إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

والأكثر مصداقاً فالابتلاء له مصداق قطعي ، كما إذا دار أمر الماء بين الإناءين الّذين يريد استعمال مائهما ومصداق مشكوك لأجل إجمال مفهوم الابتلاء ، كما في المثال المزبور ، نظير عنوان الفاسق إذا خُصِّص به عموم أكرم العلماء فمرتكب الكبيرة فاسق قطعاً ، ومرتكب الصغيرة مشكوك جدّاً ، فهل المرجع في الثاني إطلاق العام أو أصل البراءة؟

ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ المرجع إطلاقات الخطابات ، وقال : إنّ الخطابات بالاجتناب عن المحرمات مطلقة غير معلقة ، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء. وأمّا إذا شكّ في قبح التنجيز ، فيرجع إلى الإطلاقات ، فالأصل في المسألة وجوب الاجتناب إلا ما علم عدم تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم ( التفصيلي ) بكونه الحرام. (١)

أقول : إنّ الخارج عن تحت العام ليس خصوص ما علم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعليق بالابتلاء ، بل خصوص ما كان الخطاب فيه قبيحاً في نظر العقلاء في الواقع سواء علمنا قُبْحَه أو لا.

وعند ذلك فإذا تردد الأمر بين كون الخطاب مستهجناً فيه أو غير مستهجن فيدور أمره بين بقائه تحت العام وخروجه عنه ، ومعه كيف يصحّ التمسك بالخطاب؟ والعجب أنّ الشيخ قد سلك في المقام خلاف ما سلكه في المواقع الأُخرى.

فإذا شكّ في سعة مفهوم العام المخصص وضيقه مثل قولك : أكرم العالم غير الفاسق ، حيث دار أمره بين مرتكب خصوص الكبيرة أو الأعمّ منه ومن الصغيرة ، وبالتالي شكّ في خروج زيد ـ المفروض انّه مرتكب للصغيرة ـ عن تحت

__________________

١. الفرائد : ٢٥٢.

٥٠١

العام إذا كان شاملاً لكلا القسمين ، وعدمه إذا كان مختصّاً بالكبيرة فقط فلا يصحّ أن يتمسّك بالعام ، بحجّة أنّ الخارج هو معلوم الفسق وهو مرتكب الكبيرة ، دون مشكوكه وهو مرتكب الصغيرة.

والحاصل : أنّ الملاك في عدم التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية وبه في الشبهة المفهومية للمخصص الدائر أمره بين الأقل والأكثر ، واحد ، وهو الشكّ في انطباق العام بما هو حجّة فيه على المورد.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني أوضح مقالة الشيخ وقال : إنّه لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر وشموله لكلتا صورتي الابتلاء وعدمه ، والقدر الثابت من التقييد هو إذا كان الخمر خارجاً عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف ، فإذا شكّ في استهجان النهي فالمرجع هو إطلاق الدليل لما تبين في مبحث العام والخاص من أنّ التخصيص بالمجمل مفهوماً ، المردد بين الأقل والأكثر لا يمنع عن التمسك. (١)

ثمّ إنّه قدس‌سره أورد على نفسه وقال ما هذا حاصله :

فإن قلت : المخصص المجمل المتصل يسري إجماله إلى العام ولا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص عليه إذا كان المخصص لفظيّاً أو لبيّاً ضروريّاً لا نظريّاً ، والمقام من قبيل الثاني فيجعل العام حجّة فيما عدا عنوان المخصص سواء كان صدقه على مورد قطعياً أو احتمالياً.

قلت : إنّ إجمال المخصص المتصل سواء كان لفظياً أو عقلياً إنّما يسري إذا كان الخارج عن العموم عنواناً واقعياً غير مختلف المراتب ، وتردّد مفهومه بين الأقل

__________________

١. والفرق بين البيانين طفيف ، فالبيان الأوّل يعتمد على أنّ الخارج هو خصوص ما علم أنّه خارج عن محلّ الابتلاء دون ما شكّ فيه ، ولكن الثاني يعتمد على أنّ الخارج خصوص ما علم استهجانه ، لا ما شكّ فيه.

٥٠٢

والأكثر ، كما في تردد الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ، وأمّا إذا كان الخارج عن العموم عنواناً ذا مراتب مختلفة ، وعلم بخروج بعض أفراده وشكّ في خروج بعض آخر ، فإجمال المخصص وتردده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلى العام ، لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشكّ في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به. (١)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ التفريق بين الفسق والابتلاء وجعل الثاني من أقسام ذات المراتب دون الأوّل غير تام ، لأنّ الأوّل مثل الثاني ، لأنّ الفسق كالكفر ذو مراتب فالمسلم القاتل فاسق والمسلم الكاذب أيضاً فاسق وأين هذا من ذاك؟!

وثانياً : أنّما أفاده من أنّ المخصص إذا كان ذا مراتب فعلمنا بخروج مرتبة ، وشككنا في خروج مرتبة أُخرى فإجمال المخصص لا يسري إلى العام ، لأنّ مرجع الشكّ إلى التخصيص الزائد ، غير تام. لأنّه إنّما يتم لو خرجت كلّ مرتبة بوجه على حدة ، وأمّا إذا كان الكلّ خارجاً بعنوان واحد يعمّ جميع المراتب فإنّ كثرة الخارج وعدمها ، لا توجب كون التخصيص أزيد من واحد كما لا يخفى.

تأييد آخر للعلاّمة الحائري

إنّ لشيخ مشايخنا العلاّمة الحائري مقالاً في تأييد الشيخ.

وحاصله : انّه لا يصحّ التمسّك بالخطاب ، لأنّ المفروض الشكّ في أنّ خطاب الشرع في هذا المورد حسن أو لا؟ فلابدّ من الرجوع إلى القاعدة ، ولكن القاعدة في المقام هي الاحتياط والاشتغال ـ لا البراءة ـ لأنّ البيان المصحح للعقاب عند العقل هو العلم بوجود مبغوض من المولى بين أُمور ، حاصل ؛ وإن شكّ في الخطاب الفعلي من جهة الشكّ في حسن التكليف وعدمه ، وهذا المقدار

__________________

١. الفوائد : ٢ / ٥٧ ـ ٦٠ نقل بتلخيص.

٥٠٣

يكفي حجّة عليه ، نظير ما إذا شكّ في قدرته على الإتيان بالمأمور به وعدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقاً لغرض المولى ومطلوباً له ذاتاً ، وليس له أن لا يُقْدم على الفعل بمجرّد الشكّ في الخطاب الناشئ من الشكّ في قدرته. والحاصل أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعي للمولى أو مبغوضه لا يرى عذراً للعبد في ترك الامتثال. (١)

وأظن انّ الجواب للسيد المحقّق الفشاركي ـ أُستاذ المحقّق الحائري ـ بشهادة وجود ما يقرب من هذا الجواب في تقريرات المحقّق النائيني ، وقد تتلمذا على السيـد الفشاركي ـ قدس اللّه أسرارهم ـ ، فقد جاء في تقريرات الثاني : انّ القدرة العقلية والعادية ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الأوّلية ، بل هي من شرائط حسن الخطاب ، لقبح التكليف عند عدمها ، ولكن الملاك محفوظ في كلتا الصورتين : وجود القدرة وعدمها ، والعقل يستقل بلزوم رعاية الملاك وعدم لغويته مهما أمكن ، ومع الشكّ في القدرة تلزم رعاية الاحتمال تخلّصاً عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في المستقلات العقلية ، فلو صار المشكوك فيه طرفاً للعلم الإجمالي يكون حاله حال سائر موارد العلم الإجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية ، ولا يجوز إجراء البراءة في الطرف الذي هو داخل في محلّ الابتلاء. (٢)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ لازم هذا البيان الاجتناب عن الطرف المشكوك حتى في ما إذا علم خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء قطعاً ، للتحفظ على الملاك بقدر ما أمكن ، وهؤلاء لا يقولون به.

وثانياً : انّ العلم بالملاك مع الشكّ في حسن الخطاب ، يحتاج إلى دليل ، لأنّ

__________________

١. درر الأُصول : ٢ / ١٢١.

٢. الفوائد : ٤ / ٥٥.

٥٠٤

الملاك إنّما يستكشف من خطاب المولى ، ومع عدمه ، كما في الخروج القطعي عن محلّ الابتلاء ، ومع الشكّ فيه ، كما في المقام ، لا علم لنا بوجود ملاك قطعي لازم الإحراز ، فلعلّ للقدرة العادية تأثيراً في تمامية الملاك كما هو الحال في القدرة الشرعية كما في الاستطاعة.

التنبيه الثالث : في الشبهة غير المحصورة

خصّص المحقّق الخراساني التنبيه الثالث لبيان حال الشبهة غير المحصورة ، وكان الأولى عليه أن يخصصه بملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة ، ثمّ يخوض بعد إنهاء البحث عن المحصورة في بيان حكم غير المحصورة.

وإنّما جعل ذلك لنكتة ، وهو انّ كون الأطراف محصورة أو غير محصورة لا يؤثر في نظر المحقّق الخراساني بل الملاك عندئذ فعلية التكليف وعدمها ، فعلى الأوّل يتنجّز الحكم الواقعي من غير فرق بين المحصورة وغيرها.

ثمّ أفاد : إنّ كثرة الأطراف ربّما تكون سبباً لعسر الموافقة القطعية في المحرّمات والواجبات ، أو طروء ضرر ، أو خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء كما هو الحال في قلّة الأطراف المعبّر عنها بالمحصورة. وعلى كلّ تقدير فليس الميزان كثرة الأطراف أو قلّتها ، بل فعلية التكليف وعدمها ، لأجل طروء العناوين الثلاثة ولو شكّ في عروض واحد منها ، فالمتبع هو إطلاق الدليل.

هذا ما أفاده ، ولذلك لم يولِ لغير المحصورة من الشبهة عناية وافرة خلافاً للآخرين.

ولكن تحقيق الكلام يتوقّف على البحث في مقامين :

١. ما هو المعيار لكون الشبهة غير محصورة ، وما هو حدّها؟

٢. ما هو حكمه من التنجّز وعدمه ، على فرض صدق الحد؟

٥٠٥

المقام الأوّل : ما هو المعيار لكون الشبهة غير محصورة؟

قد ذكروا لتمييز المحصورة عن غيرها معايير مختلفة :

١. ما نقله الشيخ عن المحقّق والشهيد الثانيين والميسي وصاحب المدارك من أنّها عبارة عمّا يعسر عدّه لا ما امتنع عدّه ، لأنّ كلّ ما يوجد من الأعداد قابل للعد.

وأُورد عليه بأنّ الألف معدود من الشبهات غير المحصورة مع أنّ عدّه غير متعسّر.

٢. نفس التعريف لكن بإضافة قيد ، وهو تعسّر العد في زمان قصير ، لئلاّ يخرج الألف عن تحت التعريف.

٣. المرجع في تمييز المحصورة عن غيرها هو العرف ، ولعلّ مرجعه إلى الأوّل ، لأنّ المراد من الأوّل ما يعسر عدّه عرفاً وما لا يعسر عدّه كذلك.

٤. ما ذكره الشيخ الأنصاري : إنّ غير المحصورة ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى درجة لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها ، ألا ترى انّ المولى إذا نهى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود زيد فيها لم يكن ملوماً وإن صادف الواقع ، وقد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال ، ما لا يؤثّر مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما إذا نهى المولى عن سبّ زيد وهو تارة مردّد بين اثنين وثلاثة ، وأُخرى بين أهل بلدة ونحوها. (١)

وما ذكره الشيخ هو خيرة المحقّق العراقي حيث قال : إنّ المناط في كون الشبهة غير محصورة هو أن تكون كثرة الأطراف بحدّ يوجب ضعف الاحتمال في

__________________

١. الفرائد : ٢٦١.

٥٠٦

كلّ واحد من الأطراف بحيث يكون موهوماً بدرجة لا يعتني العقلاء بذلك الاحتمال ، بل ربّما يحصل الاطمئنان بالعدم. (١)

ثمّ أورد على نفسه إشكالاً ، حاصله : انّ الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية ، فكيف يجتمع العلم بوجود الحرام والمبغوض في الأطراف ، مع الظنّ بالعدم في كلّ طرف بنحو السلب الكلي؟

وأجاب ما هذا توضيحه : انّ الأفراد إذا لوحظت دفعة واحدة ، فليس فيها إلا العلم بالحرام ولا خبر عن الظن فضلاً عن الاطمئنان بعدمه ، فهذه الصورة هي معقد العلم لا معقد الظن بالعدم.

وأمّا إذا لوحظت الأفراد واحدة بعد واحدة ، ففي كلّ واحد ظن أو اطمئنان بعدمه ، والموجبة الجزئية لا تجتمع مع السالبة الكلية ، أعني : ما إذا لوحظت الأفراد دفعة واحدة ، لكنّها تجتمع مع السالبة الجزئية ، أعني : ما إذا لوحظ كلّ فرد بلحاظ مستقل منقطع عن لحاظ آخر.

ثمّ إنّ المحقّق الخوئي نقل عن شيخه النائيني أنّه أورد على التعريف المختار عند الشيخ بوجهين :

الأوّل : أنّه احالة إلى أمر مجهول ، فإنّ للوهم مراتب كثيرة ، فأيّة مرتبة منه تكون ميزاناً لكون الشبهة غير محصورة.

الثاني : انّ موهومية التكليف لا تمنع عن تنجّز التكليف ، ولذا يتنجّز التكليف المردّد بين طرفين ولو كان احتماله في أحدهما ظنياً وفي الآخر موهوماً. (٢)

يلاحظ على الأوّل : المعيار هو كون التكليف موهوماً في كلّ واحد من

__________________

١. نهاية الأفكار : ٣ / ٣٣٠.

٢. مصباح الأُصول : ٣ / ٣٧٣.

٥٠٧

الأطراف من دون التزام بمرتبة خاصة من الوهم ، فما دام وجود الحرام في كلّ واحد ـ إذا لوحظ وحده ـ موهوماً ، لا يعتني به العقلاء ولا يترتب على العلم بالتكليف في المجموع أثر.

ويلاحظ على الثاني : أنّ السبب لعدم تنجيز التكليف ليس مجرّد الموهومية بل الموهومية المستندة إلى كثرة الأطراف ، التي تُسبّب قلّة اهتمام العقلاء بالنسبة إلى ذلك الاحتمال ، فيكون الحجّة في الواقع هو بناء العقلاء في هذا القسم على موهومية التكليف ، لا مطلق الموهومية وإن كان مسبباً عن أمر آخر كما في مثاله.

٥. ما ذكره المحقّق النائيني بأنّ إذا بلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال في أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك ، ثمّ قال : وليس عدم التمكن من الاستعمال عادة هو الملاك ، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضاً محصورة كما إذا كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، بل لابدّ من اجتماع الأمرين ، كثرة العدد ، وعدم التمكن من جمعه في الاستعمال ، وبهذا تمتاز الشبهة المحصورة عن غير المحصورة. (١)

وبالإمعان في كلامه يظهر انّ ما أورد عليه تلميذه الجليل غير وارد حيث قال : إنّ عدم التمكّن من ارتكاب الجميع لا يلازم كون الشبهة غير محصورة ، فقد يتحقّق ذلك مع قلّة الأطراف وكون الشبهة محصورة ، كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معين فانّ المكلّف لا يتمكن من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت ، وكذلك لو تردّد الحرام بين الضدين في وقت معين. (٢)

وجه عدم الورود : انّ الإشكال إنّما يرد لو كان الميزان عدم التمكّن العادي

__________________

١. فوائد الأُصول : ٤ / ١١٧ ـ ١١٨.

٢. مصباح الأُصول : ٣ / ٣٧٥.

٥٠٨

من المخالفة القطعية وهو قدس‌سره صرّح بأنّه وحده ليس هو الميزان وإلا ربما تكون الشبهة محصورة ولا يتمكن المكلّف عادة من المخالفة ، كما في الخارج عن محلّ الابتلاء ، بل عدم التمكن المستند إلى كثرة الأطراف ومورد النقض ليس كذلك.

نعم أورد عليه سيدنا الأُستاذ قدس‌سره بأنّه إن أراد من عدم التمكن ، الاستعمال دفعة ، فيلزم أن تكون أكثر الشبهات المحصورة غير محصورة ، وإن أُريد الأعم منه وهو التدريج فيلزم أن يكون أكثر الشبهات غير المحصورة ، محصورة ، إذ قلّما يتفق أن لا يمكن الجمع بين الأطراف ولو في ظرف سنين. (١)

يلاحظ عليه : أنّ المراد الأعم من الدفعي والتدريجي ، لكن المقصود من الإمكان هو العادي لا الفعلي ، والأوّل غير موجود في الشبهة غير المحصورة حتى في أزمنة مختلفة إلا ما شذّ وندر.

إلى هنا تبيّن انّ التعريف الحقّ هو ما عرف به الشيخ الأعظم وتبعه الشيخان : الحائري والعراقي ، ولا بأس بتعريف المحقّق النائيني.

المقام الثاني : ما هو الدليل على عدم تنجّز العلم بالتكليف في غير المحصورة؟

وربما يقال : لم يرد عنوان المحصورة وغيرها في النصوص فما هو الوجه لتحديدهما؟

والجواب : انّ العنوانين أُخذا مشيرين إلى القسمين من العلم الإجمالي ، أي ما تكون قلّة الأطراف وكثرتها مؤثرتين في اعتناء العقلاء بالعلم وعدمه ، أو كون التكليف موهوماً في كلّ طرف وعدمه.

__________________

١. تهذيب الأُصول : ٢ / ٢٩٤ ؛ مصباح الأُصول : ٢ / ٣٧٤.

٥٠٩

المقام الثالث : ما هو الدليل على سقوط العلم الإجمالي في غير المحصورة؟

قد استدل على سقوطه بوجوه مذكورة في الفرائد :

الأوّل : الإجماعات المنقولة المستفيضة ، وقد حكاه الشيخ عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد ، وروض الجنان للشهيد الثاني ، والمحقّق البهبهاني في فوائده ، لكنّه غير مفيد ، لاحتمال أن يكون اتّفاقهم ، مستنداً إلى الروايات التي وردت في مختلف الأبواب ، فيكون الاتّفاق مدركياً غير كاشف عن دليل وصل إليهم ولم يصل إلينا.

الثاني : ما استدل به جماعة من لزوم المشقة في الاجتناب ، وحمله الشيخ على لزومه في أغلب أفراد هذا النوع من الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ، فيشمله أدلّة نفي العسر والحرج ، حتى بالنسبة إلى غير الأغلب.

يلاحظ عليه : أنّ العسر والحرج موجب لسقوط العلم الإجمالي في المحصورة أيضاً ، فلا وجه لعنوان غير المحصورة بخصوصها ، مضافاً إلى أنّ الميزان في باب العسر والحرج هو الضيق الشخصي لا النوعي ، فلو كان ضيقاً على الأكثر وسهلاً للأقل فلا وجه لعطف الأقل على الأكثر.

وجهه انّ حديث العسر حديث امتنان ، ولا امتنان لتفويت المصلحة على من له إمكان القيام بالتكليف بسهولة.

الثالث : انّ الغالب عدم ابتلاء المكلّف إلا ببعض معين من محتملات الشبهة غير المحصورة ويكون الباقي خارجاً عن محلّ الابتلاء.

يلاحظ عليه : أنّ الخروج من الابتلاء يوجب سقوط العلم الإجمالي مطلقاً في المحصورة وغيرها ، فما هو الوجه لعنوان المحصورة برأسها فلابدّ أن يستدل بدليل يختص به؟

٥١٠

الرابع : ما أفاده المحقّق النائيني استنتاجاً من الضابطة التي قرّرها لتميز غير المحصورة عنها ، وحاصله : انّه إذا كانت المخالفة القطعية غير محرمة ، لعدم التمكن العادي من استعمالها ، فإذا لم تحرم المخالفة ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض بين الأُصول ، ومع عدم التعارض لا تجب الموافقة القطعية وتجوز المخالفة الاحتمالية. (١)

يلاحظ عليه : أنّ عدم حرمة المخالفة القطعية لو كان مستنداً مباشرة إلى ترخيص الشارع ، فهو يلازم عدم وجوب الموافقة القطعية ، أو جواز المخالفة الاحتمالية ، وأمّا إذا كان مستنداً إلى عجز المكلّف فلا يلازم عدم حرمتها ، عدمَ وجوبها ، وجواز مخالفتها احتمالاً.

ألا ترى أنّه لو كان له عدّة زوجات منقطعات يعلم حرمة مسّ واحدة منهن لأجل الحيض ، فمع أنّه غير قادر على مسّهن في ليلة واحدة ومع ذلك لا تجوز المخالفة الاحتمالية بمسّ واحدة منهنّ.

وأمّا جريان الأُصول الشرعية في الأطراف لأجل عدم حرمة المخالفة فلا يكون مجوزاً ، لجواز المخالفة الاحتمالية ، لما عرفت من أنّه إذا كان السبب الحقيقي لجريان الأُصول هو العجز عن المخالفة ، لا ينتج جواز المخالفة الاحتمالية.

إذا عرفت أنّ هذه الوجوه غير كافية ، فاعلم أنّ الصالح للاستدلال هو الوجهان الآتيان.

الخامس : بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم النابع من كثرة الأطراف كما أوضحناه ، وقد أمضاه الشارع أو لم يردع عنه.

السادس : الروايات الواردة في أبواب أربعة :

١. ما ورد حول الجبن.

__________________

١. الفوائد : ٤ / ١١٩.

٥١١

٢. ما ورد حول شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم.

٣. روايات قبول جائزة الظالم.

٤. روايات المال الحلال المختلط بالربا.

وإليك دراسة هذه الروايات :

روايات الجبن

قد ورد عن أبي جعفر عليه‌السلام في الجبن روايات بظاهرها ثلاث ، ولكنّها في الواقع اثنتان :

١. ما رواه عبد اللّه بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن؟ فقال لي : « سألتني عن طعام يُعجبني » ثمّ أعطى الغلام درهماً ، فقال : « يا غلام ابتع لنا جبناً » ، ثمّ دعا بالغداء فتغدّينا معه فأتى بالجبن فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا من الغداء قلت : ما تقول في الجبن؟ قال : « أو لم ترني آكله » قلت : بلى ، ولكن أُحبّ أن أسمعه منك فقال : « سأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ». (١)

والسند نقيّ غير عبد اللّه بن سليمان فإنّه لم يوثَّق ، ولكن روايات الجبن متضافرة كما ستظهر ، مضافاً إلى نقل المشايخ عنه كأبان ، وصفوان ، وابن أبي عمير ، وهذا يلحقه بالحسان.

ثمّ إنّ قوله : « فيه حلال وحرام » ليس بمعنى احتمال الحلال والحرام ، حتى ينطبق على الشبهة البدئية بل فعلية القسمين ، فينطبق على المحصورة وغير المحصورة ، والمورد قرينة على الثانية ، مضافاً إلى أنّ الترخيص في المحصورة يحتاج إلى التنصيص القاطع للاحتمال لأنّ الترخيص فيه بنظر العرف ، ترخيص في

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١.

٥١٢

المعصية ، فلا يصار إليه إلا بالدليل الحاسم.

٢. صحيحة معاوية بن عمّار عن رجل من أصحابنا ، قال : كنت عند أبي جعفر فسأله رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّه لطعام يُعجبني وسأُخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ». (١) ومن المحتمل انّ الرجل السائل هو عبد اللّه بن سليمان ، ويشهد بذلك تقارب ألفاظهما ، وقد عرفت مفاد الضابطة.

٣.ما رواه محمد بن سنان ، عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى انّه يجعلُ فيه الميتة ، فقال : « أمن أجل مكان واحد ، يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ، إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع وكُلْ ، واللّه إنّي لاعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن ، واللّه ما أظن كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان ». (٢)

والسند مخدوش بأبي الجارود ، كالراوي عنه ، أعني : محمد بن سنان ، لكن عرفت أنّ روايات الجبن متضافرة. نعم أورد الشيخ الأعظم على دلالته بوجهين :

الأوّل : أنّه ظاهر في الشبهة البدئيّة ببيان انّ المراد : انّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان.

يلاحظ عليه : أنّ مجموع الروايات الواردة في الجبن حاكية عن ابتلاء الناس بظاهرة جعل الميتة في الجبن وعقد اللبن بها ، أعني : الانفحة المأخوذة عن المعز الميّت ، وانّها كانت متفشية فيها ، فكان مردّداً بين كونه من الميتة وعدمه ، ففي ذلك المورد حكم الإمام بالجواز ، ومثله لا ينطبق إلا على الشبهة غير المحصورة.

الثاني : انّ الحلية لأخذه من سوق المسلم بناء على أنّ السوق أمارة شرعية

__________________

١ و ٢. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٧ ، ٥.

٥١٣

لحلّ الجبن المأخوذ منه ولو من يد مجهول الإسلام. (١)

يلاحظ عليه : ان لو كانت الحلية مستندة إلى سوق المسلم وأمارة لها ، فما معنى : « واللّه ما أظن كلّهم يُسمّون هذه البربر وهذه السودان »؟ فانّها على طرف النقيض من كون مثل هذا السوق أمارة للحلّية ، فانّه بصدد تضعيف كونه أمارة ، فلا وجه للحلية إلا كون الشبهة غير محصورة.

إلى هنا تمّ ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام وقد عرفت أنّه لا يتجاوز عن كونه حديثين ، وأمّا ما روي عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام حول الجبن فهي خمسة ويحتمل وحدة الخامس مع الرابع ، وإليك نقلها :

٤. روى عبد اللّه بن سليمان ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام في الجبن ، قال : « كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان فيه ميتة ». (٢)

٥. روى عبد اللّه بن سنان : قال سأل رجل أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن الجبن ، فقال : « إنّ أكله ليعجبني » ثمّ دعا به فأكله. (٣) ويحتمل اتحاده مع سابقه ، وقد نقلا بالمعنى والاختصار بأن يكون المراد من قوله : « رجل » هو عبد اللّه بن سليمان ، كما يحتمل تغايرهما.

٦. ما رواه بكر بن حبيب ، قال : سئل أبو عبد اللّه عن الجبن وانّه توضع فيه الأنفحة من الميتة ، قال : « لا يصلح » ثمّ أرسل بدرهم ، فقال : « اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء ». (٤)

والمسبب للحلّية هو كون المورد من قبيل الشبهة غير المحصورة ، وأمره بالشراء من مسلم ، لأجل رفع غبار الشكّ عن قلب السائل ليتّخذه دليلاً على كونه مذكّى وإن كان الدليل واقعاً غيره ، ولذلك قال : « ولا تسأله عن شيء ».

__________________

١. الفرائد : ٢٥٩.

٢ و ٣ و ٤. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٢ ، ٣ ، ٤.

٥١٤

٧. صحيح حماد بن عيسى ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : « كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشترى بها جبناً ويسمّي ويأكل ولا يسأل عنه ». (١)

٨. خبر عمر بن أبي شبيل ، قال : سألت أبا عبد اللّه عن الجبن؟ قال : « كان أبي ذكر له منه شيء فكرهه ثمّ أكله ، فإذا اشتريته فاقطع واذكر اسم اللّه عليه وكل ». (٢)

فمجمل القول في هذه الروايات أنّ فيها احتمالات :

١. راجعة إلى الشبهة غير المحصورة.

٢. راجعة إلى الشبهة المحصورة وغيرها خرجت الأُولى بالدليل وبقيت الثانية.

٣. راجعة إلى الشبهة البدئية كما احتملها الشيخ في خبر أبي الجارود.

٤. انّ الحلّية مستندة إلى سوق المسلم ويده.

والترجيح مع الأوّل خصوصاً مع ملاحظة المجموع من حيث المجموع مع ملاحظة تفشّي ظاهرة جعل الميتة في الجبن.

نعم هنا إشكال آخر.

إنّ كلّ شيء من الميتة حرام إلا الانفحة خلافاً لأهل السنّة ، ومع كونها حلالاً ، فما هذا الاضطراب في أكل الجبن؟ وتصور انّ الطهارة مختصة بالرضيع لا ما إذا كان معلوفاً فانّها نجسة ، مدفوع بانّ عقد اللبن بها يختص بما إذا كان رضيعاً وإلا فلا يعقد به.

ولعلّ الظروف لم تكن مساعدة لبيان الحكم الواقعي للسائلين ، فحاولوا أن يبيّنوا وجه الحلية من طريق آخر.

__________________

١ و ٢. الوسائل : الجزء ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٨ ، ٦.

٥١٥

٢. جواز شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم

هناك لفيف من الروايات يدل على جواز شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم ، والمبيع إمّا زكاة وصدقة أخذه من الفلاّحين ، وإمّا خراج الأراضي المفتوحة عنوة ، المسمّى باسم المقاسمة ومن المعلوم انّ أموالهم كانت غير نقية من الحرام ، ومع ذلك سوّغ الإمام المعاملة معه. وإليك بعض الروايات :

١. صحيح عبد الرحمان بن الحجّاج قال : قال لي أبو الحسن موسى عليه‌السلام : « مالك لا تدخل مع عليّ في شراء الطعام إنّي أظنّك ضيقاً » قال : قلت : نعم ، فإن شئت وسعت عليّ ، قال : « اشتره ». (١)

ولعلّ المراد من « عليّ » هو علي بن يقطين كما ذكره المجلسي في ملاذ الأخيار.

وقوله : « فإن شئت وسعت » ليس دليلاً على أنّ الحلّية من باب الولاية ، لأنّه واقع في كلام الراوي.

٢. مرسل محمد بن أبي حمزة ، عن رجل ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم ويقول ظلمني ، فقال : « اشتره ». (٢)

٣. صحيح أبي عبيدة ( الحذّاء ) عن أبي جعفر قال : سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنم الصدقة وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم ، قال : فقال : « ما الإبل إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه ». (٣)

واحتمال انّ التسويغ من باب الولاية يردّه صحيح الحذَّاء حيث ضرب القاعدة وهو جواز الشراء ما لم يعلم بعينه.

٤. صحيح معاوية بن وهب ( البجلي الثقة ) قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام :

__________________

١ و ٢ و ٣. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ ، ٣ ، ٥.

٥١٦

أشتري من العامل الشيء وأنا أعلم أنّه يظلم؟ فقال : « اشتر منه ». (١)

٥. ما رواه إسحاق بن عمّار مضمراً. (٢)

٦. ما رواه عبد الرحمان بن أبي عبد اللّه البصري مضمراً. (٣)

ولفظ العامل قرينة على أنّ المبيع كان زكاة وصدقة ، أو خراجاً ومقاسمة ، فقد جوز الشراء إلا إذا علم الحرام مشخصاً ، ومن المعلوم كون الحرام بالنسبة إلى الحلال كان قليلاً ، أشبه بالشبهة غير المحصورة.

٣. ما يدل على أخذ جوائز العامل للظالم

وهناك روايات تدل على جواز أخذ جوائز العامل للظالم وأكل طعامه ، نذكر منها ما يلي :

١. صحيحة أبي ولاّد ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم وأنا أمرّ به فأنزل عليه فيُضيّفني ويُحسن إليّ وربّما أمر لي بالدرهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك ، فقال لي : « كل وخذ منه فلك المهنّا وعليه الوزر ». (٤)

٢. صحيحة أبي المغراء قال : سأل رجل أبا عبد اللّه عليه‌السلام وأنا عنده فقال : أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدرهم آخذها؟ قال : « نعم » ، قلت : وأحجُّ بها؟ قال : « نعم ». (٥)

٤. التصرف في مال مختلط بالربا

وردت روايات في باب الربا من أنّ من ورث مالاً فيه ربا ، لا يحرم عليه إلا

__________________

١ و ٢ و ٣. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ؛ والباب ٥٣ من نفس الأبواب الحديث ٢ و ٣.

٤ و ٥. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥١ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ و ٢ ، ولاحظ الحديث ٣ و ٥.

٥١٧

إذا عرفه بعينه نقتصر بروايتين صحيحتين :

الأُولى : صحيحة أبي المغراء قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « ... لو أنّ رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرف أنّ في ذلك المال رباً ، ولكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال كان حلالاً طيّباً فليأكله ، وإن عرف منه شيئاً أنّه رباً فليأخذ رأس ماله وليردّ الرّبا ». (١)

الثانية : صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : أتى رجل أبي عليه‌السلام فقال : إنّي ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي ، وقد عرف أنّ فيه رباً واستيقن ذلك وليس يطيب لي حلاله ، لحال علمي فيه ، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحل أكله ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إن كنت تعلم بأنّ فيه مالاً معروفاً ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطاً فكله هنيئاً ، فإنّ المال مالك واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، فإنّ رسول اللّه : قد وضعَ ما مضى من الربا وحَرّمَ عليهم ما بقي ، فمن جهل وسع له جهله حتى يعرفه ، فإذا عرف تحريمه ، حرم عليه ». (٢)

والروايتان ظاهرتان في الشبهة المحصورة ، فإذا جاز التصرف فيها ففي غيرها أولى. نعم ليس لها شمول لغير مورد الربا ، ولعلّ التسويغ لأجل التسهيل ، وقدكان السيد الأُستاذ يحمل ما دلّ على الحلّية ما لم يعلم بعينه على خصوص الشبهة المحصورة من باب الربا وقد نوّهنا بذلك عند تفسير روايات باب البراءة.

ولعلّ هذه الروايات ، مع بناء العقلاء والسيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له إطلاقاً لصورة انتشار الحرام بين الكثير.

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥ من أبواب الربا ، الحديث ٢.

٢. الوسائل : الجزء ١٢ ، الباب ٥ من أبواب الربا ، الحديث ٣.

٥١٨

بقي هنا أُمور :

الأوّل : جواز ارتكاب الكلّ وعدمه

هل يجوز ارتكاب عامة المشتبهات في غير المحصورة ، أو يجب إبقاء مقدار الحرام ، أو يفصّل بين ما قصد نفس الحرام من ارتكاب الجميع فارتكب الكلّ مقدمة له ، أو قصد الجميع من أوّل الأمر ، وبين ما إذا انجر الأمر إليه ، فلا مجوز في الصورتين الأُولتين دون الثالثة ، مستدلاً على ذلك بأنّهما تستلزمان طرح الدليل الواقعي الدال على وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي ، والتكليف لايسقط من المكلَّف مع العلم غاية ما ثبت في المقام ، الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات فيكون البعض المتروك بدلاً عن الحرام وإلا فإخراج الخمر الموجود يقيناً بين المشتبهات عن عموم قوله : « اجتنب عن الخمر » اعتراف بعدم حرمته واقعاً وهو معلوم البطلان. (١)

الظاهر انّه لا يختلف الحكم باختلاف المباني.

فلو كان المستند ما اختاره الشيخ من كون التكليف موهوماً بكثرة الأطراف ، فيكون مفاده الجواز مطلقاً لأنّ كلّ واحد من الأطراف موهوم التكليف فيجوز اجتنابه ، وإن كان ينجر الأمر عند الانتهاء إلى مخالفة التكليف غير انّ الترخيص في كلّ واحد يكون دليلاً على رفع الشارع اليد عن التكليف الواقعي وصيرورته إنشائيّاً في تلك المرحلة.

وما ربما يقال : من « انّ الجائز من أوّل الأمر ، هو ارتكاب مقدار من الأطراف يكون الاحتمال فيه موهوماً وأمّا الأزيد فلا » ، غير تام إذ ليس الموضوع

__________________

١. الفرائد : ٢٦٠.

٥١٩

للجواز ، الكميّة الخاصة التي يكون التكليف فيه موهوماً ليتوقف الجواز إذا انتهى إلى مقدار لا يكون كذلك ، بل الموضوع للجواز هو كلّواحد واحد ، لأجل كون التكليف فيه موهوماً ، وهذا صادق عند ارتكاب كلّ واحد إلى نهايته.

كما أنّه لو كان الدليل هو الروايات المتقدمة ، فالظاهر جواز الارتكاب حتى يعلم الحرام بعينه.

إنّما الكلام على مبنى المحقّق النائيني ، فالظاهر جواز ارتكاب الجميع أيضاً ، لأنّه جعل عدم المتمكن العادي موضوعاً لعدم حرمة المخالفة القطعية ، وسقوط العلم عن التأثير فعند ذلك يجوز ارتكاب الجميع ، لأنّ التمكّن الشخصي لا ينافي عدم التمكّن العادي ، والمسقط للعلم عن الحجية هو الثاني سواء كان هناك تمكّن شخصي أو لا. لأنّه إنّما قال بعدم حرمة المخالفة القطعية لأجل عدم التمكن العادي من المخالفة وفرع عليه جواز المخالفة الاحتمالية.

الثاني : حكم الكثير في الكثير

إذا كان المردّد في الشبهة غير المحصورة أفراداً كثيرة نسبة مجموعها إلى المشتبهات كنسبة الشيء إلى الأُمور المحسوسة ، كما إذا علم بوجود مائة شاة محرمة في ضمن ألف شاة فانّ نسبة المائة إلى الألف ، نسبة الواحد إلى العشرة ، وهذا ما يسمّى بشبهة الكثير في الكثير ، فهل العلم منجّز في هذه الصورة أو لا؟

الظاهر انّه يختلف الحكم حسب اختلاف المباني.

فعلى مبنى الشيخ من موهومية التكليف فالعلم منجّز ، لأنّ التكليف في كلّ واحد من الشياه ليس بموهوم وذلك ينجّز العلم الإجمالي ولا ينافي ما قلنا بأنّ الميزان عامة مراتب الوهم فإنّ المراد من الوهم ما لا يعتد به العقلاء ومع فرض مراتب له لكن الجميع محكوم عندهم بعدم الاعتداد ، وهذا بخلاف المقام

٥٢٠