البراهين الجليّة - ج ١

السيّد حسن الصدر

البراهين الجليّة - ج ١

المؤلف:

السيّد حسن الصدر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-628-8
ISBN الدورة:
978-964-319-618-9

الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

النوع الأوّل : مخالفته في المسائل التى هي من اُصول الدين التي ترجع إلى تنقيص الربّ جل جلاله كالتشبيه والتجسيم وأمثال ذلك، وقبل الشروع في شرحها ونقلها من لفظه بحروفه من مصنّفاته لا بدّ من تقديم مقدّمة :

فاعلم أوّلاً : أنّ مَن أنكر أمراً متواتراً من الشرع، معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا مَن اعتقد عكسه، فهو كافر بالاتّفاق..

وكذا مَن خالف المسائل العقليّة التي يعلم بها صدق الرسول، فإنّ العلم بصدق الرسول مبني على مسائل معيّنة في علم الكلام، فإذا أخطأ فيها وخالف ما عليه أئمّة السنّة والجماعة لم يكن عالماً بصدق الرسول فيكون كافراً.

مثال ذلك : أنّه لا يعلم صدق الرسول إلاّ بأن يعلم أنّ العالم حادث، ولا يعلم ذلك إلاّ بأن يعلم أنّ الأجسام محدثة، ولا يعلم ذلك إلاّ بالعلم بأنّها لا تنفك من الحوادث إمّا الأعراض مطلقاً وإمّا الألوان وإمّا الحركات، ولا يعلم حدوثها حتّى يعلم امتناع حوادث لا أوّل لها، ولا يعلم أنّه صادق حتّى يعلم أنّ الله غني، ولا يعلم غناه حتّى يعلم أنّه ليس بجسم ونحو ذلك ممّا هو اُصول لتصديق الرسول، فمن خالف في هذه المسائل التي يعلم بها صدق الرسول فهو كافر عند أهل السنّة الأشعريّة والماتريديّة..

ومن هنا قال الغزالي : الكفر : تكذيب الرسول في شيء ممّا جاء به ضرورة... فالأشعري يكفّر الحنبلي بإثباته الفوق واليد والاستواء; لأنّ ذلك تكذيب : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ) (١) نقله شهاب الدين الكازرونيّ في رسالته

____________________

(١) سورة الشورى ٤٢ : ١١.

١٨١

إثبات العلم بالجزئيّات عن الغزالي (١) .

وقال المحسن الكشميري (٢) في المواهب العليّة : والأشعري يكفّر الحنبلي لأنّه شبّه وكذّب الرسول في : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ).

وصرّح النووي بكفرهم في شرح المهذب، والسيوطي في تدريب الراوي عند قول النووي : ومن كفر ببدعته (٣) . قال السيوطي : كالمجسم ومنكر علم الجزئيّات (٤) .

وقال ابن تيميّة في منهاج السنّة في الجزء الأوّل منه في صفحة ١٤١ : إنّ أصحاب الأئمّة الأربع كأصحاب أحمد والشافعي ومالك يكفّرون كلّ مَن يقول بمقالات الحشويّة (٥) .

وقال في رسالة المدنية : أهل السنّة من أصحابنا وغيرهم يكفّرون المشبّهة والمجسّمة (٦).

وقال في منهاج السنّة في الجزء الثالث في صفحة ستين : وأمّا مسائل العقائد فكثير من الناس كفّروا المخطّئين فيها.

إلى أن قال : ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمّة كبعض أصحاب

____________________

(١) مجموعة رسائل الغزالي : ٢٤٠، وحكاه الميلاني عن الكازروني في استخراج المرام من استقصاء الإفحام ٢ : ٢٩٠.

(٢) محمّد محسن الحنفي، المشهور بكشو، من علماء الهند، له تحقيقات وتعليقات على هداية الفقه والمطول وغيرها من الكتب الدراسية، أخذ العلوم على محمّد أمين الكشميري والطريقة على الشيخ نازك، من مؤلّفاته المواهب العلّية حاشية على العقائد العضدية ونجاة المؤمنين، توفّي سنة ١١١٩ هـ نزهة الخواطر ٦ : ٣٤٧ / ٦٥٤.

(٣) شرح المهذب المجموع ٤ : ٢٥٣.

(٤) تدريب الراوي ١ : ٣٢٤، التقريب في شرح التدريب : ١٣.

(٥) منهاج السنّة ٢ : ٥٢١.

(٦) مجموعة الفتاوى ٦ : ٢١٤.

١٨٢

مالك والشافعي وأحمد وغيرهم (١) .

وقال ابن القشيري (٢) : إنّ هؤلاء الذين يمنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنّهم يدلّسون ويقولون : له يد لا كالأيدي، وقدم لا كالأقدام، واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا، إلى آخر كلامه (٣) .

وقال اليافعي في مرآة الجنان في ترجمة ابن مندة (٤) ما لفظه : فأمّا إذا اعتقد الحركة والنزول والجارحة فصريح في التجسيم (٥) . انتهى.

وستعرف نصوص ابن تيميّة بـ : اعتقاد الحركة، والنزول، والجارحة، وقيام الحوادث بذات الربّ، وبقدم نوع العالم، ويقول بالتركيب والتشبيهوالتجسيم والجهة على أقبح الوجوه التي قالها أسلافه الحشويّة، فيكون من أوضح مصاديق من يكفّره الأشعريّة، وأصحاب الأئمّة الأربع، وليس أهل السنّة والجماعة إلاّ هم، كما نصّ عليه العزّ بن عبد السلام في عقيدته وغيره، وقد تقدّم في أوّل المقصد الثاني ما يدل على ذلك (٦)..

____________________

(١) منهاج السنّة ٥ : ٢٣٩.

(٢) أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام شيخ الصوفية أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري، المفسر العلاّمة، النحوي المتكلم، وكان أحد الأذكياء، لازم إمام الحرمين، توفّي سنة ٥١٤ هـ. سير أعلام النبلاء ١٩ : ٤٢٤ / ٢٤٧، طبقات الشافعية الكبرى ٧ : ١٥٩ / ٨٧٠، إيضاح المكون ٢ : ٦٠٦.

(٣) حكاه الزبيدي في اتحاف المتقين عن التذكرة الشرقيّة للقشيري ٢ : ١١١.

(٤) أبو القاسم عبد الرحمن بن محمّد بن إسحاق بن محمّد بن يحى بن منده العبدي الأصبهاني، صاحب التصانيف، حدث عن أبيه، فأكثر وارتحل إلى بغداد فسمع بها من كثير، توفّي سنة ٤٧٠ هـ. قال الذهبي : فيه تسنن مفرط، أوقع بعض العلماء في الكلام في معتقده، وتوهّموا فيه التجسيم، وهو بريء منه. وكان يذهب إلى الجهر بالبسملة في الصلاة. سير أعلام النبلاء ١٨ : ٣٤٩، الأعلام للزركلي ٣ : ٣٢٧.

(٥) مرآة الجنان ٣ : ١٠٠.

(٦) راجع ص : ١١٥ و بعدها.

١٨٣

وإنّا لا نريد إثبات كفر ابن تيميّة على اُصول الحشويّة، بل نريد كفره على اُصول أهل السنّة والجماعة، ومن المعلوم أنّ أهل السنّة بلسان إمامهم أبي الحسن الأشعري يناضلون وبحججه يحتجّون.

وكذا قال ابن حجر : إنّ عقيدة ابن تيميّة كفر عند الأكثرين (١) .

فلا ينفعه نفي التشبيه والتكيف والتجسيم، مع إثباته جميع معانيه الصريحة في النقص في ذات الربّ بعبارات شتّى وبيانات متكرّرة كما ستعرف، فهو كالمقرّ بالتجسيم المنكر له، فيؤخذ بإقراره ولا ينفعه إنكاره، وقد مات عليه وعلى سائر عقائده الفاسدة على ما نقله الحافظ الذهبي في المعجم المختصّ بالشيوخ.

قال في ترجمة ابن تيميّة : قد سجن غير مرّة ليفتر عن خصومه، ويقصر عن بسط لسانه وقلمه، وهو لا يرجع ولا يلوى على ناصح إلى أن توفّي معتقلا بقلعة دمشق (٢) . انتهى.

فإذا عرفت ذلك فأنا أنقل لك من مصـنّفاته المطبوعة بمصر كـ : منهاج السنّة، وكتاب بيان موافقة المعقول لصحيح المنقول المطبوع بهامشمنهاج السنّة (٣) ، وكتاب جواب أهل العلم، وكتاب الجوامع في السياسة الشرعيّة، والمجموعة الكبرى في رسائل ابن تيميّة وهي اثنتان وثلاثون رسالة، ورسالة المدينة المطبوع مع كتاب ابن القيّم الجيوش الإسلاميّة من طبع الهند، ورسالة في إثبات الجهة له التي ردّها أحمد بن يحيى بن إسماعيل بن جبرائيل وهي في طي الجزء الخامس من الطبقات

____________________

(١) أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل لابن حجر : ١٧٣.

(٢) المعجم المختصّ بالشيوخ : ٢٦ / ٢٢.

(٣) قد طبع بعنوان دَرء تعارض العقل والنقل في السعودية.

١٨٤

الكبرى (١) للتاج السبكي المطبوعة بمصر في ترجمة أحمد بن يحيى المذكور، وكتابه في تفسير سورة الإخلاص : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )، وإن حضرني غير هذا من مصنّفاته وكان فيها شيء من ذلك ذكرته.

وقد تقدّم في المقصد الأوّل شهادة الثقات على ابن تيميّة بأنواع المكفّرات (٢) :

ومنها : الشهادة عليه بالنوع الأوّل الذي يرجع إلى تنقيص الربّ جلّ جلاله، كعقيدته في الجهة، وما له فيها من الأقوال الباطلة كما في مرآة الجنان لليافعي (٣) .

وادّعائه الجهة والتجسيم، ونسبة من لم يعتقدها إلى الضلال والتأثيم كما في إتحاف أهل العرفان لسند المحدّثين محمّد البرنسي (٤) .

وذهابه وابن القيّم إلى إثبات الجهة والجسميّة لله، تعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، كما في شرح الشمائل لابن حجر المكّي (٥) .

وخرق سباح عظمته وكبرياء جلاله بما أظهر للعامّة على المنابر من دعوى : الجهة، والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدّمين والمتأخرين، كما في الجوهر المنظم لابن حجر المكّي (٦) .

واستخفّ قومه فأطاعوه حتّى اتّصل بنا أنّه صرّح في حقّ الله بـ :

____________________

(١) طبقات الشافعية الكبرى ٩ : ٣٤ .

(٢) راجع ص : ٤١ وما بعدها.

(٣) مرآة الجنان ٤ : ٢٧٨.

(٤) عنه في استخراج المرام للسيد الميلاني ١ : ٢١٢.

(٥) أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل لابن حجر : ١٧٣.

(٦) الجوهر المنظم (الوهابية المتطرّفة ١) : ٦٧.

١٨٥

الحرف، والصوت، والتجسيم، كما في المنشور السلطاني (١) المروي في تاريخ النويري وكتاب منتهى المقال في حديث شدّ الرحال لصدر الدين بهادر خان الهندي (٢) .

ولابن تيميّة واتباعه ميل عظيم إلى إثبات الجهة، ومبالغة في القدح في نفيها كما في شرح العقائد العضدية للمحقّق الدواني (٣) .

وتجاوز ابن تيميّة عن الحدّ وحاول إثبات ما ينافي عظمة الحقّ تعالى جلّ جلاله فأثبت له : الجهة، والجسم، كما في حلّ المعاقد للمولوي عبدالحليم (٤) .

ومن ذلك قوله : إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقيّة لله، وإنّه مستو على العرش بذاته، كما في الدرر الكامنة للحافظ العلاّمة ابن حجر العسقلاني، قال بعد نقله ذلك : فقيل له : يلزم من ذلك التحيّز والانقسام. فقال : أنا لا اُسلّم أنّ التحيّز والانقسام من خواص الأجسام. قال : فاُلزم بأنّه يقول بالتحيّز في ذات الله (٥) . انتهى موضع الحاجة.

وقال بقيام الحوادث بذات الربّI، وأنّ الله سبحانه وتعالى ما زال فاعلا، والتسلسل في الماضي جائز كما في المستقبل، كما في السيف الصقيل للتقي السبكي (٦) والفتاوي الحديثيّة لابن حجر المكّي (٧) ..

____________________

(١و٢) نهاية الإرب في فنون الأدب ٣٢ : ٨٢.

(٣) التعليقات على شرح العقائد العضدية : ٩٤.

(٤) حل المعاقد : ٨٠.

(٥) الدرر الكامنة ١ : ٩٣.

(٦) السيف الصقيل : ١٧.

(٧) الفتاوى الحديثية : ٨٥.

١٨٦

وحكى فيها أيضاً عنه أنّه يقول : إنّ الله مركّب تفتقر ذاته افتقار الكلّ للجزء، وإنّ القرآن محدث في ذات الربّ، وأنّه قال بالجهة والجسميّة والانتقال، وأنّه بقدر العرش لا أقل ولا أكثر (١) .

وحكى الحافظ العلاّمة في الدرر الكامنة عن ابن تيميّة أنّه ذكر حديث النزول وهو على المنبر، ونزل عن المنبر درجتين، فقال : كنزولي هذا. قال : نسب إلى التجسيم (٢) .

أقول : وذكر ابن بطوطة في رحلته أنّه حضر وعظ ابن تيميّة في المسجد في الشام يوم الجمعة، قال : فذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجة فقال : كنزولي هذا. فأنكر عليه بعض من حضر وسمّاه ابن بطوطة (٣) ، وسيأتي تمام لفظه عند نقل ألفاظ الشهادات.

وقال : إنّ العالم قديم بالنوع، ولم يزل مع الله مخلوقاً دائماً، فجعله موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار، كما في الفتاوي الحديثيّة لابن حجر (٤) .

وقال : بقدم جنس العرش كما في شرح العقائد العضدية للجلال الدواني وحل المعاقد لعبد الحليم (٥) .

واعتقد مسألة الحسـن والقبح والتزم كلّ ما يرد عليهما كما في الفتاوى الحديثيّة (٦) .

هذا المشهود به عليه، وأمّا نصوصه المطابقة لذلك [ما نذكرها] في

____________________

(١) الفتاوى الحديثية : ٨٥.

(٢) الدرر الكامنة ١ : ٩٣.

(٣) رحلة ابن بطوطة ١ : ٧٢.

(٤) الفتاوى الحديثية : ٨٥.

(٥) حلّ المعاقد : ٨٠.

(٦) الفتاوى الحديثية : ٨٥.

١٨٧

فصـول :

الفصل الأوّل : في كلامه في إثبات الجهة وردّه، فإنّ دعواه ثبوت الجهةوالفوق دون السفل، وأنّه تعالى مستو على العرش بذاته.

قال : وإنّه في السماء حقيقة، وعلى السماء حقيقة، وفي العرش حقيقة، وعلى العرش حقيقة. كلّ هذا في رسالته في إثبات الجهة (١) .

وقد ردّها الشيخ شهاب الدين بن جبرئيل الكلابي، وهي بتمامها في ترجمته في الجزء الخامس من طبقات الكبرى للتاج السبكي (٢) .

وقال ابن تيميّة في الرسالة المذكورة : إنّه فوق العرش، وإنّه فوق السماء (٣) .

وقال في آخر كلامه : إنّه فوق العرش حقيقة. وقال ذلك في أثناء كلامهونقله في موضع منها عن السلف (٤) .

وقال : لم أجد أحداً منهم قال : إنّه ليس في غير السماء، ولا إنّه ليس على العرش، ولا إنّه في كلّ مكان، ولا إنّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنّه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل (٥) .

ثمّ قال بعد كلام : وذلك أنّ الله تعالى معنا حقيقة فوق العرش حقيقة، فقد أخبر الله تعالى أنّه فوق العرش، ويعلم كلّ شيء، وهو معنا

____________________

(١) انظر الرسالة الحموية مجموعة الفتاوى الجزء الخامس، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٩ : ٦١، والتوفيق الربّاني : ١٨٠ - ١٩٠.

(٢) طبقات الشافعية الكبرى ٩ : ٣٥.

(٣) مجموعة الفتاوى ٥ : ١٢.

(٤) نفس المصدر ٥ : ٦٨ - ٦٩.

(٥) نفس المصدر ٥ : ١٥.

١٨٨

أينما كنّا، وهذا معنى قول السلف : إنّه معهم بعلمه. قال : وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. قال : ويقول أبو الصبي الذي فوق السقف : لا تخف أنا معك تنبيهاً على المعيّة الموجبة بحكم الحال [دفع المكروه] (١) .

وقال في موضع آخر من الرسالة : مَن عَلِمَ أنّ المعيّة تضاف إلى كلّ نوع من أنواع المخلوقات كإضافة الربوبيّة مثلا، وأنّ الاستواء على العرش ليس إلاّ العرش، وأنّ الله يوصف بالعلو والفوقيّة الحقيقيّة، ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتيّة قطّ، لا حقيقةً ولا مجازاً، عَلِمَ أنّ القرآن على ما هو عليه من غير تحريف (٢) .

ثمّ قال : بل عند المسلمين أنّ الله في السماء، وهو على العرش واحد; إذ السماء إنّما يراد بها العلو، فالمعنى : الله في العلو لا في السفل (٣) .

واستدلّ على جواز الإشارة الحسيّة إليه تعالى بالأصابع ونحوها بما صـحّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة عرفات جعل يقول : «ألا هل بلّغت» فيقولون : نعم.فيرفع إصبعه إلى السماء وينكثها إليهم ويقول : «اللّهم اشهد» غير مرّة (٤) (٥) .انتهى موضع الحاجة، وخُذ بمجامع كلامه حتّى تعرف صدق الشهادات عليه بأنّه اعتقد الجهة فوق سماواته على عرشه.

وقال في الجزء الأوّل من منهاج السنّة في صفحة ١٨٣ عند قوله :

____________________

(١) أضفناه من المصدر، انظر مجموعة الفتاوى ٥ : ٦٨ - ٦٩.

(٢) مجموعة الفتاوى ٥ : ٧٠.

(٣) مجموعة الفتاوى ٥ : ٦٨ - ٧٠، الفتوى الحموية الكبرى : ٥٢١ - ٥٢٦.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٧٦ و ٥ : ٣٧، صحيح البخاري ٣ : ٦ باب ٣، صحيح مسلم ٣ : ١٣٠٥ / ١٦٧٩، الكافي للكليني ٧ : ٢٧٣ / ١٢، دعائم الإسلام ٢ : ٤٨٤ / ١٧٢٩، سنن ابن ماجة ٢ : ١٢٩٧ / ٣٩٣١.

(٥) مجموعة الفتاوى ٥ : ١٤، الفتوى الحموية الكبرى : ٢٢١.

١٨٩

وكذا قوله يعني ـ ابن المطهّر : ولا في مكان (١) ما لفظه : وإذا قال القائل : هو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، فهذا المعنى حقّ سواء سمّيت ذلك مكاناً أو لم تسمّه (١) .

وقال في صفحة ٢١٧ من الجزء الأوّل عند قول ابن المطهّر : لأنّه ليس في جهة ما لفظه : وإن اُريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هنا إلاّ الله وحده، فإذا قيل : إنّه في جهة كان معنى الكلام أنّه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع عال عليه (٢) .

وقال في صفحة ٢٢١ : ويقال لهذا المنكر.

إلى أن قال : وإن أردت بالجهة أمراً عدميّاً كانت المقدّمة الثانية ممنوعة، فلا نسلّم أنّه ليس بجهة بهذا التفسير (٣) .

وقال في صفحة ٢٥٠ عند الكلام في لفظ الجهة ما لفظه : فإنّ مسمّى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى، ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم، فإذا اُريد الثاني صحّ أن يقال : كلّ جسم في جهة، وإذا اُريد الأوّل امتنع أن يكون كلّ جسم في جسم آخر، فمن قال : الباري في جهة وأراد بالجهة أمراً موجوداً فكلّ ما سواه مخلوق له في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ، وإن أراد بالجهة أمراً عدميّاً وهو ما فوق العالم وقال : أنّ الله فوق العالم فقد أصاب، وليس فوق العالم موجود غيره (٤) .

وقال في صفحة ٢٦٢ عند قول ابن المطهّر المصنّف : وقالت

____________________

(١) منهاج السنّة ٢ : ١٤٥.

(٢) نفس المصدر ٢ : ٣٢٣.

(٣) نفس المصدر ٢ : ٣٤٩.

(٤) نفس المصدر ٢ : ٥٥٨.

١٩٠

الكراميّة : إنّ الله في جهة الفوق : نعم قد يقولون هو في جهة يعنون بذلك أنّه فوق.

إلى أن قال : وأنت لم تذكر حجّة على بطلانه، فمن شنّع على مذهبهم فلابدّ أن يشير إلى بطلانه، وجمهور الخلق على أنّ الله فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة، فهم يعتقدون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم : ربهم فوق، ويقولون : هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه.

إلى أن قال : وقد قدّمنا فيما مضى : أنّ لفظ الجهة (١) يراد به أمر موجودوأمر معدوم، فمن قال : إنّه فوق العالم كلّه لم يقل إنّه في جهة موجودة إلاّ أن يراد بالجهة العرش، ويراد بكونه فيها أنّه عليها، كما قيل في قوله : إنّه في السماء. أي على السماء، وعلى هذا التقدير، فإذا كان فوق الموجودات كلّها وهو غنيّ عنها لم يكن عنده جهة وجوديّة يكون فيها، فضلا عن أن يحتاج إليها، وإن اُريد بالجهة ما فوق العالم فذاك ليس بشيء، ولا هو أمر وجودي حتّى يقال : إنّه يحتاج إليه أو غير محتاج إليه (٢) .

وقال في العقيدة الواسطيّة : إنّه سبحانه فوق سماواته على عرشه على خلقه ، وهو معهـم اين ما كانوا بعلمـه، وليس معنى قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٣) أنّه [مختلط] (٤) بالخلق، بل القمر آية من آياته من أصغرمخلوقاته ، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر أينما

____________________

(١) في الأصل : لفظه بدل : لفظ الجهة، والمثبت عن النسخة الثانية الموافقة للمصدر.

(٢) منهاج السنّة ٢ : ٦٤٢ - ٦٤٨.

(٣) سورة الحديد ٥٧ : ٤.

(٤) ما بین المعقوفین عن المصدر.

١٩١

كان (١) . إلى آخره.

أقول : فقوله : إلاّ أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنّه عليها نصّ في إثبات كونه تعالى في جهة معيّنة خاصّة اسمها العرش.

وهب أنّه أراد بالجهة ما فوق العالم والمكان إن لم يكن وجودياً كان كونه في المكان أزلا غير منكر على تقدير إمكان تحيّزه، ولو كان متحيّزاً لم يكن منفكاً عن الأكوان، فيلزم حدوثه.

وبالجملة أنّ الكائن في الجهة قابل للقسمة والأشكال وغير منفك من الأكوان الأربعة وهي : الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، وكلّ ذلك محال في حقّ واجب الوجوب، وهذا هو البرهان المخرس (٢) لكلّ إنسان على نفي الجهة إلاّ المحروم ابن تيميّة فإنّه لما قال : إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقيّة لله، وأنّه مستو على عرشه بذاته. قيل له : يلزم من ذلك التحيّز والانقسام. فقال : أنا لا اُسلّم أنّ التحيّز والانقسام من خواص الأجسام. على ما نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة في ترجمته، قال : فالزم بأنّه يقول بالتحيّز في ذات الله (٣).

الفصل الثاني : في إثبات الجسميّة لله تعالى.

قال في صفحة ١٨٠ من الجزء الأوّل من منهاج السنّة ما لفظه : وقد يرادبالجسم ما يشار إليه، أو ما يُرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة، وتقوم به الصفات، ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم

____________________

(١) العقيدة الواسطية : ٨٣، مجموعة الفتاوى ٣ : ٩٥.

(٢) في نسخة : المحترس بدل : المخرس.

(٣) الدرر الكامنة ١ : ٩٣.

١٩٢

ووجوههم وأعينهم، فإن أراد القائل بقوله : «ليس بجسم» هذا المعنى قيل له : هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تقم دليلا على نفيه (١) . انتهى.

وقوله : أو ما تقوم به الصفات، يريد بالصفات ما يعمّ اليد والقدم والساق والوجه والعين والإصبع والركوب والنزول والاتكاء والاستلقاء والاستواء، فإنّها عنده كلّها أيضاً صفات جزئيّة ذاتية حقيقيّة لله، فإنّه صنّف رسالة في إثبات ذلك، وهي الرسالة المدنية في تحقيق المجاز والحقيقة في الصفات، وهي المطبوعة مع الجيوش الإسلاميّة لابن القيّم بالهند في مطبع القرآن والسنّة الواقع في بلدة أمرتسر.

قال : إنّ هذه الصفات إنّما هي صفات الله سبحانه على ما يليق بجلاله، نسبتها إلى ذاته كنسبة صفات كلّ شيء إلى ذاته، فيعلم أنّ العلم صفة ذاتيّة للموصوف ولها خصائص وكذلك الوجه، ولا يقال : إنّه مستغن عن هذه الصفات لأنّ هذه الصفات واجبة لذاته والإله المعبود هو المستحق لجميع هذه الصفات (٢) .

وقال فيها في المقام الرابع ما لفظه : قلت له : أنا أذكر لك من الأدلّة الكلّية القاطعة الظاهرة ما يبيّن لك أنّ لله يَدَينِ حقيقةً، فمن ذلك تفضيلهُ لآدم يستوجب سجود الملائكة وامتناعهم عن التكبر عليه، فلو كان المراد أنّه خلقه بقدرته أو بنعمته أو مجرّد إضافة خلقه إليه لشاركه في ذلك إبليس وجميع المخلوقات (٣) ... إلى آخر كلامه.

____________________

(١) منهاج السنّة ٢ : ١٣٥.

(٢) مجموعة الفتاوى ٦ : ٢١٤.

(٣) نفس المصدر ٦ : ٢٢١ - ٢٢٢.

١٩٣

وجعل الكلام في اليد اُنموذجاً يحتذي عليه في جميع الصفات التي يسميّها الصفات الخبريّة (١) ، وقال قبل هذا ما لفظه : من قال : إنّ الظاهر غير مراد، بمعنى أنّ صفات المخلوقين غير مرادة. قلنا له : أصبت في المعنى لكن أخطأت في اللفظ، وأوهمت البدعة، وجعلت للجهميّة طريقاً إلى غرضهم، وكان يُمكنك أن تقول : تُمَرُّ كما جاءت على ظاهرها (٢).

قال الشيخ شهاب الدين بن جبرئيل الكلابي في رسالة ردّ ابن تيميّة في إثبات الجهة ما لفظه : فنقول له : ما تقول فيما ورد من ذكر العيون بصفة الجمع، وذكر الجنب، وذكر الساق الواحدة، وذكر الأيدي، فإن أخذنا بظاهر هذا يلزمنا إثبات شخص له وجه واحد، وعيون كثيرة، وله جنب واحد عليه أيد كثيرة، وله ساق واحد، وأي شخص يكون في الدنيا أبشع من هذا (٣) . انتهى.

فظهر صدق الشهادة عليه بالجسميّة، وأنّه يقول : إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقيّة لله تعالى، وإن كان ابن حجر العسقلاني نقلها عن عقيدته الواسطيّة (٤) والحمويّة (٥) .

الفصل الثالث : في عبارته الدالّة على اعتقاده التركيب في الله، وأنّه يفتقر إلى أجزائه.

قال في منهاج السنّة في الجزء الأوّل في صفحة ٢٤٥ : وقوله [یعنی

____________________

(١) في نسخة : الجزئية بدل : الخبرية.

(٢) مجموعة الفتاوى ٦ : ٢١٥.

(٣) راجع الطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٩ : ٦٦.

(٤) مجموعة الفتاوى ٥ : ١٠٣، وراجع الدرر الكامنة ١ : ٩٣.

(٥) العقيدة الحموية الكبرى (مجموعة الرسائل ٥) : ٦٨، عنه في الدرر الكامنة ١ : ٩٣.

١٩٤

ابن المطهر] : «إذا كانت له ذات وصفات كان مركّباً، والمركّب مفتقر إلى أجزاؤه وأجزاؤه غيره» فلفظ «الغير» مجمل (١) ...

إلى أن قـال : ويراد به التلازم، بمعنى أنّه لا يوجد أحـدهما إلاّ مع الآخـر وإن لم يكن أحـدهما مؤثّراً في الآخـر، كالاُمـور المتضـايفة مثل الاُبوّة والبنوّة (٢) .

وقوله : «والمركّب مفتقر إلى أجزائه» فمعلوم أن افتقار المجموع إلى أبعاضه ليس بمعنى أنّ أبعاضه فَعَلَتْه أو وُجِدَتْ دونه وأثَّرَت فيه، بل المعنى أنّه لا يوجد إلاّ بوجود المجموع، ومعلوم أنّ الشيء لا يوجد إلاّ بوجود نفسه، وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن ممتنعاً، بل هذا هو الحقّ (٣) .

إلى أن قال : فإذا قيل : مثلا العشرة مفتقر إلى العشرة لم يكن في هذا افتقار لها إلى غيرها، وإذا قيل هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها لم يكن افتقارها إلى بعضها أعظم من افتقارها إلى المجموع التي هي هو (٤) . انتهى.

وقال في صفحة ١٩٠ ما لفظه : وإن قيل : إنّ فيه معان متعدّدة، فواجب الوجود هو مجموع تلك الاُمور المتلازمة; إذ يمتنع وجود شيء منها دون شيء، وحينئذ فلو افتقر شيء من ذلك المجموع إلى أمر منفصل لم يكن واجب الوجود، فهو سبحانه مستلزم لحياته وعلمه وقدرته وسائر

____________________

(١) منهاج السنّة ٢ : ٥٤٢.

(٢) نفس المصدر ٢ : ٥٤٣.

(٣) نفس المصدر ٢ : ٥٤٣ - ٥٤٤.

(٤) نفس المصدر ٢ : ٥٤٤.

١٩٥

صفات كماله، وهذا هو الوجـود الواجـب بنفسه، وهذه الصفات لازمـة لذاته، وذاته مستلزمة لها، وهي داخلة في مسمّى اسم نفسه وفي سائر أسمائه تعالى، فإذا كان واجباً بنفسه وهي داخلة في مسمّى اسم نفسه لم يكن موجـوداً إلاّ بها، فلا يكون مفتقراً فيها إلى شيء مباين له أصـلا (١) .انتهى.

ومن الصفات الواجبة الذاتيّة عند ابن تيميّة ما عرفت في آخر الفصل المتقدّم : اليد، والوجه، والعين، والإصبع، والقدم، والساق، والركوب، والنزول، والاتكاء، والاستلقاء. فهو عنده مركب من مجموع ذلك، مفتقر إلى كلّ ذلك افتقار الكلّ إلى أجزائه، فقد ثبت التركيب الذي نسبه ابن حجر إليه (٢) .

و«الافتقار» الذي عزاه إليه بلفظ ابن تيميّة قرّت عين المعاصر القاصر، حيث اتّهم ابن حجر وتعجب أنّه كيف ينسب هذه الأقوال إلى ابن تيميّة في الفتاوي الحديثيّة من غير إسناد أو نقل عنه (٣) .

الفصل الرابع : في عباراته الدالّة على قوله بقيام الحوادث في ذات الربّ سبحانه وتعالى، وأنّه لم يزل فاعلا، وأنّ التسلسل فيما مضى غير باطل، وأنّ نوع العالم قديم، صرّح بذلك في منهاجه في مواضع عديدة من الجزء الأوّل :

____________________

(١) منهاج السنّة ٢ : ١٧٠.

(٢) الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي : ٨٥.

(٣) انظر جلاء العينين في محاكمة الأحمدين : ٣٨٩، والكتاب من تأليف نعمان محمود بن عبد الله، أبي البركات خير الدين الآلوسي، المتوفّى سنة ١٣١٧ هـ.

١٩٦

منها : ما ذكره في آخر صفحة ٢٢٣ قال ما لفظه : ثمّ القائلون بقيام فعله به :

منهم مَن يقول : فعله قديم والمفعول متأخّر، كما أنّ إرادته قديمة والمراد متأخّر، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم.

ومنهم مَن يقول : بل هو حادث النوع، كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكراميّة.

ومنهم مَن يقول : [هو يقع] (١) بمشيته وقدرته شيئاً فشيئاً لكنّه لم يزل متّصفاً به، فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك من يقوله من أئمّة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف إلى آخره (٢) . فهو ممّن يقول بالقول الأخير.

ومنها : ماذكره في صفحة ٥٧ قال : إذ غاية ما يقولونه إنّما هو إثبات قدم نوع الفعل لا عينه، فإنّ جميع ما يحتجّ به القائلون بقدم العالم لم يدلّ على قدم شيء بعينه من العالم، بل إذا قالوا : اعتبار أسباب الفعل وهو الفاعل والغاية والمادة والصورة يدلّ على قدم الفعل، فإنّما يدلّ ذلك إن دلّ على قدم نوعه لا عينه، وقدم نوعه ممكن مع القول بموجب سائر الأدلّة (٣) . إلى آخر كلامه.

فصرّح بإمكان قدم نوع العالم، وهو الكفر المجمع عليه.

ومنها : قوله في صفحة ٥٨ ما لفظه : وإذا قيل : إنّ الفاعل لم يزل فاعلا

____________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) منهاج السنّة ٢ : ٣٧٩.

(٣) نفس المصدر ١ : ٢٢١.

١٩٧

كان المعقول منه أنّه لم يزل يحدث شيئاً بعد شيء (١) . إلى آخره.

ومنها : قوله في آخر صفحة ٥٩ ما لفظه : وإنّما الأزلي هو النوع القديم الذي يوجد شيئاً فشيئاً (٢) . إلى آخره.

ومنها : بعد فراغه من تاريخ الملاحدة من المتفلسفة وغيرهم قال في صفحة ٩٢ ما لفظه : وكلّ من تدبّر هذه الاُمور تبيّن له أنّه سبحانه خلق كلّ شيء من الأعيان وصفاتها وأفعالها بأفعاله الاختياريّة القائمة بنفسه.

إلى أن قال : وهذا ممّا يبيّن حدوث كلّ ما سواه، وأنّه ليس علّة أزليّة لمعلول قديم مع أنّه دائم الفاعليّة، ولا يلزم من دوام كونه فاعلا أن يكون معه مفعول معيّن قديم (٣) ، إلى آخره. فتأمّل قوله : معيّن.

ومنها : عند قول المصنّف : «إنّهم ـيعني الإماميّة اعتقدوا أنّ الله تعالى هو المخصوص بالأزليّة والقدم» (٤) قال ما لفظه : فالسلف والأئمّة وجمهور المثبتة يخالفونكم جميعاً ويقولون : إنّه يقوم بذاته أفعاله سبحانه وتعالى.

إلى أن قال : وأمّا التسلسل فمن الناس من لم يلتزمه.

وقال : كما إنّه يجوز عندكم (٥) حوادث منفصلة لا ابتداء لها، فكذلك يجوز قيام حوادث بذاته لا مبتدأ لها، وهذا قول كثير من الكراميّة والمرجئة والهشاميّة وغيرهم.

____________________

(١) منهاج السنّة ١ : ٢٢٤.

(٢) نفس المصدر ١ : ٢٢٨.

(٣) نفس المصدر ١ : ٣٣٦.

(٤) منهاج الكرامة : ٤١.

(٥) أي نفاة الصفات «منه».

١٩٨

ومنهم من قال : بل التسلسل جائز في الآثار دون المؤثّرات، والتزم أنّه يقوم بذاته ما لا يتناهى شيئاً بعد شيء، ويقول : إنّه لم يزل متكلّماً بمشيئة ولا نهاية لكلماته، وهذا قول أئمّة الحديث وكثير من النظار، والكلام على قيام الاُمور الاختياريّة بذاته مبسوط في موضع آخر (١) . انتهى.

وقد كذب على أئمّة الحديث وغيرهم، لم يقل ذلك إلاّ هو فقط، لكن دأبه أنّه إذا اختار شيئاً نسبه إلى أئمّة الحديث، هذا. وهو الذي عناه تقي الدين السبكي بقوله :

يرى حوادث لا مبدأ لأوّلها

في الله سبحانه عمّا يظنّ به

ومنها : في صفحة ١٠٧ قال ما لفظه : من المعلوم بالضرورة أنّ إحداث مفعول بعد مفعول لا إلى نهاية أكمل من أن لا يفعل إلاّ مفعولا واحداً لازماً لذاته إن قدّر ذلك ممكناً، وإذا كان ذلك أكمل فهو ممكن; لأنّ التقدير أنّ الذات يمكنها أن تفعل شيئاً بعد شيء، بل يجب ذلك لها، وإن كان هذا ممكناً ـ بل هو واجب لها ـ وجب اتّصافه به دون نقيضه الذي هو أنقص منه، وليس في هذا تعطيل عن الفعل، بل هو اتّصاف بالفعل على أكمل الوجوه (٢) ، انتهى.

فأوجب على الله حدوث الحوادث على الدوام بقاعدة الكمال الواجب له وأنّه ما زال فاعلا.

ومنها : وهو أصرحها قال في صفحة ٣٦ ما لفظه : وأمّا تسلسل الحوادث في الماضي ففيه أيضاً قولان لأهل الإسلام من أهل الحديث والكلام وغيرهم، فمن يقول : إنّ الله لم يزل متكلّماً إذا شاء، ولم يزل

____________________

(١) منهاج السنّة ٢ : ١٢٦ - ١٢٩.

(٢) نفس المصدر ١ : ٣٨٤.

١٩٩

يفعل أفعالا تقوم بنفسه وقدرته ومشيته شيئاً بعد شيء، يقول : إنّه لم يزل يتكلّم بمشيته أو يفعل بمشيته شيئاً بعد شيء.

إلى أن قال : وعمدة حجّة الفلاسفة على قدم العالم هو قولهم : يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث. فيمتنع تقدير ذات معطّلة عن الفعل لم تفعل ثمّ فعلت من غير حدوث سبب، وهذا القول لا يدلّ على قدم شيء بعينه من العالم لا الأفلاك ولا غيرها، إنّما يدلّ على أنّه لم يزل فعالا، وإذا قدر أنّه تعالى فعال لأفعال تقوم بنفسه أو مفعولات حادثة شيئاً بعد شيء، كان ذلك وفاء بموجب هذه الحجّة، مع القول بأنّ كلّ ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن كما أخبرت الرسل أنّ الله خالق كلّ شيء، وإن كان النوع لم يزل متجدّداً كما في الحوادث المستقبلة كلّ منها حادث مخلوق، وهي لا تزال تحدث شيئاً بعد شيء، إلى آخر كلامه (١) .

وهذا هو الكفر البراح الصريح، وهو معنى :

يرى حوادث لا مبدأ لأوّلها

في الله سبحانه عمّا يظنّ به

وهو ما نسبه إليه في السيف الصقيل (٢) ، ونقله ابن حجر المكي في الفتاوى الحديثيّة (٣) .

قال ابن حجر الهيتمي المكّي في كتاب قواطع الإسلام : ومنها القول الذي هو كفر سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء، فمن ذلك اعتقاد قدم العالم (٤) . انتهى.

____________________

(١) منهاج السنّة ١ : ١٤٩.

(٢) السيف الصقيل في رد ابن زفيل : ٥٩.

(٣) الفتاوى الحديثية : ٨٤.

(٤) الإعلام بقواطع الإسلام ١ : ٨٠.

٢٠٠