إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

المترتب على النكاح إذا ثبت وجود الرضاع بين الزوجين.

ومن النوع الثاني ، أي طُبِّقت القاعدة على مورد يكون الاجتناب واجباً ، إليك بيانه.

٧. روى جميل بن درّاج ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، انّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه ». (١)

٨. روى عمر بن حنظلة في الخبرين المتساويين من أجل المرجحات عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : « إذا كان كذلك فارجئه حتى تلقى إمامك ، فانّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ». (٢)

ومورد الأوّل هو الخبر المخالف للكتاب ، ومورد الثاني هو إمكان الفحص عن الدليل والتوقف في كلا الموردين واجب.

وإذا كانت القاعدة منطبقة تارة على مورد يكون التوقف مستحباً ، وأُخرى على مورد يكون واجباً لا يمكن الاستدلال به على المورد لعدم العلم بأنّه من أيّ القسمين أوّلاً. ويكون الدليل ، حكماً إرشادياً تابعاً لمورده ثانياً ، ففي المورد العلم الإجمالي ، والشبهة قبل الفحص يكون الحكم منجّزاً ويكون الاجتناب واجباً ، وفي غير ذلك المورد يكون الوقوف مستحباً.

والحاصل : انّ وزان قوله : « الوقوف عند الشبهات خير ... » وزان قوله : « أطيعوا اللّه » فوجوب الإطاعة واستحبابها تابع لكون المورد ممّا تجب فيه الطاعة ، وقد عرفت في المقام انّه يجب في الموردين دون المورد الآخر.

إلى هنا تمّ الكلام في الطوائف الثلاث بقي الكلام في الطائفتين المهمتين :

__________________

١ و ٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥ و ٢.

٤٠١

الأُولى : أخبار الاحتياط.

الثانية : أخبار التثليث.

وإليك الكلام في الأُولى.

الرابعة : الأخبار الآمرة بالاحتياط في الشبهة

إنّ هناك ست روايات تأمر بالاحتياط في الشبهات ، وقد أجاب الشيخ والمحقّق الخراساني عنها على وجه الإجمال من دون أن يدرس الأخير كلّ واحدة على حدة ، فلنذكر كلامهما ، ثمّ ندرس الروايات واحدة تلو الأُخرى.

قال الشيخ في جواب سؤال وجّهه إلى نفسه ما هذا لفظه : إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرّز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، وإن كان حكماً ظاهريّاً نفسياً ، فالهلكة الأُخروية مترتبة على مخالفته لا على مخالفة الواقع ، وصريح الأخبار إرادة العقوبة على الواقع على تقدير الحرمة. (١)

وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ وجوب الاحتياط لا مقدّمي ولا نفسي بل طريقي يصحّ أن يحتج المولى بالواقع على العبد عند المخالفة كما هو الحال في مهام الأُمور التي يجب الاحتياط فيها كالدماء والأعراض والأموال ، فما هو الفرق بين هذه الموارد ، والاحتياط في الموارد الأُخرى؟

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب بوجوه ثلاثة :

١. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه صريح في معناه ودليل الاحتياط ظاهر في الوجوب فيتصرف فيه بالنص.

__________________

١. الفرائد : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٤٠٢

٢. انّ ما دلّ على حلّية المشتبه أخص ممّا دلّ على وجوب الاحتياط فيقدّم الأخص على الأعم.

٣. انّه للإرشاد ولا يعلم وجوبه أو استحبابه إلا بتنجز الحكم الواقعي عليه وعدمه قبل تطبيق أخبار الاحتياط عليه ، فالحكم الواقعي مع العلم الإجمالي منجز فيكون الاحتياط في أطرافه واجباً ، بخلاف الشبهة البدوية فبما انّ الحكم غير منجز يكون الاحتياط حكماً استحبابيّاً.

٤. انّ روايات الاحتياط تحكي عن ثبوت العقوبة المنجزة قبل إيجاب الاحتياط ، مع أنّ العقوبة على الحكم الواقعي غير المنكشف يكون عقاباً بلا بيان ، فتحمل على مورد العلم الإجمالي.

ثمّ ذكر إشكالاً وأجاب عنه بما يتبادر في بدء النظر انّه عود إلى كلام الشيخ الذي نقده ورده أوّلاً. لكنّه غيره يعلم بالتأمل ، والأولى دراسة الروايات واحدة تلو الأُخرى ، فنقول :

إنّ روايات الاحتياط على أقسام :

أ : ما هو ظاهر في الاستحباب

إنّ في روايات الاحتياط ما هو ظاهر في كونه أمراً مستحباً ، نظير :

١. كلام الإمام علي عليه‌السلام لكميل بن زياد : « أخوك دينك ، فاحتط لدينك بما شئت ». (١) فانّ لفظ « بما شئت » دليل على الاستحباب إذ الواجب لا يكون معلّقاً بالمشيئة.

٢. مرسلة الشهيد : « ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل

__________________

١. الوسائل : ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

٤٠٣

الاحتياط ». (١) واللسان : لسان النصح.

وهاتان الروايتان ظاهرتان في الاستحباب.

ب : ما هو ظاهر في النهي عن الإفتاء بالرأي

إنّ فيها ما هو ظاهر في النهي عن الإفتاء بالرأي ، والمراد منه هو الإفتاء بالمعايير الاختراعية التي ما أنزل اللّه بها من سلطان ، نظير ما وجد بخط الشهيد عن جعفر بن محمد يقول : « سل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتاً وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئاً ، وخذ بالاحتياط في جميع أُمورك ما تجد إليه سبيلاً ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ». (٢)

إنّ مدرسة أهل الرأي ، تقابل مدرسة أهل الحديث ، والطائفة الثانية لا يصدرون إلاعن دليل نقلي بخلاف الطائفة الأُولى ، فأُولئك يصدرون عن المقاييس والاستحسانات ، وأين هذا من عمل فقهائنا الذين لا يصدرون إلاعن الأدلّة الأربعة وقد شطبوا على هذه الظنون بقلم عريض؟! والمراد من نهيه عليه‌السلام من الفتوى ، هو الفتوى بتلك المعايير ، لا الإفتاء عن دليل شرعي. ولذا أمر الإمام أبو جعفر أباناً أن يجلس في مسجد النبي ويفتي الناس وقال : « إنّي أُحبّ أن يرى في شيعتي مثلك ». (٣)

ج : ما هو ظاهر في الاحتياط قبل الفحص

قد ورد الأمر بالاحتياط لإمكان الفحص ، والمراد من الاحتياط هو عدم

__________________

١. نقله الشيخ في الفرائد عن الشهيد.

٢. الوسائل : ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٤.

٣. رجال النجاشي : ١ / ٧٣ برقم ٦.

٤٠٤

الإفتاء بشيء حتى يسأل الإمام فيرجع لبها إلى الطائفة الثانية ؛ روى عبد الرحمان ابن الحجاج ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيداً وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال : « لا ، بل عليهما أن يجزى كلّ واحد منهما الصيد ». قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه؟ فقال : « إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا ». (١)

إنّ المشار إليه في قوله : « هذا » هو مطلق الشبهة الحكمية غير المختصة بموردها الذي هو من قبيل الشبهة الحكمية الوجوبية ، فوجوب الاحتياط لأجل إمكان الفحص من الدليل بسؤال المعصوم عنها.

د : اتخاذ الاحتياط ذريعة لبيان الحكم الشرعي

روى عبد اللّه بن وضاح أنّه كتب إلى العبد الصالح عليه‌السلام يسأله عن وقت المغرب والإفطار؟ فكتب إليه : « أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك ». (٢)

الظاهر من كلام السائل ( ما هو وقت المغرب والإفطار ) انّ الشبهة عنده كانت شبهة حكمية بمعنى انّه كان متردّداً في أنّ وقت صلاة المغرب ، هل هو استتار القرص أو زوال الحمرة المشرقية؟ فالعامة على الأوّل ، والمشهور عند الشيعة هو الثاني ، ولمّا كانت الظروف غير مساعدة لبيان الحكم الشرعي والتصريح بأنّ وقتهما هو زوال الحمرة ، توصل الإمام في بيان الحكم الشرعي بالاحتياط ، وقال : « أرى لك أن تنظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك » ، والعبارة تتحمل معنىً ظاهرياً أي الانتظار لأجل حصول القطع باستتار القرص ، ومعنىً واقعياً

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

٤٠٥

وهو الانتظار لذهاب الحمرة وراء استتار القرص ، لأنّه الوقت رهن زوالها. فمثل هذه الرواية لا تكون دليلاً على لزوم الاحتياط.

الخامس : التثليث الوارد في المقبولة

قد عدّه الشيخ الأنصاري من أهمّ أدلّة الأخباريين. وحاصل الاستدلال :

إنّ الراوي سأل الإمام عن اختلاف القضاة ، فأجاب :

« ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمعَ عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذُ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمعَ عليه لا ريب فيه. وإنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيُتبع ، وأمر بيّن غيُّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى اللّه ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن ، وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم ». (١)

وجه الاستدلال

إنّ الفقرات الثلاث ترمي إلى أمر واحد.

أ : يترك الشاذ الذي ليس بمشهور.

ب : أمر مشكل يرد حكمه إلى اللّه.

ج : وشبهات بين ذلك.

فبما انّ طرح الشاذ وردّ المشكل إلى اللّه واجبان ، يكون الاجتناب عن المشتبه أيضاً مثلهما. ولو كان الاجتناب عن المشتبه مستحباً لا واجباً دون الخبر الشاذ

____________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩ ، والحديث ٩ من الباب ١٢ ، وقد جزّأ رحمه اللّه الحديث.

٤٠٦

والأمر المشكل يكون الاستشهاد بكلام الرسول أمراً غير صحيح لعدم انطباقه عليهما.

يلاحظ عليه أوّلاً :

أنّ طرح الشاذ واجب لا لدخوله فيما فيه الريب كما زعمه الشيخ ولا لكونه من مصاديق الأمر المشكل ولا لدخوله في الشبهات ، بل لكونه ممّا لا ريب في بطلانه ضرورة انّه إذا كان المشهور ممّا لا ريب في صحّته يكون نقيضُه ممّا لا ريب في بطلانه ، وإلا يلزم جواز اجتماع النقيضين.

ثانياً : افترضنا أنّ الشاذّ من أقسام ما فيه الريب ومعادِلاً للأمر الثالث في كلام الوصيّ والنبيّ ، لكن يكفي في الاستشهاد أن يكون الأوّل ( طرح الشاذ ) والثاني ( ردّ المشكل إلى اللّه ) واجبين ، والاجتناب عن الشبهات أمراً مرغوباً لاشتراكهما في أمر وهو انّ في الاجتناب عن الشبهات تخلّصاً من الوقوع في مفسدة الحرام ، كما أنّ في طرح الخبر الشاذ ، تخلّصاً من الوقوع فيما فيه الريب.

وثالثاً : ما عرفت عند البحث في أخبار التوقف من أنّ هذه الفقرة ، طُبِّقت على ما يجب فيه الاجتناب وعلى ما لا يجب باعتراف الأخباريين فيكون قرينة على أنّه حكم إرشادي لا يستفاد منه الوجوب ولا الحرمة بل يتبع في ذلك المرشَد إليه أي حكم العقل في المورد.

ورابعاً : انّ هنا روايات تفسّر الذيل :

١. روى النعمان بن بشير قال : سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى اللّه حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك ، كما لو انّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبُت غنَمه أن تقع في وسطه فدعوا المشتبهات ». (١)

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

٤٠٧

٢. روى الصدوق انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب الناس فقال : « حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى اللّه ومن يرتع حولها يوشك أن يدخلها ». (١)

٣. رواية فضيل بن عياض عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : قلت له : مَن الورع من الناس؟ قال : « الذي يتورّع من محارم اللّه ويجتنب هؤلاء ، فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه ». (٢)

وعلى ضوء هذه الأحاديث يكون وجه النهي عن الشبهات ، هو الوجه في النهي عن المكروهات ، والجامع بينهما هو انّ ارتكاب القسمين يُسهِّل للنفس ارتكاب الحرام ، كما أنّ اجتنابهما يورث ملكة في النفس يسهل للإنسان اجتناب المحارم.

الثالث : الاستدلال بالعقل

قد عرفت أنّ الأخباريين استدلّوا بوجوه ثلاثة : الكتاب ، والسنّة ، والعقل. وقد مضت دراسة الأوّلين ، فلندرس ثالث أدلّتهم ، أعني : العقل.

استدل الأخباريّ على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية بوجوه :

الأوّل : العلم الإجمالي بالمحرّمات

إنّا نعلم إجمالاً بمحرمات كثيرة يجب الخروج عنها قطعاً بمقتضى قوله سبحانه : ( وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَـانْتهوا ) (٣) ، وبعد مراجعة الأدلّة لانقطع بالخروج عن

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢ و ٢٥.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢ و ٢٥.

٣. الحشر : ٧.

٤٠٨

جميع تلك المحرّمات الواقعية فيلزم الاجتناب عن كلّ ما يحتمل أن يكون منها إذا لم يكن دليل شرعي.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني تبعاً للشيخ الأعظم وغيره. وحاصله : انّ هنا علمين :

١. العلم الإجمالي بوجود المحرمات في الشريعة الغرّاء.

٢. العلم التفصيلي بوجود محرّمات في الطرق والأُصول بمقدار التكاليف المعلومة أو أزيد.

فإذا أخذنا ما فيهما من المحرّمات وعزلناها عن موارد العلم الأوّل ، لم يبق فيما سواها ، علم بالتكليف بل غايته احتمال التكليف وهو مجرى البراءة.

وهذا نظير ما إذا علمنا بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع غنم ، ثمّ علمنا بوجود خمس شياه مغصوبة في الغنم السود منها ، ونحتمل انطباق المعلوم بالإجمال أوّلاً على المعلوم بالتفصيل أو الإجمال في العلم الثاني على وجه لو عزلنا الغنم السود عن القطيع لم يبق علم إجمالي بالمحرم فيها بل يكون احتماله.

ثمّ إنّ هنا إشكالين تعرض لهما المحقّق الخراساني ، والأولى بالدراسة هو الإشكال الأوّل ، وحاصله : انّ العلم الثاني بما انّه علم حادث ، وإن كان يوجب الانحلال ، لكنّه لا يزيل أثر العلم الإجمالي السابق ، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ، ثمّ علم تفصيلاً بنجاسة أحدهما معيّناً لأجل وقوع قطرة من الدم فيه ، ففي مثله يلزم الاجتناب عن الآخر أيضاً ، لأنّ العلم الإجمالي السابق وإن كان منحلاً ، لعدم التردد بعد العلم بنجاسة أحدهما بعينه ، لكنّ أثر العلم الإجمالي وهو وجوب الاجتناب عن الآخر باق ووجوب الاجتناب عن الإناء الآخر من آثار العلم الإجمالي السابق ، لا الموجود فعلاً حتى يقال قد انحلّ بالعلم التفصيلي ، ولذلك لو أهرق أحدهما ، كان لزوم الاجتناب عن الآخر باقياً بحاله.

٤٠٩

الجواب : انّ العلم الحادث على قسمين :

تارة يكون العلم والمعلوم حادثين ومتأخرين عن العلم الإجمالي الأوّل كما في المثال ، ففي مثله لا يكون العلم الثاني مؤثراً في رفع التنجز عن الإناء المشكوك وإن كان مؤثراً في انحلال العلم الإجمالي ، وأُخرى يكون العلم متأخراً لكن المعلوم سابقاً على العلم الإجمالي الأوّل أو مقارناً معه : فمثل هذا العلم ، يكون مانعاً عن انعقاد العلم الإجمالي الأوّل علماً منجّزاً وإن كان حامل العلم الأوّل قبل الوقوف على العلم الثاني يتصوره علماً منجزاً لوجوب الاجتناب.

مثلاً إذا علم إجمالاً بوقوع قطرة من الدم في أحد الإناءين عند طلوع الشمس ، ثمّ وقف على أنّ أحد الإناءين معيّناً كان نجساً عند طلوع الفجر ، فمثل هذا العلم التفصيلي وإن كان متأخراً عن العلم الأوّل لكن معلومه ومكشوفه متقدّم على الأوّل ويكون مانعاً عن انعقاد العلم الإجمالي منجزاً ، مثل ما إذا كان التفصيلي متقدماً علماً ومعلوماً كما إذا علم انّ أحد الإناءين معيّناً نجس في أوّل الليل ، ثمّ حدث علم إجمالي بوقوع قطرة من الدم في أحدهما فالمؤثر في سلب التنجيز عن العلم الإجمالي إنّما هو سبق معلوم العلم الثاني عليه سواء كان العلم أيضاً سابقاً كالمثال الثاني أو لا كالمثال الأوّل.

وجهه : انّ من شرائط تنجيز العلم الإجمالي كونه محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير وهذا الشرط غير موجود في الموردين لسبق وجوب الاجتناب عن الإناء المعيّن قبل طروء العلم الإجمالي ، فلا يكون العلم الإجمالي عندئذمؤثراً ويكون الإناء الثاني مشكوك الاجتناب.

والمقام من قبيل هذه الصورة لأنّ العلم بقيام أمارات وطرق ، على الأحكام الشرعية وإن كان متأخراً لكن معلومه ، وهو تنجز مواردها متقدم على العلم الإجمالي ومثله يمنع عن انعقاد العلم الإجمالي منجّزاً حيث إنّ التكليف كان في

٤١٠

مواردها منجّزاً قبل حدوث العلم الإجمالي وإن كان غير عالم به ، وفي مثله لا ينعقد العلم الإجمالي منجزاً ومؤثراً ، لأنّه وجب الاجتناب قبله عن أحد الطرفين معيناً ، فيكون الطرف الآخر مشكوك الاجتناب.

هذا ما ذكره الأعلام.

أقول : الحقّ التفصيل بين العلم الوجداني بوجود تكاليف في البين بحيث لا يرضى المولى بتركه وبين العلم بتكاليف اكتفى الشارع في امتثالها بقيام الأمارة على ثبوتها ونفيها. فعلى الأوّل ، لا محيص عن الاحتياط ولا يجوز الترخيص في محتمل الحرمة أبداً حتى ولو قام الدليل على عدمها ، بل يلزم الاحتياط وترك التعبد بالأمارة القائمة على عدمها.

وعلى الثاني : أعني العلم بتكاليف على وجه يقتصر المولى في كيفية الامتثال بقيام الأمارة على وجودها أو نفيها ، ففي مثله يكون العلم الثاني بوجود محرمات في مورد الطرق والأُصول ، موجباً لانحلال العلم الإجمالي الأوّل ، انحلالاً حقيقياً ، لا انحلالاً حكمياً ، كما يظهر من المحقّق الخراساني ، وذلك ببيانين :

١. انّ قوام العلم الإجمالي بالترديد ، على وجه يكون كلّ من الطرفين محتملَ الحرمة أو محتمل وجوب الاجتناب ، فإذا صار أحد الطرفين واجب الاجتناب بعينه ، وزال التردد فكيف يكون العلم الإجمالي باقياً.

٢. انّ مرجعَ العلم الإجمالي إلى قضية منفصلة يتقوم بلفظة « إمّا » أو لفظة « أو » كما يقول العدد إمّا زوج أو فرد ، فلا يكون الحكم في واحد من الطرفين قطعياً ، ومادام الحكم كذلك يكون العلم الإجمالي باقياً بحاله ، وأمّا إذا انقلب بفضل العلم الثاني ، إلى قضية بتيّة وإلى قضية مشكوكة يكون العلم الإجمالي منقلباً إلى علم تفصيلي وشك بدوي وذلك فيما إذا لم يعلم بانطباق المعلوم بالتفصيل على المعلوم بالإجمال وإلا تنحل إلى قضيتين بتيّتين فيقال : هذا طاهر ، وهذا نجس.

٤١١

وفي المقام علمان إجماليان ، أحدهما واسع الأطراف يعم مورد قيام الأمارات والطرق وغيره ، وثانيهما ضيقها لا يعم إلا مواردهما. وبعبارة أُخرى : في المقام علم إجمالي بالمحرمات واسع الأطراف وهو العلم الإجمالي الأوّل وعلم إجمالي بها مع ضيق أطرافها فمع قطع النظر عن العلم الثاني ، كان التردّد والانفصال قائمين ، وأمّامع لحاظه وإخراج مورده عن تحت العلم الإجمالي الأوّل ، ينقلب التردّد إلى قضية بتّية وهو الحكم بحرمة ما قام الدليل على حرمته ، وقضية مشكوكة وهي الموارد التي لم يقم الدليل على حرمتها ، وهذا هو المراد من انحلال العلم الإجمالي.

أقسام الانحلال

إذا عرفت ما ذكرنا اعلم أنّ الانحلال على أقسام :

١. أن يعلم بالانطباق وهو انّ ما علم إجمالاً ، هو نفس ما علمه تفصيلاً.

٢. أن يظن بالانطباق ، كما في موارد الطرق والأمارات.

٣. أن يحتمل الانطباق ، كما إذا علم بنجاسة أحد الاناءين ثمّ قامت البيّنة على نجاسة أحد الإناءين معيناً على وجه نحتمل أن يكون ذاك النجس هو نفس ما علم إجمالاً بنجاسته كما يحتمل أن يكون غيره.

ففي جميع الموارد ، الانحلال حقيقي ، وذلك لما عرفت من أنّ قوام العلم الإجمالي بالترديد ، ( على ما قرر في الوجه الأوّل ) أو تكون القضية بصورة المنفصلة ، وعلى كلّ تقدير فإذا حصل العلم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفين على الوجه البتّ ، يرتفع الترديد ، وتنقلب القضية المنفصلة إلى حملية ، قطعية ومشكوكة.

نعم الانحلال مشروط بعدم تأخر العلم الثاني عن الأوّل ، معلوماً ، سواء

٤١٢

أكان معلومه متقدماً على معلوم العلم الإجمالي ، أم مقارناً مع معلومه ، نعم لا يشترط تقدّم العلم.

وبذلك يظهر عدم تمامية ما ذكره المحقّق الخراساني من كون الانحلال حكمياً لا حقيقياً وقد ذكره في جواب الإشكال الذي أورده على نفسه ، وإليك الإشكال والجواب.

أمّا الأوّل : انّ الانحلال يتم على القول بالسببية وأنّ قيام الأمارة موجب لثبوت التكليف ـ وهو تصويب ـ ، وأمّا على القول بالطريقية وأنّ مفاد أدلّة حجّية الخبر الواحد ، هو التنجّز إذا أصاب والعذر عندما أخطأ فلا انحلال لما علم إجمالاً.

وأمّا الثاني فلانّه يكفي في الانحلال نهوضُ الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف وانّه يكون عقلاً بحكم الانحلال. ولولا ذلك ، لما يجدي القول باعتبار الأمارات من باب السببية ضرورة انّ كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية ، إنّما تكون كذلك بسبب حادث وهو كونها مؤديات الأمارات الشرعية. (١)

يلاحظ عليه : بأنّه وإن كان متيناً ، لكن وصفه الانحلالَ بالحكمي ليس بتام ، لما عرفت من بقاء العلم الإجمالي فرع أحد الأمرين إمّا الترديد أو بقاء القضية بصورة المنفصلة ، والمفروض ارتفاعهما ، مطلقاً سواء كان المعلوم بالتفصيل ، معلومَ الانطباق على المعلوم إجمالاً أو مظنونه أو محتمله ، كما لا يخفى.

نعم لو كان الميزان في الانحلال هو العلم بالواقع وانّ الحرام في ذاك الطرف دون الآخر كان للقول بالانحلال الحكمي مجال ، وذلك لعدم العلم بأنّ الواقع

__________________

١. كفاية الأُصول : ٢ / ١٨٨.

٤١٣

في أيّ طرف من الأطراف ، وأمّا إذا كان الميزان هو تنجز الحكم في أحد الطرفين ، فالانحلال حقيقي لتنجز الحكم في أحد الطرفين ، دون الآخر فيكون الانحلال حقيقياً.

الثاني : استقلال العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية

واعلم أنّ في كتب الأُصوليين القدماء مسألة باسم : « هل الأصل في الأشياء هو الحظر أو الإباحة؟ » والفرق بينها وبين مسألتنا من وجوه :

١. انّ الحظر والإباحة في المسألة الأُولى ينسبان إلى ما قبل مجيئ الشرع بخلاف المقام ، فانّ البراءة والاحتياط يلاحظان بالنسبة إلى حكم الشارع بعد مجيئه.

٢. انّ الحكم بأحدهما هناك واقعي مترتّب على الشيء بما هو هو ، بخلاف المقام ، فانّ الحكم بأحدهما ظاهري لأخذ الشكّ في موضوعه.

٣. انّ التحريم أو الترخيص هناك مالكيان معتمدان على مالكيته سبحانه ، بخلاف البراءة أو الاحتياط في المقام فإنّهما شرعيان معتمدان على تشريع الشارع أحدهما ، وكم فرق بين الإباحة المالكية كإذن الإنسان لشخص التصرف في ماله ، والإباحة الشرعية كإذن الشارع الشرب والتوضّؤ من الأنهار التي لها مالك معيّن.

إذا عرفت ذلك ، فإليك محصل استدلال الأخباري بهذا الوجه : انّ الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو التوقف ، وما دلّ على أنّ الأصل فيها بعد مجيئ الشرع هو الإباحة معارض بما دلّ على أنّ الأصل الاحتياط أو التوقف ، فإذا تعارضا يرجع إلى الأصل المذكور.

وأورد عليه المحقّق الخراساني بوجوه ثلاثة :

١. كون الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو التوقف أحد الأقوال

٤١٤

ويقابله القول بالإباحة ، وهو المشهور بين القدماء ، فلا يستدل بما هو محلّ الخلاف على المقام.

٢. سلمنا ذلك ، لكن الدليل بعد مجيئ الشرع دلّ على الإباحة ، وما ذكره من وجود التعارض بين الأدلّة بعد الشرع قد عرفت خلافه وعدم تمامية أدلّة القائلين بالاحتياط.

٣. لا ملازمة بين القول بالتوقف في تلك المسألة ، والاحتياط في مسألتنا ، وذلك لأنّ كون الحظر هو المحكّم قبل مجيئ الشرع ، لا يكون دليلاً على أنّه المحكم بعد مجيئ الرسل وإنزال الكتب ، فإذا لم نجد دليلاً على الحرمة يكون المحكّم هو العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان ، لا القاعدة المختصة بما قبل الشرع ، وهذا هو الوجه لعدم الملازمة. ولكن ذكر المشكيني وجهاً آخر له وهو اختلاف المسألتين في الموضوع ، فانّ الموضوع في الأوّل هو فعل المكلِّف والأفعال الصادرة عن المكلّفين بخلافه في الثانية ، فانّه عبارة عن فعل المكلّف ، وانّه هل يجوز العقاب على الحكم المجهول أو لا. (١)

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ دليل الأخباري مركّب من صغرى وهو كون العالم ملكاً للّه سبحانه ، وكبرى وهو انّ التصرف في ملك الغير بلا إذنه قبيح.

أمّا الصغرى فالحقّ فيها التفصيل ، فإن أُريد منها ، المالكية التكوينية النابعة من خالقيته سبحانه فهو موضع اتّفاق قال سبحانه : ( وَللّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِير ). (٢) وقوله : « يخلق » كأنّه بمنزلة التعليل لقوله ( ملك السّماوات ).

وإن أُريد المالكية الاعتبارية العقلائية فغير صحيح ، لأنّه إنّما يتم في حقّ

__________________

١. هذا ما نقله المشكيني عن أُستاذه في درسه الشريف.

٢. المائدة : ١٧.

٤١٥

من يعيش في ظل التقنين لا في حقّ من يكون فوقه ، وبالجملة المالكية الاعتبارية ، إنّما تقوم باعتبارها العقلاء ، لغايات عقلائية وأمّا الموجود ، الخارج عن محيطهم فلا معنى ، لاعتبارها في حقّه.

وبعبارة أُخرى : من كان مالكاً تكويناً بالذات ، فهو في غنى عن اعتبار المالكية له اعتباراً والاستدلال عليها بقوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ للّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربى ) (١) ، غير تام ، لأنّ إضافة الخمس إليه سبحانه من باب المشاكلة في التعبير ، مثل قولهم : ( وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي اتاكُمْ ). (٢)

وأمّا الكبرى : أعني قبح التصرف في ملك الغير بلا إذن ، فهي مردودة بوجهين :

الأوّل : فبالمنع من استقلال العقل بالقبح في المقام بالفرق بين المالكين ، فانّ المالك في أحدهما غنيّ بالذات لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً ، والآخر فقير بالذات حريص على ما في يده ، والتصرف في الأوّل لا يُزاحم سلطانه بخلاف التصرف في الثاني فانّه يزاحم سلطانه ، فكيف يقاس هذا بهذا.

الثاني : صدور الإذن من المالك بالنسبة إلى العبد ، حيث دَلَّت الآيات على أنّ الغاية من وضع الأرض ، وما فيها ، انتفاع الإنسان منها ، قال سبحانه : ( وَالأَرْض وَضَعَها للأنام ) (٣) و ( َهُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْض جَميعاً ). (٤)

__________________

١. الأنفال : ٤١.

٢. النور : ٣٣.

٣. الرحمن : ١٠.

٤. البقرة : ٢٩.

٤١٦

الثالث : في ارتكاب الشبهة احتمال المضرّة

هذا هو الدليل الثالث للأخباريين وحاصله : انّ دفع الضرر المحتمل واجب.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بوجهين :

١. التفريق بين محتمل المفسدة ، وقطعيّها ، فالواجب دفعها هو الثاني دون الأوّل.

٢. انّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد النوعية ، دون النفع والضرر الشخصيين ، ولو استقل العقل بدفع الضرر المحتمل ، لا يستقل بدفع المفسدة المحتملة ، لأنّ الأوّل على فرض وجوده شخصي والثاني نوعي.

وقد استوفينا البحث في هذا الدليل عند البحث في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فليرجع إليه.

بقيت هنا تنبيهات جاءت في كلام الأعلام ونحن نقتفيهم :

التنبيه الأوّل : في حكومة الأصل الموضوعي على الحلية

إنّ أصالة البراءة أو الحلية وغيرهما من الأُصول الحكمية إنّما تجريان إذا لم يكن في المورد أصل موضوعي ينقح حال الموضوع وتكون نسبتهما إليه نسبة الأصل المسببي إلى السببي ، وإلا يكون الأصل الموضوعي مقدماً على الحكمي تقدَّم الأصل السببي على المسببي ، وعلى ذلك فتقدّم الأصل الموضوعي على أصالتي البراءة والحلية ، من فروع قاعدة كلية وهي تقدّم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي مطلقاً ، سواء كان الأصل الحكمي هو البراءة أو الحلية أو غيره.

مثلاً إذا غاب الزوج وترك زوجته وشككنا في حياته ، فهنا أصلان وإن كانا متوافقي المضمون : أحدهما : استصحاب حياته وهو أصل موضوعي جار في

٤١٧

ناحية الموضوع ( حياة الزوج ). ثانيهما : استصحاب وجوب الإنفاق من ماله وهو أصل كلي جار في ناحية الحكم ، فالأوّل مقدّم على الثاني لكون الشكّ في الثاني نابع من الشكّ في الأوّل ومع جريانه في الأوّل وإلزام الشارع بالتعبد به ، لا يبقى مجال لجريانه في جانب الآخر.

ثمّ إنّ المثال الدارج في مورد تقدّم الأصل الموضوعي على أصالتي البراءة والحلية هو تقدّم أصالة عدم التذكية على أصالتي الطهارة والحلية وقد قسم المحقّق الخراساني الشبهة في المقام إلى حكمية وموضوعية ، وذكر لكلّ صوراً ثلاث مع أنّ صور الكلّ أربع ، وإليك بيان الصور الأربع إذا كانت الشبهة حكمية.

صور الشبهة الحكمية الأربع

١. إذا شكّ في الطهارة والحلية ، لأجل الشكّ في كون الحيوان واجداً للخصوصية والقابلية التي تكون مؤثرة في الطهارة والحلية كالحيوان المتولد ، من حيوانين أحدهما يقبل التذكية والآخر يقبلها ، وفي الوقت نفسه لا يشبههما.

٢. إذا شكّ في الحلية دون الطهارة للعلم بكونه واجداً للخصوصية المؤثرة في الطهارة والشكّ في كونه واجداً للخصوصية المؤثرة في الحلية كما في مورد الثعلب.

٣. إذا شكّ فيهما ، لأجل الشكّ في اعتبار كون آلة الذبح حديداً وراء ما يعتبر من فري الأوداج الأربعة والتسمية والاستقبال وكون الذابح مسلماً.

٤. إذا شكّ فيهما لاحتمال مانعية شيء في المورد ، كما إذا كان الحيوان جلاّلاً أو موطوءاً وشككنا في مانعيتهما.

الصورة الأُولى : إذا شكّ في وجود خصوصية مؤثرة في الطهارة والحلية.

إذا ذبح الحيوان ، مع جميع الخصوصيات المعتبرة في التذكية ، لكن شكّ في

٤١٨

وجود الخصوصية في الحيوان المؤثرة في الطهارة والحلية ، فذهب المحقّق الخراساني إلى جريان أصالة عدم التذكية حيث إنّه عندما كان حيّاً كان غير مذكى فبعد الذبح يشكّ في ارتفاعه فالأصل بقاءه على ما كان عليه.

وقد أشكل على هذا القول بوجهين :

الإشكال الأوّل : انّ الغرض من استصحاب عدم التذكية هو إثبات انّ المذبوح ميتة ، ومن المعلوم انّ إثبات عنوان الميتة بأصالة عدم التذكية من قبيل نفي أحد الضدين وإثبات الضدّ الآخر وهو من الأُصول المثبتة كإثبات كون الجسم متحركاً بنفي كونه ساكناً.

وإن شئت قلت : الميتة أمر وجودي وهو ما مات حتف أنفه ، وإثبات ذلك الأمر الوجودي بأصالة عدم التذكية لا يجوز إلا على القول بحجّية الأصل المثبت.

وقد أُجيب عن الإشكالين بوجهين :

١. ما أجاب به الشيخ بأنّ الميتة عبارة عن غير المذكى إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه بل كلّ زهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهو ميتة. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الميتة أمر وجودي بمعنى ما مات حتف أنفه ، ولا يعم المذبوح الفاقد للشرائط الشرعية بدليل انّها جعلت في الكتاب في مقابل ما أهلّ لغير اللّه به ـ قال سبحانه : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِم يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُون مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (٢) وقال أيضاً : ( إِنّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما

__________________

١. الفرائد : ٢٢٣ ، طبعة رحمة اللّه.

٢. الأنعام : ١٤٥.

٤١٩

أُهِلَّ لِغَيْرِاللّهِ بهِ ) (١) والإهلال رفع الصوت بالشيء والمراد ذكر اسم الأصنام.

ويشهد لما ذكر ما ذكره الأعشى في قصيدته التي أنشأها وجاء بها مكة المكرمة لكن حالت قريش بينه وبين إسلامه ، وقال.

وإياك والميتـــات لا تقربنّهـــا

ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا (٢)

ولم تكن الميتة في العهد الجاهلي سوى ما مات حتف أنفه ، ولم يكن من الميتة الشرعية عندهم أثر.

٢. ما أجاب المحقّق الخراساني ويوجد في بعض كلمات الشيخ وحاصله :

إنّ النجاسة والحرمة كما تعلّقتا بالميتة فهكذا تعلّقنا ، بغير المذكى ، ولا يحتاج في ترتّب النجاسة والحرمة على الحيوان بإثبات كونه ميتة بالمعنى اللغوي بل يكفي كونه غير مذكى في ترتيب الأثرين ، وذلك بشهادة قوله سبحانه : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزير ) إلى أن قال : ـ ( وما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ). (٣)

فإذا كانت التذكية موضوعاً للحلية ، يكون رفعها موضوعاً لرفعها وهو الحرمة وقوله تعالى : ( وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (٤) وقوله سبحانه : ( لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَفِسْق ) (٥) ، وقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنين ) (٦) ، وقوله من موثقة ابن بكير : لا إذا كان ذكياً وذكاه الذابح إلى غير ذلك من الأخبار.

__________________

١. النحل : ١١٥.

٢. السيرة النبوية لابن هشام : ١ / ٣٨٧.

٣. المائدة : ٣.

٤. النحل : ١١٥.

٥. الأنعام : ١٢١.

٦. الأنعام : ١١٨.

٤٢٠