دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

عرفت من : أن وجوب المقدمة من آثار وجوب ذيها ، والأثر يتبع المؤثر ، وحيث إن وجوب الصلاة مثلا لا يعقل أن ينوط بإرادتها ؛ للزوم تبدل الوجوب بالإباحة ، كذلك وجوب الوضوء لا يناط بإرادة الصلاة ؛ إذ لا يعقل ترشح الوجوب المشروط بالإرادة عن الوجوب غير المنوط بها.

وحاصل ما في هذا الأمر الرابع : أنه قد وقع الخلاف في أن وجوب المقدمة على القول به هل يكون مختصا بالمقدمة الموصلة ، أي التي قصد بها الإيصال أو لا يختص ؛ بل الواجب هو مطلق المقدمة؟ فهنا أقوال :

الأول : هو القول بكونها تابعة لذيها من حيث الإطلاق والاشتراط. هذا هو مختار المصنف «قدس‌سره».

الثاني : ما نسب إلى صاحب المعالم من : أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة الإتيان بذي المقدمة ، وعليه : فتكون إرادة الإتيان بذي المقدمة شرطا لوجوب المقدمة لا قيدا للواجب.

الثالث : ما نسب إلى الشيخ من : أن الواجب هو الحصة الخاصة من المقدمة وهي ما قصد به الإيصال إلى ذي المقدمة.

الرابع : ما نسب إلى الفصول من : أن الواجب هو خصوص الموصلة منها التي يترتب عليها ذو المقدمة ، والفرق بين قول صاحب المعالم وقول الشيخ إنما هو في نقطة واحدة ؛ وهي : أن القصد على قول صاحب المعالم قيد للوجوب ، وعلى قول الشيخ قيد للواجب.

والنسبة بين القول الثالث والرابع هي : عموم من وجه ، لصدقهما على المقدمة التي قصد بها التوصل إلى ذيها وكانت موصلة ، وافتراق القول الثالث : فيما إذا كانت المقدمة مما قصد به التوصل ، ولكن لا تكون موصلة لوجود مانع عن إتيان ذي المقدمة في الخارج. وافتراق القول الرابع عن الثالث : فيما إذا كانت المقدمة موصلة ، ولكن لم يكن المقصود بها التوصل بها إلى ذيها ؛ كما إذا أتى المكلف بالمقدمة لا بقصد التوصل بها إلى ذيها ، ثم بدا له الامتثال وفعل الواجب ـ كما في مثل الحج ـ إذا سافر إلى مكة للسياحة فاتفق الموسم ، ثم بدا له إتيان الحج فحج فهو مجز بالإجماع ، والجامع بين الأقوال الثلاثة الأخيرة : أن المقدمة لا تكون تابعة لذيها في الإطلاق والاشتراط.

وقيل : إن الغرض من تصوير المقدمة الموصلة هو تصحيح العبادة التي تكون ضدا

١٤١

ولا يكون مشروطا بإرادته (١) ، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم «رحمه‌الله» في بحث الضد ، قال : «وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة ـ على تقدير تسليمها ـ إنما تنهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر».

______________________________________________________

لواجب أهم ، كالصلاة التي تكون ضدّا للازالة فإنه قد يتوهم : أن ترك الضد العبادي مقدمة للواجب الأهم ، فيكون واجبا فيكون فعله حراما ، فحينئذ كيف يقع عبادة صحيحة مع إن النهي فيها يدل على الفساد؟ فمقصود الشيخ وصاحبي المعالم والفصول من هذه التفاصيل التي أحدثوها في هذا المقام إنما هو : تصحيح العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم ، كالصلاة التي تكون ضدّا للإزالة فيقال دفعا للإشكال : إن ترك الصلاة وإن كان مقدمة للواجب ـ وهو الإزالة ـ إلّا إنه ليس مقدمة موصلة ، فلا يكون تركها واجبا ولا فعله حراما حتى يقال : إن المحرم لا يصلح أن يقع عبادة فتقع الصلاة صحيحة.

فصاحب المعالم حيث اختار اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها قال بصحة الصلاة لوجود الصارف عن الإزالة ، وعدم إرادة ذيها ، إذ حينئذ لا يكون تركها واجبا حتى يكون فعلها حراما ومنهيا عنه حتى يقال بفساد الصلاة ، لأن النهي في العبادة يدل على الفساد. وتفصيل ذلك سيأتي في بحث الضد إن شاء الله فانتظر.

والشيخ اعتبر في وجوب المقدمة قصد التوصل بها إلى ذيها ، ولازم ذلك : عدم وجوب ترك الصلاة عند الإتيان بها. وأما عدم وجوب الصلاة على قول صاحب الفصول فهو أمر واضح ؛ لأن تركها وإن كان مقدمة للإزالة إلّا إنه ليس موصلا إلى الإزالة عند إتيان المكلف بالصلاة ، فتقع الصلاة صحيحة على جميع هذه الأقوال.

(١) أي : لا يكون وجوب المقدمة مشروطا بإرادة ذي المقدمة ، «كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم» أي : كما يوهم كون وجوب المقدمة مشروطا بإرادة ذيها ظاهر عبارة صاحب المعالم في بحث الضد حيث قال : «وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة ...» إلخ. ومضمون هذه الحجة المذكورة في مقدمة الواجب عند من استدل بها على وجوب مقدمة الواجب : أنه لو لم يستلزم الأمر بالصلاة وجوب الطهارة مثلا جاز تركها ، فلو بقيت الصلاة على وجوبها لزم التكليف بالمحال ، وإن خرجت عن وجوبها لزم الخلف ؛ أي : صيرورة الواجب المطلق واجبا مشروطا بالطهارة ، والتالي بكلا قسميه باطل ، فالمقدم مثله والنتيجة هي : أن الأمر بالصلاة يستلزم وجوب الطهارة ، وقال

١٤٢

وأنت خبير (١) : بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى ، وإن كان نهوضها (٢) على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

صاحب المعالم في ردّ هذه الحجة في بحث الضد «إن هذه الحجة ـ على تقدير تسليمها ـ يكون دليلا على وجوب المقدمة في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر» (١).

وهذا الكلام من صاحب المعالم ظاهر في اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها ؛ بمعنى : أنه لو لم يرد المكلف فعل ذي المقدمة لم تجب المقدمة ، بل كان إيجابها لغوا ، لأن إيجابها إنما هو للتوصل ، ومع الصارف لا توصل قطعا.

وكيف كان ؛ فوجوب المقدمة مشروط بالإرادة وإن كان وجوب ذيها مطلقا ، فلا تبعية بين وجوبها ووجوب ذيها ، فيكون هذا على خلاف ما ذهب المصنف إليه من التبعية.

(١) هذا من المصنف ردّ على صاحب المعالم وحاصل الردّ : أن دلالة تلك الحجة على وجوب المقدمة والملازمة وإن لم تكن واضحة إلّا إن دلالتها على التبعية واضحة ؛ لأن الملاك والعلة التامة في وجوب المقدمة هو توقف ذيها عليها ؛ بحيث يمتنع وجوده بدون المقدمة ، وهذا الملاك مستمر سواء أراد الإتيان بالواجب أم لا ، فلا بد حينئذ من وحدة وجوبي المقدمة وذيها من حيث الإطلاق والاشتراط.

(٢) أي : وإن كان نهوض الحجة على أصل الملازمة بين وجوب المقدمة ، ووجوب ذيها لم يكن بهذه المثابة من الوضوح.

وكيف كان ؛ فنهوض الحجة على التبعية في الإطلاق والاشتراط أوضح من نهوضها على أصل الملازمة ، فما هو ظاهر كلام صاحب المعالم من : أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها وليس تابعا لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط في غير محله ؛ لأن ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة ، هو كون الشيء مقدمة ، ولا تكون إرادة ذي المقدمة سببا لحكم العقل بوجوب المقدمة ، ولا قصد التوصل علة لوجوبها عند العقل ، ولا ترتب ذي المقدمة عليها سببا لحكم العقل بوجوبها ؛ بل حكم العقل بوجوب المقدمة إنما يكون لأجل عنوان المقدمية ولأجل التوقف. هذا تمام الكلام في قول صاحب المعالم.

__________________

(١) معالم الدين ، ص ٢٠٠.

١٤٣

وهل يعتبر (١) في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة ، كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ بعض أفاضل مقرّري بحثه؟

أو ترتب ذي المقدمة عليها (٢) ؛ بحيث لو لم يترتب عليها لكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب ، كما زعمه صاحب الفصول «قدس‌سره» ، أو لا يعتبر في وقوعها (٣) كذلك شيء منهما.

الظاهر (٤) : عدم الاعتبار. أما عدم اعتبار قصد التوصل : فلأجل أن الوجوب لم

______________________________________________________

اعتبار قصد التوصل

(١) هذا إشارة إلى ما هو مختار الشيخ في وجوب المقدمة من اعتبار قصد التوصل بها إلى ذيها في وجوبها ، فالواجب هو : خصوص المقدمة المقصودة بها التوصل دون غيرها ، فلا تكون واجبة فيما إذا أتى بها لا بداعي التوصل بها إلى ذيها.

(٢) أي : على المقدمة. هذا إشارة إلى ما هو مختار صاحب الفصول من : أن ترتب الواجب في الخارج على مقدمته شرط لاتصاف المقدمة بالوجوب ، فالواجب هو : خصوص المقدمة الموصلة إلى ذيها ؛ قصد التوصل بها إلى ذيها أم لم يقصد.

(٣) أي : أو لا يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب شيء من قصد التوصل أو التوصل الخارجي.

(٤) الظاهر عند المصنف هو : عدم الاعتبار أي : لا يعتبر في وجوب المقدمة إرادة ذيها ، ولا يعتبر في وجوبها قصد التوصل بها إلى ذيها ، ولا ترتب ذيها عليها.

والحق عند المصنف هو : عدم الاعتبار. وأما اعتبار إرادة ذي المقدمة في وجوبها ـ كما هو ظاهر عبارة صاحب المعالم ـ فيرد عليه :

أولا : أنه خلاف الوجدان ؛ إذ ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة هو : عنوان المقدمية أي : كون شيء مقدمة ، سواء أراد المكلف بفعلها فعل ذيها أم لا.

وثانيا : أن شأن التكليف أن يكون داعيا للإرادة إلى فعل المكلف به ، فلا يكون التكليف منوطا بالإرادة.

وأما اعتبار قصد التوصل بها إلى ذيها ـ كما هو مختار الشيخ ـ فيرد عليه :

أولا : بأنه مستلزم للدور بتقريب : أن قصد التوصل موقوف على المقدمية ؛ إذ لا معنى لقصد التوصل بغير المقدمة ، فلو توقفت المقدمية على القصد المزبور لزم الدور.

وثانيا : أن الغرض من وجوب المقدمة ـ في نظر العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب

١٤٤

يكن بحكم العقل إلّا لأجل المقدمية والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصل فيه (١) واضح ، ولذا (٢) اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية لحصول (٣) ذات الواجب ، فيكون (٤) تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص (٥) ...

______________________________________________________

المقدمة ووجوب ذيها ـ هو : التمكن من الإتيان بالواجب ؛ إذ المفروض : توقف وجود الواجب على المقدمة ، ومن الواضح : أن هذا التمكن يتحقق من دون دخل لقصد التوصل إلى ذي المقدمة في التوقف والمقدمية أصلا ؛ لأن الموقوف عليه هو ذات المقدمة كالوضوء مثلا فإنه بذاته مقدمة للصلاة ، من دون دخل لقصد التوصل فيه.

فمتعلق الوجوب الغيري هو : ذات المقدمة بما هي هي لا بوصف قصد التوصل بها إلى ذيها. وأما اعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة ـ كما عن الفصول ـ فسيأتي ردّ المصنف عليه فانتظر.

(١) في التوقف. أي : عدم دخل قصد التوصل في توقف الواجب على المقدمة واضح ؛ لأن ما يتوقف عليه الواجب هو ذات المقدمة لا قصد التوصل بها إلى ذيها.

(٢) أي : لأجل عدم دخل قصد التوصل في التوقف والمقدمية. اعترف الشيخ في التقريرات «بالاجتزاء بما» أي : بالمقدمة المأتي بها ، التي «لم يقصد به ذلك» أي : التوصل ، لكن «في غير المقدمات العبادية» كالستر بالنسبة إلى الصلاة ، وقطع الطريق بالنسبة إلى الحج ، فيكون تخصيص صفة الوجوب بالمقدمة التي قصد بها التوصل بلا مخصص.

(٣) قوله : «الحصول ...» إلخ تعليل «للاجتزاء بما لم يقصد به التوصل».

(٤) قوله : «فيكون» تفريع على عدم دخل قصد التوصل في المقدمية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن كل ما يعتبر في الواجب من القيد لا بد وأن يكون لأجل دخله في الملاك ، وإلّا يلزم أن يكون الملاك أوسع من الحكم وهو ممتنع ؛ لأن الحكم تابع للملاك سعة وضيقا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الملاك في وجوب المقدمة هو التوقف والمقدمية ، وأما قصد التوصل فلا دخل له في ملاك الحكم بوجوب المقدمة ، فلو اعتبر قصد التوصل في الواجب أي : المقدمة ، مع عدم دخله في الملاك ـ حسب الفرض ـ لزم أن يكون الملاك أوسع دائرة من الحكم بوجوب المقدمة ، ولازمه : ثبوت الملاك بدون الحكم ، وهو ممتنع.

(٥) أي : أن المفروض : أن ملاك الوجوب هو التوقف والمقدمية ، المتحقق في صورتي قصد التوصل وعدمه ، فحينئذ يكون تخصيص الوجوب الغيري بالمقدمة المقيدة بقصد التوصل بلا مخصص ؛ لأنه إدخال ما ليس من شئون التوقف بلا وجه.

١٤٥

فافهم (١).

نعم (٢) ؛ إنما اعتبر ذلك في الامتثال ، لما عرفت (٣) من : إنه لا يكاد يكون الآتي بها

______________________________________________________

(١) لعله إشارة إلى : أنه كما أن الإرادة التكوينية تتعلق بذات المقدمة لا بخصوص المقصود بها التوصل ، فكذلك الإرادة التشريعية إنما تتعلق بذات المقدمة ؛ إذ لا فرق بينهما من هذه الناحية.

أو إشارة إلى : امتناع دخل قصد التوصل في وجوب المقدمة وذلك لوجهين :

أحدهما : أن دخل القصد المذكور يوجب صيرورة المقدمة المقيدة به واجبة الوجود بالعرض وهو : وجوب قصد التوصل ، وبعد وجوبه يمتنع تعلق الوجوب الغيري به ؛ للزوم طلب الحاصل ، إذ الغرض من الأمر : إحداث الداعي في العبد لإيجاد متعلقه ، وبعد وجود الداعي ـ وهو قصد التوصل ـ لا معنى للبعث الموجب لحدوث الداعي.

ثانيهما : لزوم صيرورة الواجب النفسي مباحا ، حيث إن دخل قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها مترتب على إرادة ذي المقدمة ؛ لكون وجوبها معلولا لوجوب ذيها ، فيلزم أن يكون وجوب ذيها مترتبا على إرادته ، فبدون الإرادة لا وجوب له وهو كما ترى ؛ كما في «منتهى الدراية ، في هامش صفحة ٢٨٨ من ج ٢».

وقيل : إنه إشارة إلى ضعف نسبة هذا القول إلى الشيخ ؛ إذ ذهب في الطهارة إلى ما يوافق مذهب المصنف حيث قال ما حاصله : إن قصد القربة اللازم في المقدمات إن كان بلحاظ أمرها الغيري يلزم قصد التوصل فيها ، حيث إنه لا يعد اطاعة لذلك الأمر الغيري إلّا بهذا القصد ، وإن كان ذلك باعتبار رجحانها الذاتي ـ لا بلحاظ وجوبها المقدمي ـ لا حاجة إلى قصد التوصل في صحته ، واتصافه بالوجوب. انتهى (١).

(٢) قوله : «نعم ...» إلخ استدراك على عدم دخل قصد التوصل في الواجب وحاصله : أنه اعتبر قصد التوصل في مقام الامتثال ، وفي إطاعة الأمر الغيري.

(٣) لما عرفت في التذنيب الثاني : «من أنه لا يكاد يكون الآتي» بالمقدمة بدون قصد التوصل ممتثلا لأمرها المقدمي.

وحاصل الكلام في المقام : أن قصد التوصل وإن لم يكن معتبرا وقيدا في الواجب لكنه دخيل في حصول امتثال الأمر الغيري ؛ بمعنى : أن الآتي بالمقدمة بلا قصد التوصل لا يكون ممتثلا لأمرها الغيري المقدمي ، وكذلك لا يكون الآتي بها بلا قصد التوصل شارعا في امتثال الأمر بذي المقدمة حتى يثاب المكلف بثواب الأعمال بإتيانه مقدمة

__________________

(١) طهارة الشيخ ص ٨٦ الركن الثاني في كيفية نية الوضوء. نقلا عن الوصول إلى كفاية الأصول ج ٣ ، ص ١٣١.

١٤٦

بدونه ممتثلا لأمرها ، وآخذا في امتثال الأمر بذيها ، فيثاب بثواب أشق الأعمال ، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب ، ولو لم يقصد به التوصل كسائر الواجبات التوصلية ، لا على حكمه السابق الثابت له لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه ، فيقع (١) الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لإنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق واجب فعلي لا حراما ، وإن لم يلتفت إلى التوقف والمقدمية.

______________________________________________________

الواجب مع الواجب ، فقصد التوصل ليس قيدا في الواجب ؛ وإنما هو شرط في إطاعة الأمر الغيري كسائر الواجبات التوصلية ، التي لا يتوقف وجوبها على قصد امتثال أوامرها ؛ بل هي واجبة ولو مع عدم القصد إلى أوامرها عند الإتيان بها ، وإنما يكون القصد المذكور دخيلا في ترتب الثواب عليها.

فكذا حال المقدمة فإنها واجبة ولو مع عدم قصد التوصل ؛ لأن مناط الوجوب هو عنوان المقدمية ، فلا دخل لقصد التوصل في عروض صفة الوجوب على المقدمة ، بل له دخل في ترتب الثواب عليها ، فيقع الفعل المقدمي المجرد عن قصد التوصل على صفة الوجوب ؛ لوجود ملاك الوجوب وهو : عنوان المقدمية.

وقوله : «فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب» متفرع على عدم دخل قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب ، بل هي واجبة ولو مع عدم القصد إلى الإتيان بها بداعي أمرها ، فإنها لمّا كانت من الواجبات التوصلية فيجري عليها حكم سائر الواجبات التوصلية من حيث عدم توقف اتصافها بالوجوب على قصد امتثال أوامرها ، نعم ؛ إنما قصد امتثال أمر المقدمة دخيل في تحقق ترتب الثواب عليها.

(١) أي : فيقع هذا «الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لإنقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب».

قوله : «واجب» صفة لكل من (إنقاذ ـ وإطفاء).

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن كل واحد من إنقاذ غريق وإطفاء حريق على قسمين :

أحدهما : أن يكون الإنقاذ أو الإطفاء واجبا ، كما إذا كان الغريق أو المحروق مؤمنا.

ثانيهما : أن لا يكون الإنقاذ أو الإطفاء واجبا ، كما إذا كان الغريق أو المحروق كافرا مهدور الدم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن إنقاذ غريق أو إطفاء حريق إذا كان واجبا فعليا منجزا ـ كما هو في القسم الأول ـ وجبت مقدمته كالدخول في أرض مغصوبة ؛ حيث

١٤٧

غاية الأمر : يكون (١) حينئذ متجرئا فيه ، كما أنه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة ، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا.

______________________________________________________

يكون الدخول في الأرض المغصوبة مقدمة للواجب ، فيكون واجبا لا حراما ؛ وإن لم يلتفت إلى التوقف والمقدمية لعدم دخل التفات المكلف إلى توقف الواجب عليه في مقدميته ؛ لأن ملاك وجوب المقدمة هو : التوقف التكويني الذي لا دخل للالتفات ـ فضلا عن القصد ـ فيه ، كما لا يخفى. هذا بخلاف القسم الثاني حيث إن الدخول في الأرض المغصوبة باق على حرمته ـ لعدم كونه مقدمة للواجب ـ لأن المفروض حينئذ هو : عدم وجوب الإنقاذ أو الإطفاء.

(١) أي : غاية الأمر : يكون الشخص الداخل ـ حين عدم الالتفات إلى التوقف والمقدمية ـ «متجرئا فيه» أي : في الدخول ، لأنه باعتقاده يرتكب الحرام ، «كما أنه مع الالتفات» إلى توقف الإنقاذ على الدخول «يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة» أي : الإنقاذ «فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا» ؛ بأن دخل الأرض المغصوبة عالما بالغريق ، بانيا وقاصدا على عدم إنقاذه ثم أنقذه ، فإن بناءه كان تجريا ، وإنما قلنا : بأنّه أنقذه ، لأنه لو لم ينقذه أصلا كان فاعلا للحرام القطعي ، وقد يجتمع التجري بالنسبة إلى المقدمة ، والتجري بالنسبة إلى ذي المقدمة ؛ وذلك فيما لو علم بالغريق ، وكان بناؤه على عدم إنقاذه ، ثم دخل الأرض ولم يكن ملتفتا إلى توقف الإنقاذ على الدخول ، وكان عالما بغصبية الأرض.

«وأما إذا» التفت إلى حرمة الأرض ، وعلم بالغريق وبتوقف الإنقاذ على الدخول ، و «قصده» أي : قصد التوصل بهذا الدخول إلى الإنقاذ ، «ولكنه لم يأت بها» أي : بالمقدمة «بهذا الداعي» أي : بداعي الإنقاذ فقط ؛ «بل» دخل «بداع آخر» ؛ كما إذا دخل بستان الغير لا بداعي التوصل به إلى إنقاذ الغير ؛ بل بداعي السياحة في البستان ولكن «أكده» أي : أكد هذا الداعي أي : الداعي بقصد السياحة أكده بقصد التوصل بالدخول إلى الإنقاذ ، فلا يكون حينئذ متجريا بالنسبة إلى الواجب أصلا.

وكيف كان ؛ فإذا كان ملتفتا إلى الواجب ، وكان من قصده التوصل إليه ، ولكنه أتى بالمقدمة بداعي شيء آخر ، وجعل قصد التوصل مؤكدا له لم يتحقق التجرّي ، ففي صورة تساوي الداعيين ، وكون الأمر الخارجي مؤكدا لقصد التوصل لا يتحقق التجري بطريق أولى ؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ١٣٤» مع توضيح وتصرف منّا.

وأما تفصيل ذلك فيحتاج إلى ذكر الاحتمالات والأقوال : أما الاحتمالات فهي أربعة :

١٤٨

وأما إذا قصده ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي ؛ بل بداع آخر أكده بقصد التوصل ، فلا يكون متجرئا أصلا.

وبالجملة : يكون التوصل بها (١) إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة

______________________________________________________

الأول : أن لا يكون المكلف الداخل في أرض الغير ـ بدون إذنه ـ ملتفتا إلى توقف الواجب الفعلي على الدخول.

الثاني : أن يكون ملتفتا إلى ذلك ، وعليه : تارة : يقصد التوصل به مع انحصار الداعي فيه وهو إنقاذ الغريق. وأخرى : مع تعدد الداعي ؛ بأن يكون الداعي هو السرقة أو السياحة في البستان ، مع قصد التوصل بالدخول إلى إنقاذ الغريق ؛ بأن يكون الثاني مؤكدا للأول. وثالثة : بأن لا يقصد التوصل أصلا.

وأما الأقوال فهي ثلاثة :

الأول : هو وجوب الدخول واقعا على جميع الاحتمالات ؛ لكونه مقدمة للواجب ، غاية الأمر : يكون المكلف متجرئا ظاهرا حسب الاحتمال الأول ؛ لأنه دخل في الأرض المغصوبة باعتقاد الحرمة ، فأتى بما هو واجب واقعا باعتقاد حرمته ؛ إذ المفروض : عدم التفاته إلى توقف الواجب عليه. هذا هو المشهور ، ومختار المصنف «قدس‌سره».

الثاني : هو مذهب الشيخ الأنصاري حيث يقول باعتبار قصد التوصل بالمقدمة إلى ذيها في وقوعها على صفة الوجوب ، فإن اعتبر استقلال قصد التوصل بها إلى ذيها كان الدخول حراما ومعصية حسب الاحتمال الأول والثالث والرابع ؛ لانتفاء قصد التوصل في الأول والرابع ، وانتفاء استقلاله في الثالث. وواجبا حسب الاحتمال الثاني. وأما لو لم يعتبر في وجوب المقدمة استقلال قصد التوصل لكان الدخول واجبا في الصورة الثانية والثالثة ، وحراما في الصورة الأولى والرابعة.

الثالث : هو مذهب صاحب الفصول حيث يقول بوجوب المقدمة الموصلة ، فاعتبر الإيصال في وجوبها ، فلا يكون الدخول واجبا إلّا فيما أنقذ الغريق ، وكان حراما فيما لم يترتب عليه الواجب وهو انقاذ الغريق في المثال المذكور. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف فتدبر.

(١) أي : يكون التوصل بالمقدمة إلى ذيها من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة.

وحاصل الكلام في المقام : أن التوصل بسبب المقدمة إلى ذي المقدمة ـ بناء على وجوب المقدمة مطلقا كما هو المشهور ومختار المصنف ـ يكون من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة ؛ لا أن قصد التوصل قيد للمقدمة كقيدية الطهارة مثلا للصلاة ، حتى يكون اتصاف المقدمة بالوجوب منوطا بقصد التوصل «لثبوت ملاك الوجوب» وهو

١٤٩

الواجبة ؛ لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب ؛ لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا. وإلّا لما حصل ذات الواجب ، ولما سقط الوجوب به ، كما لا يخفى.

ولا يقاس (١) على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها ، حيث يسقط به الوجوب ، مع إنه

______________________________________________________

التوقف ، والمقدمية «في نفسها» أي : في نفس المقدمة بمعنى : أن نفس المقدمة مشتملة على ملاك الوجوب «بلا دخل له فيه أصلا» أي : بلا دخل لقصد التوصل في الملاك أصلا ، «وإلّا لما حصل ذات الواجب ...» إلخ. أي : وإن لم يكن الأمر كما ذكر من عدم دخل قصد التوصل في ملاك وجوب المقدمة بأن كان قصده دخيلا في وقوع المقدمة على صفة الوجوب لما حصل الواجب ولما سقط الوجوب بإتيان المقدمة بدون قصد التوصل ؛ لانتفاء المشروط عند انتفاء شرطه ، فلا بد من الإعادة ثانيا ؛ لأنه لم يكن آتيا بذات الواجب ، مع إن الشيخ ملتزم بعدم الإعادة. فيكون قوله ـ «وإلّا لما حصل ذات الواجب ...» إلخ ـ وجها آخر لتضعيف كلام الشيخ ؛ بل لإبطاله حيث إنه لو كان اتصاف المقدمة في الخارج بالوجوب مشروطا ومتوقفا على قصد التوصل لم يكن الآتي بها بدون هذا القصد آتيا بالواجب ، فكان عليه الإعادة ، فكيف يقول الشيخ بعدم لزومها؟

(١) هذا الكلام من المصنف دفع لإشكال ، فلا بد أولا : من توضيح الإشكال. وثانيا : من بيان الدفع.

وأما حاصل الإشكال : فيرجع إلى قياس المقام بالمقدمة المحرمة بسقوط الوجوب بها ، مع عدم اتصافها بالوجوب فيقال في توضيح القياس : إن سقوط الوجوب بالمقدمة المأتي بها ، بلا قصد التوصل لا يكشف عن اتصافها بالوجوب ، بل هي حينئذ مما يسقط به الوجوب ، وليس بواجب ، كالفرد المحرم حيث يسقط به الوجوب ولا يتصف بالوجوب ، فكما أن الفرد المحرم يسقط به الوجوب وليس بواجب ، فكذلك ما لم يقصد به التوصل من المقدمة يسقط به الوجوب وليس بواجب ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح القياس.

وحاصل الدفع هو : أن قياس ما لم يقصد به التوصل من المقدمة ـ على القول بوجوبها مطلقا ـ بالفرد المحرم قياس مع الفارق ، فيكون باطلا لبطلان القياس مع الفارق.

وحاصل الفرق بينهما : أن ملاك الوجوب ـ وهو التوقف والمقدمية ـ ثابت في مطلق المقدمة حتى الحرام منها ، إلّا إن الملاك فيما إذا كانت المقدمة محرمة لمزاحمته لمفسدة الحرمة لا يصلح لأن يكون مؤثرا في الوجوب ، فالمقتضي لوجوبها وإن كان موجودا لكن

١٥٠

ليس بواجب وذلك لأن الفرد المحرم منها ، حيث يسقط به الوجوب ، لكونه كغيره في حصول الغرض به بلا تفاوت أصلا ، إلّا إنه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب (١) ، وهذا بخلاف (ما) هاهنا (٢) ، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض ، فلا بد أن يقع على صفة الوجوب مثله ؛ لثبوت المقتضي فيه بلا مانع ، وإلّا (٣) لما كان يسقط به الوجوب ضرورة ، والتالي باطل

______________________________________________________

هذه المزاحمة مانعة عن اتصافها بالوجوب الغيري ؛ إذ يحرم اختيار الفرد الحرام مع التمكن من الحلال ، كما إذا اختار لإنقاذ الغريق الطريق الغصبي ، مع وجود الطريق المباح فإنه مسقط لحصول الغرض إلّا إنه لا يتصف بالوجوب لوقوعه على صفة الحرمة. هذا بخلاف المقدمة المباحة ؛ فإن ملاك وجوبها الغيري لا مزاحم له ، فيؤثر في الوجوب ، ومع هذا الفرق يكون قياس المقام بالفرد المحرم قياسا مع الفارق فيكون باطلا. وقوله : «حيث يسقط به الوجوب مع إنه ليس بواجب» إشارة إلى تقريب القياس ، كما أن قوله : «وذلك ...» إلخ إشارة إلى فساد القياس لكونه مع الفارق.

(١) أي : لا يقع على صفة الوجوب ؛ للزوم اجتماع الأمر والنهي وهو ممتنع ، بلا فرق فيه بين كون الوجوب والحرمة نفسيين أو غيريين أو مختلفين ، كما سيأتي في مسألة اجتماع الأمر والنهي فانتظر.

(٢) أي : المقدمة المباحة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذيها ، «فإنه» أي : ما هاهنا من المقدمة لم يقصد بها التوصل «إن كان كغيره» من سائر أفراد المقدمة التي قصد بها التوصل في حصول الغرض ؛ بأن يحصل الغرض به كما يحصل بما يقصد به التوصل ، «فلا بد أن يقع على صفة الوجوب مثله» أي : مثل ما قصد به التوصل.

وجه اللابدية : ما أشار إليه بقوله : «لثبوت المقتضي» للوجوب «فيه» ، أي : فيما لم يقصد به التوصل «بلا مانع» من حرمة ونحوها.

وحاصل الكلام في المقام : أنه لا بد أن يقع على صفة الوجوب ما لم يقصد به التوصل ؛ مثل ما يقصد به التوصل ، وذلك لثبوت المقتضي أعني : الملاك للوجوب الغيري في المقدمة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذي المقدمة ، وعدم مانع عن تأثير المقتضي في الوجوب ، وهذا هو الفارق بين المقدمة المباحة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذيها وبين المقدمة المحرمة.

وحاصل الفرق هو : وجود مانع في المقدمة المحرمة ؛ دون المقدمة المباحة.

(٣) أي : وإن لم يثبت فيه المقتضي بلا مانع لما كان موجبا لسقوط الأمر بالضرورة ، «والتالي باطل» أي : التالي وهو ، عدم سقوط الوجوب بالمقدمة الفاقدة لقصد التوصل

١٥١

بداهة ، فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا ، وانتظر لذلك (١) تتمة توضيح.

والعجب (٢) أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة ، واعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب ، على ما حرره بعض مقرري بحثه

______________________________________________________

باطل ؛ لبداهة سقوط الوجوب بها ، فهذا السقوط يكشف عن عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

(١) أي : وانتظر ـ لعدم اعتبار قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب ـ «تتمة توضيح» في قول المصنف في الإشكال على الفصول في قوله : «إن قلت» الثاني كما في «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٢٩٥» مع تصرف ما.

وكيف كان ؛ فقد رتب المصنف «قدس‌سره» قياسا استثنائيا لبطلان قول الشيخ أعني : اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة ، وتقريب القياس : أنه لو كان لقصد التوصّل دخل في وجوب المقدمة لما سقط ـ بفعل المقدمة التي لم يقصد بها التوصل إلى ذيها ـ الوجوب الغيري المقدمي ، ولما حصل ذات الواجب ؛ لكن التالي بكلا شقيه باطل فالمقدم مثله. ومن البديهي : أن الاستدلال بالقياس الاستثنائي يتوقف على ثبوت أمرين :

١ ـ الملازمة بين المقدم والتالي.

٢ ـ وبطلان التالي.

أما بيان الملازمة : فلأن قصد التوصل ـ على مبنى الشيخ ـ شرط لوجوب المقدمة ، ومن الواضح : أنه إذا فات الشرط فات المشروط ، والحال : أنه يبقى الوجوب الغيري للمقدمة إذا أتى بها بلا قصد التوصل ، ولازم ذلك : عدم شرطية قصد التوصل في وجوب المقدمة ؛ لسقوط الوجوب الغيري ، وحصول ذات الواجب عند عدم قصد التوصل ، ثم رفع التالي ينتج رفع المقدم ، ولازم ذلك : عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

(٢) أي : والعجب كل العجب من الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» حيث أنكر إنكارا شديدا على القول بوجوب المقدمة الموصلة ، وانكر اعتبار ترتّب ذي المقدمة على فعل المقدمة في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، على ما حرره في تقريراته بعض مقرري درسه وبحثه.

١٥٢

«قدس‌سره» بما (١) يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك (٢) ، فراجع تمام كلامه زيد «في علو مقامه» ، وتأمل في نقضه وإبرامه.

______________________________________________________

(١) المراد بالموصول في «بما» هي : الوجوه الثلاثة التي استشكل بها الشيخ على الفصول ، القائل باعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة في اتصافها بالوجوب ؛ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٩٨».

وأوّل تلك الوجوه : أن الوجه في حكم العقل بوجوب المقدمة ليس إلّا إن عدمها يوجب العدم.

وثانيها : أن الوجدان يشهد بسقوط الطلب بعد وجود المقدمة من غير انتظار ترتب ذي المقدمة عليها ، وهذا كاشف عن مطلوبية ذات المقدمة من دون دخل لترتب ذي المقدمة عليها.

وثالثها : أن وجوب المقدمة الموصلة يستلزم وجوب مطلق المقدمة ؛ وذلك لأن الأمر بالمقيّد بقيد خارجي مستلزم للأمر بذات المقيد.

وهذه الإشكالات بعينها واردة على القائل باعتبار قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب ، كما هو المنسوب إلى الشيخ «قدس‌سره».

وكيف كان ؛ فقد اعترض المصنف على الشيخ بنفس ما أورده الشيخ على صاحب الفصول ؛ لأن المناط المذكور في إشكاله على صاحب الفصول موجود في كل من المقدمة المقصود بها التوصل إلى ذيها. والمقدمة الموصلة فكما لا وجه لتخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، فكذلك لا وجه لتخصيصه بالمقدمة المقصود بها التوصل.

(٢) أي : في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

وخلاصة الكلام في المقام : أنه سيأتي اعتراض الشيخ على الفصول ، حيث خص الوجوب بالمقدمة الموصلة ؛ بتقريب : أن ملاك وجوبها هو إيجاد التمكن ، وهو يوجد بمجرد وجودها ؛ ترتب عليها ذوها أم لا ، وعين هذا الاعتراض متوجه إلى الشيخ حيث خص الوجوب بالمقدمة التي يقصد بها التوصل فيقال : إن ملاك وجوب المقدمة هو إيجاد التمكن ، وهو يوجد بمجرد وجودها سواء قصد بها التوصل أم لا.

هذا تمام الكلام في نقد كلام الشيخ القائل بلزوم قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، فيرد عليه :

أولا : أن اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة خلاف الوجدان ؛ إذ ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة هو عنوان مقدمية المقدمة ، وعنوان توقف وجود ذي المقدمة في الخارج على وجود المقدمة ، سواء قصد بها التوصل أم لم يقصد.

١٥٣

وأما (١) عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب : فلأنه لا يكاد يعتبر في الواجب إلّا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه ، والباعث

______________________________________________________

ثانيا : أنه مستلزم للدور ؛ إذ قصد التوصل موقوف على المقدمية ، إذ لا معنى للتوصل بما ليس بمقدمة ، فلو توقفت المقدمية على قصد التوصل لكان دورا مصرحا فالتالي باطل فالمقدم مثله.

وثالثا : أنه لو اعتبر قصد التوصل في وجوب المقدمة لما حصل ذات الواجب ، ولما سقط الوجوب بدون قصد التوصل ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

(١) قوله : «وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة ...» إلخ إشارة إلى ردّ صاحب الفصول ، القائل بأن المقدمة إنما تتصف بالوجوب إذا ترتب عليها المأمور به ، وقد ردّه المصنف بوجوه :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «فلأنه لا يكاد يعتبر في الواجب ...» إلخ ، يعني : إن ترتب المأمور به ليس غرضا للمقدمة ولا دخيلا في غرضها ليعتبر في اتصافها بالوجوب.

أما الأول : فلوضوح أنه بعد تمام المقدمات يمكن أن يختار المكلف إتيان المأمور به ، ويمكن أن يختار عدمه.

وأما الثاني : فلأن الغرض من المقدمة حصول التمكن من إيجاد ذيها ، وهو يحصل بمجرد وجود المقدمة ترتب عليها المأمور به أم لا ، فإن المأمور بشراء اللحم إذا دخل السوق حصل التمكن وسقط عنه وجوب هذه المقدمة وإن لم يشتر اللحم ؛ لامتناع تحصيل الحاصل.

وبعبارة أخرى : أن توضيح ذلك ـ أكثر مما ذكرناه ـ يتوقف على مقدمة وهي عبارة عن أمور :

الأول : أن الأحكام تابعة للملاكات سعة وضيقا.

الثاني : أن الملاكات من الأمور الخارجية التي هي غير مجعولة شرعا.

الثالث : أنه إذا كان لشيء مقدمات عديدة ، فلا محالة يتوقف وجوده على وجود جميعها ، وينعدم بانعدام واحدة منها ، فكل مقدمة تحفظ وجود ذيها من ناحيتها ، وتسد بابا من أبواب عدمه ، فملاك وجوب المقدمة هو القدرة على إيجاد ذيها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا فرق في المقدمة الواجبة بين ما يترتب عليه الواجب ، وبين ما لا يترتب عليه ، إذ الغرض من المقدمة الداعي إلى إيجابها هو الاقتدار على فعل ذي المقدمة ، ومن المعلوم : حصوله بايجاد المقدمة سواء أتى بذيها أم لا ، وقد عرفت تبعية الحكم للملاك سعة وضيقا.

وكيف كان ؛ فقد أشار إلى الأمر الأول بقوله : «إلّا ما له دخل» وإلى الأمر الثالث :

١٥٤

على طلبه ، وليس الغرض من المقدمة إلّا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، ضرورة : إنه لا يكاد يكون الغرض إلّا ما يترتب عليه من فائدته وأثره ، ولا يترتب على المقدمة إلّا ذلك (١) ، ولا تفاوت فيه (٢) بين ما يترتب عليه الواجب وما لا يترتب عليه أصلا ، وأنه (٣) لا محالة يترتب عليهما ، كما لا يخفى.

وأما ترتب الواجب (٤) ، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث

______________________________________________________

بقوله : «وليس الغرض من المقدمة ...» إلخ. وإلى الأمر الثاني بقوله : «إلّا ما يترتب عليه من فائدته وأثره» أي : ما يترتب عليه ترتبا خارجيا.

وقوله : «ضرورة» تعليل لكون الغرض من المقدمة حصول التمكن من إتيان ذي المقدمة.

وخلاصة الكلام في المقام : أن الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة ليس إلّا الفائدة التكوينية المترتبة عليها ، ومن المعلوم : أن الفائدة المترتبة على المقدمة ليست إلّا الاقتدار على إيجاد ذي المقدمة ، وليست هي ترتب ذي المقدمة على المقدمة ، كما عن الفصول.

(١) أي : التمكن من ذي المقدمة والاقتدار على إيجاده بعدها لا وجود ذيها.

(٢) أي : لا تفاوت في هذا الغرض أعني : التمكن من ذيها «بين ما يترتب عليه الواجب ، وما لا يترتب عليه أصلا» أي : لا تفاوت في الغرض المذكور بين المقدمة الموصلة وغير الموصلة.

(٣) الغرض من المقدمة ـ وهو : التمكن من إيجاد ذيها الحاصل من ناحيتها ـ يترتب على الموصلة وغيرها ، فلا وجه لتخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، كما زعم صاحب الفصول.

(٤) هذا من المصنف ردّ لكلام صاحب الفصول ، وحاصل الردّ : أن الملاك الذي يكون من الأمور الخارجية الداعية إلى تشريع الحكم عبارة عن الاقتدار الحاصل من المقدمة على إيجاد ذيها ، وليس الملاك ترتب الواجب على مقدمته ليكون الواجب خصوص المقدمة الموصلة ، وذلك لعدم كون وجود ذي المقدمة أثرا لتمام المقدمات ـ فضلا عن بعضها ـ في غالب الواجبات ، حتى يعتبر ترتب ذي المقدمة عليها ، نظرا إلى استحالة تخلف الأثر عن المؤثر.

وإنما لم يكن كذلك ؛ لدخل إرادة المكلف بعد إيجاد جميع المقدمات في وجود الواجب ، فله أن يختار فعل الواجب أو تركه ، فحينئذ ليس وجود ذي المقدمة أثرا لوجود المقدمة حتى يختص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة ، وكيف كان ؛ فلا يعقل أن يكون ترتب ذي المقدمة غرضا من المقدمة وداعيا إلى إيجابها.

١٥٥

على طلبها ، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات ، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات ، فإن الواجب (١) ـ إلّا ما قلّ في الشرعيات والعرفيات ـ فعل اختياري ، يختار المكلف تارة : إتيانه بعد وجود تمام مقدماته ، وأخرى : عدم إتيانه ، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته ، مع عدم ترتبه على تمامها «عامتها في نسخة» ، فضلا عن كل واحدة منها؟

نعم (٢) ؛ فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبية والتوليدية ، كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته ؛ لعدم تخلف المعلول عن علته.

______________________________________________________

(١) هذا تقريب لعدم كون الواجب أثرا للمقدمات في مقام الردّ على صاحب الفصول ، وحاصله : أن غالب الواجبات من الأفعال الاختيارية التي يأتي بها المكلف مباشرا ، ويكون زمامها بيده ، مثلا : أن المكلف والمأمور بشراء اللحم ـ بعد تمام المقدمات ـ يمكن أن يشتريه ، ويمكن أن لا يشتريه ؛ إذ لإرادة المكلف دخل في وجود الواجب ، فالواجب ليس قهري الترتب على مجموع المقدمات فضلا عن آحادها ، فكيف يكون ترتبه معتبرا في اتصافها بالوجوب؟

(٢) قوله : «نعم» استدراك على عدم معقولية كون ترتب الواجب على مقدمته غرضا من إيجابها ، وحاصله : أن الواجب إذا كان من الأفعال التسبيبية والتوليدية كان مترتبا على مقدماته ، ووجه ترتبه على جميع مقدماته هو : استحالة تخلف المعلول عن علته التامة ، فيختص كلام الفصول بمقدمات خصوص الواجبات التوليدية ، ولا يعم غيرها ، مع إن كلام الفصول يصرح بوجوب جميع أقسام المقدمة الموصلة ، وهذا التصريح ينافي الاختصاص المذكور.

وكيف كان ؛ فلا يترتب الواجب على مقدماته في غالب الواجبات التي يكون لإرادة المكلف دخل في وجودها ، كالصوم والصلاة والحج وغيرها.

نعم ؛ في الواجبات التي هي من المسببات التوليدية ، التي تكون المقدمة فيها علة تامة لوجودها ـ كالذكاة المترتبة على فري الأوداج ، والملكية والزوجية والحرية المترتبة على عقودها ـ يكون أثر المقدمة فيها بترتب ذيها عليها قهرا ، ولازم ذلك : اختصاص الوجوب بمقدمات الواجبات التوليدية بلا وجه ؛ لأن وجوب المقدمة الموصلة لا يختص بمقدمات الواجبات التوليدية. هذا ما أشار إليه بقوله : «ومن هنا قد انقدح ...» إلخ ، أي : هذا هو الوجه الثاني من الردّ على صاحب الفصول.

وحاصل هذا الردّ : أنه لو كان الواجب خصوص المقدمة الموصلة : فلا تتصف

١٥٦

ومن هنا قد انقدح : أن القول بالمقدمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية.

فإن قلت (١) : ما من واجب إلّا وله علة تامة ، ضرورة : استحالة وجود الممكن بدونها ، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.

______________________________________________________

بالوجوب آحاد المقدمات ولا مجموعها في المباشري ؛ إذ الآحاد لا يستلزم ترتب ذيها عليها ، والمجموع وإن كان يستلزمه بانضمام الإرادة ومباديها إلّا إن الإرادة ليست من الأمور الاختيارية بنظر المصنف ، فلا تقبل الإيجاب فينحصر الوجوب المقدمي في المجموع في الفعل التوليدي ، مع إن صاحب الفصول يقول : بوجوب المقدمة الموصلة مطلقا ؛ لا بوجوب مقدمات الواجبات التوليدية فقط.

(١) هذا اعتراض من جانب صاحب الفصول على ما استدركه المصنف بقوله : «نعم ؛ فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبية والتوليدية كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته».

ولازم الاستدراك هو : اختصاص الوجوب بمقدمات الواجبات التوليدية ، مع إن صاحب الفصول يقول : بوجوب المقدمات الموصلة مطلقا.

وحاصل الاعتراض على الاستدراك : أنه لا يلزم من القول بوجوب المقدمة الموصلة اختصاص الوجوب بمقدمات الواجبات التوليدية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن لكل واجب ـ سواء كان توليديا أم مباشريا ـ علة تامة لوجوده ، ولذا قيل : «إن الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، فكل ممكن لا بد أن تكون له علة الوجود. والعلة التامة بجميع أجزائها ـ من المقتضي والشرط وعدم المانع ـ واجبة عند صاحب الفصول ؛ لأنها موصلة إلى ذي المقدمة ـ أعني : المعلول ـ فمقدمات الحج من المسير وبذل الزاد والراحلة مع إرادة المناسك واجبة ؛ لأنها بأسرها توصل إلى الحج ، فتخصيص وجوب المقدمة بخصوص مقدمات الواجبات التوليدية ـ كما ذكره المصنف في الاستدراك ـ يكون بلا وجه ، فوجوب المقدمة الموصلة لا يختص بمقدمات الواجبات التوليدية حتى يقال : إنه على خلاف مذهب صاحب الفصول. وقد أجاب المصنف عن هذا الاعتراض بقوله : «قلت : نعم».

وحاصل الجواب : أن الفعل الاختياري المباشري ، وإن كان كالفعل التوليدي في توقف وجوده في الخارج على العلة التامة ، إلّا إنه لمّا كان من أجزاء علة الفعل غير التوليدي الإرادة وهي غير اختيارية ؛ إذ لو كانت اختيارية لزم أن تكون مسبوقة بإرادة

١٥٧

قلت : نعم ؛ وإن استحال صدور الممكن بلا علة ، إلّا إن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته وهي لا تكاد تتصف بالوجوب ، لعدم كونها بالاختيار ، وإلّا لتسلسل ، كما هو واضح لمن تأمل.

ولأنه (١) لو كان معتبرا فيه الترتّب ، لما كان الطلب يسقط بمجرد الإتيان بها ، من

______________________________________________________

أخرى ، وهي مسبوقة بإرادة ثالثة ، وهي مسبوقة بإرادة رابعة حتى تنتهي إلى ما لا نهاية له ، فيلزم التسلسل وهو باطل ، فتكون الإرادة غير اختيارية ، وكل ما يخرج عن حيّز الاختيار لا يتعلق به التكليف مطلقا ولو غيريا ، فالعلة المركبة من الاختيارية وغيرها لا تتصف بالوجوب ، فالمقدمة الموصلة في غالب الواجبات لا تتصف بالوجوب ، فيختص القول بوجوب المقدمة الموصلة بمقدمات الواجبات التوليدية ، كالإحراق والقتل والتذكية ونحوها من المسببات التوليدية ، التي لا تناط بالإرادة ، مع أن صاحب الفصول يصرح بوجوب المقدمة الموصلة مطلقا. وعليه فلا يندفع الإشكال.

والمراد بالمبادئ في قوله : «إلّا إن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته» هي : الإرادة ومباديها من الخطور وتصور فائدته والتصديق بها ، والميل وهو هيجان الرغبة إليه ، ثم الجزم ، وهو حكم القلب بأنه ينبغي صدوره ، والمرجع لضمير «علته» هو : الفعل ولضمير «هي» مبادئ وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٣٠٦» ـ إن العلة المركبة من الأمر الاختياري وغيره لا تكون اختيارية ، فلا يتعلق بها التكليف لا نفسيا ، ولا غيريا. فالإرادة التي يتوقف عليها الفعل الاختياري ، وتكون موصلة إليه لا تتصف بالوجوب الغيري ؛ لعدم كونها اختيارية ، «وإلّا لتسلسل» أي : ولو كانت الإرادة من الأمور الاختيارية لزم التسلسل ، ووجوب إرادة كل إرادة ؛ لوجود مناط الاتصاف بالوجوب وهو المقدمية في كل مقدمة ولو مع الواسطة ، فإن المقدمية سارية في جميع سلسلة الإرادات غير المتناهية ، وهي الموجبة لوجوبها ، إلّا إن التسلسل باطل ، فكون الإرادة من الأمور الاختيارية الموجبة لوجوبها أيضا باطل.

(١) هذا هو الوجه الثالث : من الردّ على صاحب الفصول ، أورده عليه الشيخ في التقريرات وحاصله : أن من راجع وجدانه وأنصف من نفسه حكم بالضرورة بسقوط وجوب المقدمة بإتيانها بلا ترتب ذي المقدمة عليها ، فلو كان وجوبها منوطا بترتب ذيها لم يسقط وجوبها بلا ترتب ذيها عليها ، مع إنه يسقط.

وبديهي : أن سقوطه ليس من باب سقوط التكليف بالعصيان ، أو بانتفاء الموضوع ، بل من باب سقوطه بالامتثال ، فكانت متصفة بالوجوب مع قطع النظر عن الترتب ، فهذا السقوط يدل على عدم دخل ترتب الواجب على المقدمة في طلب المقدمة ووجوبها ،

١٥٨

دون انتظار لترتب الواجب عليها ؛ بحيث لا يبقى في البين إلّا طلبه وإيجابه ، كما إذا لم تكن هذه بمقدمته ، أو كانت حاصلة من الأول قبل إيجابه ، مع إن الطلب لا يكاد يسقط إلّا بالموافقة أو بالعصيان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التكليف ، كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميت أحيانا أو حرقه ، ولا يكون الإتيان بها (١) بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.

إن قلت (٢) : كما يسقط الأمر بتلك الأمور ، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور فيما يحصل به الغرض منه ، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير ، أو المحرمات.

______________________________________________________

وأن معروض الوجوب الغيري هو مطلق المقدمة لا خصوص الموصلة ، كما زعم صاحب الفصول.

(١) أي : ولا يكون الإتيان بالمقدمة في المقام إلّا من باب الموافقة ، يعني : أن سقوط وجوب المقدمة مستند إلى الموافقة وهو المطلوب.

وكيف كان ؛ فإن المسقط للتكليف أحد أمور ثلاثة :

١ ـ العصيان والمخالفة.

٢ ـ ارتفاع موضوع التكليف.

٣ ـ الموافقة. ولا ريب في أن سقوط الوجوب الغيري في المقام إنما هو بالموافقة وإتيان المقدمة ، كما لا ريب في إن السقوط ليس مستندا إلى العصيان ، أو انتفاء الموضوع ، وحيث لم يكن حينئذ هناك إيصال فاللازم كون غير الموصلة أيضا واجبا وهو المطلوب.

(٢) هذا إشكال على انحصار مسقطات الأمر في الأمور الثلاثة المتقدمة ، أعني : المخالفة وانتفاء الموضوع والموافقة.

وحاصل الإشكال : أن هناك مسقطا رابعا للأمر ، وهو : ما يسقط الأمر مع عدم كونه مأمورا به ؛ لوفائه بالغرض الداعي إلى الأمر كفعل الغير في الواجبات التوصلية ، فإن الأمر فيها يسقط بفعل الغير كسقوط الأمر بتطهير الثوب مثلا ، الحاصل بفعل الغير ، مع وضوح : عدم كون فعل الغير واجبا ، فيسقط الأمر بما ليس مأمورا به ، فيمكن أن يكون المقام من هذا القبيل ، فسقوط الأمر أعم من الامتثال ، فلا يدل على كون مسقطه مأمورا به ، وعليه : فسقوط الأمر الغيري ـ بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون انتظار لترتب ذي المقدمة ـ لا يكشف عن كونها متعلقة للوجوب الغيري ، وقد سقط قبل الترتب كي يقال إنه لو كان الترتب معتبرا في وقوعها على صفة الوجوب لم يسقط وجوبها بلا ترتب ذيها عليها.

١٥٩

قلت (١) : نعم ؛ لكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض من الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب ، فيما لم يكن فيه مانع ، وهو كونه بالفعل محرما ، ضرورة : أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا ، فكيف يكون أحدهما متعلقا له فعلا دون الآخر؟

______________________________________________________

(١) هذا جواب عن الإشكال : وحاصله : نعم ؛ قد يسقط الأمر بغير المأمور به ، مما يحصل به الغرض ، ولكن الكلام هنا في الفعل الاختياري الصادر من المكلف نفسه ، ولم يكن فيه مانع عن اتصافه بالوجوب أي : بأن لا يكون محرما بالفعل ، ففي مثله إذا سقط الأمر بمجرد الإتيان به فهو لا محالة يكشف عن اتصافه بالوجوب ، من غير تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب ، وما لا يترتب عليه أصلا.

وبعبارة أخرى ـ على ما في «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٣٠٩» ـ أن سقوط الأمر بغير الثلاثة المتقدمة أحيانا وإن كان مسلما ، إلّا إن المحصل للغرض إن كان فعلا اختياريا للمكلف ، ولم تعرضه جهة من الجهات الموجبة لحرمته ، فلا محالة يكون واجبا كغيره من الأفعال الاختيارية المتصفة بالوجوب ؛ لوجود المقتضي لوجوبه ، وعدم المانع عنه وهو الجهة المحرمة ، واتحاد حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز ، ويكون الإتيان به مسقطا للأمر ؛ لأجل الامتثال وسقوط الأمر بالمقدمة في مورد البحث من هذا القبيل ، أي : أنه لأجل الامتثال ؛ لتعلق الطلب به حسب الفرض ، فيختص سقوط الأمر ـ لا لأجل الامتثال ـ بما إذا لم يتعلق به الطلب ، إما لخروجه عن حيّز اختياره ؛ كما إذا كان فعل الغير كتطهير الغير الثوب أو البدن ، وأما لحرمته ؛ كالتطهير بالماء المغصوب ، فإنه لا يتعلق به الوجوب للتضاد بين كون الفعل للغير ، وبين تعلق الطلب به ، كما في الأول ، وكذا بين كونه حراما وتعلق الطلب به ، كما في الثاني.

وعليه : فلا يمكن أن يقال : إن المقدمة غير الموصلة ليست بواجبة وإن كانت مسقطة للأمر ؛ لحصول الغرض.

قوله : «فكيف يكون أحدهما متعلقا له فعلا ، دون الآخر؟» إشارة إلى عدم التفاوت بين المقدمة الموصلة وغير الموصلة في وجود المقتضي للوجوب الغيري ، وعدم المانع عن الاتصاف بالوجوب ، ومع عدم التفاوت بينهما يكون وجوب أحدهما ـ وهو الموصل دون الآخر غير الموصل ـ ترجيحا بلا مرجح.

فتحصل من جميع ما أفاده المصنف : أن معروض الوجوب الغيري هو مطلق المقدمة لا خصوص الموصلة ؛ لأن الغرض من المقدمة ـ وهو التمكن من ذيها ، وسد باب عدم ذيها من ناحيتها ـ موجود في مطلق المقدمة ، لا خصوص الموصلة.

١٦٠