دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

لعقاب واحد ، أو لثواب كذلك (١) ، فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها (٢) ، أو وافقه (٣) وأتاه بما له من المقدمات.

نعم (٤) ؛ لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة ، وبزيادة المثوبة (٥)

______________________________________________________

(١) أي : لثواب واحد. قوله : «ضرورة» تعليل لعدم ترتب الثواب والعقاب على الأمر الغيري.

(٢) أي : كثرة المقدمات.

(٣) أي : وافق الواجب «وأتاه بما له» أي : بما للواجب من المقدمات.

وخلاصة الكلام : إنه لا عقاب على ترك مقدمات الواجب بل العقاب إنما هو على ترك الواجب ، فتارك الواجب ومقدماته يستحق عقلا عقابا واحدا ؛ إذ ليس في ترك المقدمة بعد عن المولى يوجب استحقاق العقاب ؛ غير البعد الحاصل بترك ذيها ، ولا ثواب على المقدمة أيضا ؛ فإن الآتي بالواجب ومقدماته يستحق عقلا ثوابا واحدا ؛ إذ ليس في إتيان المقدمة قرب غير القرب الحاصل بإتيان ذيها ، وإنما هي وسيلة التوصل إلى ذيها.

(٤) هذا استدراك على قوله : «وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته ...» إلخ أي : لمّا نفى المصنف استحقاق العقاب على مخالفة الأمر الغيري ، استدرك عليه بقوله : «نعم ؛ لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند المخالفة ...» إلخ وحاصله : أن مخالفة الأمر الغيري وإن لم تكن علة تامة لاستحقاق العقوبة ؛ لكن استحقاقها على مخالفة الأمر النفسي يكون من حين مخالفة الأمر الغيري ؛ لأن مخالفة الأمر الغيري تؤدي إلى عصيان الأمر النفسي من حين مخالفة الأمر الغيري ؛ إذ ترك المقدمة سبب لترك ذيها ، فمن حين تركها يحصل استحقاق العقاب على ذيها ، فلو قيل حينئذ باستحقاق العقوبة على الأمر النفسي من حين مخالفة الأمر الغيري كان متينا ، فالعقاب حقيقة على ترك الأمر النفسي لا الغيري ، ونسبة استحقاق العقوبة إلى الأمر الغيري تكون مجازا.

ومن هنا يظهر الجواب عما حكي عن السبزواري ؛ من توهم : أن العقاب على ترك المقدمة ؛ لأن كونه على ترك ذيها كالقصاص قبل الجناية.

وحاصل الجواب : أن استحقاق العقاب إنما هو على ترك الواجب عند ترك المقدمة ، فإن الواجب بترك مقدمته ؛ وإن صار ممتنعا بسوء اختيار المكلف كامتناع الحج في الموسم بترك الخروج مع الرفقة اختيارا ؛ إلّا إن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

(٥) أي : لا بأس بزيادة الثواب على موافقة الأمر النفسي ؛ فيما إذا كانت له مقدمات كثيرة وأتى بها بما هي مقدمات له ، إلّا إن زيادة الثواب على الواجب من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقها.

١٢١

على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له ، من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الأعمال ، حيث صار أشقها ، وعليه (١) : ينزّل ما ورد في الأخبار من الثواب

______________________________________________________

وفي الرواية : «إن أفضل الأعمال أحمزها» (١) والأفضل يليق بزيادة الثواب ؛ لأنه يصير أشق الأعمال ، وكل أشق الأعمال أفضلها فهذا أفضلها ، وكل أفضل الأعمال له ثواب عظيم ، فهذا له ثواب عظيم ، فالثواب يكون على موافقة الأمر النفسي الذي هو الأشق ، والأفضل على الأمر الغيري بما هو أمر غيري ؛ لأن موافقة الأمر الغيري بما هو غيري لا يوجب قربا للمولى ، وعصيانه لا يوجب بعدا عنه ، والحال : أن الثواب والعقاب يكونان من توابع القرب والبعد.

(١) أي : على كون الثواب على نفس الواجب مع كثرة مقدماته «ينزّل ما ورد في الأخبار ...» إلخ.

وحاصل الكلام في المقام : أن قوله : «وعليه ينزّل ما ورد في الأخبار من الثواب على المقدمات» دفع لتوهم المنافاة بين نفي استحقاق الثواب ، وبين ما تضمنته الروايات من الثواب على المقدمات.

وأما التوهم فيقال : إنه إذا لم يكن الثواب على موافقة الأمر الغيري فكيف ورد في لسان الأخبار ثواب عظيم على فعل بعض المقدمات؟! كما ورد في زيارة مولانا أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : «من زار أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ماشيا كتب الله له بكل خطوة ثواب حجّة وعمرة ، فإذا رجع ماشيا كتب الله له بكل خطوة ثواب حجتين وعمرتين» (٢).

وما ورد في زيارة الإمام الحسين «عليه‌السلام» من «أن لكل قدم يرفعها عتق عبد من ولد إسماعيل عليه‌السلام» (٣) ، وغيرهما من الروايات.

__________________

(١) ورد في كشف الخفاء ، ج ١ ، ص ١٧٥ : «عن ابن عباس : سئل رسول الله «صلى الله عليه [وآله] وسلم» : أي الأعمال أفضل : قال : أحمزها» وفي البحار ، ج ٧٠ ، ص ١٩١ ، ح ٢ ، مرسلا وغير منسوب لكتاب.

وفي مفتاح الفلاح للبهائي ، ص ٤٥ : (قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أفضل الأعمال أحمزها»).

وفي شرح النهج ، ج ١٩ ، ص ٨٣ : (قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أفضل العبادة أحمزها»).

(٢) الوسائل ، ج ١٤ ، كتاب الحج. باب ٢٤ من أبواب المزار ، ص ٣٨٠.

(٣) الوسائل ، ج ١٤ ، كتاب الحج. باب ٤١ من أبواب المزار ، ص ٤٤١.

١٢٢

على المقدمات أو على التفضل فتأمل جيدا ؛ وذلك (١) لبداهة : أن موافقة الأمر الغيري ـ بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي ـ لا توجب قربا ، ولا مخالفته ـ بما هو كذلك ـ بعدا ، والمثوبة والعقوبة إنما تكونان من تبعات القرب والبعد.

إشكال (٢) ودفع :

أما الأول : فهو أنه إذا كان الأمر الغيري بما هو لا إطاعة له ، ولا قرب في

______________________________________________________

فهذه الروايات تدل على ترتب الثواب على المقدمات كالخطوات ؛ فإنها مع كونها مقدمة للزيارة يترتب عليها الثواب ، هذا ينافي ما سبق من المصنف من عدم استحقاق الثواب إلّا على ذي المقدمة.

وحاصل الدفع : أن الروايات الظاهرة في ترتب الثواب على المقدمات إما محمولة على ترتب الثواب على ذي المقدمة ، أو على التفضّل ، جمعا بين ما تقدم من حكم العقل بعدم الاستحقاق ، وبين تلك الأخبار ؛ بمعنى : أن استقلال العقل بعدم استحقاق الثواب على امتثال الأمر الغيري قرينة عقلية على صرف تلك الأخبار من ظواهرها على تقدير ظهورها في الاستحقاق ، وحملها على خلاف ظواهرها ؛ وهو : ترتب الثواب على ذي المقدمة ، أو على نفس المقدمة ، لكن تفضّلا لا استحقاقا ؛ لأن الفضل بيده «سبحانه وتعالى» يؤتيه من يشاء ؛ وذلك لما عرفت : من أن المثوبة والعقوبة مترتبتان على القرب من المولى والبعد عنه ، وامتثال الأمر الغيري لا يوجب قربا ، كما إن مخالفته لا توجب بعدا ، فلا يترتب عليهما ثواب ولا عقاب ، فإذا امتنع الاستحقاق فلا محيص عن حمل ما دل على الثواب على المقدمات على أحد الوجهين المذكورين.

(١) قوله : «وذلك لبداهة ...» إلخ تعليل لوجوب التنزيل المزبور ، وإعادة لما سبق من ضرورية استقلال العقل ، وحاصل التعليل كما عرفت : أن استقلال العقل بعدم استحقاق الثواب على امتثال الأمر الغيري قرينة عقلية على صرف تلك الأخبار عن ظواهرها على تقدير ظهورها في الاستحقاق كما مر فلا نعيد.

(٢) أي : هاهنا إشكالان : الأول : ما أشار إليه بقوله : «أما الأول ...» إلخ.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «هذا مضافا ...» إلخ ، ولكن المصنف جعلهما في الظاهر إشكالا واحدا.

وحاصل الإشكال الأول : أن الواجب الغيري مما لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ؛ لعدم كونه موجبا للقرب والبعد ، وعلى هذا : فكيف يترتب الثواب على الطهارات الثلاث؟ مع كونها من المقدمات ؛ وقد عرفت : أنهم بنوا فيها على عدم استحقاق الثواب عليها ، وقد قام الإجماع على ترتب الثواب على الطهارات الثلاث مع كونها من المقدمات.

١٢٣

موافقته ، ولا مثوبة على امتثاله ، فكيف حال بعض المقدمات كالطهارات ؛ حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها؟ هذا مضافا إلى أن الأمر الغيري (١) لا شبهة في كونه توصليا ، وقد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة.

وأما الثاني (٢) : فالتحقيق أن يقال : إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة ، وغاياتها (٣) إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات ، فلا بد أن يؤتى بها عبادة ،

______________________________________________________

(١) هذا هو الإشكال الثاني : وحاصل الكلام فيه : أن الأمر في الواجب الغيري توصلي ، وليس الغرض منه إلّا التوصل إلى ذيه ، فهو مما يحصل الغرض به بمجرد إتيانه كيفما اتفق ، ولا يعتبر فيه قصد القربة والامتثال ، وعليه : فيكف يعتبر في الطهارات الثلاث قصد القربة والامتثال؟ ولا يكفي مجرد الإتيان بها بدون قصد القربة إجماعا ـ مع كونها واجبات غيرية لا يعتبر فيها قصد القربة ـ لأن كل واجبات غيرية توصلية ، وكل الواجبات التوصلية لا يعتبر فيها قصد القربة ، فالطهارات الثلاث لا يعتبر فيها قصد القربة لكونها واجبات غيرية؟

والحال : قد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة ، ولا تصح بلا قصد أمرها ، ولازم ذلك : أنها من العبادات ، وتكون أوامرها نفسية ؛ لأن العبادية من شئون الأوامر النفسية. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكالين.

(٢) والدفع : أما دفع الإشكال الأول : ـ وهو ترتب الثواب على الطهارات ـ فيندفع بما حاصله : من أن الطهارات الثلاث ـ مع قطع النظر عن تعلق الأمر الغيري بها ـ عبادات مستحبة ، كما يظهر من أدلتها ، فيترتب عليها الثواب لأجل أمرها النفسي الاستحبابي ؛ لا لامتثال أمرها الغيري.

أما دفع الإشكال الثاني : ـ وهو اعتبار قصد القربة فيها مع كونها مقدمة ـ فيندفع : بأنها بما هي عبادات جعلت مقدمة لعبادة أخرى ، فيعتبر في صحتها قصد القربة لكونها من العبادات ؛ لا لاقتضاء الأمر الغيري.

(٣) أي : غايات الطهارات الثلاث ؛ كالصلاة والطواف وغيرهما لا تترتب على تلك الطهارات ، إلّا إن يؤتى بها على وجه العبادة ، فهي وإن كانت مقدمات لغاياتها إلّا إنها في الحقيقة عبادات ؛ بمعنى : أن أمرها النفسي العبادي موضوع للأمر الغيري المقدمي ، فموضوع الأمر الغيري عبادة ، فلا مورد للإشكال على الطهارات الثلاث بأنه : كيف يعتبر فيها قصد القربة مع كونها مقدمة ؛ وكيف يترتب عليها الثواب مع كون الأمر فيها غيريا؟

وبعبارة أخرى : أن جواب المصنف عن الإشكالين يتضح بعد تقديم مقدمة وهي : إن

١٢٤

وإلّا (١) فلم يؤت بما هو مقدمة لها ، فقصد القربة فيها إنما هو لأجل كونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفسية ، لا لكونها مطلوبات غيرية ، والاكتفاء (٢) بقصد أمرها الغيري ، فإنما هو (٣) لأجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه ، حيث إنه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدمة ، فافهم.

______________________________________________________

كون الشيء عبادة على نحوين : تارة : تكون عبادية الشيء بملاحظة تعلق الأمر النفسي التعبدي به مثل : الواجبات العبادية ؛ كالصلاة والصوم والحج ونحوها.

وأخرى : تكون بملاحظة مصلحة ذاتية ورجحان ذاتي ؛ وذلك كالطهارات الثلاث حيث تكون عبادة بلحاظ الرجحان الذاتي.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك : أن الطهارات الثلاث من الغسل والوضوء والتيمم عبادة لا بملاحظة الأمر الغيري ؛ بل بلحاظ رجحان ذاتيها ومصلحتها الذاتية ، ويكون اعتبار قصد القربة فيها لأجل مصلحتها الذاتية ، كما أن حصول الثواب عليها لأجل الرجحان الذاتي الثابت فيها ، ومع هذا الوصف تكون مقدمة لعبادة أخرى ، فحينئذ لا يبقى مجال للإشكالين المذكورين.

(١) أي : وإن لم يؤت بالطهارات على وجه العبادة فلم يؤت بما هو مقدمة.

(٢) أي : قوله : «والاكتفاء بقصد أمرها الغيري» إشارة إلى الاعتراض والإشكال ؛ بتقريب : أنه إن كان ترتب الثواب على الطهارات واعتبار قصد القربة فيها من جهة عباديتها في أنفسها ، وكونها مطلوبات نفسية عبادية ؛ فلا بد من أن يؤتى بها بقصد أمرها النفسي واستحبابها الذاتي ، مع إن طريقة الفقهاء على خلاف ذلك ؛ لبنائهم على الاكتفاء بإتيانها بداعي أمرها الغيري وعدم اعتبار أمرها النفسي ، وهذا كاشف عن كون عباديتها بالأمر الغيري ، فيعود الإشكال بأنه كيف يصح التقرب بالأمر الغيري التوصلي؟

(٣) هذا الكلام جواب عن الإشكال المذكور. وحاصل الجواب : أن الطهارات الثلاث ـ بوصف عباديتها ـ تعلق بها الأمر الغيري ، فيكتفي بقصد أمرها الغيري ؛ لأن الأمر يدعو إلى ما تعلق به وهو هنا المقدمة العبادية ، فقصد الأمر الغيري قصد إجمالي للأمر النفسي المتقدم عليه رتبة ، وهذا المقدار كاف في قصد الأمر النفسي الموجب للعبادية وترتب المثوبة.

وخلاصة الكلام في المقام : أن العبادية في الطهارات الثلاث مفروضة في رتبة سابقة على الأمر الغيري ، والأمر الغيري يتعلق بالعبادة ، فقصده يوجب قصد الأمر النفسي العبادي ضمنا وهو المصحح للعبادية ؛ لا الأمر الغيري.

١٢٥

وقد تفصّي عن الإشكال بوجهين آخرين :

أحدهما : ما ملخصه : (١) أن الحركات الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود

______________________________________________________

قوله : «حيث إنه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدمة» ؛ تعليل لقوله : «يدعو إلى ما هو كذلك».

وحاصل التعليل : أن دعوة الأمر الغيري إلى ما هو عبادة في نفسه إنما هي لأجل أن شأن الأمر الغيري هو الدعوة إلى ما هو مقدمة ، والمفروض : أن المقدمة من الطهارات الثلاث ما يكون عبادة بنفسه ، فقصد أوامرها الغيرية قصد إجمالي لأوامرها النفسية.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى أن الموجب لعبادية شيء إذا كان دعوة أمره العبادي ـ بحيث يكون منشأ عباديته قصد ذلك الأمر تفصيلا أو إجمالا ـ فهو مفقود في المقام ؛ إذ مع الجهل بعباديته أو الغفلة عنها لا يكون الداعي إلى إتيانه إلّا الأمر الغيري المغاير للأمر العبادي ، فكيف يكون الداعي حينئذ ـ ولو إجمالا ـ الأمر العبادي ، مع عدم انطباق الأمر الغيري عليه لمغايرتهما بالتضاد؟ فالأمر النفسي ليس داعيا لا تفصيلا ولا إجمالا إلى عبادية الشيء ؛ لأنه مجهول أو مغفول عنه ، فلا محيص حينئذ عن الالتزام ببطلان الطهارات. كما في «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٢٦٤».

والتخلص عن هذا الإشكال : أن يقال : إن الأمر الغيري مقرّب إلى الله تعالى كالأمر النفسي بعينه كما قيل. أو يقال : بكفاية الرجحان الذاتي في حصول الثواب ، وإمكان قصد التقرب إلى الله «سبحانه وتعالى» على ما قيل. أو إشارة إلى إن ما ذكر في الدفع من كون الطهارات الثلاث بنفسها مستحبة غير مستقيم في التيمم ؛ إذ لا استحباب للتيمم نفسيا ، فيشكل على المصنف : بأن ـ الدفع بما ذكرت ـ لا يطرد في التيمم لعدم استحبابه النفسي ؛ بدعوى : أنه مما لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيا.

ولكن الحق : كون التيمم من العبادات ، والشاهد عليه : ما أفاده في الجواهر في مبحث اعتبار النية في التيمم «من أن الواجب في التيمم النية كغيره من العبادات إجماعا محصلا ومنقولا» (١). انتهى مورد الحاجة. هذا مضافا ما جاء في قوله «عليه‌السلام» : «التراب أحد الطهورين». وكيف كان ؛ فقد أضربنا عما في المقام من بسط الكلام في النقض والإبرام رعاية للاختصار.

(١) ملخص الوجه الأول : إن اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث ليس لأجل أن الأمر المقدمي مما يقتضي التعبدية ؛ بل لأجل أن المقدمات العبادية ليست مقدميّتها بما

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ١ ، ص ١٦٧.

١٢٦

منها من العنوان ، الذي يكون بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها ، لكونه لا يدعو إلّا إلى ما هو الموقوف عليه ، فيكون عنوانا إجماليا ومرآة لها ، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها ليس لأجل أن أمرها المقدمي يقضي بالإتيان كذلك (١) ؛ بل إنما كان لأجل إحراز نفس العنوان الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها.

وفيه : (٢) مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الإتيان بها كذلك ، لإمكان الإشارة إلى

______________________________________________________

هي حركات خاصة كغسل جميع البدن في الغسل ، والغسلتين والمسحتين في الوضوء ؛ بل بعنوان خاص تكون مقدمة للعبادة ، وحيث لا طريق للمكلف إلى إحرازه حتى يقصده تفصيلا ، فلا بد من قصده إجمالا ، فيأتي بتلك الحركات بداعي أمرها الغيري ؛ كي يكون قصد الأمر الغيري عنوانا إجماليا ومرآة لذلك العنوان الخاص ؛ فإن الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلقه ، فإذا أتى المكلف بتلك الحركات بداعي وجوبها الغيري فقد أتى بها بعنوانها الخاص المأخوذ فيها ؛ إذ لا سبيل للمكلف إلى قصد ذلك العنوان المجهول إلّا بقصد الأمر الغيري ، الذي هو عنوان إجمالي لذلك.

فالوجه في عبادية الطهارات الثلاث هو : ذلك العنوان المقصود إجمالا بقصد الأمر الغيري ، وليس الوجه في عباديتها الأمر الغيري حتى يرد عليه بأنه توصليّ فكيف يتقرب به؟

(١) أي : عبادة ، وما في «منتهى الدراية» من كون الضمير في كل من ـ لأمرها ـ و ـ أمرها ـ و ـ عليها ـ عائدا إلى الطهارات كان صحيحا. فمعنى العبارة : بل إنما كان إتيان الطهارات لأجل إحراز نفس العنوان الذي تكون الطهارات بذاك العنوان مقدمة وموقوفا عليها.

(٢) قد أورد المصنف «قدس‌سره» على هذا الوجه من التفصّي بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله «وفيه :» ـ إلى أن قال : ـ «إنه غير واف».

والثاني : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الإتيان بها كذلك» أي : بقصد أمرها غاية ، كما هو قضية قوله : «فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها».

وحاصل الوجه الأول : أن هذا التفصّي على تقدير تسليم كونه وافيا بدفع إشكال عبادية الطهارات ، لكنه لا يفي بدفع الإشكال من ناحية ترتب الثواب عليها.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الإشكال الوارد على الطهارات الثلاث ينحل إلى إشكالين :

١٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : ترتب الثواب عليها. الثاني : اعتبار قصد القربة فيها مع إن المفروض : كونها من المقدمات ، فلا يترتب عليها الثواب ولا يعتبر فيها قصد القربة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن هذا الوجه من التفصّي على فرض تسليم كونه وافيا بدفع الإشكال الثاني ؛ وهو اعتبار قصد القربة فيها ، وذلك لما ذكر في التفصّي من أن الأمر الغيري عنوان إجمالي مشير إلى العنوان الخاص المقوم لعبادية الطهارات ، فقصد الأمر الغيري قصد لذلك العنوان الخاص الذي تكون به مقدمة لعبادة أخرى ، غاية الأمر : يكفي في عبادية الطهارات إحراز العنوان الخاص الحاصل إجمالا بقصد أمرها الغيري.

لكنه لا يفي بدفع الإشكال الأول وهو ترتب الثواب عليها ؛ لأن الأمر الغيري لا يترتب عليه الثواب ، فيبقى إشكال أنه كيف يترتب الثواب على الأمر الغيري؟

وأما الوجه الثاني ـ وهو ما أشار إليه بقوله : «مضافا ...» إلخ. فحاصله أن يقال : إنه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات هو الإشارة إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفا لا غاية وداعيا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين جعل قصد الأمر غاية وداعيا ، وجعله وصفا. والفرق بينهما : إن الوضوء من الطهارات الثلاث ، وقد تعلق به الأمر الغيري باعتبار كونه شرطا لصحة الصلاة ، فتارة : يجعل أمره الغيري غاية وداعيا ؛ بأن ينوي الوضوء امتثالا لأمره وبداعي وجوبه الغيري شرعا.

وأخرى : يجعل أمره الغيري وصفا ؛ بأن كان أصل الداعي لإتيانه شيئا آخر غير قربي ؛ بأن ينوي الوضوء الواجب بالوجوب الغيري ولو كان الداعي شيئا آخر مثل : التبريد أو التنظيف ونحوهما من الدواعي النفسانية ، فيكون قصد الوجوب حينئذ بنحو التوصيف أي : توصيف الطهارات بالوجوب الغيري.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه لا فرق بينهما من جهة مرآتية الأمر الغيري للعنوان الخاص المأخوذ فيها ، فكما أن قصد أمرها الغيري وجعله غاية وداعيا عنوان مشير إلى العنوان الواقعي المقوم لعباديتها ؛ فكذلك جعله وصفا وأخذه بنحو الوصفية ، فإن التوصيف أيضا عنوان مشير إلى العنوان الواقعي المقوم لعباديتها.

هذا مع أنهم قائلون : باعتبار إتيان الطهارات بداعي أمرها الغيري ، واعتبروا أخذ الأمر الغيري بعنوان الداعي بحيث لا تصح بدونه ، وهذا دليل على أن قصد الأمر الغيري ليس

١٢٨

عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر ، ولو بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا ، بل كان الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها ، كما لا يخفى.

ثانيهما (١) : ما محصله : أن لزوم وقوع الطهارات عبادة ، إنما يكون لأجل أن الغرض من الأمر النفسي بغاياتها (٢) ، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته ؛ كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك (٣) ، لا باقتضاء أمرها الغيري.

وبالجملة (٤) : وجه لزوم إتيانها عبادة : إنما هو لأجل أن الغرض في الغايات لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا بقصد الإطاعة.

وفيه أيضا (٥) : أنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها.

______________________________________________________

لأجل كونه عنوانا إجماليا ومرآة للعنوان المقوّم لعباديتها ، فحينئذ لا يصح التفصي بالوجه المذكور.

(١) الثاني من وجهي التفصّي عن الإشكال الوارد على الطهارات : توضيحه على ما في «منتهى الدراية ج ٢ ص ٢٧٠» : إن عبادية الطهارات الثلاث ليست للأوامر الغيرية حتى يرد عليها : بأن الأمر الغيري لا يصلح للعبادية ؛ بل للأمر النفسي المتعلق بغاياتها كالصلاة والطواف ؛ لكون الغرض من هذه الغايات موقوفا على الإتيان بمقدماتها كنفسها على وجه قربي ، فالمصحح لعبادية الطهارات هو الأمر المتعلق بغاياتها كالصلاة والطواف ونحوهما من المشروطات بالطهارة ؛ لا الأمر الغيري.

(٢) أي : الطهارات ، والضمير المستتر في ـ يحصل ـ عائد إلى الغرض.

(٣) أي : ما لم يؤت بالطهارات بقصد التقرب.

(٤) خلاصة الجواب والتفصّي الثاني : أن وجه لزوم إتيان الطهارات عبادة ـ كلزوم إتيان نفس الغايات ـ إنما هو لأجل أن الغرض في الغايات ـ أعني : الصلاة والطواف ونحوهما ـ لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطهارات الثلاث ـ من بين مقدماتها ؛ من الستر والاستقبال ـ أيضا بقصد الإطاعة ، كما يلزم الإتيان بنفس الغايات بقصد الإطاعة.

(٥) أي : وفيه أيضا يرد ما ورد على التفصّي الأول من : إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها ، أي : على الطهارات ، وإن كان وافيا بدفع إشكال لزوم قصد الإطاعة. ووجه عدم وفائه بدفع إشكال ترتب الثواب : إنه لا يمكن أن يكون الأمر الغيري موجبا للثواب.

وملخص الكلام : إن هذا الوجه لا يدفع الإشكال من كلتا الجهتين : وهما القربة

١٢٩

وأما ما ربما قيل (١) : في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات من الالتزام بأمرين :

______________________________________________________

والمثوبة ؛ بل يدفع إشكال قصد القربة فقط ؛ وذلك لأن الغرض الداعي إلى الأمر بالغايات لما كان بمثابة لا يحصل إلّا بإتيان خصوص الطهارات الثلاث من المقدمات الخارجية بقصد الإطاعة ؛ كإتيان نفس الغايات ، فلا بد في سقوط الأمر بالغايات من إتيان الطهارات على وجه العبادة ، والغرض موجب لعبادية الطهارات ؛ لا أمرها الغيري ، فيندفع إشكال عدم صلاحية الأمر الغيري للمقربية.

وأما إشكال عدم ترتب الثواب على الأمر الغيري : فهو باق على حاله ، هذا بخلاف الوجه الذي أفاده المصنف في التفصّي عن الإشكال ، فإنه دافع له بكلا شقّيه ؛ لكون الأمر النفسي الندبي العبادي المتعلق بالطهارات دافعا للإشكال ، من كلتا الجهتين ؛ أي : من جهة اعتبار قصد القربة ، ومن جهة ترتب المثوبة.

ثم إن الفرق بين هذه الوجوه الثلاثة الدافعة لإشكال قصد القربة ظاهر ؛ إذ الأول : ناظر إلى نشوء العبادية عن الأمر النفسي الندبي العبادي ؛ المتعلق بالطهارات الثلاث ، مع الغض عن أمرها الغيري.

والثاني : ناظر إلى نشوء العبادية عن رجحان الطهارات ذاتا ، وكون الأمر الغيري عنوانا مشيرا إلى ذلك العنوان الراجح.

والثالث : ناظر إلى كون الغرض المترتب على ذي المقدمة مما يتوقف حصوله على إتيان الواجب وبعض مقدماته عبادة ، فالعبادية ناشئة عن ذلك الغرض ، كما في «منتهى الدراية ج ٢ ، ص ٢٧٢».

(١) القائل هو الشيخ في التقريرات (١) ، وهذا هو الوجه الثالث من وجوه تفصّي التقريرات عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنه قد تقدم في بحث التعبدي والتوصلي أن الفرق بينهما إنما هو باعتبار قصد القربة في التعبدي وعدم اعتباره في التوصلي ، وقد مر عن بعض : تصحيح نية العبادة وقصد القربة فيها بتعدد الأمر ؛ بأن يأمر أولا بذات الصلاة ليتمكن العبد من إتيانها بداعي أمرها ، ثم يأمر بإتيانها بقصد امتثال الأمر الأول ، والتقرب به إلى الله تعالى.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في توضيح ما قيل في التقريرات : إنه يمكن جريان ما

__________________

(١) راجع : مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٣٥١.

١٣٠

أحدهما : كان متعلقا بذات العمل.

والثاني : بإتيانه بداعي امتثال الأول ، لا يكاد (١) يجدي (يجزي) في تصحيح اعتبارها في الطهارات ، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها ، لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل بالغايات ، فمن أين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها ، ليتمكن به من المقدمة في الخارج.

هذا مع إن (٢) في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلا سابقا ، فتذكر.

______________________________________________________

تقدم في العبادات من تعدد الأمر في الطهارات أيضا ببيان : أن اعتبار الأمرين كاف في دفع إشكال لزوم قصد القربة في الطهارات ، وذلك بتقريب : أن الأمر المقدمي توجه ابتداء إلى الطهارات ـ وهو المترشح من الأمر بالصلاة ـ ومقتضى هذا الأمر هو : الإتيان بذوات الطهارات من غير قصد القربة ، ثم توجه إليها أمر آخر ـ بأن يؤت بها بقصد امتثال أمرها الأول ـ فاعتبار قصد التقرب إنما أتى من ناحية هذا الأمر الثاني ؛ لا من ناحية الأمر الأول المقدمي.

(١) هذا جواب «أما» في قوله : «وأما ما ربما قيل ...» إلخ. وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه من التفصّي بوجهين : الأول : ما أشار إليه بقوله : «لا يكاد يجدي». والثاني : ما أشار إليه بقوله : «هذا مع إن في هذا الالتزام».

وحاصل الوجه الأول : أن تعدد الأمر ـ على تقدير تماميته في تصحيح قصد القربة في العبادات وفي الأمر النفسي ـ لا يتم في تصحيح قصد القربة في الطهارات وفي الأمر الغيري ؛ إذ المفروض : أن المقدمة هي الطهارات مع قصد أمرها ، ومع قصد القربة لا الطهارات بدون قصد القربة ، فحينئذ لا يمكن أن يترشح عليها أمر غيري من الأمر بغاياتها أي : من الأمر بالصلاة مثلا لاستلزامه تحصيل ما هو حاصل وهو محال ، وليس هناك طريق آخر لتعلق الأمر الغيري بها ؛ بأن يكون بهذا الأمر الغيري ذوات الطهارات مقدمة خارجية ، ثم يتوجه إليها أمر ثانوي بحيث يصحح به قصد القربة فيها ، فيتمكن المكلف من إتيانها بقصد الأمر الغيري.

هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب : وقوله : «إذ لو لم تكن ...» إلخ تعليل لقوله : «لا يكاد يجدي ...» إلخ.

(٢) هذا هو الوجه الثاني من الجواب : وحاصله : مضافا إلى عدم جريان تعدد الأمر هنا للقطع بانتفائه ؛ أن فيه إشكالا على ما عرفته مفصلا في بحث التعبدي والتوصلي ،

١٣١

الثاني (١) : أنه قد انقدح مما هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات صحتها ، ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها.

______________________________________________________

ببيان : أن الأمر الأوّلي الترشحي إن كان توصليا : يسقط بمجرد الإتيان بالطهارات ، فلا وجه للأمر ثانيا بإتيانها بداعي أمرها. وإن كان تعبديا بأن لا يسقط من غير قصد الأمر : فالعقل يستقل بلزوم قصده ، فكان أمر المولى بها ثانيا لغوا وبلا فائدة. هذا تمام الكلام في التذنيب الأول وتوابعه.

في اعتبار قصد التوصل في الطهارات الثلاث وعدم اعتباره

(١) المقصود من عقد هذا التذنيب الثاني هو : إثبات عدم اعتبار قصد التوصل في الطهارات ، وتضعيف الدليل الذي أقامه التقريرات على اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمات العبادية على صفة الوجوب.

أما الدليل الذي أقامه صاحب التقريرات على اعتبار قصد التوصل فهو ما حاصله : أن الامتثال مما يتوقف على قصد عنوان الواجب ، وقصد عنوان الواجب هنا هو قصد عنوان المقدمية ، وقصد عنوان المقدمية مما لا يتحقق بدون قصد التوصل بها إلى ذيها ؛ لأن الأمر الذي تعلق بالطهارات غيري حسب الفرض ، فلا بد من قصد التوصل إلى الغير في تحقق امتثاله ؛ لأن المقصود من الوجوب الغيري هو التوصل إلى الغير.

وأما كلام المصنف في تضعيف هذا الدليل فحاصله : أن صحة المقدمات العبادية كالطهارات الثلاث لا تتوقف على قصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها ؛ لأن عبادية الطهارات ـ بناء على ما حققه المصنف ـ ذاتية ، وهي مصححة لاعتبار قصد القربة فيها ، وأنها بما هي كذلك جعلت مقدمة لغاياتها ، فيجوز الإتيان بها قبل الوقت بداعي حسنها الذاتي وأمرها الاستحبابي النفسي ، كما يجوز الإتيان بها بعد الوقت بداعي أمرها الغيري أيضا ، فحينئذ صحتها لا تتوقف على قصد التوصل ؛ بل تصح وتتصف بالوجوب وإن لم يأت بها لغاية من الغايات.

والحاصل : أن للطهارات صور ثلاث :

الأولى : الإتيان بها بقصد التوصل إلى غاية من غاياتها مع الإتيان بها في الخارج ، كما لو توضأ للتوصل به إلى الصلاة وصلى.

الثانية : هي نفس الصورة الأولى ؛ مع عدم الإتيان بالغاية ، كما لو توضأ للصلاة ثم لم يصل.

الثالثة : الإتيان بها لا بقصد التوصل ، كما لو توضأ لكونه نورا.

١٣٢

نعم (١) ، لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري ، لكان قصد الغاية مما لا بد منه في وقوعها صحيحة ، فإن (٢) الأمر الغيري لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصل إلى الغير ؛ حيث لا يكاد يصير داعيا إلّا مع هذا القصد ؛ بل (٣) في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة ، ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا.

______________________________________________________

إذا عرفت هذه الصور فاعلم : أنه بناء على ما اختاره المصنف من عدم اعتبار قصد التوصل ؛ في صحتها ، وكفاية كونها مستحبة في نفسها هو : صحة جميع الصور الثلاث ، وعدم صحة الصورة الثالثة ؛ على القول باعتبار قصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها.

(١) أي : بناء على أن عبادية الطهارات ، واعتبار قصد القربة فيها لأجل أمرها الغيري بأحد التوجيهات المتقدمة من التقريرات ؛ لا بد من إتيانها بداعي أمرها الغيري ، وهو لا ينفك عن قصد الغاية أي : يكون قصد الغاية داعيا إلى إتيانها بداعي أمرها الغيري ؛ وذلك لعدم تحقق غايتها بدون قصد القربة فيها ، فتكون صحتها واتصافها بالوجوب منوطا بإتيانها بقصد الغاية.

(٢) هذا تعليل لاعتبار قصد الغاية في وقوع الطهارات صحيحة ، فيكون دليلا على اعتبار قصد الغاية ؛ بتقريب : أن عبادية الطهارات لمّا كانت بسبب أمرها الغيري ؛ فلا بد ـ في وقوعها عبادة صحيحة ـ من قصد التوصل إلى الغاية المشروطة بالطهارة ؛ كالصلاة مثلا ؛ لأن امتثال الأمر الغيري منوط بقصد تلك الغاية ، فإن الأمر الغيري لمّا كان تابعا للأمر النفسي ـ لتولده منه ـ فامتثاله أيضا تابع لامتثاله ، فالوضوء بقصد التوصل به إلى الصلاة يكون امتثالا للأمر الغيري ، وبدون هذا القصد لا يتحقق امتثال الأمر الغيري. فعلى القول بكون عبادية الطهارات لأجل الأمر الغيري لا محيص عن قصد الغاية ؛ لتوقف امتثال الأمر الغيري عليه ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٧٧» مع تصرف ما.

(٣) غرضه من هذا الكلام هو : الإضراب عن إناطة العبادية بقصد امتثال الأمر الغيري.

ودعوى : كون المناط في عبادية الطهارات هو : قصد التوصل بها إلى الغايات كالصلاة والطواف ونحوهما ؛ وإن لم يقصد الأمر الغيري المتعلق بالطهارات ؛ بل وإن لم نقل بتعلق الأمر الغيري بها.

فحاصل الكلام : أنه إذا كان مصحح عبادية الطهارات أمرها الغيري ؛ كان ملاك

١٣٣

وهذا (١) هو السرّ في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة ؛ لا ما توهم (٢) من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية ، فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان ، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها ، فإنه (٣) فاسد جدا ؛ ضرورة : أن عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب ، ولا بالحمل الشائع مقدمة له ، وإنما كان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الأوّلية ، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها.

______________________________________________________

عباديتها في الحقيقة قصد الغاية ؛ بلا حاجة إلى قصد الأمر ، بل وإن لم نقل بوجود الأمر الترشحي ، وكان وجوب المقدمة عقليا محضا.

(١) أي : وكون التوصل إلى الغير ملاك عبادية الطهارات هو السرّ في اعتبار قصد التوصل إلى الغير في وقوع الطهارات عبادة ، فإنها لمّا لم تكن عبادة إلّا بقصد التوصل لزم قصد التوصل.

(٢) أي : لا ما توهم ـ ونسب إلى الشيخ في التقريرات ـ من أن السرّ في اعتبار قصد التوصل : إنما هو لكون عنوان المقدمة مأمورا به ، بحيث يكون موضوع الأمر الغيري عنوان المقدمة. فالوضوء مثلا ـ بما هو مقدمة ـ متعلق للأمر الغيري ؛ لا بما هو هو ، ثم الأمر بالوضوء بما هو لا يمتثل إلّا بقصد عنوان مقدميته ، وهو يتوقف على قصد الغاية كالصلاة ، فمتعلق الأمر الغيري ـ على ما توهم ـ هو عنوان المقدمة لا عنوان الوضوء ، فالآتي بالوضوء بداعي أمره الغيري ناو قهرا عنوان المقدمة ، وهو لا ينفك عن قصد الغاية.

(٣) أي : ما توهم من : أن سرّ لزوم قصد التوصل «أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية :» ـ «فاسد جدا» وذلك لمنع الصغرى ـ وهي : كون عنوان المقدمة متعلقا للأمر الغيري ؛ لأن ما يتوقف عليه ذو المقدمة هو ذات المقدمة لا عنوانها ، فإن الأمر الغيري يتعلق بما هو مقدمة بالحمل الشائع كالوضوء ؛ لا بما هو مقدمة بالحمل الذاتي كعنوان المقدمة ؛ ضرورة : أن الصلاة مثلا تتوقف على نفس الوضوء لا على عنوان مقدميته.

نعم ؛ المقدمية جهة تعليلية خارجة عن حيّز متعلق الأمر إنما تكون علة لوجوب المقدمة.

وكيف كان ؛ فلا يعتبر قصدها في امتثال الأمر الغيري ؛ وإنما يعتبر قصدها إذا كانت من الجهات التقييدية التي لها دخل في متعلقات الأحكام ، وهذا هو الفرق بين الجهات التقييدية التي ترد عليها الأحكام ، وبين الجهات التعليلية التي هي ملاكات التشريع لا موضوعاتها.

١٣٤

خلاصة البحث مع نظريات المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري باعتبار الدواعي بمعنى : أنه إذا كان الداعي لطلب شيء هو التوصل إلى واجب آخر ؛ كان ذلك الشيء واجبا غيريا. وإذا لم يكن الداعي التوصل إلى واجب آخر كان ذلك الشيء واجبا نفسيا.

فالواجب الغيري : ما أمر به لغيره ؛ والواجب النفسي : ما أمره لنفسه. وقد أورد على تعريف الواجب النفسي بما حاصله : أن لازم التعريف المذكور : أن يكون جميع الواجبات الشرعية ـ ما عدا المعرفة بالله تعالى ـ من الواجبات الغيرية ؛ لأنها مطلوبات لأجل الخواص والغايات على ما هو الحق عند العدلية ؛ من أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، فتعريف الواجب النفسي لا يكون جامعا ، كما أن تعريف الواجب الغيري لا يكون مانعا.

وقد أجاب المصنف عن هذا الإيراد بما حاصله : أن الفوائد المترتبة على الواجب ـ وإن كانت محبوبة ـ إلّا إنها خارجة عن الاختيار ، فلا تكون واجبة حتى يقال بكون الواجبات التي تترتب عليها هذه الفوائد واجبات غيرية. هذا ما أشار إليه بقوله : «فإن قلت : نعم ...» إلخ ، ثم ردّ المصنف هذا الجواب بما حاصله : أن تلك الفوائد وإن كانت خارجة عن القدرة بلا واسطة ؛ إلّا إنها مقدورة مع الواسطة ، والمقدور مع الواسطة مقدور ، وإلّا لما صح وقوع التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق في الشريعة.

فالأولى في الجواب عن أصل الإشكال أن يقال : إن فعل الواجب وإن كان مما يترتب الأثر عليه ـ إلّا إنه في نفسه حسن يمدح فاعله ويذم تاركه عقلا ، فهو متعلق للإيجاب بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا ، فلا يتوجه عليه الإشكال إذ فيه كلا الملاكين ؛ ملاك الوجوب النفسي ، وملاك الوجوب الغيري.

٢ ـ إن مقتضى إطلاق الهيئة ـ عند الشك في كون شيء واجبا نفسيا أو غيريا ـ هو : كونه واجبا نفسيا ؛ لأن الغيرية قيد زائد على نفس الطلب ، فيحتاج إلى مئونة زائدة ، فعند الشك فيها يرجع إلى الإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة ، هذا بخلاف النفسية فإنها ليست زائدة على نفس الطلب حتى تنفى بالإطلاق.

وأما ما في التقريرات : من منع التمسك بالإطلاق ، بدعوى : كون معنى الهيئة جزئيا ؛ لأن وضعها كوضع الحروف يكون الموضوع له جزئيا ، والجزئي غير قابل للإطلاق

١٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والتقييد ، فلا إطلاق هناك حتى يتمسك به ؛ ففيه : أن معنى الحروف عند المصنف كلي فيكون قابلا للإطلاق والتقييد ، هذا مع إن معنى الهيئة لا بد من أن يكون كليا ؛ لأن المنشأ هو مفهوم الطلب الجامع بين النفسي والغيري ، ولكن مقتضى الإطلاق كونه نفسيا. نعم ؛ قد يكون الطلب الخارجي داعيا لإنشاء الطلب.

ثم إن مطلوبية الفعل حقيقة لا تنافي مطلوبيته إنشاء ؛ لأن النسبة بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي هي عموم من وجه ، فيجتمعان في إنشاء الطلب بقصد الجدّ ؛ كما إذا قال المولى لعبده : «صلّ» ، وأراد منه الصلاة حقيقة ، فحينئذ يصدق على الصلاة أنها مطلوبة بكلا الطلبين وتتصف بكليهما.

فما في التقريرات خلط بين الطلب المفهومي والطلب الإنشائي ، ولعل منشأ الاشتباه والخلط هو : تعاريف التعبير عن مفاد الهيئة بالطلب المطلق من دون تقييده بالحقيقي أو الإنشائي ، والمطلق ينصرف إلى الطلب الحقيقي لكونه فرده الأكمل ، فتوهم من ذكره مطلقا أن مفاد الصيغة هو الطلب الحقيقي ، فيكون هذا من اشتباه المفهوم بالمصداق أي : اشتبه مفهوم الطلب بمصداق الطلب وهو الطلب الحقيقي ، فالشيخ في التقريرات أجرى حكم مصداق الطلب ـ الذي هو عدم إمكان تقييده ـ على مفهوم الطلب ـ الذي هو مفاد صيغة الأمر ـ القابل للتقييد.

ثم عدم تقييد الطلب بالإنشائي إنما هو لوضوح إرادة خصوص الإنشائي ؛ لأن الطلب الحقيقي لا يمكن أن ينشأ بصيغة الأمر.

وكيف كان ؛ فقد ظهر بما ذكرناه ـ من كون مفاد الهيئة هو الطلب الإنشائي القابل للإطلاق والتقييد ـ صحة تقييد مفاد الهيئة بالشرط.

٣ ـ بيان ما هو مقتضى الأصل العملي فيما إذا لم يكن هناك إطلاق أصلا ؛ بأن اختلت إحدى مقدمات الحكمة ؛ كما إذا لم يكن المولى في مقام البيان ، أو كان هناك قدر متيقن في مقام التخاطب ، أو قامت قرينة على تعيين ما هو المراد ؛ فحينئذ المرجع هو الأصل العملي هل مقتضاه هو الاشتغال فيجب الإتيان بما يتردد بين النفسية والغيرية ، أو البراءة فلا يجب الإتيان به؟

والتحقيق : أن الأصل العملي يختلف باختلاف الموارد ، فقد تتفق نتيجته مع النفسية في مورد ، ومع الغيرية في مورد آخر.

المورد الأول : مثل وجوب الوضوء فيما إذا علم أنه نذر ، إما الإتيان بالوضوء أو

١٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الصلاة ؛ بحيث لو كان هو الوضوء كان وجوبه نفسيا ، وإن كان الصلاة كان وجوب الوضوء غيريا فعليه الإتيان بالوضوء ؛ سواء كان وجوبه نفسيا أو غيريا ، فالنتيجة تتفق مع النفسية.

المورد الثاني : ما إذا لم يكن التكليف بما احتمل كون هذا الواجب مقدمة له فعليا ؛ مثل الوضوء قبل وقت الصلاة فلا يجب الإتيان به ؛ لأن وجوبه مشكوك بالشك البدوي ، فإن وجوبه الغيري معلوم الانتفاء ، ووجوبه النفسي مشكوك الحدوث من الأول ، فلا محيص عن الرجوع إلى البراءة ونتيجتها تتفق مع الغيرية.

٤ ـ «تذنيبان» :

في بيان ما هو من توابع الواجب النفسي والغيري.

التذنيب الأول : في ترتب الثواب والعقاب على الواجب الغيري ؛ بعد قيام الإجماع على ترتبهما على امتثال الواجب النفسي ومخالفته ، ثم وقع الخلاف في كيفية ترتب الثواب على الواجب النفسي بأنه بالاستحقاق أو بالتفضّل ، وظاهر المصنف في الخلاف الأول هو : عدم ترتب الثواب على الواجب الغيري ، وبالاستحقاق في الخلاف الثاني.

نعم ؛ لا بأس باستحقاق العقاب على الواجب النفسي من حين ترك مقدمته ، وبزيادة الثواب على الموافقة فيما إذا كانت للواجب مقدمات كثيرة ، وأتى بها بما هي مقدمات له ؛ إلّا إن زيادة الثواب على الواجب حينئذ من باب أنه يصير من أفضل الأعمال حيث صار أشقها ـ وفي الرواية : «إن أفضل الأعمال أحمزها» ، فالأفضل يليق بزيادة الثواب ، لكن الثواب حقيقة إنما هو على موافقة الأمر النفسي الذي هو الأشق والأفضل.

وعلى هذا ـ أي : ترتب الثواب على الواجب النفسي مع كثرة مقدماته ـ ينزّل ما ورد في الأخبار من الثواب على بعض المقدمات ، وقد عرفت تفصيل ذلك.

وكيف كان ؛ فالثواب يترتب على الأمر النفسي ؛ لأنه يوجب قربا إلى الله تعالى ، وامتثال الأمر الغيري لا يوجب قربا حتى يترتب عليه الثواب.

إشكال ودفع : أما خلاصة الإشكال فيقال : كيف لا يترتب الثواب على الأمر الغيري ، وهو يترتب على الطهارات الثلاث مع كونها من المقدمات؟ وهناك إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات مع إن أمرها غيري ، والأمر الغيري توصلي لا يعتبر فيه قصد القربة ، فهناك إشكالان : ترتب الثواب عليها ، واعتبار قصد القربة فيها مع كون

١٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أمرها غيريا ، وقد عرفت : إن الأمر الغيري لا يترتب عليه الثواب ، ولا يعتبر فيه قصد القربة فكيف يترتب عليها الثواب ويعتبر فيها قصد القربة؟

وحاصل الدفع عن الإشكال الأول : أن الطهارات الثلاث ـ مع قطع النظر عن تعلق الأمر الغيري بها ـ عبادات مستحبة ، فترتّب الثواب عليها إنما هو لأجل أمرها الاستحبابي.

أما دفع الإشكال الثاني : ـ اعتبار قصد القربة فيها ـ فيندفع بأنها بما هي عبادات جعلت مقدمة لعبادة أخرى ، فيعتبر في صحتها قصد القربة لكونها من العبادات لا لاقتضاء الأمر الغيري ؛ حتى يقال : إن الأمر الغيري لا يعتبر فيه قصد القربة.

وهناك وجهان آخران : قد تفصّي بهما عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات ، مع إنها من المقدمات ، وقد أشار إليهما بقوله : «وقد تفصي عن الإشكال بوجهين آخرين».

وملخص الوجه الأول : إن اعتبار قصد القربة ليس لأجل الأمر الغيري المقدمي ؛ بل لأجل المقدمة العبادية هي مقدمة لا مطلقا بل بعنوانها الخاص ، وحيث لا طريق لإحراز ذلك العنوان إلّا الإتيان بالمقدمة بقصد أمره الغيري فيكون قصد أمرها الغيري إشارة إجمالية إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها.

وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه بجوابين : الأول : أن هذا الوجه من التفصّي على تقدير تسليم كونه وافيا بدفع إشكال عبادية الطهارات ، لكنه لا يفي بدفع الإشكال من ناحية ترتب الثواب عليها ؛ لأن الأمر الغيري لا يترتب عليه الثواب.

فيبقى إشكال أنه كيف يترتب الثواب على الأمر الغيري؟

أما الوجه الثاني من الجواب : فهو أن يقال : أنه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات هو الإشارة إلى العنوان الخاص لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفا ؛ بأن ينوي الوضوء مثلا بأن يقال حينما يتوضأ : أتوضأ بالوضوء الواجب بالوجوب الغيري ، ولو كان الداعي شيئا آخر مثل التبريد والتنظيف ، فإن التوصيف أيضا إشارة إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها ، فيكون عنوانا مشيرا إلى العنوان الخاص المقوّم لعبادية الطهارات ، فلا يكون الطريق منحصرا في جعل قصد الأمر غاية وداعيا ، مع إن المتعارف بين العلماء هو الحصر أعني : اعتبار قصد الأمر الغيري داعيا وغاية لا وصفا ، فيكون هذا منهم دليلا على إن قصد الأمر الغيري ليس لأجل كونه عنوانا اجماليا ومرآة للعنوان المقوّم لعباديتها ،

١٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يصح التفصي بالوجه المذكور. هذا تمام الكلام في الجواب عن التفصي بالوجه الأول.

أما الوجه الثاني : من التفصي فحاصله : إن عبادية الطهارات الثلاث ليست للأوامر الغيرية حتى يرد عليها : بأن الأمر الغيري لا يصلح للعبادية ؛ بل للأمر النفسي المتعلق بغاياتها كالصلاة والطواف ؛ لأن الغرض من هذه الغايات موقوفا على الإتيان بمقدماتها كنفسها على وجه قربي ، فالمصحح لعبادية الطهارات هو : الأمر المتعلق بغاياتها من المشروطات بالطهارة لا لأجل الأمر الغيري.

وحاصل الجواب عن هذا التفصّي : أنه غير واف بدفع إشكال ترتب الثواب عليها إذ لا يترتب الثواب على الأمر الغيري.

وأما ما قيل من تصحيح عبادية الطهارات الثلاث بالتزام أمرين : بأن يقال : إن الأمر الأول توجه إليها ابتداء وهو المترشح من الأمر بالصلاة ، ثم توجه إليها أمر آخر بأن يؤتى بها بقصد امتثال أمرها الأول فلا يكاد يجدي.

وحاصل الجواب : أن تعدد الأمر ـ على فرض تماميته في تصحيح قصد القربة في العبادات ـ لا يتم في تصحيح قصد القربة في الطهارات الثلاث ؛ إذا المفروض : أن المقدمة هي الطهارات مع قصد أمرها ، فحينئذ لا يمكن أن يترشح عليها أمر غيري من الأمر بغاياتها ؛ لاستلزامه تحصيل الحاصل وهو محال. هذا مع إن تعدد الأمر مقطوع الانتفاء وليس لنا دليل على ذلك.

٥ ـ «التذنيب الثاني» : في اعتبار قصد التوصل في الطهارات الثلاث ، غرض المصنف من عقد هذا التذنيب هو : تضعيف الدليل على اعتباره ، وخلاصة الدليل على اعتبار قصد التوصل : أن الامتثال مما يتوقف على قصد عنوان الواجب ، وقصد عنوان الواجب هنا هو قصد عنوان المقدمية ، وهو لا يتحقق بدون قصد التوصل بها إلى ذيها.

وجه التضعيف : أنه يكفي الإتيان بها بداعي حسنها الذاتي وأمرها الاستحبابي النفسي ، فلا يعتبر فيها قصد التوصل وقصد المقدمية.

٦ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ الواجب الغيري : ما يكون وجوبه لمحض كونه مقدمة لواجب نفسي ، بخلاف الواجب النفسي حيث يمكن فيه اجتماع كلا الملاكين كما عرفت.

٢ ـ أن مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في النفسية والغيرية هو : الرجوع إلى

١٣٩

الأمر الرابع : (١)

لا شبهة في أن وجوب المقدمة ـ بناء على الملازمة ـ يتبع (٢) في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة ، كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا.

______________________________________________________

الإطلاق ، ومقتضاه : كون الشيء واجبا نفسيا. وعند فقد الأصل اللفظي يختلف مقتضى الأصل العملي بحسب الموارد ـ فمقتضاه الاشتغال فيما إذا كان وجوب ما احتمل كونه مقدمة له فعليا ، والبراءة فيما إذا لم يكن وجوبه فعليا على تقدير كونه واجبا غيريا.

٣ ـ ترتب الثواب والعقاب على الواجبات النفسية دون المقدمات والواجبات الغيرية.

٤ ـ عدم اعتبار قصد التوصل في صحة الطهارات الثلاث.

(١) هذا الأمر يكون من الأمور التي لا بد من بيانها في مبحث مقدمة الواجب قبل الخوض في المقصود ، حيث قال المصنف : «وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أمور :

الأمر الأول : أن المبحوث عنه في هذه المسألة هو البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فتكون مسألة أصولية ؛ لا عن نفس وجوبها كي تكون فرعية.

الأمر الثاني : هو تقسيم المقدمة إلى تقسيمات.

الأمر الثالث : في تقسيمات الواجب :

وهذا الأمر الرابع في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ؛ بناء على الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، والمصنف يقول : بالتبعية بمعنى : أنه إذا كان وجوب ذيها مطلقا : يكون وجوب مقدمته أيضا كذلك. وإن كان مشروطا : كان وجوبها كذلك ، فكل ما هو شرط وقيد للوجوب النفسي الثابت لذيها فهو شرط وقيد للوجوب الغيري أعني : وجوب المقدمة ؛ لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ، فكل ما يكون شرطا وقيدا للوجوب النفسي فهو شرط للوجوب الغيري ؛ لأن الوجوب المعلولي تابع للوجوب العلي في الإطلاق والاشتراط.

هذا ما أشار إليه بقوله : «لا شبهة في أن وجوب المقدمة ـ بناء على الملازمة ـ يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة كما أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا». وقد تقدمت الإشارة إلى ما ذكره في أوائل الأمر الثالث ، فراجع.

(٢) أي : إذا كان الواجب مشروطا فمقدمته كذلك مثل : الحج مثلا ، حيث يجب بالاستطاعة ، فالسير ـ وهو مقدمة الحج ـ يكون مشروطا ، وإذا كان الواجب مطلقا كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة : فإن الصلاة واجب مطلقا والطهارة كذلك ؛ وذلك لما

١٤٠