دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

وقد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه (١) بوجوه ، حيث قال بعد بيان أن التوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب (٢) ، ما هذا لفظه : «والذي (٣) يدلك على هذا ـ يعني الاشتراط بالتوصل ـ أن وجوب المقدمة لمّا كان من باب الملازمة العقلية ، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور ، وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم : أريد الحج ، وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب ، دون ما لم يتوصل به إليه ، ...

______________________________________________________

(١) أي : ما ذهب إليه صاحب الفصول من وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

(٢) أي : لأن اشتراط وجوب المقدمة بوجود ذيها يقتضي اشتراطه بوجود نفسها أيضا ، إذ المفروض : كونها من علل وجود ذيها ، ولا معنى لوجوب شيء بشرط وجوده لامتناع طلب الحاصل.

وبعبارة أخرى : أنه يعتبر في وجود المقدمة بعنوان المقدمية التوصل بها إلى الواجب ، بحيث لو أتى بذات المقدمة بغير ذيها لم تكن تلك الذات مقدمة ، وليس وجوب المقدمة مشروطا بالتوصل ؛ بحيث لو لم يتوصل كانت مقدمة ولم تكن واجبة ، إذ لو كان وجوب المقدمة مشروطا بوجود ذيها ووجود ذيها مشروطا بوجودها ، لزم كون وجوب المقدمة مشروطا بوجودها ، وهو ممتنع لامتناع تحصيل الحاصل.

(٣) أي : وحاصل ما أفاده صاحب الفصول ـ في كلامه المحكي في المتن ـ مؤلف من براهين ثلاثة :

الأول : أن المتيقن من حكم العقل بوجوب المقدمة هو خصوص الموصلة ، وقد أشار إليه بقوله : «إن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية ، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور» أي : الاشتراط بالتوصل.

الثاني : أن العقل يجوّز تصريح الآمر الحكيم بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة ، فيجوز أن يقول : إني لا أريد المسير غير الموصل إلى مناسك الحج ، بل أريد خصوص المسير الموصل إليها» ، ولو كان الواجب مطلق المقدمة لم يكن وجه لهذا الجواز. وقد أشار إليه بقوله : «وأيضا لا يأبى العقل أن يقول الآمر الحكيم ...» إلخ.

الثالث : أن الأمر تابع للغرض الداعي إليه سعة وضيقا كما مر سابقا ، والعقل يدرك أن الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلّا التوصل بها إلى ذي المقدمة ، فلا يحكم إلّا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة. وقد أشار إليه بقوله : «وأيضا حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل ...» إلخ.

١٦١

بل الضرورة (١) قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك (٢) ، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها (٣) له مطلقا ، أو على تقدير التوصل بها إليه ، وذلك (٤) آية عدم الملازمة بين وجوبه ووجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه ، وأيضا (٥) حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلا جرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها.

______________________________________________________

(١) أي : بل الضرورة العرفية قاضية بجواز تصريح الآمر الحكيم بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة ، كما أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبية مطلق المقدمة وإن كانت موصلة ، أو بعدم مطلوبية خصوص الموصلة ، فإن جواز التصريح عرفا بترك مطلوبية غير الموصلة ، ومن المعلوم : أن قبح التصريح بعدم مطلوبية مطلق المقدمة ، أو خصوص الموصلة آية عدم الملازمة عقلا بين وجوب ذي المقدمة ، وبين وجوب مطلق المقدمة ، ضرورة : عدم جواز التصريح بترك مطلوبية مطلق المقدمة ، أو خصوص الموصلة مع الملازمة المذكورة ؛ بل الملازمة تكون بين وجوب الواجب وبين وجوب خصوص مقدمته الموصلة. كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٣١٣» مع تصرف ما.

(٢) أي : إرادة السير الموصل إلى الحج ، وعدم إرادة السير غير الموصل إليه.

(٣) أي : المقدمة ، أي : كما أن الضرورة قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبية المقدمة للآمر مطلقا.

(٤) أي : جواز التصريح أو قبحه دليل عدم الملازمة بين الواجب ومقدمته غير الموصلة.

(٥) هذا إشارة إلى البرهان الثالث الذي تقدم بيانه ، فإن الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة حيث كان هو التوصل ، وغير الموصلة حيث لا توصّل فيها لا تكون متعلقة للغرض ، فلا تكون واجبة ؛ لأن المطلوب بالمقدمة هو التوصل بها إلى الواجب وحصول الواجب بها ، فلا محالة يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها ، وعلى هذا : فلا تكون المقدمة «مطلوبة إذا انفكت عنه» أي : عن التوصل.

وخلاصة الكلام : أن صاحب الفصول قد استدل على مختاره بوجوه ثلاثة :

الأول : أن وجوب المقدمة يكون بحكم العقل مستقلا بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، والمتيقن من حكم العقل هو : وجوب المقدمة الموصلة.

الثاني : هو جواز التصريح عقلا بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة ، ولازم هذا التصريح هو : وجوب خصوص الموصلة.

١٦٢

فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه ، وصريح الوجدان قاض : بأن من يريد شيئا بمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ، ويلزم منه أن يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله. انتهى موضع الحاجة من كلامه ، «زيد في علو مقامه».

وقد عرفت (١) بما لا مزيد عليه : أن العقل الحاكم بالملازمة : دل على وجوب مطلق المقدمة ، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب ، فيما لم يكن هناك مانع عن وجوبه ، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا بالحرمة ؛ لثبوت مناط الوجوب حينئذ في مطلقها (٢) ، وعدم اختصاصه بالمقيد بذلك (٣) منها.

وقد انقدح منه (٤) : إنه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح ،

______________________________________________________

الثالث : أن الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلّا التوصل بها إلى ذيها ، فكل مقدمة واجدة لهذا الغرض واجبة ، كما أن كل مقدمة فاقدة لهذا الغرض غير واجبة ، فلا يحكم العقل إلّا بوجوب خصوص الموصلة.

(١) هذا شروع من المصنف في الجواب عن الوجه الأول وحاصله : أن العقل الحاكم بالملازمة بين وجوبي المقدمة وذيها يحكم بوجوب مطلق المقدمة ؛ سواء كانت موصلة أو غير موصلة لا خصوص الموصلة ، وذلك لوجود ملاك الوجوب الغيري المقدمي ـ وهو تمكن المكلف من الإتيان بذي المقدمة ـ في مطلق المقدمة ، ومع اشتراك الملاك فلا وجه لتخصيص الوجوب بالموصلة ، فالوجوب ثابت لمطلق المقدمة ؛ إلّا إذا كان هناك مانع عن اتصاف بعض أفرادها بالوجوب ؛ كما إذا كان محكوما فعلا بالحرمة.

وبعد حكم العقل بوجوب المقدمة ـ لأجل تمكن المكلف من الإتيان بذيها ـ لا يبقى له تردد حتى يحكم من باب القدر المتيقن بوجوب خصوص الموصلة ، فيندفع حينئذ الدليل الأول على وجوب خصوص المقدمة الموصلة ، ومنه يظهر : بطلان الوجهين الأخيرين ، إذ مع عدم تردد العقل لا يحكم بوجوب خصوص الموصلة ، كما لا يحكم بجواز التصريح بعدم وجوب غير الموصلة ؛ لعدم تردده في الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة ؛ وهو تمكن المكلف من الإتيان بالواجب ، وسيأتي الجواب عن خصوص الوجه الثاني والثالث في كلام المصنف ، فانتظر.

(٢) لثبوت مناط الوجوب حين عدم المانع عن وجوب مطلق المقدمة في مطلق المقدمة.

(٣) أي : عدم اختصاص الوجوب بما يترتب عليه الواجب من المقدمة.

(٤) أي : قد ظهر من ثبوت الملاك في مطلق المقدمة وعدم اختصاصه بالمقدمة الموصلة ـ أنه ليس للآمر ـ المراعي للحكمة التصريح بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة في

١٦٣

وأن دعوى : أن الضرورة قاضية بجوازه مجازفة (١) ، كيف يكون ذا (٢) مع ثبوت الملاك في الصورتين بلا تفاوت أصلا؟ كما عرفت (٣).

نعم (٤) ؛ إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في إحداهما ، وعدم حصوله في الأخرى ، من دون دخل لها (٥) في ذلك أصلا ؛ بل كان بحسن

______________________________________________________

أوامره ونواهيه ؛ لكونه خلاف حكم العقل ، فهذا الكلام من المصنف شروع في الجواب عن الوجه الثاني ، فما ذكره صاحب الفصول في الوجه الثاني من : أن الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بذلك ممنوع ؛ بل ليس للآمر الحكيم ذلك التصريح بأن يقول : لا أريد المقدمة التي لا يتوصل بها إلى الواجب.

(١) أي : أن دعوى صاحب الفصول بأن الضرورة قاضية بجواز التصريح مجازفة ، أي : حكم بلا دليل أصلا.

(٢) أي : «كيف يكون ذا» أي : جواز التصريح بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة مع ثبوت الملاك ـ وهو تمكن المكلف من الإتيان بالواجب ـ «في الصورتين» ، وهما ترتب ذي المقدمة على المقدمة وعدمه.

(٣) أي : عرفت غير مرة في ردّ الشيخ الأنصاري حيث قال باعتبار قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب ، وقلنا هناك : إنه ليس الغرض من المقدمة إلّا حصول التمكن على الواجب.

(٤) هذا استدراك على قوله : «بلا تفاوت أصلا» أي : لا تفاوت بين الموصلة وغيرها إلّا في حصول الواجب النفسي في الموصلة ، وعدمه في غيرها ، لكن هذا لا يوجب تفاوتا بينهما في ملاك الوجوب ، الذي هو المهم والمناط في وجوب المقدمة.

(٥) أي : من دون دخل للمقدمة «في ذلك» الحصول وعدمه ؛ بل حصول الواجب بعد المقدمة إنما هو مستند إلى حسن اختيار المكلف ، كما أن عدم حصوله مستند إلى سوء اختياره ؛ لأن ما كان من طرف المقدمة تامّ في كلتا الصورتين ، ومن لوازم التفاوت المزبور هو : جواز تصريح الآمر بحصول المطلوب النفسي في المقدمة الموصلة ، وعدم حصوله في الأخرى ، إلّا إن هذا ليس كجواز التصريح بعدم مطلوبية المقدمة غير الموصلة ، ـ كما هو في الفصول ـ لما عرفت : من عموم ملاك الوجوب للمقدمة مطلقا وإن لم تكن موصلة ، فالتصريح بعدم مطلوبية غير الموصلة ، مع عموم ملاك الوجوب قبيح ، فالشاهد العرفي الذي أقامه صاحب الفصول بقوله : «بل الضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك» لا يشهد بما رامه صاحب الفصول. وقوله : «جاز» جواب حيث في قوله : «وحيث إن الملحوظ بالذات ...» إلخ.

١٦٤

اختيار المكلف وسوء اختياره ، وجاز للآمر أن يصرح بحصول هذا المطلوب في إحداهما ، وعدم حصوله في الأخرى ؛ «بل من» حيث إن الملحوظ بالذات هو هذا المطلوب ، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه ، كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعي ، جاز في صورة عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب أصلا لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة ، فضلا عن كونها (١) مطلوبة ، كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها ، كما لا يخفى فافهم (٢).

إن قلت : (٣) لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلية دون الأخرى ، أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها ، وجواز التصريح بهما ، وإن لم يكن بينهما تفاوت في الأثر ، كما مر.

قلت (٤) : إنما يوجب ذلك تفاوتا فيهما ، لو كان ذلك لأجل تفاوت في ناحية المقدمة ؛

______________________________________________________

(١) أي : فضلا عن الالتفات إلى كون المقدمة مطلوبة ، إذ مع عدم الالتفات إلى أصل الشيء لا التفات إلى صفته.

(٢) لعله إشارة إلى : أن تصريح المولى بعدم حصول غرضه أصلا في صورة عدم إيجاد ذي المقدمة بعد الإتيان بالمقدمة ليس بصحيح ؛ لحصول غرضه الأدنى وهو تمكنه من الإتيان بالواجب بعد الإتيان بمقدمته ، ولهذا الغرض تتصف المقدمة بالوجوب الغيري. نعم ؛ إن الغرض الأقصى ـ وهو ترتب الواجب على المقدمة ـ غير حاصل.

(٣) أي : قد اعترض من جانب صاحب الفصول على المصنف بأنه : لعل اتصاف الموصلة بوصف الموصلية موجب لاختصاص حكم العقل بوجوبها دون غير الموصلة ، إذ ليس له هذا العنوان وإن كان شريكا مع الموصلة في الأثر وهو حصول التمكن للمكلف على فعل الواجب النفسي ؛ لأن حكم العقل على أفراد طبيعة واحدة بحكم واحد مبني على كونها متساوية الأقدام في نظره ، وإلّا كان حكمه عليها مختلفا ، وحينئذ يمكن أن يقال : إن تفاوت المقدمة الموصلة مع غيرها في نظر العقل أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها ، فالمقدمة الموصلة بملاحظة عنوان الموصلية صارت واجبة ، وغير الموصلة بملاحظة فقدان وصف الموصلية لم تصبح واجبة.

فهذا الوصف والعنوان موجبان للتفاوت بين الموصلة وبين غير الموصلة في نظر العقل الحاكم بالملازمة.

(٤) قد أجاب المصنف عن الاعتراض : بأن وصف الموصلية ووصف غير الموصلية

١٦٥

لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا ـ كما هاهنا ـ ضرورة : أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب ، وترتبه عليها من دون اختلاف في ناحيتها ، وكونها في كلتا الصورتين على نحو واحد وخصوصية واحدة ، ضرورة (١) : إن الإتيان بالواجب بعد الإتيان بها بالاختيار تارة ، وعدم الإتيان به كذلك أخرى لا يوجب (٢) تفاوتا فيها ، كما لا يخفى.

وأما ما أفاده (٣) «قدس‌سره» من أن مطلوبية المقدمة ـ حيث كانت ـ بمجرد التوصل بها فلا جرم يكون التوصل بها إلى الواجب معتبرا فيها.

______________________________________________________

يوجبان التفاوت بينهما إذا كانا موجبين للتفاوت في ناحية المقدمة ؛ بمعنى : أن تكون الموصلة مقدمة وجودية للواجب النفسي ، وأن لا تكون المقدمة غير الموصلة مقدمة له ، لكنهما ليستا كذلك ؛ بل كلتاهما مقدمة للواجب النفسي ؛ لأن عنوان الموصلية أمر انتزاعي لكونه منتزعا عن ترتب ذي المقدمة ، على المقدمة باختيار المكلف.

ومن المعلوم : أن هذا الترتب وعدمه الناشئين من اختياره أجنبيان عن مقدمية المقدمة ، ولا دخل لهما فيها ، فالمقدمة في كلتا الصورتين تامة في مقدميتها في نظر العقل ، فلا بد أن يشمل حكمه مطلق المقدمة ؛ بلا فرق بين الموصلة وغيرها في نظره.

قوله : «ضرورة» تعليل لعدم تفاوت في ناحية المقدمة.

وحاصل التعليل : إن الموصلية ليست من الأوصاف المنوعة حتى تكون الموصلة نوعا مغايرا للمقدمة غير الموصلة ؛ لأن الموصلية كما عرفت من الأمور الانتزاعية ، وليست إلّا منتزعة عن وجود الواجب ، وترتبه على المقدمة ، فالموصلية تكون في المرتبة المتأخرة عن نفس المقدمة ، وغاية لها ، وليست في رتبتها حتى تكون منوعة لها ، وتنقسم بها إلى قسمين : موصلة وغيرها فإن الصفات المنوعة للشيء لا بد أن تكون مقارنة له في الوجود ، وليست الغاية منها لتأخرها عن ذيها كتأخر وجود ذي المقدمة ـ الذي هو غاية المقدمة كما هو المفروض ـ عن نفس المقدمة ، نظير سائر الغايات المتأخرة عن ذواتها ؛ كما في «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٣٢١».

(١) تعليل لكون المقدمة في الصورتين على نحو واحد.

(٢) خبر ـ إن ـ في قوله : «إن الإتيان بالواجب» يعني : أن الإتيان بالواجب بعد الإتيان بالمقدمة تارة ، وعدم الإتيان به أخرى لا يوجب تفاوتا في المقدمة من حيث ملاك المقدمية ؛ وهو التمكن والاقتدار على فعل الواجب.

(٣) هذا شروع من المصنف في الجواب عن الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها صاحب الفصول على وجوب خصوص المقدمة الموصلة ؛ بتقريب : إن وجوب المقدمة لمّا كان لأجل التوصل بها إلى ذيها ؛ فلا جرم يكون التوصل المزبور معتبرا في مطلوبية

١٦٦

ففيه : (١) إنه إنما كانت مطلوبيتها لأجل عدم التمكن من التوصل بدونها ؛ لا لأجل التوصل بها ، لما عرفت : من إنه (٢) ليس من آثارها ؛ بل مما يترتب عليها أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى ، وهي (٣) مبادئ اختياره ، ولا يكاد يكون مثل ذا (٤) غاية لمطلوبيتها وداعيا إلى إيجابها ، وصريح الوجدان (٥) إنما يقضي بأن ما أريد لأجل غاية ، وتجرد

______________________________________________________

المقدمة ، فلا تكون مطلوبية إن لم يترتب عليها ذو المقدمة.

(١) هذا جواب قوله : «وأما ما أفاده».

وحاصل هذا الجواب : أن الغرض من الأمر بالمقدمة هو : حصول التمكن من الواجب لا التوصل بها إلى ذيها كي يكون التوصل دخيلا في مطلوبيتها ؛ بحيث إذا انفكت عنه لم تكن مطلوبة أصلا ، وذلك لما عرفت : من إن التوصل بها ليس من آثار تمام المقدمات في المباشريات ـ فضلا عن واحدة منها ـ بل مما يترتب عليها أحيانا باختيار المكلف بمبادئه الخاصة.

وكيف كان ؛ فمرجع هذا الجواب إلى منع الصغرى وهي : كون مطلوبية المقدمة لأجل التوصل بها إلى ذيها ، بحيث يترتب عليها الواجب ترتب المعلول على علته ، كالمسببات التوليدية ، ضرورة : عدم التوصل الفعلي بالمقدمة إلى ذيها ، فمطلوبية المقدمة إنما هي لأجل : عدم التمكن من إيجاد الواجب بدونها كما عرفت غير مرة ؛ لا لأجل التوصل بها إليه فعلا ، لوضوح : عدم ترتب وجود ذي المقدمة على مجرد وجود المقدمة ، فالأثر المترتب على المقدمة الداعي إلى إيجابها هو التمكن من إيجاد ذيها ؛ لا ترتب الواجب عليها ، حتى يكون معروض الوجوب المقدمي خصوص المقدمة الموصلة ، فترتب الواجب على المقدمة ليس أثرا لها حتى يكون ذلك الأثر غاية داعية إلى تشريع وجوب خصوص المقدمة الموصلة ؛ بل الغاية إنما هو التمكن ، وهو حاصل بمجرد وجود المقدمة.

(٢) أي : التوصل ليس من آثار المقدمة ؛ بل التوصل مما يترتب على المقدمة أحيانا بواسطة الاختيار.

(٣) أي : والمقدمات الأخرى هي مبادئ الإرادة الموجودة في كل فعل اختياري.

(٤) أي : مثل هذا التوصل الفعلي المترتب على المقدمة اتفاقا بحسن اختيار المكلف ؛ لا يكون غاية لمطلوبية المقدمة ، وداعيا إلى إيجابها ؛ لما عرفت سابقا : من أن ما لا يكون أثرا لشيء لا يمكن أن يكون غاية له.

(٥) هذا ـ هو الجواب الثاني ـ يكون ناظرا إلى ردّ ما ادعاه صاحب الفصول بقوله : «وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا ...» إلخ.

وحاصل ردّ المصنف عليه : أن صريح الوجدان قاض بحصول المطلوب الغيري ، مع

١٦٧

عن الغاية بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في حصولها يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية.

كيف؟ وإلّا يلزم أن يكون وجودها من قيوده ومقدمة ؛ لوقوعه على نحو تكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها.

وهو (١) كما ترى ، ضرورة : (٢) أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية ، بحيث

______________________________________________________

تجرده عن المطلوب النفسي ، فإن قطع المسافة إلى مكة المعظمة ـ الذي هو المطلوب الغيري ـ حاصل ، ولو مع التجرد عن المناسك بسبب عدم تحقق سائر ما له دخل في حصولها «يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية» ؛ أي : أن ما أريد يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية ، ووقوع المطلوب بحكم الوجدان ؛ مع تجرده عن المطلوب النفسي أقوى شاهد على عدم دخل وجود المطلوب النفسي في مطلوبية المقدمة ، «كيف؟ وإلّا يلزم ...» إلخ ، أي : كيف لا تقع المقدمة المجردة عن ذيها على صفة المطلوبية؟ والحال : أنه إن لم تقع على هذه الصفة «يلزم أن يكون وجودها من قيوده ومقدمة له».

أي : وإن لم تقع المقدمة على صفة المطلوبية الغيرية ، «يلزم أن يكون وجودها» أي : الغاية من قيود ما أريد من المقدمة ومقدمة له ؛ بمعنى : أن الغاية بناء على وجوب المقدمة المقيدة بالإيصال ؛ تكون مقدمة لوقوع المقدمة على نحو تكون الملازمة بين وجوبها بقيد الإيصال ، وبين وجود ذيها ، فوجوبها بقيد الإيصال يكون متوقفا على وجود ذيها ، فالمقدمة متأخرة رتبة عن وجود ذيها ، وهذا خلف ؛ لأن المفروض : تقدم المقدمة على ذيها ؛ «على نحو تكون الملازمة بين وجوبه» أي : وجوب ما أريد من المقدمة «بذاك النحو» ؛ أي : الوجوب الغيري ، «ووجوبها» أي : الغاية التي وجبت المقدمة لأجلها.

(١) أي : كون الغاية من قيود المقدمة ـ كما ترى ـ من اللوازم الباطلة ؛ المترتبة على وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

(٢) تعليل لبطلان هذا اللازم ، وحاصله ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٣٢٥» ـ أن قول الفصول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ؛ مستلزم لمحذورين : أحدهما : الدور ، والآخر : اجتماع المثلين.

أما الأول : فلأن قضية كون ذي المقدمة من قيود المقدمة هي : توقف وجود المقدمة عليه ، فيصير ذو المقدمة مقدمة ، فيتوقف وجوبه على وجوب المقدمة ؛ لأن المفروض : أن ذا المقدمة صار مقدمة للمقدمة ، ومن المعلوم : أن وجوب المقدمة مترشح من وجوب ذي المقدمة ـ وهو المقدمة على الفرض ـ فيكون وجوب كل من المقدمة وذيها متوقفا على

١٦٨

كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية ، وإلّا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه كسائر قيوده ، فلا (١) يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها ، كما أفاده.

ولعل منشأ توهمه : (٢) خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية. هذا مع ما عرفت من

______________________________________________________

وجوب الآخر ؛ لفرض كل منهما مقدمة للآخر.

وأما الثاني : فلأن ذا المقدمة واجب نفسيّ كما هو ظاهر ، وغيري لصيرورته مقدمة ، واجتماع المثلين محال ، ولا مجال للتأكد ، وذلك لأجل الطولية حيث إن أحدهما علة للآخر.

وكيف كان ؛ فقوله : «كيف؟ وإلّا يلزم ...» إلخ إشارة إلى الاستدلال على بطلان القول بوجوب المقدمة الموصلة ببعض لوازمه الفاسدة ؛ وهو : كون ذي المقدمة قيدا للمقدمة ، ومرجعه إلى منع الكبرى ، وهي اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة بعد فرض تسليم الصغرى ؛ وهي : كون الغرض من المقدمة التوصل إلى ذيها ، وذلك : أن وجوب خصوص المقدمة الموصلة يستلزم كون وجوب ذيها من قيودها ، إذ المفروض : إن المقدمة لا تتصف بالوجوب إلّا بعد وجود ذيها ، وهو يقتضي كون وجود ذيها مقدمة لها ، فتتوقف هي عليه ، والمفروض : أنها هي المقدمة لوجود ذيها ، وهو يتوقف عليها ، وليس هذا إلّا الدور الباطل ، كما عرفت.

والمتحصل مما ذكرناه : أنه لو كان وقوع الواجب في الخارج شرطا لوجوب مقدمته لزم الدور ؛ لأن وجوب المقدمة متوقف على وجوب ذيها ، فلو كان ذوها من قيودها صار مقدمة للمقدمة ، فيتوقف وجوبه على وجوب مقدمته ، وهو الدور الباطل.

(١) أي : فلا يكون وقوع ذي الغاية أي : المقدمة على صفة الوجوب منوطا بحصول الغاية ؛ أي : ذي المقدمة كما أفاده صاحب الفصول ، حيث إنه جعل وجود المطلوب النفسي قيدا للمقدمة ، فقوله : «فلا يكون وقوعه ...» إلخ نتيجة استحالة كون الواجب النفسي قيدا للمقدمة ، يعني : فبناء على هذه الاستحالة لا يكون وقوع المقدمة على صفة الوجوب منوطا بحصول ذي المقدمة.

(٢) لعل منشأ توهم صاحب الفصول ـ حيث توهم وجوب خصوص المقدمة الموصلة ـ خلطه بين الجهة التقييدية والجهة التعليلية ، أي : كأن صاحب الفصول قد خلط بينهما ، فجعل ما هو الجهة التعليلية جهة تقييدية ؛ بمعنى : أن التوصل بالمقدمة إلى ذيها علة لوجوب المقدمة ، فيكون من الجهات التعليلية ، ولكن صاحب الفصول

١٦٩

عدم التخلف هاهنا ، وأن الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي ، فافهم (١) واغتنم.

______________________________________________________

جعله قيدا لمتعلق الوجوب ومعروضه ، وقال : إن المقدمة الواجبة هي المقيدة بالإيصال ؛ نظير قيدية الإيمان للرقبة في قوله : «أعتق رقبة مؤمنة» ، فيكون التوصل من الجهات التقييدية.

وبعبارة أخرى : قال صاحب الفصول : إن التوصل غاية وجوب المقدمة ، فإن لم تحصل هذه الغاية لا تكون المقدمة واجبة ، وزعم : أن الغاية قيد وجوب المقدمة.

وقبل المناقشة في هذا الخلط نذكر الفرق بين الجهة التعليلية ، والجهة التقييدية ، فنقول : إن الفرق بينهما أولا : أن الأولى : من مبادئ نفس الحكم وعلله. والثانية : من قيود متعلق الحكم ومعروضه.

وثانيا : أن الجهة التعليلية لو ذهبت أمكن بقاء الحكم المعلل ؛ لإمكان مدخلية العلية حدوثا لا بقاء ؛ كنجاسة الماء المتغير ، فإن النجاسة مستندة إلى التغيّر ، ومع ذلك لو ذهب التغير بقيت النجاسة ، هذا بخلاف الجهة التقييدية حيث ينتفي بانتفائها متعلق الحكم ، وينتفي الحكم بانتفاء متعلقه ، أما انتفاء متعلق الحكم فلأجل انتفاء المقيد بانتفاء القيد.

وثالثا : أنه يجري الاستصحاب في مورد الجهة التعليلية عند انتفائها لو شك في بقاء الحكم ، ولا يجري في مورد الجهة التقييدية عند انتفائها ؛ لتبدل الموضوع.

وحاصل الكلام في المقام : أن ما ذكره صاحب الفصول من اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة إنما يتم أولا : فيما إذا كان التوصل بالمقدمة إلى ذيها قيدا لمتعلق الحكم ، وليس كذلك. وإنما يصح ثانيا : فيما إذا كان التوصل غاية لوجوب المقدمة ، فإذا لم تحصل هذه الغاية لا تكون المقدمة واجبة ، وليس كذلك ؛ لما عرفت : من أن الغاية هي التمكن لا التوصل ، والتمكن لا يتخلف في جميع المقدمات. هذا ما أشار إليه «من عدم التخلف هاهنا» أي : في المقدمة غير الموصلة ؛ لأن الغاية الموجبة لوجوب المقدمة هو التمكن والاقتدار على إتيان الواجب.

(١) لعله إشارة إلى دقة المطلب ، وقوله : «واغتنم» إشارة إلى أنه لم يسبقه في التحقيق أحد من الأصوليين.

والمتحصل من جميع ما ذكر : أن للفصول كلامين : الأول : أن الغاية لوجوب المقدمة هي التوصل.

الثاني : أن التوصل غير حاصل فيما إذا لم يأت المكلف بذي المقدمة ، فلا تكون المقدمة حينئذ واجبة.

١٧٠

ثم إنه (١) لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها ؛ إلّا

______________________________________________________

والجواب عن الأول : أن الغاية هي إمكان التوصل ، وتمكن المكلف عن الإتيان بالواجب.

وعن الثاني : إنه على تقدير كون الغاية هي التوصل ؛ لكن التوصل على نحو الجهة التعليلية ، فالمقدمة تكون واجبة ولو لم يؤت بذيها في الخارج ؛ لما سبق من أن العلة يمكن أن تكون دخيلة في الحكم حدوثا لا بقاء.

(١) الضمير للشأن ، وقيل : إنه لم يوجد في كلام صاحب الفصول استشهاد ؛ لاعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة ؛ بصحة منع المولى عن المقدمات بأنحائها إلّا الموصلة منها ، فيكون هذا الكلام من المصنف «قدس‌سره» إشارة إلى دليل آخر على وجوب خصوص المقدمة الموصلة ، وهذا الدليل منسوب إلى السيد الفقيه صاحب العروة «قدس‌سره».

وحاصل استدلال صاحب العروة ـ على اختصاص الوجوب الغيري بالموصلة على الطريق الآخر ـ أن جواز تحريم المولى المقدمات بأنحائها إلّا الموصلة يدل على عدم وجوب غير الموصلة منها ، وأن الواجب منها هو خصوص الموصلة ، إذ لو وجب غيرها لما جاز تحريم المولى إياه ، فجواز المنع عن جميع المقدمات إلّا الموصلة دليل على عدم وجوب ما عداها ، وعلى وجوب خصوص الموصلة وهو المطلوب. فقد انحصر الوجوب التبعي بالمقدمة الموصلة. فهذا كاشف عن أن وجوب المقدمة مشروط بالتوصل ، وغير الموصلة غير واجب أصلا.

وقد أجاب المصنف عن هذا الدليل بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «لو سلم» ، وحاصله : أن النهي عن جميع المقدمات إلّا الموصلة منها محل نظر ؛ لأنه مستلزم لأمر محال ، وسيأتي توضيحه في كلام المصنف ، فانتظر.

وقوله : «أصلا» ـ قيد لقوله : «لا شهادة» ، فمعنى العبارة : لا شهادة على اعتبار وجوب الموصلة أصلا لو سلم جواز هذا المنع.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «ضرورة» ، وحاصله : أن عدم اتصاف ما حرم من المقدمات بالوجوب إنما هو لوجود المانع ، وهو : تحريم الشارع له ، لا لعدم المقتضي ، فجواز المنع عن المقدمة غير الموصلة لا يدل على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ؛ وذلك للفرق بين هذا المقام وبين ما نحن فيه.

وخلاصة الفرق : أن انحصار الوجوب بالمقدمة الموصلة ـ في استدلال صاحب العروة

١٧١

فيما إذا رتب عليه الواجب لو سلم أصلا ، ضرورة : أنه وإن لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة ، إلّا إنه

ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب المقدمة ؛ بل لأجل المنع عن غيرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

«قدس‌سره» ـ إنما هو بملاحظة النهي من المولى عن المقدمات الأخر ، والنهي مانع عن تعلق الوجوب الغيري بها ، هذا بخلاف ما نحن فيه ؛ فالمفروض : هو وجوب المقدمات المباحة سواء كانت موصلة أو غيرها ، ومع هذا الفرق فقياس ما نحن فيه بالمثال المذكور ـ في استدلال صاحب العروة ـ قياس مع الفارق ، فلا يدل على انحصار الوجوب بالموصلة في كل المواضع.

وقد أشار إلى الوجه الأول من الجواب بقوله : «مع أن في صحة المنع كذلك نظر». وهذا ما سبق الوعد بقولنا : فانتظر ، وحاصل هذا الجواب على ما في «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٣٢٩» ـ : أن في صحة المنع عن المقدمات ، إلّا الموصلة إشكالا ، وهو : أنه يلزم من هذا المنع أحد محذورين : وهما : طلب تحصيل الحاصل ، وعدم كون ترك الواجب النفسي مخالفة وعصيانا ، وتوضيحه منوط ببيان أمور مسلمة :

الأول : إن المانع الشرعي كالمانع العقلي ، فالإخلال بواجب لمانع شرعي لا يعد عصيانا ومخالفة موجبة لاستحقاق المؤاخذة.

الثاني : أن الحكم المترتب على عنوان لا يحصل إلّا بتحقق ذلك العنوان ، فإن أنيط ذلك العنوان بشيء فلا بد من توقفه على ذلك الشيء.

وبالجملة : فالمقيد بما هو مقيد لا يترتب عليه الحكم إلّا بعد وجود قيده.

الثالث : أن تحصيل الحاصل محال ؛ فلا يتعلق الطلب بما هو حاصل لعدم القدرة عليه كما هو واضح.

إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم : أن النهي عن المقدمات إلّا الموصلة يستلزم عدم كون ترك الواجب النفسي عصيانا ، إذ المفروض : أن تركه مستند إلى المانع الشرعي وهو : النهي عن مقدماته ، وقد عرفت : أن الممنوع شرعا كالممنوع عقلا ، هذا هو أحد المحذورين.

وأما المحذور الآخر ـ وهو طلب تحصيل الحاصل ـ : فلأن عنوان الموصلية لا يحصل للمقدمة إلّا بعد ترتب ذي المقدمة عليها ، فإذا ترتب ذوها عليها فقد تحقق لها عنوان الموصلية. ومن المعلوم حينئذ : امتناع تعلق الطلب بالواجب النفسي ، لكونه موجودا ، فيكون طلبه من طلب الحاصل ، وقبل تحقق عنوان الموصلية للمقدمة لا يقدر شرعا على إتيان الواجب النفسي للنهي عن مقدماته.

١٧٢

مع إن في صحة المنع عنه كذلك نظر ، وجهه : أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا ـ لعدم التمكن شرعا منه ـ لاختصاص جواز مقدمته بصورة الإتيان به.

وبالجملة : يلزم أن يكون الإيجاب مختصا بصورة الإتيان ؛ لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال ، فإنه يكون من طلب الحاصل المحال ، فتدبر جيدا.

بقي شيء : وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هي : (١) تصحيح العبادة التي

______________________________________________________

وقد مر : أن المنع الشرعي كالعقلي ، فيكون ترك ذي المقدمة عن عذر شرعي ، فلا يعد عصيانا. هذا ملخص ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٣٣٠» مع تصرف ما.

فالحاصل : أنه يلزم من المنع عن المقدمات إلّا الموصلة أحد محذورين والتالي باطل فالمقدم ـ وهو المنع عن المقدمات إلّا الموصلة ـ أيضا باطل. وفي المقام كلام طويل تركناه رعاية للاختصار وتجنّبا عن التطويل الممل.

قوله : «فتدبر جيدا» لعله إشارة إلى دقة المطلب ، بقرينة قوله : «جيدا» ، أو إشارة إلى أن في الكلام خلطا حيث إن المقدمة الجائزة هي التي يكون بعدها الواجب ؛ لا أن المقدمة تكون جائزة بشرط الإتيان بذيها حتى يكون من طلب الحاصل.

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة

(١) الثمرة هي : تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب. توضيح هذه الثمرة يتوقف على أمور :

منها : أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر ؛ كترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة.

ومنها : أن تكون مقدمة الواجب المطلق واجبة مطلقا أي : سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة حتى يجب الصلاة مقدمة للإزالة.

ومنها : أن يكون الأمر بالشيء على نحو الإيجاب مقتضيا للنهي عن الضد ، ليكون الترك الواجب مقتضيا للنهي عن ضده ، وهو فعل الصلاة في المثال المذكور.

ومنها : أن يكون النهي عن العبادة مقتضيا لفسادها ، فتبطل الصلاة في المثال المزبور للنهي عنها ؛ الموجب لفسادها حسب الفرض.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : أن ثمرة القول بوجوب المقدمة الموصلة هي صحة الصلاة التي يتوقف على تركها فعل الإزالة الذي هو واجب فوري ، فتصح الصلاة على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ؛ لأنها ليست نقيضا للترك الموصل إلى ذي

١٧٣

يتوقف على تركها فعل الواجب ؛ بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده ، فإن تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا ، ليكون فعلها محرما ، فتكون فاسدة ؛ بل فيما يترتب عليه (١) الضد الواجب ، ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب ، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا ؛ فلا يكون فعلها منهيا عنه ، فلا تكون فاسدة.

______________________________________________________

المقدمة حتى تكون منهيا عنها ؛ بل نقيض الترك الموصل هو : عدم هذا الترك الخاص ، وهذا ـ أي : عدم الترك الموصل ـ ليس عين الصلاة حتى يكون منهيا عنه ، كي تبطل الصلاة ، بل من المقارنات ؛ لأن عدم الترك الموصل قد يتحقق بفعل الصلاة ، وقد يتحقق بفعل غيرها ، كالنوم والأكل وغيرهما من الأفعال.

ومن البديهي : أن الحرمة لا تسري من أحد المتلازمين إلى الآخر فضلا عن المقارن ، فالحرمة الثابتة للضد ـ أعني : عدم الترك الموصل ـ لا تسري إلى مقارنه أي : الصلاة ، فلا وجه حينئذ لبطلانها. هذا كله بناء على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة.

وأما بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة ؛ تكون الصلاة في المثال باطلة ؛ لأنها حينئذ منهي عنها.

وبالجملة : فالنهي عن الصلاة الموجب لفسادها مبني على وجوب مطلق ترك الصلاة ؛ سواء كان موصلا إلى الإزالة أم لا ، إذ على هذا المبنى تكون الصلاة منهيا عنها لكونها نقيضا لتركها الواجب مقدمة لفعل الإزالة.

قوله : «مما يتوقف عليه فعل ضده» إشارة إلى الأمر الأول.

وقوله : «ليكون فعلها محرما» إشارة إلى الأمر الثالث.

وقوله : «فتكون فاسدة» إشارة إلى الأمر الرابع ؛ وهو : كون النهي عن العبادة مقتضيا للفساد ، إذ بدون هذا الاقتضاء لا وجه للفساد.

(١) أي : على ترك الصلاة. أي : ترك الصلاة واجب في مورد يترتب على هذا الترك فعل الإزالة ، ومع عدم الإزالة والإتيان بالعبادة كالصلاة «لا يكاد يكون هناك ترتب» للإزالة على ترك الصلاة ، «فلا يكون تركها» أي : العبادة كالصلاة مثلا «مع ذلك» أي : مع عدم ترتب الضد الواجب أعني : الإزالة «واجبا» ، ومع عدم وجوب ترك الصلاة مثلا «فلا يكون فعلها منهيا عنه» ، وإذا لم تكن الصلاة منهيا عنها «فلا تكون فاسدة».

فالمتحصل من الجميع : أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هي : صحة العبادة المضادة للواجب ؛ كصحة الصلاة المضادة للإزالة في المثال المعروف.

١٧٤

وربما أورد (١) على تفريع هذه الثمرة بما حاصله : بأن فعل الضد وإن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة ، بناء على المقدمة الموصلة ، إلّا إنه لازم لما هو من أفراد النقيض ، حيث (٢) إن نقيض ذاك الترك الخاص رفعه ، وهو أعم من الفعل والترك

______________________________________________________

(١) هذا الإيراد من صاحب التقريرات (١) المنسوب إلى الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، وغرضه «قدس‌سره» : إبطال الثمرة ، وإثبات فساد العبادة ـ كالصلاة في المثال ـ مطلقا وإن قلنا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة.

وحاصل الإيراد على الثمرة المذكورة : أن الفعل على كلا القولين لا يكون نقيضا للواجب ؛ لأن نقيض كل شيء رفعه ، فنقيض مطلق الترك هو : عدمه ، وهو ينطبق على الفعل ، كما أن نقيض الترك الموصل عدمه ، وهو ينطبق على الفعل وعلى الترك غير الموصل.

وعليه : فكما يكون الفعل حراما على القول بوجوب مطلق الترك ، مع إنه ليس بنقيض وإنما هو مصداق ما هو النقيض ، كذلك كونه حراما على القول بوجوب المقدمة الموصلة ، لأنه مصداق النقيض أيضا. وإنما النقيض على هذا القول له فردان ، وعلى القول الأول له فرد واحد وهو فرق غير فارق ، فالعبادة محرمة على كلا القولين في الفرض المذكور ، فما ذكره صاحب الفصول من صحة العبادة على القول بوجوب المقدمة الموصلة ، وفسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة ؛ لا يرجع إلى محصل صحيح. وتوضيح هذا الايراد بعبارة أخرى يتوقف على مقدمة وهي : أن المقرر في علم المنطق والميزان : هو كون نقيض الأخص أعم ، ونقيض الأعم أخص ، فإن الإنسان ـ الذي هو أخص من الحيوان ـ يكون نقيضه ـ وهو اللاإنسان ـ أعم من اللاحيوان الذي هو نقيض الحيوان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن فيما نحن فيه يكون نقيض الترك الخاص ـ أعني : الموصل إلى ذي المقدمة ـ أعم من نقيض الترك المطلق ، فيكون لترك الترك الخاص فردان : أحدهما : فعل الصلاة. والآخر : الترك المجرد عن الإيصال ، ومن البديهي : أنه ـ بناء على حرمة النقيض ـ لا بد من الحكم بسراية الحرمة إلى جميع ما ينطبق عليه من الأفراد ، وعليه : فالصلاة فاسدة حتى على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، فالثمرة التي أفادها في الفصول ليست بتامة ، ولا تترتب على المقدمة الموصلة.

(٢) قوله : «حيث» تعليل لقوله : «إلّا إنه لازم لما هو من أفراد النقيض» بتقريب : أنه لمّا

__________________

(١) راجع : مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٣٧٩.

١٧٥

الآخر المجرد ، وهذا يكفي في إثبات الحرمة ، وإلّا لم يكن الفعل المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا ؛ لأن (١) الفعل أيضا (٢) ليس نقيضا للترك ، لأنه (٣) أمر وجودي ، ونقيض الترك إنما هو رفعه (٤) ، ورفع الترك إنما يلازم الفعل مصداقا ، وليس عينه ، فكما أن هذه الملازمة (٥) تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فكذلك تكفي في المقام (٦) ، غاية الأمر (٧) : أن ما هو النقيض في مطلق الترك ، إنما ينحصر مصداقه في الفعل فقط ، وأما النقيض للترك الخاص فله فردان ، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

كان نقيض كل شيء رفعه ؛ كان نقيض الترك الخاص ـ أي : الموصل ـ رفع هذا الترك الخاص. ومن المعلوم : أنه أعم من الفعل ـ كالإتيان بالصلاة في المثال ـ ومن الترك غير الموصل إلى الإزالة ؛ كترك الصلاة بدون الإتيان بالإزالة ، وكون فعل الصلاة من لوازم النقيض كاف في ثبوت الحرمة لها المقتضية لفسادها.

(١) تعليل لقوله : «وإلّا لم يكن الفعل المطلق محرما» أي : إن لم يكف كون الفعل لازما للنقيض في حرمته وفساده ، لم يكن وجه لحرمته فيما إذا كان الواجب الترك المطلق ، لا خصوص الموصل منه ، وذلك لأن الفعل حينئذ ليس نقيضا للترك الواجب حتى يصير منهيا عنه ، لأن الفعل أمر وجوديّ ، ونقيض الترك الواجب أمر عدمي ؛ لأن نقيض كل شيء رفعه ، فنقيض الترك رفعه.

ومن المعلوم : أن رفع الترك ليس عين الفعل ، بل هو ملازم للفعل مصداقا ، فكما تكون هذه الملازمة كافية في ثبوت الحرمة للعبادة في صورة كون الواجب مطلق الترك ؛ فكذلك تكون كافية في ثبوت الحرمة للعبادة في صورة كون الواجب خصوص الترك الموصل ، فلا فرق في فساد العبادة بين المقدمة الموصلة وغيرها.

(٢) أي : كما لا يكون الفعل نقيضا للترك الموصل ؛ كذلك لا يكون نقيضا للترك المطلق.

(٣) أي : الفعل أمر وجوديّ ، ونقيض الترك أمر عدميّ ؛ لأنه رفع هذا الترك ، والعدمي ليس عين الفعل حتى يتحد معه ، بل يلازم الفعل.

(٤) أي : رفع الترك بمعنى : عدم الترك.

(٥) أي : الملازمة بين رفع الترك المطلق ، وبين الفعل.

(٦) أي : وهو كون الواجب خصوص الترك الموصل.

(٧) إشارة إلى : الفرق بين كون الترك المطلق واجبا ، وبين كون الترك الخاص ـ وهو الموصل ـ واجبا.

١٧٦

قلت : (١) وأنت خبير بما بينهما من الفرق ؛ فإن الفعل في الأول لا يكون إلّا مقارنا لما هو النقيض ؛ من رفع الترك المجامع معه تارة ، ومع الترك المجرد أخرى ، ولا تكاد تسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه ، فضلا عما يقارنه أحيانا.

______________________________________________________

وحاصل الفرق بينهما : انحصار مصداق النقيض في مطلق الترك بالفعل فقط ، بخلاف الترك الخاص ، فإن لنقيضه ـ كما عرفت ـ فردين : أحدهما : فعل الضد ، كالصلاة ، والآخر : تركه المجرد عن الإيصال.

لكن هذا الفرق لا يوجب تفاوتا في الحكم بحرمة العبادة ؛ لأجل الملازمة بين الصورتين ، وهما : وجوب الترك المطلق ، ووجوب خصوص الترك الموصل. وهذا ما أشار إليه بقوله : «وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده» أي : الفرق المذكور لا يوجب تفاوتا ـ فيما نحن بصدده ـ أي : إثبات الحرمة والفساد للعبادة بسبب الملازمة المزبورة.

(١) أجاب المصنف «قدس‌سره» عن إشكال الشيخ الأنصاري على صاحب الفصول «قدس‌سره» بقوله : «وأنت خبير بما بينهما من الفرق» أي : بين نقيضي الترك الموصل والترك المطلق من الفرق ، وقد صحح المصنف كلام صاحب الفصول ، ودفع إشكال الشيخ عنه.

وحاصل ما أفاده المصنف : ـ على ما في «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٣٤٦» ـ أنه فرق واضح بين نقيضي الترك المطلق والترك المقيد بالإيصال ، حيث إن النقيض في الترك المطلق والرافع له هو الفعل بنفسه وإن عبّر عن النقيض برفع الترك ، لقولهم : «إن نقيض كل شيء رفعه» ، فإن هذا التعبير وإن كان يوجب المغايرة مفهوما بين الفعل ورفع الترك ؛ لأن رفع الترك غير الفعل مفهوما ، كما هو واضح ، لكنه متحد مع الفعل عينا وخارجا ، فترك الترك عنوان مشير إلى الفعل ، ومرآة للوجود الخارجي الذي هو النقيض حقيقة ، ويستحيل اجتماعه مع العدم وارتفاعهما معا ؛ لامتناع اجتماع كلا النقيضين وارتفاعهما ، فبناء على وجوب مطلق الترك يكون نقيضه ـ وهو وجود الصلاة ـ منهيا عنه ، فتبطل على فرض الإتيان بها.

وبناء على وجوب الترك الخاص ـ وهو الترك الموصل ـ يكون نقيضه عدم هذا الترك الخاص. ومن المعلوم : أن الفعل حينئذ يكون مقارنا لهذا الترك ، لا ملازما له ؛ لأنه قد يفارقه ، فلا يأتي بالفعل كالصلاة ، كما لا يأتي بالواجب الأهم كالإزالة. نظير مقارنة ترك الصوم لفعل الصلاة ؛ فإنه لا مجال لتوهم كون الصلاة من أفراد ترك الصوم ، وقد قرر في محله : أن حرمة الشيء لا تسري إلى ملازمه ـ فضلا عن مقارنه ـ فلا تكون الصلاة حينئذ محرمة ، فلو أتى بها كانت صحيحة ، فما أفاده الفصول من الثمرة ـ وهي

١٧٧

نعم ؛ (١) لا بد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف حكمه ، لا أن يكون محكوما بحكمه ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني ؛ (٢) فإنه بنفسه يعاند الترك

______________________________________________________

صحة العبادة على القول بالمقدمة الموصلة ، وفسادها بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة ـ في غاية المتانة.

والمراد بالأول : في قوله : «فإن الفعل في الأول» هو : كون الترك المقيد بالإيصال مقدمة ، وإنما يكون هو الأول ؛ لأنه المبتدأ به في إيراد الشيخ ، حيث قال : «وربما أورد على تفريع هذه الثمرة بما حاصله : إن فعل الضد ...» إلخ ، وإلّا فالأول فيما أفاده بقوله : «غاية الأمر : أن ما هو النقيض ...» إلخ هو نقيض الترك المطلق ؛ لا نقيض الترك المقيد بالإيصال ، كما في «منتهى الدراية».

(١) قوله «نعم ...» إلخ دفع لتوهم كون الملازم محكوما بحكم فعلي على خلاف حكم الملازم الآخر.

وحاصل الدفع : أنه يعتبر أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم على خلاف الملازم الآخر ، لا أن يكون محكوما بحكمه.

توضيح ذلك : أنه لو تحقق التلازم بين شيئين ؛ كاستقبال المشرق واستدبار المغرب ، فوجوب استقبال المشرق لا يستلزم وجوب استدبار المغرب ـ هذا معنى قوله : «لا أن يكون محكوما بحكمه» ـ نعم ؛ يعتبر أن لا يكون الملازم محكوما بحكم مخالف لحكم الملازم الآخر ؛ بأن لا يكون استدبار المغرب محكوما بالحرمة ؛ بل يكون بلا حكم.

(٢) وهو كون الترك المطلق واجبا ، فإن الفعل كالصلاة بنفسه يعاند الترك المطلق ، ويناقضه ، لا أنه ملازم لما يعاند الترك وينافيه ، فلا محالة تسري حرمة الترك إلى الفعل ، ويصير حراما ـ بناء على كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده ـ فإن الأمر بترك الصلاة مقدمة للإزالة يقتضي النهي عن ضده ، أعني : الصلاة ، فتبطل.

هذا بخلاف القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ؛ حيث لا تكون باطلة بل أنها صحيحة ؛ لأن فعلها حينئذ ليس نقيضا للترك الموصل الواجب مقدمة للإزالة ؛ بل من مقارنات النقيض ، ومن المعلوم : أن حرمة النقيض لا تسري إلى ملازمه فضلا عن مقارنه.

وقد أشار المصنف بقوله : «فلو لم يكن عين ما يناقضه» إلى أن المعنى الاصطلاحي في النقيض يقتضي ما ذكرناه ؛ من كون الفعل بنفسه مناقضا للترك ، لأن السلب والعدم نقيضين للإيجاب والوجود ؛ إذا المراد بالرفع في قولهم : نقيض كل شيء رفعه هو : الجامع بين المصدر المبني للفاعل ، وبين المصدر المبني للمفعول ، بحيث يشمل الرفع كلا من الرافع والمرفوع ، وعليه : فيصدق النقيض على كل من الإنسان واللاإنسان ؛ إذ كل منهما

١٧٨

المطلق وينافيه ، لا ملازم لمعانده ومنافيه ، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما ، لكنه متحد معه عينا وخارجا ، فإذا كان الترك واجبا ، فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

رافع للآخر ومرفوع به ، فكل من الوجود والعدم نقيض للآخر.

قوله : «فإذا كان الترك واجبا» متفرع على اتحاد الفعل مع النقيض ، والمراد بالترك هو : الترك المطلق ، وكونه واجبا يقتضي النهي عن نقيضه ، وهو رفع هذا الترك المفروض اتحاده مع الفعل أي : فعل الصلاة خارجا ، فيصير الفعل منهيا عنه ، فيبطل أي : تبطل الصلاة.

هذا بخلاف القول بوجوب المقدمة الموصلة حيث يكون فعل الصلاة حينئذ من مقارنات نقيض الترك الموصل ، وقد عرفت غير مرّة : أن حرمة الشيء لا تسري إلى ملازم ذلك الشيء فضلا عن مقارنه ، فلا يكون فعل الصلاة محرما ومنهيا عنه ، فتقع الصلاة صحيحة.

فالمتحصل من الجميع : أن ما ذكره صاحب الفصول من الثمرة وهي صحة العبادة ـ كالصلاة في المثال ـ على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، وفسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة في غاية الصحة والمتانة ، فلا يرد عليه ما أورده الشيخ الأنصاري في التقريرات.

وهناك ثمرات أخرى تركناها تجنبا عن التطويل الممل.

خلاصة البحث مع نظريات المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ هذا الأمر الرابع يكون من الأمور التي لا بد من بيانها قبل الخوض في المقصود في مبحث مقدمة الواجب ، وقد تقدم الكلام في ثلاثة منها :

الأول : هو البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فتكون هذه المسألة من المسائل الأصولية.

الثاني : تقسيم المقدمة.

الثالث : تقسيم الواجب.

وهذا الأمر الرابع : في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ؛ بناء على الملازمة بين وجوبي المقدمة وذيها.

يقول المصنف : بالتبعية ؛ لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ، فيكون تابعا له في الإطلاق والاشتراط ؛ لأن الوجوب المعلولي تابع للوجوب العلي في الإطلاق والاشتراط ،

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يكون وجوب المقدمة مشروطا بإرادة الواجب كما يوهمه ظاهر صاحب المعالم ؛ لأن وجوب ذي المقدمة ليس مشروطا بالإرادة ، فكيف يترشح الوجوب المشروط بها ، عن الوجوب غير المشروط بها؟

وملخص ما في هذا الأمر الرابع : أنه وقع الخلاف في أن وجوب المقدمة ـ على القول به ـ هل هو مختص بالمقدمة الموصلة ، كما هو ظاهر الفصول ، أو بالمقدمة التي قصد التوصل بها إلى ذيها ، كما هو المنسوب إلى الشيخ الأنصاري ، أو لا يختص بشيء منهما ؛ بل الواجب هو مطلق المقدمة ، كما هو مختار المصنف؟

وحاصل كلام المصنف في المقام هو : أن ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة هو : كون الشيء مقدمة للواجب ، ولا تكون إرادة الواجب سببا لحكم العقل بوجوب المقدمة كما يزعم صاحب المعالم ، ولا قصد التوصل علة لوجوبها ، كما زعم صاحب التقريرات ، ولا ترتب ذيها عليها سببا لحكم العقل بوجوبها كما ظن صاحب الفصول ؛ بل الحكم بوجوب المقدمة إنما هو لأجل عنوان المقدمية ، والتوقف.

قوله : «ولا يكون مشروطا بإرادته» إشارة إلى ردّ قول صاحب المعالم.

وقوله : «وأما عدم اعتبار قصد التوصل» إشارة إلى ردّ قول الشيخ ، كما أن قوله : «وأما عدم ترتب ذي المقدمة عليها» إشارة إلى ردّ صاحب الفصول.

٢ ـ نعم يعتبر قصد التوصل في مقام الامتثال لأجل ترتب الثواب على امتثال الأمر الغيري ؛ لا في أصل وجوب المقدمة ، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان لإنقاذ غريق لا حراما ؛ وإن لم يلتفت المكلف إلى المقدمية والتوقف ، إذ ليس للالتفات إلى التوقف دخل في وجوب المقدمة.

غاية الأمر : يكون متجرئا في الدخول لأنه باعتقاده يرتكب الحرام ، كما أنه مع الالتفات إلى توقف الإنقاذ على الدخول يكون متجرئا بالنسبة إلى ذي المقدمة ؛ أي : الإنقاذ فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا ؛ بأن دخل الأرض المغصوبة عالما بالغريق ، بانيا وقاصدا على عدم إنقاذه ، ثم أنقذه ، فإن بناءه هذا كان تجريا ، وإن لم ينقذه كان فاعلا للحرام القطعي.

نعم ؛ إذا لم يأت بالمقدمة بداعي الإنقاذ ؛ بل بداعي آخر كالدخول في الأرض المغصوبة بداعي السياحة ، ثم أكده بقصد التوصل إلى الإنقاذ ، فلا يكون حينئذ متجرئا أصلا.

١٨٠