دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا كما كان متمكنا قبله ، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه ، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما.

______________________________________________________

وتوضيح ما أفاده المصنف ـ في مقدمات الحرام والمكروه ـ يتوقف على مقدمة وهي : أن مقدمات الحرام والمكروه على قسمين :

الأول : ما يتمكن المكلف مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه ؛ لعدم كونها علة تامة لوجود الحرام أو المكروه ، ولا جزءا أخيرا من العلة التامة لوجودهما.

الثاني : ما لا يتمكن مع فعلها من تركهما ؛ لكونها علة تامة أو جزءا أخيرا منها لوجودهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المقدمة لو كانت من قبيل القسم الأول فلا تكون حراما ؛ إذ المفروض : عدم كون فعلها مستلزما لفعل ذيها ؛ لعدم كونها علة تامة ولا جزءا أخيرا منها لوجود الحرام ، فلا وجه لاتصافها بالحرمة لكونها فاقدة لملاك المقدمية ، وهو توقف ترك الحرام أو المكروه على تركها.

فلو فرض : أن المكلف أتى بذي المقدمة بعد ما أتى بهذه المقدمة كان إتيانه مستندا إلى سوء اختياره ، لا إلى هذه المقدمة ، فلمّا لم يكن ترك هذه المقدمة دخيلا في ترك الحرام أو المكروه ، فلا يترشح من طلب ترك الحرام أو المكروه طلب غيري على ترك هذه المقدمة ، فلو أتى بجميع المقدمات إلّا المقدمة الأخيرة التي يترتب عليها الحرام لم يأت بمحرم ، ولا يتصف شيء من تلك المقدمات المأتي بها بالحرمة.

ومن هنا : يتضح الفرق بين مقدمات الواجب ومقدمات الحرام.

وخلاصة الفرق بينهما : أن الواجب في الحرام هو ترك الحرام ، ومقدمته هي ترك إحدى مقدمات وجود الحرام لا ترك جميعها ؛ لأن ترك الحرام لا يتوقف على ترك جميعها ، لوضوح : حصول الترك الواجب بترك إحدى مقدمات الحرام ، فمعروض الوجوب المقدمي حينئذ هو : ترك إحدى المقدمات تخييرا.

هذا بخلاف مقدمات الواجب ؛ حيث يكون وجود كل واحدة منها مما يتوقف عليه وجود الواجب النفسي ، فيجب جميع مقدماته. فمعروض الوجوب الغيري في مقدمة الواجب هو : فعل جميع المقدمات ، وفي مقدمة الحرام هو : ترك إحدى المقدمات على البدل لتحقق الواجب وهو ترك الحرام به ، فلا مقتضى لوجوب ترك الجميع.

وكيف كان ؛ فالمقدمة المحرمة من مقدمات الحرام هي : خصوص المقدمة التي لا يتمكن مع فعلها من ترك الحرام.

٢٢١

نعم (١) ؛ ما لا يتمكن معه من الترك المطلوب لا محالة يكون مطلوب الترك ، ويترشح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدمة (٢) ، فلو لم (٣) يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته.

لا يقال : (٤) كيف؟ ولا يكاد يكون فعل إلّا عن مقدمة لا محالة معها يوجد ، ضرورة : أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.

______________________________________________________

(١) استدراك على ما أفاده : من أنه لم يترشح من طلب ترك الحرام والمكروه طلب غيري على ترك المقدمة ، التي يتمكن المكلف مع فعلها من تركهما.

وحاصل الاستدراك : أن الأمر الغيري المقدمي لا يترشح من طلب تركهما على كل مقدمة ؛ بل على خصوص المقدمة التي لا يقدر المكلف مع فعلها على ترك الحرام أو المكروه ، وهذه المقدمة هي الجزء الأخير من العلة التامة ، فلا محيص حينئذ عن ترشح الطلب الغيري على هذه المقدمة. فقوله : «نعم» إشارة إلى القسم الثاني من قسمي مقدمات الحرام والمكروه.

(٢) أي : المقدمة التي هي علة تامة لوجود الحرام.

(٣) هذا متفرع على كون المقدمة المحرمة خصوص ما يتوقف عليه وجود الحرام ؛ بحيث يترتب عليها قهرا ، ولا يتمكن المكلف معها من ترك الحرام أصلا.

وحاصل الكلام في المقام : أنه ـ بناء على ذلك ـ لو فرض أن الحرام أو المكروه ليس له مقدمة من القسم الثاني ؛ بأن كانت جميع مقدماته من قبيل القسم الأول ، الذي لا يترتب وجود الحرام أو المكروه عليها قهرا ؛ بل يبقى المكلف مع إتيانه بتلك المقدمات مختارا أيضا في فعله للحرام والمكروه وتركه لهما ، كما إذا كان الحرام أو المكروه فعلا اختياريا منوطا وجوده باختياره وإرادته ، لما اتصف شيء من مقدماته بالحرمة ، إذ لو أتى بجميعها ، ولم يرد المكلف فعل الحرام لا يتحقق الحرام في الخارج ؛ لأن عدمه حينئذ مستند إلى عدم الإرادة ؛ لا إلى وجود المقدمات حتى يكون التوصل بها إلى الحرام موجبا لحرمتها الغيرية.

(٤) هذا الكلام من المصنف اعتراض على قوله : «فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه ...» إلخ ، وحاصل الاعتراض : أنه كيف يمكن وجود فعل في الخارج بدون مقدمة وعلة ، مع بداهة : «أن الشيء ما لم يجب لم يوجد» أي : ما لم يجب وجوده من ناحية علته يمتنع أن يوجد في الخارج ، ولازم ذلك : امتناع وجود الحرام بدون مقدمة وعلّة ، فلا يصح كون الحرام بدون مقدمة وعلة.

وبعبارة أخرى : أنه لمّا استفيد من آخر كلام المصنف : إنه لو لم يكن للحرام مقدمة

٢٢٢

فإنه يقال : (١) نعم ؛ لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام ؛ لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية ؛ بل من المقدمات الغير الاختيارية ؛ كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار ، وإلا (٢) لتسلسل ، فلا تغفل ، وتأمل.

______________________________________________________

وعلة تامة لم يكن أحد مقدماته حراما. اعترض عليه : بأنه كيف يمكن أن يوجد فعل في الخارج ، ولا يكون له علة تامة ، والحال : إن الشيء ما لم يجب ـ بسبب وجود علته التامة ـ لم يوجد؟

وعلى هذا فلا بد وأن يكون لكل محرم موجود علة تامة ، وتلك العلة التامة محرمة.

(١) هذا دفع للاعتراض ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : إنه لا ريب في احتياج كل فعل إلى العلة التامة ؛ لكن أجزاء العلة التامة على قسمين :

الأول : أن تكون بتمامها اختياريا : مثل القاء الحطب في النار.

الثاني : أن تكون مركبة من الفعل الاختياري وغيره : كالإرادة التي هي غير اختيارية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن علة الحرام ـ لو كانت من قبيل القسم الأول ـ لا مانع من اتصاف جميع أجزاء العلة بالحكم الشرعي ، فلو كان المعلول حراما اتصفت علته التامة بالحرمة. وأما إذا كانت من القسم الثاني : فلا يتصف شيء من أجزاء العلة بالحرمة ، أما غير الإرادة من المقدمات التي هي أفعال اختيارية : فلعدم توقف وجود الحرام عليه ؛ إذا المفروض : قدرة المكلف على ترك الحرام قبل إيجاد هذه المقدمة وبعده ، فلا يترتب عليها الحرام حتى تتصف بالحرمة المقدمية.

وأما الإرادة ؛ فلعدم كونها اختيارية ، وإلّا توقفت على إرادة أخرى هكذا ، فيلزم التسلسل. فما ذكر في الاعتراض من إن الفعل لا يوجد إلّا بالعلة ـ وإن كان صحيحا إذ لا إشكال في امتناع وجود الممكن بلا علة ـ إلّا إن العلة تارة : تكون مما يصح تعلق الحكم الشرعي به كما إذا كانت اختيارية. وأخرى : لا تكون كذلك ؛ كما إذا لم تكن اختيارية كالإرادة.

وعلى هذا : يمكن أن لا تكون للحرام أو المكروه مقدمة اختيارية ؛ بأن كانت علة وجودهما غير اختيارية كالإرادة ، ومن البديهي : أن ما لا يكون بالاختيار يمتنع أن يكون موضوعا للتكليف حرمة أو كراهة أو غيرهما ، تعيينا أو تخييرا ، إلّا إن يقال : بأن الإرادة ليست غير اختيارية. نكتفي بهذا المقدار رعاية للاختصار.

(٢) أي : لو كانت مبادئ الاختيار كالإرادة بالاختيار لزم التسلسل ، «فلا تغفل» عما ذكرنا في مبادئ الاختيار ، «وتأمل» حتى تعلم ما هو الحق من أن الإرادة اختيارية. هذا تمام الكلام في بحث مقدمة الواجب.

٢٢٣

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ لا أصل في المسألة الأصولية : أعني : الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، وإن كان هناك أصل في المسألة الفقهية أعني : وجوب المقدمة ؛ وذلك فإن الأصل الذي يمكن فرضه في المقام هو الاستصحاب ، فإذا شك في وجوب مقدمة بعد وجوب ذيها يجري استصحاب عدم وجوبها ؛ لأنه كان متيقنا قبل وجوب ذيها فيجري استصحاب عدم الوجوب عند الشك في الوجوب.

هذا بخلاف الأصل في المسألة الأصولية أعني : الملازمة بين الوجوبين ، فلا يجري استصحاب عدم الملازمة ولا استصحاب وجودها ؛ لعدم الحالة السابقة المعتبرة في الاستصحاب ، إذ ليست لها حالة سابقة ، بل إنها إما موجودة من الأول أو منفية كذلك ، فليس هناك يقين سابق بحدوث الملازمة ولا بعدمه ، كي يجري الاستصحاب. ومن البديهي : أن الاستصحاب يتوقف على اليقين السابق ، والشك اللاحق.

نعم ؛ هناك توهم عدم جريان الاستصحاب في المسألة الفقهية. بتقريب : أن ما يعتبر في الاستصحاب هو : أن يكون المستصحب إما مجعولا شرعيا كالوجوب والحرمة ونحوهما ، وإما أن يكون موضوعا لحكم شرعي كالعدالة والاجتهاد ونحوهما ، والمستصحب في المقام ليس مجعولا شرعيا ، ولا موضوعا يترتب عليه حكم شرعي ؛ لأن وجوب المقدمة لازم لماهية وجوب ذيها كزوجية الأربعة ، ولازم الماهية ليس من الأمور المجعولة أصلا ، فلا يجري الاستصحاب لانتفاء ما يعتبر فيه.

وحاصل ما أفاده المصنف في دفع هذا التوهم هو : أن وجوب المقدمة على الملازمة وإن لم يكن مجعولا للشارع مستقلا ، إلّا إنه مجعول شرعا بتبع جعل وجوب ذي المقدمة. وهذا المقدار من المجعولية الشرعية يكفي في جريان الاستصحاب فيه.

وهناك إشكال آخر على استصحاب عدم وجوب المقدمة وهو : استحالة تفكيك المتلازمين ؛ إذ على فرض الملازمة بين الوجوبين : يلزم تفكيك المتلازمين باستصحاب عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذيها ، والمفروض : تلازمهما.

وملخص الجواب عن هذا الإشكال : أن نفي وجوب المقدمة بالأصل ظاهرا لا ينافي الملازمة بين الوجوبين الواقعيين. هذا تمام الكلام في الأصل.

٢ ـ الكلام في الدليل على الملازمة وهو الوجدان :

٢٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل كلام المصنف في المقام : أن الوجدان أقوى شاهد على أن الإنسان إذا أراد شيئا متوقفا على مقدمات أراد تلك المقدمات قهرا لو التفت إليها.

وحاصل هذا البرهان : أن الوجدان يحكم بالملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدماته ، لو التفت المريد إلى تلك المقدمات ؛ بل قد يأمر المولى عبده بها مولويا فيقول : «ادخل السوق واشتر اللحم».

ويؤيد الوجدان : وجود الأوامر الغيرية المتعلقة ببعض مقدمات بعض الواجبات الشرعية ؛ كالوضوء والغسل ونحوهما للصلاة ، ووجود هذه الأوامر الغيرية أقوى شاهد على وجود الملازمة بين وجوب كل واجب نفسي ووجوب مقدمة من مقدماته ؛ وذلك لوجود المناط في جميع المقدمات ، فيستكشف من وجود أوامر غيرية ـ بالنسبة إلى جملة من المقدمات ـ وجوب غيرها من المقدمات التي لم يرد فيها أمر غيري أيضا ؛ لتحقق ملاكه ومناطه.

٣ ـ استدلال أبي الحسن البصري على وجوب المقدمة بقوله : «إنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها ، وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب عن كونه واجبا» ، وحاصل هذا الاستدلال هو : لزوم أحد محذورين من : عدم وجوب المقدمة ، وجواز تركها ، وهما : الخلف والتكليف بما لا يطاق.

وقد أورد المصنف على هذا الاستدلال بعد إصلاحه ، فيقع الكلام تارة : في إصلاح هذا الاستدلال ، وأخرى : في بيان ما يرد عليه. وأما إصلاح هذا الدليل بحيث يندرج تحت البراهين التي لها صورة ؛ فيقال : إن المستدل لمّا رتب دليله من قضيتين شرطيتين فلا بد من الملازمة بين المقدم والتالي في كلتا الشرطيتين وهما :

١ ـ «أنه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها».

٢ ـ «وحينئذ فإن بقي الواجب المطلق على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا» ، ولا ملازمة بين مقدمهما وتاليهما بحسب ما هو ظاهر كلام المستدل ، فلا بد من إصلاحهما بحيث تتحقق الملازمة بين المقدم والتالي فيهما ، فيقال في إصلاح الشرطية الأولى : إن المراد من الجواز في تاليها هو : عدم منع شرعيّ عن تركها فيقال : إنه لو لم تجب المقدمة لم يمنع الشارع عن تركها ، والملازمة بين عدم وجوب المقدمة وعدم منع الشارع عن تركها واضحة ؛ إذ لو وجبت المقدمة لكان ممنوع الترك شرعا قطعا.

٢٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا بخلاف ما هو الموجود في كلام المستدل ؛ إذ لا ملازمة بين عدم وجوب المقدمة وبين جواز تركها أي : الجواز بمعنى الإباحة الشرعية ؛ بل الحكم الشرعي عند عدم الوجوب يتردد بين الأحكام الباقية من الحرمة والكراهة والإباحة والاستحباب.

أما إصلاح الشرطية الثانية : فهو أن يراد الترك عما أضيف إليه الظرف أي : كلمة «حينئذ» ، بأن يكون التقدير حين ترك المقدمة لا حين جواز تركها ؛ لأن بقاء الواجب على وجوبه مع جواز تركها لا يوجب شيئا من المحذورين ، كي يقال : إن بطلان التالي يكون كاشفا عن بطلان المقدم أعني : جواز ترك المقدمة شرعا ، وبطلانه ينتج بطلان المقدم في الشرطية الأولى أعني : عدم وجوب المقدمة ، فإذا بطل عدم وجوبها ثبت وجوبها لاستحالة ارتفاع النقيضين وهو المطلوب. هذا تمام الكلام في إصلاح هذا الدليل.

وأما بيان ما يرد عليه فقد أشار إليه بقوله : «فيه ما لا يخفى» ، وحاصل الايراد : أن ترك المقدمة المفروض جوازه شرعا لا يوجب المحذورين اللذين أحدهما : هو الخلف ، والآخر : التكليف بما لا يطاق ، إذ يسقط التكليف والأمر بذي المقدمة بالعصيان عند ترك المقدمة ، فلا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا ، ولا التكليف بما لا يطاق.

نعم ؛ لو كان المراد من الجواز في تالي الشرطية الأولى هو الجواز شرعا وعقلا ؛ يلزم أحد المحذورين المتقدمين ، إذ لا ملزم حينئذ بإتيان المقدمة ، فيجوز تركها شرعا وعقلا ، فإن بقي الواجب النفسي على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب عن كونه واجبا ، لأن انتفاء الأمر بذي المقدمة إنما هو لأجل انتفاء المقدمة وهو شأن الواجب المشروط ، فيلزم الخلف. إلّا إن الملازمة في الشرطية الأولى ممنوعة على هذا الفرض ؛ لأن عدم وجوب المقدمة لا يستلزم الجواز شرعا وعقلا ؛ لإمكان خلو الواقعة عن الحكم الشرعي أصلا.

٤ ـ التفصيل بين السبب وغيره : أي : الوجوب في السبب ، وعدمه في غيره بتقريب : اعتبار القدرة في متعلق التكليف ؛ لقبح التكليف بغير المقدور ، ثم المقدور هو السبب ، والمسبب إنما هو من آثاره ولوازمه قهرا ، فلا يتعلق التكليف بالمسبب لكونه غير مقدور.

وقد أجاب المصنف عنه أولا : بأن هذا التفصيل ليس تفصيلا في الوجوب الغيري ـ وهو محل الكلام ـ بل تفصيل في الوجوب النفسي ، لأن السبب واجب بالوجوب

٢٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

النفسي ، وهو خارج عن محل الكلام.

وثانيا : أن المسبب مقدور ، لأن المقدور بالواسطة مقدور ، فلا فرق بين السبب والمسبب من حيث اعتبار القدرة في التكليف.

التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره أي : الوجوب في الشرط الشرعي ؛ كالطهارة للصلاة ، دون غيره كالشرط العقلي ، والشرط العادي ؛ كالسير للحج ، ونصب السلم للكون على السطح.

بتقريب : أنه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا ، بمعنى : أن المفروض هو : عدم كون الوضوء شرطا عقليا ولا شرطا عاديا ، فلا بد أن تكون شرطيته بالوجوب الغيري الشرعي ، فمقوّم شرطيته هو وجوبه الغيري الشرعي ، فلا بد من الالتزام بوجوبه.

وقد أجاب المصنف عن الاستدلال المذكور :

أولا : بأن الشرط الشرعي يرجع إلى الشرط العقلي ، لأن مفهوم الشرط عبارة عن انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، وهو مما يحكم به العقل.

وثانيا : أن هذا الاستدلال مستلزم للدور ؛ بتقريب : أن كل حكم مترتب على موضوعه ، ومتأخر عنه تأخر المعلول عن العلة ، فلو توقف الموضوع على حكمه لزم الدور ، والمقام من هذا القبيل ؛ فإن الوجوب الغيري متأخر عن موضوعه ، وهو الشرطية ، وحينئذ فلو توقفت الشرطية على الوجوب الغيري كما هو ظاهر الاستدلال ـ أعني : لو لا وجوبه لما كان شرطا ـ لزم الدور ، فهذا الاستدلال مردود بما ذكرناه من الإشكالين.

وتوهم : أن الشرطية منتزعة عن الوجوب الغيري ـ على ما هو الحق من أن الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية ـ فيلزم الدور ؛ لأن الشرطية منتزعة عن الوجوب الغيري ، والوجوب الغيري أيضا يتوقف على الشرطية ، إذ لو لا الشرطية لم يأمر المولى بالشرط ، مدفوع ؛ بأن الشرطية منتزعة عن الوجوب النفسي كقوله : «صل مع الطهارة» ؛ لا عن الوجوب الغيري حتى يلزم الدور.

«فافهم» لعله إشارة إلى لزوم الدور حتى على فرض انتزاع الشرطية عن الوجوب النفسي ؛ لأن الأمر النفسي بالصلاة مع الطهارة متوقف على الطهارة ؛ لمدخلية في الأمر ، وشرطية الطهارة متوقفة على الأمر النفسي بالصلاة مع الطهارة ، وهذا دور واضح.

٥ ـ مقدمة المستحب مستحبة على القول بالملازمة.

وأما مقدمة الحرام والمكروه : فلا تتصف بالحرمة والكراهة ، إلّا إن تكون علة تامة

٢٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للحرام ، فتتصف بالحرمة ، أو العلة التامة للمكروه ، فتتصف بالكراهة.

توضيح ذلك : إن مقدمات الحرام والمكروه على قسمين :

الأول : ما يتمكن المكلف مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه.

الثاني : ما لا يتمكن مع فعلها من تركهما لكونها علة تامة لهما ، فنقول : إن القسم الأول لا يكون حراما ؛ لأن المفروض : عدم كون فعلها مستلزما للحرام ، فلا وجه لاتصافها بالحرمة ، لكونها فاقدة لملاك المقدمية وهو : توقف ترك الحرام على تركها ، فحينئذ لو أتى المكلف بجميع المقدمات إلّا المقدمة الأخيرة التي يترتب عليها الحرام لم يأت بمحرم ، وليس شيء منها بحرام.

ومن هنا ظهر الفرق بين مقدمات الواجب ، ومقدمات الحرام ؛ بأن الواجب في الحرام هو ترك الحرام لا يتوقف على جميع مقدمات الحرام ؛ لأن الترك الواجب يحصل بترك إحدى مقدمات الحرام ، فمعروض الوجوب الغيري هو ترك إحداها تخييرا. هذا بخلاف مقدمات الواجب ، حيث يكون وجود كل واحدة منها مما يتوقف عليه وجود الواجب النفسي ، فيجب جميع مقدماته.

وخلاصة الكلام في مقدمات الحرام : أن أجزاء العلة التامة للحرام تارة : تكون بتمامها اختياريا ، وأخرى : مركبة من الفعل الاختياري وغيره.

فعلى الأول : لا مانع من اتصاف جميع أجزاء العلة بالحرمة.

وأما على الثاني : فلا يتصف شيء منها بالحرمة. أما عدم اتصاف غير الإرادة من المقدمات بالحرمة فلما عرفت : من عدم توقف وجود الحرام عليه.

وأما عدم اتصاف الإرادة بالحرمة : فلكونها غير اختيارية.

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ لا أصل في المسألة عند الشك في الملازمة وعدمها.

٢ ـ وجوب مقدمات الواجب مطلقا ؛ من دون فرق بين السبب وغيره ، ولا بين الشرط الشرعي وغيره.

٣ ـ مقدمة المستحب مستحبة.

٤ ـ مقدمة الحرام والمكروه لا تتصف بالحرمة والكراهة ؛ إلّا ما يكون علّة تامة لهما.

٢٢٨

فصل

الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده ، أو لا؟

______________________________________________________

في مسألة الضد

وقبل الخوض في البحث ينبغي ذكر أمور عدا ما ذكره المصنف :

١ ـ أن الحق هو : كون هذه المسألة من المسائل الأصولية ؛ لا من المسائل الفقهية ، بدعوى : أن البحث فيها عن ثبوت الحرمة لضد الواجب ، وعدم ثبوت الحرمة له ؛ بل المسألة أصولية ؛ لأن الغرض الأصيل فيها هو : إثبات الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده ، ثم هذه الملازمة تقع في طريق استنباط حكم شرعي ، وهو حرمة الضد عند وجوب ضده ، ولكن لا ملازمة بين القول بوجوب المقدمة في المسألة السابقة ، وبين القول بحرمة الضد هنا.

٢ ـ إن المراد من الضد في المقام ليس الضد بالمعنى المنطقي ، المختص بالأمر الوجودي المعاند لغيره تمام المعاندة ؛ بل المراد منه في المقام هو : مطلق المنافي والمعاند ؛ سواء كان أمرا وجوديا ـ وهو المعبر عنه بالضد الخاص ـ أو كان أمرا عدميا وهو المعبر عنه بالضد العام.

٣ ـ بيان وجه التسمية : أن تحقق الخاص مستلزم لتحقق العام دون العكس ، كالإنسان والحيوان ، حيث إن وجود الإنسان مستلزم لوجود الحيوان دون العكس ، ففي المقام وجود الضد الخاص كالصلاة مستلزم لتحقق الضد العام كترك إزالة النجاسة دون العكس أي : ترك الإزالة لا يستلزم وجود الصلاة. فالضد العام هو : ترك المأمور به ، والضد الخاص هو : مطلق المعاند الوجودي ، وقد قسّم الأصوليون الضد إلى هذين القسمين. وعلى هذا التقسيم تنحل مسألة الضد إلى مسألتين ؛ موضوع إحداهما : هو الضد العام ، وموضوع الأخرى : هو الضد الخاص.

فيقال في تحديد المسألة الأولى : هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام أم لا؟ مثلا : إذا قال المولى : «صلّ صلاة الظهر». فهل هو نهي عن تركها؟ كأنه قال : «لا تترك الصلاة» ، فترك الصلاة ضد عام للصلاة ؛ بمعنى : أنه معاند لفعلها ، والأمر بها نهي عن تركها.

٢٢٩

فيه أقوال ، وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور :

الأول : الاقتضاء (١) في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية ، أو الجزئية ، أو اللزوم ؛ من جهة التلازم (٢) بين طلب أحد الضدين وطلب ترك الآخر ، أو المقدمية

______________________________________________________

كما يقال في تحديد المسألة الثانية : إن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده الخاص أم لا؟ فإذا قال المولى : «أزل النجاسة عن المسجد» فهل هو نهي عن كل فعل وجودي يعاندها كالصلاة في المسجد؟ فكأنه قال : أزل النجاسة ولا تصل في المسجد عند الابتلاء بالإزالة ، ومحل الكلام هو الضد بكلا المعنيين.

واختلف الأصوليون في : أن الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ على أقوال. ويقول المصنف : وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور.

(١) المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره ؛ بل الأعم منه ومن الاقتضاء بنحو العينية أو الجزئية ، وذلك لوجوه :

الأول : أن إطلاق لفظ الاقتضاء شامل لجميع الأقسام المذكورة.

الثاني : أن الغرض من هذا البحث هو : بيان حال الضد العبادي صحة وفسادا ، من غير فرق في ذلك بين أقسام الاقتضاء ، ومن البديهي : أن عمومية الغرض تقتضي عمومية النزاع في الاقتضاء.

الثالث : أن وجود الأقوال في المسألة يقتضي عموم الاقتضاء ليعم جميع الأقوال ؛ فإن منها : قول : بأن الأمر بشيء عين النهي عن ضده. ومنها : قول بأن النهي عن الضد جزء من الأمر بشيء ، فيكون الاقتضاء على وجه التضمن ، كما يظهر من المعالم.

ومنها : قول بأن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ، كما هو ظاهر لفظ الاقتضاء ، فالتعميم لأجل أن لا يتوهم اختصاص النزاع بالقول الأخير.

(٢) هذا إشارة إلى وجه اللزوم : وحاصله ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٢٤» ـ «أن اللزوم تارة : يكون لأجل التلازم ؛ بأن يقال : إن الأمر بأحد الضدين كالصلاة ـ ملازم للنهي عن ضده ، كالإزالة ـ بناء على إرادة الترك من الضد ـ فطلب أحد الضدين يلازم طلب ترك الآخر ، فالاقتضاء حينئذ يكون لأجل اللزوم الناشئ عن التلازم. وأخرى : يكون لأجل المقدمية ، بتقريب : أن ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر ؛ كتوقف وجود الصلاة على عدم الإزالة ، فيكون اقتضاء الأمر بالصلاة للنهي عن ضدها ـ كالإزالة ـ بنحو اللزوم المقدمي ؛ لأن عدم الإزالة لمّا كان مقدمة للصلاة ؛ فالأمر بالصلاة يستلزم عدم الإزالة مقدمة لوجود نفسها ، فيصير في الحقيقة

٢٣٠

على ما سيظهر ، كما أن المراد بالضد هاهنا ، هو مطلق المعاند والمنافي وجوديا كان أو عدميا.

الثاني : (١) أن الجهة المبحوثة عنها في المسألة وإن كانت أنه : هل يكون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة ، إلّا إنه لمّا كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص ، إنما ذهبوا إليه لأجل : توهم مقدمية ترك الضد ؛ كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال ، وتحقيق المقال في المقدمية وعدمها.

فنقول وعلى الله الاتكال : إن توهم توقف الشيء على ترك ضده ليس إلّا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين ، وقضيتهما الممانعة بينهما.

______________________________________________________

واجبا من باب المقدمة ، كما سيظهر إن شاء الله تعالى». وقد تقدم ما هو المراد بالضد في محل البحث ، فلا حاجة إلى التكرار.

وكيف كان ؛ فالضد في اصطلاح الأصوليين : هو مطلق المعاند ، فيشمل جميع أقسام التقابل ؛ غير تقابل التضايف بقرينة تقسيمهم له إلى الضد الخاص والضد العام بمعنى الترك ، هذا بخلاف الضد في اصطلاح أهل المعقول : فهو قسم من أقسام التقابل ؛ أعني تقابل التضاد.

(١) الغرض من عقد هذا الأمر : دفع شبهة ، وهي : أن جلّ القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص ، كاقتضاء الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد للنهي عن الصلاة مثلا ؛ لمّا استندوا في هذا الاقتضاء إلى مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر ، فلا بد أولا من بيان الشبهة ؛ بتقريب مقدمية ترك أحد الضدين للآخر ، فيقال : إن عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر ، ومما يتوقف عليه الضد الآخر ، فإذا أوجب أحدهما وجبت مقدماته ، ومنها عدم ضده ، فإذا أوجب ترك الضد الخاص فقد حرم فعل ذلك قهرا.

أما مقدمية عدم أحد الضدين للآخر : فبأن التمانع والتعاند بين الضدين مما لا شبهة فيه ، وإذا كان كل من الضدين مانعا عن حصول الآخر ؛ كان عدم كل منهما من أجزاء علة الآخر ، لأن عدم المانع من أجزاء العلة ، وقد فرض مانعية الضد ، فعدمه من أجزاء علة ضده ، وإذا كان من أجزاء العلة كان من المقدمات ، كما أشار إليه بقوله : «ومن الواضحات : أن عدم المانع من المقدمات» ، وتقريب الشبهة : أن كلا من الضدين مانع عن الآخر ، وكون عدم المانع من أجزاء العلة التي هي مقدمة على المعلول ، وهذان الأمران أوجبا توهم مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر ، فلهذا ذهب جلّهم إلى الاقتضاء لأجل المقدمية.

٢٣١

ومن الواضحات أن عدم المانع من المقدمات.

وهو توهم فاسد ؛ (١) وذلك لأن المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلّا عدم

______________________________________________________

(١) أورد المصنف «قدس‌سره» على هذا التوهم بوجوه :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «لأن المعاندة والمنافرة بين الشيئين ...» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن كون شيء مقدمة لشيء آخر يكون مستلزما لتقدم ما هو مقدمة على الآخر. ثم التمانع بين الشيئين إنما هو في مقام وجودهما وتحققهما ؛ لا في مقام علية عدم أحدهما لوجود الآخر. ثم عدم المانع ووجوده في مرتبة واحدة ، وليس عدم المانع سابقا على وجوده ؛ بل هما في رتبة واحدة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن التمانع والتضاد لا يقتضي أن يكون عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر ؛ لما عرفت في المقدمة من : اعتبار السبق في المقدمية ، وهو منتف مع اتحاد الرتبة بين عدم أحد الضدين ووجود الآخر. فالضدية بين شيئين كالسواد والبياض وإن كانت تقتضي عدم اجتماعهما في محل واحد وزمان كذلك ؛ إلّا إنها لا تقتضي مقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر ، وذلك لاتحاد عدم كل منهما لوجود الآخر رتبة كاتحاد وجودهما ، ومع اتحاد عدم أحدهما مع وجود الآخر رتبة لا يعقل أن يكون عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر ؛ لما عرفت من اعتبار السبق في المقدمية. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح إيراد المصنف بالوجه الأول.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «فكما أن قضية المنافاة ...» إلخ وحاصله : هو النقض بالمتناقضين بعد قياس الضدين بهما ؛ ببيان : أنه لا إشكال في أن التنافي بين المتقابلين بالتناقض أشد وأقوى منه في غيره من أقسام التقابل ، مع إنه من المسلم كون أحدهما في رتبة الآخر ، وليس أحدهما مقدمة للآخر ، يعني : ليس أحد النقيضين كالإنسان مقدمة للآخر ، أي : اللاإنسان ؛ لاتحاد رتبة النقيضين ، فكذلك الضدين في المقام ، فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر حتى يكون ارتفاع أحدهما مقدمة لثبوت الآخر ، كذلك في المتضادين يعني : المنافاة بينهما لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر حتى يكون عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : «وهو دور واضح». توضيح الدور : أن عدم أحد الضدين إذا كان مقدمة لوجود الآخر من باب أنه عدم المانع ، فيكون من أجزاء علته كان وجود أحد الضدين مقدمة لعدم الآخر أيضا ؛ لتوقف عدم الشيء على مانعة ، كما يتوقف نفس الشيء على عدم مانعة ، فيكون عدم أحدهما متوقفا على وجود الآخر ، كما أن وجود الآخر يتوقف على عدم ضده ، فيلزم الدور الباطل.

٢٣٢

اجتماعهما في التحقق ، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين ، وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ؛ كان أحد العينين مع نقيض الآخر ، وما هو بديله في مرتبة واحدة ؛ من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر ، كما لا يخفى.

فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ؛ كذلك في المتضادين (١) ، كيف؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشيء على عدم ضده توقف الشيء على عدم مانعة ؛ لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشيء توقف عدم الشيء على مانعة ، بداهة : ثبوت المانعية في الطرفين ، وكون المطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح.

وما قيل (٢) في التفصي عن هذا الدور : بأن التوقف من طرف الوجود فعلي ؛

______________________________________________________

(١) أي : ليس ارتفاع أحدهما مقدما على الآخر ، بل في رتبته ، وهذا الوجه الثاني يتوقف على ثبوت أمرين :

الأول : صحة تنظير الضدين بالنقيضين.

الثاني : نفي المقدمية في النقيضين ، ثم تشكيل قياس حتى يتم المطلوب ؛ فيقال : كما أن النقيضين في مرتبة واحدة ، ولا يمكن أن يكون أحدهما مقدما على الآخر حتى يكون مقدمة له ؛ كذلك الضدين ، فعدم أحد الضدين في مرتبة وجوده ، ووجوده في مرتبة الضد الآخر ، فعدم أحدهما في مرتبة وجود الآخر فلا يعقل أن يكون مقدمة للآخر ، مثلا : ترك الصلاة في مرتبة الصلاة ، والصلاة في مرتبة الإزالة ، فلا يكون ترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة ؛ وذلك لانتفاء السبق المعتبر في المقدمية.

(٢) القائل هو المحقق الخوانساري «رحمه‌الله» ، «قيل في التفصي عن هذا الدور» : بأن الدور مسلم لو كانت الإزالة موقوفة على عدم الصلاة فعلا ، وعدم الصلاة موقوفا على الإزالة فعلا ، ولكن ليس الأمر كذلك.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن عدم الشيء لا يستند إلى وجود المانع عن الشيء إلّا في صورة وجود المقتضي والشرط ، وأما وجود الشيء فهو يستند إلى جميع أجزاء علته فعلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن التوقف في طرف الوجود أي : ـ وجود أحد الضدين على ترك الآخر ـ فعلي لما عرفت : من أن وجود الشيء يستند إلى جميع أجزاء علته التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، فوجود الواجب فعلا ـ كالإزالة ـ مترتب

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

على عدم ضده كالصلاة ، وهذا بخلاف التوقف في طرف العدم ـ أي : توقف عدم أحد الضدين على وجود الآخر ـ كتوقف عدم الصلاة على وجود الإزالة ، فإن توقفه على وجود الإزالة إنما يكون في ظرف وجود المقتضي لوجود الصلاة مع شرائطه ، وانحصار المانع في وجود الضد ؛ كالإزالة ليصح استناد عدم الصلاة إلى المانع ؛ وهو وجود الضد ، وإلّا كان العدم مستندا إلى عدم المقتضي ـ أعني عدم الإرادة ـ فإن استناد عدم الشيء إلى وجود المانع إنما يصح في ظرف وجود المقتضي ، ولذا لا يصح أن يستند عدم احتراق الثوب مثلا بالنار إلى ما فيه من الرطوبة مع عدم وجود نار في البين ، بل يستند إلى عدم المقتضي.

وكيف كان ؛ فاتضح مما ذكرنا : أن توقف وجود الإزالة مثلا على عدم ضدها كالصلاة فعلي ، لتوقف وجود الشيء على وجود علته التامة التي من أجزائها عدم المانع.

هذا بخلاف توقف عدم الضد ـ كالصلاة ـ على وجود الضد ـ كالإزالة ـ فإن التوقف حينئذ شأني ، لأنه حين وجود الإزالة يستند عدم الصلاة إلى عدم مقتضيها ـ وهو الإرادة ـ لا إلى وجود الإزالة لما عرفت : من أن استناد العدم إلى وجود المانع إنما يصح في ظرف وجود المقتضي ، فلا محالة يكون توقف عدم الضد على وجود ضده شأنيا ، يعني : على فرض وجود الإرادة المقتضية للوجود مع الشرائط يستند العدم لا محالة إلى وجود الضد كالإزالة في المثال ، فعليه : لا يلزم الدور ؛ لكون التوقف في طرف الوجود فعليا ، وفي طرف العدم شأنيا. قوله : «ولعله كان محالا» أي : لعل ثبوت المقتضي ـ وهو الإرادة ـ لوجود الضد المعدوم ـ كالصلاة ـ «كان محالا» ، ومع استحالته كيف يتصف الضد الموجود ـ كالإزالة ـ بالمانعية؟ فعدم الصلاة دائما مستند إلى عدم تمامية المقتضي ، ولا يكون متوقفا على الإزالة حتى يقال : بأن عدم الصلاة متوقف على الإزالة ، والإزالة متوقف على عدم الصلاة فيلزم الدور.

أما وجه استحالة وجود المقتضي مع شراشر الشرائط ؛ «فلأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين» كعدم الصلاة «مع وجود» الضد «الآخر» كالإزالة «إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية به» أي : بأحد الضدين كالصلاة ، «وتعلقها بالآخر» كالإزالة «حسب ما اقتضته الحكمة البالغة» (وهي الحكم) والمصالح التي عنده تعالى. وعلى هذا «فيكون العدم» للصلاة مثلا «دائما مستندا إلى عدم المقتضي» ، أي : عدم إرادة المكلف المستند إلى تعلق

٢٣٤

بخلاف التوقف من طرف العدم فإنه يتوقف على فرض ثبوت المقتضي له مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده ، ولعله كان محالا ، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الأزلية به ، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة ، فيكون العدم دائما مستندا إلى عدم المقتضي ، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع ، كي يلزم الدور.

إن قلت : هذا (١) إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد ، وأما إذا كان كل

______________________________________________________

إرادة الله به ، فلا يكون عدم الصلاة «مستندا إلى وجود المانع» كالإزالة «كي يلزم الدور» ؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ج ٢ ، ص ٢١٨» مع تصرف ما.

(١) أي : ما ذكر في دفع الدور من التغاير بالشأنية والفعلية ؛ لا يصح في جميع الموارد ، بل التغاير المذكور إنما يصح في بعض الموارد.

والغرض من هذا الكلام : هو دفع إشكال أورده المحقق الخوانساري على التفصي عن الدور بالفعلية والشأنية ، ثم أجاب عنه ، فلا بد أولا : من توضيح الإشكال ، وثانيا : من الجواب عنه.

وحاصل الإشكال : ـ على ما في «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٤٣٥» ـ : أن حديث الفعلية والشأنية الذي اندفع به محذور الدور إنما يصح إذا كانت الإرادة من شخص واحد ، كما إذا أراد إيجاد البياض والسواد في آن واحد ومكان ، كذلك فإنه يمتنع إرادة إيجادهما من شخص واحد ؛ لامتناع تعلق إرادة واحدة بشيئين متضادين ، فلا محالة يستند عدم الضد الآخر إلى عدم المقتضي ـ وهو الإرادة ـ لا إلى وجود المانع ، فيكون توقف عدم أحدهما على وجود الآخر شأنيا.

وأما إذا كانت إرادة إيجادهما من شخصين ؛ بأن أراد أحدهما البياض ، والآخر السواد فالمقتضي لوجود كلّ من الضدين حينئذ موجود ، فلا محالة يستند عدم أحدهما إلى وجود المانع ـ وهو الضد الآخر ـ لا إلى عدم المقتضي وهو الإرادة ، إذ المفروض : تحققها من شخص آخر.

فالتفصي بالوجه المذكور غير مطرد لاختصاصه بما إذا كانت إرادة الضدين من شخص واحد.

وأما إذا كانت من شخصين ، فيكون عدم أحد الضدين مستندا إلى وجود المانع ـ وهو الضد الآخر ـ لا إلى عدم المقتضي ؛ إذ المفروض : وجوده ـ أعني : إرادة إيجاد الضد الآخر أيضا من شخص آخر ـ فيكون التوقف من الطرفين فعليا ، فالدور ولو في بعض

٢٣٥

منهما متعلقا لإرادة شخص ، فأراد مثلا أحد الشخصين حركة شيء ، وأراد الآخر سكونه ؛ فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ موجودا ، فالعدم ـ لا محالة ـ يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع.

قلت : هاهنا أيضا يكون مستندا إلى عدم قدرة المغلوب منهما (١) في إرادته ، وهي : (٢) مما لا بد منه في وجود المراد ، ولا يكاد (٣) يكون بمجرد الإرادة بدونها ، لا إلى وجود الضد ؛ (٤) لكونه (٥) مسبوقا بعدم قدرته ، كما لا يخفى ؛ غير

______________________________________________________

الموارد ـ وهو ما إذا كانت إرادة إيجاد الضدين من شخصين ـ باق على حاله ، واستحالته دليل على عدم مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر ، فلا يتم مذهب المشهور من اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده لأجل المقدمية هذا تمام الكلام في الإشكال.

وأما الجواب : فهو ما أشار إليه بقوله : «قلت : هاهنا» أي : أما في فرض تحقق إرادة إيجاد الضدين من شخصين فيقال : إن عدم الضد دائما يستند إلى عدم المقتضي حتى في صورة تحقق الإرادة من شخصين ، وذلك لأن المراد بالمقتضي هو الإرادة المؤثرة في وجود المراد ، ومن المعلوم : فقدانها في المقام ؛ لامتناع تأثير كلتا الإرادتين ، فتكون إحداهما مغلوبة ، ومع مغلوبيتها يصدق عدم المقتضي الموجب لاستناد عدم الضد إليه ، لا إلى وجود المانع ـ وهو الضد الموجود ـ حتى يلزم الدور ، فالتفصي عن الدور ، بما أفاده المحقق الخوانساري من الفعلية والشأنية صحيح ومتين.

(١) أي : من شخصين.

(٢) أي : القدرة مما لا بد منه في وجود المراد.

(٣) يعني : ولا يكاد يوجد المراد بمجرد الإرادة بدون القدرة.

(٤) أي : لا يكون عدم الضد مستندا إلى وجود الضد الآخر حتى يكون لأجل عدم المانع فيلزم الدور.

(٥) أي : لكون وجود الضد «مسبوقا بعدم قدرته» أي : بعدم قدرة الشخص ، فقوله : «لكونه ...» إلخ تعليل لاستناد عدم الضد إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الضد.

وحاصل التعليل : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٤٣٧» ـ : أنه قد يتوهم : إذا كان لشيء مقدمات عديدة وإن كان عدم واحدة منها كافيا في عدمه ، إلّا إنه في ظرف عدم الجميع يستند عدمه إلى عدم الكل ، فلا وجه للاستناد إلى عدم إحداها بعينها ـ وهو المقتضي ـ لأنه ترجيح بلا مرجح ، بل يستند العدم إلى الجميع من عدم المقتضي ، والشرط ، ووجود المانع ، ففي صورة وجود الصلاة يستند عدم الإزالة إلى عدم المقتضي ، ووجود المانع ـ وهو الصلاة ـ معا ؛ لا إلى عدم المقتضي فقط ، وعليه : فيصح استناد عدم

٢٣٦

سديد (١) فإنه وإن كان قد ارتفع به الدور ، إلّا إن غائلة لزوم توقف الشيء على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها ؛ لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لأن يكون موقوفا عليه الشيء موقوفا عليه.

ضرورة : أنه لو كان في مرتبة يصلح لأن يستند إليه لما كاد يصح أن يستند فعلا إليه والمنع (٢) عن صلوحه لذلك بدعوى : أن قضية كون العدم مستندا إلى وجود

______________________________________________________

الضد في المقام إلى وجود المانع ، فيرجع الدور. هذا محصل توهم عود الدور.

وملخص دفعه بقوله : «لكونه مسبوقا» هو : أن استناد العدم إلى جميع أجزاء العلة إنما يصح إذا لم يكن بينها تقدم رتبي ، وإلّا فالمتعين استناد العدم إلى ما هو متقدم رتبة ؛ ومن المعلوم : تقدم عدم الإرادة لأجل عدم القدرة على وجود الضد المانع ، فيستند العدم إليهما ؛ لا إلى وجود الضد ، فلا يلزم الدور.

(١) هذا خبر لقوله : «وما قيل في التفصي» وجواب عنه.

وحاصل الجواب : أن ما قيل في التفصي عن الدور من التغاير بين الطرفين بالفعلية والشأنية وإن كان دافعا للدور بالتقريب المذكور ؛ لأن الدور مبنيّ على التوقف الفعلي من الطرفين. إلّا إن ملاك استحالته ـ وهو توقف الشيء على نفسه وتأخره عن نفسه برتبة ـ باق على حاله ، لأن مجرد التوقف الشأني من طرف العدم يكفي في بقاء ملاك الدور.

بتقريب : أن وجود أحد الضدين حيث يتوقف فعلا على عدم الضد الآخر متأخر عنه تأخر المعلول عن علته رتبة ، وعدم الضد الآخر حيث يصلح أن يستند إلى وجود هذا الضد ـ أي : على فرض كون المقتضي له موجودا ـ فهو متأخر عن وجود هذا الضد رتبة ، فيلزم ما ذكرناه من تقدم الشيء على نفسه ، وتأخره عن نفسه.

مثلا : إذا توقف وجود الإزالة بالفعل على عدم الصلاة ، فوجود الإزالة متأخر عن عدم الصلاة برتبة ؛ إذ وجود الإزالة معلول عدم الصلاة ، والمعلول متأخر عن علته برتبة. أما عدم الصلاة فيتوقف على الإزالة فعلا إذا كان المقتضي لفعلها موجودا أو تقديرا إذا لم يكن المقتضي موجودا ، وعلى كل حال : يكون كل واحد من الإزالة وعدم الصلاة علة وموقوفا عليه ، ومعلولا وموقوفا ، فالإزالة من حيث كونها علة لعدم الصلاة وموقوفا عليها مقدمة رتبة على عدم الصلاة على نحو تقدم العلة عن المعلول ، ومن حيث كونها معلولة لعدم الصلاة متأخرة عنه برتبة ، فيلزم تقدم الإزالة على الإزالة ، وتأخرها عنها ، وهو ما ذكرناه من لزوم تقدم الشيء على نفسه ، وتأخره عن نفسه.

(٢) أي : هذا إشكال على وجود ملاك الدور الذي تقدم في قوله : «إلّا إن غائلة لزوم ...» إلخ بتقريب : أنّنا نمنع مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر ؛ بأن يكون

٢٣٧

الضد ، لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي ، وإن كانت صادقة ، إلّا إن صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك (١) ، لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها ،

______________________________________________________

وجود كل منهما متوقفا على عدم الآخر ـ لكون وجود كل منهما مانعا عن وجود الآخر ـ وعدم كلّ منهما متوقفا على وجود الآخر حتى يلزم تقدم الشيء على نفسه وتأخره على نفسه وهو ملاك الدور.

وحاصل الإشكال : إن وجود أحد الضدين ـ وإن كان متوقفا على عدم الآخر ـ إلّا إن عدم أحدهما لا يتوقف على مانعية الآخر ووجوده ؛ إلّا بعد أن يكون المقتضي للضد المعدوم موجودا ، والمقتضي لا يكون موجودا ؛ بل هو محال.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن المراد بالمقتضي هو : الإرادة ، ويستحيل تعلق إرادتين من شخص واحد بالضدين.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه من المستحيل تعلق الإرادة بإيجاد الصلاة ؛ كي يكون المقتضي لها موجودا ، وكان عدمها مستندا إلى المانع وهو الإزالة ، لأن المفروض : تعلقها بإيجاد الضد الموجود أعني : الإزالة ، ثم المعلق على المحال محال ، فصلاحية وجود الضد لكونه مانعا عن الضد المعدوم محال ، فينحصر التوقف في طرف واحد وهو مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر ، ولا توقف في طرف مقدمية وجود أحد الضدين لعدم الآخر ، لكونه مشروطا بوجود المقتضي المحال ، كما عرفت فارتفع محذور الدور ، ولا دور ولا غائلته.

(١) أي : صدق القضية في نفسها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك أي : لأن يستند إليه عدم الضد الآخر ؛ وذلك «لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها» ؛ لأن مناط صدق القضية الشرطية هو : ثبوت الملازمة والعلقة بين المقدم والتالي واقعا وإن كان طرفاها كاذبين ؛ كأن يقال للحجر : «إن كان هذا إنسانا كان ناطقا» ، بل قد يكون طرفاها مستحيلين ، كقوله تعالى : (لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا). الأنبياء ، الآية : ٢٢.

ثم القضية الشرطية المتصورة في المقام هي : «لو وجد المقتضي والشرط لوجود الضد المعدوم فعلا ، كان الضد الموجود مانعا عنه» ، وهذه القضية الشرطية ـ وإن كانت صادقة في نفسها ـ إلّا إن صدقها لا يستلزم صدق طرفيها ، بل هي صادقة وإن كان طرفاها كاذبين ، كما عرفت. فصدق الشرطية فيما نحن فيه لا يستلزم صلاحية عدم الضد المعدوم مستندا إلى الضد الموجود وكونه مانعا ، كي يكون التوقف من الطرفين ، فيقال بلزوم الدور أو بقاء غائلته ، هذا تمام الكلام في الإشكال على الدور وملاكه.

٢٣٨

مساوق (١) لمنع مانعية الضد ، وهو يوجب رفع التوقف رأسا من البين ؛ ضرورة : أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر ، إلّا توهم مانعية الضد ـ كما أشرنا إليه ـ وصلوحه لها.

______________________________________________________

(١) هذا خبر لقوله : «والمنع عن صلوحه لذلك» ، ودفع للإشكال المذكور.

وتوضيح الدفع : يتوقف على مقدمة وهي : أن المفروض هو التضاد بين الصلاة والإزالة على فرض ضيق وقت الصلاة ، ثم توقف وجود الضد ، كالإزالة على عدم الضد الآخر كالصلاة يكون أمرا بديهيا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن منع صلاحية كون وجود الضد مانعا عن وجود الضد الآخر موجب لإنكار المانعية رأسا وهو باطل قطعا ؛ لاستلزامه نفي التوقف حتى من طرف الوجود ، وهو خلاف البداهة ؛ لأن توقف وجود الضد على عدم الضد الآخر بديهي. وبعبارة أخرى : أن الضد الموجود ـ كالإزالة ـ لو لم يكن صالحا للمنع عن ضده المعدوم فعلا ـ كالصلاة ـ مع تحقق علته من المقتضي والشرط لوجب وجوده ؛ لعدم انفكاك المعلول عن علته ، ولازمه : إمكان اجتماع الصلاة والإزالة في الوجود ؛ إذ المفروض : عدم صلاحية الضد الموجود فعلا ـ وهو الإزالة ـ للمنع عن وجود الصلاة ، ومن البديهي : أن اجتماعهما في زمان واحد يرفع المانعية من الطرفين ، وهو باطل ؛ لأن المفروض ـ كما عرفت في المقدمة ـ هو التضاد والمانعية ، فعدم كون الضد الموجود صالحا للمنع أيضا باطل.

فالنتيجة هي : صلاحية الضد الموجود للمنع عن وجود الضد المعدوم وهو المطلوب في المقام ، فيعود إشكال الدور ؛ لأن عدم أحد الضدين يتوقف على وجود الآخر بعد فرض وجود المقتضي والشرط ، كما أن وجود الآخر يتوقف على عدم الأول.

ومن هنا ظهر : صدق القضية الشرطية بكلا طرفيها في المقام ، فيصح : أن يقال : «لو وجد المقتضي والشرط لوجود الضد المعدوم فعلا كان الضد الموجود مانعا عنه» ، فصدق تالي هذه القضية الشرطية إنما هو لأجل خصوصية وهي التضاد والتمانع ، كما عرفت.

وكيف كان ؛ فقد ردّ المصنف جواب المشهور عن إشكال الدور ، فيبقى الدور على حاله. فاستدلال المشهور بحرمة الضد من جهة وجوب المقدمة غير صحيح لكونه دوريا ، فلا يصح أن يقال : ـ إن ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر ، ومقدمة الواجب واجبة ، فإذا كان الترك واجبا فالفعل لا محالة يكون محرما ، وهذا معنى النهي عنه ـ لأن هذا الاستدلال مستلزم للدور الباطل.

٢٣٩

إن قلت : (١) التمانع بين الضدين كالنار على المنار ، بل كالشمس في رابعة النهار ، وكذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه ، مما لا يقبل الإنكار ، فليس ما ذكر إلّا شبهة في مقابل البداهة.

قلت : (٢) التمانع بمعنى : التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ريب

______________________________________________________

(١) الغرض من هذا الكلام هو : دفع الإشكال عن استدلال المشهور على النهي عن الضد بوجوب مقدمة الواجب.

توضيح ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي : أن لنا مقدمتين واضحتين ، كالنار على المنار ، بل كالشمس في رابعة النهار :

الأولى : ثبوت التمانع والتضاد بين الضدين ، ولهذا يستحيل اجتماع الضدين في محل واحد.

الثانية : كون عدم المانع من مقدمات وجود الشيء ؛ لأن عدم المانع من أجزاء العلة التامة المتقدمة رتبة ، فالتمانع بين الضدين ، وكذا كون عدم المانع من أجزاء العلة التامة أمران بديهيان.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن هاتين المقدمتين تنتجان كون عدم الضد مقدمة لوجود الضد الآخر ودخيلا في وجوده دخل عدم المانع في وجود المعلول ، فإذا كان عدم الضد مقدمة للواجب لكان واجبا على القول بوجوب المقدمة ، فيكون فعله منهيا عنه ، ففعل الصلاة منهي عنه ؛ لأن تركها مقدمة للواجب أعني : الإزالة.

فما استدل به المشهور بوجوب المقدمة على النهي عن الضد صحيح ، فالإشكال عليه بمنع التمانع بين الضدين ، ومنع مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر ليس إلّا شبهة في مقابل البداهة.

(٢) هذا جواب عن قوله : «إن قلت : ...» إلخ. الغرض منه : عدم صحة استدلال المشهور على النهي عن الضد بوجوب مقدمة الواجب ، فليس الإشكال عليهم كالشبهة في مقابل البداهة.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي : إن للتمانع إطلاقين :

الأول : التمانع بمعنى التعاند بين شيئين ؛ بحيث يمتنع اجتماعهما في الوجود كاجتماع المتناقضين.

الثاني : التمانع بمعنى : كون أحدهما مانعا عن الآخر ؛ بأن يكون عدمه دخيلا في وجود الآخر ومتقدما عليه طبعا تقدم جزء العلة على المعلول ، والتمانع بهذا المعنى هو المصطلح عندهم.

٢٤٠