إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

إرشاد العقول إلى مباحث الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-077-0
الصفحات: ٦٧٢

الواحد أو لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة؟ (١)

وقد أورد عليه المحقّق الخراساني في المقدمة الأُولى من مقدّمات علم الأُصول وفي المقام ، إشكالين :

١. انّ البحث عن ثبوتها به وعدمه خلاف عنوان المسألة في الكتب الأُصولية فانّ عنوانها هو حجّية الخبر الواحد ، لا ثبوت السنة بخبر الواحد.

٢. انّ المراد من الثبوت في كلامه هو الثبوت التعبّدي ، وهو من عوارض الخبر الحاكي ، لا المحكي الذي هو الموضوع ، بداهة أنّ معناه هل للخبر الواحد هذا الشأن أو لا؟ فلو كان حجّة ، ثبت له هذا الشأن وإلا فلا. (٢)

ج : ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ مردّ البحث عن حجّية الخبر الواحد إلى أنّ مؤدى الخبر هل هو من السنة أو لا؟

وإن شئت قلت : إنّ البحث إنّما هو عن انطباق السنّة على مؤدّى الخبر وعدم الانطباق ، وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنة ، وعدمها.

يلاحظ عليه : أنّه مجرّد تغيير في العبارة ، فانّ مرجع البحث عن الانطباق وعدمه ، هو وجود السنّة في المقام أو لا ، وهو بحث عن أصل الموضوع لا عن عوارضه ، وبتعبير آخر : هو عين البحث عن وجودها في ضمن هذا الفرد وهويته أولا.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قد تخلّص من الإشكال بأنّ الميزان في المسألة الأُصولية ليس هو البحث عن عوارض الأدلّة الأربعة ، بل تكفي صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط ، ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة.

__________________

١. الفرائد : ٦٧ ، طبعة رحمة اللّه.

٢. فوائد الأُصول : قسم التعليقة : ١٥٧.

٢٠١

وقد مرّ ما هو الحقّ عندنا في مقدّمات علم الأُصول ، فلاحظ.

الرابع : الظاهر من غير واحد من قدماء الأصحاب عدم ورود الدليل على جواز العمل بخبر الواحد وصرح به المرتضى في الذريعة ، (١) وابن إدريس في السرائر في مواضع كثيرة ، ونقل عن القاضي ابن البراج والطوسي. وأمّا الشيخ الطوسي فقال بحجيته ، إجمالاً ، ولكن اختلفت كلماته في كتاب العدّة في تحديدها إلى أقوال أربعة :

١. حجّية قول الثقة ، والمراد منها هو العادل.

٢. حجّية غير المطعون من أصحابنا ، فيعم الثقة والممدوح والمهمل.

٣. حجّية قول الفاسق أيضاً إذا كان متحرزاً عن الكذب ، قائلاً بأنّ الفسق بالجوارح يمنع عن قبول الشهادة وليس بمانع عن قبول خبره.

٤. حجّية ما يرويه المتهمون المضعَّفون إذا كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحّتها وإلا وجب التوقف. (٢)

إلا أنّ المعروف بين المتأخرين هو الحجّية ، ولعلّ النزاع بين المتقدمين والمتأخّرين أشبه باللفظي ، فالجميع يعملون بما دوّن في الكتب الأربعة ، غير انّ المتقدّمين يرون أكثرها مقرونة بالقرائن المفيدة للعلم فيعملون بها ، والمتأخرون يقولون بحجّية أخبار الاخبار فيعملون بها.

إذا عرفت هذه المقدّمات فلنذكر دليل القائل بعدم الحجّية فقد استدلوا بوجوه.

__________________

١. الذريعة : ٢ / ٥٢٩.

٢. لاحظ العدة : ١ / ٣٣٦ ـ ٣٦٧ ، طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٠٢

أدلّة نفاة الحجّية

استدل النافي للحجّية بالأدلّة الثلاثة :

الأوّل : الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ أوّلاً ، وعن اقتفاء غير العلم ثانياً.

وذلك في ضمن آيات ثلاث :

الآية الأُولى : ( إِنَّ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ليُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثى * وَمالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَانَّ الظِّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ) (١). والآية صريحة في عدم حجّية الظن في القول والعمل.

الآية الثانية : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظِّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ). (٢)

وجه الاستدلال : انّ النهي وإن كان عن كثير من الظنّ لا عن الجميع ، وذلك بملاك انّ القليل منه على وفق الواقع ، ولكن بما انّ الموافق والمخالف غير متميزين يلزم الاجتناب عن الجميع.

الآية الثالثة : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَوَالْبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسؤُولاً ) (٣). والآية جزء من الحِكَم الغُرّ التي أوحى اللّه بها إلى نبيّه وابتدأ بها بقوله : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ) وختمها بقوله : ( ذلِكَ مِمّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة ) (٤). والعمل بخبر الثقة اقتفاء لما لا بعلم ، والآية تشمل الأُصول والفروع وقد استشهد بها الإمام على حرمة استماع الغناء وغيره.

__________________

١. النجم : ٢٧ ـ ٢٨.

٢. الحجرات : ١٢.

٣. الإسراء : ٣٦.

٤. الإسراء : ٢٣ ـ ٣٩.

٢٠٣

إجابة القائلين بالحجّية عن الاستدلال بالآيات

أجاب القائلون بالحجّية عن الاستدلال بها مثل الشيخ والمحقّق الخراساني بوجهين :

١. اختصاصها بالأُصول ولا يعمّ الفروع.

٢. على فرض تسليم عمومها ، تخصص بالأدلة الآتية الدالّة على حجّية قول الثقة.

يلاحظ عليه بوجهين : الأوّل : انّ الآية الأُولى وإن وردت في الأُصول والعقائد ، والآية الثانية وردت في غير مورد الأحكام ، لكن الآية الثالثة مطلقة تشمل الفروع ، بشهادة أنّ الإمام استدل بها على حرمة استماع الغناء عند التخلّي.

الثاني : انّ مساق الآيات الثلاث مساقها الدعوة إلى الفطرة السليمة القاضية بعدم جواز القضاء في شيء إلا بعد التبيّن ، وعليه لا يتم كلا الوجهين لأنّ مقتضى كونها إرشاداً لحكمها هو عدم الفرق بين الأُصول والفروع أوّلاً ، وعدم قبولها للتخصيص ثانياً ، فانّ الأحكام الفطرية لا تقبل التخصيص.

وبذلك ظهر عدم تمامية ما أفاده سيدنا الأُستاذ قدس‌سره من التفصيل بين الآيتين الأُوليين والثالثة بعدم عمومية الأُوليين ، دون الثالثة ، فهي عامّة تعمّ الأُصول والفروع ، لما عرفت من أنّ الأحكام الفطرية كالعقلية غير قابلة للتخصيص.

٣. وهناك جواب ثالث يظهر من الرازي في تفسيره ، وهو : انّه لو دلّت الآيات على عدم جواز التمسّك بالظن لدلت على عدم جواز التمسّك بنفسها فالقول بحجّيتها يقتضي نفيها ، وهو غير جائز (١). وإليه يشير سيدنا الأُستاذ قدس‌سره من أنّ دلالة الآية على الردع ، من غير العلم ظنية لا قطعية فيلزم الأخذ بمدلولها ،

__________________

١. مفاتيح الغيب : ٢٠ / ٢١٠.

٢٠٤

عدم جواز اتباعها لكون دلالتها بالفرض ظنية.

يلاحظ عليه : أنّ دلالة الظواهر على المعاني الاستعمالية قطعية ، ولا يظهر في ذهن العقلاء أيّ تردد وشك ، وقد تقدّم تفصيله

وهناك جواب رابع ، وهو للمحقّق النائيني وهو : انّ نسبة الأدلّة الدالّة على جواز العمل بخبر الواحد ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة ، فانّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرِزاً للواقع ، فيكون حاله حالَ العلم في عالم التشريع فلا يمكن أن تعمه الأدلّة الناهية عن العمل بالظن. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الدليل الواضح لحجّية الخبر الواحد ، هو السيرة العقلائية وهي دليل لبي ليس له لسان ، والحكومة أمر قائم باللسان.

أضف إلى ذلك أنّه ليس في الأدلّة اللفظية ما يدل على إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع.

وأمّا قوله عليه‌السلام : « العمري وابنه ثقتان ، ما أديّا إليك عنّي ، فعنّي يؤديان ، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان » (٢) فإنّما سيق لبيان وثاقة الأب والابن ، بقرينة ذيله : « الثقتان المأمونان » لا لأجل إلقاء احتمال الخلاف وتنزيل الظن منزلة العلم.

والتحقيق أن يقال : إنّ الظن يطلق ويراد منه معان مختلفة :

١. اليقين كقوله سبحانه : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وَإِنّها لَكَبيرَةٌ إِلاّعَلى الْخاشِعين * الَّذينَ يَظُنُّونَ أَنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُون ) (٣) والمراد منه بقرينة كونه وصفاً للخاشعين هو اليقين.

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ١٦١.

٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٣. البقرة : ٤٥ ـ ٤٦.

٢٠٥

٢. الاطمئنان كقوله سبحانه : ( وَعَلى الثَلاثَة الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِما رَحُبَت وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أن لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلا إِلَيْهِ ) (١) أي اطمأنّوا انّه لا حيلة إلا الرجوع إلى اللّه ، ولأجل ذلك رجع اللّه إليهم بالرحمة كما قال تعالى : ( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيم ).

٣. ترجيح أحد الطرفين استناداً إلى الخرص والتخمين بلا دليل مثل قوله : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّيخْرُصُون ). (٢)

والمراد من الآيات الناهية عن اتباع الظن إنّما هو هذا النوع من الترجيح غير المعتمد على أصل صحيح بل مبنيّاً على الخرص والتخمين والخيال ، ولأجل ذلك سمّوا الملائكة تسمية الأُنثى.

ويوضح ذلك قوله في سورة الحجرات : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظِّنِ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (٣) حيث إنّ الرجل يسيء الظن بشخص ، ثمّ يتصدى للتحقيق هل هو صحيح أو لا؟ فيتجسس ، ثمّ يصل إلى ما ظن به فيغتابه.

وأين هذا النوع من الظن ، من العمل بقول الثقة الذي لا يصدر عن الهوى ، ولا عن الخرص والتخمين بل يرويه عن حسّ أو ما يقرب منه؟!

ولعمري انّ المشايخ ما أعطوا للآيات حقّها من الإمعان.

__________________

١. التوبة : ١١٨.

٢. الأنعام : ١١٦.

٣. الحجرات : ١٢.

٢٠٦

الثاني : السنّة

استدل القائلون بعدم جواز العمل بخبر الواحد ، بروايات اختلفت مضامينها وانقسمت إلى أصناف ، لكنّهم استظهروا من المجموع دلالتها على عدم حجّيته ، وأنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً لكن القدر الجامع بين الجميع متواتر معنىً ، وإليك رؤوس أصنافها :

الأوّل : ما يدل على لزوم الاكتفاء بما يعلم ، وتدلُّ عليه رواية واحدة.

الثاني : ما يدل على حجّية ما وافق الكتاب والسنّة ، وبهذا المضمون روايات خمس.

الثالث : ما يدل على عدم حجّية مخالف الكتاب ، وبهذا المضمون رواية واحدة.

الرابع : ما يجمع بين الأمرين ، يأمر بأخذ الموافق وطرح المخالف ، وبهذا المضمون روايتان.

وقد بث الشيخ الحرّ العاملي هذه الروايات في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي ، وإليك دراسة هذه الأصناف.

أمّا الصنف الأوّل : أعني ما يدل على الاقتصار بما يعلم ، فقد رواه نضر الخثعمي قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : « من عرف إنّا لا نقول إلا حقاً فليكتف بما يعلم منّا ، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم انّ ذلك دفاع منّا عنه ». (١)

يلاحظ عليه : أنّ الرواية بصدد توجيه الروايات الواردة على وفق التقيّة ، وأنّ الإفتاء بها ، لأجل صيانة دماء الشيعة عن الإراقة ، فإذا سمع منه خلاف ذلك فليأخذ بما علم ، مثلاً : إنّ مسح الرجلين من ضروريات الفقه الإمامي فإذا سمع

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣.

٢٠٧

علي بن يقطين خلاف ذلك فليعلم أنّ التجويز لأجل صيانة دمه ، وتفسره رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قال لي : « يا زياد ما تقول لو افتينا رجلاً ممّن يتولاّنا بشيء من التقية؟ » قال : قلت له : أنت أعلم جعلت فداك قال : « إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجراً ». (١)

وفي الرواية الأُولى احتمال آخر وهو كونها راجعة إلى الذموم الصادرة عن الأئمّة بالنسبة إلى أخلص أصحابه كزرارة ، فما صدر إلا لأجل صيانة دمه.

أمّا الصنف الثاني ، أعني : ما يدل على حجّية الموافق للكتاب والسنّة ، ويكفي في ذلك وجود شاهد من القرآن له فقط ، فقد عرفت انّه ورد بهذا المضمون روايات خمس :

أ : ما رواه أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ». (٢)

ب : ما رواه أيّوب بن الحرّ قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : « كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة ، كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف ». (٣)

ج : مرسلة ابن أبي بكير ، عن رجل ، عن أبي جعفر ـ في حديث ـ قال : « إذا جاءكم عنّي حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به وإلا فقفوا عنده ». (٤)

د : خبر جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ في حديث ـ « ... فإن وجدتموه للقرآن

__________________

١. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

٢ و ٣ و ٤. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٣ ، ١٤ ، ١٨ ، ٣٧ ، ٤٧.

٢٠٨

موافقاً فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه. (١)

هـ : ما رواه سدير قال : قال أبو جعفر ، وأبو عبد اللّه عليهما‌السلام : « لا يصدق علينا إلا ما وافق كتاب اللّه وسنّة نبيّه ». (٢)

يلاحظ على الاستدلال بهذه الروايات بوجهين :

١. إذا كانت هذه الروايات بصدد المنع عن العمل بخبر الواحد ، كان التصريح بأصل المطلوب أسهل من دون أن يشرط موافقة الكتاب والسنّة ، فاشتراط الموافقة يكشف عن عدم كون العمل مصبَّ البحث ، ولو كان مصبُّه العمل بالخبر الواحد ، كان اشتراط الموافقة لغواً ، إذ مع الدلالة القرآنية لا حاجة إلى اخبار الأخبار ، وأمّا ما هو مصب البحث فسيوافيك بيانه.

٢. لا شكّ انّه صدر من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام روايات كثيرة ، في مختلف الأبواب في المعارف والعلوم الكونية والأخلاق والأحكام مالا يوصف بالمخالفة ، وفي الوقت نفسه لا يوصف بالموافقة بهما أيضاً لعدم ورودها فيهما ، فلابدّ أن يرجع شرطية الموافقة إلى شرطية عدم المخالفة ، كما في الصنفين التاليين.

وأمّا الصنف الثالث : أعني : ما يدل على عدم حجّية المخالف ، وبهذا المضمون رواية واحدة وهي :

مرسلة ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : « من خالف كتاب اللّه وسنّة محمد فقد كفر ». (٣)

يلاحظ عليه : أنّه لا صلة له بخبر الواحد ، وانّه يركز على من أفتى بخلاف الكتاب فقد كفر ، والبحث في المقام في الرواية لا في الإفتاء.

__________________

١ و ٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٣ ، ١٤ ، ١٨ ، ٣٧ ، ٤٧.

٣. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٦.

٢٠٩

وأمّا الصنف الرابع : أعني : ما يجمع بين العنوانين ، فيأمر بأخذ الموافق ، وطرح المخالف ، فقد ورد بهذا المضمون روايتان :

أ : ما رواه السكوني ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه ». (١)

ب : ما رواه هشام بن الحكم ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « خطب النبي بمنى فقال : أيّها النّاس ما جاءكم يوافق كتاب اللّه فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله ». (٢)

وبما انّك عرفت انّه لا يصح جعل الموافقة ملاكاً للقبول ، فيكون المراد منه ، ما لا يخالف.

هذه أُصول الروايات ، وقد عرفت خروج الصنف الأوّل عن مصب البحث ، وانّ مرجع اشتراط الموافقة في الصنف الثاني ـ بل مطلقا ًـ إلى شرطية عدم المخالفة الواردة في الرابع.

وعلى ضوء هذا فقد تواترت الروايات معنىً على عدم حجّية الرواية المخالفة للكتاب والسنّة ، ولكن المهم هو تبيين شأن ورود هذه الروايات ، إذ كما أنّ للآيات شأن نزول هكذا للروايات أيضاً أسباب صدور وببيانه يعلم عدم صلتها بعدم حجّية الخبر الواحد.

إنّ الروايات الناهية عن العمل بالرواية المخالفة للقرآن والسنة ناظرة إلى أحد موردين :

__________________

١ و ٢. الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠ و ١٥ ويحتمل وحدة الروايتين.

٢١٠

الأول : المخالفة بالتباين الكلي

الروايات النافية لحجية الخبر المخالف للكتاب ناظرة إلى المخالفة معه تماماً وهذا ما يعبر عنه بالتبائن الكلي ، ومصبّها مقامات الأئمة والأولياء حيث إن ظاهرة الغلو بدت في عصر الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فنمت إلى ان بلغت الذروة في عصر الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام ، فكان هناك أُناس يضعون الأحاديث في حق الأئمة إمّا تشويهاً لسمعتهم حتى ينفض الناس من حولهم ، بحجّة أنهم يقولون خلاف القرآن والسنة النبويّة ، أو لغاية الاستئكال بالأحاديث حيث كانوا يملكون قلوب عواب الشيعة والسُّذّج منهم ، بالغلو في حقهم ، وقد احتفلت كتب الملل والنحل بهذه الفرق كالخطابية ، والنُّصيرية.

روى الكشي ، قال يحيى بنعبد الحميد الجمالي ـ في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ : قلت لشريك : إنّ أقواماً يزعمون أن جعفر بن محمد ضعيف الحديث ، فقال : أخبرك القصة ، كان جعفر بن محمد رجلاً حالحاً مسلماً ورعاً ، فاكتنفه قوم جهّال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون : حدّثنا جعفر بن محمد ، ويحدثون بأحاديث كلّها منكرات كذب موضوعة على جعفر ليستأكلون الناس بذلك ، ويأخذون منهم الدراهم ، كانوا ياتن من ذلك بكل منكر ، فسمعت العوام بذلك منهم ، فمنهم من هلك ومنهم من أنكر. (١)

وقد عالج الأئمة هذه الظاهرة الخبيثة ، بأمر الشيعة بعرض الروايات على القرىن فما وافق أُصول التوحيد بمراتبها والعد ، يؤخذ به ، وما خالف فلا يؤخذ به ، روى الكشي عن ابن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « انّا أهل البيت صادقون

ــــــــــــــــــ

١. البحار : ٢٥ / ٣٠٢ ، الحديث ٦٧.

٢١١

لا نخلو من كذّاب يكذّب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ». (١)

والذي نلفت إليه نظر القارئ أن علماءنا الأبرار قد بذلو جهوداً جبارة في تهذيب ما روى عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام عن الموضوعات ، ولذلك لا تجد رواية مخالفة للكتاب والسنة على وجه التباين إلا النادر.

الثاني : حمل الروايات على باب التعارض

ان الروايات الناهية عن الأخذ بالخبر المخالف ( الصنف الرابع ) وإن كان مطلقاً يعمّ المخالف المجرد عن المعارض لكنها محمولة على صورة التعارض الذي يقدم غير المخالف على المخالف مطلقاً وإن كانت المخالفةعلى نحو العموم والخصوص والذي يقودنا إلى هذا الحمل توإن كان بعيداً في بدء النظر لعدم وجود الشاهد على ورودها مورد التعارض ـ هو حفظ وحدة اللسان في روايات كلا المقامين:

حيث إن المخالف في الخبرين المتعارضين يعم المخالفة على نحو العموم والخصوص كما يعم المخالفة على نحو التباين وهو غير خفي على ما درس الروايات العلاجية المذكورة في بابها. (٢)

فلو حملنا روايات الصنف الرابع ، على الخالفة على نحو التباين يلزم الاختلاف في تفسير روايات البابين حيث فسرت الروايات العلاجية على النحو الأعم وخصصت روايات المقام بالتباين فلأجل حفظ وحدة اللسان يصب الجميع في بوتقة والحدة فيحمل على باب التعارض سواء اكان صريحاً فيه ام لم يكن كما في المقام.

ـــــــــــــــ

١. البحار : ٢٥ / ٢٦٣ ، باب نفي الغلو ، الحديث ١.

٢. الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، ١١ ، ٢١ ، ٢٩ ، ٤٠ ، ٤٨.

٢١٢

الدليل الثالث : الإجماع

ادّعى السيد المرتضى وغيره ـ من أعلام القدماء ـ عدم جواز العمل بخبر الواحد ، وأنّه كالقياس من شعار الشيعة ، وأكثر من ركز على ذلك ، هو السيد المرتضى وابن إدريس.

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ ادّعاء إجماع السيد ، يتعارض مع ادّعاء الشيخ الإجماع على العمل به ، يقول في العدّة : والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فانّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في أُصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه ، حتى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا. (١)

وثانياً : أنّ عبارة السيد وإن كانت مطلقة ، لكنّها ناظرة إلى الأخبار التي رواها المخالفون ، وبذلك أوّل الشيخ كلام أُستاذه. حيث قال : فإن قيل كيف تدّعون الإجماع على الفرقة المحقة في العمل بخبر الواحد والمعلوم من حالها انّه لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ المعلوم من حالها انّها لا ترى العمل بالقياس؟

فأجاب : المعلوم من حالها الذي لا ينكر ولا يدفع أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد ، الذي يرويه مخالفهم في الاعتقاد ويختصون بطريقه. (٢)

__________________

١. العدة : ١ / ١٢٦.

٢. لاحظ العدة : ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

٢١٣

أدلّة القائلين بالحجّية

استدل القائلون بالحجّية ، بالأدلة الأربعة.

فمن الكتاب :

الأُولى : آية النبأ

قال سبحانه : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين ). (١)

ذكر الطبرسي سبب نزولها وقال : نزلت الآية في الوليد بن عقبة ، بعثه رسول اللّه في جباية صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يتلقّونه فرحاً به ـ وكانت بينه وبينهم عداوة في الجاهليـة ـ فظنّ أنّـهم همُّوا بقتله ، فرجع إلى رسول اللّه وقال : إنّـهم مَنعُوا صدقاتهم ، وكان الأمر بخلافه ، فغضب النبي وهمَّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية. (٢)

لكن الجزء الأخير من القصة ، غير صحيح فليس النبي من المتسرعين في القضاء ، ولو كان كذلك ، لتوجه الخطاب إليه ، مع أنّه توجّه إلى المؤمنين.

وهناك سؤالان :

وهو أنّ الوليد من أغصان الشجرة الخبيثة قد آمن ظاهراً عام الفتح كسائر الأمويين ، وكانت غزوة بني المصطلق في العام السادس من الهجرة ، فكيف بعثه النبي لجباية الصدقات؟!

والجواب كون الغزوة في العام السادس وإسلامهم فيه ، لا يلازم كون البعث

__________________

١. الحجرات : ٦.

٢. مجمع البيان : ٥ / ١٣٢.

٢١٤

في تلك السنة ولعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه بعد عام الفتح كما لا يخفى.

وقد نقل ابن عبد البر في الاستيعاب : ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت انّ قوله عزّوجلّ : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ ) نزلت في الوليد (١). وحكاه عنه ابن الأثير في أُسد الغابة (٢). ويؤيده نزول قوله سبحانه : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوون ). (٣)

روى الطبرسي ، عن ابن أبي ليلى نزل قوله : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) في علي بن أبي طالب ورجل من قريش ، وقال غيره نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة ، فالمؤمن علي والفاسق الوليد ، وذلك انّه قال لعلي عليه‌السلام : أنا أبسط منك لساناً ، وأحدُّ منك سناناً ، فقال علي عليه‌السلام : ليس كما تقول يا فاسق. قال قتادة : واللّه ما استووا لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة. (٤)

روى الشارح المعتزلي أنّ حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة قد نظم الواقعة في بيتين :

أنزل اللّه والكتاب عزيز

في عليّ وفي الوليــد قرآنا

فتبوّا الوليد إذ ذاك فسقا

وعليّ مبــوء إيمــانـاً (٥)

٢. كيف بعثه النبي إلى جبايتها ، مع أنّه فاسق؟

والجواب انّ المانع من البعث هو الفسق الظاهري لا الخفي ، ولعلّه لم يظهر

____________

١. الاستيعاب : ٢ / ٦٢٠.

٢. أُسد الغابة : ٥ / ٩٠.

٣. السجدة : ١٨.

٤. مجمع البيان : ٤ / ٣٣٢.

٥. شرح النهج : ٢ / ١٠٣.

٢١٥

منه إلى زمان البعث أي فسق ، وكان فسقه مخفياً إلى أن أظهره القرآن الكريم.

وأمّا الاستدلال فتارة يستدل بمفهوم الوصف ، وأُخرى بمفهوم الشرط ، وإليك بيانهما.

الأوّل : الاستدلال بمفهوم الوصف بوجهين

١. إنّ قوله : فاسق ، وصف لموصوف محذوف ، أي مخبر فاسق ، فالمخبر الموصوف بالفسق يجب تبيّن خبره ، فيكون مفهومه انتفاؤه عند انتفاء الوصف ، بمعنى كون المخبر عادلاً. وهذا سار في كلّ وصف لا ثالث له ، كما في قوله : « في سائمة الغنم زكاة » فمعناه الغنم بقيد السائمة فيها زكاة ، ويكون مفهومه ، الغنم عند عدم كونها سائمة ليس فيها زكاة.

يلاحظ عليه : أنّ المستدلّ خلطَ بين كون القيد احترازيّاً ، وكونه ذا مفهوم ، ومفاد الأوّل هو مدخليته في الحكم مقابل القيد غير الاحترازي مثل ( في حُجُوركُمْ ) في قوله سبحانه : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي في حُجُورِكُمْ ) (١) وأمّا كونه دخيلاً منحصراً لا يقوم مقامه شيء آخر ، فلا يدل عليه.

فإن قلت : القائم مقامه هو المعلوفة ، فلو كان كذلك ، كان ذكر السائمة لغواً ، إذ يعرف هذا من أنّ الزكاة لجنس الغنم ، ولا مدخلية لأحد الوصفين فيه.

قلت : لا تلزم اللغوية ، لاحتمال أن تكون القضية جواباً لسؤال السائل عن المعلوفة فجاء الجواب وفقاً للسؤال ، وإن كان الحكم عاماً.

٢. ما حقّقه الشيخ ، وقال : إنّ لخبر الفاسق حيثيتين : إحداهما ذاتية وهي ما يكون وصفاً للخبر وهي كونه خبر الواحد ، والأُخرى عرضية ، أي ما يكون وصفاً للمخبر ، ويوصف به الخبر أيضاً بالعناية ، وتعليق التبين على العنوان العرضي دون

__________________

١. النساء : ٢٣.

٢١٦

الذاتي المشترك بين خبر العادل والفاسق ، يعرب عن كونه السبب للتبيّن دون مطلق الخبر ، وإلا كان العدول عنه إلى العرضي غير بليغ.

يلاحظ عليه : أنّ البيان متين لو لم يكن للعدول وجه ، وهو التصريح بفسق المخبر ورفع الغشاء عن وجهه القبيح.

ومن هنا يعلم أنّ الآية ليست بصدد جواز العمل بخبر العادل وعدمه ، بل هي بصدد المنع عن العمل بخبر الفاسق.

فإن قلت : إنّ سيرة العقلاء على عدم العمل بقول من لا يثقون بقوله ، والفاسق ممن يوثق بقوله ، فما السرّ في هذا النهي؟

قلت : السرّ هو التصريح بفسق الوليد وبيان الصغرى ، وإن كانت الكبرى عندهم معلومة. هذا كلّه حول الاستدلال بمفهوم الوصف.

وممّا ذكرنا يعلم أنّ التقرير الثاني تقرير لمفهوم الوصف لا لمفهوم الشرط ، فما أفاده المحقّق النائيني من أنّه ينطبق على مفهوم الشرط غير ظاهر.

الثاني : التمسك بمفهوم الشرط

وقبل تقرير المفهوم ، نذكر نكتة وهي أنّ حمل الجزاء على الموضوع على قسمين :

تارة يصحّ حمله عليه سواء أكان هناك شرط أو لا ، كما إذا قال : زيد ـ إن سلّم ـ أكرمه. فإنّ حمل الجزاء صحيح سواء أسلم أم لا ، غاية الأمر ، خصّ الآمر الإكرام بإحدى الصورتين ، وهو ما إذا سلّم.

وأُخرى لا يصحّ حمل الجزاء على الموضوع إلا مع وجود الشرط ، بحيث لولاه لما صحّ حمله ، كما إذا قال : الولد ـ إن رُزِقتَ به ـ فاختنه ، أو زيد ـ إن ركب ـ فخذ ركابه ، أو قال : الدرس ـ إذا قـرأتـه ـ فاحفظه. ففي هذه الموارد ، يكون الشرط من

٢١٧

محققات الموضوع ، بحيث ينتفي الموضوع بانتفائه.

والقضية الشرطية ذات المفهوم هو القسم الأوّل ، الذي يصحّ حمل المشروط ( الجزاء ) على الموضوع سواء كان هناك شرط أو لا ، لا القسم الثاني ، بل يكون سلب الجزاء عندئذ لأجل عدم الموضوع ، وهو ليس بمفهوم اصطلاحاً ، وإلا يلزم أن تكون جميع القضايا الحملية ذات مفهوم ، إذا علمت هذا فاعلم :

انّ مفهوم الشرط في الآية يقرر على وجهين مبنيين على كون الموضوع ما هو؟ فهل الموضوع :

١. نبأ الفاسق ـ إذاجاء به ـ فيجب تبيّنه؟

أو الموضوع.

٢. النبأ المفروض وجوده ـ إن جاء به الفاسق ـ يجب تبيّنه؟

فقرّره المشهور على الوجه الأوّل ، وقرّر المحقّق الخراساني على الوجه الثاني. (١)

وإليك كلا التقريرين :

مفهوم الشرط على تقرير المشهور

إنّ تقرير المشهور مبنيّ على جعل الموضوع : نبأ الفاسق ، والشرط : هو المجيئ ، والجزاء : هو التبيّن والتثبت ؛ فكأنّه قال : نبأ الفاسق ، إن جاء به الفاسق ، فتبيّنه ويكون مفهومه :

نبأ الفاسق ـ إن لم يجئ به ـ فلا تتبيّنه ، لكنّ للشرط ـ عدم مجيئ الفاسق ـ مصداقين :

__________________

١. فوائد الأُصول : ٣ / ١٦٩.

٢١٨

١. عدم مجيئ الفاسق والعادل به فيكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

٢. مجيئ العادل به فيكون عدم التبيّن من قبيل السالبة بانتفاء المحمول ، لأنّ النبأ موجود ، والمنفي هو المحمول ، أعني : التثبيت.

يلاحظ عليه : أنّ المفهوم عبارة عن سلب الحكم عن الموضوع الوارد في القضية ، لا عن موضوع آخر لم يرد فيها ، فالموضوع في الآية حسب الفرض ، هو : نبأ الفاسق ، فالتثبّت عند المجيئ به وعدم التثبّت عند عدم المجيئ به ، يجب أن يتوارد عليه لا على موضوع آخر كنبأ العادل الذي ليس منه ذكر في الآية ، وعلى ذلك ينحصر مفهوم الآية بالصورة الأُولى ، وهو عدم مجيئ الفاسق ، من دون نظر إلى نبأ العادل ، ومن المعلوم أنّ عدم التثبّت عند عدم مجيئه به ، لأجل عدم الموضوع للتثبت.

وبعبارة أُخرى : انّ الإثبات والنفي لدى وجود الشرط وعدمه ، يتواردان على الموضوع المذكور وهو « نبأ الفاسق » لا انّ الإثبـات ـ التبيّـن ـ يتـوارد على نبـأ الفاسق ، والنفي ـ عدم التبينّ ـ يتوارد على موضوع آخر ، وهو نبأ العادل.

مفهوم الشرط على تقرير الخراساني

لمّا وقف المحقّق الخراساني على الإشكال الوارد على تقرير المشهور ، عدل عنه إلى تقرير آخر قال ما هذا نصّه : انّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيئ به ـ على كون الجائي به الفاسق ـ يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

توضيحه : انّ الموضوع هو النبأ المحقّق وجوده عبر الزمان ، والشرط هو مجيئ الفاسق ، والجزاء هو وجوب التبين ، وعلى ذلك فليس مجيئ الفاسق به من محقّقات الموضوع ، بل من حالاته ، لافتراض أخذ النبأ على نحو القضية الحقيقية ، فله حالتان :

٢١٩

١. مجيئ الفاسق به ٢. عدم مجيئ الفاسق ، ولكنّه يلازم مجيئ العادل به لافتراض أنّ الخبر محقّق الوجود ، والجائي به إمّا فاسق أو عادل ، فإذا لم يجئ به الفاسق ، يكون الجائي به عادلاً قطعاً لعدم الشق الثاني.

يلاحظ عليه : أنّ الآية ليست بصدد بيان أحكام النبأ المطلق سواء أكان الجائي به الفاسق أو العادل فيختص التثبت بالأوّل دون الثاني ، بل بصدد بيان حكم نبأ الفاسق بشهادة قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ ) أي فاسق يحمل نبأ فالنفي والإثبات يجب أن يتواردا على موضوع واحد وهو نبأ الفاسق.

تقرير ثالث لمفهوم الشرط في الآية

إنّ هنا تقريراً ثالثاً يقرب ممّا ذكره المحقّق الخراساني ، وحاصله :

أنّ الشرط تارة يكون بسيطاً ويكون الجزاء في نفسه متوقفاً على الشرط ، كما في قولك : إنْ رزقت ولداً فاختنه.

وأُخرى يكون مركّباً ، ويكون الجزاء متوقفاً عقلاً على كليهما ، كما إذا قال : إن رزقت ولداً وكان ذكراً فاختنه.

وثالثة يكون متوقفاً على أحدهما دون الآخر ، كما إذا قال : إن ركب الأمير ـ وكان يوم الجمعة ـ فخذ ركابه ، فإنّ أخذ الركاب متوقف على الركوب عقلاً ولا يتوقف على كون ركوبه يوم الجمعة.

ومثله المقام فانّ التبيّن يتوقف على النبأ ، ولا يتوقف عقلاً على الجزء الآخر أعني كون الآتي به فاسقاً ، ومفاده عدم التبين عن النبأ عند انتفاء كون الآتي به فاسقاً. (١)

__________________

١. مصباح الأُصول : ٢ / ١٥٩.

٢٢٠