره» من قوله : «بل في كل عقد ...» إلخ هو : تعميم إشكال انخرام القاعدة العقلية ـ وهي : اعتبار مقارنة أجزاء العلة للمعلول زمانا ـ لكل عقد ولو غير الوصية التمليكية والصرف والسلم.

توضيح ذلك : أن الإيجاب والقبول وأجزاءهما من الأمور التدريجية المتصرمة ، فالجزء الأخير من القبول مقارن للأثر دون غيره من سائر أجزاء القبول ، وجميع أجزاء الإيجاب.

وهذا ما أشار إليه بقوله : «بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه» ، فإن تقييد الأجزاء بالغالب إنما هو لإخراج الجزء الأخير من القبول ، لأنه مقارن للأثر.

(٤) أي : لتصرم الأجزاء وانعدامها حين تأثير العقد ، فهذا تعليل لتعميم الإشكال لكل عقد.

توضيح ذلك : أن أجزاء العقد متصرمة لكونها من الكلام الذي هو تدريجي الحصول ؛ بحيث يتوقف وجود كل جزء منه على انعدام جزء آخر منه ، ولذا لا يكون

٢٧

تأثيره ؛ مع ضرورة : اعتبار مقارنتها معه زمانا ، فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في الشرعيات ـ كما اشتهر في الألسنة ـ بل يعم الشرط والمقتضي المتقدمين المتصرمين حين الأثر.

والتحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال : إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها لا يخلو : إما أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطا للتكليف ، أو الوضع ، أو المأمور به.

______________________________________________________

الموجود من أجزائه حين التأثير إلّا الجزء الأخير من القبول كما عرفت ، فيلزم تأثير المعدوم في الوجود ، أو تأخير المعلول عن العلة زمانا «مع ضرورة : اعتبار مقارنتها معه زمانا» أي : اعتبار مقارنة أجزاء العقد مع الأثر زمانا ضروري.

قوله : «فليس إشكال انخرام القاعدة العقلية ...» إلخ متفرع على الإضراب الذي أفاده بقوله : «بل في الشرط أو المقتضي المتقدم على المشروط».

فالمتحصل من جميع ما ذكرناه : إن إشكال عدم مقارنة أجزاء العلة للمعلول ؛ لا يختص بالمقدمة المتأخرة المعبر عنها بالشرط المتأخر ، بل يعم المتقدمة أيضا ؛ لفقدان مقارنة أجزاء العلة زمانا للمعلول في كل من الشرط المتقدم والمتأخر ، ولزوم تأثير المعدوم في الوجود ، وانفكاك المعلول عن العلة زمانا في كليهما.

وكيف كان ؛ فالإشكال يسري إلى كل عقد ، وبهذه التسرية ألزم المصنف نفسه وغيره من الأعلام بحل الإشكال ؛ لأن الالتزام به في هذه الموارد ونظائرها يستلزم فقها جديدا وأحكاما غريبة ، إذ الإشكال لو كان يقتصر على الشرط المتأخر خاصة ؛ لأمكن الالتزام به ونفي الشرط المتأخر ، وتوجيه ما ورد مما ظاهره ذلك لقلة موارده ، أما بعد أن صار الإشكال ساريا في موارد كثيرة جدا فالالتزام به مشكل جدا ، فلا بد من حله.

وقد أشار المصنف إلى حله بقوله : «والتحقيق في هذا الإشكال أن يقال ...» إلخ ، وتوضيح ما أفاده المصنف في مقام حل الإشكال يتوقف على مقدمة : وهي أن الشرط المتقدم أو المتأخر إما شرط للتكليف ، أو للوضع ، أو للمأمور به ، فالأقسام ستة حاصلة من ضرب الاثنين ـ وهما المتقدم والمتأخر ـ في الثلاثة. أعني : التكليف ، والوضع ، والمأمور به.

ثم الشرط على جميع التقادير المذكورة يتصور على نحوين : ١ ـ الشرط الاصطلاحي وهو : ما يكون بوجوده الخارجي شرطا. ٢ ـ الشرط الغير الاصطلاحي وهو : ما يكون بوجوده العلمي شرطا لا بوجوده الخارجي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الشرط في محل الكلام هو : ما يكون بوجوده العلمي شرطا وهو مقارن للمشروط في جميع الأقسام المذكورة ، فلا مجال لإشكال

٢٨

أما الأول (١) : فكون أحدهما شرطا له ليس إلّا إن للحاظه دخلا في تكليف الآمر

______________________________________________________

تقدّم الشرط على المشروط ، أو تأخره عنه ؛ سواء كان شرطا للتكليف ، أو للوضع ، أو للمأمور به.

أما الأول : ـ شرط التكليف ـ فلا يلزم تقدم الشرط على المشروط ولا تأخره عنه ؛ في مثل ما إذا قال المولى : إن جاءك زيد يوم الخميس فيجب عليك إطعامه في يوم الجمعة ، أو قال : إن سافرت يوم الاثنين فتصدق بدينار قبله بيوم ، فالشرط في المثال الأول ليس هو نفس المجيء السابق ، وكذا في المثال الثاني ، ليس هو نفس السفر اللاحق ؛ حتى يقال : بلزوم تقدم الشرط في المثال الأول ، وتأخره في المثال الثاني ، بل الشرط هو لحاظ المجيء وتصوره في المثال الاول ، ولحاظ السفر وتصوره في المثال الثاني.

ومن البديهي : أن اللحاظ ، والتصور مقارن للتكليف ؛ أي : إيجاب الإطعام في المثال الأول ، وإيجاب التصدق في المثال الثاني.

هذا معنى ما سبق في المقدمة من أن الشرط هو : ما كان بوجوده العلمي شرطا ، فالشرط هو : لحاظه وتصوره لا وجوده العيني كما هو ظاهر إطلاق الشرط في سائر الموارد.

والوجه والدليل على ذلك : أن كل فعل اختياري ـ ومنه التكليف ـ معلول للإرادة التي لا تتعلق بوجود شيء إلّا لمصلحة موجبة لترجيح وجوده على عدمه ، وتلك المصلحة تارة : تقوم بذات الشيء فقط ، وأخرى : به مضافا إلى غيره المقارن له ، أو المتقدم عليه ، أو المتأخر عنه ، فلأجل دخل ذلك الغير في المصلحة الموجبة لترجيح الوجود على العدم يلاحظه المكلف ـ بالكسر ـ سواء كان ذلك الغير مقارنا ، أو مقدما ، أو مؤخرا ، ومن المعلوم : أن التصور مقارن للتكليف ، وإنما المتقدم أو المتأخر هو : وجود الملحوظ خارجا لا نفس اللحاظ المفروض كونه شرطا ، فلا تنخرم القاعدة العقلية وهي : استحالة انفكاك الأثر عن المؤثر ، وتأثير المعدوم في الوجود ، أو انفكاك العلة عن المعلول.

فالمتحصل من الجميع هو : أن الشرط هو اللحاظ لا الوجود الخارجي ، وانخرام القاعدة العقلية إنما يلزم فيما إذا كان الشرط هو الثاني دون الأول ؛ لوضوح : كون اللحاظ من الشرط المقارن ، لا من الشرط المتقدم أو المتأخر.

(١) المراد بالأول : هو شرط الحكم تكليفيا كان أو وضعيا ، فحينئذ المراد بالثاني : هو شرط المأمور به ، وبعبارة واضحة : أن المراد بالأول هو : شرط التكليف والوضع ، «فكون أحدهما» أي : المتقدم أو المتأخر «شرطا له» أي : للتكليف «ليس إلّا إن للحاظه دخلا في تكليف الآمر» أي : أن الشرط هو لحاظ الشرط المتقدم أو المتأخر ؛ لا الوجود الخارجي ،

٢٩

كالشرط المقارن بعينه ، فكما أن اشتراطه بما يقارنه ليس إلّا إن لتصوره (١) دخلا في أمره ـ بحيث لولاه (٢) لما كاد يحصل له الداعي إلى الأمر ـ كذلك (٣) المتقدم أو المتأخر.

وبالجملة : حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية كان من مبادئه (٤) بما هو ، كذلك تصور الشيء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به ، بحيث لولاه (٥) لما رغب فيه ، ولما أراده واختاره ، فيسمى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها (٦) دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطا (٧) ؛ لأجل (٨) دخل لحاظه في حصوله ، كان مقارنا

______________________________________________________

بمعنى : إن الوجود العيني للشرط المتقدم أو المتأخر ليس دخيلا في المشروط ؛ حتى يستشكل بلزوم تأثير المعدوم في الموجود.

(١) أي : لتصور المقارن للتكليف دخل في أمر الآمر.

(٢) بحيث لو لا تصور المقارن لم يكن للآمر داع إلى الأمر.

(٣) قوله : «كذلك» معادل لقوله : «فكما أن اشتراطه» ، فمعنى العبارة حينئذ : فكما أن اشتراط التكليف بما يقارنه زمانا كاشتراطه بالوقت ليس إلّا إن لتصور ما يقارن التكليف دخل في أمر الآمر ؛ «كذلك المتقدم والمتأخر» ، فإن الدخيل في الأمر هو لحاظها أي : وجودهما العلمي لا العيني.

(٤) أي : كان من مبادئ الأمر «بما هو كذلك» أي : بما هو فعل اختياري «تصور الشيء» أي : تصور المأمور به «بأطرافه» أي : المقدم منه ، والمؤخر ، والمقارن.

(٥) أي : لو لا تصور الشيء المأمور به لما رغب في ذلك الشيء ، ولما أراده واختاره ؛ لتوقف الإرادة على التصور المذكور.

والمتحصل من الجميع : أن الشرط في جميع أقسام الشرط هو اللحاظ أي : لحاظ الشرط المتقدم والمتأخر كما هو الأمر في الشرط المقارن واللحاظ مقارن للمشروط.

(٦) أي : لتصور الأطراف «دخل في حصول الرغبة فيه» أي : الرغبة في الطلب.

(٧) قوله «شرطا» مفعول ، «فيسمى» أي : فيسمى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في إرادة الشيء شرطا لذلك الشيء.

(٨) اللام في قوله : «لأجل لحاظه» للتعليل ، ومتعلق بقوله : «فيسمى» أي : فيسمى كل ما لتصوره دخل في حصول الرغبة في الشيء وإرادته «شرطا لأجل دخل لحاظه في حصوله» ، أي : لأجل دخل لحاظ كل واحد في حصول الرغبة. وتذكير ضمير حصوله الراجع إلى الرغبة بتأويل الرغبة بالميل ، وإلّا فالأولى تأنيث الضمير.

٣٠

له (١) أو لم يكن كذلك (٢) ، متقدما أو متأخرا ، فكما في المقارن (٣) يكون لحاظه في الحقيقة شرطا ، كان فيهما (٤) كذلك فلا إشكال ، وكذا الحال في شرائط الوضع

______________________________________________________

(١) أي : كان وجود الملحوظ من تلك الأطراف خارجا مقارنا لحصول الرغبة ، أو متقدما عليه ، أو متأخرا عنه.

(٢) أي : لم يكن مقارنا ، بل كان متقدما أو متأخرا.

(٣) أي : فكما في الشرط المقارن «يكون لحاظه» أي : يكون لحاظ المقارن في الحقيقة شرطا.

(٤) أي : كان في الشرط المتقدم والمتأخر أيضا لحاظهما شرطا. فلا إشكال في الشرط المتقدم والمتأخر بالنسبة إلى التكليف ؛ إذ المفروض : أن الشرط فيهما هو اللحاظ وهو مقارن للمشروط.

فحاصل ما أفاده المصنف في دفع الإشكال عن شرط التكليف : أن ما هو مأخوذ في التكليف شرطا مقارن له زمانا وهو لحاظ المتقدم أو المتأخر ووجودهما العلمي ، وما هو متقدم عليه أو متأخر عنه غير مأخوذ فيه ، وهو وجودهما الخارجي ، فلا يلزم انخرام القاعدة العقلية. هذا تمام الكلام في شرط التكليف ، «وكذا الحال في شرائط الوضع» كالملكية والزوجية ونحوهما من الأحكام الوضعية ؛ أي : الحال في شرائط الأحكام الوضعية هو الحال في شرائط الأحكام التكليفية ؛ في أن الشرط حقيقة في الحكم الوضعي هو اللحاظ أيضا ، فعقد الفضولي الملحوظ معه الإجازة ـ وهي الشرط المتأخر ـ يؤثر في الملكية مثلا ، ومن البديهي : أن لحاظ الإجازة مقارن للملكية ، فليس الشرط متأخرا.

وكيف كان ؛ فالحال في شرائط الوضع هو نفس الحال في شرائط التكليف ، من دون لزوم انخرام القاعدة العقلية فيهما ؛ لأن الوضع كالملكية ، والزوجية ، والطهارة والنجاسة ونحوها ؛ اعتبارات من المعتبر ، والاعتبار فعل اختياري ناشئ عن الإرادة ؛ الناشئة عن تصور المصلحة ، وذلك يتحقق بعد تحقق الوجود العلمي للشرط ؛ كما أشار إليه بقوله : «فإن دخل شيء في الحكم به» أي : بالوضع إلى أن قال : «ليس إلّا ما كان بلحاظه» أي : بوجوده العلمي «يصح انتزاعه» أي : انتزاع الحكم الحكم الوضعي كالملكية ، «وبدونه» أي بدون اللحاظ «لا يكاد يصح اختراعه عنده» أي : عند الحاكم ، ومحصل ما ذكره المصنف : أن وجود الشرط العلمي دخيل في الانتزاع ؛ لا وجوده الخارجي حتى يقال : بانفكاك الشرط عن المشروط.

فالمتحصل من الجميع : أن الشرط في التكليف هو : الوجود العلمي المتقدم ، أو

٣١

مطلقا ولو كان مقارنا ، فإن دخل شيء في الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به ، ليس إلّا ما كان بلحاظه يصح انتزاعه ، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده ، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوره ولحاظه وهو مقارن ، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن؟ فتأمل (١) تعرف.

وأما الثاني (٢) : فكون شيء شرطا للمأمور به ليس إلّا ما يحصل لذات المأمور به

______________________________________________________

المتأخر ، بل المقارن وهو مقارن مع المشروط زمانا ، فالصلاة التي تلحظ بالإضافة إلى البلوغ ، والعقل ، والقدرة ، والحياة ، تكون مأمورا بها وواجبة ، فلحاظها مقارن مع المشروط الذي هو الوجوب ، وكذا الحال في الوضع ؛ لأن عقد الفضولي الملحوظ معه إجازة المالك يؤثر في الملكية ، فلحاظ الإجازة يكون مع العقد المذكور دائما ، فلا يلزم انخرام القاعدة العقلية في شيء من شرائط الحكم التكليفي والوضعي.

(١) أي : تأمل في المقام حتى تعرف حقيقة المراد. ويمكن أن يكون إشارة إلى أن ما ذكره المصنف من : أن الشرط في الحقيقة هو : التصور واللحاظ لا يصح بالنسبة إلى الله تعالى ؛ لأنه منزه عن التصور واللحاظ ، وفي المقام كلام طويل في تصحيح الشرط المتأخر ، بل هنا أقوال ، وقد تركنا الأقوال في تصحيح الشرط المتأخر ، مع ما فيها من النقض والإبرام رعاية للاختصار.

(٢) أي : ما كان المتقدم أو المتأخر شرطا للمأمور به. وحق العبارة أن تكون هكذا : وأما الثالث بدل قوله «وأما الثاني» ؛ لأن مجرد ذكر القسم الثاني ـ وهو شرط الحكم الوضعي ـ في أثناء القسم الأول ـ أعني : شرط الحكم التكليفي لا يسوغ التعبير عن القسم الثالث بقوله : «وأما الثاني».

وكيف كان ؛ فتوضيح ما أفاده المصنف في شرائط المأمور به يتوقف على مقدمة وهي : أن حسن الأشياء وقبحها على أقسام :

الأول : أن يكون كل واحد منهما ذاتيا : بأن يكون الشيء علة تامة للحسن أو القبح مثل الإحسان ، والظلم ، حيث يكون الحسن ذاتيا للإحسان ، والقبح ذاتيا للظلم.

الثاني : أن يكون الشيء مقتضيا للحسن أو القبح ؛ كالصدق والكذب ، فإن الصدق مقتض للحسن ، والكذب مقتض للقبح ، والفرق بين هذا القسم الثاني والقسم الأول هو : أن كل واحد من الحسن والقبح لا ينفك عن الشيء في القسم الأول ؛ بخلاف القسم الثاني فإن الحسن ينفك عن الصدق ، كما أن القبح ينفك عن الكذب ؛ فيما إذا كان الصدق سببا لقتل مؤمن ، والكذب سببا لنجاة مؤمن من القتل.

٣٢

بالإضافة إليه وجه وعنوان ؛ به يكون حسنا ، أو متعلقا للغرض ، بحيث لولاها لما كان كذلك ، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات ؛ مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه ، والإضافة كما تكون إلى المقارن ؛ تكون إلى المتأخر ، أو المتقدم بلا تفاوت أصلا كما لا يخفى على المتأمل ، فكما تكون إضافة شيء إلى مقارن له موجبا لكونه معنونا بعنوان ، يكون بذلك العنوان حسنا ومتعلقا للغرض ، كذلك إضافته إلى متأخر أو متقدم ، بداهة : أن الإضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا ، فلولا حدوث المتأخر في محله ، لما كانت للمتقدم تلك الإضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به ، كما هو الحال في المقارن أيضا ، ولذلك أطلق

______________________________________________________

الثالث : أن يكون حسن الشيء وقبحه بالوجوه والاعتبارات ؛ بأن لا يكون الشيء علة للحسن والقبح ولا مقتضيا لهما ؛ بل كان الاتصاف بهما بالوجوه والاعتبارات ؛ بأن يكون حسنا بوجه واعتبار ، وقبيحا باعتبار آخر ؛ كضرب اليتيم مثلا ؛ فإنه حسن إذا كان للتأديب ، وقبيح إذا كان للتشفّي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن حسن المأمور به في محل الكلام من القسم الثالث ؛ فإن شرط المأمور به يكون دخيلا في حصول الإضافة من الإضافات المحصلة لعنوان يكون المأمور به لأجله حسنا ، ومتعلقا للأمر ؛ سواء كانت تلك الإضافة إضافة التقارن ؛ كإضافة الصلاة إلى الاستقبال ، أو التقدم ؛ كإضافتها إلى الوضوء قبلها ، أو التأخر ؛ كإضافة صوم المستحاضة إلى الغسل الواقع في الليلة المستقبلة ، فإطلاق الشرط على المتقدم أو المتأخر إنما هو لأجل كون كل واحد منهما طرفا للإضافة ، والشرط حقيقة هو نفس الإضافة التي تكون مقارنة للمشروط دائما ، فلا تقدم ولا تأخر في الشرط ، حتى يلزم انخرام القاعدة العقلية.

فالمتحصل من الجميع : أن معنى كون شيء شرطا للمأمور به ليس إلّا كونه دخيلا في صيرورة المأمور به معنونا بعنوان به يكون حسنا ومتعلقا للإرادة ، وكما يمكن أن يصير الشيء بسبب إضافته إلى أمر مقارن معنونا بعنوان به يكون حسنا ومتعلقا للإرادة ، فكذلك يمكن أن يصير بسبب إضافته إلى أمر متقدم أو متأخر معنونا فعلا بعنوان حسن ؛ موجب لإرادته والأمر به ، لأن اختلاف العناوين باختلاف الإضافات ؛ كاختلاف الحسن والقبح باختلاف العناوين مما لا شك فيه مثل الكذب الذي بنفسه قبيح ، ولكنه إذا أضيف إلى خلاص المؤمن من الظالم فهو حسن ، ولم يأت هذا الحسن إلّا من إضافته لخلاص المؤمن.

٣٣

عليه الشرط مثله ، بلا انخرام للقاعدة أصلا ؛ لأن (١) المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلّا طرف الإضافة الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن.

وقد حقق في محله : أنه بالوجوه والاعتبارات ، ومن الواضح : أنها (٢) تكون بالإضافات ، فمنشأ توهم الانخرام : إطلاق الشرط على المتأخر ، وقد عرفت (٣) : أن إطلاقه (٤) عليه فيه ـ كإطلاقه على المقارن ـ إنما يكون لأجل كونه طرفا للإضافة الموجبة للوجه الذي يكون بذاك الوجه مرغوبا ومطلوبا ، كما كان في الحكم لأجل دخل تصوره (٥) فيه ؛ كدخل تصور سائر الأطراف والحدود التي لو لا لحاظها لما حصل

______________________________________________________

(١) قوله : «لأن المتقدم ...» إلخ تعليل لعدم انخرام القاعدة العقلية.

وحاصل ما أفاده المصنف : أن الشرط المتأخر أو المتقدم للمأمور به ؛ ليس ونفس المتأخر أو المتقدم المعدومين حين وجود المشروط المأمور به ؛ حتى يقال : بأنه يستلزم تأثير المعدوم المتأخر أو المتقدم في المأمور به ، ويلزم تأخر الشرط الذي هو جزء العلة عن المشروط ، أو تقدمه عليه زمانا ، بل الشرط هو : الوصف المنتزع عن إضافة المأمور به إلى ذلك المتقدّم أو المتأخّر ، ومن المعلوم : مقارنة هذا الوصف للمأمور به زمانا ، فلا يرد إشكال تأخر الشرط أو تقدمه عن المأمور به.

(٢) أي : الوجوه والاعتبارات «تكون بالإضافات».

(٣) أي : وقد علمت عند قولنا : «والإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر ...» إلخ.

(٤) أي : إطلاق الشرط على المتأخر في شرط المأمور به كإطلاقه على المقارن ؛ «إنما يكون لأجل كون المتأخر طرفا للإضافة ...» إلخ. فالمتقدم أو المتأخر ليس مؤثرا إلّا في الإضافة فقط ، وحيث أنها خفيفة المئونة فلا بأس بكون المتأخر أو المتقدم سببا لانتزاع عنوان حسن أو قبيح ؛ يوجب تعلق الغرض به أمرا أو زجرا ، فإطلاق الشرط على نفس المتأخر مسامحة ، وهذا الإطلاق صار منشأ لتوهم انخرام القاعدة العقلية في الشرط المتأخر للمأمور به.

(٥) أي : كما كان إطلاق الشرط في الحكم التكليفي والوضعي لأجل دخل تصور ذلك المتأخر أو المتقدم في الحكم التكليفي أو الوضعي ، فدخلهما في الحكم كدخل سائر الأطراف والحدود التي لو لا لحاظها ـ حين إرادة الحكم ـ لما حصل له الرغبة في التكليف ، أو لما صح عنده الوضع ؛ كالحكم بالملكية مثلا ، فإنه لا يصح إلّا بعد لحاظ جميع ما له دخل في العقد الموجب لذلك ؛ من بلوغ المتعاقدين ، ورضاء المالك وغيرهما.

٣٤

له الرغبة في التكليف ، أو لما صح عنده الوضع. وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الإشكال في بعض فوائدنا (١) ، ولم يسبقني إليه أحد فيما أعلم. فافهم واغتنم.

ولا يخفى : أنها (٢) بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع ، وبناء على الملازمة

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فالشرط في الحقيقة هو : إضافة خاصة للمأمور به ، والإضافة مقارنة مطلقا للمأمور به ؛ بمعنى : أن الشيء لا يكون متعلقا للأمر إلّا إذا كان معنونا بعنوان حسن ، يستلزم تعلق الأمر به ، ومن الواضح : أن اختلاف الحسن والقبح إنما هو باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الإضافات ، فالشيء باعتبار إضافة خاصة يكون ذا وجه به يتصف بالحسن.

وعليه : فالذي يكون دخيلا في تعلق الأمر وصيرورة الشيء مأمورا به هو نفس إضافة ذات المأمور به إلى أمر آخر بإضافة خاصة ؛ لا نفس الأمر ، الآخر الذي يكون طرف الإضافة ، وعلى هذا فشرطية شيء للمأمور به مرجعها إلى كون إضافة المأمور به إليه محصلة لوجه يوجب اتصافه بالحسن ، فمرجعها إلى دخالة إضافة المأمور به في تعلق الأمر ، وتأثيرها فيه ، ومن المعلوم : أنه كما تكون إضافة شيء إلى أمر مقارن له موجبة لتعنونه بعنوان حسن به يكون متعلقا للأمر ؛ كذلك يمكن أن تكون إضافته إلى أمر متقدم عليه ، أو متأخر عنه ؛ موجبة لذلك فالتأثير في الحقيقة في جميع ذلك إلى الإضافة ، وهي الشرط حقيقة ، وهي مقارنة للمأمور به مطلقا ، أما نفس الأمر المقارن أو المتقدم أو المتأخر : فإطلاق الشرط عليه باعتبار أنه طرف الإضافة لا غير ؛ لا باعتبار أنه الشرط حقيقة كي يتوهم استلزام ذلك تأثير المعدوم في الموجود في مورد الشرط المتأخر أو المتقدم.

فالمتحصل من الجميع : أن الشرط في الحقيقة أمر مقارن للمشروط ـ سواء كان الحكم أو المأمور به ـ وإطلاق الشرط على الأمور المتأخرة والمتقدمة ، بل المقارنة بلحاظ نوع من العلاقة والارتباط بينها ، وبين ما هو الشرط حقيقة ، والمؤثر في الواقع. كما في «منتقى الأصول ج ٢ ، ص ١١١» مع تصرف منا.

قوله : «ولم يسبقني إليه أحد فيما أعلم» كأنه افتخار منه على ما أفاده في بعض فوائده. «فافهم» إشارة إلى الدقة لكونه مسبوقا باغتنم.

(١) فوائد الأصول ، ص ٥٧ ، فائدة في تقدم الشرط على المشروط.

(٢) أي : شرائط المأمور به «بجميع أقسامها» أي : متقدمة كانت أو مقارنة أو متأخرة داخلة في محل النزاع ؛ يعني : هل إنها واجبة أم لا؟ لاشتراك الجميع في المناط وهو :

٣٥

يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق ، إذ بدونه (١) لا تكاد تحصل الموافقة ، ويكون سقوط الأمر بإتيان المشروط به مراعى بإتيانه (٢) ، فلولا اغتسالها (٣) في الليل ـ على القول بالاشتراط ـ لما صح الصوم في اليوم.

______________________________________________________

التوقف والمقدمية ، فبناء على الملازمة يتصف اللاحق منها بالوجوب ، كما يتصف المقارن والسابق.

(١) أي : بدون اللاحق لا تحصل الموافقة ؛ فقوله : «إذ بدونه ...» إلخ تعليل لاتصاف الشرط المتأخر بالوجوب لوجود المناط فيه.

(٢) أي : مراعى بإتيان الشرط ؛ سواء كان سابقا أو لا حقا أو مقارنا.

(٣) أي : فلولا اغتسال المستحاضة في الليل ـ الذي تقدم الصوم عليه في النهار على القول بالاشتراط بالغسل ـ لما صح الصوم في اليوم المنقضي المتقدم. فالغسل في الليلة الآتية من الشرط المتأخر ، وبدونه يبطل الصوم ؛ لعدم انطباق المأمور به على فاقد الشرط. وقوله : «فلولا» متفرع على وجوب الشرط المتأخر.

والمتحصل من الجميع : أن شرائط المأمور بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع. أما شرائط التكليف والوضع فهي خارجة عن محل النزاع.

وأما خروج شرائط التكليف : فلعدم تعقل ترشح الوجوب على شرائطه ، لتأخره عنها.

وأما شرائط الوضع : فلعدم الوجوب أصلا حتى يقع النزاع في وجوب مقدماته.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ من تقسيمات المقدمة : تقسيمها إلى ما تكون متقدمة زمانا على ذيها ، وما تكون متأخرة عنه ، وما تكون مقارنة له ، فمن أمثلة المتقدمة هو : العقد في الوصية ، والصرف ، والسلم ، بل غالب الأجزاء من كل عقد.

ومن أمثلة المتأخرة : أغسال الليلة الآتية المعتبرة ـ عند بعض ـ في صحة صوم المستحاضة في اليوم السابق ، ومثلها الإجازة المتأخرة في عقد الفضولي بناء على الكشف.

ثم إنه ربما يستشكل في المقدمة المتأخرة بتقريب : أن المقدمة من أجزاء العلة ، فلا بد من تقدمها بجميع أجزائها على المعلول ، وعلى هذا ، فكيف تتصور مقدمية الأمر المتأخر؟ بل يرد الإشكال في الشرط والمقتضي المتقدمين زمانا المتصرمين حين الأثر أيضا ؛ كالعقد في الوصية ، بل غالب الأجزاء في كل عقد.

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

٢ ـ الجواب عن الإشكال المذكور يتوقف على مقدمة وهي : أن الموارد التي توهم فيها انخرام القاعدة العقلية لا تخلو عن أقسام ثلاثة ؛ فإن كل واحد من المتقدم أو المتأخر إما أن يكون شرطا للتكليف ؛ كالاستطاعة لوجوب الحج ، أو كالقدرة مثلا ، أو لأمر وضعي كالإجازة في الفضولي ، أو للمأمور به ؛ كالأغسال الليلية في صوم المستحاضة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المتقدم أو المتأخر ليس بوجوده الخارجي شرطا للتكليف ، وإنما الشرط هو لحاظه وهو مقارن للتكليف.

وكذلك الحال في شرائط الوضع ، فإن الأمور الوضعية كالملكية مثلا لمّا كانت أمورا اعتبارية وانتزاعية فيمكن دخالة أمور متأخرة في اعتبارها وانتزاعها ، وليس معنى ذلك إلّا إن للحاظ هذه الأمور دخلا في اعتبارها ، فالملكية مثلا إنما يعتبرها الشارع والعقلاء بعد لحاظهم تحقق الإجازة ولو في زمان متأخر ، وأما شرائط المأمور به : فمعنى كون شيء شرطا له ليس إلّا كونه دخيلا في صيرورة المأمور به معنونا بعنوان ؛ به يكون حسنا ومتعلقا للإرادة ، وكما يمكن أن يصير الشيء بسبب إضافته إلى أمر مقارن معنونا بعنوان به يكون حسنا ومتعلقا للإرادة ؛ فكذلك يمكن أن يصير بسبب إضافته إلى أمر متقدم أو متأخر معنونا بعنوان حسن موجب لإرادته والأمر به.

فالشرط في الحقيقة ليس هو المتأخر أو المتقدم المعدومين عند تحقق المشروط حتى يقال : بانخرام القاعدة العقلية ؛ بل الشرط هو الوصف المنتزع عن إضافة المأمور به إلى المتقدم أو المتأخر ؛ وذلك الوصف مقارن للمأمور ، فلا يلزم تقدم الشرط أو تأخره عن المأمور به.

٣ ـ شرائط المأمور به بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع ؛ بخلاف شرائط التكليف والوضع فهي خارجة عن محل النزاع. أما خروج شرائط التكليف : فلعدم ترشح الوجوب على شرائطه لتأخره عنها. وأما شرائط الوضع : فلعدم الوجوب أصلا حتى يقع النزاع في وجوب مقدماته.

٤ ـ رأي المصنف :

هو : دخول جميع أقسام المقدمة في محل النزاع ؛ أي : من دون فرق بين المقارن والمتقدم والمتأخر ، فيحكم بوجوب الجميع على تقدير الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها. هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

٣٧

الأمر الثالث في تقسيمات الواجب : (١)

منها : تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، وقد ذكر لكل منهما تعريفات وحدود ، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود ، وربما أطيل الكلام بالنقض والإبرام في النقض على الطرد والعكس ، مع إنها ـ كما لا يخفى ـ تعريفات لفظية لشرح الاسم ، وليست بالحد ولا بالرسم.

______________________________________________________

(١) بعد ما فرغ المصنف «قدس‌سره» عن تقسيمات مقدمة الواجب شرع في تقسيمات الواجب وهي متعددة :

التقسيم الأول : تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، وفي هذا التقسيم يبحث عن جهات :

ونذكرها إجمالا قبل تفصيل البحث عنها. فنقول :

الجهة الأولى : فيما ذكر لكل من المطلق والمشروط من تعريفات.

الجهة الثانية : في كون هذه التعاريف حقيقية أو لفظية.

الجهة الثالثة : في أن الظاهر من كلام الأصوليين هو : أن وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان.

الجهة الرابعة : في رجوع القيد إلى مفاد الهيئة أعني : الوجوب ، وتقييد الوجوب به ، أو إلى المادة أعني : الواجب.

وأما تفصيل الكلام في الجهة الأولى فنقول : إنه قد ذكر لكل منهما تعاريف. منها : ما أفاده صاحب الفصول تبعا للسيد عمود الدين من : أن الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على أمر زائد على الشرائط العامة المعتبرة في التكليف ؛ من البلوغ ، والعقل ، والقدرة ؛ كالصلاة مثلا حيث إن وجوبها بعد حصول الشرائط العامة لا يتوقف على شيء ، والواجب المشروط ما يتوقف وجوبه بعد الشرائط العامة على شيء آخر ؛ كالحج فإن وجوبه بعد الشرائط العامة مشروط بالاستطاعة.

ومنها : ما عن التفتازاني والمحقق الشريف والمحقق القمي : من أن الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده ؛ كالصلاة حيث إن وجودها صحيحا يتوقف على الطهارة ، ولا يتوقف وجوبها عليها ؛ إذ هي واجبة على المكلف سواء كان مع الطهارة أو بدونها.

والواجب المشروط حينئذ هو : ما يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده ؛ كالحج مثلا حيث إن وجوبه يتوقف على الاستطاعة ، كما إن وجوده في الخارج يتوقف عليها أيضا.

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : ما عن بعض ـ أي : صاحب الفصول أيضا ـ من : أن الواجب المطلق ما لا يتوقف تعلقه بالمكلف على أمر غير حاصل ، ويقابله المشروط وهو : ما يتوقف تعلقه بالمكلف على أمر غير حاصل ؛ فيصح أن يقال : إذا استطعت يجب عليك الحج ، ولا يصح أن يقال : إذا توضأت تجب عليك الصلاة.

وأما تفصيل الكلام في الجهة الثانية : فإن حاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» هو : أن هذه التعاريف لفظية ، وليست بحقيقية ؛ لأنها ليست مطّردة ولا منعكسة أي : ليست مانعة الأغيار ، ولا جامعة الأفراد.

أما عدم كونها مانعة الأغيار : فلانتقاض تعريف كل واحد منهما بالآخر ؛ وذلك أن وجوب الصلاة يتوقف على ما يتوقف عليه وجودها ، وكذلك وجوبها يتوقف على أمر زائد على الشرائط العامة مثل الوقت ؛ لأنه ما لم يتحقق الوقت لم يتحقق وجوبها ، ولا وجودها صحيحا.

والحال : أن الصلاة لا تخرج عن كونها واجبا مطلقا ؛ سواء تحقق الوقت أم لم يتحقق ، فينطبق تعريف الواجب المشروط على الصلاة بالإضافة إلى الوقت حسب التعريف الأول والثاني ، كما أنه ينطبق تعريف الواجب المطلق على الحج بالنسبة إلى قطع الطريق ، مع إن الصلاة لا تخرج عن كونها واجبا مطلقا ، والحج لا يخرج عن كونه واجبا مشروطا.

أما عدم كونها جامعة الأفراد ـ حسب التعريف الثاني ـ فلأن هذا التعريف للمشروط لا يشمل مثل الحج مما يتوقف وجوبه على ما لا يتوقف عليه وجوده ؛ ضرورة : أن وجود الحج لا يتوقف على الاستطاعة الشرعية ؛ لإمكان تحققه بدونها أي : مع الفقر ، فلا ينعكس حد المشروط ، إذ ليس جامعا للأفراد ، ولهذا يقول المصنف : إن التعريفات المذكورة تعريفات لفظية ؛ فلا مجال حينئذ للنقوض المذكورة في الكتب على تعريفات الواجب المطلق والمشروط ؛ لأنهم ليسوا بصدد تحديدهما حتى يرد النقض عليها طردا وعكسا ، وإنما هم كانوا في مقام شرح الاسم المقصود به معرفة المعنى في الجملة ؛ كتعريف سعدانة بأنها نبت.

ثم إطلاق المطلق على الواجب المطلق ، وإطلاق المشروط على الواجب المشروط إنما هو بما لهما من المعنى العرفي واللغوي ، وليس للأصوليين اصطلاح خاص فيهما ، كما أشار إليه بقوله : «والظاهر إنه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق

٣٩

والظاهر : أنه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط ؛ بل يطلق كل منهما بما له من معناه العرفي ، كما أن الظاهر : أن وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان ، وإلّا لم يكد يوجد واجب مطلق ، ضرورة : اشتراط وجوب كل واجب ببعض الأمور ، لا أقل من الشرائط العامة كالبلوغ ، والعقل (١).

______________________________________________________

والمشروط» ؛ بل يطلق كل من المطلق والمشروط بما له من المعنى العرفي ؛ وهو : كون الوجوب مطلقا يعني غير منوط بشيء. هذا في الواجب المطلق ، وكونه منوطا به في الواجب المشروط.

فالمتحصل : أنه ليس لهم اصطلاح جديد حتى يقال : إنهم اختلفوا في تعريف كل منهما ؛ بل هم بصدد شرح الاسم ؛ وبيان المعنى العرفي ، فلا معنى للنقض والإبرام.

وأما تفصيل الكلام في الجهة الثالثة : ـ أعني كون كل من وصفي الإطلاق والاشتراط وصفين إضافيين لا حقيقيين ـ فهي ما أشار إليه بقوله : «كما أن الظاهر : أن وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان» بمعنى : أنه يمكن أن يكون شيء واحد بالإضافة إلى شيء مطلقا ، وبالإضافة إلى الآخر مقيدا ومشروطا ؛ مثل وجوب الصلاة مثلا فإنه مطلق بالإضافة إلى الطهارة ، ومشروط بالإضافة إلى الزوال ودخول الوقت ، وكذلك وجوب الحج فإنه مطلق بالإضافة إلى السير وقطع المسافة ، ومشروط بالإضافة إلى الاستطاعة.

فهذا دليل واضح على أن الإطلاق والاشتراط أمران إضافيان ؛ إذ لو لم يكن كل واحد منهما كذلك ـ بأن كانا حقيقيين ـ لم يكد يوجد هناك واجب مطلق من جميع الجهات ، ولا واجب مشروط كذلك ، كما أشار إليه بقوله : «وإلّا لم يكد يوجد واجب مطلق» أي : وإن لم يكن الوصفان إضافيين ؛ بأن كانا حقيقيين لم يكن وجه للبحث عن الواجب المطلق أصلا ، إذ لم يوجد هناك واجب مطلق من جميع الجهات ، ولا واجب مشروط كذلك ؛ إذ ليس في الواجبات الشرعية ما يكون مشروطا بكل شيء ، ولا مطلقا بالإضافة إلى كل شيء.

(١) أي : أن كل واجب مشروط بالنسبة إلى الشرائط العامة وهي أربعة : القدرة ، والعلم ، والعقل ، والبلوغ.

وأما تفصيل الكلام في الجهة الرابعة : ـ وهي النزاع المعروف بين الشيخ الأنصاري وغيره من الأعلام ـ فهو : أن القيود المأخوذة في لسان الأدلة هل هي ترجع إلى مفاد الهيئة أو إلى المادة.

٤٠