دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

فيه ولا شبهة تعتريه ، إلّا إنه لا يقتضي إلّا امتناع الاجتماع ، وعدم وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر الذي هو بديل وجوده المعاند له فيكون في مرتبته ، لا مقدما عليه ولو طبعا ، والمانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود (١) هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره ، لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده.

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن استدلال المشهور على النهي عن الضد بوجوب المقدمة إنما يتم فيما لو كان المراد بالتمانع المعنى الثاني الاصطلاحي ؛ لأن التمانع بهذا المعنى يكون مقتضيا لمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر.

ولكن التمانع بهذا المعنى غير ثابت في الضدين ، بل القدر الثابت من التمانع هو : استحالة اجتماعهما في الوجود ، وأما مقدمية عدم أحدهما للآخر فليست بثابتة ؛ وذلك لعدم انطباق ضابط المانع الاصطلاحي عليه ؛ لأن ضابطه : أن المانع عبارة عما ينافي ويزاحم المقتضي ـ بالكسر ـ في تأثيره ، وترتب المقتضى ـ بالفتح ـ عليه بحيث يكون عدمه من أجزاء علة وجود الأثر ومتقدما ، وهذا المعنى من المانع لا ينطبق على الضد ، لكون الضدين كالنقيضين في رتبة واحدة ، لوضوح : عدم تقدم وجود البياض على وجود السواد بشيء من أقسام السبق والتقدم ، بل هما في رتبة واحدة ، ومع وحدة رتبة العينين في الضدين لا بد أن يكون نقيض كل منهما أيضا في رتبة عين الآخر حفاظا لمرتبة النقيضين ، فعدم البياض يكون في رتبة وجود السواد ؛ إذ المفروض : كون نفس البياض في رتبة السواد ، ومع اتحاد عدم أحدهما مع عين الآخر رتبة لا تتصور المقدمية المتقومة بالتقدم. فدعوى : مقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر ـ كما في دليل المشهور ـ باطلة ؛ لاستلزامها انخرام قاعدة وحدة رتبة النقيضين.

(١) أي : ما يكون وجود المأمور به موقوفا على عدمه ـ بحيث يكون عدمه مقدمة ـ هو المانع ؛ بمعنى : «ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده» كما هو في الضدين ، فإن كلا منهما يعاند الآخر في وجوده ، ولا يمنع عن تأثير مقتضي الآخر ، فليس مانعا بالمعنى الاصطلاحي إذ المانع بهذا المعنى من شأنه منع تأثير المقتضي. ومع عدم المنع كيف يكون مانعا؟

فالمتحصل : أنه لا وجه لمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر ، وبالتالي لا وجه لاستدلال المشهور بوجوب المقدمة على النهي عن الضد بأن يقال : إن عدم الضد كالصلاة واجب لكونه مقدمة للواجب كالإزالة ، فتحرم الصلاة لكونها مانعة عن الواجب ؛ لما عرفت غير مرة : من أن عدم أحد الضدين لا يكون مقدمة للضد الآخر.

٢٤١

نعم ؛ (١) العلة التامة لأحد الضدين ربما تكون مانعا عن الآخر ومزاحما لمقتضيه في تأثيره مثلا : تكون شدة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبة له ، تمنع عن أن يؤثر ما في الأخ الغريق من المحبة والشفقة لإرادة إنقاذه مع المزاحمة فينقذ به الولد دونه ، فتأمل جيدا (٢).

ومما ذكرنا (٣) ظهر : أنه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم ، في أن عدمه الملائم

______________________________________________________

(١) هذا استدراك على ما تقدم ؛ من كون عدم أحد الضدين دائما مستندا إلى عدم مقتضيه ، لا إلى وجود المانع وهو الضد الآخر.

وحاصل الاستدراك ـ على ما «في منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٤٩» ـ : أنه قد يتفق أن يكون عدم أحد الضدين مستندا إلى وجود المانع وهو الضد الآخر ، كما إذا كان المقتضي لكل واحد من الضدين موجودا ، وكان مقتضي أحدهما أقوى من مقتضي الآخر ، فإن الأقوى يؤثر في مقتضاه ، فيوجد ، ويعدم الآخر ، فلا محالة يستند حينئذ عدم الآخر إلى المانع ، وهو علة وجود الضد الآخر ؛ لا إلى عدم مقتضيه ، إذ المفروض : وجوده كالمثال المذكور في المتن ، فإن المقتضي لإنقاذ الأخ ـ وهو الشفقة ـ موجود ، فعدمه لا محالة يستند إلى المانع ؛ وهو زيادة الشفقة على الولد ، فليس عدم الضد دائما مستندا إلى عدم المقتضي ، بل قد يستند إلى وجود المانع ؛ وهو علة وجود الضد الآخر.

(٢) أي : تأمل جيدا حتى تعرف الفرق بين عدم هذا النحو من المانع الذي يصح عدّه من المقدمات ، وبين عدم مانع يكون في رتبة الضد فلا يصح عدّه من المقدمات.

(٣) أي : مما ذكرنا من إن عدم أحد الضدين ليس من مقدمات الضد الآخر ؛ ظهر حال القول بالتفصيل بين الضد الموجود وبين الضد المعدوم ، فيكون عدم الأول مقدمة لوجود الآخر ؛ دون الثاني أي : لا يكون عدم الضد المعدوم مقدمة لوجود الضد الآخر. فحاصل التفصيل هو تسليم المقدمية في الضد الموجود دون المعدوم ، مثلا : إذا كان الجسم مشغولا بالسواد كان بياضه موقوفا على رفع السواد وعدمه ؛ لاستحالة اجتماع الضدين في محل واحد ، فيتوقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر ، ويكون عدم أحدهما مقدمة للآخر.

وأما إذا لم يكن أحد الضدين موجودا في محل ؛ بأن لم يكن الجسم مشغولا بالسواد ، فلا يتوقف وجود البياض فيه على عدم السواد ، فعدم الضد المعدوم لا يكون مقدمة لوجود الآخر.

فهذا القول : مركب من جزءين :

٢٤٢

للشيء المناقض لوجوده المعاند لذاك ؛ لا بد أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه ، بل عرفت : ما يقتضي عدم سبقه (١).

فانقدح بذلك : (٢) ما في تفصيل بعض الأعلام حيث قال : «بالتوقف على رفع

______________________________________________________

أما الأول فهو : مقدمية عدم الضد الموجود كالسواد لوجود الضد المعدوم كالبياض.

وأما الثاني فهو : عدم مقدمية عدم الضد المعدوم لوجود الضد الآخر. والوجه فيه : أن عدم الضد صار مقدمة للآخر من حيث كون عدم المانع مقدمة ، وغير الموجود ليس بمانع ، فلا يكون عدمه مقدمة للضد الآخر.

وقد أجاب المصنف عن هذا التفصيل : بقوله : «ومما ذكرنا ظهر ...» إلخ. وحاصل جواب المصنف : أنه قد ظهر مما سبق : أن عدم الضد لا يكون من المقدمات الوجودية للضد الآخر ، إذ قد عرفت : أن عدم الضد مقارن للضد الآخر وفي رتبته ؛ ولا يكون متقدما عليه ، فلا يكون مقدمة له سواء كان الضد موجودا أو معدوما ، لاعتبار السبق في المقدمية المنتفي في الضدين لما عرفت : من اتحاد عدم كل ضد مع وجود الضد الآخر من حيث الرتبة.

(١) أي : ما يقتضي عدم سبق عدم أحد الضدين على وجود الآخر حيث قال المصنف في أوائل البحث : «كيف ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشيء على عدم ضده ...» إلخ ، وقد تقدم لزوم الدور الباطل ؛ من توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر توقف الشيء على عدم مانعة ، وتوقف عدم أحد الضدين على الآخر توقف عدم الشيء على مانعة.

توضيح عبارة المصنف بالمثال : أن عدم البياض الملائم هذا العدم للسواد المناقض هذا العدم لوجود البياض المعاند وجود البياض للسواد لا بد أن يجامع عدم البياض مع السواد ، وليس سابقا على السواد حتى يكون من مقدماته.

قوله : «لا بد أن يجامع» خبر لقوله : «في أن عدمه» ؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٣٠» مع تصرف ما.

(٢) أي : ظهر بما ذكرناه من عدم الفرق بين عدم الضد الموجود وعدم الضد المعدوم من حيث الرتبة أي : ظهر الإشكال «في تفصيل الأعلام» ، وهو المحقق الخوانساري على ما يحكى عنه «حيث قال بالتوقف» أي : توقف الضد «على رفع الضد الموجود» ، فرفع الضد الموجود مقدمة لوجود الضد الآخر ، «وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم» ، فعدم الضد المعدوم ليس مقدمة لوجود الآخر. وقد عرفت الجواب عن هذا التفصيل وقلنا : إن الضد سواء كان موجودا أو معدوما ليس عدمه مقدمة للضد الآخر.

٢٤٣

الضد الموجود ، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم» ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه ، فإنه دقيق وبذلك حقيق.

فقد (١) ظهر : عدم حرمة الضد من جهة المقدمية.

وأما (٢) من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر ، لا أن يكون محكوما بحكمه.

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة ما أفاده المصنف : من منع مقدمية عدم الضد لوجود الآخر وحاصله ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٥٤» ـ : أنه ـ بعد منع المقدمية ـ اتضح عدم حرمة الضد حيث أنها كانت مبنية على مقدمية ترك الضد ، بتقريب : أن ترك الصلاة واجب ؛ لكونه مقدمة للواجب ـ وهو الإزالة ـ فوجود الصلاة حرام ؛ لكونه ضدا للواجب أعني : الإزالة.

هذا تمام الكلام في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ، لأجل مقدمية عدم الضد لوجود الآخر ، وبعد منع المقدمية ينهدم ما بني عليها من الاقتضاء المزبور.

(٢) هذا إشارة إلى القول بوجوب ترك الضد والنهي عنه «من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم» ، فالغرض من هذا : تقريب اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد من جهة التلازم بين فعل المأمور به وترك ضده في الحكم بالوجوب ، فلا بد أولا : من توضيح هذا القول ، وثانيا : توضيح ما أجاب عنه المصنف «قدس‌سره».

وأما توضيحه : فيقال : إن عدم الضد وإن لم يكن مقدمة لفعل الضد الآخر الواجب إلّا إنه ملازم له في الحكم ، مثلا : عدم الصلاة ملازم لوجود الواجب أعني : الإزالة ، وكل ملازم الواجب واجب ، فعدم الصلاة واجب ووجودها حرام ، ومنهي عنه ، فوجوب عدم الصلاة من باب التلازم يقتضي النهي التحريمي عن وجودها ، ولازم ذلك : أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده لأجل التلازم. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح هذا القول.

أما توضيح جواب المصنف عنه : فقد أشار إليه بقوله : «فغايته ...» إلخ وحاصله : إن غاية ما يقال في المقام من أجل الملازمة بين عدم الصلاة ، وبين وجود الإزالة في الوجود الخارجي : أنه لا يجوز أن يكون أحد المتلازمين في الوجود محكوما فعلا بغير ما حكم به الملازم الآخر ؛ مثل : أن تكون الإزالة واجبة ، وعدم الصلاة حراما ، وأما لزوم أن يكون أحدهما محكوما بمثل حكم الآخر في الوجوب والحرمة ؛ فلا يكون عليه دليل لا عقلا

٢٤٤

وعدم (١) خلو الواقعة عن الحكم فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي ،

______________________________________________________

ولا شرعا ، فالمتحصل هو : منع الاقتضاء من جهة التلازم ؛ كمنعه من جهة مقدمية عدم الضد.

وخلاصة وجه منع الاقتضاء من ناحية التلازم : هو منع الكبرى وهي لزوم اتحاد المتلازمين وجودا في الحكم ؛ وذلك لما تقرر عند مشهور العدلية : من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من الملاكات الداعية إلى تشريعها ، والتلازم المذكور يوجب ثبوت الحكم للملازم بلا ملاك يدعو إلى تشريعه له ، لوضوح : أن المفروض : عدم الملاك إلّا في متعلق الحكم ؛ كالاستقبال الذي هو واجب ، لمصلحة فيه. وأما ملازمه : ـ كاستدبار الجدي في بعض الأمكنة ـ فلا ملاك له يقتضي وجوبه.

وإثبات الوجوب له للتلازم بينه وبين الاستقبال الواجب مما لا يساعده برهان ، ولا وجدان ـ كما في البدائع ـ نعم ؛ لا بد أن لا يكون الملازم محكوما بحكم فعلي يوجب عجز المكلف عن امتثال أمر الملازم الآخر ، كالاستقبال ، فإن ملازمه ـ كالاستدبار في بعض الأقطار ـ يمتنع أن يكون محرما ، لكونه سالبا للقدرة على إطاعة أمر الاستقبال ومعجّزا للعبد عن امتثاله. كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٥٥».

فالمتحصل : أن مبنى اعتبار وحدة المتلازمين وجودا في الحكم ممنوع جدا ، إذ لا دليل على لزوم اشتراكهما في الحكم ، كما عن الكعبي القائل بلزوم اتحادهما فيه.

(١) إشارة إلى توهم بتقريب : إن عدم الصلاة لا يخلو عن ثلاثة أحوال : ١ ـ الوجوب. ٢ ـ غير الوجوب. ٣ ـ أن لا يكون له حكم أصلا.

ثم الأول : هو المطلوب ، والثالث : كالثاني غير صحيح ؛ إذ على الثالث : يلزم خلو الواقعة عن الحكم وهو باطل ، والثاني : مستلزم لاختلاف المتلازمين في الحكم وهو باطل.

فالصحيح : هو الأول ؛ أي : وجوب عدم الصلاة المستلزم لحرمة فعلها ، وكونه منهيا عنه.

وحاصل الجواب : هو الالتزام بالثالث ، والقول بخلو الواقعة أي : عدم الصلاة عن الحكم الفعلي دون الحكم الواقعي الإنشائي ، وليس خلو الواقعة عن الحكم الظاهري الفعلي باطلا ولا مستحيلا ، فعدم الصلاة ـ مثلا ـ الملازم لوجود الواجب ـ كالإزالة ـ لا يخلو عن حكم واقعي إنشائي كالحرمة مثلا ؛ إلّا إنه لا يصير فعليا لملازمته مع وجود واجب ، فلا يلزم من نفي فعلية الحكم الملازم نفي الحكم الإنشائي ، حتى يلزم محذور خلو الواقع عن الحكم الواقعي ، فلا حرمة للضد من جهة التلازم ، فالأمر بأحد الضدين

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يقتضي النهي عن ضده من ناحية التلازم ؛ لأن الضد لا يصير حراما لأجل الأمر بضده ؛ بل هو باق على ما كان عليه من الحكم الواقعي ، فالصلاة إذا كان حكمها الواقعي الوجوب وكان فعليا ، لا يتغير بمضادتها للإزالة ، بل يبقى على الوجوب أن فعليته تتبدل بالإنشائية. وقد تركنا ما في المقام من بعض الكلام رعاية للاختصار ، هذا تمام الكلام في الضد الخاص.

خلاصة الكلام مع ما هو رأي المصنف «قدس‌سره» في المقام

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ أن الحق كون مسألة الضد من المسائل الأصولية ؛ لأن الغرض منها هو إثبات الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضده ؛ لا ثبوت الحرمة لضد الواجب حتى تكون فقهية.

المراد من الضد هو : مطلق المعاند والمنافي ؛ سواء كان أمرا وجوديا كالضد الخاص ، أو عدميا كالضد العام.

المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة : ليس ما هو ظاهره أعني : الاستلزام ، بل الأعم منه ومن الاقتضاء على نحو العينية أو الجزئية.

وذلك أولا : لإطلاق لفظ الاقتضاء الشامل لجميع المعاني.

وثانيا : أن الغرض هو بيان حال الضد العبادي صحة وفسادا ؛ من غير فرق بين أنحاء الاقتضاء ، وعمومية الغرض تقتضي عمومية النزاع.

وثالثا : وجود الأقوال في المسألة يقتضي عموم الاقتضاء ؛ ليعم جميع الأقوال :

الأول : القول بالعينية : يعني : أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده.

الثاني : القول بالجزئية : يعني : أن الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده بالتضمن ؛ بأن يكون النهي عن الضد جزءا من الأمر بالشيء.

الثالث : أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده. كما هو ظاهر لفظ الاقتضاء.

٢ أ ـ إن عمدة القول هو الاقتضاء من باب المقدمية ؛ بتقريب : أن عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر الواجب فيكون واجبا من باب المقدمة ، فإذا وجب ترك الضد حرم فعله قهرا ، وهذا معنى النهي عن الضد.

هذا هو المشهور ، وهذا يتوقف على مقدمية عدم أحد الضدين للآخر لأجل التمانع والتعاند بين الضدين ، فيكون عدم كل منهما من أجزاء العلة التامة ، لأن عدم المانع من

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أجزاء العلة ، فكان من المقدمات ، فإذا كان أحدهما واجبا كان ترك الآخر أيضا واجبا ، وفعله حراما ومنهيا عنه ، وهذا معنى النهي عن الضد الخاص. هذا ملخص توهم مقدمية ترك أحد الضدين عن الضد الآخر.

وقد أورد المصنف على هذا التوهم بوجوه :

الأول : أن كون شيء مقدمة لشيء آخر يكون مستلزما لتقدم ما هو مقدمة للآخر ، وليس عدم الضد المانع مقدما على وجود الضد الآخر ، فلا يكون مقدمة له ؛ لاعتبار السبق والتقدم في المقدمية.

الثاني : النقض بالمتناقضين ؛ بأن يقال : إنه لا إشكال في أن التنافي بين المتقابلين بالتناقض أقوى من التنافي بين المتقابلين بالتضاد ، مع إنه من المسلم : كون أحد المتناقضين في رتبة الآخر ، فكذلك الضدين في المقام حيث إن التنافي بينهما لا يقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر حتى يكون مقدمة له.

الثالث : أن فرض مقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر مستلزم للدور الباطل ، بتقريب : أنه كما أن وجود أحد الضدين يتوقف على عدم الآخر توقف الشيء على عدم المانع ، فكذلك عدم أحدهما يتوقف على وجود الآخر توقف عدم الشيء على وجود المانع ، وهو دور واضح.

٣ ـ «وما قيل في التفصي عن هذا الدور» قال المحقق الخوانساري في التفصي عن الدور : بما حاصله : أن الدور مسلم إذا كان التوقف من الطرفين بالفعل ، وأما إذا كان التوقف من أحد الجانبين بالفعل ومن الآخر بالقوة فيندفع الدور ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، وذلك فإن توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر ـ وإن كان فعليا ـ إلّا إن توقف عدم أحدهما على وجود الآخر لا يكون بالفعل ، لأن عدم الضد يمكن أن يكون مستندا إلى عدم المقتضي ، مثلا : بأن يكون عدم الصلاة مستندا إلى عدم الإرادة لا إلى وجود الإزالة.

نعم ؛ يكون عدم الصلاة مستندا إلى وجود الإزالة عند وجود المقتضي للصلاة أعني : الإرادة.

وكيف كان ؛ فإذا لم يكن التوقف فعليا من الطرفين لا يلزم الدور ؛ لأن التغاير بين الطرفين بالشأنية والفعلية يكفي في دفع الدور.

«إن قلت : هذا» أي : هذا إشكال على التفصي من الدور وحاصله : أن ما ذكر في دفع

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الدور من التغاير بين الطرفين بالفعلية والشأنية ـ وإن كان صحيحا في دفع الدور ـ إلّا إنه لا يجري في جميع الموارد ، بل في بعض الموارد ، وهو ما إذا كانت الإرادة من شخص واحد ، كما إذا أراد إيجاد البياض والسواد في زمان واحد ومكان كذلك ؛ حيث يمتنع تعلق إرادة واحدة بشيئين متضادين ، فلا محالة يكون عدم أحد الضدين مستندا إلى عدم المقتضي وهو الإرادة.

وأما إذا كانت الإرادة من شخصين : فعدم أحد الضدين حينئذ مستند إلى وجود المانع فعلا ـ وهو الضد الآخر ـ لا إلى عدم المقتضي ؛ إذ المفروض : وجوده أعني : إرادة إيجاد الضد الآخر من شخص آخر ، فيلزم الدور ؛ لأن التوقف فعلي من الطرفين.

وقد أجاب عنه المصنف بما حاصله : أن عدم أحد الضدين دائما مستند إلى عدم المقتضي حتى في مورد إرادة الضدين من شخصين ؛ لأن المراد بالمقتضي هي الإرادة المؤثرة في المراد ، وهي منتفية في المقام لمغلوبية إحدى الإرادتين ، ومع المغلوبية يكون عدم الضد مستندا إلى عدم المقتضي أعني : الإرادة المغلوبة ، لا إلى وجود المانع حتى يلزم الدور ، فالتفصي عن الدور صحيح ومتين.

وقد أجاب المصنف عن التفصي المذكور بقوله : «غير سديد» ، وحاصل الجواب : أن ما قيل ـ في التفصي عن الدور من التغاير بين الطرفين بالشأنية والفعلية ـ وإن كان دافعا بالتقريب المزبور : لأن الدور مبني على التوقف الفعلي من الطرفين ـ إلّا إن ملاك استحالة الدور ـ وهو : توقف الشيء على نفسه ، وتأخره كذلك ـ باق على حاله ؛ لأن مجرد التوقف الشأني من طرف العدم يكفي في بقاء ملاك الدور ، بتقريب : أن وجود أحد الضدين حيث يتوقف فعلا على عدم الآخر متأخر عنه تأخر المعلول عن علته رتبة ، وعدم الضد الآخر حيث يصلح أن يستند إلى وجود هذا الضد أي : على وجود المقتضي فهو متأخر عن وجود هذا الضد رتبة فيلزم ما ذكرناه : من تقدم الشيء عن نفسه ، وتأخره عن نفسه.

٤ ـ «والمنع عن صلوحه لذلك» أي : هذا إيراد على صلاحية أحد الضدين مانعا عن الآخر وحاصله : أنّنا نمنع مقدمية : عدم أحد الضدين لوجود الآخر المستلزم لأن يكون وجوده مانعا عن الآخر كي يلزم المحذور المذكور ؛ لأن كون عدم أحدهما مستندا إلى الآخر إنما هو على فرض وجود المقتضي وهو محال والمعلق على المحال محال ؛ أي : مقدمية عدم أحد الضدين للآخر معلق على وجود المقتضي المحال فهو أيضا محال ، فلا

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون الضد الموجود صالحا لأن يكون مانعا عن الضد المعدوم ، فوجود أحد الضدين ـ وإن كان متوقفا على عدم الآخر ـ إلّا إن عدم الآخر لا يكون متوقفا على وجوده ؛ وذلك لعدم المقتضي ، والتوقف على الوجود مشروط بوجود المقتضي كما عرفت وحينئذ فلا يلزم المحذور وهو : كون شيء واحد متقدما ومتأخرا.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإيراد بقوله : «مساوق لمنع مانعية الضد».

وحاصل الجواب : أن منع صلاحية كون وجود الضد مانعا عن الضد الآخر موجب لإنكار مانعية الضد أصلا ؛ لاستلزامه نفي التوقف حتى من طرف الوجود ، وهو خلاف البداهة ؛ لأن توقف وجود الضد على عدم الآخر من البديهيات.

٥ ـ «إن قلت : التمانع بين الضدين كالنار على المنار» الغرض من هذا الكلام : إثبات مقدمية عدم أحد الضدين للآخر ، فيكون عدمه واجبا إذا كان الضد الآخر واجبا ، وفعله حراما ومنهيا عنه.

ملخص الكلام : لنا مقدمتان واضحتان وهما : التمانع بين الضدين ، وكون عدم المانع من مقدمات المأمور به ؛ وهاتان المقدمتان تنتجان وجوب ترك ضد المأمور به ، فيكون فعله منهيا عنه ، وهو المطلوب في المقام.

وقد أجاب المصنف عنه بما حاصله : أن المراد بالتمانع بين الضدين هو : التعاند ؛ بحيث يمتنع اجتماعهما في الوجود ، ومن التمانع بهذا المعنى لا يلزم أن يكون عدم أحدهما مقدمة للآخر ، وليس التمانع بما هو المصطلح عندهم وهو : كون أحدهما مانعا عن الآخر ؛ بأن يكون عدمه دخيلا في وجود الآخر ومتقدما عليه حتى تكون مقدمة له.

نعم ؛ قد يتفق أن يكون عدم أحد الضدين مستندا إلى وجود الآخر ، فيكون وجوده مانعا كما إذا كان المقتضي لكل منهما موجودا ، وكان المقتضي لأحدهما أقوى من المقتضي في الآخر ، فيوجد أحدهما دون الآخر ، فلا محالة يكون عدم الآخر مستندا إلى المانع وهو علّة الآخر ؛ لا إلى عدم المقتضي لوجوده بالفرض.

٦ ـ وقد ظهر مما ذكرناه ـ من عدم كون ترك أحد الضدين من مقدمات الآخر ـ : حال التفصيل بين الضد الموجود ـ فيكون عدمه مقدمة لوجود الآخر ـ وبين الضد المعدوم فلا يكون عدمه مقدمة للآخر ؛ بدليل : أن عدم الضد صار مقدمة لوجود الآخر ؛ من حيث كون عدم المانع من المقدمات ، وغير الموجود ليس مانعا ، كي يكون عدمه من مقدمات الآخر.

٢٤٩

فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا ، بل على ما هو عليه لو لا الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي من الحكم الواقعي.

______________________________________________________

وخلاصة ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا التفصيل : أنه قد ظهر بما سبق : أن عدم الضد لا يكون من المقدمات الوجودية للضد الآخر لاتحادهما رتبة ، فلا يكون مقدمة ؛ من غير فرق بين عدم الضد الموجود والمعدوم. هذا تمام الكلام في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده لأجل مقدميّة عدم الضد.

أمّا اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده من جهة : لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم فيقال : إن عدم الضد ـ وإن لم يكن مقدمة للضد الآخر الواجب ـ إلّا إنه ملازم له في الحكم ، مثلا : عدم الصلاة ملازم لوجود الإزالة وهي واجبة ، وكل ملازم الواجب واجب ، فعدم الصلاة واجب ، ووجودها حرام ومنهي عنه ، فوجوب عدم الصلاة يقتضي النهي عنها من باب التلازم. ولازم ذلك : أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه من باب التلازم.

وقد أجاب المصنف عن هذا القول : بما حاصله : أن غاية ما يقال ـ في المقام من أجل الملازمة بين عدم الصلاة ووجود الإزالة في الوجود الخارجي ـ : أنه لا يجوز أن يكون أحد المتلازمين محكوما بغير ما حكم به الآخر ، كوجوب الإزالة ، وحرمة ترك الصلاة.

أما لزوم أن يكون أحدهما محكوما بمثل حكم الآخر في الوجوب والحرمة : فلا دليل عليه عقلا وشرعا. ولا يلزم خلو الواقعة عن الحكم الواقعي لو لم يكن أحدهما محكوما بمثل حكم الآخر ؛ وإن كان يلزم خلّوها عن الحكم الواقعي الفعلي ، وهو ليس بباطل ، ولا مستحيل.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ المراد من الاقتضاء في العنوان : هو الأعم من الاقتضاء على نحو العينية والجزئية والاستلزام.

٢ ـ المراد من الضد : هو مطلق المعاند والمنافي ؛ سواء كان أمرا وجوديا أو عدميا.

٣ ـ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده مطلقا :

١ ـ أي : لا على نحو العينية.

٢ ـ ولا على نحو الجزئية.

٣ ـ ولا من جهة مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر.

٤ ـ ولا من جهة التلازم في الحكم بين المتلازمين في الوجود.

٢٥٠

الأمر الثالث : (١) أنه قيل : (٢) بدلالة الأمر بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام بمعنى الترك ، حيث إنه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل ، والمنع عن الترك.

والتحقيق : (٣) أنه لا يكون الوجوب إلّا طلبا بسيطا ومرتبة وحيدة أكيدة من

______________________________________________________

(١) الغرض من عقد هذا الأمر : بيان عدم الاقتضاء بنحو التضمن والعينية.

(٢) القائل : هو صاحب المعالم ، قال «قدس‌سره» : ما لفظه : «لنا على الاقتضاء في المقام ـ بمعنى الترك ـ : ما علم ؛ من أن ماهية الوجوب مركبة من أمرين : أحدهما : المنع من الترك ، فصيغة الأمر الدالة على الوجوب دالة على النهي عن الترك بالتضمن ، وذلك واضح». معالم الدين ، ص ١٧٨.

توضيح ـ ما في المعالم ـ يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين الدلالة المطابقية والتضمنية والالتزامية ، والأولى : هي دلالة اللفظ على تمام ما وضع له ، كدلالة لفظ الإنسان على «الحيوان الناطق».

والثانية : هي دلالة اللفظ على ما هو جزء لما وضع له ؛ كدلالة لفظ الإنسان على «الحيوان أو الناطق» فقط.

والثالثة : هي دلالة اللفظ على ما هو خارج عما وضع له ؛ إلّا إنه لازم لما وضع له ؛ كدلالة لفظ الإنسان على الكتابة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن الأمر موضوع للوجوب الذي هو مركب من طلب الفعل والمنع من الترك ، فالأمر يدل على الوجوب مطابقة وعلى المنع من الترك تضمنا ، من باب دلالة اللفظ على جزء الموضوع له ، فيكون اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عنه بالتضمن.

(٣) أي : والتحقيق في بطلان هذا القول. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن دلالة الأمر على النهي عن الشيء بالتضمن إنما يصح فيما إذا كان معنى الأمر ـ وهو الوجوب ـ مركبا من جزءين ، كما تقدم في تقريب قول صاحب المعالم.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن معنى الأمر ـ وهو الوجوب ـ ليس مركبا من جزءين : أحدهما : طلب الفعل ، والآخر : المنع من الترك ، بل حقيقة الوجوب أمر بسيط حيث إنه عبارة عن مرتبة أكيدة من الطلب يعبر عنها بالطلب الشديد ، كما أن الندب هو الطلب الضعيف ، نعم ؛ يكون المنع من الترك من لوازم الطلب الشديد ، كما أن عدم المنع من لوازم الطلب الضعيف ، فتعريف جلّ الأصوليين للوجوب ـ بأنه طلب الفعل مع المنع من الترك ـ تعريف له بلازمه ؛ لما عرفت : من أن لازم المرتبة الشديدة من الطلب هو

٢٥١

الطلب ؛ لا مركبا من طلبين (١).

نعم ؛ (٢) في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ربما يقال : الوجوب يكون عبارة عن طلب الفعل مع المنع عن الترك ، ويتخيل منه : أنه يذكر له حدا ، فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوماته ، بل من خواصه ولوازمه بمعنى : أنه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة ، وكان يبغضه (٣) البتّة. ومن هنا (٤) انقدح : أنه لا

______________________________________________________

المنع من الترك ، لا إن للوجوب جنسا وفصلا ، حتى يكون مركبا ، وعليه : فليس المنع من الترك جزءا من مدلول الأمر حتى يقال باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد العام بمعنى الترك بالتضمن.

فدعوى الاقتضاء التضمني ساقطة من الأساس ؛ لابتنائها على تركب الوجوب الذي أنكره المصنف ، وقال ببساطته.

أما وجه بساطته ـ بناء على أنه إرادة نفسانية ـ فهو : كونه حينئذ من الأعراض التي هي من البسائط الخارجية.

وأما بناء على كونه أمرا اعتباريا عقلائيا ، منتزعا من الإنشاء بداعي البعث والتحريك فهو : كون الاعتباريات أشد بساطة من الأعراض ؛ إذ ليس لها جنس وفصل عقلي أيضا بخلاف الأعراض.

(١) أي : ليس الوجوب مركبا من طلبين : أحدهما : طلب الفعل ، والآخر : طلب عدم تركه ، حتى تصح دعوى الاقتضاء التضمني المذكور ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٦٠».

(٢) هذا استدراك على البساطة ، ودفع لتوهم التنافي بين الالتزام ببساطة الوجوب ، وتحديدهم : بأنه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك ؛ لأن التحديد المذكور ظاهر في التركّب.

وحاصل الدفع : أن التحديد المزبور ليس حقيقيا حتى ينافي ما التزم به من البساطة ، بل غرضهم من التحديد المزبور تعريف تلك المرتبة الأكيدة من الطلب ؛ المسماة بالوجوب بلوازمها وخواصها التي منها المنع من الترك. وهذا التحديد أوجب توهم التركب ، وكون المنع من الترك جزءا مقوما للوجوب ، وفصلا منوعا للطلب ، وليس الأمر كما توهم ؛ إذ يلزم حينئذ قيام الوجوب بالوجود والعدم وهو باطل ؛ بداهة : قيامه بالوجود فقط.

(٣) أي : يبغض الترك ، وهذا كاشف عن رضا الآمر به.

(٤) أي : مما ذكرنا : من أن الوجوب بسيط ، ولازمه المنع من الترك ؛ ظهر : أنه لا وجه لدعوى العينية أي : كون الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام ، فقوله : «ومن هنا

٢٥٢

وجه لدعوى العينية ، ضرورة : (١) أن اللزوم يقتضي الاثنينية لا الاتحاد والعينية.

نعم ؛ لا بأس بها (٢) ، بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد ، وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا إليه ؛ كذلك يصح أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز ويكون زجرا وردعا عنه ، فافهم (٣).

______________________________________________________

انقدح» ردّ للقول بالاقتضاء بنحو العينية ، ونسب هذا القول إلى القاضي ، وبعض المحققين حيث قالوا : بأن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام ، فالأمر بالصلاة ـ مثلا ـ عين النهي عن تركها ، فقولنا : «صلّ» عين قولنا : «لا تترك الصلاة» بتقريب : أن الأمر بالشيء ـ كالصلاة والنهي عن تركه عنوانان متحدان عينا ؛ وإن كانا متغايرين مفهوما ، فإن قولنا : «صلّ ولا تترك الصلاة» ، متغايران مفهوما لتغاير الأمر والنهي ، فالمراد بالعينية هي : العينية بحسب المصداق لا بحسب المفهوم.

(١) تعليل لوجه الانقداح. توضيح ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي : أنه قد عرفت بساطة الوجوب ، وأن المنع من الترك من لوازمه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن اللزوم يقتضي الاثنينية يعني : كون المنع من الترك من لوازم الوجوب يقتضي الاثنينية ، ـ فلا وجه لدعوى العينية ـ إذ من البديهي : أن اللزوم إضافة متقومة بشيئين : أحدهما : لازم ، والآخر : ملزوم ، فيمتنع قيامه بشيء واحد ، فلا تصح دعوى العينية المنافية للاثنينية ، والمتحصل : أن الأمر والنهي متضادان ، فلا يعقل أن يكون أحدهما عين الآخر.

(٢) أي : لا بأس بالعينية بالعناية والمجاز ، لا حقيقة بأن يقال : إن قولنا : «صلّ» ـ مثلا ـ وإن كان طلبا واحدا نحو الفعل حقيقة ، إلّا إنه تصح نسبته إلى الترك أيضا بالعناية والمسامحة ، يعني : يصح التعبير عن طلب فعل الصلاة ، «لا تترك الصلاة مجازا» ؛ لأن الطلب تعلق حقيقة بالفعل ، فتعلقه بالترك لا بد أن يكون بالعرض والمجاز ، ولكن هذا النحو من العينية لا يفيد القائل بها إذ هو قائل بالعينية الحقيقية ، أي : يقول : إن مدلول «صلّ» هو : لا تترك الصلاة بعينه ، ولا يقول بها من باب المجازية والعناية.

(٣) لعله إشارة إلى : أن المراد من العينية هي العينية المصداقية ، ولا مانع منها. أو إشارة إلى : أن التوجيه المزبور ـ وهو نسبة الطلب إلى الفعل حقيقة وإلى الترك مجازا ـ يوجب الخروج عن موضوع كلامهم ؛ حيث إن مورده ـ على القول بالاقتضاء بأي : نحو من أنحاء الاقتضاء ـ هو : تعدد الحكم الموجب لتعدد العقاب على تقدير المخالفة ، والتوجيه المزبور ينفي التعدد ؛ لأن المفروض : وحدة الطلب المنسوب إلى الفعل حقيقة ، وإلى الترك مجازا ، فلا تعدد في الطلب حقيقة ، وإنما الاختلاف في مجرد اللفظ والتسمية.

٢٥٣

الرابع : (١) تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة وهي النهي عن الضد ـ بناء على الاقتضاء ـ بضميمة : أن النهي في العبادات يقتضي الفساد ، ينتج فساده إذا كان عبادة.

وعن البهائي «رحمه‌الله» أنه أنكر الثمرة (٢) بدعوى : إنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد ، بل يكفي عدم الأمر به لاحتياج العبادة إلى الأمر.

وفيه : (٣) أنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى كي يصح أن يتقرب به منه كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) في ثمرة مسألة الضد. قال المصنف «قدس‌سره» : إن ثمرة البحث تظهر فيما إذا كان ضد المأمور به عباديا ، كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة ، فإنه بناء على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ؛ بضميمة : أن النهي عن العبادة يستلزم فسادها تقع العبادة فاسدة للنهي عنها ، وبناء على عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده تقع صحيحة لعدم النهي عنها.

(٢) أي : أنكر البهائي «قدس‌سره» ، هذه الثمرة.

وحاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في تقريب الإنكار هو : أن العبادية والتقرب يتوقف على تعلق الأمر بالعمل ، ومن الواضح : أن الضد العبادي لا أمر به ؛ لارتفاع الأمر به بمزاحمته مع الواجب الأهم ، فلا يقع صحيحا سواء قلنا : بأنه منهي عنه أو لم نقل بذلك ، ففساد الضد العبادي لا يتوقف على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده ، فما ذكروه : من فساد الضد إذا كان عبادة ليس ثمرة لهذه المسألة.

ثم إن الأصوليين ذكروا للمسألة ثمرات أخرى :

منها : حصول العصيان بفعل الضد ؛ بناء على القول بالاقتضاء وعدم حصول العصيان بناء على عدم الاقتضاء.

ومنها : ترتب العقاب على فعل الضد وعدمه ، فإن قلنا : باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاص يترتب العقاب على فعله ، وإلّا فلا.

ومنها : حصول الفسق وعدمه.

إلّا إن ترتب هذه الثمرات مبنيّ على القول بالاقتضاء بنحو المقدمية ، وقد عرفت بطلان المقدمية.

(٣) هذا ردّ كلام الشيخ البهائي من إنكار الثمرة. وحاصل الإشكال على الشيخ البهائي «قدس‌سره» : أن الأمر ـ وإن ارتفع بالمزاحمة ـ إلّا إن ملاك الأمر ثابت وموجود

٢٥٤

والضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك ، فإن المزاحمة على هذا لا يوجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلق به فعلا ؛ مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة ، كما هو مذهب العدلية (١) ، أو غيرها (٢) أيّ شيء كان ، كما هو مذهب الأشاعرة. وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته ، وخروجه عن قابلية التقرب به كما حدث ، بناء على الاقتضاء (٣).

______________________________________________________

وهو المحبوبية الذاتية ؛ إذ لا مقتضي لارتفاعه ، والمزاحمة إنما تقتضي ارتفاع الأمر لا غير. وعليه : فالتقرب بالملاك يكفي في تحقق العبادية ، ولا يتوقف على وجود الأمر ، وهو إنما يصح لو لم يكن منهيا عنه ، لأن النهي يستلزم الفساد. فتظهر الثمرة التي تسالم عليها القدماء ، وجماعة من المتأخرين. وكيف كان ؛ فلا منشأ لفساد الضد العبادي إلّا النهي عنه.

(١) أي : المشهور منهم القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

(٢) أي : غير المصلحة أيّ شيء كان ، كما عليه الأشاعرة المنكرون للمصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام.

(٣) أي : كما حدث ما يوجب المبغوضية ، والخروج عن قابلية التقرب ؛ بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد ، حيث إن النهي يحدث في متعلقه مبغوضية مانعة عن التقرب به.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور تالية :

١ ـ أنه قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام بمعنى الترك بتقريب أن معنى الأمر : عبارة عن الوجوب المركب من طلب الفعل ، والمنع من ترك ذلك الفعل.

فدلالة لفظ الأمر على المنع من الترك دلالة اللفظ على جزء الموضوع له فتكون تضمنية.

وحاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» : في ردّ هذا القول هو : أن معنى الأمر ـ وإن كان هو الوجوب ـ إلّا إن الوجوب ليس مركبا من جزءين ، بل هو أمر بسيط ، فلا وجه للدلالة التضمنية ، فدعوى : الاقتضاء التضمني ساقطة من الأساس.

نعم ؛ قيل في تحديد الوجوب بأنه طلب الفعل مع المنع من الترك ، إلّا إن هذا التحديد للوجوب تحديد وتعريف بما هو لازمه ؛ لأن الوجوب عبارة عن الطلب الشديد ، ولازم

٢٥٥

ثم إنه تصدى جماعة من الأفاضل (١) ، لتصحيح الأمر بالضد بنحو الترتب على

______________________________________________________

الطلب الشديد هو المنع من الترك ، فالمنع من الترك ليس جزء الموضوع له بل هو خارج عنه ولازم له.

٢ ـ ومن بطلان القول بالاقتضاء التضمني ظهر : بطلان القول بالاقتضاء بنحو العينية ؛ بمعنى : أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن الضد العام ، فقولنا : «صلّ» هو عين «لا تترك الصلاة».

وجه البطلان : أن المنع من الترك لازم الوجوب بمعنى الطلب الشديد ، ومقتضى اللزوم هو : الاثنينية لا الاتحاد والعينية ، وإرادة العينية بالعناية والمجاز لا تنفع للقائل بالعينية ؛ إذ هو قائل بالعينية الحقيقية.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى أن المراد من العينية المصداقية فلا مانع منها.

٣ ـ ثمرة المسألة : هو فساد الضد العبادي على القول بالاقتضاء ؛ بضميمة : دلالة النهي في العبادة على الفساد ، وإنكار الشيخ البهائي لهذه الثمرة بأن الضد العبادي فاسد لأجل ارتفاع الأمر به بالمزاحمة مع الأهم ؛ من دون فرق بين القول بالاقتضاء والقول بعدمه مردود بكفاية المحبوبية الذاتية في صحة الضد العبادي ، من غير حاجة إلى تعلق الأمر به ، فوجه الفساد منحصر في النهي عن الضد دون عدم الأمر به ، فالثمرة المذكورة صحيحة.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو صحة الثمرة المذكورة ، وبساطة معنى الأمر وهو الوجوب.

مبحث الترتب

(١) كالمحقق الكركي وكاشف الغطاء والميرزا الشيرازي والمحقق النائيني أي : وقد تصدى هؤلاء لتصحيح الضد العبادي بنحو الترتب.

وقبل الخوض في بحث الترتب تفصيلا ينبغي تقديم أمور إجمالا :

١ ـ أن مسألة الترتب من المسائل العقلية ، لأن البحث فيها عن الإمكان والاستحالة ؛ بمعنى : أن الأمر بالضدين بنحو الترتب هل هو ممكن أم لا؟ ومن البديهي : أن الحاكم بالإمكان والاستحالة هو العقل لا غيره.

٢ ـ الغرض من الترتب : هو تصحيح الضد العبادي حتى على القول بتوقف صحة العبادة على الأمر ، وعدم كفاية الملاك والمحبوبية في قصد التقرب المعتبر في العبادة.

٣ ـ ما يعتبر في تحقق موضوع الترتب وهو أمور :

٢٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : التضاد بين متعلقي الأمرين.

الثاني : كون التكليفين المتعلقين بالضدين إلزاميين.

الثالث : كون المهم من الضدين عباديا.

الرابع : أن يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقيا ؛ حتى يكون مورد الاجتماع من صغريات باب التزاحم ، لا دائميا حتى يكون من صغريات باب التعارض.

الخامس : كون المتزاحمين عرضيين لا طوليين.

٤ ـ بيان ما هو محل النزاع من الترتب : فنقول : إن الترتب لغة من الترتيب وإن كان بمعنى جعل الشيء في مرتبته إلّا إنه في اصطلاحهم عبارة عن تعلق الأمر بالضد بنحو الترتب ؛ بأن يكون الأمر بالضد المهم مترتبا على عصيان الضد الأهمّ ، نحو «أزل النجاسة وإن عصيت فصل». هذا هو محل النزاع في بحث الترتب.

فإن الأمر بالمهم يجب أن يكون مترتبا على عصيان الأمر بالأهم ، ومتأخرا عنه ، وفي طوله ، لا في عرضه ؛ إذ المفروض : أن عصيان الأمر بالأهم موضوع للأمر بالمهم فلا يلزم من طلب الضدين بهذا النحو طلب الجمع بينهما حتى يقال باستحالته كاستحالة الجمع بين الضدين ، وكيف كان ؛ فمما يعتبر في الترتب : أن يكون أحد الضدين أهمّ من الآخر.

إذا عرفت هذه الأمور : فنقول : إن تصوير الترتب في هذا الفرض ـ كون أحدهما أهمّ والآخر مهما ـ على ستة أنحاء ؛ وذلك فإن الأمر بالمهم إما أن يترتب على عصيان الأمر بالأهم ، وإما يترتب على العزم والبناء على عصيان الأمر بالأهم ، ثم كل من العصيان أو العزم والبناء على العصيان : إما يكون بنحو الشرط المتقدم أو المقارن أو المتأخر ، فحاصل ضرب الاثنين في الثلاثة هو ستة. وبعض هذه الأقسام خارج عما نحن فيه.

وتوضيح ذلك يتوقف على ذكر الأقسام تفصيلا :

الأول : أن يكون المهم مترتبا على عصيان الأهم بنحو الشرط المتقدم ، كأن يقول المولى : «أزل النجاسة وإن عصيت فصلّ بعده» ، فإن الأمر بالمهم يتوقف على عصيان الأمر بالأهم توقف المشروط على شرطه. هذا خارج عن مورد البحث ـ وهو اجتماع الأمر بالضدين في زمان واحد مع اختلافهما رتبة ـ.

وجه خروجه عن محل البحث هو : سقوط الأمر بالأهم بالعصيان المتحقق قبل زمان الأمر بالمهم ، وبعد سقوطه ، ليس في البين إلّا أمر المهم ، فهنا أمر واحد متعلق بالمهم ، وهذا غير الترتب المبحوث عنه في المقام.

٢٥٧

العصيان وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخر ، أو البناء على معصيته بنحو الشرط المتقدم أو المقارن ، بدعوى : أنه لا مانع عقلا عن تعلق الأمر بالضدين كذلك أي : بأن يكون الأمر بالأهم مطلقا ، والأمر بغيره معلقا على عصيان ذلك الأمر ، أو البناء والعزم عليه ، بل هو واقع كثيرا عرفا.

قلت : (١) ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد ، آت في طلبهما

______________________________________________________

الثاني : أن يكون المهم مترتبا على عصيان الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن كأن يقول : «أزل النجاسة ، وإن عصيت فصلّ مقارنا للعصيان» ، وهذا أيضا خارج عما نحن فيه كالأول ؛ وذلك لعدم لزوم الأمر بالضدين في زمان واحد ؛ لأن المفروض : سقوط الأمر بالأهم بالعصيان المقارن للأمر بالمهم ، فلا يجتمع الأمران بالضدين في زمان واحد ، فليس من الترتب المبحوث عنه في المقام.

الثالث : أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على عصيان الأمر بالأهم بنحو الشرط المتأخر ، كأن يقول : «أزل النجاسة وإن عصيت بعد فصلّ» هذا داخل في مسألة الترتب ؛ لأن العصيان ـ الذي هو شرط للأمر بالمهم كالصلاة ـ متأخر وجودا عن زمان الصلاة ، فلا بد أن يكون العصيان بالنسبة إلى الصلاة بنحو الشرط المتأخر ، ومرجع الشرط المتأخر إلى التصور واللحاظ للشرط كما سبق ذلك في مقدمات الواجب.

الرابع : أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على بناء معصية الأهم بنحو الشرط المتقدم ؛ كأن يقول : «أزل النجاسة وإن بنيت على المعصية فصلّ بعده».

الخامس : أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على بناء معصية الأهم بنحو الشرط المقارن ؛ كأن يقول : «أزل النجاسة ، وإن بنيت على المعصية فصلّ مقارنا للبناء» ، وهذان القسمان داخلان في مسألة الترتب ، وأشار إليهما بقوله : «أو البناء على معصيته بنحو الشرط المتقدم أو المقارن».

السادس : أن يكون الأمر بالمهم مترتبا على بناء معصية الأهم بنحو الشرط المتأخر ؛ كأن يقول : «أزل النجاسة ، وإن بنيت على المعصية بعد فصلّ» ، وهذا داخل في الترتب ، ولكن لم يذكره المصنف «قدس‌سره». وهذه الاحتمالات ـ وإن كانت مذكورة في بعض الحواشي كحاشية المشكيني ، ج ٢ ، ص ٣٣ ـ والوصول ج ٢ ، ص ٢٣٩ ـ إلّا إنها لم تكن خالية عن الإجمال والغموض.

(١) أي : قال المصنف في مقام إنكار الترتب : إن ملاك استحالة الأمر بالضدين في آن واحد موجود في هذا الترتب ، وحاصل إشكال المصنف على الترتب هو : لزوم المحال أعني : طلب الضدين في عرض واحد.

٢٥٨

كذلك ، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما ، إلّا إنه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ، بداهة : فعلية الأمر بالأهم في هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص ، أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضا ، لتحقق ما هو شرط فعليته (١) فرضا.

لا يقال : (٢) نعم ؛ لكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار ،

______________________________________________________

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : إن ملاك الاستحالة هو طلب الضدين في آن واحد ؛ بأن يكون طلب كل واحد من الأهم والمهم فعليا في زمان واحد ، ثم الأمر بالمهم ـ وإن كان مشروطا بعصيان الأهم أو العزم عليه ـ إلّا إن الأمر بالأهم يكون مطلقا وغير مشروط.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : بفعلية كلا الطلبين بعد تحقق عصيان الأمر بالأهم. أما فعلية طلب المهم : فلأجل حصول شرطه وهو عصيان أمر الأهم ، أو البناء والعزم عليه.

وأما فعلية طلب الأهم : فلأن طلبه مطلقا موجود في مرتبة الأمر بالمهم ، ولا يسقط الأمر بالأهم بمجرد فرض حصول المعصية فيما بعد ، أو فرض تحقق العزم على معصيته فيما قبل أو في الحال ما لم تتحقق المعصية بنفسها في الخارج.

إذ المفروض : أن عصيان أمر الأهم شرط متأخر للأمر بالمهم ، ولازم ذلك : وجود الأمر بالأهم في مرتبة الأمر بالمهم قبل تحقق نفس المعصية فيما بعد ، فالأمر بالإزالة يقتضي امتثاله ولو آناً ما قبل العصيان ، أو قبل العزم أو حينه أو بعده إلى زمن تحقق نفس المعصية ، وسقوط الأمر بالأهم بها ، فيجتمع الطلبان الفعليان بالضدين في آن واحد وهو محال.

فالمتحصل : أن الترتب ممتنع لاستلزامه المحال وهو طلب الضدين في آن واحد ، وهو في الاستحالة كاجتماع الضدين. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكال الوارد على الترتب.

(١) أي : ما هو شرط فعلية الأمر بالمهم. والمراد بالشرط : هو عصيان الأمر بالأهم ، أو العزم عليه.

(٢) أي : لا يقال : نعم ؛ نسلم ثبوت الأمر بالضدين في مرتبة الأمر بالمهم ، ولكنه لا محذور فيه. الغرض من قوله : «لا يقال» هو : تصحيح الترتب بدفع إشكال اجتماع طلب الضدين عنه.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين الامتناع بسوء الاختيار ، وبين غيره من الامتناع بالذات؟

وخلاصة الفرق : أن الامتناع بالاختيار لا ينافي التكليف المشروط بالاختيار لما هو

٢٥٩

فلولاه لما كان متوجها إليه إلّا الطلب بالأهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.

فإنه يقال : (١) استحالة طلب الضدين ليس إلّا لأجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال دون حال وإلا (٢)

______________________________________________________

المشهور من : أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. هذا بخلاف الامتناع بالذات كاجتماع الضدين.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إننا نسلم لزوم طلب الضدين في مرتبة المهم ؛ لكنه غير مستحيل إذا كان اجتماع الطلبين بسوء اختيار المكلف ـ كما في المقام ـ فإن المكلف لما خالف أمر الأهم وعصى اختيارا وألقى نفسه في مورد اجتماع الطلبين الفعليين في آن واحد توجه إليه التكليف بالضدين في آن واحد ، فهذا التكليف ـ وإن كان ممتنعا ـ إلّا إن امتناعه يكون ناشئا عن سوء الاختيار ، فلا مانع منه لعدم برهان على استحالته ؛ لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، واجتماع الأمر بالضدين يكون محالا إذا كان المولى يطلب الضدين في زمان واحد من عبده.

فالمتحصل : أن اجتماع الطلبين إذا كان ناشئا عن سوء اختيار المكلف فلا محذور فيه ، والمقام من هذا القبيل ، فالترتب صحيح لا غبار عليه.

(١) هذا دفع للإشكال وإثبات لاستحالة طلب الضدين مطلقا أي : بلا فرق بين ما إذا كان بسوء الاختيار ، وبين ما لم يكن كذلك ، ولازمه : استحالة الترتب.

توضيحه ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٧٤» ـ : أن منشأ الاستحالة ـ وهو كون المطلوب محالا ـ موجود في كلتا صورتي الاختيار وعدمه ، فإن طلب الجمع بين الضدين قبيح على الحكيم لكونه طلبا للمحال ، حيث إن الجمع بين الضدين ـ كالجمع بين النقيضين ـ محال ، بل مرجع طلب الضدين إلى طلب الجمع بين النقيضين ؛ لأن طلب كل واحد من الضدين يلازم عدم طلب الضد الآخر ، فطلب الإزالة مثلا يلازم عدم طلب الصلاة لما مرّ سابقا : من أن المزاحمة لو لم توجب النهي عن الضدّ فلا أقلّ من اقتضائها عدم الأمر به ، وكذا طلب الصلاة يلازم عدم طلب الإزالة ، ولازم ذلك : مطلوبية وجود الإزالة وعدمها ووجود الصلاة وعدمها ، وليس هذا إلّا طلب الجمع بين النقيضين ، واستحالة هذا الطلب لا تختص بحال دون حال ؛ بل هي ثابتة في كل حال من الاختيار وعدمه.

(٢) أي : وإن اختصت الاستحالة بغير حال الاختيار ، وكان التعليق على سوء الاختيار مصححا لطلب الضدين ، لزم أيضا صحة تعليق طلب الضدين على فعل

٢٦٠