دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإرادة التكوينية ؛ لكونه مع الفارق ، والفرق بينهما أولا : أن الإرادة التكوينية تتعلق بفعل نفس الشخص ، والتشريعية بفعل الغير.

وثانيا : أن الإرادة التشريعية عبارة عن إحداث الداعي في نفس المكلف نحو الفعل المأمور به بتوجيه أمر إليه ، وحدوث الداعي يتوقف على بعض المقدمات ؛ كتصور المكلف الأمر بما يترتب عليه من الثواب على موافقته والعقاب على مخالفته ، وهذا مما لا يمكن أن يتحقق إلّا بعد البعث بزمان قصير كما في الواجب المنجز ، أو بزمان طويل كما في الواجب المعلق ، ومع هذا الفرق بين الإرادتين يكون القياس باطلا.

والمتحصل مما ذكرناه : أنه لا بد من الالتزام بالانفكاك في الإرادة التشريعية.

الإشكال الثاني : هو الذي أشار إليه بقوله : «وربما أشكل على المعلق أيضا» ، وحاصل هذا الإشكال هو : بطلان الواجب المعلق لاستلزامه وجود المشروط عند انتفاء الشرط ؛ لأن المفروض هو : انتفاء القدرة على الواجب مع كونها من الشرائط العامة ، فالحج في الموسم قبل وقته غير واجب لعدم القدرة عليه ، فلو كان واجبا لزم وجود المشروط مع انتفاء الشرط ، وهو خلف فيكون باطلا.

الجواب عن هذا الإشكال هو : اعتبار القدرة للتكليف إنما هو القدرة عليه حين الامتثال لا حين التكليف ، والمفروض هو : وجود قدرة المكلف على إتيان الواجب المعلق في زمان فعله وامتثاله.

الإشكال الثالث : ما أشار إليه بقوله : «ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور ...» إلخ وحاصله : أن الغرض المهم من الالتزام بالواجب المعلق هو : وجوب تحصيل المقدمات غير المقدورة في زمان الواجب ، فيجب تحصيلها على القول بالواجب المعلق إذا كان الغرض المهم هذا.

فنقول : في تقريب الإشكال : أنه لا يتفاوت في هذا المهم بين كون الأمر المعلق عليه الواجب غير مقدور في زمان الواجب أو مقدورا ، فحينئذ لا وجه لما في بعض الكلمات من اختصاص القيد ـ الذي يتوقف عليه الواجب المعلق ـ بغير المقدور كما هو ظاهر الفصول.

«بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر أخذ على نحو يكون موردا للتكليف».

وحاصل الكلام في المقام : أنه لا يفرق في تعلق الواجب بأمر مقدور متأخر بين أن لا يكون ذلك الأمر المتأخر موردا للتكليف ؛ بأن يكون وجوده الاتفاقي مما يتوقف

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه الواجب كما هو ظاهر الفصول ، ولم يظهر عدول المصنف عنه ، والظاهر من المصنف : عدوله عن تخصيص الفصول تعليق الواجب بغير المقدور ، وعممه المصنف للمقدور.

نعم ؛ أن الواجب المشروط باعتبار شرطه ينقسم إلى أقسام :

١ ـ أن يكون الوجوب مشروطا بشرط مقارن نحو : «إن جاءك زيد فأكرمه» ؛ حيث يكون وجوب إكرام زيد مقارنا لمجيئه.

٢ ـ أن يكون مشروطا بشرط متأخر عن الوجوب ، مفروض الحصول في موطنه ، ولكن الواجب يكون حاليا كالوجوب في نحو : «إن سافرت يوم الاثنين فتصدق يوم الأحد بدرهمين» ، فيكون كل من الوجوب والواجب فعليا ، ويكون الشرط استقباليا.

٣ ـ أن يكون الوجوب مشروطا بشرط متأخر عن الوجوب ، مفروض الحصول في موطنه ، مع كون الواجب أيضا متأخرا كالشرط كما في قوله : «إن جاءك زيد يوم الجمعة فمن الآن أحتّم عليك إطعامه في ذلك اليوم».

إذا عرفت هذه الأقسام فنقول : يمكن القول بوجوب المقدمات في القسم الأخير من المشروط قبل حصول شرطه ، فهذا القسم هو الذي ننتفع به بعين ما ننتفع بالواجب المعلق ، فلا فرق بين المشروط والمعلق في فعلية الوجوب ليترشح منه على مقدماته.

وإنما الفرق بينهما : في أن الشرط في الواجب المعلق قيد للمادة ومرتبط بها ، وفي الواجب المشروط قيد للوجوب ومرتبط به.

٤ ـ تنبيه : في بيان مناط وجوب المقدمة وهو فعلية وجوب ذيها ، والغرض الأساسي من عقد هذا التنبيه هو : دفع الإشكال ؛ وهو وجوب المقدمة مع عدم وجوب ذيها في موارد عديدة ، مع تصريحهم بتبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ، فلا يعقل وجوب المقدمة مع عدم وجوب ذيها ، فكيف يمكن القول بوجوبها في موارد عديدة مع عدم وجوب ذيها؟ وهي :

١ ـ حكمهم بوجوب الغسل على المحدث بالحدث الأكبر في الليل مقدمة للصوم في الغد.

٢ ـ حكمهم بوجوب حفظ الماء قبل دخول وقت الصلاة لصرفه في الطهارة ، إذا علم المكلف بعدم التمكن من تحصيله بعد دخول الوقت ؛ مع عدم وجوب الصلاة قبل الوقت حتى يجب حفظ الماء للطهارة.

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ حكمهم بوجوب السعي إلى الحج على المستطيع النائي قبل يوم عرفة مقدمة للحج.

٤ ـ حكمهم بوجوب معرفة القبلة لمن أراد السفر إلى البلدان النائية ، وغير ذلك من الموارد التي يجدها المتتبع في طي كلمات الفقهاء.

فما هو الجواب الصحيح عن الإشكال المزبور في تلك الموارد؟ مع إنه قد ذكر للجواب عنه وجوه :

١ ـ ما نسب إلى صاحب الحاشية : من القول بالوجوب النفسي في هذه الموارد.

٢ ـ ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري : من القول برجوع الشرط والقيد إلى المادة ، فتجب مقدمات الواجب لكون وجوب ذيها حاليا وفعليا.

٣ ـ ما ذهب إليه صاحب الفصول : من القول بالواجب المعلق.

٤ ـ ما أفاده المصنف في الجواب عنه : من الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر المفروض وجوده في موطنه ، فيكون وجوب ذي المقدمة حينئذ فعليا ، فيترشح الوجوب منه إلى مقدماته ؛ لأن المناط في وجوبها فعلية وجوب ذيها. فالجواب عن الإشكال المزبور لا ينحصر بالالتزام بالواجب المعلق ، أو رجوع القيد إلى المادة ، بل الجواب عنه يمكن بالالتزام بالواجب المشروط على نحو الشرط المتأخر.

ثم ما يظهر من كلام المصنف : أنه لا تجب المقدمة الوجودية للواجب إلّا بشروط ثلاثة :

١ ـ عدم كون المعلق عليه قيدا للوجوب أيضا كما هو قيد للواجب.

٢ ـ عدم كون المقدمة مأخوذة في الواجب على نحو يستحيل أن تكون موردا للتكليف ؛ كما إذا أخذ عنوانا للمكلف كالمسافر في نحو : «إن سافرت فقصّر» ؛ إذ لا بد حينئذ من تحقق العنوان في ثبوت الحكم ، ومع تحققه يمتنع ترشح الوجوب عليه لاستلزامه طلب الحاصل.

٣ ـ عدم كون المقدمة قيدا بوجودها الاتفاقي ؛ إذ لا تكون واجبة لو كان الشرط وجودها الاتفاقي.

وكيف كان ؛ فالمتحصل مما ذكر : أنه لا إشكال في لزوم الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، إذا لم يقدر عليه بعد زمانه فيما إذا كان وجوبه حاليا ؛ ولو لأجل شرط متأخر مفروض الحصول في موطنه ، ولا يلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لوجوب ذيها فعلا ـ المقتضي لوجوب مقدماته ـ بل اللازم هو الإتيان بالمقدمة قبل الإتيان بالواجب ولو عقلا.

وقد انقدح ـ بما ذكرناه من فعلية وجوب ذي المقدمة الموجبة لوجوب مقدماته وإن كان مشروطا بشرط متأخر ـ أنه : لا إشكال في الموارد التي يجب الإتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب ؛ لأن وجوب المقدمة يكشف بطريق الإنّ عن وجوب ذيها حاليا ؛ لاستحالة ترشح الوجوب إليها من دون وجوب ذيها.

لا يقال : إنّه لو كان وجوب مقدمة كاشفا عن وجوب ذيها للزم القول بوجوب جميع مقدماته ولو موسعا ، وليس الأمر كذلك أي : ليس يجب جميع المقدمات حتى ما لم يقم دليل على الإتيان بها قبل زمان ذيها.

فإنه يقال : بالالتزام بوجوب جميع المقدمات بالوجوب الغيري بالبرهان الإنّي ؛ لأن وجوب إحدى المقدمات كاشف إنّا عن وجوب ذيها فعلا ، ومقتضى علية وجوب الواجب لوجوب مقدماته هو : الالتزام بوجوب سائر المقدمات قبل زمان الواجب ، إلّا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة وهي : القدرة على الواجب بعد مجيء زمانه ، فلا تجب المقدمة قبل وقته.

٥ ـ في دوران أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة :

وحاصل الكلام في المقام : أن بعض القيود مما يجب تحصيله ؛ كما إذا كان قيدا للواجب المعلق ، وبعضها مما لا يجب تحصيله كما إذا كان القيد راجعا إلى الهيئة ، أو كان مأخوذا عنوانا للمكلف ، أو كان راجعا إلى المادة مع كونه غير اختياري كالوقت ، فإذا علم حال القيد فلا كلام فيه ، وإنما الكلام فيما إذا لم يعلم ذلك وأمكن رجوعه إلى كل من الهيئة والمادة ، ولم يكن في مقام الإثبات ما يعيّن ذلك. فالمرجع حينئذ عند المصنف : هي الأصول العملية ، ومقتضاها : البراءة عن وجوب هذا القيد ؛ لكونه مشكوك الوجوب ، فيكون مجرى البراءة ، بل يمكن القول بعدم وجوب ذي المقدمة أيضا ؛ لأن نفي المعلول ـ وهو وجوب المقدمة ـ مستلزم لنفي العلة وهو وجوب ذيها.

نعم ؛ قال الشيخ الأنصاري : بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادة بوجهين :

أحدهما : أن إطلاق الهيئة يكون شموليا ، وإطلاق المادة بدليا ، والإطلاق الشمولي يقدم على الإطلاق البدلي.

وثانيهما : أن تقييد إطلاق الهيئة يوجب بطلان محل إطلاق المادة دون العكس ، فإذا

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

دار الأمر بين التقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى ، ففي المقام تقييد المادة أولى ، والمصنف يردّ كلا الوجهين.

أمّا ردّ الوجه الأول : فلأن مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف إطلاق المادة ، إلّا إن المناط في التقديم والترجيح ليس كونه شموليا ؛ بل المناط كونه بالوضع كتقديم عموم العام على إطلاق المطلق ، حيث يكون الأول بالوضع كان مقدما على الثاني ؛ لأنه ليس بالوضع ، بل بمقدمات الحكمة ، وكلا الإطلاقين في المقام بمقدمات الحكمة ، فلا أولوية لأحدهما على الآخر.

أمّا ردّ الوجه الثاني : فلأن التقييد وإن كان خلاف الأصل ؛ إلّا إن العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة لا يكون على خلاف الأصل ، والمقام من هذا القبيل ؛ فإن تقييد إطلاق الهيئة مانع عن تحقق الإطلاق في المادة ، لا أنه تقييد لإطلاق المادة كي يقال : إنه خلاف الأصل.

إلّا إن يقال : إن الشيخ توهم ثبوت إطلاق المطلق كعموم العام ، وقد رفع اليد عن الإطلاق في جانب المادة بعد ثبوته ، فيكون التقييد في جانب المادة على خلاف الأصل. ولكن هذا التوهم فاسد ، وقد عرفت وجه الفساد وهو : عدم الإطلاق في المادة أصلا ؛ لعدم جريان مقدمات الحكمة.

نعم ؛ إذا كان التقييد بمنفصل ، ودار الأمر بين التقييدين كان لهذا التوهم مجال ، حيث انعقد للمطلق إطلاق لجريان مقدمات الحكمة في المادة بلا مانع.

قوله : «فتأمل». لعله إشارة إلى عدم صحة هذا التوجيه ؛ إذ ورود التقييد بعد حين كاشف عن عدم إطلاق من أول الأمر ، فلا فرق في عدم انعقاد الإطلاق بين اتصال القيد وانفصاله.

٦ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم صحة تقسيم الواجب إلى المعلق والمنجز بعد كونهما من الواجب المطلق.

٢ ـ الفرق بين الواجب المشروط عند المصنف ، والواجب المعلق عند الفصول : أن القيد على الأول قيد للوجوب ، وعلى الثاني قيد للواجب.

٣ ـ أن وجوب المقدمة ـ بناء على الملازمة ـ تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ؛ لأن وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ، فلا يعقل تغايرهما في الإطلاق والاشتراط.

انتهى الكلام في خلاصة البحث.

١٠٥

ومنها : (١) تقسيمه إلى النفسي والغيري : وحيث كان طلب شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داع ، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب ، لا يكاد التوصل

______________________________________________________

في تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري

(١) من تقسيمات الواجب : تقسيمه إلى النفسي والغيري ، وهذا التقسيم للواجب إنما هو باعتبار الدواعي ؛ كما أشار إليه بقوله : «وحيث كان طلب شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داع».

وملخص الكلام في هذا المقام أن يقال : إن المصنف وإن كان لم يتعرض لتعريف الواجب النفسي والغيري ، إلّا أنّه يظهر من بيانه ما ينقسم به الواجب إليهما من الدواعي وحاصله : أنه إن كان الداعي في طلب شيء وإيجابه هو التوصل به إلى الواجب ـ لتوقف ذلك الواجب عليه ـ كان ذلك الشيء واجبا غيريا كالطهارة مثلا ، فإنها تجب لأجل التوصل إلى الصلاة الصحيحة ، وإن لم يكن الداعي إلى طلب شيء التوصل إلى واجب آخر كان ذلك الشيء واجبا نفسيا كوجوب الحج مثلا ؛ فإنه مطلوب لنفسه ، فالواجب النفسي ما كان نفس الفعل محبوبا ، بلا فرق بين أن يكون الداعي إلى إيجابه محبوبيته بنفسه كالمعرفة بالله سبحانه ، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه كالصلاة الواجبة لنفسها ، والفائدة المترتبة عليها أنها قربان كل تقي ، أو معراج المؤمن ، أو تنهى عن الفحشاء والمنكر إلى غير ذلك.

وقد ظهر من كلامه هذا : تعريف الواجب النفسي والغيري أن الأول : ما أمر به لنفسه ، والثاني : ما أمر به لأجل غيره ، وقد فسرا بهذا التفسير في كلام غير واحد من الأصوليين.

وقد أورد على تعريف الواجب النفسي بما حاصله : من أن لازم ذلك أن تكون جميع الواجبات الشرعية ـ ما عدا المعرفة بالله تعالى ـ من الواجبات الغيرية ؛ إذ المطلوب النفسي لا يوجد في الأوامر أعني : في متعلقاتها ؛ فإنها مطلوبات لأجل الخواص والغايات التي هي خارجة عن حقيقتها ؛ مثلا : الصلاة ـ كما عرفت ـ مطلوبة لكونها ناهية عن الفحشاء والمنكر ، والصوم مطلوب لكونه جنة من النار ، والزكاة مطلوبة لكونها سببا لتطهير المال ونموه ؛ لا سيما على مذهب العدلية بأن الأحكام تابعة للمصالح الواقعية والمفاسد النفس الأمرية.

فعلى ضوء هذا التعريف لا يكون هناك واجب نفسي ما عدا معرفة الله سبحانه حيث أنها غاية الغايات.

١٠٦

بدونه إليه لتوقفه عليه ، فالواجب غيري ، وإلّا فهو نفسي سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه ؛ كالمعرفة بالله ، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه ؛ كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات.

هذا ، لكنه لا يخفي : أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك ـ أي : بما له من الفائدة المترتبة عليه ـ كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا ، فإنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما ، لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة.

فإن قلت (١) : نعم ؛ وإن كان وجودها محبوبا لزوما ، إلّا إنه حيث كانت من الخواص المترتبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف ، لما كاد يتعلق بها الإيجاب.

قلت (٢) : بل هي داخلة تحت القدرة ؛ لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبب ، وهو واضح ، وإلّا لما صح وقوع التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسببات موردا لحكم من الأحكام التكليفية.

______________________________________________________

وأما غيرها من الواجبات فواجبات غيرية لأجل غايات مترتبة عليها بناء على مذهب العدلية ، فتعريف الواجب النفسي لا يكون جامعا للأفراد ، وفي المقابل لا يكون تعريف الواجب الغيري مانعا للأغيار ، لدخول الواجبات النفسية في تعريفه.

وقد أشار المصنف إلى هذا الإيراد بقوله : «لا يخفى : أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك ...» إلخ.

(١) هذا إشارة إلى ما أجيب به عن الإيراد المذكور.

وملخص الجواب : أن الفوائد المترتبة على الواجبات وإن كانت محبوبة ؛ إلّا أنها خارجة عن الاختيار ، فلا تتعلق القدرة بها ، وعليه : فلا يعقل وجوبها وتعلق الخطاب بها لاستلزامه تكليفا بما هو غير مقدور. فحينئذ لا تكون تلك الفوائد المترتبة على الأفعال واجبة حتى يقال بكون تلك الأفعال واجبات غيرية.

(٢) هذا رد من المصنف على الجواب المذكور.

وحاصل الرد : أن تلك الفوائد والخواص وإن كانت في حد أنفسها وبلا واسطة خارجة عن القدرة إلّا أنها مقدورة مع الواسطة لدخول أسبابها تحت القدرة ، ومن البديهي : أن القدرة على السبب قدرة على المسبب ، وإلّا لم يصح وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق وغير ذلك من المسببات موردا لحكم من الأحكام الشرعية ، وهو واضح البطلان.

١٠٧

فالأولى أن يقال : إن الأثر المترتب عليه (١) وإن كان لازما ؛ إلّا إن ذا الأثر لمّا كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله ، بل بذمّ تاركه ؛ صار متعلقا للإيجاب بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا ؛ بخلاف الواجب الغيري ؛ لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي.

______________________________________________________

(١) أي : على الواجب النفسي : «وإن كان لازما ...» إلخ ، وقد أجاب المصنف عن الإشكال : بأن الفعل الواجب وإن كان يترتب عليه الأثر ؛ إلّا إنه معنون بعنوان حسن في نفسه ، والإيجاب متعلق به بما إنه كذلك ، وإن كان في الواقع مقدمة لأمر مطلوب واقعا.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الواجب باعتبار ما هو ملاك وجوبه ومناطه على ثلاثة أقسام :

١ ـ أن يكون فيه ملاك الوجوب النفسي فقط : بأن يكون وجوبه لأجل حسنه الذاتي ، ولم يكن الواجب مقدمة لواجب آخر ؛ كالمعرفة بالله سبحانه.

٢ ـ أن يكون فيه ملاك الوجوب الغيري فقط : بأن يكون وجوبه لأجل حسن غيره ، سواء كان في نفسه وذاته حسنا ؛ كالوضوء والغسل والتيمم ، أم لم يكن كذلك ؛ كقطع الطريق والمسافة مقدمة للحج.

٣ ـ أن يكون فيه كلا الملاكين : بأن يكون وجوبه لأجل حسنه الذاتي ؛ بحيث يستقل العقل بمدح فاعله ، وذمّ تاركه ، وإن لم يلتفت إلى ما يترتب عليه من الأثر والفائدة ، ففيه ملاك الوجوب النفسي لأجل حسنه الذاتي ، وملاك الوجوب الغيري باعتبار كونه مقدمة لواجب آخر ؛ كالصلاة والحج وغيرهما من الواجبات النفسية.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن الواجب النفسي في المقام هو من قبيل القسم الأخير ، فهذا القسم من الواجبات وإن كان تترتب عليه آثار وفوائد لازمة ، ولكن وجوبه والبعث نحوه ليس باعتبار ترتب هذه الفوائد والآثار عليه ؛ بل باعتبار حسنه الذاتي ، وكونه معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله وذم تاركه ، فقد اجتمع فيه ملاك النفسية والغيرية ، ولكن البعث نحوه ، وتعلق الوجوب به إنما هو باعتبار حسنه الذاتي وملاكه النفسي ؛ لا باعتبار مقدميته لغيره.

وبعبارة أخرى : كان وجوبه النفسي باعتبار كونه معنونا بعنوان حسن ، فلذا سمي واجبا نفسيا ، كما أن الواجب الغيري هو ما كان الداعي إلى البعث نحوه ملاك المقدمية ، وهذا لا ينافي وجود الملاك النفسي فيه أيضا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أجاب به المصنف عن الإشكال ، وهو اندراج الواجب النفسي في الواجب الغيري.

١٠٨

وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه ، إلّا إنه لا دخل له في إيجابه الغيري ، ولعله (١) مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه ، وما أمر به لأجل غيره.

فلا يتوجه عليه الاعتراض : بأن جلّ الواجبات ـ لو لا الكل ـ يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية ، فإن المطلوب النفسي (٢) قلّ ما يوجد في الأوامر ؛ فإن جلّها

______________________________________________________

ومنه يظهر : إمكان اجتماع الوجوب النفسي والغيري في مورد واحد بلحاظين مختلفين ؛ بمعنى : أنه باعتبار لحاظ حسنه الذاتي في إيجابه واجب نفسي ، وباعتبار لحاظ حسنه العرضي ومقدميته لغيره واجب غيري ، وهذا ما أشار إليه بقوله : «ولا ينافيه كونه مقدمة لأمر مطلوب واقعا» أي : لا ينافي إيجابه النفسي الناشئ عن حسنه الذاتي كونه مقدمة لمطلوب واقعا وهو الأثر المترتب عليه. هذا بخلاف الواجب الغيري ؛ فإن كونه مقدمة لمطلوب واقعا ينافيه إيجابه النفسي ؛ لعدم ملاك الواجب النفسي فيه.

(١) أي : لعل ما ذكرناه ـ من الفرق بين تعريف الواجب النفسي والغيري بأن الواجب النفسي ما وجب لحسنه الذاتي ، والغيري ما وجب لمقدميته لواجب آخر ـ «مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه ...» إلخ.

وغرض المصنف من هذا الكلام هو :

دفع الإشكال المزبور أعني : لزوم اندراج جلّ الواجبات النفسية في الواجبات الغيرية عمن فسر الواجب النفسي : «بما أمر به لنفسه» ، والغيري : «بما أمر به لأجل غيره».

وحاصل الدفع : أنه من المحتمل أن يريد من هذا التفسير ما ذكرناه من كون الواجب النفسي : ما وجب لحسن نفسه ، والغيري : ما وجب لحسن غيره كالمقدمة ، فحينئذ لا يرد عليه الإشكال المذكور ؛ لما عرفت : من عدم التنافي بين كون الشيء واجبا نفسيا لأجل حسنه الذاتي ، وبين كون مقدمة لمطلوب واقعا وهو الأثر المترتب عليه ، وهذا ما أشار إليه بقوله : «فلا يتوجه عليه ...» إلخ.

(٢) قوله : «فإن المطلوب النفسي ...» إلخ تقريب للاعتراض وهو : اندراج جلّ الواجبات النفسية في الواجبات الغيرية ؛ حيث إن أكثر الواجبات مطلوبات لأجل الغايات المترتبة عليها ، فيلزم أن تكون تلك الواجبات واجبات غيرية على القول بأن الواجبات الغيرية غيرية لأجل كونها مطلوبة لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها ، والواجبات النفسية نفسية لأجل كونها مطلوبة بنفسها لا لأجل الغايات المترتبة عليها.

وهذا بخلاف ما ذكرناه من أن المراد بالواجب النفسي : ما يكون واجبا لحسنه الذاتي وإن كان مما يترتب عليه الأثر إلّا إن وجوبه ليس لترتب الأثر عليه ، وكونه مقدمة لغاية

١٠٩

مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها فتأمل (١).

ثم إنه (٢) لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين ، وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري ، فالتحقيق : أن الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمهما ؛ إلّا إن إطلاقها يقتضي كونه نفسيا ، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم.

______________________________________________________

مطلوبة ؛ بل لحسنه الذاتي ، فحينئذ لا يلزم اندراج الواجبات النفسية في الواجبات الغيرية.

(١) لعله إشارة إلى : أن إرجاع تفسير الواجب النفسي : «بما أمر به لنفسه» ، والغيري : «بما أمر به لأجل غيره بما ذكره المصنف خلاف الظاهر ؛ لأن ظاهرهم أن وجوب الواجب النفسي كان بملاحظة تلك الغايات.

أو إشارة إلى أن تفسير الواجب النفسي ـ بما كان وجوبه لأجل كونه معنونا بعنوان حسن يستقل به العقل ـ لا يخلو من إشكال ؛ إذ لا حسن ذاتيا في بعض الواجبات النفسية كدفن الميت المسلم ؛ فإن وجوبه ليس لحسنه في نفسه ، مع الغض عن المصالح المترتبة عليه مثل احترامه وحفظه عن أكل السباع ، وكتم رائحته المؤذية عن الانتشار.

وكيف كان ؛ فتفسير الواجب النفسي بما وجب لأجل حسنه الذاتي غير وجيه.

(٢) أي : ما تقدم من الفرق بين الواجب النفسي والغيري إنما هو في مقام الثبوت ، وغرضه من هذا الكلام هو : التكلم في مقام الإثبات بعد الفراغ عن مرحلة الثبوت.

وأما توضيح مقام الإثبات فيتوقف على مقدمة وهي : إن هناك احتمالات :

١ ـ أن يعلم من الدليل كون الواجب نفسيا ؛ من دون فرق بين ما كان الدليل هو نفس دليل الأمر ، أم كان خارجيا كالصلوات اليومية ، إذ قد علم من نحو : (أقيموا الصّلاة) أن الصلاة واجب نفسيّ.

٢ ـ أن يعلم من الدليل بأن الواجب غيري كالطهارة ، فقد علم من نحو قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)(١) ؛ أن الوضوء واجب غيري ؛ لمكان تقييد وجوبه بالقيام إلى الصلاة ، هذا مضافا إلى قيام الإجماع بل الضرورة على كون وجوبه غيريا ، ومن المعلوم : أن الإجماع دليل خارجي على وجوب الوضوء ، والمستفاد من نحو : (أقيموا الصّلاة) هو : كون وجوب الصلاة نفسيا لمكان الإطلاق.

٣ ـ أن لا يعلم أن الواجب نفسي أو غيري.

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٦.

١١٠

وأما ما قيل (١) من ، إنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك المذكور ، بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد.

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه لا إشكال مع العلم بالنفسية والغيرية ، وأما مع عدم العلم بإرادة أحدهما والشك فالتحقيق : أن الهيئة التي يتبادر منها الطلب الحتمي وإن كانت موضوعة لمعنى يشمل الواجب النفسي والغيري وهو البعث والتحريك نحو الفعل ، فتكون مشتركة بين ما كان لنفسه أو لغيره ؛ إلّا إن إطلاقها يقتضي كون الواجب نفسيا لا غيريا ؛ لأن الغيرية لمّا كانت قيدا زائدا على نفس الطلب وإنشائه ، فلا محالة تحتاج ثبوتا وإثباتا إلى مئونة زائدة ، فمع الشك في الغيرية يرجع إلى الإطلاق الناشئ من مقدمات الحكمة.

هذا بخلاف النفسية فإنها ليست أمرا زائدا على نفس الطلب حتى تنفى بالإطلاق.

وكيف كان ؛ فمقتضى الإطلاق عند الشك هو : كون الواجب نفسيا إذ لو لم يكن نفسيا ، بل كان غيريا ـ بمعنى : كونه شرطا لغيره ـ لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم ؛ لكون شرطيته قيدا زائدا على نفس الطلب كما عرفت.

وبالجملة : إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين وجدانا ، أو بقرينة شخصية متصلة أو منفصلة ، وأما مع الشك في النفسية والغيرية فمقتضى إطلاق الهيئة هو كون الواجب نفسيا.

(١) أي : ما قيل في التقريرات (١) من منع التمسك بالإطلاق ، وقد عرفت : أن المصنف قد ادعى إمكان التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات كون الواجب نفسيا. ولكن الشيخ «قدس‌سره» في التقريرات قد أنكر صحة التمسك بإطلاق الهيئة ببيان : أن مدلول الهيئة هو واقع الطلب لا مفهومه ، وهو جزئي حقيقي لا يقبل الإطلاق والتقييد ؛ لأن الإطلاق والتقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، وأما الواقع فهو غير قابل للسعة والضيق ، فيمتنع فيه الإطلاق والتقييد ، هذا مجمل ما في التقريرات.

وأما توضيح ذلك مع التفصيل فيتوقف على مقدمة وهي : الفرق بين أن يكون مفاد الهيئة مفهوم الطلب ، وبين أن يكون مفادها مصاديق الطلب وأفراده.

وخلاصة الفرق : أن مفهوم الطلب قابل للإطلاق والتقييد بالغيرية ، وأما المصاديق والأفراد فغير قابلة للإطلاق والتقييد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن الشيخ في التقريرات قائل بأن هيئة الأمر موضوعة

__________________

(١) راجع : مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٣٣٣.

١١١

نعم ؛ لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صح القول بالإطلاق لكنه (١) بمراحل من الواقع ، إذ (٢) لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب ، فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها ، وذلك واضح لا يعتريه ريب.

______________________________________________________

لخصوصيات الطلب المنقدحة في نفس الطالب ، فيكون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد ، فمعنى الهيئة جزئي حقيقي بناء منه على كون الموضوع له في الحروف خاصا ، فوضع الهيئة عنده كوضع الحروف يكون الموضوع له فيها جزئيا ؛ والجزئي غير قابل للإطلاق والتقييد ، فلا يكون له إطلاق حتى يقيّد بقيد ، وحينئذ لا مجال للتمسك بإطلاق الهيئة ـ إلى أن قال ـ «نعم لو كان مفاد الأمر هو المفهوم صح القول بالإطلاق» ، وكان قوله : «نعم ...» إلخ استدراكا على عدم صحة التمسك بالإطلاق لنفي الشك المزبور وحاصله : أن التمسك بالإطلاق مبني على كون مفاد الهيئة مفهوم الطلب ؛ لأنه كلي قابل للإطلاق والتقييد ؛ بخلاف ما إذا كان مفادها جزئيات الطلب وأفراده الخارجية ، فلا إطلاق حينئذ.

(١) أي : كون مفاد الهيئة مفهوم الطلب وإن كان مصححا ومسوّغا للتمسك بالإطلاق لدفع الشك المزبور ؛ إلّا إنه بعيد عن الواقع بمراحل.

(٢) قوله : «إذ لا شك ...» إلخ ؛ تعليل لقوله : «لكنه بمراحل عن الواقع». وتوضيح ذلك التعليل يتوقف على مقدمة وهي : أن هناك أمران يوجبان كون مفاد الهيئة فرد الطلب لا مفهومه :

الأول : حكم العقلاء باتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد تعلق الطلب المنشأ بالصيغة به ، فيقال عنه إنه مطلوب. هذا ما أشار إليه بقوله : «إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب ...» إلخ.

الثاني : أن الموجب للاتصاف المزبور ـ بحكم الوجدان ـ هو : مصداق الطلب وفرده الخارجي لا مفهومه ـ هذا ما أشار إليه بقوله : «ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب» ـ إذ من الواضح : أن اتصاف الشيء بالعرض إنما يكون بطرو واقع العرض عليه لا مفهومه ، فإن الجسم لا يتصف بالبياض إلّا بعروض حقيقة البياض عليه ، وعليه : فاتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر يكشف عن أن مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ؛ إذ مفهوم الطلب لا يصحح اتصاف الفعل بالمطلوبية.

وكيف كان ؛ فنتيجة هذين الأمرين هي : أن مدلول الأمر مصداق الطلب لا مفهومه.

١١٢

ففيه (١) : إن مفاد الهيئة ـ كما مرت الإشارة إليه ـ ليس الأفراد ؛ بل هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف ، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي ـ والذي يكون بالحمل الشائع طلبا ـ وإلّا لما صح إنشاؤه بها ، ضرورة (٢) : أنه من

______________________________________________________

فالمتحصل من جميع ما ذكرناه هو : أن مفاد الهيئة غير قابل للإطلاق والتقييد لكونه جزئيا حقيقيا ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق.

(١) قوله : «ففيه» جواب عن قوله : «وأما ما قيل».

وحاصل الجواب : أولا : أن مفاد الحروف عند المصنف كلي ، فيكون مفاد الهيئة كليا.

وثانيا : على فرض تسليم الجزئية في سائر الحروف فلا بد أن يكون مفاد الهيئة كليا ؛ لأن المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب الذي يحمل عليه الطلب بالحمل الذاتي ويقال : الطلب ـ المستفاد من صيغة الأمر ـ طلب ؛ لأنه القابل للإنشاء لا فرد من الطلب الحقيقي الذي يحمل عليه الطلب بالحمل الشائع ، ويقال : هذا طلب فإنه وصف خارجي لا يوجد بالإنشاء ؛ بل يوجد بأسبابه الخاصة كالشجاعة والعلم ونحوهما.

فالمتحصل : أن المنشأ هو مفهوم الطلب الجامع بين النفسي والغيري ، ولكن مقتضى الإطلاق كونه نفسيا.

وكيف كان ؛ فلمّا كان إشكال الشيخ «قدس‌سره» على التمسك بإطلاق الهيئة مؤلفا من مقدمتين :

إحداهما : كون المعنى الحرفي الذي يكون منه مدلول الهيئة جزئيا خارجيا غير قابل للإطلاق والتقييد.

والأخرى : كون اتصاف الفعل بالمطلوبية لأجل تعلق مصداق الطلب وفرده الخارجي القائم بنفس الطالب به ؛ لا لأجل تعلق مفهوم الطلب به ، فقد أشار المصنف إلى ردّ كلتا المقدمتين.

أما الأولى : فقد أشار إليها بقوله : «ليس الأفراد ...» إلخ أي : أن مفاد الهيئة ليس جزئيا خارجيا وهو الطلب القائم بالنفس ؛ بل مفادها مفهوم الطلب كما تقدم في بحث المعاني الحرفية.

وأما الثانية : فقد أشار إليها بقوله : «واتصاف الفعل بالمطلوبية ...» إلخ ، وسيأتي توضيحه في كلام المصنف فانتظر.

(٢) قوله : «ضرورة» تعليل لقوله : «وإلّا لما صح إنشاؤه بها» أي : وإن لم يكن مفاد الهيئة مفهوم الطلب بأن كان فرده لما صح إنشاء الطلب بالهيئة ؛ لأن الطلب الخارجي

١١٣

الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة. نعم (١) ؛ ربما يكون هو السبب لإنشائه ، كما يكون غيره أحيانا.

واتصاف (٢) الفعل بالمطلوبية الواقعية والإرادة الحقيقة الداعية إلى إيقاع طلبه ،

______________________________________________________

القائم بالنفس من الصفات الخارجية التي لا توجد إلّا بأسبابها المعهودة ، التي ليس الإنشاء منها ، إذ لا يوجد أمر ما من الأمور التكوينية بالإنشاء.

(١) قوله : «نعم ...» إلخ استدراك على عدم صحة إنشاء الطلب الخارجي ، وحاصل ذلك : أن الطلب الخارجي وإن كان مما لا يصح إيجاده بالإنشاء ـ لمغايرة الوجود الإنشائي للتكويني ـ إلّا إنه يمكن أن يكون سببا وداعيا لإنشائه ، كما يكون غير الطلب الخارجي داعيا لإنشائه أحيانا ؛ وذلك كالتهديد والامتحان مثلا.

وكيف كان ؛ فالأمور الواقعية ـ ومنها الطلب الخارجي ـ وإن لم تكن قابلة للإنشاء والإيجاد ـ لأن الموجود بالإنشاء أمور اعتبارية وأمور انتزاعية مثل الزوجية والملكية وما شابههما ـ إلّا إن الطلب الخارجي والإرادة الحقيقية للمولى باعثة إلى إنشاء إرادة الشيء والمراد إنشاء طلبه ، فالطلب الإنشائي مغاير للطلب الحقيقي.

(٢) هذا الكلام من المصنف رد للمقدمة الثانية التي تقدمت الإشارة إليها وهي :

كون اتصاف الفعل بالمطلوبية لأجل تعلق مصداق الطلب به ، لا مفهومه.

وتوضيح ردّ المقدمة الثانية يتوقف على مقدمة وهي : أن الطلب على قسمين : وهما الطلب الحقيقي والإنشائي ، وبينهما عموم من وجه ، فيجتمعان في إنشاء الطلب بقصد الجد ؛ كما إذا قال لعبده : صلّ ، وأراد منه الصلاة حقيقة ، فإنه يصدق على الصلاة أنها مطلوبة بكلا الطلبين ، وتتصف بكليهما. أما الإنشائي : فواضح ، وأما الحقيقي : فلأن المفروض : تعلق إرادته الجديّة بإيجاد العبد لها.

ويفترق الإنشائي عن الحقيقي في إنشاء الطلب بقصد الامتحان ؛ فإن الفعل حينئذ مطلوب بالطلب الإنشائي فقط.

ويفترق الحقيقي عن الإنشائي فيما إذا انقدح في نفسه الطلب بتحقق مباديه ، مع عدم قدرته على الإنشاء ؛ لوجود مانع ، فالفعل حينئذ مطلوب بالطلب الحقيقي ؛ دون الإنشائي.

إذا عرفت هذه المقدمة فقد ظهر لك فساد المقدمة الثانية ، المبنية على توهم انحصار مطلوبية الفعل المتعلق لإنشاء الطلب في المطلوبية الحقيقة ؛ الموجب لتخيل كون مفاد الهيئة لا محالة هو الطلب الحقيقي.

وجه الفساد : أنك قد عرفت ـ في المقدمة ـ انقسام الطلب إلى قسمين ، واجتماعهما

١١٤

وإنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي ، وتحريكا إلى مراده الواقعي لا ينافي (١) اتصافه بالطلب الإنشائي أيضا.

والوجود الإنشائي لكل شيء ليس إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه ، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن ، بل كان إنشاؤه بسبب آخر (٢).

ولعل (٣) منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق ، فتوهم منه (٤) : أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع ،

______________________________________________________

في بعض الأحيان ، وافتراق كل واحد منهما عن الآخر ؛ بأن يكون الفعل المأمور به متصفا لا محالة بالمطلوبية الإنشائية ؛ إذ الطلب الإنشائي هو المطلوب ، والمقصود حصول مفهومه بالصيغة ، وقد لا يكون الفعل الذي تعلق به الإنشاء متصفا بالمطلوبية الحقيقية ، فلا منافاة بين اتصافه بالمطلوبية الحقيقية والإنشائية معا إذا كان هناك طلب باطني ، وكان الإنشاء بداعي البعث.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه هو : عدم حصر اتصاف الفعل بالمطلوبية الحقيقية حتى يكون هذا دليلا على كون مفاد الهيئة مصداق الطلب ، فلا يكون قابلا للتقييد.

(١) قوله : «لا ينافي» خبر لقوله : «واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية». ومعنى العبارة : أن مطلوبية فعل حقيقة لا تنافي مطلوبيته إنشاء أيضا ؛ لما عرفت من : أن النسبة بينهما عموم من وجه فتجتمعان.

فتلخص مما ذكرنا : أن مدلول الهيئة هو الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي الذي في نفس المولى ، والطلب الإنشائي كلي ، وكل كلي قابل للتقييد ، فالطلب الإنشائي قابل للتقييد ، ولازم ذلك : صحة التمسك بإطلاق الهيئة إذا لم تقيد بقيد.

(٢) أي : بسبب آخر غير الطلب الحقيقي من سائر دواعي الإنشاء كالتهديد أو الامتحان في الأوامر الامتحانية.

(٣) غرض المصنف من هذا الكلام هو : التنبيه على منشأ تخيّل كون مفاد الهيئة الطلب الحقيقي ، وحاصل منشأ التوهم ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٢٤» ـ هو : تعارف التعبير عن مفاد الهيئة بالطلب المطلق ، من دون تقييده بالحقيقي أو الإنشائي ـ ومن باب قاعدة أن الشيء إذا ذكر مطلقا ينصرف الذهن إلى فرده الأكمل ـ هذا التعبير صار موجبا لتوهم : كون مفاد الصيغة طلبا حقيقيا لكونه فرده الأكمل يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع.

(٤) أي : فتوهم من الطلب المطلق : «أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا ...» إلخ.

١١٥

ولعمري : إنه (١) من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق.

فالطلب الحقيقي (٢) إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له ، وإن تعارف تسميته (٣) بالطلب أيضا ، وعدم تقييده (٤) بالإنشائي لوضوح : إرادة خصوصه ، وإن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها (٥) كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) أي : أن هذا الاشتباه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق ؛ أي : اشتبه مفهوم الطلب الإنشائي بمصداق الطلب الحقيقي ؛ لأن الطلب الحقيقي من مصاديق مفهوم الطلب ، فالشيخ «قدس‌سره» أجرى حكم مصداق الطلب الذي هو عدم إمكان تقييده على مفهوم الطلب الذي هو مفاد صيغة الأمر القابل للتقييد ، أو قل : إن ما هو مفهوم الطلب حكم عليه بأنه مصداق الطلب.

وكيف كان ؛ فالتعبير عن مفاد الصيغة بالطلب ـ بلا ذكر قيد الإنشائي ـ موجب لتوهم أن مرادهم : أن مفاد الصيغة إنشاء لمصداق الطلب الحقيقي الغير قابل للتقييد ، وقد غفل المتوهم عن أن مرادهم أن مفادها إنشاء مفهوم الطلب القابل للتقييد ، فعدم تعبيرهم بالطلب الإنشائي إنما هو لوضوحه ، لا لعدم كونه مرادا.

(٢) أي : ما هو مصداق لمفهوم الطلب الذي هو مفاد الهيئة عند الشيخ «قدس‌سره» ، فإن عدم قابليته للتقييد لا يوجب عدم قابلية مفهوم الطلب له ، وإن جرى الاصطلاح على تسمية مفاد الهيئة بالطلب أيضا ؛ وذلك لكمال الفرق بين الطلبين ، فإن الأول مصداق خارجي ، ووصف نفساني غير قابل للتقييد بخلاف الثاني ؛ فإنه مفهوم كلي قابل له ، وقابلية المفهوم للتقييد لا تستلزم قابلية المصداق له ، كما إن عدم قابلية المصداق لا يستلزم عدم قابلية المفهوم له.

(٣) أي : وإن تعارف تسمية مفاد الهيئة بالطلب أيضا ؛ أي : كتعارف تسمية الطلب الحقيقي الخارجي به.

(٤) أي : الطلب. قوله : «وعدم تقييده ...» إلخ مبتدأ ، و «لوضوح إرادة خصوصه» خبر له.

والغرض من هذا الكلام هو : الاعتذار عن تقييد مفاد الهيئة ـ وهو الطلب ـ بالإنشائي ، وحاصل الاعتذار ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٢٤٥» ـ أن وضوح امتناع إيجاد الطلب الحقيقي التكويني بالإنشاء قرينة على إرادة خصوص الطلب الإنشائي من الهيئة ، وإن كان حمل الطلب عليه مطلقا غير مقيّد بالإنشائي فلا حاجة إلى تقييده بالإنشائي.

(٥) أي : بالهيئة ؛ لما مرّ من امتناع إيجاد الطلب الحقيقي بالإنشاء.

١١٦

فانقدح بذلك (١) : صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط ، كما مر هاهنا بعض الكلام.

وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي (٢) في المقام. هذا إذا كان هناك اطلاق.

______________________________________________________

(١) أي : بما ذكرناه من كون مفاد الهيئة هو الطلب الإنشائي القابل للإطلاق والتقييد ظهر : «صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط كما مر هاهنا» أي : في الواجب المطلق والمشروط ، عند التعرض لكلام الشيخ في رجوع القيد إلى المادة.

وكيف كان ؛ فكان مفاد الهيئة هو الطلب الإنشائي الذي هو كلي ، لا الطلب الخارجي الذي هو جزئي ، وعليه : فيكون الواجب المشروط المشهوري ممكنا ؛ لأن المفروض : جعل مفاد الهيئة مفهوم الطلب القابل للتقييد ، فيكون الشرط قيدا لنفس الوجوب.

(٢) أي : قد تقدم هناك : أن الطلب والإرادة موضوعان لمعنى واحد ، غير أن المعنى على صنفين : حقيقي ثابت في النفس ، وإنشائي يحصل بالصيغة ، لكن لفظ الطلب أظهر في الثاني ، ولفظ الإرادة أظهر في الأول ؛ مع كون كل من لفظي الطلب والإرادة حقيقة في كلا الصنفين جميعا ، فراجع الجهة الرابعة المتعلقة بمادة الأمر. هذا تمام الكلام في التمسك بالأصل اللفظي وهو أصالة الإطلاق.

ثم شرع في بيان مورد التمسك بالأصل العملي فقال : هذا أي : الرجوع إلى إطلاق الهيئة «إذا كان هناك إطلاق» بأن تمت مقدمات الحكمة ، وأما فيما إذا لم يكن هناك إطلاق ـ بأن اختلت إحدى مقدمات الحكمة ـ كما إذا لم يكن المولى في مقام البيان ، أو كان هناك القدر المتيقن في مقام التخاطب ، أو كانت القرينة على التعيين موجودة ؛ فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي عند الشك في كون الواجب نفسيا أو غيريا.

فيقع الكلام فيما هو مقتضى الأصل العملي في الدوران بين النفسي والغيري من الاشتغال أو البراءة ، فعلى الأول : يجب الإتيان بما يدور أمره بين النفسية والغيرية. وعلى الثاني : لا يجب الإتيان به.

والتحقيق : أن مقتضى الأصل العملي يختلف باختلاف الموارد ، فقد تتفق نتيجته مع النفسية في مورد ، ومع الغيرية في مورد آخر ، وقد أشار المصنف «قدس‌سره» إلى الموردين حيث ذكر للأصل العملي صورتين : إحداهما : ما أشار إليه بقوله : «فلا بد من الإتيان به ...» إلخ. والأخرى : ما أشار إليه بقوله : «وإلّا فلا ...» إلخ.

أما توضيح الصورة الأولى : فيتوقف على مقدمة وهي : أن يعلم بوجوب شيء فعلا ؛ ولكن كان وجوبه مرددا بين كونه نفسيا أو غيريا ، مع العلم بأنه لو كان غيريا كان

١١٧

وأما إذا لم يكن ، فلا بد من الإتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا ؛ للعلم بوجوبه فعلا ، وإن لم يعلم جهة وجوبه ، وإلّا فلا ؛ لصيرورة الشك فيه بدويا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

وجوب ذي المقدمة فعليا ، وذلك مثل : وجوب الوضوء فيما لو علم بأنه نذر إما الإتيان بالوضوء أو الصلاة ؛ بحيث لو كان هو الوضوء كان وجوبه نفسيا ، وإن كان هو الصلاة كان وجوب الوضوء غيريا ، فهو يعلم بوجوب الوضوء إما بخصوصه أو مع الصلاة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا بد من الإتيان بالوضوء للعلم بوجوبه فعلا ؛ إما لكونه نفسيا أو غيريا ؛ لأجل كونه شرطا لما يكون وجوبه فعلا كالصلاة في المثال المزبور. غاية الأمر : لا يعلم جهة وجوبه من حيث النفسية والغيرية.

وكيف كان ؛ فقد علم بوجوب الوضوء مطلقا أي : سواء كان نفسيا أم غيريا فيجب الإتيان به. أما على فرض كونه نفسيا : فوجوب الإتيان به واضح.

وأما على فرض كونه غيريا : فللعلم بفعلية وجوب ما يشك في كون الوضوء من مقدماته ، ومن المعلوم : أن فعلية وجوب ذي المقدمة تستلزم فعلية وجوب مقدمته ، فالعقل يحكم بلزوم الإتيان بالوضوء للعلم بوجوبه على كل تقدير ، والجهل بكيفية وجوبه من النفسية والغيرية لا يقدح في هذا الحكم العقلي.

قوله : «للعلم بوجوبه» تعليل لقوله : فلا بد من الإتيان به». ومعنى العبارة حينئذ : أن وجوب الإتيان به إنما هو لأجل العلم بوجوبه الفعلي ؛ وإن لم يعلم جهة وجوبه من حيث النفسية والغيرية. هذا تمام الكلام في توضيح الصورة الأولى ، ونتيجتها تتفق مع النفسية.

الصورة الثانية : وهي ما أشار إليه بقوله : «وإلّا فلا ...» إلخ. أي : وإن لم يكن التكليف ـ بما احتمل كون هذا الواجب مقدمة له ـ فعليا فلا يجب الإتيان به.

وحاصل الكلام في الصورة الثانية : إنه لا يجب الإتيان بما يدور أمره بين كونه واجبا نفسيا أو واجبا غيريا ـ لكونه مقدمة لما لا يكون وجوبه فعليا ـ مثل : الوضوء قبل وقت الصلاة. وأما عدم الإتيان بالوضوء فلأن وجوبه حينئذ مشكوك فيه بالشك البدوي ؛ لأن وجوبه النفسي غير معلوم ، والغيري معلوم الانتفاء ؛ لأن المفروض : عدم فعلية وجوب ذي المقدمة أعني : الصلاة قبل الوقت ، فلا محيص حينئذ عن جريان البراءة فيما احتمل كونه واجبا نفسيا أو مقدميا لما تثبت فعلية وجوبه ، ونتيجتها تتفق مع الغيرية.

فخلاصة الكلام : أن المرجع في الصورة الأولى هي قاعدة الاشتغال ، وفي الصورة

١١٨

تذنيبان : (١)

الأول : لا ريب (٢) في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي ، وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا ، وأما استحقاقهما على امتثال الأمر

______________________________________________________

الثانية : هي أصالة البراءة. وقد أضربنا عما في بعض الشروح والحواشي من تطويل الكلام في المقام ؛ رعاية للاختصار.

(١) أي : وهما من توابع الواجب النفسي والغيري.

(٢) قبل الخوص في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع فيقال : إنه لا إشكال ولا نزاع في ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي وموافقته ، وكذلك لا إشكال في استحقاق العقاب على ترك الواجب النفسي ؛ لأنه طغيان وتمرّد على المولى ، وخروج عن رسم العبودية.

وإنما النزاع والإشكال في موردين :

الأول : في وجه ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي ؛ هل هو بالاستحقاق أو بالتفضل؟

الثاني : في ترتب الثواب والعقاب على الواجب الغيري ؛ هل في موافقته ثواب ، وفي مخالفته عقاب أم لا؟

إذا عرفت محل النزاع فنقول : إن ظاهر المصنف «قدس‌سره» في المورد الأول هو : كون ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي إنما هو بالاستحقاق لا بالتفضل ، وهناك قول بأنه تفضلي بدعوى : إن العبد ليس أجيرا في عمله للمولى ليستحق الثواب عليه ، وإنما جرى ومشى على طبق وظيفته ومقتضى عبوديته ؛ إذ للمولى حق على العبد أن يطيعه لأنه ولي النعمة ، والعبد بأداء حق العبودية لا يصير مستحقا للثواب وذا حق على المولى ، ولكن المولى الحقيقي أعني : الله «سبحانه وتعالى» هو الذي يتفضّل على العبد بإعطاء الثواب والأجر.

ومن هنا يظهر : إن ما هو ظاهر المصنف من ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي بالاستحقاق لا يخلو عن إشكال ؛ لأن الحاكم باستحقاق العبد للثواب عند الموافقة ، وباستحقاق العقاب عند المخالفة إنما هو العقل ، فحكمه باستحقاق العبد للعقاب عند مخالفته للأوامر النفسية الصادرة عن المولى وإن كان مما لا شك فيه ؛ لأن العقل يستقل باستحقاق العبد للعقاب عند المخالفة بمعنى : إنه لا يرى عقاب المولى إياه ظلما ، إلّا إن حكمه باستحقاق العبد للثواب والأجر عند موافقته لها لا يخلو عن إشكال ؛ لأن العقل

١١٩

الغيري ومخالفته : ففيه إشكال ، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته ، بما هو موافقة ومخالفة (١) ، ضرورة : استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا

______________________________________________________

لا يرى المولى ظالما في حق العبد عند عدم إعطائه له الأجر والثواب ، بل العقل السليم يشهد بعدمه ؛ لحكمه بأن المولى بمولويته مالك للعبد بجميع شئونه وأفعاله ، فله أن يأمر العبد بفعل من غير أن يعطيه أجرا.

فالأولى : أن يكون ترتب الثواب على امتثال الأمر النفسي بالتفضّل لا بالاستحقاق ، وهناك كلام طويل فيما هو المراد من استحقاق العبد للثواب تركناه تجنبا عن التطويل الممل. هذا تمام الكلام في المورد الأول.

وأما المورد الثاني ـ وهو ترتب الثواب على الواجب الغيري ففيه إشكال ـ فقد أشار إليه بقوله «ففيه إشكال».

توضيح الإشكال : أن الواجب الغيري من جهة كون امتثاله امتثالا لأمره تعالى يترتب عليه الثواب ؛ لأن امتثال الواجب الغيري هو بنفسه مصداق للانقياد ، وإظهار لمقام العبودية مع قطع النظر عن الإتيان بالواجب النفسي ، ولذا لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل ، ثم لم يتمكن من الإتيان بذيها لمانع استحق الثواب عليها بلا إشكال ، وهذا دليل على أن الإتيان بها بنفسه منشئ للثواب ، وموجب له ، وعليه فيستحق العبد على الإتيان بالمقدمة وذيها ثوابين.

ومن جهة : أن هوية الأمر الغيري ليست إلّا البعث إلى إيجاد الواجب النفسي بإتيان مقدمته الوجودية ، فلا مصلحة في الأمر الغيري إلّا كونه واقعا في طريق التوصل إلى الواجب النفسي ، فلا إطاعة له إلّا مع قصد الأمر النفسي ، فهو شارع في امتثال الأمر النفسي فيثاب على إطاعته ، وإلّا فلا إطاعة حتى يستحق الثواب.

وكيف كان ؛ فهناك قولان : قول باستحقاق الثواب ، وقول بعدم استحقاقه.

وظاهر المصنف هو : عدم ترتب الثواب والعقاب على المقدمات بدعوى : أن الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والعصيان ـ وهو العقل ـ لا يحكم بأزيد من استحقاق عقاب واحد على مخالفة واجب واحد ، وإن كان ذا مقدمات كثيرة ، وترك جميعها ، وكذا لا يحكم باستحقاق أزيد من ثواب واحد إذا أتى بالواجب وجميع ما له من المقدمات.

(١) أي : بما هو موافقة ومخالفة للأمر الغيري ؛ لأن البحث فيه في قبال الأمر النفسي.

١٢٠