دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فيكون التوصل بالمقدمة إلى الواجب من الفوائد المترتبة على المقدمة ؛ لا أن يكون ترتب الواجب عليها ، أو قصد التوصل بها إليه قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب ـ لثبوت ملاك الوجوب فيها ـ بلا دخل قصد التوصل أو الترتب فيه.

فالفعل المقدمي يقع على صفة الوجوب ؛ لا على حكمه السابق الثابت له من الإباحة أو الحرمة ، فالدخول في ملك الغير لإنقاذ غريق يقع واجبا ، ولا يقع حراما ؛ وإن كان حكمه السابق هو الحرمة.

ولو كان لقصد التوصل ـ فرضا ـ دخل في الوجوب لما حصل ذات الواجب ، ولما سقط الوجوب بإتيان المقدمة بلا قصد التوصل ، وهو غير صحيح.

٣ ـ الإشكال بسقوط الوجوب بالفرد المحرم ، وهو قياس المقام بالمقدمة المحرمة بسقوط الوجوب بها ؛ مع عدم اتصافها بالوجوب.

وملخص القياس : أن سقوط الوجوب بالمقدمة المأتي بها بلا قصد التوصل لا يكشف عن وجوبها ؛ بل هي مما يسقط به الواجب ، وليس بواجب كالفرد المحرم حيث يسقط به الوجوب ، وليس بواجب لامتناع اجتماع الوجوب مع الحرمة.

وحاصل الجواب عنه : أن قياس ما نحن فيه بالفرد المحرم قياس مع الفارق ، فيكون باطلا. وحاصل الفرق : أن ملاك الوجوب ـ أعني : التوقف والمقدمية ـ ثابت لمطلق المقدمة حتى الحرام منها ؛ إلّا إن الملاك في المقدمة المحرمة لمزاحمته لمفسدة الحرمة لا يؤثر في الوجوب ، هذا بخلاف المقدمة المباحة ؛ فإن ملاك وجوبها الغيري ليس مزاحما فيؤثر في الوجوب ، ومع هذا الفرق لا يصح القياس المزبور.

إرجاع نكير الشيخ على نفسه :

ومن العجب أن الشيخ شدد النكير على صاحب الفصول ـ القائل بوجوب المقدمة الموصلة ـ بما يتوجه على نفسه وهو اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب. هذا تمام الكلام في ردّ الشيخ الأنصاري.

٤ ـ الكلام في ردّ ما في الفصول من اعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة في وقوعها على صفة الوجوب ، فيقال : إنه لا يكاد أن يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في الغرض الداعي إلى إيجابه ، وليس الغرض من المقدمة إلّا تمكن المكلف بإتيان ذيها ، فلا تفاوت بين المقدمة الموصلة وغير الموصلة ؛ لترتب الغرض بهذا المعنى عليهما.

فما جاء في الفصول من : أن الغرض من المقدمة هو ترتب الواجب عليها باطل ؛ إذ لا

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

يعقل أن يكون ترتب الواجب على المقدمة هو الغرض الداعي إلى الإيجاب ؛ لأن الترتب ليس بأثر تمام المقدمات ، فضلا عن أن يكون أثر إحداها في غالب الواجبات ، فإن الواجب فعل اختياري ، فتارة : يختار المكلف إتيان ذلك الفعل بعد وجود مقدماته ، وأخرى : يختار عدم إتيان الفعل الواجب ، فلا شك في بطلان القول بأن الغرض من المقدمة هو : ترتب الواجب عليها. هذا مضافا إلى أن هناك دليلا آخر على بطلان ترتب الواجب على المقدمة ، وهذا الدليل مبنيّ على أمرين :

الأول : أنه لو كان الترتب معتبرا في الوجوب الغيري لما كان الطلب للمقدمة يسقط بمجرد الإتيان بها بلا ترتب الواجب عليها ، والتالي باطل لسقوط الطلب الغيري بمجرد الإتيان بالمقدمة.

الثاني : أن الطلب لا يسقط إلّا بثلاثة أمور :

١ ـ الموافقة.

٢ ـ العصيان والمخالفة.

٣ ـ ارتفاع الموضوع مثل : غرق الميت أو حرقه ، والإتيان بالمقدمة ليس من الأمور المذكورة المسقطة للطلب ؛ على القول بوجوب المقدمة الموصلة ، مع إنه مسقط للطلب الغيري ، فالواجب هو : مطلق المقدمة لا خصوص الموصلة. ومن هنا ظهر : خطأ القول بوجوب المقدمة الموصلة.

٥ ـ استدل صاحب الفصول على وجوب المقدمة الموصلة بوجوه :

الأول : أن المتيقن من حكم العقل بوجوب المقدمة هو خصوص الموصلة.

الثاني : أن العقل يجوّز تصريح الآمر الحكيم بعدم مطلوبية غير الموصلة من المقدمة.

الثالث : أن الأمر تابع للغرض الداعي إليه سعة وضيقا ، والعقل يدرك أن الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلّا التوصل بها إلى ذيها ، فلا يحكم إلّا بخصوص وجوب المقدمة الموصلة.

وحاصل الجواب عن الوجه الأول : أن العقل الحاكم بالملازمة حاكم بها بين وجوب مطلق المقدمة ووجوب ذيها ؛ لما عرفت غير مرة : من أن الملاك في الوجوب الغيري هو : تمكن المكلف من الإتيان بالواجب ، وهو ثابت لمطلق المقدمة.

وحينئذ لا يبقى تردد للعقل حتى يحكم ـ من باب القدر المتيقن ـ بوجوب خصوص الموصلة. ومن هنا يظهر بطلان الوجهين الأخيرين ؛ إذ مع ثبوت الملاك في مطلق المقدمة

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ليس للآمر الحكيم التصريح بعدم مطلوبية غير الموصلة ، وليس الغرض من الأمر بالمقدمة الإيصال بها إلى ذيها ؛ بل الغرض هو تمكن المكلف من الواجب ، وهو ثابت لمطلق المقدمة ، فالواجب هو مطلق المقدمة لا خصوص المقدمة الموصلة.

نعم ؛ هناك تفاوت بين المقدمة الموصلة وغيرها ؛ وهو حصول المطلوب النفسي في المقدمة الموصلة دون غيرها ، ولا دخل لهذا التفاوت في وجوب المقدمة الموصلة ؛ بل هذا التفاوت ناش عن حسن اختيار المكلف وسوء اختياره.

٦ ـ منشأ توهم صاحب الفصول لوجوب المقدمة الموصلة :

هو خلطه بين الجهة التقييدية والجهة التعليلية ، فجعل ما هو الجهة التعليلية جهة تقييدية ، فإن التوصل بالمقدمة إلى ذيها علة لوجوب المقدمة ، فيكون من الجهات التعليلية ، ولكن الفصول جعله قيدا لمتعلق الوجوب ومعروضه ؛ حيث قال : إن المقدمة الواجبة هي المقيدة بالإيصال ، فيكون التوصل من الجهات التقييدية حسب زعم صاحب الفصول ، فينتفي وجوب المقدمة عند انتفاء هذا القيد ؛ لأن الفرق بين الجهة التعليلية والتقييدية أولا : أن الأولى : من مبادئ نفس الحكم وعلله. والثانية : من قيود متعلق الحكم ومعروضه. وثانيا : أن الحكم لا ينتفي بانتفاء الجهة التعليلية ؛ لإمكان مدخلية العلة حدوثا لا بقاء ، وينتفي الحكم بانتفاء الجهة التقييدية ، وما ذكره الفصول إنما يتم إذا كان التوصل قيدا لمتعلق الحكم لا فيما إذا كان علة للحكم ، ويتم فيما إذا كان التوصل غاية لوجوب المقدمة ، فإذا لم تحصل هذه الغاية لم تجب المقدمة ، وليس الأمر كذلك أي : لا يكون التوصل قيدا ولا غاية ؛ لأن الغاية هي حصول التمكن من الواجب.

٧ ـ وهناك دليل آخر على وجوب خصوص المقدمة الموصلة : وهذا الدليل منسوب إلى السيد الفقيه صاحب العروة ، وحاصل هذا الدليل : أن جواز تحريم المولى المقدمات بأنحائها ـ إلّا الموصلة منها ـ يدل على عدم وجوب غير الموصلة ، وأن الواجب منها هو خصوص الموصلة ؛ إذ لو وجب غيرها لما جاز تحريم المولى إياه ، فجواز المنع عن جميع المقدمات ـ إلّا الموصلة ـ كاشف عن وجوب خصوص الموصلة وهو المطلوب.

وقد أجاب المصنف عن هذا الدليل أولا : بما حاصله : أن النهي عن جميع المقدمات ـ إلّا الموصلة ـ محل نظر. وحاصل النظر والإشكال : أنه يلزم من المنع المذكور أحد محذورين هما : طلب الحاصل ، وعدم كون ترك الواجب عصيانا ؛ لأن عنوان الموصلية لا يحصل للمقدمة إلّا بعد ترتب الواجب عليها. ومن البديهي : أن بعد وجود الواجب

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وتحقق الموصلية يكون طلب المقدمة طلبا لما هو حاصل.

وأما عدم كون ترك الواجب عصيانا : فلأن المانع الشرعي كالمانع العقلي ، فالإخلال بالواجب لمانع شرعي لا يعد عصيانا ومخالفة موجبة لاستحقاق المؤاخذة ؛ إذ المفروض في المقام : أن ترك الواجب مستند إلى المانع الشرعي ، وهو النهي عن مقدماته ـ إلّا الموصلة ـ ومع لزوم المحذورين لا يجوز النهي عن جميع المقدمات إلّا الموصلة.

هذا مع إن عدم اتصاف المقدمة ـ مع المنع عن جميع المقدمات ـ إنما هو لوجود المانع ؛ وهو تحريم الشارع ، هذا بخلاف ما نحن فيه ؛ فإن المفروض : هو وجوب المقدمات المباحة موصلة كانت أم غير موصلة.

فقياس ما نحن فيه بما في كلام صاحب العروة قياس مع الفارق ، فلا يدل ما في استدلال صاحب العروة على انحصار الوجوب بالموصلة في كل المواضع.

٨ ـ في ثمرة القول بالمقدمة الموصلة :

وهي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب الأهم.

توضيح تلك الثمرة يتوقف على أمور :

الأول : أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر ؛ كترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة.

الثاني : أن يكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن الضد ليكون الترك الواجب ـ كترك الصلاة ـ مقتضيا للنهي عن ضده ، وهو فعل الصلاة في المثال.

الثالث : أن يكون النهي في العبادة مقتضيا لفسادها ، فتبطل الصلاة في المثال ؛ للنهي عنها الموجب لفسادها حسب الفرض.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : أن ثمرة القول بوجوب المقدمة الموصلة هي صحة الصلاة التي يتوقف على تركها فعل الإزالة ؛ لأنها ليست نقيضا للترك الموصل حتى تكون منهيا عنها ؛ لأن نقيض الترك الموصل هو عدم الترك الموصل ، وهو ليس عين فعل الصلاة كي تبطل الصلاة.

هذا بخلاف القول بوجوب مطلق المقدمة ، فالصلاة حينئذ ضد ، ونقيض للترك الواجب مقدمة للإزالة ، فتكون منهيا عنها فتقع فاسدة حسب الفرض ؛ وهو : أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، والنهي يدل على الفساد إذا كان الضد من العبادات كما هو في المقام.

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وهناك إشكال وإيراد على الثمرة المذكورة ، وقد أجاب المصنف عن الإيراد.

توضيح الإيراد : أن المقرر في علم الميزان هو : كون نقيض الأعم أخص وبالعكس ، فاللاإنسان أعم من اللاحيوان ، فنقيض الترك الموصل أعم من نقيض الترك المطلق ؛ بمعنى : أن لترك الترك الموصل الخاص فردان : أحدهما : فعل الصلاة ، والآخر : الترك المجرد عن الإيصال. ومن المعلوم : أنه بناء على حرمة الضد والنقيض تكون الصلاة ـ في المثال المعروف ـ فاسدة ؛ لأنها من مصاديق نقيض الترك الموصل الواجب مقدمة للإزالة ، فالصلاة باطلة على القول بالمقدمة الموصلة. أما بطلانها على القول بوجوب مطلق المقدمة فواضح. فالثمرة التي أفادها في الفصول ليست بتامة.

وحاصل الجواب : أنه فرق واضح بين نقيضي الترك المطلق والترك المقيد بالإيصال.

وخلاصة الفرق : أن النقيض في الترك المطلق والرافع له هو الفعل بنفسه ؛ لأن رفع الترك وإن كان مغايرا للفعل مفهوما ؛ لكنه متحد معه عينا وخارجا ، فبناء على وجوب مطلق المقدمة يكون نقيضه وجود الصلاة ، فتبطل لكونها منهيا عنها ، هذا بخلاف وجوب المقدمة الموصلة ؛ لأن المقدمة الواجبة حينئذ هو الترك الموصل. ومن المعلوم : أن فعل الصلاة إنما هو من مقارنات هذا الترك لا نقيضا له ولا ملازما. وقد قرر في محله : أن حرمة الشيء لا تسري إلى ملازمه فضلا عن مقارنه ، فلا تكون الصلاة حينئذ منهيا عنها ، فلو أتى بها كانت صحيحة.

فما أفاده صاحب الفصول من الثمرة ؛ وهي : صحة العبادة على القول بوجوب المقدمة الموصلة ، وفسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة في غاية المتانة.

فالمتحصل من الجميع :

أن ما ذكره صاحب الفصول من الثمرة صحيح ، ولا يرد عليه ما أورده عليه الشيخ في التقريرات.

٩ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط.

٢ ـ وجوب المقدمة لا يكون تابعا لإرادة ذي المقدمة.

٣ ـ عدم اعتبار قصد التوصل ، ولا الإيصال في وجوب المقدمة.

٤ ـ صحة الثمرة التي أفادها صاحب الفصول على القول بوجوب المقدمة الموصلة.

١٨٥

ومنها : (١) تقسيمه إلى الأصلي والتبعي ؛ (٢) والظاهر : أن يكون هذا التقسيم

______________________________________________________

في تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي

(١) من تقسيمات الواجب تقسيمه إلى الأصلي والتبعي.

وكان الأولى : ذكر هذا التقسيم في الأمر الثالث المنعقد لتقسيمات الواجب ؛ لا في الأمر الرابع المنعقد لبيان ما في وجوب المقدمة من الأقوال ؛ أي : قول صاحب المعالم ، وقول الشيخ ، وقول صاحب الفصول ، فتعرض المصنف لهذا التقسيم في ذيل الأمر الرابع إما من سهو القلم ، أو من نسيان ، فكأنه نسيه هناك وتذكره هاهنا. وكيف كان ؛ فنحن نتبعه في ذلك.

(٢) توضيح المراد من الأصالة والتبعية يتوقف على بيان جميع الوجوه المحتملة في الأصالة والتبعية ، فنقول :

المحتمل فيما هو المراد من الأصلي والتبعي أمور ثلاثة :

الأول : أن يراد بالأصلي والتبعي : الأصلي والتبعي في مقام الإثبات والدلالة. فالواجب الأصلي : ما دل عليه الدليل بالدلالة المطابقية ؛ كدلالة اللفظ على المنطوق. والواجب التبعي : ما دل الدليل عليه بالتبعية ؛ كدلالة اللفظ على المفهوم.

الثاني : أن يراد بالأصلي والتبعي : الأصلي والتبعي في مقام الثبوت ، هذا يتصور على قسمين : الأول : أن يراد بالواجب الأصلي ما لا ينشأ عن إرادة أخرى ؛ بل هو مراد بإرادة مستقلة غير تابعة لإرادة أخرى.

والواجب التبعي : ما يكون مرادا بإرادة تابعة لإرادة أخرى ، كإرادة المقدمة حيث تكون تابعة لإرادة ذيها.

الثاني : أن يراد بالأصلي : ما لوحظ تفصيلا للالتفات إليه. وبالتبعي : ما لم يلاحظ كذلك ؛ بل لوحظ إجمالا ، فالأصالة والتبعية تكونان بحسب اللحاظ التفصيلي وعدمه.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : أن مختار المصنف من الأصالة والتبعية هو : الأصالة والتبعية في مقام الثبوت والواقع ، لا بحسب دلالة اللفظ ، ومقام الإثبات. حيث قال : «والظاهر : أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت».

وقوله : «حيث يكون الشيء تارة : متعلقا للإرادة والطلب مستقلا» إشارة إلى القسم الأول من قسمي الأصلي والتبعي في مقام الثبوت ، وليس في كلامه دلالة أو إشارة إلى القسم الثاني من قسمي الأصلي والتبعي في مقام الثبوت.

قوله : «للالتفات إليه بما هو عليه ...» إلخ تعليل لإرادته مستقلا.

وملخص التعليل : أن تعلق الإرادة الاستقلالية بشيء إنما هو للالتفات إليه بسبب ما

١٨٦

بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت ، حيث يكون الشيء تارة : متعلقا للإرادة والطلب مستقلا للالتفات إليه بما هو عليه ؛ مما يوجب طلبه فيطلبه ، كان طلبه

______________________________________________________

يكون ذلك الشيء عليه من الملاك الموجب لطلب ذلك الشيء ، فيطلبه ويأمر به ، وهو المسمى حينئذ بالواجب الأصلي ؛ من غير فرق بين ما كان طلبه نفسيا أو غيريا ، ثم الواجب التبعي حينئذ ما يكون متعلقا لإرادة تابعة لإرادة غيره ؛ كما أشار إليه بقوله : «وأخرى متعلقا للإرادة تبعا لإرادة غيره ؛ لأجل كون إرادته» أي : الشيء «لازمة لإرادته» أي : الغير.

ومن هنا يظهر : أن كلا من الواجب النفسي والغيري يتصف بالأصلي بهذا المعنى ، ولا يتصف بالتبعي بهذا المعنى إلّا الواجب الغيري ، إذ ليست الإرادة تابعة لإرادة غيره في الواجب النفسي.

وكيف كان ؛ فظاهر المصنف : كون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في مقام الثبوت تبعا للشيخ الأنصاري «قدس‌سره» لا بلحاظهما في مقام الإثبات والدلالة ، كما هو مذهب صاحبي القوانين والفصول ، حيث قال صاحب القوانين ما هذا لفظه : «والمراد من الوجوب الشرعي هو الأصلي الذي حصل من اللفظ ، وثبت من الخطاب قصدا» وهذا الكلام صريح في المطلوب.

وقال صاحب الفصول : «وينقسم الواجب باعتبار آخر إلى أصلي وتبعي ، فالأصلي : ما فهم وجوبه بخطاب مستقل أي : غير لازم لخطاب وإن كان وجوبه تابعا لوجوب غيره. والتبعي : بخلافه ، وهو ما فهم وجوبه تبعا لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلا ؛ كما في المفاهيم. والمراد بالخطاب : ما دل على الحكم الشرعي فيعم اللفظ وغيره» ، فهما متفقان على كون التقسيم إلى الأصلي والتبعي ناظرا إلى مقام الإثبات والدلالة.

وقد أشار المصنف إلى كون التقسيم المذكور بحسب مقام الإثبات بقوله : «فإنه يكون في هذا المقام أيضا تارة : مقصودا بالإفادة» أي : الشيء المطلوب «يكون في هذا المقام» أي : مقام الإثبات «أيضا» أي : كمقام الثبوت «تارة : مقصودا بالإفادة» بأن يكون سوق الكلام لإفادته ، فتكون دلالة الكلام على طلبه استقلالا ، «وأخرى :» يكون طلبه «غير مقصود بها» أي : بالإفادة «على حدة» ، فلا يكون الكلام مسوقا لإفادته. فالأول : يكون مقصودا بالأصالة ، والثاني : يكون مقصودا بالتبع ، فالأصالة والتبعية كما تكونان بحسب مقام الثبوت ، كذلك تكونان بحسب مقام الإثبات والدلالة ؛ «إلّا إنه لازم الخطاب» أي : الشيء المطلوب يكون لازم الخطاب فيما هو المقصود بالتبع.

١٨٧

نفسيا أو غيريا ، وأخرى : متعلقا للإرادة تبعا لإرادة غيره ؛ لأجل كون إرادته لازمة لإرادته ؛ من دون التفات إليه بما يوجب إرادته لا بلحاظ الأصالة والتبعية في مقام الدلالة والإثبات ، فإنه يكون في هذا المقام تارة : مقصودا بالإفادة ، وأخرى : غير مقصود بها على حدة ، إلّا إنه لازم الخطاب كما في دلالة الإشارة (١) ونحوها (٢).

وعلى ذلك ، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري ، إليهما واتصافه بالأصالة والتبعية كلتيهما (في نسخة : كليهما) ، حيث (٣) يكون متعلقا للإرادة على حدة عند

______________________________________________________

(١) أي : وهي ما لا يكون المدلول فيها مقصودا بالخطاب ؛ كدلالة الآيتين على إنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ وهما : قوله تعالى : (والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرّضاعة)(١) ، وقوله تعالى : (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)(٢) فإن المستفاد منهما هو : أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ لكنه غير مقصود بالخطاب ، فيكون مقصودا بالتبع لا بالأصالة.

(٢) أي : نحو دلالة الإشارة ، كدلالة القضية الشرطية وغيرها من القضايا ذوات المفاهيم على مفاهيمها ؛ حيث إن المفهوم ليس مقصودا بالأصالة ، بل المقصود بالأصالة فيها هي الدلالة المنطوقية على ما قيل ؛ ولكن فيه إشكال ، لأن المفاهيم مقصودة بالخطاب كالمناطيق ، غاية الأمر : أن الدلالة المفهومية في طول الدلالة المنطوقية ، ومن البديهي : أن الطولية لا تنافي كون كل من المدلولين مقصودا بالإفادة ، فجعل المفاهيم من قبيل دلالة الإشارة ليس في محله ، بل هو غير سديد.

وكيف كان ؛ فعلى ما هو مختار المصنف من كون هذا التقسيم ناظرا إلى مقام الثبوت فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إلى الأصلي والتبعي كما أشار إليه بقوله : «وعلى ذلك» أي : على كون التقسيم بلحاظ مقام الثبوت فلا شك في اتصاف الواجب الغيري بالأصلي والتبعي.

(٣) بيان لاتصاف الواجب الغيري بالأصالة والتبعية ، فإن الوضوء مثلا مراد تفصيليّ في قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق)(٣) ، فيكون واجبا أصليا مع كونه غيريا ، ونصب السلم مثلا مقدمة للواجب النفسي ـ وهو الكون على السطح ـ واجب غيري تبعي ؛ لعدم تعلق الإرادة به مستقلا

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣.

(٢) الأحقاف : ١٥.

(٣) المائدة : ٦.

١٨٨

الالتفات إليه بما هو مقدمة ، وأخرى : لا يكون متعلقا لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك (١) ؛ فإنه يكون لا محالة مرادا تبعا لإرادة ذي المقدمة على الملازمة.

كما لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالأصالة ، ولكنه لا يتصف بالتبعية.

ضرورة (٢) : إنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم تكن فيه مصلحة نفسية ، ومعها (٣) يتعلق الطلب بها مستقلا ، ولو لم يكن هناك شيء آخر مطلوب أصلا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

لعدم الالتفات إليه ، كما أشار إليه بقوله : «وأخرى : لا يكون متعلقا لها كذلك» أي : تارة أخرى : لا يكون الواجب الغيري المقدمي متعلقا للإرادة مستقلا.

(١) أي : بما هو مقدمة ، «فإنه» أي : الواجب الغيري وإن لم يكن ملتفتا إليه ؛ إلّا إنه «يكون لا محالة مرادا» للمولى «تبعا لإرادة ذي المقدمة على الملازمة» يعني : بناء على الملازمة بين وجوب الواجب ووجوب مقدمته ، فإنه لا ينفك إرادة الواجب عن إرادة المقدمة ارتكازا وإجمالا.

فتحصل مما ذكرناه : أن الواجب الغيري يتصف بالأصالة والتبعية في مرحلة الواقع ومقام الثبوت. وأما الواجب النفسي : فإنه وإن كان كالواجب الغيري في اتصافه بالأصالة بلا شبهة ؛ إلّا إنه لا يتصف بالتبعية ؛ لوضوح : أنه مع الالتفات إليه يراد مستقلا ، إذ مع اشتماله على المصلحة النفسية لا يكون لازما للغير حتى يراد تبعا له ، وبدون الالتفات إليه لا يتصف الواجب النفسي بشيء من الأصالة والتبعية.

وكيف كان ؛ فالواجب الغيري يتصف بالأصالة والتبعية معا بخلاف الواجب النفسي ؛ فإنه لا يتصف إلّا بالأصالة دون التبعية ، كما أشار إليه بقوله : «لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالأصالة ، ولكنه لا يتصف بالتبعية» ، أما اتصافه بالأصالة : فواضح ؛ لأنه واجد لمصلحة نفسية تقتضي تعلق إرادة مستقلة به. وأما عدم اتصافه بالتبعية : فلعدم تعلق إرادة به تبعا لإرادة غيره.

(٢) تعليل لعدم اتصاف الواجب النفسي بالتبعية.

وحاصل التعليل : على ما في «منتهى الدراية» : أن النفسية والتبعية متضادتان ، فلا يجتمعان ؛ وذلك لأن اتصاف الواجب بالنفسية منوط بكونه ذا مصلحة نفسية ، وإذا كان كذلك تعلق به الطلب مستقلا وعلى حدة ، وهو ينافي تعلق الطلب به تبعا.

(٣) أي : مع المصلحة النفسية «يتعلق الطلب بها» أي : بالمصلحة النفسية «مستقلا» ، يعني : غير تابع لإرادة أخرى.

١٨٩

نعم ؛ (١) لو كان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة اتصف النفسي بهما أيضا ، ضرورة : أنه قد يكون غير مقصود بالإفادة ؛ بل أفيد بتبع غيره المقصود بها (٢).

لكن الظاهر ـ كما مر (٣) ـ أن الاتصاف بهما (٤) إنما هو في نفسه لا بلحاظ حال

______________________________________________________

وحاصل الكلام : أن الواجب النفسي لا يتصف بالتبعية ؛ لأنه مع الالتفات إليه ، وكونه ذا مصلحة نفسية يتعلق به الطلب مستقلا لا تبعا لغيره ، ومع عدم الالتفات إليه لا يتصف بشيء منهما أصلا.

(١) استدراك على ما أفاده من : عدم اتصاف الواجب النفسي بالتبعية ، وحاصله : أن عدم اتصاف الواجب بالتبعية إنما هو بناء على كون الأصالة والتبعية بلحاظ الإرادة التي هي مقام الثبوت.

وأما بناء على كونهما بلحاظ مقام الإثبات والدلالة : فلا إشكال في اتصاف الواجب النفسي بالأصالة والتبعية كالواجب الغيري ؛ لأن الواجب النفسي في مقام الإثبات والدلالة يمكن أن يكون مقصودا بالإفادة ، ويمكن أن لا يكون مقصودا بها ؛ بل يفاد بتبع شيء آخر ، فالمقصود بالإفادة هو : ذلك الشيء ، ويفاد الواجب النفسي تبعا له ، نظير ما دل على شرطية تقدّم الظهر لصحة العصر ؛ فإن المقصود بالإفادة منه هو شرطية تقدمها لا كونها واجبا نفسيا.

(٢) أي : بالإفادة.

(٣) أي : مر في أول البحث حيث قال : «والظاهر : أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت».

(٤) يعني : بالأصالة والتبعية «إنما هو في نفسه» يعني : أن الواجب في نفسه إما أصلي وإما تبعي ؛ سواء دل دليل لفظي عليه أم لا. فالظاهر : أن الواجب في نفسه يتصف بالأصالة والتبعية.

وجه الظهور : أن كون الوصف بحال الموصوف أولى من أن يكون بلحاظ حال المتعلق ، أعني : دلالة الدليل. ومن المعلوم : أن جعل الأصالة والتبعية بحسب مقام الثبوت يوجب كون الوصف ـ وهو الأصلي والتبعي ـ بحال الموصوف. أعني : نفس الوجوب ؛ كقولنا : الوجوب الأصلي والوجوب التبعي ، هذا بخلاف لحاظهما بحسب مقام الإثبات ، فإن الوصف يكون بحال المتعلق ـ وهو الدليل ـ كقولنا : الوجوب الأصلي ما تكون دلالة دليله عليه أصالة ، والتبعي ما تكون دلالة دليله عليه تبعا ، فالأصالة والتبعية في الحقيقة وصفان لدلالة دليل الوجوب لا للوجوب نفسه. هذا ما أشار إليه بقوله : «إن

١٩٠

الدلالة عليه ؛ وإلا (١) لما اتصف بواحد منهما ، إذا لم يكن بعد مفاد دليل ، وهو (٢) كما ترى.

ثم إنه إذا كان الواجب التبعي (٣) ما لم يتعلق به إرادة مستقلة ، فإذا شك في

______________________________________________________

الاتصاف بهما إنما هو في نفسه» أي : الواجب ، ليكون الوصف بحال الموصوف ؛ لا بلحاظ الدلالة على الواجب ليكون الوصف بحال المتعلق ، كما عرفت.

(١) أي : وإن لم يكن التقسيم بلحاظ مقام الثبوت ، كي يكون الوصف بحال الموصوف بأن كان بلحاظ مقام الإثبات والدلالة ، كي يكون الوصف بحال المتعلق لما اتصف الواجب النفسي ـ الذي لم يقم عليه دليل بعد ـ بواحد من الأصالة والتبعية ، مع إن التقسيم ظاهر في عدم خلو واجب عنهما ، وإن لم يكن هناك دليل.

فمن ذلك يتبين : أن هذا التقسيم للواجب إنما هو بحسب مقام الثبوت ، فلا يتوقف على وجود دليل في مقام الإثبات.

(٢) أي : إن كون التقسيم بحسب مقام الإثبات كما ترى غير سديد ؛ لكونه على خلاف ما هو ظاهر التقسيم من أن ظاهره : اتصاف الواجب النفسي بالأصالة والتبعية ، ولو لم يكن هناك دليل. وبعبارة أخرى : إن التقسيم لا يتوقف على وجود دليل ، وإنما الواجب هو نفسه ينقسم إلى أصلي وتبعي.

(٣) يعني : مقتضى الأصل هو : كون الواجب تبعيا إذا كان الواجب التبعي ، بمعنى : ما لم يتعلق به إرادة مستقلة.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الأصلي والتبعي بلحاظ مقام الثبوت يتصور على قسمين :

الأول : الأصلي : ما يكون مرادا بإرادة مستقلة غير تابعة لإرادة أخرى.

والتبعي : ما يكون مرادا بإرادة تابعة لإرادة أخرى ، كوجوب المقدمة.

الثاني : الأصلي : ما لوحظ تفصيلا للالتفات إليه.

والتبعي : ما لم يلاحظ كذلك ؛ بل لوحظ إجمالا ، فالأصالة والتبعية في القسم الأول : تكونان بحسب استقلال الإرادة وتبعيتها ، وفي القسم الثاني : بحسب اللحاظ التفصيلي وعدمه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إن كان الواجب التبعي بالمعنى الأول يعني : ما لم تتعلق به إرادة مستقلة ، ثم شك في واجب أنه أصلي أو تبعي كان مقتضى الأصل كونه تبعيا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن المركب من جزءين أحدهما يكون وجوديا

١٩١

واجب أنه أصلي أو تبعي ، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي ، ويترتب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي (في نسخة : آثار شرعية) ، كسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمية (١).

نعم (٢) ؛ لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي (٣) ـ وإن كان يلزمه (٤) لما (٥) كان يثبت بها إلّا على القول بالأصل المثبت كما هو واضح ، فافهم (٦).

______________________________________________________

والآخر عدميا يمكن إحراز الجزء العدمي بالأصل ، إذا كان الجزء الوجودي محرزا بالوجدان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لما كان الواجب التبعي بالمعنى الأول مركبا من جزءين : أحدهما : وجوبه المحرز وجدانا ، والآخر : عدم تعلق إرادة مستقلة به أمكن إجراء أصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به ؛ فيحصل المركب من الجزء الوجودي والعدمي ، ويثبت الواجب التبعي. هذا نظير موضوع الضمان المركب من الاستيلاء على مال الغير وعدم رضاء المالك به في كون الأول محرزا وجدانا ، والآخر : تعبدا بالأصل أعني : استصحاب عدم رضاء المالك ، فأصل الوجوب في المقام ثابت بالوجدان ، وتبعيته ثابت بالأصل.

(١) أي : كموضوع الضمان على ما عرفت ، وكانفعال الماء القليل ـ بناء على كون القلة أمرا عدميا ـ فإن موضوع انفعال الماء القليل ، وهو مركب من جزءين : أحدهما : وهو الماء محرز بالوجدان ، والآخر : أعني : القلة محرز بالأصل ، فإن الأصل عدم الكثرة.

(٢) استدراك على قوله : «فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي».

وحاصل الاستدراك : أن ما ذكر من : أن مقتضى الأصل هو : كون الواجب تبعيا إنما يتم إذا كان التبعي متقوما من أمر عدمي. وأما إذا كان التبعي نحوا من الإرادة ـ أعني : الإرادة التابعة لإرادة أخرى ، مقابلا للأصلي بمعنى : ما يكون مرادا بإرادة غير تابعة لإرادة أخرى ـ «لما كان يثبت بها» أي : بأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة إلّا على القول بالأصل المثبت ؛ إذ حينئذ يكون تعلق إرادة غير مستقلة به من لوازم عدم تعلق إرادة مستقلة عقلا.

(٣) وهو : عدم تعلق إرادة مستقلة به.

(٤) أي : يلزم الأمر العدمي ؛ أعني : عدم تعلق إرادة مستقلة به.

(٥) جواب ـ لو ـ في قوله : «لو كان التبعي ...» إلخ.

(٦) لعله إشارة إلى عدم ثبوت التبعي بالأصل ولو على القول بالأصل المثبت ؛ لأن العدم ملازم للتبعي ، فهما متلازمان ، والقائل بالأصل المثبت لا يقول إلّا بترتب أثر اللازم ، لا أثر الملازم ، أو إشارة إلى : عدم جريان الأصل العملي في هذا المقام أصلا ؛ لعدم ترتب أثر شرعي عليه ، لأن الأثر مترتب على أصل الوجوب ، من دون دخل للأصلية والتبعية فيه ، والمفروض : هو العلم بأصل الوجوب.

١٩٢

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ كان الأولى أن يتعرض المصنف لهذا التقسيم في الأمر الثالث المنعقد لتقسيمات الواجب ؛ لا في الأمر الرابع المنعقد لبيان ما في وجوب المقدمة من الأقوال.

وكيف كان ؛ فالمحتمل فيما هو المراد من الأصلي والتبعي هو احتمالان :

الأول : أن يراد بهما ما هو الأصلي والتبعي في مقام الإثبات ، كما هو مذهب صاحبي القوانين والفصول.

الثاني : أن يراد بهما ما هو الأصلي والتبعي في مقام الثبوت ، كما هو مختار المصنف تبعا للشيخ الأنصاري.

ثم هذا الاحتمال الثاني على قسمين :

الأول : أن يراد بالواجب الأصلي : ما يكون مرادا بإرادة مستقلة ، وأن يراد بالتبعي : ما يكون مرادا بإرادة تابعة لإرادة أخرى.

الثاني : أن يراد بالأصلي : ما لوحظ تفصيلا ، وبالتبعي : ما لوحظ إجمالا.

٢ ـ أن ظاهر المصنف «قدس‌سره» كون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في مقام الثبوت ، ثم إن كلا من الواجب النفسي والغيري يتصف بالأصلي بحسب مقام الثبوت إذا كان المراد بهما القسم الأول ، وهو كون الأصلي مرادا بإرادة مستقلة. والتبعي مرادا بإرادة تابعة لإرادة أخرى.

ولكن الواجب الأصلي لا يتصف بالتبعي ؛ إذ ليست إرادة الواجب النفسي تابعة لإرادة غيره. أما لو كان المراد بالأصلي والتبعي ما هو الأصلي والتبعي ؛ بحسب مقام الإثبات والدلالة لا تصف الواجب النفسي بالتبعي أيضا ، كالواجب الغيري ، إذ قد لا يكون الواجب النفسي مقصودا بالإفادة مستقلا ؛ بل أفيد بتبع غيره.

٣ ـ أن مقتضى الأصل كون الواجب تبعيا عند الشك في واجب أنه أصلي أو تبعي ؛ لأن التبعي مركب من جزء وجودي محرز بالوجدان وهو : الوجوب ، ومن جزء عدمي وهو : عدم تعلق إرادة مستقلة به يحرز بالأصل أعني : أصالة عدم تعلق إرادة مستقلة.

نعم ؛ لو كان التبعي أمرا وجوديا ـ بأن يكون نحوا من الإرادة أعني : الإرادة التابعة لإرادة أخرى ـ لا يثبت بأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به ؛ إلّا على القول بالأصل المثبت «فافهم» ، لعله إشارة إلى : عدم جريان الأصل العملي في المقام أصلا ؛ لعدم ترتب أثر

١٩٣

تذنيب (١) ـ في بيان الثمرة :

وهي في المسألة الأصولية ـ كما عرفت سابقا ـ ليست إلّا إن تكون نتيجتها

______________________________________________________

شرعي ، لأن الأثر مترتب على أصل الوجوب ؛ من دون دخل وصفي الأصالة والتبعية فيه أصلا ، والمفروض : هو العلم بأصل الوجوب.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ كون هذا التقسيم إنما هو بلحاظ الاصالة والتبعية بحسب مقام الثبوت.

٢ ـ مقتضى الأصل : تبعية الواجب عند الشك في أنه أصليّ أو تبعيّ.

٣ ـ هذا بحسب الظاهر. أما بحسب الواقع : فلعل رأيه : عدم جريان الأصل العملي في المقام ، فلا أصل حتى يقتضي تبعية الواجب ، كما تقدم في وجه «فافهم».

ثمرة المسألة

(١) الغرض من عقد هذا التذنيب هو : بيان ثمرة بحث مقدمة الواجب ، إذ لكل مسألة لا بد من ثمرة لولاها لكان البحث عنها لغوا. ونظرا إلى هذه القاعدة العقلية : جاء المصنف «قدس‌سره» بهذا التذنيب ؛ يريد أن يبيّن فيه الثمرة ، التي تترتب على بحث مقدمة الواجب.

فيقع الكلام في مقامين :

الأول : في بيان ما هو ثمرة لبحث مقدمة الواجب بشكل عام.

الثاني : في ذكر بعض ما ذكره الأصوليون لبحث مقدمة الواجب من ثمرات.

أما المقام الأول : فقد أشار إليه بقوله : «وهي في المسألة الأصولية ـ كما عرفت سابقا ـ» يعني : في مبحث الصحيح والأعم ، حيث قال ، قبل الاستدلال للصحيحي : «إن ثمرة المسألة الأصولية هي : أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الأحكام الفرعية» ، فيقال مثلا في المقام على القول بوجوب المقدمة بالملازمة عقلا : المشي مقدمة للحج الواجب ، وكل مقدمة للواجب واجب ـ بالملازمة عقلا ـ فالمشي واجب ، وهكذا الوضوء فيقال : إن الوضوء مقدمة للواجب ، وكل ما هو مقدمة لواجب واجب ، فينتج : أن الوضوء واجب لوجوب الصلاة ، فهذا القياس ينتج حكما فرعيا ، وهو : وجوب الوضوء ـ بناء على الملازمة ـ أو عدم وجوبه بناء على عدمها.

وكيف كان ؛ فالمسألة الأصولية هي : التي تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق استنباط الحكم الفرعي ، فيكون بحث مقدمة الواجب من المسائل الأصولية ؛ لما عرفت

١٩٤

صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد ، واستنباط حكم فرعي ، كما لو قيل بالملازمة في المسألة : فإنه (١) بضميمة مقدمة كون شيء مقدمة لواجب يستنتج أنه واجب.

______________________________________________________

من أن بحث المقدمة صالحة للوقوع في طريق استنباط الحكم الفرعي. غاية الأمر : أن مسألة مقدمة الواجب مسألة عقلية ، لأن الكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدم استقلاله بها.

لا لفظية ، كما يظهر من صاحب المعالم حيث استدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث ، مضافا إلى ذكرها في مباحث الألفاظ. ولكن المصنف مع إدراجه للمسألة ضمن مسائل الأوامر ، نص على أنها عقلية لا لفظية حيث قال في أول بحث مقدمة الواجب ما لفظه : «ثم الظاهر أيضا : أن المسألة عقلية ، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه». هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وأما المقام الثاني : فنقول : إنه قد ذكروا لبحث مقدمة الواجب ثمرات عديدة ، واكتفى المصنف بذكر بعضها.

منها : حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا كانت له مقدمات متعددة ؛ لصدق الإصرار على الحرام على القول بوجوب المقدمة ، وعدم حصول الفسق على القول بعدم وجوبها.

منها : حصول البرء من النذر بإتيان مقدمة من مقدمات الواجب على القول بوجوب المقدمة ، وعدمه على القول بعدم وجوبها.

ومنها : عدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة على القول بوجوبها لحرمة أخذ الأجرة على الواجب ، وجواز أخذها على القول بعدم وجوبها. وقد أورد المصنف على هذه الثمرات فانتظر توضيح ذلك في كلام المصنف ، بعد توضيح جملة من العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) الضمير للشأن ، ثم إن هذا تقريب لاستنتاج الحكم الفرعي وحاصله : أنه بضميمة مقدمة وجدانية ـ وهي كون شيء مقدمة لواجب ـ إلى مقدمة برهانية أصولية ـ وهي : أن كل ما هو مقدمة لشيء لزم من وجوبه وجوبها ـ يستنتج وجوب الوضوء في المثال المزبور ، حيث يؤلف قياس بهذه الصورة : الوضوء مقدمة لواجب ، وكل ما هو مقدمة لواجب واجب ، فينتج : أن الوضوء واجب لوجوب ذيها كالصلاة. فهذا القياس ينتج حكما فرعيا وهو : وجوب الوضوء ، بناء على الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته.

١٩٥

ومنه (١) قد انقدح : أنه ليس منها مثل برء النذر بإتيان مقدمة واجب عند نذر الواجب ، وحصول الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا كانت له مقدمات كثيرة ؛ لصدق الإصرار على الحرام بذلك ، وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة.

______________________________________________________

(١) أي : ومما ذكرناه في ضابط كون المسألة أصولية ـ من أن نتيجتها ما يقع في طريق الاستنباط ـ ظهر : إنه ليس من الثمرة لمثل هذه المسألة الأصولية : الفروع الثلاثة التي ذكروها ثمرة لها. وقد ذكرنا الفروع الثلاثة وهي حصول البرء من النذر ، وحصول الفسق بترك واجب له مقدمات ، وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة.

وقد أورد المصنف على الجميع إشكالا عاما ، ثم أورد على كل منها بالخصوص إشكالا خاصا. وأما الإشكال العام المشترك بين هذه الثمرات الثلاث المذكورة فقد أشار إليه بقوله : «ومنه قد انقدح ...» إلخ. يعني : إن شيئا من هذه الأمور الثلاثة ليس ثمرة للمسألة الأصولية ، وحاصل هذا الإشكال : أن ثمرة المسألة الأصولية ليست إلّا إن تكون نتيجة المسألة واقعة في طريق استنباط حكم شرعي كلي ، وهذه الأمور الثلاثة لا تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي.

أما حصول البرء بفعل المقدمة ـ على القول بوجوبها ـ لمن نذر الإتيان بواجب : فلأن البرء إنما يكون لانطباق المنذور على المأتي به ، حيث إن المنذور ـ وهو الواجب ـ ينطبق على المقدمة بعد إثبات وجوبها بدليل عقلي أو نقلي ، ومن المعلوم : أن انطباق الحكم المستنبط على موارده ليس مسألة أصولية ؛ بل قاعدة فقهية. وإنما المسألة الأصولية هي التي تقع في طريق استنباط الحكم الكلي ؛ كالقواعد التي يستنبط منها وجوب الوفاء بالنذر.

وأما حصول الفسق : فكذلك يكون من باب تطبيق الحكم المستنبط على مورده ؛ لأنه ـ بناء على وجوب المقدمة ـ لا بد من الحكم بفسق تاركها ؛ لأن ترك الواجب بمقدماته الكثيرة يوجب صدق الإصرار على المعصية الموجب للفسق ، فليس الحكم بفسق تارك المقدمة مسألة اصولية واقعة في طريق الاستنباط.

وأما حرمة أخذ الآخرة على المقدمة ـ بناء على وجوبها ، بعد تسليم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات ـ فليست أيضا مسألة أصولية يستنبط منها حكم فرعي ؛ بل هي مسألة فقهية ؛ لتعلقها بالعمل.

وكيف كان ؛ فشيء من الفروع الثلاثة ليس مسألة أصولية ؛ بل كلها فقهية ، لأنها من تطبيق الحكم المستنبط على موارده.

هذا تمام الكلام في الإشكال العام المشترك بين الفروع الثلاثة ثمرة لهذه المسألة.

١٩٦

مع أن البرء (١) وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر ، فلا برء بإتيان المقدمة لو قصد الوجوب النفسي ؛ كما هو المنصرف عند إطلاقه (٢) ولو قيل بالملازمة (٣) ، وربما يحصل البرء به (٤) لو قصد ما يعم المقدمة ولو قيل بعدمها ، كما لا يخفى.

ولا يكاد (٥) يحصل الإصرار على الحرام بترك واجب ، ولو كانت له مقدمات غير

______________________________________________________

(١) هذا شروع في الإشكال الخاص المختص بكل واحد من الفروع الثلاثة ، ثم قوله : «مع أن البرء وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر» إشارة إلى إشكال يختص بالثمرة الأولى وحاصله : أن البرء وعدمه يتبعان قصد الناذر ، فإن قصد في نذره الإتيان بالواجب النفسي فلا يحصل البرء بإتيان المقدمة ، وإن قلنا بوجوبها بالملازمة. وإن قصد حين النذر مطلق الواجب ـ وإن كان وجوبه غيريا ـ فيحصل البرء بإتيانها وإن لم نقل بالملازمة ؛ لأن وجوبها الغيري مما لا محيص عنه ، وهو يكفي في البرء.

وأما إذا أطلق الناذر ولم يعلم قصده ، فالظاهر : أن المنصرف من إطلاقه هو : الوجوب النفسي ، فلا يكفي الإتيان بالمقدمة ولو قيل بالملازمة.

(٢) أي : إطلاق الوجوب.

(٣) أي : الملازمة بين وجوب الواجب ووجوب مقدمته ، فإن الملازمة حينئذ لا تجدي في حصول البرء بإتيان المقدمة ، إذ المفروض ـ ولو بحكم الانصراف ـ اختصاص المنذور بالواجب النفسي ، وخروج الواجب الغيري عن دائرة متعلق النذر.

(٤) أي : بإتيان المقدمة لو قصد الناذر من الواجب مطلق الواجب الشامل للمقدمة ، بأن يريد منه ما يلزم فعله ولو عقلا ، فإن البرء من النذر يحصل حينئذ بفعل المقدمة وإن لم نقل بالملازمة بين وجوب الواجب ووجوب مقدمته ؛ لوجوب المقدمة عقلا قطعا.

(٥) هذا إشارة إلى الإشكال المختص بالثمرة الثانية وحاصله : أن القدرة على الفعل والترك شرط في صحة التكليف لقبح التكليف بغير المقدور عقلا ، وعدم جوازه شرعا ، ولازم ذلك : انتفاء التكليف عند انتفاء القدرة ، وحينئذ إن الواجب الذي له مقدمات كثيرة صار غير مقدور بسبب ترك أول مقدمة من مقدماته ، فيسقط التكليف بالواجب ومقدماته لانتفاء القدرة ، فلا يحصل الإصرار على الحرام الموجب للفسق ؛ لأن المحرّم هو : ترك المقدمة الأولى.

وكيف كان ؛ فلا يحصل الفسق بترك واجب له مقدمات كثيرة ، وإن قلنا بوجوب المقدمة ، لأنه حينئذ لم يترك إلّا واجبا واحدا.

١٩٧

عديدة لحصول (١) العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه (٢) من الواجب ، ولا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا ؛ لسقوط التكليف حينئذ (٣) ، كما هو واضح لا يخفى.

وأخذ الأجرة على الواجب (٤) لا بأس به ؛ إذا لم يكن إيجابه على المكلف مجانا

______________________________________________________

(١) أي : قوله : «لحصول العصيان ...» إلخ تعليل لقوله : «ولا يكاد يحصل الإصرار» ، يعني : لا يحصل الإصرار على الحرام حتى يوجب الفسق ، وذلك لما ذكرناه من : أن المحرم هو : ترك المقدمة ، ولا يتحقق به الإصرار على الحرام.

(٢) أي : لا يتمكن المكلف ـ مع ترك أول مقدمة من مقدمات الواجب ـ على إتيان الواجب.

(٣) أي : لسقوط التكليف حين عدم التمكن ، فتسقط حرمة سائر المقدمات لأجل سقوط الوجوب النفسي ، فلا يرتكب المكلف إلّا حراما واحدا ، وهو لا يوجب الفسق على ما هو المفروض من : أن الموجب لحصول الفسق هو الإصرار على الحرام.

(٤) هذا إشارة إلى الإشكال المختص بالثمرة الثالثة وهي : حرمة أخذ الأجرة على المقدمة على القول بوجوبها.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : إن الواجب الذي أدعي أخذ الأجرة عليه إما توصلي أو تعبدي ، والثاني : يجوز أخذ الأجرة عليه إذا كان أخذ الأجرة من قبيل الداعي إلى الداعي كي لا ينافي عباديته.

والواجب التوصلي على قسمين : منه : ما أوجبه الشارع مجانا وبلا عوض ؛ كدفن الميت ، ومنه : ما يجب فعله مطلقا من دون تقييده بالمجانية ؛ بأن يكون الفعل بمعناه المصدري واجبا سواء أخذ الأجرة بإزائه أم لا كالصناعات الواجبة على المكلفين كفائية ، مثل : الخياطة والحياكة والفلاحة وغيرها مما يتوقف عليه نظام العالم ، ولا يكاد ينتظم بدونها البلاد ، ويختل لولاها معاش العباد ؛ بل ربما يقال : بأنه يجب الأجرة عليها لنفس الدليل الدال على وجوبها الكفائي أي : لزوم الاختلال وعدم الانتظام لو لا أخذ الأجرة عليها ، فكما يختل النظام لو لم يقم أحد بهذه الصناعات ؛ كذلك يختل النظام لو لم يأخذ الأجرة عليها أحد ، فلو لم يأخذ الخياط مثلا الأجرة على الخياطة لا ختل نظام معاشه.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن مجرد الوجوب لا يقتضي المجانية ، حتى يقال بحرمة أخذ الأجرة على المقدمة ؛ بل الحق : هو التفصيل بأن يقال : إن المقدمة إن كانت من القسم الأول من الواجبات التوصلية فلا يجوز أخذ الأجرة عليه ، وإلّا فيجوز أخذ

١٩٨

وبلا عوض ؛ بل كان وجوده المطلق مطلوبا كالصناعات الواجبة كفائية ؛ التي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد ، ويختل لولاها معاش العباد ، بل ربما يجب أخذ الأجرة عليها لذلك ، أي : لزوم الاختلال وعدم الانتظام لو لا أخذها (١) ، هذا (٢) في الواجبات التوصلية.

وأما الواجبات التعبدية : فيمكن (٣) أن يقال : بجواز أخذ الأجرة على إتيانها

______________________________________________________

الأجرة عليه ؛ بل يجوز أخذ الأجرة على الواجبات التعبدية إذا كان أخذها من قبيل الداعي إلى الداعي كي لا ينافي عباديتها.

(١) أي : لو لا أخذ الأجرة لزم اختلال النظام ، فيجب أخذ الأجرة على ما يتوقف عليه النظام.

(٢) أي : ما ذكرناه من جواز أخذ الأجرة إنما هو في الواجبات التوصلية.

(٣) أي : قوله : «فيمكن أن يقال بجواز أخذ الأجرة ...» إلخ إشارة إلى دفع الإشكال على أخذ الأجرة على الواجبات التعبدية ، فلا بد أولا من بيان الإشكال وثانيا : من بيان الدفع.

أما الإشكال على جواز أخذ الأجرة على العبادة فهو بوجهين :

أحدهما : منافاة الأجرة لقصد القربة ؛ لأن الداعي إلى فعلها هو الأجرة لا القربة ، فعدم جواز أخذ الأجرة مستند إلى فوات شرط صحة العبادة ، وما به قوام عباديتها.

ثانيهما : أن أخذ الأجرة بإزاء الواجبات العبادية يكون أكلا للمال بالباطل ضرورة :

أنه يشترط في صحة الإجارة ـ كغيرها من العقود المعاوضية ـ وجود نفع يعود إلى المستأجر عوضا عن الأجرة ، إذ لولاه لزم خلاف مقتضى المعاوضة ، ولا يوجد في العبادات الواجبة نفع حتى يعود إلى المستأجر ، فيكون أخذ المال بإزائها أكلا بالباطل. وهذا ما أشار إليه بقوله : «غاية الأمر : يعتبر فيها ، كغيرها ... إلخ».

هذا تمام الكلام في الإشكال بالوجهين.

وأما توضيح ما أفاده في دفع الوجه الأول ؛ فيتوقف على مقدمة وهي : إن الأجرة تارة : تبذل بإزاء نفس الواجب ، وأخرى : تبذل لإحداث الداعي إلى الإتيان بالواجب وإيجاده بداعي أمره. والفرق بينهما هو : أن بذل الأجرة بإزاء نفس الواجب العبادي ينافي القربة المعتبرة في عبادية الواجب ، هذا بخلاف بذل الأجرة لإحداث الداعي إلى إيجاد العمل الواجب بداعي أمره ، فلا ينافي عباديته ؛ بل تقع العبادة عن دعوة أمرها. غاية الأمر : يكون الداعي إلى إتيانها بدعوة أمرها هو أخذ الأجرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ما ذكر من الإشكال أعني : منافاة الأجرة لقصد

١٩٩

بداعي امتثالها ؛ لا على نفس الإتيان ، كي ينافي عباديتها ، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي ، غاية الأمر : يعتبر فيها ـ كغيرها ـ أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستأجر ؛ كي لا تكون المعاملة سفهية ، وأخذ الأجرة عليها أكلا بالباطل.

وربما يجعل من الثمرة (١) ، اجتماع الوجوب والحرمة ـ إذا قيل بالملازمة ـ فيما

______________________________________________________

القربة إنما يصح فيما إذا كان بذل الأجرة بإزاء نفس الواجب ، حيث يكون الداعي إلى العبادة حينئذ هو الأجرة لا القربة.

وأما إذا كان بذل الأجرة لإحداث الداعي ؛ بأن يكون أخذ الأجرة داعيا إلى الإتيان بالعبادة بداعي أمرها ، فلا ينافي عباديتها ، هذا ما أشار إليه بقوله : «فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي». هذا تمام الكلام في دفع الوجه الأول من الإشكال.

أما دفع الوجه الثاني : فتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : تارة : يأخذ المكلف الأجرة لإتيان فرائضه اليومية. وأخرى : يأخذها لأداء ما فات عن الميت من الفرائض.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ما ذكر من أن أخذ الأجرة بإزاء الواجبات العبادية يكون أكلا للمال بالباطل إنما يصح فيما إذا كان أخذ الأجرة لإتيان فرائضه اليومية ، إذ حينئذ لا يعود نفع إلى الباذل للأجرة. وأما إذا كان أخذ الأجرة لأداء ما فات عن الميت من الفرائض فلا بأس بأخذ الأجرة ، إذ لا يلزم منه هذان الإشكالان.

وأما عدم لزوم الإشكال الأول ، فلما عرفت من : عدم كون الأجرة بإزاء نفس العمل حتى تنافي قصد القربة ، وإنما هي لإحداث الداعي إلى إيجاد العمل بداعي أمره ، وأمّا عدم لزوم الإشكال الثاني : فلفراغ ذمّة الميّت بفعل الأجير ، فشرط صحة الإجارة وهو عود نفع إلى المستأجر وباذل الأجرة موجود هنا.

(١) أي : نسبت إلى الوحيد البهبهاني ثمرة رابعة وهي : اندراج مقدمة الواجب ـ على القول بوجوبها ـ في صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي جهتين ، إذا كانت المقدمة محرمة ، كالوضوء بالماء المغصوب مثلا ، فإن قلنا : بجواز اجتماعهما اتصف الوضوء بالوجوب ، كما هو يتصف بالحرمة.

وأما على القول بامتناع الاجتماع : فالوضوء إما واجب ترجيحا لمصلحة الوجوب على مفسدة الحرمة ، وإما حرام ترجيحا لمفسدة الحرمة على مصلحة الوجوب على اختلاف بين الأعلام ، وأما على القول بعدم وجوب المقدمة شرعا فهو حرام فقط ، ولا ربط له بمسألة اجتماع الأمر والنهي أعني : ليست مسألة مقدمة الواجب من صغريات تلك المسألة.

٢٠٠